تلك الزعقة التي كانت دائما ترج البيت، وترج القلوب، حتى قلوب أولاده الكبار. زعقة لا يوجهها لأحد بالذات، وإنما يوجهها للولد، أي ولد، للرجل، أي رجل، للمطلق من الرجال، ما عداه.
لم يظهر للتو أحد، لا ولد ولا رجل، زعق بصوت أعلى انتهى فجأة، وكأنما توقفت الآلة التي تصدره أو انكسرت. الأصح أنها أسكتت، هو أسكتها فقد جاءه الصوت مشروخا، بالضبط مسلوخا، رفيعا. ليس صوته، وقد يكون صادرا عن حنجرته التي بدا في المرآة وكأن بروزها انكمش، ولكنها ليست حنجرته، فالصوت ليس صوته. صوت يسمعه لأول مرة، غريبا عليه غرابة جسده.
ودق قلبه دقة زائدة.
تلك الدقة التي كانت لا تحدث له إلا لحظة القتل، لحظة إطلاق النار.
ظهر الولد. سبه دون أن يعرف من يكون، وبكل ما يملك من نفس صرخ: نادي «الثور» يا حمار.
2
جلس على المقعد في الفراندة. المقعد المخصص دائما لجلوسه، حتى لو غاب عاما. جلس ينتظر «الثور»، ينتظر وهو يتلمظ غيظا، لماذا؟ لم يكن يدري. لماذا اختار «الثور» ليراه في تلك اللحظة؟ أيضا لم يكن يدري. الثور، الثور، لماذا «الثور»؟ ألتلك الأقاويل التي كانت تتناثر عنه وعن مغامراته؟ ألأنه يعرف عنه أن النساء يسقطن من تلقاء أنفسهن لدى انفراده بإحداهن؟ ألانه أصغر سنا وأكثر حمقا وفعلا أنضر شبابا بكثير؟ ولكنه كما يسميه، ثور، مثله مثل «الديب» و«أبو فصادة» و«غراب البين» و«الجحش» و«التنبل»، واحد منهم، أقصى ما يمن به عليه أن يعطيه لقبا، وأقصى ما يعاقب به أحدهم أن يناديه باسمه الحقيقي، فهو يظل يرجو ويلح ويكاد يبكي، أحيانا يبكي مر البكاء طالبا منه أن يمن عليه بلقب. وحين يضيق به وبإلحاحه يقول له: طيب، امش يا خروف، أو ... شي يا حمار، وينقض «الخروف» أو «الحمار» على يده يقبلها وفي عينيه دموع الامتنان، ويغادر المجلس سعيدا ضاحكا لا تسعه الدنيا.
جاء «الثور»، سمع صوته يسأل خافتا عنه، وجه بصره بكليته إلى باب الفراندة ليرصد دخوله. في فتحة الباب ظهر «الثور» مهمل الثياب كعادته. كان دائما يحسده على قدرته أن يهمل ثيابه وشعره، ومع هذا يظل على جاذبيته القصوى ووسامته. هم أن يبتسم له، ولكنه عدل، وأظلمت ملامحه. كان يرتدي القميص والبنطلون، بنطلونه الضيق الأثير لديه، لا بد جاء على عجل فهم دائما يرتدون بدلهم الكاملة ليلقوه. حيا ووقف حائرا، رمقه من أعلاه إلى أسفله، بدأ وجه «الثور» يصفر، وملامحه تنبئ عن مراجعة مكهربة لكل ما فعله مذ آخر مرة رآه فيها، وعن احتمالات خطئه أو جريمته التي ربما يكون قد اقترفها. وفر عليه المراجعة، وأشار له أن يجلس، وعلى كرسي بعيد جلس، وقد بدأ يسترد أنفاسه، ولكنه كان لا يزال ينتظر، وكأنه ينتظر البراءة أو حكم الإعدام. رآه يتململ من طول انتظاره، أسعده هذا التململ ونظراته تنصب عليه متفحصة ثاقبة، ضبط نفسه يتوقف أكثر من اللازم عند ملامحه الفتية الشابة. تلوت نفسه وكأنما أصابته غصة أو اندك خنجر في فم معدته. كلما استرق البصر إليه وأحس بمغناطيس قوي يشد عينيه إليه، وأشياء في داخله تنهار وتتكسر والضباب يغطي على وعيه، ومن بين طيات الضباب ترتسم رؤى مفزعة، عريان جسده تماما، وأملس، كتلة لحم بلا إرادة تنتظر أمرا خشنا، يصنع إرادتها.
3
فجأة أحس بتمرد داخلي يتجمع بسرعة كما تتخلق بوادر الإعصار المهول في لحظات، فثمة لين جوفي هائل كان يعوي داخله كلما وقع نظره على «الثور»، وحتى وهو يشيح بنظره عنه، رؤى غريبة يحس معها أنه لا ينظر إليه نظرة رجل لرجل، وأن في داخله تتلظى أحلام يقظة تدور حول موقف ما، مكان مظلم مهجور، تلامس يحدث، تحسس محموم ترتجف به يداه ويرتعش له جسده كله، وهو ينقض على الشاب، ويعتصر عضلات ذراعيه النافرة وانتفاخة عضلات ساقه، والرغبة فيه تتعاظم، وتقوي داخله رغبات تتكشف بجرأة وبجنون عن نداء مولول قد تحولت إليه ذكورته، ولا يعود يقاوم، بل تتحول بقايا المقاومة إلى إعصار نداء أن افعلها، ومجنونة تصرخ كل خلية فيه رافضة متمردة في إعصار استنكار يكاد معه يتحول إلى قاتل، يقتل ما راوده من أحاسيس، ويقتل «الثور»، يقبض بأصابعه الغليظة على عنقه، ولا يتركه إلا جثة، أو خرقة جثة، ماتت، أخمد أنفاسها، وحبذا لو استطاع أن يفعل الشيء نفسه بعنقه هو ويقتل الحلم والرغبة والنداء المجنون الذي يفرض نفسه عليه بقوى، وكأنما بفعل قوى كونية، لا سبيل إلى عصيانها أو مقاومتها.
অজানা পৃষ্ঠা