العتب على النظر
أمه
الخروج
الختان
الرجل والنملة
أبو الرجال
العتب على النظر
أمه
الخروج
الختان
الرجل والنملة
أبو الرجال
العتب على النظر
العتب على النظر
تأليف
يوسف إدريس
العتب على النظر
من كام يوم جاءني حسن: - قل لي يا دكتور. - أقول لك يا حسن. - هو فيه للحمير نضارات؟
ضحكت.
فلا بد حسن يريدني أضحك. - لأ، جد!
لا بد يريدني لا أضحك.
سكت، وإليه نظرت. - ما تقول لي يا دكتور. - أقول لك يا حسن. - مش للحمير نضارات زي البني آدمين؟
كل كذا عام،
لك يا حسن سؤال. - لا يا حسن الحمير ما لهاش نضارات. - طب والعمل؟
وحماري لازم له نضارة. - إيش عرفك؟ - بقى يضبش،
ويدخل على مراتي،
يفتكرها الزكيبة.
هي تخينة زي الزكيبة
إن جيت للحق،
صحيح تخينة،
إنما مش زكيبة. - يمكن بيغلط، وكل حمار له غلطة. - بس ده غلطه كتر،
وبدأ يحرن،
ويتوه عن الدار،
ومرات يخبط راسه في الحيط. - عشان حمار يا حسن. - لا، عشان بقت عينيه شيش بيش يا دكتور. - وديته لحد يشوفه؟
شافه البيطار. - وقال لك عايز نضارة؟ - قال بيعه، دا شرك، بيعه. - بيعه. - ما يجبش تمنه.
والحمير الجديدة سوقها نار. - والحل؟ - عايز له نضارة يا بيه. - أنت اتهبلت؟
نضارة إيه لحمار يا حمار؟ - قول اللي تقوله،
إنما أنا في عرضك.
غيتني. - إزاي؟ - اتوسط لي في نضارة. - والنضارة بوسايط؟ - كله بوسايط النهارده. - إلا النضارة،
مش عايزة واسطة. - أمال عايزة إيه؟ - عايزة كشف. - والكشف فين؟ - عند بتاع النضارات. - يبقى خلاص، فرجت.
أنا وقعت م السما يا بيه،
وأنت استلقيتني.
ست كيلات فول،
واعمل له نضارة.
أني حالي واقف،
ومن يوم ما وغوش،
أني سنقرت. •••
وقعدت أضحك.
أفتكر حمار حسن
لبس نضارة،
أموت على نفسي م الضحك،
لدرجة قلت: لا بد،
وبكل طريقة يا حسن،
أعمل لحمارك نضارة. •••
لعم ناجي خدت بعضي ورحت،
وعملنا اجتماع،
ومن حيث المبدأ وافق،
وفضل التنفيذ،
والتنفيذ عايز كشف،
والكشف عايز علامات.
وأنهي حمار ده
اللي
ح يعرف فتحة العلامة منين؟
منين ح تعرف الفتحة يا حمار؟ •••
وانضم حسن أبو علي لينا.
وعلى أعلى مستوى قعدنا نضبش.
وجانا الحل من حسن.
حل مالوش مثيل.
يا ابن الإيه يا حسن!
أما حتة حل! •••
سهم حسن وقال: يا بيه ويا عم ناجي،
الحل عند الحمار. - إزاي يا حسن، إزاي؟
فتح حسن بقه وبص لكمه الشمال،
وانكسف.
هو بينكسف كده.
وقال:
الحل حمارة الصاوي جاري،
كان ساعة ما بيشوفها،
ينهق عليها،
ولما نظره ضعف،
ما بقاش ينهق
إلا لما يقرب عليها قوي،
وكل يوم والتاني
ما كانش يزر ودانه
إلا لما يدوبك
بوزه ينشه ديلها. •••
وبعد مفاوضات،
والصاوي خايف على حمارته،
ولولا إن عم ناجي
كبرت في دماغه،
ما كانش حصل
وتم وجرى الترتيب.
نوقف حمارة الصاوي على بعد قصبة،
وحمار حسن على باب الدكان،
وأنا أمسك شنبر الكشف،
وناجي يغير العدسات؛
بحيث لما يحط العدسة المظبوطة
نعرف أنها هي من نهيق الحمار،
ما دام كل ما كان يشوفها ينهق،
فضروري لما يشوفها ح ينهق،
ونعرف العدسة المظبوطة. - وعدسات عينينا تنفع لعينين الحمار؟ - تنفع ونص.
قالها عم ناجي، وفتح الصندوق،
وصبيه طرد العيال، ووقف زنهار،
وحددنا مكان الحمارة،
ومكان الحمار،
ودورنا الحمارة،
وخلينا راس الحمار
على خط مستقيم،
يصل بين نقطتين؛
ديل الحمارة،
ومناخير الحمار،
وثبتنا الشنبر بدوبارة وحوالين الودان
ربطناه، واشتغل يا عم ناجي،
وثبت الهدف يا عم صاوي،
وانهج يا حسن وكأنك حاضر،
أول عملة في التاريخ
يعملها إنسي في حمار. •••
زيادة في الاحتياط ثبت أنا الشنبر،
وزيادة في الاحتياط مات حسن على صندوق العدسات،
وبسمل عم ناجي، وكلنا وياه،
وحط أول عدسة،
واستعدل بوز الحمار،
نفخ الحمار وعطس وهز كده وكده راسه،
وكأن شيء ما كان.
تاني عدسة،
خاف الحمار، واتاخد وغمض عينيه،
وبدأ يرفص،
سهل علينا ناجي وقال: أصلها عدسة بتكبر،
ولازم شاف الحمارة بغل قدامه.
التالتة مسكنا لها جامد،
ورمش الحمار عشر رمشات، وابتدا يبحلق،
وزر ودانه،
وبان عليه علامات جد وخطورة،
ولحقه عم ناجي بعدسة على العين الثانية،
حمحم الحمار ونفخ صدره،
وزفر بصدر محروق،
وراح مطلقها،
تنهيقة مفاجئة خدتنا على خوانة،
وكأن قنبلة انفجرت،
تنهيقة وأتبعها بالتانية،
ورفع للسما راسه،
وتشعبطنا نمسك العدسة والشنبر،
وغارة نهيق هاجت،
ومعاها ضحكنا هاص،
ينهق ونضحك،
وحسن م الفرحة طاير،
وحمارة الصاوي للنهيق
نخت، ووسعت فتحة البرجل،
وابتدا يفلفص،
وحسن يصرخ: أهو شاف. - إيش عرفك؟
شاور.
شيء خرافي غريب يجعلك
تؤمن أن الجسد حيوان ساعة اللزوم يظهر،
لا عقل له ولا فيه ولا أدب يعرف،
حيوان حماري أسود غليظ بشفاتير،
زي مارد كان في الجسم متخبي،
ثانية ادلدل من القمقم،
مارد طويل تخين يجعلك تتمنى تبقى حمار مثله،
خرجته من جحره زي الكمين الحي يستنفر.
شيء لا بد معه تتأمل،
وتنكسف له،
كأنك الغلطان،
وارتبكنا إحنا الكل خايفين نبص
ليكون عيب،
ومش قادرين نشيل عينينا؛
لأن البصر من مكمنه بينشد،
ومن غير أمر ولا خطة الظاهرة
عمالة وشغالة والحمار ينهق،
والوحيد الباصص بعيون الفرح والفخر،
حسن أبو علي صاحب الحمار. - يعمر بيتك يا دكتور!
تسلم إيدك يا عم ناجي.
أنا طالب القرب يا صاوي،
وحمارتك أهه، موافقة.
والجمهور على الجوانب انتابته حالة،
وكأنه بريمة اندكت في برقع الحيا للآخر،
وحمحمة ورا حمحمة سخن الحمار والزمان،
دا جنن الجدعان،
وهب، قطعت رجليه القيود،
واندفع خطوة،
خطوة واحدة بس؛ لأن العدسات نطت،
والشنبر طار،
وهديت تماما وفي الحال، وحين كف البصر، حركة
الحيوان،
وعاد أليف مستأنس.
ارتخت ودناه،
ودلدل بوزه،
وصرخ حسن:
في عرضك يا عم ناجي!
الحقني يا دكتور!
الفرحة ما تمت،
والدنيا بقت هس.
لكن حماسنا كان لسه،
ومرة تانية ثبتنا الشنبر،
وجاب ناجي عدسات أضبط.
والنهيق عاد،
وفي السما لعلع،
وما عرفناش اللي حصل إيه.
في نطة جامدة كان عند الحمارة،
ودماغه زقت عمك الصاوي،
وقدام عينينا ظاهرة كونية،
وعفاريت الجسد في عز الضهر اتجننت،
ولا عاد حمارة من حمار ولا ذكر من أنثى.
الحياة الحمارة بغشوميتها وغبائها أصبحت أرقى،
والقانون اللي عمل أنثى وذكر أصبح مرعبا،
وهو يطلق عقال طاقة الالتحام ،
ولا الرعب النووي له الجميع انشل.
الطبيعة بصراحة وبلا خجل وعيني عينك
تتكلم بأعلى صوت، تصرخ، تجأر،
تضع في أجسادنا الزلازل، وداخلنا تفجر البراكين،
لحظة اختلال كون،
ولا انتظامه،
منتهى عقله،
ولا منتهى جنانه.
لحظة لا قيمة فيها إلا قيمتك كذكر الطبيعة أو
كأنثاها،
ولتذهب العقول والضوابط للأطفال والعاجزين،
يلعبون ويعزون بها الأنفس،
لحظة الفيض.
الأجساد ثائرة وفائرة تدفق رحيقها،
بكل بدائية تفجرات الشمس،
ومد القمر،
ووحشية الإعصار. •••
واختفى الكل ولم يعد سوى ثلاثة:
حمار حسن، وحمارة الصاوي، وقامة قصيرة تشب
وتريد.
مطاولة الموقف واللحظة، قامة أبو علي وقد فقد،
للحظة، وعيه الكامل وملامحه، وقد أصبحت تنطق
بالسرياني، وتزمجر بأزيز يرعب حسن ويرعبنا. •••
ولا تتصور ظاهرة مهولة كهذه،
تنتهي كما انتهت، فجأة، ويحل السكون عاتيا
شاملا وكأنه العودة إلى القبر. •••
ودعونا من خناقة حسن والصاوي.
فالصاوي أنشب أظافره في حسن بدعوى أن الاتفاق كان على الكشف من بعيد لبعيد فقط، ولم يكن الوثب أبدا داخلا في اعتباره. وحسن يرد بغرور أن على الصاوي أن يحمد الله، فحمارته من فرط قبحها بائرة السوق، وفي جوفها الآن نطفة حمار حصاوي منياوي، لا يقل أجرها عن جنيه.
وكأنهما بالاشتباك الذي دار والعمامات التي تهدلت والصراخ والجئير يعيدون للكون نشازه بعد انسجامه، وضجته التي لا معنى لها بعد فحيح الضجيج الخالق.
أما حسن، فقد أصبح قتيل النضارة، تلك النضارة بالذات، فلم يعد مهما لديه أن يرى بها حماره الطريق، الأهم، الكسب. كان يأتي بنضارة الوثب تلك، الوثبة بجنيه، سعر محدد، منها خمسة وعشرون قرشا بدل نظر، أو بالأصح بدل نضارة.
أما عم ناجي فقد تطوع بتصنيع شنبر خاص لحمار حسن، بل وأحضر له عدسات أكبر، وأصبح حمار حسن ونظارته من معالم القرية، وبالذات نقطة جذب السياحة الداخلية لأهالي القرى المجاورة.
وعاث الحمار في أرض القرية بنظارته فسادا، فلم يترك أنثى على حالها، بل أحيانا كان يناوش حتى ذكور الحمير.
وأشاعوا أن حسن أرسل حماره لكتاب الشيخ حسنين، وأنه تعلم القراءة بسهولة تامة، إذ على رأي عم ناجي: أنا مركب له نضارة تقرا لوحدها.
بل وفعلا، وقد رأيت هذا بنفسي، كان الحمار كثيرا ما يرى وهو يحدق في مانشتات الصحف الحمراء، وإن بعضها كان يعجبه فيلعقه بلسانه، والآخر كان لا يعجبه، فيمضغ الصحيفة وعنوانها، ثم لا يلبث أن يبصقها، وينهق بشدة علامة الضيق الشديد.
وربما لهذا صمم حسن على منعه من الاطلاع على أي جريدة أو مجلة، فقد لاحظ أن القراءة بنظارة الوثب تقلل كثيرا من قدرة دابته، ويخسر بعدها بضعة جنيهات من جراء «سدة النفس» التي تحدث لحماره، عقب كل جريدة يقرؤها ويمضغها ويبصقها، وجاهلا سيصير الحمار، وماذا يهم؟! الأدب أو قلته فضلوه على العلم. •••
ومن يومين جاءني حسن،
وسألته عن الحال، قال: لبن.
وعن النضارة، قال: حديد،
وعن الحمار، قال: عقبال أملتك،
ثم ابتسم، مخفضا فتحة فمه إلى أسفل، راشقا
عينه في كمه الأيسر، طريقته في الخجل، ثم
بتنهيدة من أعماقه قال: ألا قول لي يا دكتور. - أقول لك يا حسن. - ما دام نضارات البني آدمين بتنفع الحمير، يا ترى
نضارات الحمير تنفع للبني آدمين؟ - ليه يا حسن؟
سألت.
قال: أصلي عايز أتوكل على الله، واعمل نضارة.
إليه نظرت،
ورفضت أن أضحك،
فماذا بالله عليكم يضحك في السؤال؟
بالله عليكم، ماذا في هذا رغم ذاك، يضحك؟
أمه
في ليلة شتاء وجدها.
ثالث شجرة قبل النفق وجدها.
واحدة من أشجار «أم الشعور» القائمة على جسر النيل عند نهاية شارع قصر العيني.
كان قد طفش.
مرة أخرى طفش.
جرب عربات القطار القديمة المركونة صدئة على القضبان لا تستعمل، وتحمل «العلق» التي كثيرا ما كان الخفراء يوقظونه بها، حتى هجر السكك الحديدية، وجرب أسفل عربات النقل في «الدراسة» والفجوات الكائنة في سور «فم الخليج» والمقابر والخرائب وحظائر المواشي في «المدبح»، وأشياء، وأماكن كثيرة جربها، وكان البشر دائما يطاردونه كما يطارد الكلب المسعور أو الأجرب.
كان طفش.
منذ أن طرده زوج أمه وهو يطفش.
كان يحب أمه، وكانت أمه تحبه، وأبدا لم ير أباه، إلى أن جاء ذلك الرجل، وبدأت أمه تبدو ضعيفة لا حول لها ولا قوة أمامه. سكران يأتي هائجا، ومسطولا مرة، يأتي ويفرغ هياجه وسطله في أعماق أمه المسجاة تتلوى، يأتيه صوت أنينها ولهاثها، وقد أحاله وأحالها الزوج الجديد إلى سائل أنثوي ذائب من لحم طيع وقلب بدأ بالتدريج يلين، وعنه يتحول ويبتعد.
هكذا أحس وظل يحس. كل يوم قلب أمه عنه يتباعد، وناحية الرجل ونزواته العارمة يقترب، ويتشكل، ويستجيب، ويتميع، حتى صحا يوما فوجد الرجل قد أخذ أمه تماما مثلما أخذ الموت أباه. وحين أثمر الزواج الجديد طفلا انتفخ له بطن أمه، أدرك أن الشعرة التي كانت تربطه بذلك البيت «الحجرة» قد انقطعت، وأجبره الرجل على ترك المدرسة والعمل كصبي نجار. واستغاث بالأم مستنجدا، ولم يفاجأ أبدا وهي تصيح فيه صارخة طالبة منه أن يخرس حتى لا يوقظ الرضيع. ومالها النجارة؟! على الأقل تعلمك، يا بن الكلب، حرفة. ابن الكلب يا أمي، أصبح أبي هو الكلب. دامع العينين قبل، ولكن النجار كان قاسيا، وكان هو كثير السرحان والتوهان، وبالشاكوش أحيانا، وأحيانا بفردة القبقاب ومعه أقبح الشتائم كان يضربه.
وطفش.
صاحب أولادا من جامعي الأعقاب والمتسولين، وعمل صبيا في محلات، وأرغموه على أن يدفع ثمن مبيته لدى أيهم من لحمه وكرامة الرجل الطفل الذي كبرته الأيام بسرعة، يدفع الشيء الكثير.
ومرة أخرى طفش.
من كل طفشان كان يطفش، من الأعور الذي حاول أن يعلمه النشل طفش، من الأعمى الذي حاول أن يجعله يسحبه، ويشحذا معا، طفش، فكثيرا ما كان يدفعه من ظهره بعضوه البارز أبدا. من المرأة التي أخذته ليلة وفي حضنها أدخلته روع وطفش. والمشكلة لم تكن طفشان النهار، فمن أكوام القمامة تعود أن يجد دائما في الأكوام ما يأكله، لا، لم يكن يفعل كالكلاب الضالة والقطط. كان يعرف كيف يفتش وينتقي، ودائما ما كان يعثر على شيء طازج، أو بالقليل غير حامض، في بحر النيل يغسله وينظفه، حتى قطع الخبز كان يغسلها وينظفها ويدعها للشمس تجففها وتسخنها استعدادا لمأدبة قادمة حافلة.
المشكلة في الليل والمأوى.
وفي ليلة شتاء وجدها.
الشجرة جذعها من جذور، ولهذا يسمونها «أم الشعور»، فجذورها في الهواء، تلتحم معا، وتجف ملتحمة، وتصنع جذعا وساقا، تتولى عشرات السنين تضخيمه وتكبيره ليتحمل عبء الشجرة المهول. ولأن ساقها جذور متلاصقة؛ فهي لا تكون جذعا مستديرا مصمتا، ولكن يظل في الجذع فجوات هي تلك المسافات التي كانت تفصل الجذور، فجوات كبيرة وصغيرة، مفتوحة من الناحيتين مرة، ومغلقة أحيانا صانعة عشا مسقوفا ذا فتحة واحدة.
ذات ليلة، وهو سائر بائس، ولكن غير باك، فحين يصبح البؤس هو القاعدة اليومية الليلية التي لا تتغير لا يعود الإنسان يبكي بؤسا، فالبكاء يجيء أملا في حل أو استدرارا لأمل، أو رجاء إلى الذي خلقنا أن يهدينا للحل أو بالحل، ويريحنا ولو ساعة من ألم مستمر أضاع منا حتى الإحساس بالألم.
كان الليل قد بدأ يمطر، ثم بغزارة راحت السماء تصب سيولا تفرغ الشوارع من الناس، والدنيا من الونس، وتخلق في النفس شعورا قويا بالخوف، ورغبة عارمة في البكاء.
ولجأ إلى الشجرة يحتمي من السيول التي بللته، حتى وصلت لنخاع عظمه. وعلى الضوء القليل القادم من عامود نور ساطع الضوء، رأى الفتحة واقترب، وبعينيه راح يتفحصها واستغرب حين وجد لها عمقا وكأنها كهف. وللكهف من الداخل بروزات وتجعيدات، وكأنه فم عجوز يحفل ببقايا أسنان معوجة.
دخل.
وكأنه إلى سرداب سعادة دخل، فمجرد إحساسه أن قذائف الأمطار وسياخها المائية قد كفت عن الدق فوق رأسه، واختراق أسماله، وأنه قد أصبح في مأمن، مجرد إحساسه بهذا سعد، فرحة كبرى غمرته، وكأنه الصعلوك قد أهدته السماء قصرا من عجب. واستمرأ الشعور حتى أنساه كل ما لاقاه في حياته من طرد وطفشان وصفعات وإهانات وعمر مديد مليء بالألم، لم يوقظه من شعوره ذاك إلا خاطر عن له، أن يكون في مخبئه هذا زملاء من ثعابين أو حيات أو فئران، أو أي مما يعض أو يلدغ.
وإمعانا في إرعابه كان البرق قد بدأ، وعلى ضوء البرق إذا برق والنور القادم من العامود الصامد ، شبرا شبرا راح يتفحص أرض الكهف النباتي وجدرانه، ولم يعثر إلا على جزء من هيكل عظمي لكلب لا بد وأنه مات من زمن، حين رماه بعيدا، وبخرقة عثر عليها أيضا في الكهف نظف أرضه، وأخيرا قرفص وجلس، أحس أنه أسعد إنسان على ظهر الأرض، أسعد من أي ملك أو غني أو الفرماوي نفسه صاحب كل عربات الكارو والخضر.
ومن فرط سعادته راح يقاوم الخدر الذي بدأ يدب في جسده ويقوده إذا استسلم إلى نوم ما ذاقه في عمره أبدا. إنه هنا ليس في ملك أحد كي يطارده أحد، وليس قريبا من مخزن أو دكان ليأخذوه بالشبهة، ولا عسكري يستطيع أن يراه، ولا إنس ولا جن أو بشر. راح يقاوم حتى يستمتع بشيء حرم منه على الدوام منذ كان لهم بيت، وكان له أب، وكانت له أم حنون يجد في حضنها الأمان والدفء والحماية من كل شرور البشر.
يقاوم الخدر المؤدي حتما إلى النوم، بإرادته يقاوم ومعه البرد الشديد يساعده، وكلما أحس بالدنيا خارج الكهف ترعد وتبرق والمطر بإلحاح ينهمر، وأحس بنفسه محميا بالشجرة العجوز وحضنها عن هذا كله، كلما أحس بشعور الناجي من غرق، المحمي في قلعة حصينة، حولها وحوش الدنيا كلها تعوي وتتلمظ، وهو يخرج لها لسانه اطمئنانا وتأكدا أن أنيابها تماما بعيدة عنه، وأن زئيرها زئير العاجز أن يناله، وأن الدنيا أمان مبطنة بالقطيفة، وقطيفتها الزغبية النباتية أصبحت تحنو عليه، ويسري إليه منها دفء لا يعرف مصدره.
وصحا.
في الضحى صحا.
المطر كان قد كف، ولكن ضجة الشارع والترام بدت كما لو كانت قد مضى على بدئها عشر ساعات. ظل يحدق طويلا من خلال فتحة الشجرة إلى المارة والعربات، ويجتر نصف نائم عمره كله حتى يتذكر اللحظة التي دلف فيها إلى مثواه الجديد ذاك، وعمره كله كوم وليلة الأمس وحدها كومة أخرى، وثمة فاصل حاد باتر بينهما.
وبأيد واهنة وأذرع متراخية كسولة راح يتحسس الجدار الداخلي للفجوة، كأنما يقلب بين أصابعه محتويات كنز عثر عليه أخيرا، وأصبح ملكه وفي حوزته.
وأحس أنه جوعان جوعا لم يحدث له في حياته أبدا.
ولكن كان عليه أن يغسل وجهه أولا، والنيل بجواره، يا له من قصر فاخر، حتى الماء يجاوره، والأمكنة وافرة لقضاء حاجته.
وكأن أيضا، حين انحلت مشكلة مأواه ومنامه، تفتحت أبواب الرزق في وجهه، فما كاد يخطو بضع خطوات في الشارع، حتى طلبت منه سيدة هبطت لتوها من الأوتوبيس أن يحمل عنها حقيبتها، ورغم ثقل الحقيبة، فقد أحس بها في خفة الريشة، ورغم أنه أوصلها لفم الخليج فقط فقد أعطته عشرة قروش بأكملها، ولأول مرة في حياته يفطر فولا وطعمية وبصلا، ويشرب شايا، ويدخن سيجارة من أولها لآخرها.
وسرح في شوارع المدينة، وكان رزقه واسعا في ذلك اليوم، فحين جاء الليل كان في جيبه ما يكفيه لدخول سينما الروضة ويعشيه، ويبقى معه أيضا «ريالا» يبدأ به يوم غده.
وأحس وهو عائد من السينما بعد أن شاهد فيلمين أنه في طريقه إلى مكان أصبح عزيزا عليه تماما. أعز عليه من أي بيت أو مكان سكنه. شيء واحد كان يخنقه إذا فكر فيه، أن يعود ليجد المكان مشغولا بقاطن آخر اكتشفه، ولكنه كان دائما فاتحا فاه، فارغا، ينتظره، ولولا أنه خاف على نفسه أن يجن لاندفع يحتضن جدرانه من الداخل، ويغني لعبد الحليم حافظ، ويصرخ في المارة جميعا: لقد أصبح لي مأوى، بل إن سعادته القصوى كانت أنه قد أصبح له شيء يخصه، مكان ينتمي إليه، وكأنما عثر على عائلة لا أب فيها يموت، ولا زوج أم يقطع جسده، وينهش كرامته. أصبح له هو، التائه في بحر الحياة، مأوى.
ولكن الليلة كانت باردة، وظل مغلق الجفنين والنوم مستعص عليه، وماذا يهمه حتى لو قضى الليل بطوله ساهرا، في الصباح أيضا سيكون المكان ملكا خالصا له لا ينازعه فيه أحد، ولا يوقظه، إذا نام، من نومه أحد، مكانه، بيته.
ولكن البرد ازداد حتى بدأ يرتعش. سيقضي نصف يومه التالي يبحث له عن خرق أو أجولة قديمة تغطيه؛ فالبرد أصبح لا يطاق، مهما قرفص، وحشر نفسه، وألصقها بالجدار الداخلي للشجرة. بل حين راح يحك جسده في الجدار النباتي الناعم بالمقارنة إلى الجدار الخارجي الخشن، لم يواته الدفء أبدا.
أحس قرب الفجر شيئا فشيئا أن ثمة دفئا ما قد بدأ يشمله، أيكون دفء الحمى؟ أيكون قد أمرضه البرد، وأصبح في طريقه إلى عطس وكحة ومرض إذا داهمه فحتما سيقضي عليه؟ وتحسس جبهته، وقارن حرارة يديه بحرارة جسده، لا، لم تكن هناك حمى، ولكنه يحس بالدفء ملموسا لا يعرف مصدره، فقط حين - بحكم العادة - ملس على جدار الشجرة الداخلي، أحس أن الحرارة تنبعث منه. وخاف، حتى كادت الرعشة، رعشة الرعب من هذا الدفء الغريب المجهول، تعاوده.
ولا بد أنه خرف أو بدأ يخرف، فقد لمعت في ذهنه الطفولي فكرة، أن الشجرة العجوز قد بدأت تدفئه، وتفعل مثلما تفعل أية أم حين ينكمش ابنها في حضنها، وتحس أنه بردان، فتدفئه! وتخريف أو لا تخريف، أعجبه الخاطر تماما، واستراح حتى كفت أسنانه عن اصطكاكها، وأطرافه عن الرعشة، ووضع رقبته تحت ذقنه، ثم دفن رقبته بين ساقيه، وكأنه يتخذ وضع الوليد في بطن أمه.
ونام.
وكما انتمى إلى الشجرة تماما، وأصبحت ملجأه وملاذه من العالم الخارجي الشرير، حتى أصبح يأوي إليها في عز النهار هربا من القيظ حين جاء الربيع وجاء معه الحر، فوجئ ذات يوم، وكأن الشجرة كانت ضائعة هي الأخرى، وبلا قريب مثله، وبدا كما لو كانت فجوتها تتحور لتأخذ شكل جسده، بل فوجئ ذات يوم بعرق داخلي منها يبرز، ويمتد إلى الخارج من فتحتها ويواليه بالطبطبة وبالسقيا، حتى لفي أسابيع قليلة يكبر، ويكاد يملأ فتحة الفجوة، ويصنع لها بابا يكاد يخفي الفتحة، بحيث لم يعد يعرف مكانها سواه.
ودون أن يدرك هو ما يحدث، وبالطبع دون أن تدرك الشجرة، بدأت علاقة أكبر من مجرد الانتماء والحنان المتبادل، والبرودة تغمره بها صيفا، والدفء تغطيه به شتاء.
أحبها أكثر مما أحب أمه، لقد كانت الحضن والبيت والظليلة والعائلة، وكل ما يمت إليه في الدنيا.
ولا يدري كم من الزمن مضى، عام أو عشرة أعوام، فالزمن كان قد توقف به عند اللحظة التي اكتشف فيها أم الشعور، تلك التي دبت الحياة في كل أنحائها تماما، واخضر كل مكان متخشب فيها، ورغم أنه كان قد وفق إلى «صنعة»، وأصبح صبيا في محل «دوكو»، ويكسب، إلا أنه لم يستطع أن ينتزع نفسه منها، ومن جوفها «الحضن».
ولكن شيئا فشيئا بدأ يحس أن الفجوة تضيق عليه، إذ كان دون أن يلحظ قد كبر، وكبرت معه سيقانه وأذرعه، حتى جاء اليوم الذي لم يعد يقدر أن يحشر نفسه داخلها.
وهكذا الدنيا، فقد كان عليه ذات يوم أن يجمع حوائجه التي خبأها في ثنايات فجوتها، ويودع الخن الذي أصبح من الداخل أخضر كله، ويذهب ليقاسم زميله في المحل وصديقه الحجرة فوق السطح التي كان يقطنها الصديق وحده.
وليال طويلة قضاها لا يعرف كيف ينام على فراش، وهو الذي تعود على حضنها الحي، وعلى وضعه الجنيني المريح داخلها.
ولكن الأيام تمضي، ويتعود الرقاد فوق فراش، ويقارب سن البلوغ، ويبلغ، ويلهيه العمل الشاق طوال النهار، والسهر الطويل مع الصحاب والشلة حتى نسيها، بل نسي الشارع كله، وقد انتقل بعمله وسكناه إلى شبرا.
وذات يوم أرسله الأسطى في مشوار لفم الخليج.
وفجأة وجد نفسه يقفز من الأوتوبيس عند نهاية قصر العيني، ويسرع إليها، ووقف مشدوها يرقبها.
كانت أوراقها الخضراء كلها قد جفت، وأعضاؤها الجديدة والقديمة تخشبت، وبابها النباتي اندثر.
كما لو كانت قد ماتت.
وأحس بغصة ما قبل البكاء.
وبكى
أمه.
الخروج
تشنجت الرغبة في الساق أن ترفس، أمر أقوى من الرغبة صدر، الحركة والخوف من الحركة، التجمد الذي يسري ساعة الضياع. لا؛ ليس أعمى، هو يرى، ولكن ما يراه ظلام، متى كان أعمى تماما؟ ومتى بدأ «يرى» ظلاما؟ هناك فرق، يرى ظلاما، ولكنه يرى، يراه المؤكد أن رأسه تصله رؤيا الظلام.
مذهل ما حدث، لحظة أن يتكامل الوعي بالموقف، يضيع الموقف.
يضيع المفتاح والحل، ويضيع هو.
من أين جاء الموقف؟ بل هو نفسه من أين جاء؟ ومن هو؟ لم يكن يسأل، ولكن السؤال هناك، بل كل ما هناك أسئلة.
ولا جواب. لا جواب.
تكاثر الأسود في الظلام.
من فرط التراكم بدأ يحس بالظلام ثقيلا، وأثقل، أثقل.
إنه يختنق.
الصدر يرتفع وينخفض، الهواء يمر بحلقه، ولكنه يختنق.
تشنجت رغبة أخرى في ساقه، أن يرفس.
حتى والأمر الناهي موجود، رفس.
ومرة ثانية رفس.
فالأولى لم تذهب بعيدا.
ارتطمت بالمستحيل. •••
عقب العشاء، والعائلة كلها هناك، وكل فرد فيها قد انتحى ركنا من حجرة القعاد يلتهم البطيخ، تكرع هو، وبينما كان شيء يرقرق في صدره، ويقول: أنا أسعد مخلوق على سطح الأرض، كان فمه يتمتم: الحمد لله، ألف حمد لك، ألف حمد.
بعد ثمان وأربعين ساعة كان كل شيء قد انتهى.
وحيدا كان جالسا في نفس الحجرة، يحرك كتفيه لما فوق جذعه ويجأر بلا صوت: لماذا يا رب؟ لماذا؟ باكيا ولا يذكر بالضبط ما حدث، وكأنه قد مضى عليه عام.
ولكن البداية يذكرها تماما، لحظة دق الباب. فتح ابنه الأكبر، بلا وعي، أصاخت الأسرة للحوار الذي دار وطال، وبدأت ابنته تتسلل، ثم زوجته، ثم أخيرا هو. وحين وصل لم يكن ابنه هناك.
وارتفعت الأصوات، وارتفعت الأوامر. اذهب، اذهبي، هاتي الملابس حالا.
في القسم كان النور معتما، والنظر. ما هذا؟ بالتأكيد ليس حلما ولا كابوسا، ولكن الولد في الحديد، من القسم إلى النيابة.
السيارة باسمه، ولكنها سيارته، بضائع مسروقة في حقيبة العربة.
بضائع من؟ أودعها عندي صديقي ليبيعها، الصديق يأتي نافر العود، مؤكدا أن شيئا من هذا لم يحدث. المبيت في قسم البوليس. الولد يكاد يبكي من الغيظ، ولكن شيئا ما في طريقته لا يعجبه. المحامي، أكبر محام، خمسمائة جنيه فورا. دفعها صهره.
مفتخر الملابس ذهب المحامي في الصباح، مفتخر الملابس خرج.
استمرار أربعة أيام. في نفس حجرة القعاد تصرخ زوجته:
لو كنت ربيته. طالع لك. طالع لأخواله. طالع لعيلتكم. أخوك حرامي. اخرسي. اخرس انت. لم يكن قلما، ولكن يده هوت بنصف غضب. قلمها كان غاضبا وحادا ومليئا بالكره، مليئا بالكره لم يؤلمه القلم، وإنما كشف له الكره عن وجه غريب لم يره من قبل، وجه امرأة عاشت معه خمسة وعشرين عاما تكرهه. غلالة رقيقة، كجلدها الدهني، كانت تستر الكره، تحيله أحيانا إلى ضحكة سعادة وربنا يخليك. تكرمش الجلد كارها، نافثا حقدا معقدا أسود.
رفع يده، يصفع. تعلق الابن الثاني والبنت في الذراع. دفعهما. اندفعت البنت، ودفعه الولد دفعة غليظة أسقطته فوق الأرض.
قام هاجما كنمر مفترس، ماذا حدث؟ هل ضربه الولد لكمة أداخته؟ هل هي لكمة منه، وصفعة منها، وعرقلة من الابنة؟
أنت طالق، اخرجي من بيتي أنت وأولادك أولاد الحرام.
اخرس.
قالها الولد.
اخرج أنت يا كلب.
قالتها الزوجة.
بلاش قلة أدب.
قالتها البنت.
في عملية جمع الملابس، سيحرقهم جميعا، خائف على نفسه أن يتوقف قلبه عن الدق ويموت قبل أن يحرقهم، مرارات الدنيا كلها تتجمع في حلقه، فأحد لا يأتي ويرجو أن يبقى، لا أحد.
في حجرة الفندق الرخيص فرت من عينه دمعة، لحقتها دموع.
من يهن يسهل الهوان عليه، ما لجرح بميت إيلام. لن يهون أبدا، لن يهون، والواجب سيؤديه كاملا، سيخرج الولد من السجن أولا، ثم يتفرغ للأفعى وأولادها. على باب القسم كان ينتظره صهره، قبل أن يقول أهلا كان وجهه يطالب بالمبلغ. حسابه في البنك يسمح تماما بالمبلغ، ولكن النقود باسمها. الصهر لا يفهم. بوجه صارم يطلب موعدا. بعد غد. بعد غد وإلا ... لا داعي ل... إلا. بعد غد يعني بعد غد.
قال له رئيسه: تأخرت، هذه ليست وكالة. لم لسانك. هذه قلة أدب. خد. آه يا كلب. خد. وما لم يستطع أن يفعله في حجرة القعاد فعله هنا في المكتب الفاخر، وعلى صوت الاستغاثات جاء السعاة والموظفون، وتحقيق طويل طويل، وإيقاف فوري عن العمل.
في حجرة الفندق المكتومة قال: على الأقل ما أزال حيا، لم أمت بعد. •••
لم يعد ذاك البياض الناصع أبيض، اغبر البياض، واحتقنت جزئياته، وتعقدت وانبثقت شبكة عروقه كالعنكبوت الأحمر جرى فيها دم. في كل ثانية يتوالى التغيير، ويتعقد أكثر . انتفاخ بدأ ينبض. انبعاجات. نتوءات. أشياء كالغضاريف، مكونات مجمعة مبعثرة لا معنى لوجودها معا بالمرة، تكبر وتتقارب وتكبر وتتباعد حوافها وتتداخل، ثم فجأة وكأنما قد أضيف إليها عنصر هام فعال ناقص يصبح لكل شيء معنى. معنى واحد ينتظم الكائن الجديد كله، معنى واحد يعطي معنى لكل ذرة وجزيء وجزء. وتنتظم الأجزاء والجزيئات والكل حركة واحدة، ذات معنى محدد واحد، الحياة أنا، أنا أحيا.
الذرات تأمر الذرات، العضو يأمر العضو، الأمر الأكبر صادر من أعلى. •••
في الصباح رد تحيته شاويش الحجز بقرف. ابنك فقأ عين مسجون مرحل. برز له من باب الحجز وجه رفيع أصفر، ابنك مظلوم. المجرم حاول الاعتداء عليه بالقوة، ولو كنت مكانه لفقأت العينين. أين الولد؟ أمام الضابط. يا حضرة الضابط، كلمة. ولا كلمة. س سؤال: هل هتك عرضك فعلا؟ أرني نفسك. يغلي الولد بالغضب يثور، يضربه الضابط.
يثور الأب. يضربه العساكر، وخارج القسم يلقونه.
يعود مغلوبا يسأل. المسجون أخذته الإسعاف إلى المستشفى.
أمام قسم العيون ينتظر ممنوعا من الدخول. بالرشوة يدخل.
يا دكتور. العين انفجرت، خيطناها، وهو وحظه.
لو ضربت سنستأصل عينه الأخرى. أعمى هو قد أصبح. إلى أين يذهب؟ جريا إلى المحامي المفتخر. المحامي مستريح تماما يقول: المحضر. المسألة في يد الضابط. وفي يد الضابط يدس خمس ورقات بمائة جنيه، فيدفعه الضابط كمن أصيب بلدغة. يفتح محضرا بمحاولة رشوة والشهود اثنان من أمناء الشرطة. الظلام الكامل حل. شعاع ضوء. المحامي جاء وتوسط. الظروف، حرام. راعيها يا سعادة الضابط. كله منها. حين كان يغضب منها، أو تغضب منه كانت الدنيا تظلم. ليصلحها الآن وفورا. التاكسي حين يركبه يجده ذاهبا إلى شبرا، يهبط في منتصف الطريق يتطلع، لا يعرف أين هو، الحي غريب، وبيته يبدو في آخر الدنيا، في آخر الدنيا.
وحين يصل يجده مغلقا، ولا أحد في الشقة. على البسطة يجلس. أراد أن يبكي، كان قد وصل إلى ما وراء البكاء. انتظر. عاما كاملا بدا انتظاره، جاءت ومعها الابنة. ما إن رأته حتى خلعت فردة الحذاء، شرر عينيها يصب اللا تفاهم المطلق. فتح فمه. هبت عاصفة من فمها. أطل الجيران. اندفع إلى الشارع يجري. قابله صهره. الخمسمائة جنيه. وصل أمانة يستحق الدفع اليوم. الدفع أو الحبس.
في حجرة الفندق أصبح التنفس صعبا.
لا، ليس الآن، أرجوك أيها الموت ليس وأنا مهزوم ومسحوق.
انتظر حتى أعود إلى السباق وأسترد الجميع، الزوجة والأسرة والأبناء. وبالذات هذا المحبوس في جريمتين، ليس الآن.
دق الباب. دخل أخوه. استراح تنفسه. لم تعد المسألة إذن سرا، استراح تنفسه أكثر حين بدأ الأخ يؤكد له أنه لم يخطئ، وأنه كان بالضبط سيفعل مثلما فعل، ولكن؛ آه من لكن حين تخرج بعد نهاية المواساة. ولكنك كان من الممكن أن تفعل وتفعل. وكأن كان له خيار فيما يفعل وفيما لا يفعل. ساعة القضاء يعمى البصر. ويعمى الفعل. فهو أبدا لم يفعل. إنه مسير فيما لا يفعل. دفعة إثر دفعة، وكأنه كتلة لا وزن لإرادتها. النهاية، معاك فلوس؟ وتنحنح، وآه من الأخ حين يتنحنح، وينخنخ، وفي النهاية يستأذن.
وجاءت أمه وخالته، أمه تنحو عليه باللائمة، وخالته تطبطب.
أهذه آخر تربيتي فيك. بكرة كله يتعدل. متفائلة يا خالة كعادتك تفاؤلا دائما لا معنى له بالمرة. مع السلامة يا ناس. اتركوني وأطفئوا النور.
وفي الظلام أحس أن الظلام يتكاثر، وأنه يجثم على صدره، ولأول مرة كان يرى الظلام رأي العين، وتشنجت الرغبة في ساقه أن يرفس. •••
وكان مفروضا أن يؤكد له انبثاق الرغبة أنه لا يزال حيا، وكان مفروضا أن يدفعه الإحساس بالحياة أن يفرح، ولكنه لم يفرح.
فمن زمن طويل والإحساس عنده بالحياة لم يعد مرادفا للإحساس بالسعادة أو الفرحة. منذ زمن بعيد جدا حدث هذا، بعد أن ذاق كل أوليات الأشياء، أول بدلة، أول نجاح، أول جنيه، أول نظرة حب، أول ليلة مع امرأة، أول ليلة مع امرأته، أول ترقية، أول أمل. منذ زمن سحيق لم يعد هناك أمل، كله تكرار للأول، حتى الإحساس بالحياة لم يكن يحمل إلا مزيدا من الإحساس بالمسئولية، الحياة أصبحت مهام، كلما أحس بها عليه أن يربط نفسه بالتزام وبسرعة أكثر، لتحقيق هدف، ولا نهاية لتحقيق الأهداف، فوراء كل هدف هدف، ووراء كل هدف هدف.
ذات مرة كان أقصى أحلام حياته أن يكون إيراده الشهري الثابت مائة وخمسين جنيها، حين أصبح يصرف مثلها في اليوم الواحد أصبح الهدف خمسة آلاف وعشرة، وكلها ثابت أيضا. أن يخلف ولدا، أصبحوا ثلاثة وبنتا. أن يتعلموا ويتخرجوا، تخرجوا وأصبح الهدف جديدا. أن يعملوا، وهدف أبعد. أن يتزوجوا، وأبعد وأبعد. أن يكون له أحفاد، أعز الولد ولد الولد. وهي، أقصى أمله كان أن تنظر ناحيته عن عمد. حين نظرت أصبح أن يكلمها، حين كلمها، يقبلها، والزواج كان مستحيلا. تحقق. أن يلعب بذيله، ويستمر، لعب. أن يلعب أكثر، لعب أكثر. يحافظ على «السعادة الزوجية»، حافظ وجرب السعادة والتعاسة، والخناق والصلح، وتهديد بالطلاق، والطلاق، والندم، والعودة، والصلح، وشهر العسل الثاني والثالث والرابع حدث ويحدث، كل ما في الأمر أنه أصبح مكلفا أكثر.
كان مفروضا أن يدفعه الإحساس بالحياة أن يسعد. مثلما سعد أول مرة. أن يشفى، يشفى من ذلك المرض العضال، التهاب المفاصل الذي أرقده، وجعل حلم حياته أن يتمكن من السير، مجرد السير، مرة أخرى دون مساعدة أو شماتة من أحد. عاد يسير، ويمشي، ويجري أحيانا، ويلهث، ولم يحس أبدا أنه سعيد، حتى وهو يتذكر كيف كان كسيحا وأعرج ومكبلا، يقبل يده ظاهرا وباطنا أن الحمد لله، ولكن هذا الإحساس العميق الشامل الصامت بالنشوة، أنه سعيد حقا وصدقا، لم يحدث، وإن حدث فلثوان معدودة بالضبط كالإحساس أنه الآن، حين نقولها، قد مضت ومضة، ومرت ثانية، صحيح ليس مثلها مثل أية ثانية أخرى، ولكن الغريب أنها لها نفس طولها، ثانية أخرى مضت.
عريضا، واسعا، شاملا، كان إحساسه بالحب والألفة والتواصل مع كل باقي الكون. في النهار يحب الشروق حين تبدأ الشمس بغمزة جفن في الأفق، تشرق. والنهار رائع بوضوحه، وإشعاعاته، وتحقق كل شيء فيه، كل أحلام الليل تتحقق، إذا لم يكن صباحا، فعلى الغداء، فإذا صعبت لا يأتي عليها بعد الظهر، وما أروع العصر حين يجيء كالذهب الرقيق السائل يسدل فوق كل شيء، وقد تحقق، كل أمنية وقد حققت النهار، وتحقق النهار بها، والآن جاء وقت أن تغلف بالعصر الملون الشفاف، وتصبح هدية ذلك اليوم. الليل جميل، نجومه هناك تبرق بفرحة الوجود مع غيرها معا وتتلألأ، تزف القمر وتتلألأ وتبرق. كل شيء حلو ويستحق المحبة. الإحساس برجولته المبكرة، يحب شكله في المرآة، يطيل التأمل فيه ويحبه، الكلية التي اختارها وحقق اختياره، والمهنة، ومكان التعيين، ولحظة تسلم العمل، كل شيء حتى بصعوباته، يسعد. حب واسع، شامل لا نهائي الامتداد، يشمل كل شيء، وكل إنسان، يحب القرية بيت بيت وإنسان إنسان، والمركز، واسم محافظتهم، ومصر، والدنيا. يحب الدنيا، والعالم. حين تذكر أمامه أو يذكر كلمة البشرية، يحس بالجنس البشري، جسد دافئ بالحياة. هادئ، صاخب، متدفق. يسبح فيه ويشربه ويغوص في أعماقه، ويطفو فرحا عابثا، مندفعا فوق سطحه.
وإذا بذاك الإحساس كالبحر حين يتحول إلى بحيرة، والبحيرة إلى فوهة. تنكمش غلالة الحب وترق، وتتحول إلى بقعة، بالكاد عائلته، بالكاد وبالكاد عائلته الأصغر. فابنه الأوسط قد اخشوشن تماما، ونمت له ذقن وأغزرت، وبدأ حتى يصيبه، كخاله بعض الصلع. ابنه الأكبر اتخلع بعواطفه تماما، وأصبح على وشك أن يقيم له بيتا آخر ويتزوج. تكاد العلاقة تصبح رسمية. لم يعد يستطيع أن يلعنه إذا غاظه أو حتى يعلي عليه صوتا. حب، هذا حقيقي، له ولأخويه، ولكنه حب المتأكد أنهم مستقلون، وقادرون، بل وأصبحوا أندادا يكاد لولا الحياء يقول لأيهم: يا سيد.
البنت الحلوة الطفلة ذهبت أيام اللعب معها والضحك والقبلات والأحضان التي وكأنما كان يحضن بها الدنيا، أو بالأصح السعادة كلها الكائنة في الدنيا، حضنه، شيئا فشيئا قد أصبح يملؤه جسد يتضخم حتى صار جسد أنثى، لا تتفتح كل مسامها حين يضمها، وإنما يتكور وينكمش ويستقل ويتحدد جسدا، ثم في النهاية تصبح امرأة أخرى.
وزوجته الغرام، الغرام حين يطول يصبح عادة غرام، وقصة الحب حين لا تنتهي كما بدأت، فجأة يصبح لها خرير مستمر واثق موثوق به لا يحمل مفاجأة أو نكسة. ومن التكرار تتشكل زمالة اثنين أصبحا فرقة لا يتباريان وإنما معا يلعبان مع الحياة اللعبة. واللعبة طويلة مهما طالت لا بد أن تنتهي كالدائرة المفرغة، مشكلة لا حل لها إلا بحلها.
بالكاد لم يعد قادرا إلا على حب الأسرة.
بل في الواقع ذكرياته عن الأسرة. فالطفل الذي يحبه، طفلا كان، إذ هو الآن رجل كان ذات يوم ابنه، والزوجة كانت غراما، والحب كان حبا، حبا لذاته، اليوم أصبح تعلقا شديدا، أصبح أنانية، وكأنما هو الحب للنفس يتخذ أبعادا أخرى.
كل شيء استحال وتغير. كان يستطيع أن يواجه الدنيا بجيب ليس به سوى قروش، الآن يرعبه لو نقص الحساب رقما أو خانة. كان حين يهدد أن يترك البيت كان يفعل هذا بإحساس من هو على يقين مطلق أنه يستطيع، من جديد، وفي التو، أن يبدأ حياة أخرى. الآن يرعبه مجرد أن يبتعد عن الدار أو أن يبعد أنملة عن الخط الذي فرضته عليه حركته مع الدنيا. الدنيا التي تلخصت في خيمة صغيرة مركزها حجرة القعاد في بيتهم، وأقصى أطرافها رحلة لأكل العيش، ولجلب ما عند محيط الدائرة والخيمة إلى مركزها. مركز الدائرة المفرغة والخيمة المفرغة إلا منه ومنها.
ينكمش، يضيق، يتغير، الطعم يتغير، ما يمتع لا يمتع، ما يشبع لا يعود يشبع، والحياة يتغير لها الهدف. من وحده مسئول عن الإبحار إلى فنار يتحقق، إلى فنار بعد فنار. إذ به يصبح مسئولا عن صياغة حياة «سوية» للأولاد الثلاثة والابنة. من أجل أن يصوغ هذه الحيوات لا بد أن يعيد صياغة حياته هو؛ لكي تصبح مثلا يحتذى. بجماع قواه يمسك بزمام كل منهم، وبالزمام العام لا يريد أن يفلت، وشيئا فشيئا لا يعود يعرف أهو السجان للخندق الذي يريد أن يمر كل شيء فيه حتى يستقيم ويعتدل، أهو السجان أم في الحقيقة السجين؟ حريته تضيق إلا عن الأفق المحدد بصرامة، إذا أرخى العنان فلت الجميع. إذا شدد تماما ينفلت الزمام. بأي قوى قاهرة يمنع القبضة أن تكون أضعف، حتى يستغرقه الأمر كله، ويتلخص العمر في خطو دءوب نحو ماذا، نحو أن تنتهي المهمة، أن «يتحرر» وأبدا لا تنتهي المهام، فانتهاء المهمة لا يفعل إلا أن يكشف مهمة أبعد. والعائلة التي كان أفرادها طوع بنانه تشتد فيها السيقان وتقوى وتخشن، بصعوبة يستطيع أن يغير إرادة أو رغبة، الشجيرات أصبحت كل منها شجرة، رفعت الخيمة المحكمة التي كانت تضمها، رفعتها فوق قممها، فبدت في النهاية كالعلم الممزق، كبروا عليه، وصغر عليهم، ولم يعد في النهاية إلا صرافا عليه باستمرار أن يملأ الخزانة، وويله إذا يوما فرغت، فسبب وجوده والمبرر الوحيد للخضوع له يكون قد تبدد. كم أشرفت هيمنته الباقية أن تتهاوى، وكم تغابى وأحنى رأسه للعواصف كي تمر ليبقى كل شيء وكأنه على حاله لم يتغير، وكأن العائلة متماسكة، هو الأب القوي، وهي الأم المثلى، وهم الأولاد الطيبون الناجحون باسم الله ما شاء الله.
ولكن، كان محتما، ولا مهرب منه، يوم تتطور فيه مشادة، أو يحدث حادث، أو يشتبك مع ولد، أو يحدث لأيهم مشكلة، أو يدق الباب ويدور حوار يطول وينتهي إلى تهمة، وتتمزق الأقنعة.
وفي الصباح كانت الغرفة أضيق وأثاثها أكبر، وكان النور هناك، ولكنه يوضح كم الدنيا ظلام، وكم الهواء قليل، وكم هو يقل وسادر في إقلاله، وكم هو يختنق، ويحس أن كل ما كان يجري لم يعد يجري، كل ما كان يتفتق عن العقل من حيل ومن حلول، لم يعد يحل أو يربط. أطبق الواقع الرهيب ولم يعد يقدر أن ينبس، وتشنجت الرغبة في ساقه أن يرفس. رفس. ارتطمت الساق بالمستحيل، مستحيل أن يخرج، العمر فات، والواقع أكبر من كل الطموحات والإرادات. وما يهمس له بالتمرد ما هو إلا شيطان شاطر، عليه أن يطرده ويستكين إلى حياته، فلم يعد في العمر قدر ما مضى منه، وبيته وأولاده ومشاكله هي عمره الذي فات، ولا بد أن تكون عمره القادم أيضا.
أنا غلطان.
سيل من الصراخ والعويل مختلط باللغط.
غلطان.
عيون تحدجه بالاتهام والتعذيب وتسوق له شتائم جارحة، يراها وينزف لها، ويبتلعها.
غلطان، غلطان يا ناس، غلطان، أنا المسئول عن عبث الولد وسجنه، مسئول عن إخراجه وتزويجه، مسئول عن الدورق الذي كسر، والتليفزيون الذي لا يعمل، مسئول عن عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، والتعذيب في السجون، والحربين العالميتين: الأولى والثانية، وإذا اشتعلت الثالثة أكون أنا المسئول، غلطان.
وحين سكت آخر صوت في البيت وآخر احتجاج، وكأن شيئا ما كان تشنجت الرغبة في ساقه، بحدة، أن يرفس.
ولم يستطع.
كانت آلام المفاصل الحاد قد عادت تشل ركبته.
أخرج الولد من السجن، وقيدت القضية جنحة، واستعاد عقد الشقة وأصلح التليفزيون، واصطلحوا مع الجيران، وبدأت الزوجة تتحدث عمن ترشحه لخطبة الابنة، وتقطع الحديث بضرورة شراء جهاز تكييف فهي لا تنام من فرط حرارة الجو وصوت جهاز الجيران.
وحين ناموا جميعا، وبقي هو ساهرا، لم ينم إلا بعد أن خبط رأسه في الحائط عدة مرات. •••
في منطقة معزولة من شط النيل عند القناطر الخيرية، جلس وقد مدد ساقيه الحافيتين في الماء. الجو حار، ولكن النباتات الشيطانية تلتهم حرارته، ويصدر عنها وعن ماء النيل رائحة كرائحة ما قبل نشأة الحياة. الصنارة تغمز، غمزا ثقيلا، دفقة فرحة غامرة تنداح في صدره، قلبه أخيرا ينبض ذلك النبض المدوي العالي، كنبض أول قبلة. أخرج السمكة بلطية فتية وزنها لا أقل من كيلو ستتكفل بمصاريف اليوم، وما تبقى من النهار، ويفيض ما يكفي علبة الدخان، ويبيت الليل عند الخفير في عشته وهدية لابنته السمراء المليئة بحيوية البلطي ودفء ماء النيل في الصيف.
وكشبح يطفو من الماضي داعب ذاكرته ما قرأه في جريدة تركها صاحبها في الحدائق، ورأى فيها صورته، صورة بطاقته الشخصية العجوز الجامدة الملامح: خرج ولم يعد، رجل في الخمسين أسمر الملامح حليق اللحية والشارب أبيض الشعر، يرتدي جلبابا مقلما وشبشب زنوبة، من يجده يتصل بهذا التليفون أو بالعنوان ... خرج ولم يعد. خرج ولن يعود أبدا، والحياة لا بد قد سارت من بعده أفضل بكثير مما كانت تسير به.
أبدا لن يعود. •••
لم تعد الساق حين ترفس تجدي، تشنجت الرغبة هذه المرة في الرقبة، بجماع رقبته دق بمنقاره على الجدار الأصم، رن المنقار مرتطما بالجدار. بآخر ما تبقى في قمة البيضة من هواء امتلأت حوصلته فسدد منقاره ودق. انتهى الهواء، وانهال برأسه المدبب على الجدار مختنقا، دقا مستميتا يدق، آخر دق.
لا يعرف لماذا يدق، وإلى أين هو صائر، ولكنه مختنق يدق ويدق. لا يعرف إلا أن حياته كلها تلخصت في أن يدق ويدق!
وفجأة ...
انهارت قطعة دقيقة، وأخرج المنقار منها، ورغما عنه تنفس، هواء كثيرا يدخل الحوصلة، ويزيده نشاطا ينهال به على الفتحة يوسعها، فيخرج رأسه، ويحطم ما تبقى من الجدار فيخرج جسده الكتكوتي المرتعش.
النور باهر يغلق عينيه.
الهواء كثير، وفسيح، ودنيا واسعة واسعة أوسع من كل قدرته على الرؤية.
وانتفض يسقط ما علق بجسده، وانطلق في مرح لا نهائي يجري.
لماذا أصر على الدق والدق حتى كسر الجدار؟ وهو لم يكن يعرف أنه جدار، وأن خارجه كل ذلك النور والاتساع، أهي قوة مجهولة داخله كانت تعرف؟ أم هو الضيق بالاختناق دفعه أن ينقر وينقر ليموت نقرا وضيقا؟
لا الكتكوت يعرف.
ولا هو قد عرف.
فالإحساس الطاغي الوحيد لكليهما أنه الآن في عالم آخر، فسيح جدا.
الختان
بعد سلسلة من الميراث والتوريث، والقطع والبيع والموت والميلاد، آبت الجميزة العجوز إلى ساق ضخمة سميكة قصيرة، تنتهي إلى فرعين اثنين ورثهما الشقيقان محمد الهادي الكبير، والهادي محمد الصغير. ونحن كنا أبناء محمد الهادي الكبير، وبمثل ما قسمت الجميزة بين الأخوين، قسم البيت الكبير أيضا، ولكن الجميزة العجوز كانت أروع ما في طفولتنا كلها. أروع من ليالي القمر، وصيد السمك، ونزهات الحقل، ومشاهد الصراع الحافل بين زوجة عمنا وأمنا. كانت شيئا خرافيا، نسأل عنه الآباء والجدات وعواجيز القرية فلا يدرون أهي نبتت «شيطاني» أم أن جد جد جدنا الأكبر الهادي الأول هو الذي زرعها؟ كانت مثار دهشتنا، مختلفة تماما عن أي كافورة أو نخلة، خشنة وقد حفر الزمن بأظافره وأنيابه في ساقها الغليظة السميكة، فصنع معه بروزات وشقوقا، وحفائر، وجروحا غائرات، وندوبا، ومسامير حدادي مدفونة صدئة. مشهد رائع، وكأنما الزمن الذي عاشته، والتطورات التي حدثت لعائلتنا قد تجسدت مكتوبة ومحفورة على ساق الجميزة.
المهم أننا ونحن في تلك السن بدأنا نلاحظ أن فرعنا نحن، الذي ورثه أبي، دائما شاحب الأوراق، ذابل الأفرع، قليل الثمار حين وقت الثمر، فقير الأغصان لا يصلح أبدا لإخفاء صغير منا حين نلعب الاستغماية مع أقاربنا، وبالذات أولاد عمنا الهادي، ونتخذ من الجميزة بفرعيها الهائلين الضخمين مكانا للاستخفاء. كنا نتبارى في الوصول إلى فرع عمنا لتسترنا أوراقه العريضة شديدة الاخضرار، وأغصانه شديدة الكثافة، وثماره التي كنا ننتهز فرصة الاختفاء، وننهال عليها التهاما. ثمار كثيرة، منفوخة بالطزاجة كالكرة الحمراء الحلوة.
الشجرة هي الشجرة والساق هي الساق الأزلية، والفرعان لهما نفس الحجم الهائل، ولكن شتان بين فرعنا الهزيل رغم ضخامته، وفرع عمنا الهائج بالأوراق والأغصان والثمر. نساء العائلة يقلن: إن المسائل أقدار، وإن عمنا الهادي هكذا «مبخت»، محاصيل أرضه دائما أوفر، ولبن جاموسه أكثر، وعنزته دائما تلد اثنين، بينما أبونا محمد الهادي يعزو الأمر إلى أن أباه «جدنا» كان يؤثر عليه عمنا، ولهذا وصى له بالفرع الأحسن. ورغم حبنا لأبينا فبيننا وبين أنفسنا كنا لا نصدقه؛ فالفرعان متماثلان تماما في الطول والحجم والارتفاع، بل إننا لنسمع أنه هو كان المفضل لدى جدنا وليس أخاه. ويقول لنا القائلون إنهم لم يسمعوا في حياتهم عن فرع في جميزة واحدة، أو أي شجرة، أخصب من فرع، فالشجرة الأم أبدا لا تظلم أحدا من فروعها، فشريعة الكون كله العدل، والظلم شيء لا يعرفه إلا الإنسان وحده، وبفعل الإنسان.
وكنت أنا أكثر الأولاد حيرة للأمر. حيرة كانت تدفعني لتأمل الجميزة طويلا وكثيرا، بل كانت تدفعني لمراقبة أبي وعمي كلما صعد أحدهما إلى فرعه يشذبه، أو «يختن» ثماره، أو يقتلع غصنا كسرته الريح أو يد طفل شقي. أبي كان رجلا طيبا حقا، كان كما يقولون لا يؤذي نملة، يصلي ويصوم ويعاملنا بسماحة، وعمري ما رأيته غاضبا، أو يقدح الشرر من عينيه، ولكنه كان يميل إلى الوحدة، ولا يعرف جلسة الأصحاب، وما رأيته أبدا يهزل، أو سمعته يقهقه، أو يسهر، أو حتى يدخن. لا أقول على عكسه، وإنما عمي الهادي كان غير هاد بالمرة، كان صاخب الوجود دائما، معظم الأحيان مكشرا، ولكنه إذا ضحك زلزل الأرض بضحكه، غير أنه نادرا ما كان يفعل، فلم يكن يضحكه غير الشديد القوي الشدة.
كل ما في الأمر أن الموقف كان يختلف حين يصعد أي منهما إلى الجميزة؛ فأبي لم يكن يحب الشجر؛ كان يظن أنه بظله الذي يلقيه على أرضنا المزروعة قمحا أو قطنا، يضعف الزرع ويمرضه. وكان لا يصعد إلى فرعنا إلا مضطرا، بل نادرا ما كان يلحظ وجود الجميزة أو يدرك أن موعد التختين قد حل إلا بعد أن يرى أخاه قد بدأ «يختن». وتختين الجميز هو تحضيره لعملية اللقاح ونضج الثمرة، حين يقارب حجم الثمرة حجم الليمونة الخضراء الكبيرة، لا بد أن تشق بسكين حاد شقا يفتح داخلها ويعرضها للهواء. وحين كبرت عرفت أن هذا الشق يسمح للهواء بالدخول، والهواء يحمل حبوب اللقاح، وبهذا تتم عملية التلقيح وتبدأ الثمرة، كالأنثى التي حملت، تنتفخ، ويبدأ لونها الأخضر كلون وجنات العذارى، يحمر ويندمل الجرح، ويستحيل إلى شق أسود تجمد الدم الأخضر على شفتيه، والذي نتج عن عملية التختين، في الوقت الذي تستحيل فيه الثمرة إلى فاكهة ناضجة، يقطفها القاطف، أو تسقط من تلقاء ذاتها، وحين يأكلها ويأكل معها البذور إنسان أو حيوان أو جمل؛ ينشر البذور في الآفاق ويتكاثر النوع، ومن جديد تعاد قصة الجميزة الشجرة.
كان أبي يقوم بعملية الختان كلها في يوم واحد، وبصبر نافد، فإذا ضايقته ورقة عريضة اقتلعها، وكان لا يهمه أن يكون السكين حاميا، أو حتى الجرح نافذا، حتى كان يخيل إلي أن الثمرات العذراوات تتألم. ولأنه يقوم بالعملية في يوم واحد، فلم يكن يهمه عمر الثمرة، أو إن كان قد آن أوان تختينها، طفلة أو كبيرة هو يشق استدارتها، وفي أي مكان يتراءى له، وينتهي من العملية، ويهبط من فوق فرعنا، وقد حفل وجهه بالعرق، ويلهث وكأنما كان يؤدي فريضة واجبة حمدا لله أن انتهى منها. عمي بالعكس، يجيء من البيت غاضبا لأمر أو لآخر، يشرب سيجارته حتى ينفث غضبه، ثم يخلع جلبابه، ويقف تحت فرعه، وشيئا فشيئا تبدأ ابتسامة ما، باهتة، لا تلبث أن تتعانق وتتسع، وعلى مهل يصعد الجذع المشترك، ثم يدلف إلى فرعه كالعريس يدلف إلى غرفة عروسه. يمتحن الفرع بأوراقه وأغصانه، وكأنما يطمئن على كل جزء منه، يلوي شفتيه ضيقا إذا لمح اصفرارا أو ذبولا، ويتهلل وجهه فرحا حين يلمح جنين غصن قد «بزبز»، ومن جيب «الصديري» يخرج مطواة قرن غزال سنها في اليوم السابق على حجر الطاحونة، ومهما ضربت الشمس يافوخي وأنا أتفرج فلا أتزحزح، وأنا أرى عمي الكشر صاحب المزاج المتغير دوما وقد حفل وجهه بسعادة نادرا ما أراها يحفل بها وجهه، بإصبعين يمسك الثمرة الخضراء، برقة يمتحنها حتى إذا أدرك أنها للختان حانت، في سرعة الساحر يمر بسيف مطواته على مكانها ختانها المضبوط، ثم يرنو إلى الجرح الباهر العميق الذي أحدثه في ومضة، ويتأمل أعماق الثمرة الشاحبة الاحمرار والاصفرار، وربما يتفكر لهنيهة في لونها حين يتأنث ويحمر ويتغير، وفي شكلها وحلاوتها حين تنضج، ويتركها لغيرها وكأنه يترك مائدة سعادة حافلة إلى مائدة حافلة ثانية قادمة.
ويظل أياما وأياما «يختن»، وكلما اعتلى الشجرة ثم هبط عنها، وارتكن بجذعه إلى جذعها، كنت من بعيد أرقب شفتيه، وهي بشيء كالأغنية تترنم، ومزهوا يمشي إلى الترعة، حيث يغسل يديه ومطواته، ويصعد مرة أخرى إلى المصلى المفروش بقش الأرز، لا ليصلي، وإنما لينام وملء وجهه تلك الابتسامة الغامضة التي لا أدري لها سببا. وأتساءل وأنا من بعيد أرقبه: أهذا هو عمنا «الهادي» الذي يرعبنا دائما حضوره وبتكشيرته يجعلنا، دون أن يأمر أو يكشر، عن لعبنا أو صراخنا نتوقف.
ولكن الغريب أن فرع عمنا مات من تلقاء نفسه، بينما فرعنا إلى الآن لا يزال حيا. صحيح لم يعد يثمر ما يؤكل، فلم يعد أبي يقوى على طلوع الجميزة، وأولاده أصبحوا موظفين في البندر، ولكني ما زلت أذكر كيف مات فرع العم. شيئا فشيئا بدأنا وقد كبرنا نلحظ أن كثيرا من أغصانه تذبل والأوراق العريضة في الأفرع الحية تضمر، ثم يموت الغصن، وقد ماتت أوراقه، ثم إذا بالفرع كله يئوب إلى جفاف رغم أن ابنه طالب الزراعة فعل المستحيل، ورجع إلى مراجع، وناقش الأساتذة، ولكن الفرع يظل سادرا في ضموره وجفافه رغم استماتة ابن عمي في علاجه، ذلك أنه كان يعتبره شيئا من رائحة أبيه، عمنا الهادي، ذلك الذي كان قد مات. مات في ذلك العام الذي بلغ فيه فرعه منتهى ازدهاره، وثمره، حتى لقد شبعنا جميعا من ثمره، وباع عمنا منه عشرة أقفاص، حلاوة الثمرة منها تسكر.
في نهاية ذلك العام بالضبط مات عمي، وحين جاء العام التالي وجاء الربيع لم يحدث ما كان دائما يحدث، فلا الأغصان ازدهرت كما تعودت أن تفعل، ولا ثقل فرع عمي المرحوم بالثمر، وإنما الذبول والجفاف وتوقف الحياة، وفي العام الثالث مات الفرع مع أن الجميز عمره طويل جدا، وبالكاد لا يموت شجره. والحق أن منظره وهو جاف هكذا ميتا قد تحنطت أوراقه التي كانت ذات يوم ملعلعة الخضرة، كان يصيبنا باللوعة، ويصيب أبانا بالتعصب، وهو - الذي لم يبك عمي كثيرا حين مات - كان حين يرى الفرع يتمتم لا حول ولا قوة إلا بالله، وتحمر عيناه، وتهدد دموعه بالانبثاق.
وكانت مناحة من أولاده ومنا يوم قرروا بيع الفرع خشبا، ووقفنا جميعا نرى المنشار الضخم الغليظ وهو يقطع الفرع بكل حمله من أغصان ميتة.
وبقي فرعنا لم يمت، ضامر الأوراق، ضامر الثمر، حتى بعناه لأولاد عمنا الذين احترفوا مهنة الزراعة.
وفوجئنا ذات صيف أن فرعنا الواهن شبه الميت ذاك قد دبت الحياة في أوراقه وفروعه وثماره، وزالت دهشتنا حين وجدنا ابن عمنا محمد الذي سمي على اسم أبي، ولكنه ورث خصال أبيه، وقد كادت أوراق الجميزة تحجبه عنا، ولكن عيني أبدا لم يفتهما أن تلاحظا أنه كان تماما مثل أبيه قد خلع جلبابه «وشمر» سرواله الطويل، وحفل وجهه بسعادة، وهو برقة يمسك الثمرة الخضراء، ويعرف من أين بالضبط يختنها. وفي لمحة البرق وسرعة الساحر يمر بسيف مطواته قرن الغزال على مكان ختانها المضبوط، ثم يرنو إلى الجرح الباهر العميق الذي أحدثه، ويتأمل أعضاء تأنيثها الداخلية الحافلة بعذرية وبشحوب كشحوب البنات.
أبدا لم يفتني منظره، وفرعنا يستجيب له ويخضر ويمتد، ويمتلئ بعد هذا بالثمر الأحمر الناضج.
شجرة الجميز.
الرجل والنملة
بعيون فاغرة، رحنا نراقب الباب وهو بالعصبية الشديدة يفتح، والكتلة البشرية تدفع من خلاله لا نتبينها إلا حين فقط تستقر في ركن الزنزانة الفارغ، حتى السباب المعتاد الذي كان لا بد يصاحب الفتح والإغلاق والتكويم، من فرط الدهشة لم نتبينه، إذ قد حل الصمت لا تجرؤ على قطعه مخافة أن يجد جديد، وأن يكون وراء البداية ما وراءها.
يتعانق الظلام في العادة بعد التمام، الخامسة تماما موعده، النزلاء صامتون لمقدمه، إذ المفروض أن يحل الصمت ليتمكن حراس الليل من التغيير مع حراس النهار، ويتمكن شاويش النهار من تسليم شاويش الليل، صمت يهيئ للصراخ أن يتعالى إذا حدث خطأ، وأفلت نزيل من الإحصاء وارتبك العدد. الباشاويش هو المخطئ، ولكن الشتائم تنهمر فوق رأس النزلاء وثمة جري، وصوت الكوالين الحديد يزأر وأبواب أخرى تنهد، حتى لتكاد تهد الحائط الحجري، وأخيرا، يجري الزئير النهائي لمفصلات باب العنبر الكبير، وتخفت الأصوات مع الأقدام مبتعدة، ويحل الصمت، ويستمر للتأكد أنهم جميعا ذهبوا، وأن النهار المتعب انتهى، ثم وكأنما فجأة، تنفجر من الصدور الزعقات والقهقهات والشتائم مكونة مولد المغربية المعتاد.
السكوت في العنبر طوال النهار أحد الأوامر الصارمة، الألسنة تتيبس في الأفواه لقلة ما تتحرك، الحناجر مخشوشنة من فرط السكوت، فقط حين تذهب قوة النهار، ويترك العنبر في حراسة ثلاثة حراس ليل عواجيز في الغالب، وقريبي الإحالة إلى المعاش، فقط حين يطمئن الجميع إلى ذهاب الجميع يفرج كل نزيل عن لسانه، ويبعث الحياة في شفتيه وفمه وصدره ويزعق ويشتم بكل ما يملك من قدرة وقوة، يصرخ ويشتم وينتقم من السكوت وأوامر الشلل، ويزاول الغريزة التي طال حبسها، غريزة أن يشتم، فمن فرط ما يتلقى النزيل من شتائم طوال النهار، وهو عنها ساكت، وبالأمر متسامح، تتكون له فعلا غريزة الشتم تنهال بها كل زنزانة على زنزانة، ويتبارى في مزاولتها الجميع.
في أحيان قليلة جدا يحدث أن فجأة يدور المفتاح في قفل الباب الكبير، ويفتح العنبر، وهنا وفي لمحة خاطفة واحدة يتسمر كل شيء في مكانه، ويحل أعمق وأغرب صمت، صمت الترقب الرهيب لما عساه يكون السبب في فتح الباب، وتتعدد الأسباب وتكثر، وذات مرة تجد السبب باب زنزانتك وهو لروعك يفتح، وكتلة بشرية ما تدلق ليعود الباب فيغلق، قبل أن تسأل أنت القادم أو يفتح هو من تلقاء نفسه فمه للكلام تنهمر مئات الأسئلة من قريب، ومن بعيد، ومن أقصى الدور الثالث نفسه تتساءل عن حكاية هذا الذي دخل، فلا تدخل بعد التمام إلا حكاية مهولة، لا بد في الحال أن تعرف، وهكذا إن لم تبادر وتجيب، حتى قبل أن تعرف أنت ما هي الإجابة، تنهمر عليك أنت الشتائم هذه المرة، وتؤرق عظام أمك وأبيك أحياء كانوا أم أمواتا. حياة رهيبة يتولى فيها أناس حبس أناس، وخنق أناس، وضرب أناس، وحشدهم وتكديسهم هكذا في علب محبوكة من الزنازين والحجرات. - ما بك يا عم ... خير ...
سمعت أنا وحمزة زميلي في الزنزانة، الذي تصادف أن اسمه يشبه اسم قائد السجن الحربي، حيث تتم كل ألوان التعذيب، تشابها كان يجعله وبالتالي يجعلني هدفا لتعليقات ووخزات تعذيب لا حد لها. - ما لك يا عم مالك؟
قالها حمزة هذه المرة بأمل أن يجيب القادم، ومكوما في الركن لا يتحرك كان لا يزال. الأسئلة تترى تخترق باب الزنزانة المصنوع من قضبان متوازية من حديد، لا إجابة، والنتيجة سيول من الشتائم تلعنني وتلعن حمزة، ما أغرب قدرة الإنسان على تعذيب نفسه وتعذيب الآخرين إذا وقع عليه عذاب لا يملك منعه، معذبون يعذبون معذبين. ما أبأسه من محبس داخل محبس، وعذاب في قلب عذاب.
لا رد ولا تحرك ولا يبدو عليه أنه سيرد، أيكون ما نسمعه منه ليس تنفسا عميقا إنما هو نشيج وبكاء، بكاء الصامتين بلا حول ولا قوة. وجدنا أنفسنا نقترب من الرجل نحيط به مشفقين، أيدينا تطبطب عليه، وتستخرج كنزنا الثمين، الشمعة الوحيدة التي نملكها وندخرها للحظات الحاجة القصوى، أشعلناها بضوئها الذي بدا باهرا، مددت يدي ورفعتها من الكتف إلى الرأس أعدله وأرى الوجه.
كدنا نموت أنا وحمزة رعبا، فكلانا طبيب، ونعرف ماذا تعنيه تلك الصفرة المتكاثرة المتشاحبة التي لونت الوجه، الحدقات الواسعة المفتوحة، وهي تمعن النظر في الفراغ وفي اللاشيء ما لم ننبهه، مات. انهلنا عليه بالأسئلة نستفسر إن كان قد ضرب وأي مكان من جسده يؤلمه أكثر. قسنا النبض وعددنا مرات التنفس، الصدمة فعلا واضحة، ولكن لا أثر لأي إصابة في الجسد، لا جرح، لا خدش، لا بطن منفوخ، لا شيء. تنفيذا للمعاهدة المعقودة مع الحارس الليلي ساومناه على كوب القهوة أصر على عشر سجائر ونحن لا نملك إلا علبة، وافقناه على مضض كثير. أخيرا أصبح في يد الرجل كوب قهوة معجز المذاق في تلك اللحظة، وسيجارة «وينجز» بأكملها، وعلى ضوء الشمعة دماء قليلة بدأت تسري في الوجه الخراب، وهمهمة تمتمة، تنهدات، الكل يختلط بالكل والكلمات بالأصوات والإشارات.
ورفض أن يفصح.
نلح عليه بكل ما نملك من طاقة إلحاح، والرفض البادي على هيئة صمت هو وحده الجواب. تشاورنا أنا وحمزة، نتركه؟ نخفف الوطء عنه؟ نترك كل شيء للصباح؟ ولكن حب الاستطلاع فينا لا يمكننا نحن أنفسنا مقاومته، والإلحاح، إلحاحنا وإلحاح بقية الحجرات والزنازين كلما زاد احتمى الرجل بصمته، وتداخلت رغبته في الإفضاء كما يتداخل حيوان القواقع إلى عمق القوقع كلما شعر بلمسة الإصبع.
تركناه، حتى كاد يغلبنا النوم، وكانت الألسنة المطالبة في الخارج قد سكنت. - هل سأموت؟
رفع الرأس فجأة بالسؤال، وكأنها إجابة متأخرة جدا عن قولنا له: نحن أطباء، لا تخف، فضفض حتى تستريح، ولا تخف، فنحن نريد مصلحتك، نحن أطباء. - هل سأموت؟
ودون أن نتفق، لم نجب، رحنا فقط ننظر إليه ولا نجيب.
لم نكن نريد إزعاجه، حتى لا يتمسك بموقفه.
فجأة وجدت حمزة ينفجر فيه غاضبا مؤنبا إياه على هذا الموقف الطفولي الذي لا معنى له بالمرة. معتقل سياسي، ألست كذلك؟ كان واضحا من ثيابه المدنية أنه ليس مسجونا. إذن لماذا هذا التشبث بالصمت؟ أخائف هو على نفسه، وماذا يمكن أن يحدث له أسوأ من هذا الذي حدث والذي جاءوا به إلى هنا بسببه وعلى تلك الحال القريبة من صدمة الموت؟!
فعلا ... يعني ح يكون جرى لك إيه؟
للحق تنفس وتنهد، وقال ببطء ونظراته تعود تنغمس في الفراغ: أوحش شيء على ظهر الأرض. وكدنا نبتسم في رثاء، ماذا يمكن أن يكون؟
وعاد يقول: أوحش شيء على ظهر الأرض، حدث لي ما لم يحدث لبشر.
ومرة أخرى استخففنا بكلامه وكدنا نقهقه، سبعة عشر شهرا ونحن في هذه الزنزانة معا. كان سجن مصر محطة يتوقف فيها القادمون من السجن الحربي في طريقهم لطرة وأبو زعبل والواحات، والقادمون من تلك الليمانات في طريقهم للمستشفى أو للإفراج أو لعذاب آخر في السجن الحربي. وارد وصادر وحركة دائبة جعلتنا نصادف كل ما يمكن أن يخطر على البال من تهم ومتهمين ومعتقلين وأسباب اعتقال، وتعذيب، ومعذبين. النفخ والضرب وكي نصف البطن الأسفل وكل شيء، ولم تبق وسيلة لم نعرفها أو بات لها ذكر. وكل متهم - مثل هذا القادم - يعتقد أنه الوحيد الذي حدث له هذا أو مارسوا معه ذاك.
ماذا يمكن أن يكون قد وقع له؟ - أوحش شيء على ظهر الأرض. - ماذا فعلوا؟ - نمت مع نملة. - وانفجرنا ضاحكين.
طبعا لا يبدو مختل العقل، وإن كان واضحا أنه في طريقه لاختلال عقله، وبوجه جاد صارم يحمل كل ما في هذا العالم من ندم يقولها: نام مع نملة.
وانفجرنا ضاحكين.
وإلى الصباح التالي ظللنا نضحك ونتذكر ملامحه، وهو ينطقها فتصاب معداتنا بالمغص من فرط ما ننثني ونضحك. وعلى رأي كليلة ودمنة قلنا له في الصباح التالي - وكان تقريبا لا يزال على نفس جلسته وقرفصته وانكماشه على نفسه - وكيف كان ذلك يا أستاذ؟
ولم يكن تبدو عليه سيماء المعتقلين السياسيين. معظمهم كانوا مثقفين، حليقي اللحية والشارب، خريجي أو طلبة جامعات. هذا كان له شارب، أصفر وغزير ومتهدل على شفته العليا يكاد يلامس السفلى. وجهه خشن لا بد من كثرة مزاولته عمله خارج المكاتب والمنازل، حيث الريح والتراب ولفح الشمس. في الحقيقة لم نفاجأ حين قال لنا إنه عمدة. حين تستخرجه من الحالة التي كان عليها، والسكينة التي آلت إليها ملامحه وقوامه، وتفرده، وتوقفه وتعيده سيرته الأولى، ويتبدى لك على حقيقته تجد أنه حقا مصدقا لا بد أنه كان واحدا من أولئك العمد من طراز: اخرس يا ولد. شهم، كريم، يذبح لضيف خروفا، ويسافر إلى آخر الدنيا تلبية لنداء مستغيث. عمدة ومعتقل سياسي. جديدة جدا هذه المرة، والنكتة أن يكون عمدة متهما بالعمل السياسي.
في الليلة التالية ساءت حاله وارتفعت درجة حرارته، وأصبح نبضه 140، وبدا وارم الوجه مختنق السحنة، وكأنما سينفجر بعد قليل، لم يكن هناك بد من أن يفضفض ذلك العمدة المعتقل عن نفسه، وإلا حدث له فعلا ذلك الذي وصفه بأنه أوحش ما في الدنيا ومات.
وتكلم.
متقطع الأنفاس.
أخرج من صديريه البلدي الداخلي علبة سجائر «كرافن» عشرين سيجارة كاملة، وعزم علينا، ولم نصدق أنفسنا، ونحن ننفث دخان الكرافن، وبكل ما نملك وما أصبح لنا من طول بال نصبر على كلماته التي تخرج بعد عناء، ولهاثه بين الكلمات.
تكلم.
بدأها من منتصفها، أو من حيث بدأ يهتم هو بها، لا نعرف. قال: هذا الوغد، يونس بحري، قتلني بالأمس، فعلا قتلني، سأموت، ولكن لن أموت قبل أن أغرس أسناني في زوره، وأقضم حنجرته.
جالسين وفي أمان الله، وبعد يوم شاق من تكسير البازلت، وحمله في المقاطف والسير به نصف كيلو، والصخر فوق أكتافنا والرمل في عيوننا وأفواهنا وأقدامنا العارية ينغرس فيها الشوك والزلط والمسامير، وجلسنا آخر النهار، قبل طابور العودة نستريح، وكانوا ثلاثة ضباط أحدهم هذا الخسيس يونس بحري. ناداني، منذ أن رآني ورأيته وأنا أشفق عليه وعلى نفسي أن يناديني. ناداني. تلكأت، ولكني قلت أقصر الشر وألبي نداءه. ذهبت. وقفت. تركني واقفا واشتبك في حديث فاتر مع زميله. قلت: أفندم. رمقني بنظرة، ثم عاد إلى حديثه الفاتر. اللهم طولك يا روح قلت، وعزمت أن أؤجل أي اشتباك، فجسمي مهدود، ولن أحتمل أي ضرب. والبداية واضح أنها ستنتهي بضرب. أقصر الشر يا ولد، واصبر.
هناك، بعد ربع ساعة أو أكثر. التفت ناحيتي، وقال: روح هات نملة من هناك. وأشار إلى كومة تراب قريبة.
صحا مخي من غفوة الوقوف وخيل إلي أني لم أسمع جيدا، سألته: أجيب ماذا؟ هب في صائحا: نملة، ألا تعرف النمل يا بن ال...؟
سكت.
هب مرة أخرى: تعرف النملة والا لأ؟
قلت بتسليم: أعرفها.
قال وهو يلتفت إلى زميله: روح هات نملة.
طول الله روحي وذهبت إلى حيث أشار، وتفرست في كومة التراب مليا حتى وقعت عيني على نملة كبيرة نسميها في بلادنا حرامي الحلة. انقضضت عليها بقبضتي وعدت بها ووقفت أمامه، وقلت: أهه النملة يا أفندم. - وريني.
فتحت يدي رآها، قال: ولازم تجيبها بالشكل ده يا بن ال... عضضت على شفتي السفلى وسكت.
بنظرة من أسفل إلى أعلى رمقني وقال: دي إيه؟
وقلت ببراءة ما بعدها براءة: نملة يا بيه.
قال: ...
خيل إلي أني حقيقة لم أسمع، فقد كان الطلب الذي طلبه غريبا جدا وغير معقول بالمرة، سألته: أفندم؟
قال: اخلع هدومك.
أشار لحامل الكرباج وزميله حامل الشومة، رفعت يدي مسلما قائلا: حاضر يا بيه، أخلع هدومي.
ولكني ترددت، نظرت حولي بركن عين، طابورنا المنكود الحظ قابع كصفين من طابور ذباب أنهكه الكدح والزق والزجر. في دائرة واسعة رهيبة يلتف حوله سور من عساكر يحملون الأسلحة الأوتوماتيكية بكافة ألوانها وأنواعها، قريبا منه تناثرت فرقة الضرب تحمل الهراوات والكرابيج والنبابيت والأحزمة والقبضات الحديدية. أنا واقف وحدي ويونس بحري قابع على كرسيه أمامي، ولا مفر.
استنهضني بشخطة، ولما كنت كما قلت قد قررت أن أؤجل الاشتباك فقد مددت يدي الأخرى، وبدأت أخلع جلبابي، وخلعت الصديري، ولا أطيل، فقد وجدت نفسي بعد برهة خالعا كل ملابسي واقفا عاريا كما ولدتني أمي أمامه. - خلعت هدومك؟ - زي مانت شايف يا بيه؟ - طيب (...) النملة اللي في أيدك. خيل إلي أني حقيقة لم أسمع، وكيف أسمع، وما طلبه لا يمكن أن يمر إلا من عقل مجنون، حتى المجنون نفسه يخجل أن يطلبه. - نعم!
الكرباج مرفوع فوق رأسي والنبوت يتهيأ للانقضاض، ويونس بحري تجمدت نظراته النارية على هيئة الأمر الذي أمره، والدنيا، وسور العساكر، والطابور والبازلت والجبل والصخر والطريق، وكل شيء سكت وصمت وكأنه يستحثني أن ألبي.
انتفض الفلاح الخبيث الذي في يقلب الموقف الجاد الرهيب، وقلت فجأة: - بس دي ذكر يا بيه.
لم يضحك، ولا أحد من القريبين أو البعيدين ضحك، بكل صرامة قال: روح هات واحدة نتاية.
وكالذي نومه المنوم المغناطيسي استدرت وقصدت كومة التراب، وعسست بيدي. طبعا كان أول ما خطر لي أن أبحث عن نملة أنثى، ولكن كدت أضحك من نفسي؛ لأني انسقت وراء المشهد فعلا وأخذته جدا، وسألت نفسي: كيف أعثر على الأنثى؟ ما الفرق بين النملة الذكر والنملة الأنثى؟ بل هل توجد نملة أنثى ونملة ذكر؟ المقصود عدت إليه ووقفت أمامه، وفتحت قبضتي على نفس النملة، وقلت: ها هي نملة أنثى.
قال: يالله! - يالله ماذا؟ - تاني، اسمع.
وفوجئنا بجعجعة أوامر تفرقع، واقترب سور العساكر، حتى أطبق على طابور المعتقلين، واستقر أفراد فرقة الضرب، فانتصبت واقفة مشرعة أسلحتها الفاتكة الرهيبة، وهوى الكرباج من خلفي وسمعت صفيره، وهو يشرخ الهواء ليستقر كالسكين القاطع غائرا في جلدي، ولكن يونس بحري تلافاه في آخر لحظة، وأمسك باليد المهوية، وقال: بصوت مخيف صوبه إلى كل أذن تسمع: اسمع، أنا لا أريد ضربك؛ فأنا أعرف أنك من النوع الحميري الذي لن يؤثر فيه أي ضرب أو تعذيب، ولكني سأضرب تلامذة ابتدائي هؤلاء، وأشار.
والحراس يعرفون إلى من يشير. فقد كان بيننا خمسة صبيان صغار لا يتجاوز أيهم السادسة عشرة، معنا في الطابور، إذا ضربوا يصرخون، بل يصوصوون كالكتاكيت المذعورة، وتغور صرخاتهم في لحمنا الحي، بحيث أصبح أهون لأينا أن يقطع بالسواطير ضربا، ولا يسمع صرخة الواحد منهم.
جزعت والحق يقال، وسقط قلبي في قدمي مخافة أن ينفذ الوعد. يا عم يونس ما كنا قاعدين في أمان الله، ماذا دار في عقلك النجس ليقلب سلامنا هذا إلى لحظة الرعب هذه، حتى ليبدأ الجو يحفل برائحة الدم واللحم المفروم.
تطويل الروح لم يعد يجدي، ماذا تريد يا أيها القومندان؟ - يالله!
ولأنني ضامن أني سأكون على حق في تساؤلي رفعت صوتي مستغيثا، مستعيذا بالله من هذا الهول الذي لا أعرفه: إزاي بس يا بيه؟ أنا في عرضك، إزاي؟ - زي الناس. هكذا قالها. - زي الناس إزاي؟ - زي الناس يا بن ال... ويا بن ال... ويا بن ال... ماذا تفعل الناس؟ - ولكنها تفعلها مع الناس والإناث، وهذه نملة. - ولو، اعتبرها ناس، اعتبرنا إناث. - حاضر.
قافزا الفلاح الخبيث إلى نجدتي مرة أخرى قلت: حاضر يا بيه.
وعملت أني فعلا أزاول ما أمرني به، وأنا، زيادة في الاندماج، قد رسمت على وجهي ابتسامة سعادة، استيقظت منها على صوت نبوت يشرخ الهواء، ويشرخ ظهرا من ظهور «التلامذة» إلى جواري. التفت على الصرخة، أهة صاعدة من عظام الأقدام لكائن حي إنسان صغير يتألم. انفجر قلبي وتدفق منه الدم الغائر غصة ولوعة. - لا تمثل يا بن الكلب، اندمج، أتضحك علي، اندمج، أنت خالع الآن ملابسك وهذه أنثى، نملة مش نملة لا يهم. هذه أنثى، اندمج وسأراقب وجهك وملامحك، وأقسم برحمة أمي إن لم أرك تفعل ما قلته سأشرح تلاميذك وأنت وكلهم معهم، وأنت تعرف، وكلكم تعرفونني.
وكان واضحا من وجهه المسمر المحفر بالجديري القديم أنه لا يهزل، حاولت أن أجد فرجة احتمال أو عشر احتمال للتهاون فلم أجد. هذا إنسان مجنون، وقد تقمصته حساسية المجانين للحقيقة، ولن يصدق غيرها، ولن أستطيع أبدا خداعه، وعلي أن أفعلها. حاولت، ولكني في منتصف المسافة استدركت وطلبت منه العذر. وجمعت نفسي وبأقصى ما أستطيع من قدرة على أمر النفس أمرتها، أحسست أن شهبا كشهب الجنون تتراءى لعيني، ومن فرط الانضغاط بدأ العقل في مخي يطقطق. مجنون أمر، وأمر مجنون، ولا بد أن أستجيب، ومجنونا لا بد، لكي أستجيب، أن أصبح. أنا فعلا رجل ضخم، وهذه نملة، وبكل كياني علي أن أصغر نفسي، وأستحيل من إنسان إلى حشرة، إلى نملة، إلى ذكر نمل، تستثيرني أنثاي النملة.
وكلما فشلت، كلما توقفت، كلما غام وعيي بالمشهد وباستحالة التحول، وأحسست التهديد يحوم كغربان البين حول التلامذة الصغار وحول الطابور، أتصاغر وأتصاغر، ويكسوني العرق، وتطقطق عظامي وتتدشدش، ولا بد من أن تصبح كفي في حجم ساق النملة، وساق النملة لا يكاد يرى، ولا بد أن أهوي بوعي وبإرادتي على كفي وكتفي ولحمي وعظمي، ورأسي وبطني، وساقي وعنقي، وأدق وأصغر كي أستحيل ذكر نملة، أفرز هرموناته، وأجعلها بالقوة القاهرة تستجيب لهرمونات أنثاي القابعة، مستسلمة في يدي، هكذا رأيتها بألف عين دقيقة لي تكونت، قد استجابت، وكفت عن الحركة، ووقفت واضطجعت.
لو كانوا عذبوني وقطعت الجبل كله، لو ربطوني لذيل حصان جرى بي القطر كله من أقصاه إلى أقصاه، لو ربطوني في عروسة جلد وجلدوني ألف جلدة، لو فعلوا ما هو أكثر وأكثر لما أحسست بربع معشار ما مر علي. ولم أعد أستطيع الكف، وجسدي يمضي يتصاغر ليصبح نملة، ويستمر نملة، ويعيش ويحب ويزاول الحب مع نملة. وعند لحظة النهاية فقدت الوعي.
قالوا لي إنهم حملوني حملا إلى الليمان، وإنهم خافوا من صراخي أثناء الليل، واستجار الزملاء من عضي، وتمزيقي لملابسهم وملابسي، وحملوني إلى مستشفى سجن مصر، ومن هناك إلى هنا. وهمس لي التومرجي الأسمر العجوز، وأنا في طريقي إليكم أنهم يفكرون في الإفراج الصحي عنه. ولو، ما الفائدة؟ وقد نمت مع النملة واعترفت، وكان الذي كان.
ولأنه لا أبشع من السجن والمنتظرين المحاكمة من كلمة اعتراف، فقد وقفنا على أطراف تحفزنا أنا وحمزة، ونحن نسأله: بماذا اعترف؟ ولماذا اعترف؟
قال وهو يشيح بيده: وأنا وسط العذاب، في منتصف الساعة بين كوني نملة وكوني ذكر نملة انكسرت إرادتي ولم أحتمل، وقلت كل ما عندي بأمل أن يتوقف أمر يونس بحري، وأن يكف العذاب، ورغم الاعتراف لم يوقف المجرم الأمر، وحتى لو كان أوقفه فأنا نفسي كنت غير قادر لحظتها أن أوقف عذاب التحول، إرادة أن أكون بشرا أفلتت وصارت لي إرادة نملة لا تقوى أبدا على الكتمان. •••
ورغم إعادته إلى المستشفى فقد سمعنا أن حرارته ظلت 41 طوال الليل، ورغم جسده المتين الضخم، في الصباح التالي مات.
أبو الرجال
1
نصف نائم، نصف مستيقظ، تأمل جلده. أدرك، كأنما فجأة، أنه لم ير عن عمد جلده مذ كان في أوائل مراهقته، ومذ كان الشعر، شعره نصف أصفر، نصف أسود، متناثرا، خفيفا، يكسو نعومة جلده. يذكر أنه فرح، وكان باستمرار يفرح كلما أمعن النظر إلى الجلد ووجد الشعر النابت يزدحم ويتكاثر ويغمق، حتى أصبح كله أسود.
فتح عينيه تماما، فقد أدرك وكأنما كان ينظر إلى جلد إنسان آخر.
أدرك أنه بالقطع ليس جلده، أو إن كان؛ فإن شيئا حدث له.
كان الشعر خفيفا وكأن شعر ذراعيه وصدره قد بدأ يصاب بالصلع.
وكشف عن ساقيه وبطنه. خفيف جدا كان الشعر، لكأنه عاد إلى سن الرابعة عشرة.
سكت تماما عن التفكير والتأمل، وإن كانت ذاكرته لم تسكت. بوابل من نخزات صغيرة بدأت تنهال عليه، وينحيها، وتنهال. قام إلى المرآة، حدق مليا في وجهه. اللحية كما هي، أو تبدو كما هي، فتلك النخزات تبدو يقينية.
أغمض عينيه كما يرغم نصف النائم نفسه إذا أحس أنه في كابوس ليختفي الكابوس أو يرحل. رغما عنه فتح العينين، وفي مزيج من الحيرة والضباب، ضباب أملس ينزلق ويتوالى والأشياء تمتزج وتتباعد وتقترب؛ لتصبح واضحة تماما. صورة الرجل يراها واضحة تماما، إذ تلك هي صورته التي يعرف نفسه عليها تنزلق، يمر فوقها الضباب كأنه السحاب يخفي وجه القمر، ولا يبقى سوى ضوء لمجرى لا يستطيع به أن يميز شيئا. نعومة، أجل، نعومة أنثوية مرعبة كأنها نعومة حية رقطاء تبتسم قبل أن تطبق فاها في عضة سم كعضة الموت. شيء داخله يرتخي وينفتح، يأمره أن ينقبض، وباستخفاف يعصي وينفتح، ومعها يحس أنه يهوي في بئر أو من فوق جبل. يشهق طاردا كل شيء كالغريق يدفع الماء برأسه ليلتقط النفس ورغما عنه يعود يهوي، ولكنه لا يختنق، ولا يحس أنه سيموت، ولا أن شيئا محددا واضحا سيحدث. كل ما يحدث أملس. كل ما يتشبث به ينزلق، الضباب ونور الفجر الشاحب والإحساس بالانزلاق واللايقين.
ماذا يحدث لي؟ بالضبط ماذا حدث لي؟ وكيف حدث؟ ومتى حدث؟ ولماذا يحدث ما يحدث؟ في الخمسين أنا، أنا رجل في الخمسين، بالضبط واحد وخمسون وثلاثة شهور. عندي أولاد؟ عنده أولاد أجل. وزوجة؟ يسائل نفسه، ويتحدث عنها وكأنها إنسان آخر، فمن فرط ما أصبح فيه من شك قرر أن ينظر إلى نفسه، وكأنه إنسان آخر. رجل آخر، نعم هو رجل، أو ... أو ... أو ماذا؟ إنه ليس رجلا فقط، إنه أبو رجال أيضا. إنك يا سلطان زعيم، زعيم عصابة، ولكنها عصابة من العصاة المتمردين قتالي القتلة وسفاكي دماء وأولاد ليل، تنظر إلى الواحد فيهم فتحس أنه أمام عينيك، يتلاشى الرجل فيه والإنسان، ويتحول إلى أرنب يبول على نفسه. بنفسك رأيت البلل مرة يغرق ثياب أبو شنب.
اكتشف، وكأنما فجأة أيضا، أنه لا يزال بملابسه الداخلية، تجول بعينيه في أنحاء جسده، اشمأز لنتوءات تكونت لا يعرف متى. استنكر جسده شبه العاري، أحس به غريبا عنه، لا يمت إليه، تحسس شاربه. أدرك أنه حلقه، وأنه يتحسسه بحكم العادة، لا وجود للشنب، ازدادت غربة جسده عنه، وغربته عن جسده.
قام، بثورة قام، أو كأنما يقوم ليصنع ثورة. لا، لن يرتدي البدلة، سيرتدي جلبابه البلدي الصوفي الخشن ذلك الذي يحلو له ارتداؤه حين يركب الكارتة المفتوحة، ويسوقها بنفسه، ويعبر بها شوارع البندر، حيث يتأكد أن العيون الناعسة من خلف النوافذ، وأحيانا من الشرفات، تراقبه، وتشهق لرجولته، وجلبابه، وكارتته، وتاريخه المرعب المجيد، وغناه، وسمعته.
أرجل رجل في المحافظة، بل في مصر. في الدنيا كلها يا ولد، رجل وأب لرجال، ولد ولا كل الأولاد، وسعيدة محسودة تلك التي يضمها بذراعيه زوجة كانت أو عشيقة.
جلبابه ارتداه، امتدت يده وهو لا يزال ينظر إلى مرآة الحمام يتناول زجاجة الكولونيا. عدل، ابتسم في شبه ثقة، ركن شفته العليا فعلا ارتجف، وكأنما الابتسامة تخونه. - يا ولد.
زعق.
تلك الزعقة التي كانت دائما ترج البيت، وترج القلوب، حتى قلوب أولاده الكبار. زعقة لا يوجهها لأحد بالذات، وإنما يوجهها للولد، أي ولد، للرجل، أي رجل، للمطلق من الرجال، ما عداه.
لم يظهر للتو أحد، لا ولد ولا رجل، زعق بصوت أعلى انتهى فجأة، وكأنما توقفت الآلة التي تصدره أو انكسرت. الأصح أنها أسكتت، هو أسكتها فقد جاءه الصوت مشروخا، بالضبط مسلوخا، رفيعا. ليس صوته، وقد يكون صادرا عن حنجرته التي بدا في المرآة وكأن بروزها انكمش، ولكنها ليست حنجرته، فالصوت ليس صوته. صوت يسمعه لأول مرة، غريبا عليه غرابة جسده.
ودق قلبه دقة زائدة.
تلك الدقة التي كانت لا تحدث له إلا لحظة القتل، لحظة إطلاق النار.
ظهر الولد. سبه دون أن يعرف من يكون، وبكل ما يملك من نفس صرخ: نادي «الثور» يا حمار.
2
جلس على المقعد في الفراندة. المقعد المخصص دائما لجلوسه، حتى لو غاب عاما. جلس ينتظر «الثور»، ينتظر وهو يتلمظ غيظا، لماذا؟ لم يكن يدري. لماذا اختار «الثور» ليراه في تلك اللحظة؟ أيضا لم يكن يدري. الثور، الثور، لماذا «الثور»؟ ألتلك الأقاويل التي كانت تتناثر عنه وعن مغامراته؟ ألأنه يعرف عنه أن النساء يسقطن من تلقاء أنفسهن لدى انفراده بإحداهن؟ ألانه أصغر سنا وأكثر حمقا وفعلا أنضر شبابا بكثير؟ ولكنه كما يسميه، ثور، مثله مثل «الديب» و«أبو فصادة» و«غراب البين» و«الجحش» و«التنبل»، واحد منهم، أقصى ما يمن به عليه أن يعطيه لقبا، وأقصى ما يعاقب به أحدهم أن يناديه باسمه الحقيقي، فهو يظل يرجو ويلح ويكاد يبكي، أحيانا يبكي مر البكاء طالبا منه أن يمن عليه بلقب. وحين يضيق به وبإلحاحه يقول له: طيب، امش يا خروف، أو ... شي يا حمار، وينقض «الخروف» أو «الحمار» على يده يقبلها وفي عينيه دموع الامتنان، ويغادر المجلس سعيدا ضاحكا لا تسعه الدنيا.
جاء «الثور»، سمع صوته يسأل خافتا عنه، وجه بصره بكليته إلى باب الفراندة ليرصد دخوله. في فتحة الباب ظهر «الثور» مهمل الثياب كعادته. كان دائما يحسده على قدرته أن يهمل ثيابه وشعره، ومع هذا يظل على جاذبيته القصوى ووسامته. هم أن يبتسم له، ولكنه عدل، وأظلمت ملامحه. كان يرتدي القميص والبنطلون، بنطلونه الضيق الأثير لديه، لا بد جاء على عجل فهم دائما يرتدون بدلهم الكاملة ليلقوه. حيا ووقف حائرا، رمقه من أعلاه إلى أسفله، بدأ وجه «الثور» يصفر، وملامحه تنبئ عن مراجعة مكهربة لكل ما فعله مذ آخر مرة رآه فيها، وعن احتمالات خطئه أو جريمته التي ربما يكون قد اقترفها. وفر عليه المراجعة، وأشار له أن يجلس، وعلى كرسي بعيد جلس، وقد بدأ يسترد أنفاسه، ولكنه كان لا يزال ينتظر، وكأنه ينتظر البراءة أو حكم الإعدام. رآه يتململ من طول انتظاره، أسعده هذا التململ ونظراته تنصب عليه متفحصة ثاقبة، ضبط نفسه يتوقف أكثر من اللازم عند ملامحه الفتية الشابة. تلوت نفسه وكأنما أصابته غصة أو اندك خنجر في فم معدته. كلما استرق البصر إليه وأحس بمغناطيس قوي يشد عينيه إليه، وأشياء في داخله تنهار وتتكسر والضباب يغطي على وعيه، ومن بين طيات الضباب ترتسم رؤى مفزعة، عريان جسده تماما، وأملس، كتلة لحم بلا إرادة تنتظر أمرا خشنا، يصنع إرادتها.
3
فجأة أحس بتمرد داخلي يتجمع بسرعة كما تتخلق بوادر الإعصار المهول في لحظات، فثمة لين جوفي هائل كان يعوي داخله كلما وقع نظره على «الثور»، وحتى وهو يشيح بنظره عنه، رؤى غريبة يحس معها أنه لا ينظر إليه نظرة رجل لرجل، وأن في داخله تتلظى أحلام يقظة تدور حول موقف ما، مكان مظلم مهجور، تلامس يحدث، تحسس محموم ترتجف به يداه ويرتعش له جسده كله، وهو ينقض على الشاب، ويعتصر عضلات ذراعيه النافرة وانتفاخة عضلات ساقه، والرغبة فيه تتعاظم، وتقوي داخله رغبات تتكشف بجرأة وبجنون عن نداء مولول قد تحولت إليه ذكورته، ولا يعود يقاوم، بل تتحول بقايا المقاومة إلى إعصار نداء أن افعلها، ومجنونة تصرخ كل خلية فيه رافضة متمردة في إعصار استنكار يكاد معه يتحول إلى قاتل، يقتل ما راوده من أحاسيس، ويقتل «الثور»، يقبض بأصابعه الغليظة على عنقه، ولا يتركه إلا جثة، أو خرقة جثة، ماتت، أخمد أنفاسها، وحبذا لو استطاع أن يفعل الشيء نفسه بعنقه هو ويقتل الحلم والرغبة والنداء المجنون الذي يفرض نفسه عليه بقوى، وكأنما بفعل قوى كونية، لا سبيل إلى عصيانها أو مقاومتها.
ويهم بأن يهدر صوته، عاليا مهيبا هصورا طالبا من «الثور» أن يذهب عنه، بل حبذا لو جعل الطرد يأخذ شكل الضرب والركل والشلاليت.
ولكن لا شيء يصدر عنه، حتى ولا صوت، وكأنما تتعادل القوة الطاردة مع القوة الجاذبة، ويؤجل قرار طرده، وفي نفس الوقت يكبح جماح عودة دمدمة الرغبات الملعونة تستيقظ في جسده وخياله وتجعله يعود يحلم، بالظلمة، والفحيح، والمفاجأة، والضمة المحمومة الراغبة.
ويدرك الجالسون حوله أنه غاص في فكر خاص لم يعد يشعر معه بأي شيء حوله، ويبدءون يتسللون من «الفراندة» واحدا وراء الآخر حريصين تماما ألا يخدشوا قداسة استغراقه. كلهم يذهبون ما عدا «الثور»؛ إذ رغم أنه أحس بمثل ما أحسوا به، إلا أن هاتفا غامضا موسوسا كأنه صوت الشيطان أهاب ويهيب به أن يظل هناك، وأن موجات من «عمه» «سلطان»، وإشعاعات وترددات، تأتيه وترجو منه أن يبقى، أجل ترجو منه، هو الذي لا يرجو من أحد شيئا، وإنما دائما يأمر حتى لو أراد الرجاء.
4
ماذا يفعل بالله؟
أهو قد جن؟
أم في طريقه الأكيد للجنون؟
أيذهب إلى طبيب من هؤلاء الذين أصبحوا المودة في هذه الأيام، الذين يزعمون القدرة على تحليل النفس، وسبر الرغبات، وحتى تفسير الأحلام؟
ولكن ماذا يدريه أن ما يحدث له مرض، أو أنه حقيقة تحدث له، وأي عار يجلبه على نفسه إذا هو ذهب حتى إلى طبيب في العاصمة الكبيرة لا يعرف أصله ولا فصله، لا يعرف من يكون ومدى عزوته، فحتى الطبيب مهما كان غريبا وجاهلا بصولجانه وهيلمانه، فإنه من رابع المستحيلات أن ينطق أو يشكو، وبلسانه يعترف أن بوادر رغبات غريبة تأخذ شكل النوبات، التي كانت متباعدة أول الأمر، ثم تقاربت وكثرت، حتى أصبحت حياته وأفكاره لا تكاد تدور حول شيء آخر سواها.
أبدا لا يستطيع، ولو شنقوه، أن - بإرادته - يقدم على عمل كهذا، فليفعلها إذن، ويكون هو طبيب نفسه، فهو وحده الأعلم بحاله، ولن يجد مخلوقا في هذا العالم كله يستطيع أن يكشف أمامه كل مكنونات نفسه، ويعاصر معه ويرى بعينيه كل ما انطبع في عقله مذ بدأ يعي بأنه ابن فلان وأمه فلانة، واسمه سلطان، وفقرهم مدقع، وعائلته وإن كانت شديدة الكبرياء بالذات أبوه، ذلك الذي كانت القرية تمتلئ مجالسها إذا جاءت سيرته بالسخرية منه، ومن فقره «الدكر» وأنفه الذي يرنو دائما إلى السماء. كان يرى أباه ينتحي ركنا من فسحة بيتهم، ويخرج من جيبه عشرات من أعقاب السجائر التي التقطها خلسة بخيزرانته التي ركب لها في نهايتها مسمارا رفيعا، بحيث يستطيع وهو في قمة تفاخره بعم أو جد أو قريب، أن يغافل محدثه إذا التقطت عينه عقب سيجارة، وفي انفعالة محسوبة، يرفع خيزرانته وكأنما يدق بها على الأرض مؤكدا أو مقسما، ثم ينزلها بالضبط فوق «العقب» لتندك فيه، وتظل لاصقة به حتى يخلو المكان أو تنصرف عنه العيون، وحينذاك وبخفة يد ماهرة ينتزعها ويضيفها إلى مثيلاتها في جيبه. ومن محصول اليوم يملأ صندوقا معدنيا قديما ورثه عن أبيه الذي كان يملؤه «بالمضغة»، وكانت «مضغته» وما يضفيه لها من محوجات مشهورة في بلدتهم شهرة «غليون» البك ابن العمدة المتعلم في بلاد بره، الجالس إذا جاء زائرا للقرية بين كل حين وحين في دوار أبيه، يحشو غليونه بالتبغ، ويشعله من ولاعة خاصة كانت مثار عجب أهل القرية، إذ كانت شعلة نارها تنطلق أفقية من جانبها، وليست مثل غيرها من الولاعات. أبوه ذلك السامق في قوامه، النحيل الكثيف الشارب، والذي كان لا يمتلك للخروج إلا جلبابا واحدا، هكذا يعرف الجميع، ولكنه دائما وأبدا أبيض نظيفا ناصعا تجيد أمه غسله بالزهرة يوما بعد يوم، وتنشره ليجف في المساء، ويرتديه في الصباح، حتى ليبدو وكأنه يمتلك عشرات الجلاليب الجديدة الناصعة البياض.
فقر وكبرياء، من جيش المدقعين الذين لا يمت أحدهم بصلة إلى عين من الأعيان، أو عائلة من كبار العوائل، أمثاله قابلون لحياة الجدب تلك، لا يهمهم تهرؤ ثوب أو دفاع عن كبرياء، يقبلون حتى أن توزع عليهم الزكاة في الأعياد، ويلهجون بالدعاء والثناء إذا وزعت عليهم لحوم في مناسبة أو «موسم» أو احتفال ... «أبو سلطان» منهم هذا صحيح، بل ربما أشد فقرا من بعضهم، ولكنه نسيج وحده في اعتزازه بنفسه، يمشي إذا مشى وكأنه العمدة، وإذا تحدث فعل وكأن كلامه فقط هو الحكمة. يوما واحدا كل أسبوع، يوم السوق، حيث يودعه أصحاب الحمير القادمون من القرى المجاورة حميرهم ليضمها الفضاء الصغير المجاور لسور السوق، فضاء يستأجره «أبو سلطان» من صاحب الأرض المجاورة، وكأنه «جاراج» الركوبات، لا ينتهي اليوم إلا وقد امتلأ جيبه بقروش، وأحيانا بملاليم، تبدو كثيرة العدد والحجم، ولكنها في الحقيقة لا تكفي لقوته وقوت امرأته وعياله طوال أسبوع. سلطان أكبرهم، وثلاثة أولاد أخر، وأربع بنات، وأم شارفت الستين، وتدهش، ويدهش الناس، كيف بمثل ذلك الدخل يعيش كل هؤلاء البشر، وتمتلئ كل تلك الأفواه؟!
وسلطان ذكي باهر الذكاء، في المدرسة الإلزامية نابغة، ومع الأولاد أكثرهم شقاوة وأقواهم شخصية، ودائما هو القائد والمستشار الأعلى لعصابة كبيرة تتبعه، وتأتمر بأمره، مع أن بعضهم أكبر منه سنا، وبالطبع أكثر من عائلته غنى ونفوذا، بل الحقيقة المجردة كان أفقرهم، وأبأسهم ثيابا، فقد كان يظل يرتدي الجلبات حتى لا يتغير لونه فقط أو يذهب تماما، بل حتى يقصر عليه وخلال عامين هما عمر الجلباب يكون قد ضاق وقصر، حتى لا يكاد يصل إلى ركبتيه. وكم عير بفقر أبيه «الدكر»، وكم اشتبك وتخانق وجرح وضرب ممن هم أكبر إذا تطاول أحد على حالهم أو على أبيه بالذات وعلى وجه التحديد حين يقولون عنه: عريان المؤخرة ويحب الفشخرة.
وفي مداعبات الصبية، أو على وجه التحديد تلك الفترة من العمر التي لا بد يبدأ الصبية يلامسون بعضهم بعضا، ويستجيب بعضهم بلذة أن يكون السالب، والآخرون بلذة الموجب، أو بالاثنين معا، كان سلطان شديد الحساسية أنه لا يرضخ، بل حتى من فرط حساسيته ورغبته في رجولة سريعة مبكرة كان لا يسمح أبدا لأحد أن يلامسه، وبالتالي يرفض تماما أن يلامس هو أحدا. رجل صغير، ورث كبرياء أبيه، أو قل ماض قدما في تقليد أبيه وتشبهه به، ذلك الأب الذي كان يعتبره أكثر الرجال رجولة وأعظمهم مقاما، بل لم يحس أبدا، ولم يراوده مطلقا خاطر أن أباه رجل فقير، ففي مثل عمره لا يوجد فقراء وأغنياء، إنما فقط يوجد رجال رجال، ورجال أنصاف رجال، أو لا رجال بالمرة، والفارق الوحيد بين الناس هو ذلك الفارق بين الرجال الرجال والرجال أشباه الرجال.
من أين يجيئه إذن هذا الذي بدأ يزحف على نفسه زحف السحاب الأسود الذي يهدد بإحالة النهار ليلا، وينذر بغياب الشمس واقتراب يوم القيامة؟
طول عمره هكذا، زعيم وشهم وشجاع وجدع، وبجوار الإلزامية والابتدائية كان يعمل شهور الصيف كلها، ومعظم شهور الشتاء كي لا يوفر نفقات تعليمه فقط، وإنما أيضا ليساهم مع أبيه في ملء الأفواه الكثيرة المفتوحة جوعا طول الوقت، والتي عمرها ما امتلأت شبعا. وهو في تعليمه وفي علمه كانت تؤجج روحه فكرة وحيدة لم تتزعزع أبدا، أن يرد الاعتبار لفقر أبيه وعائلته وتواضع نشأته وأصله. كان جلباب أبيه الناصع النظيف مجرد ستار يخفي حقيقة شديدة المرارة، إذ لم يكن بداخل هذا الجلباب الستار شيء ذو قيمة، وكان على «سلطان» أن يملأ هذا الفراغ المخيف الذي يخفيه الجلباب، أن يجعل لكرامة أبيه وأنفه التي في السماء رصيدا يستحق معه فعلا أن يكون أنفه في السماء، وأن تتغطى مؤخرته العريانة، ليكون حرا أن يتفشخر إذا أراد فشخرة المغطاة مؤخراتهم بالحسب والنسب، والأفدنة والأموال والقيمة والامتلاء.
5
حتى أصبح «سلطان» زعيما فعلا.
قصة طويلة مليئة بإرادة الفلاح الرهيبة التي يحفر بها ترعا للنيل بإبرة، ويحمل بها صخور الجبل حتى يصنع بها هرما يكون أعجوبة الدنيا. الفلاح الذي يزحف إلى القاهرة حافي القدمين ماشيا على ساقيه الرفيعتين، صاعدا مع النهر، حتى يفرغ صبر النهر من فرط طوله، ويتشعب إلى فرعين أو حتى عدة فروع صانعا من نقطة التفرع عاصمة العالم القديم، ومولد النور تشعله البشرية لأول مرة لترى به العالم ويراها العالم، زاحفا حتى يصل إلى أم الدنيا، أو يصنع من نقطة التفرع أما للدنيا.
بالإرادة الدءوبة النحيلة البالغة الصلابة زحف «سلطان»، يجر وراءه عائلة مات عائلها، يجرها كما يشد المراكبي «اللبان»، جاذبا المركب بحبل طويل ليجرها عكس اتجاه الريح القادمة من الشمال. أجل شادا «اللبان»، لبانه، ولبان عائلته، بل لبان كل هؤلاء الفقراء ذوي الأنفة كانوا أو ذوي المسكنة، مستجيبا للمحرك الداخلي الذي لم يهدأ داخله أبدا، ولا لان، محرك أن يملأ جلباب أبيه، بحيث حتى لو خلع الجلباب لكشف عن مستور غنى عظيم مشرف.
قضى سنة الجامعة الأولى ومسكنه ومأواه وملاذه بيت، بالأصح عشة، تقع عند الطرف القصي لسور الجامعة، فيها اصطنع المسكن والمقام، فيها نام على حصير هو كل ما استطاعت عائلته أن تزوده به، عامل بناء في حي «بين السرايات» وما حوله في الجزء الأكبر من النهار، حامل قصعة أسمنت تقطم وحدها الظهر، ولكنه معها كان يحمل مسئولية أن يتعلم، وأن ينبغ، وأن ينجح بحيث يحظى بالاثنى عشر جنيها شهريا مكافأة النابغين، كان يحيا منها بستة ويرسل لأهله ستة، عليهم وبعائد إخوته الأصغر من أعمال أصغر أن يدبروا وجودهم بها.
ومع ذلك ينجح بتفوق، ويكون من أوائل الدفعة.
وليس هذا هو المهم.
فمن أول لحظة وضع قدمه في الجامعة، وبدأ يتفتح وعيه إلى أنه ليس وحده الذي يشد «اللبان»، وليس وحده الذي لا يمتلك أبوه غير جلبابه يرتديه على اللحم الحي، جلباب في العادة على عكس جلباب أبيه، فلا هو أبيض ناصع، ولا هو خال من «رقعة». مذ أدرك هذا وبنهم راح يقرأ ويسمع ويطيل القراءة والسمع، ويتفتح له الوعي، ولا يفعل تفتح وعيه إلا إدراكه بأن الأمر في حاجة إلى التغيير، وأن من ينادون بالتغيير أبناء مدن، وحتى لو كانوا أبناء فلاحين أو عمال، فإن فرن الإرادة المتوهج داخلهم وقدرتهم وطاقتهم على العمل لإحداث ذلك التغيير أقل بكثير مما يجب، وأنه يستطيع أن يفعل الأكثر، ويقدم الأكثر، ويحقق الأكثر.
وعضوا في الاتحاد صار، وأوتادا للثقة به أخذت تندق، وخيمة هيمنته تتسع، واسمه وجرائد حيطانه، وخطبه واعتقالاته تصبح حديث الكلية، ثم حديث الجامعة، بل وأيضا حديث المدينة، المدينة الجامعية التي حاولت إدارة الجامعة رشوته بإلحاقه بها، قبل الرشوة لعلمه أنها لن تلين قناته، وإنما بها ومن خلالها سيجد له قاعدة انطلاق أشمل وأعم.
6
أحس الثور أن «عمه» سلطان لا بد قد راح في سبات عميق، فأنفاسه منتظمة وعيناه مغلقتان، وسكوته طال وطال، حتى إنه لم يعد يتلقى موجات ترد إليه عبر المسافة الكائنة بين مجلس السلطان في كرسيه العظيم وبين مجلسه هو، على حافة المقعد العريان متحفزا لأي إشارة أو بادرة احتياج من الرجل الكبير.
وهنا بدأ يتململ في مجلسه على طرف الكرسي، تململا لا حركة تصدر عنه، ثم تململا حرك فيه قدميه، ثم بدا وكأن الأمر لم يعد خافيا، وأن عمه السلطان نام نومة السلطان، وبهدوء شديد وقف وقفة من يستعد للانسحاب، وحين تأكد أن حركته تلك مرت هي الأخرى دون أن يشعر بها السلطان، بدأ يزحف بقدمين خفيفتين، وكأنما مبطنتان بفروة فهد، خطوة، ثم الثانية، ثم تسمر في مكانه فقد صدرت عن سلطانه زجرة سؤال آمر: رايح فين؟
زجرة سؤال أعادته فورا إلى جلسة حافة المقعد، يكاد يتمسح كقط يود أن يؤكد ألفته وانضباطه وطاعته. - أنا ما نمتش.
تردد «الثور» يقول: أنا ظنيت ... - اقعد. - أنا تحت أمرك إن شاء الله للصبح.
يقعد؟ يقعد لماذا؟
سؤال دار في عقل كل منهما.
وإذا كان السؤال قد دار بقليل من الدهشة عند «الثور»، فالدهشة الأكبر كانت لدى «سلطان»، لماذا حقيقة يأمره أن يعود للجلوس، ويؤكد أنه مستيقظ، وأنه يريد استمرار وجوده مع أن الوقت قد تأخر، والجميع حتى داخل البيت الذي يجلسون في بلكونته نيام؟
كانت الرعشة قد عادت له من جديد، آمرة، مدلهمة، لا يملك لها دفعا، وأيضا لا يملك لها تحقيقا.
حائرا ومرتبكا ارتباك مبتدئين، خجلا من نفسه خجلا أبشع من خجله من أي غريب، يكاد يبكي غيظا مما هو فيه، ومن وضع كان من المحال أن يتصور حدوثه، ولا يملك حياله أي تصرف. حتى لو كان سيثور ثورة المجنون حينذاك، ثورة الرجل، أبو الرجال، الزعيم الذي يحاول فأر، وإن كان اسمه «الثور» أن يعتدي عليه، على رجولته. وعاد الصمت الذي كان يبدو وكأنه الحل الوحيد للإشكال، يفرض نفسه. وعاد «سلطان» لا ليستعرض حياته ليعثر على بداية الكارثة أو مبعثها، وإنما عاد يقلب ماضيه، قريبا وبعيدا ليعثر على سبب لهذا الذي حدث، بل ليتأكد أن شيئا فعلا قد حدث له، أو أن واقعة ما كانت هناك موجودة، ووجدت ولكنه نسيها وطمرتها الحياة الحافلة التي عاشها، بينما هي طول الوقت كالسوسة، كالسرطان الخبيث البطيء تعمل عملها حتى أوصلته إلى الآن، حيث لا يستطيع مطلقا أن يتصور أنه بكل جلالة قدره خاضع، أو يكاد يكون خاضعا لفكرة الرغبة العارمة الطاغية التي يستميت - دون فائدة - في مقاومتها، فكرة أن يستسلم أمام ذلك الشاب المرعوب خوفا منه ومن فحولته ومن هيلمانه، حتى لقد وفدت إليه فيما وفد أفكار أن «الثور» يتصور العكس، ويرتعش خوفا من أن يطلب منه عمه السلطان ما يطلبه الأقوى من الأضعف، فطلبات السلطان أوامر مقدسة، تنفيذها لا مهرب منه، ولا إمكان للهرب. أمر مقدس لو طلبه السلطان لكان عليه - ويا للكارثة - أن يخضع لنزوته حتى لو كلفه ذلك الخضوع رجولته وكبرياءه، وكل ما بناه لنفسه من شخصية وسمعة وصلت به حد الشهرة أنه وحده الثور الطلوق الذي يغار منه كل الرجال، وتحلم به كل محرومة أو غير محرومة من جنس النساء.
احتمالات، كل احتمال منها كارثة أبشع من الأخرى، حتى بدأ جسد «الثور» يرتعش فعلا، ارتعاشات حقيقية، يكاد معها يرتمي بجسده تحت أقدام السلطان، ويستجير به أن يرحمه، أو أن يفض الصمت المخيف المليء كالأحراش بالأفاعي والوحوش، ويقولها له صريحة، ويفعلها أو لا يفعلها، وينتهي الأمر، وينتهي الصمت، وينتهي ذلك الموقف الذي أصبح امتداده أشد عذابا من أي شيء آخر، أشد عذابا من أي إحساس بالمهانة، حتى لو تحققت المهانة.
7
من العشة عند طرف سور الجامعة، إلى المدينة الجامعية، إلى العمار، من المعير بأبيه عاري المؤخرة غاوي الفشخرة، إلى المشاد بأصله الفلاحي المتين، وعصاميته، وأبوته التي رفعت لمرتبة الأصالة والعراقة الشعبية والنموذج الأعلى لما يجب أن يكون عليه الزعيم، قادما من قلب الشعب لا بد يجيء، سليل أب كادح، إذ أصبح النبل والعراقة صفات من يكون سليل شجرة بؤس أبا عن جد.
من «قصعة» الأسمنت تقطم الظهر في النهار والمراجع ينقلها نقلا، وهي بآلاف الصفحات من كتب زملائه التي كان يستعيرها منهم، من القصعة قاطمة الظهر، والنقل عن المراجع مضيع البصر مخدر الأصابع مقوس الجسد بالآلام المبرحة التي تئن لها عظام الظهر.
من الصبي النكرة المصفر الوجه بالأنيميا ونقص الغذاء، إلى الحاصل على درجتين؛ واحدة في الاقتصاد، والأخرى في التاريخ، مفخرة الجامعة، ثم بقية الجامعات، مفخرة جيله، وكل ما تلاه من أجيال، بل مفخرة من مفاخر مصر ووثبتها التي نقلتها من مجرد دولة محتلة في عالم قبيح قديم إلى دولة قائدة تحرر وزعيمة شعوب ومفجرة انتفاضات وثورات، حتى أصبح سلطان سلطانا فعلا.
وكان أول زعيم شباب يقابله الرئيس الزعيم، ويصافحه، بل ويمنحه وساما وتصبح له حظوة، وجاه، وصاحب مدرسة واتجاه، حوله ومعه جيش صغير تابع من النوابغ والمعجبين وتابعي التابعين.
وهذا كله يحدث دون أن يشعر سلطان أن جلباب أبيه النظيف الخالي قد امتلأ برصيد حي من المضمون والجاه والنفوذ.
ولهذا كان ماضيا لا يزال كالمهر الأصيل لا يتعب ولا يكل، يجري بلهاث ثابت، لا من أجل هدف محدد وضعه لنفسه، ويريد الوصول إليه، فلم يكن من ذلك النوع من أصحاب الأهداف الخاصة التي يضعونها نصب أعينهم للوصول إليها وتحقيقها، ولكن مضيه كان لا يخضع لأي تفسير عقلي أو نفسي، إنما هو مضي، وكأنما من أجل المضي ذاته، فلا هو وضع نصب عينيه أن يكون زعيما أو محبوبا أو صاحب سلطة ونفوذ، لا المال كان هدفه، ولا الطموح السياسي كان محركه، بل ولا التاريخ أو مكانة في التاريخ يطمع فيها ويسعى لها. كان حقا وصدقا لا يعرف لماذا هو ماض هكذا؟ يحقق، وتنهال عليه الألقاب والصفات والثناء دون أن يسعى لها أو يقيم وزنا، إنما هي نتائج ثانوية لا تشغل باله مطلقا، وتأتي كنتيجة حتمية لدأبه وإصراره ومبادئه التي انغمس تماما في التبشير بها، والعمل من أجل تحقيقها وسيادتها. مجتمعه لا بد أن يكون عادلا لا يمتلئ بمظلومين لا ذنب لهم، مظلومون لا يمتلك الواحد منهم إلا جلبابا، بينما آخرون تمتلئ دواليبهم وحجراتهم بطوابير الملابس المعلقة فوق مشاجبها، وكأن غرف نومهم وملابسهم أجنحة بأكملها من أجنحة بنزايون أو صيدناوي أو الصالون الأخضر. أبوه عمره ما انتقل من مكان إلى مكان بواسطة قطار، أو وسيلة من وسائل المواصلات، إنما هو السير الكعابي المستمر مهما بعدت المسافة، الصدق، الحقيقة، النظافة، التضحية، الجهد من أجل الآخرين، وليس أبدا من أجل احتكار الثروة والتكويش على النفوذ. الزعيم سيد القوم لا بد يكون سيدا؛ لأنه خادمهم. وذو مكانة بينهم؛ لأنه أكثرهم عملا وجهدا من أجلهم، مبادئ بيضاء ناصعة كجلباب أبيه، كانت قبله مجرد ستار، مجرد رداء ليس في داخله أي مضمون، كان مضيه في الكفاح الدائب أن يملأ تلك الثياب الناصعات مضامين حقيقية، وأن يحول الستائر الخارجية الناصعة البياض لتخفي القذارة والقبح إلى ستائر تحوي وتحمي كل ثمين وغال من الحقائق والمضامين.
الرجل ليس بكثافة شاربه وشدة طغيانه، ولكن الرجل رجل؛ لأنه شهم وكريم وشجاع ومضح ومغيث للملهوف، وواقف بجوار المظلوم، مع الضعيف حتى يقوى، وضد القوي حتى يعدل ويعتدل، وتصبح قوته في خدمة العدل والحق. والمرأة امرأة لا بحسبها ودلالها وأنوثتها، وإنما بعملها الأعظم في أن تكون الأم الأعظم لبشرية أرقى، فالأمومة كالرجولة ليست صفة، ولكنها قيم، درجات عليا من السلوك البشري العاطفي والعقلي وحتى الجسدي، بها تفرد الإنسان وعلى هديها وصل إلى قمة في التطور جعلته أسمى حي في الوجود.
الأم.
وغير سلطان اليد التي كان يرتكز عليها، لا لأن التعب من الارتكازة الأولى قد جعله يغيرها، وإنما لأنه وكأنما فجأة قد وصل عند النقطة التي خيل إليه فيها أنه قد عثر على أول الخيط، على السبب والمتسبب، على أمه.
8
الفلاحة السمراء ذات «طابع الحسن» الغائر في منتصف ذقنها الموشوم وشمة الصعيدية البدوية، وكأنه ختم تختم به الفتاة علامة أنها العذراء الكاملة المنتمية إلى قبيلة ليس لها اسم محدد، ولكنها قبيلة النساء الساميات جمالا وشكلا في نفس الوقت، قبيلة المرأة جسدا مخلوقا ذلك الخلق الأنثوي الخاص المثير، ولكنها أيضا علامة أنها إنسانة فيها كل نبل المرأة الفلاحة أو الصعيدية وأنفتها، كل صلابتها عندما يجد الجد، ونعومتها تتحد مع خشونة الرجل لتكون ذلك المزاج المصري القح الذي ينتج أطفالا لهم قيم الرجال ومسئوليات الرجال بما فيها حتى الأخذ بالثأر، كل الفقراء بلا استثناء يكنون حبا للأم ليس كمثله حب آخر، وكل الأمهات الفقيرات يحببن أولادهن، صبيانا وبنات، حبا ليس التدليل والإفساد بكثرة التدليل هو منتهاه، ولكنه الحب المسوى على نار الحياة القاسية كالبتاو، لا يصنعه وينضجه الوقود الصناعي، ولا أفران المازوت، وإنما هو مسوى على حرارة شمس طبيعية، لافحة ولكنها غير صناعية، نفس القانون الذي ينضج الخبز هو القانون الذي ينضج العواطف، هي العلاقة الحارة الحميمة بين الأم والولد، حب صاف منقى؛ لأن هدفه الأعلى إنتاج رجل، وليس إظهار الحب تدليلا لطفل، حب الأم فيه واثقة من حب الابن لها، ولهذا فهي لا تستجدي حبه، أو لا تخاف من كرهه، تريده لنفسه رجلا ولا تريده لنفسها لعبة أو «عروسة» تهزها وتلهو بها.
هكذا يراها، بعين نضجه، الآن.
ولكن الطفل فيه رغم حبه الشديد لها كان يكره ما تصوره أنه قسوتها وخشونتها، بل وأحيانا عقابه ضربا مبرحا أو شكوى مرة لأبيه، أبوه أبدا لم يضربه أو يعاقبه مطلقا عقابا بدنيا، كانت كلمة: يا ولد، يقولها غير عالية أو شاخطة، ولكنها خارجة من عمق رجالي مرعب، كالسكين المسنونة تندب في قلب الجسد، في صمت. كلمة كان يخشاها ويرعبه مجيؤها أكثر من كل زعيق أمه وصراخها وضربها له «بالقنو» الذي تكنس به الدار، والذي ليس سوى سباطة البلح بعدما اقتطعت من النخلة، وذهب عنها بلحها وجفت وتغير لونها، وأصبحت أداة النظافة في البيت، وأيضا أداة التأديب غير المؤذي.
تدليل، لم تدلله.
خشونة مرضية كارهة أبدا لم يتعرض لها.
شك في رجولته المبكرة أو لفظة سباب تجرح تلك الرجولة، على عكس ما كانت تفعل أم عيد جارتهم التي كثيرا ما كان يسمع صوتها في عز الليالي ملعلعا يتهم ابنها بأنه عاد متأخرا؛ لأنه لا بد كان مع الأولاد في حقول الأذرة، وصراخ وكلمات كانت تجعل سلطان يغلي دمه هو بالغضب حنقا على تلك المرأة وإشفاقا على صديقه ابنها. بل حتى ذلك الابن، رغم كثرة ما وجهته له أمه من طعن في رجولته، رغم لونه الأبيض الفاتح، وشعره المائل للصفرة إذ كانت أمه من الدقهلية، لم ينشأ ولم يحدث أبدا أن تحققت نبوءة أمه من أنه سيصير كذا حين يكبر، مثله مثل «شاهين» الطحان. وشاهين الطحان هذا كان ظاهرة من الظواهر الكثيرة التي تختص بها بعض قرى الأرياف سواء في بحري أو في الصعيد. رجل بالمظهر والشكل له لحية وشارب، وإنما محلوقتان، ولكنه فيما عدا هذا أنثوي في كل شيء آخر، في طريقة كلامه، في مشيته، في التصاقه الدائم بالمجتمع النسائي في القرية، وحتى في عمله، فقد كان يتاجر في الزبدة والسمن والقشدة، ويغوي شباب القرية المراهق بما هو على استعداد لدفعه من نقود، وله سمسار من صعاليك الشباب كان هو الذي يجلبهم له مقابل عطاياه، معروف ومشهور ومحل استنكار كثير من المتزمتين وأهل الورع والتقوى، ولكنه عند الناس العاديين، بحكم طول المدة واشتهار خصاله، أصبح يؤخذ مأخذ الظواهر العادية التي لم تعد محل استنكار، وإنما أصبحت فقط محل سخرية البعض، ومثلا تضربه الأمهات لأولادهن إذا أحببن أن يخيفوهم من الميوعة أو إطالة الشعر أو «عوج الطاقية».
أبدا ما جرحت أمه رجولته، بالعكس كانت دائما محل افتخار به، كل ما يذكره هو ذلك اليوم المشهود الذي دخلت أمه «زريبة» البهائم ذات ظهر صيفي كان الكل فيه نعسان أو هاجعا هجوع القيلولة، هو فقط كان منفردا في الزريبة بحمارة عمه الذي جاء يزورهم من النجع المجاور. ولا يزال يذكر تصرف أمه الذي يعترف الآن أنه كان قمة في الحنكة، أو كأنها طبيبة أمراض نفسية، إذ حين فتحت باب الزريبة ووجدته على تلك الصورة، ورأت الذعر الخجول، وقد جحظ من كل ملامحه، وأسال فجأة غزير عرقه قالت وهي تستدير راجعة بأسرع مما دخلت قائلة له من خلف ظهرها: كيف تركب حمارة عمك من غير «بردعة» يا جحش؟
وهكذا أبرأته هي حتى أمام نفسه، حتى لا يحس مطلقا بأي حرج. أما حين ضبطته خلف كومة الحطب فوق السطوح مع الأرملة سعدية العمشة التي كانت تجلب لهم الماء. يومها انهالت عليه ضربا بالقنو، ولكنه أحس، وهذا هو ما استغرب له، أنه ليس ضرب غضب، بل يكاد يكون ضرب أداء واجب، بل إنه أحس أن في ثنايا شتائمها وتأنيبها نبرة تكاد تكون نبرة فخر بما رأت واكتشفت، كل ما في الأمر أن غضبها كان يبدو منصبا على اختياره للأرملة الكبيرة القبيحة، وليس لأي سبب آخر.
9
من بعيد بدأت تترى نوبات سعال الشيخ أبو المعاطي، يذيعها ميكروفون المسجد إيذانا بتسليك زوره استعدادا لتسابيح الفجر وأذانه. كانت الدنيا لا تزال حالكة الظلمة، وكان النوم قد بدأ يتسرب إلى «الثور» فقد بدأت رأسه تسقط فجأة، فيفيق مذعورا، ويعيد رفعها بسرعة، وكأنه ينفي عن نفسه تهمة أنه قصر في يقظته، وأن النوم غلبه في حضرة السلطان اليقظان. وكأنما كان أذان الفجر، بعد الليل الطويل المستعيد لشريط الحياة إيذانا باختلاط الماضي بالحاضر في ذهن سلطان وذاكرته، أحداث صغيرة تقفز فجأة إلى وعيه قفز براغيث ليالي الشتاء لا يملك الإمساك بها، وإذا أمسكها أفلتت، ثم نوبات مناطق شاسعة بأسرها ضاعت من الذاكرة، أو أضاعها هو بإرادته، فلم تتبع حياته آراءه ومبادئه بدقة كاملة أو انضباط، كثيرا ما كانت تحدث الهوة بين الفعل والمبدأ، بين ما يأمله وما يستطيعه، بين الدأب الجليل المستمر، ثم نفض اليد فجأة، وكأن لا فائدة، وكأن ما يحاول تحقيقه أضغاث أحلام أو أحلام أطفال. مثل ذلك اليوم.
أجل، أجل، ذلك اليوم.
ظهرا كان الوقت؟ منتصف الليل؟ أبدا لا يذكر، المؤكد أن كان هناك وقت، وكان هناك رجل، وكانت هناك استغاثة، طلب ملح، رجاء مليء بالعشم والاستغاثة. استغاثة يدرك صاحبها أنه لم يتوجه بها إلى الإنسان الخطأ، إذ إن شهامته مضرب الأمثال. أنا وقعت من السماء، وأنت تلقيتني. قرار، نعم نعم يذكر جيدا أن كان لا بد له من قرار يتخذه. لا شيء عنده أسهل أيامها من اتخاذ قراره، في ومضة وفي لا وقت يكون حسبها وحسمها. الكل ينتظر ومتأكد أن الكلمة ستخرج من فمه، كما تعودت أن تخرج، جريئة مليئة بعين الحكمة، والحكمة عنده لم تكن التصرف الوقور المتزن، وإنما أحيانا أكثر القرارات جنونا وخروجا عن المألوف إذا كان الأمر والواجب يتطلب ذلك.
مؤيدوه جاءوا، عشرات، مئات، كثيرون وكأنهم آلاف، كأن قدراتهم جميعا على الوصول إلى قرار قد أوقفت، أوقفوها أو توقفت، إذ يعرفون أن هذا ليس عملهم أو دورهم، ولكنه دوره الذي لا يستطيع سواه أن يقوم به بمثل ذلك الحزم والحسم وأصح الصحيح.
كان العدوان قد حدث، أمام الملأ، ثم وكأن من قاموا به مجانين، فقد كان الكل يعلم أن رده سيكون الصفعة في جبروت عنفوانها، والركلة والإهانة ترد عشرات أضعاف ما حدثت به.
كيف حدث ما حدث؟
كيف وجد الرجل فيه ينكمش، والخوف وإجراء الحسابات داخله يتكاثر، وطال سكوته أو طال تردده إلى أن بدأت الهمسات تترى، وسحابة شك كثيفة تحجب وجه الشمس ووجه القوم ووجهه، وبدلا من زعقته المشهورة: اضرب يا ولد، اضربي يا بنت، نحيلا خرج صوته وكأنه صوته حين كان صبيا لم يراهق أو يخشوشن صوته، كأنه صوت عيل، أو رجل آثر أن يكون قراره قرارا عياليا، وصوته ينطق به وكأنه صوت خنثى: أنا رأيي أننا نفوتها عليهم المرة دي ونرضخ، ونختار نحن بعد هذا وقت المواجهة ومكانها، مع أن الجميع وهو على رأسهم يعلم أن هذه، هذه الساعة من الظهيرة بالذات، وقد تذكرها الآن تماما، هي أنسب وقت، والاحتشاد للمواجهة لحظتها هو أقوى احتشاد، وأن معنى التأجيل ليس تفويت الفرصة، أو تأجيل المعركة، ولكنه على بلاطة الخوف والتراجع والهرب.
وساعة طويلة ظل يحدثهم عن أهمية الوقت المناسب والمكان المناسب، واحتمال الهزيمة المؤكدة إذا لم يتم هذا بدقة.
وانصرف بعضهم وهو لا يزال يتكلم، مع أن شيئا كهذا أبدا ما حدث، ولا أحد كان يتصور حدوثه، فالحديث تام الوضوح أنه تبرير في تبرير، وأنه في داخله خائف يرتعش، وأنه هذه المرة ليس بسلطان، وإنما هو إلى بهلوان السلطان ومضحكه أقرب.
حتى الأنداد وقفوا مذهولين يسمعون ما لم يخطر على قلب أيهم أو أحد، فقد كانت هجمتهم هجمة يائسين ظهورهم إلى الحائط، وموتا بموت فعلوها وهم مدركون تماما أن الهزيمة المنكرة هي ما ينتظرهم، هزيمة وهم يتصورونها، ويرونها واقعا وحقيقة، لم تكن بمرارة أية هزيمة أخرى تجاه أي خصم آخر، فالهزيمة أمام سلطان ليست ذلك العيب المخزي الذي يتحدث به الناس ليالي وأياما، إنما تكاد تكون نوعا من الشرف، يكفي المهزوم فخرا أن الذي هزمه هو سلطان، وأن جرأته وصلت حد أن يقف أمامه ندا، فلو هزم - ومن المعروف أنه بالتأكيد مهزوم - فيكفيه فخرا أن هازمه هو من لا يجرؤ أحد على منازلته.
زعيم صار، صاحب الرأي والكلمة المسموعة والقرار. حين جاء وقت الجد والقرار يتحداه في عقر داره وعقر مذهبه تحول إلى صعلوك من البشر، فولى الأدبار، وإن حاول أن يبدو قراره قرار حكمة وروية، وهرولته الداخلية يفعلها بتؤدة ووقار الملك يستعرض في خطو الأباطرة العظام حرس الشرف، ولو كان قد أطلق العنان لما كان يحسه حقيقة ويود حقيقة فعله، لوضع ثوبه في أسنانه، وانطلق يجري جري الأرنب المذعور. كيف يتمطى الجبل ويلد في النهاية فأرا؟ أم أن الفأر فيه كان هناك طوال الوقت؟ إنما كان ينفش نفسه ويضخم صوته، وغلظة جسده وحديثه ليخفي نفسه وحقيقته.
أيام وليال وبضع سنين ظل يحلل ويفتش خبايا نفسه، وبخبث يستدرج محدثيه وندماءه ليعرف لماذا في رأيهم فعل ما فعل، لماذا خاف وارتعش وولى الأدبار، وفي معظم الأحيان كان يسكت بكل ما يملك من قوة الرغبة في السؤال والإجابة عن التساؤل إذ يكاد يواجه بما يشبه مر الحقيقة العلقم، أنه أبدا لم يكن ذلك الجبار الذي صنعوا حوله الهالة، ولا ذلك الشجاع الذي ترتعش لمرآه النفوس، إن الخارج فقط هو ما يظهره هكذا، أما الداخل فكأنه كان طوال الوقت أجوف فارغا، مجرد طفل أعجبته صورة أبيه ورجولة أبيه وشجاعة أبيه، فمضى يقلدها أو يحاول، وأنه رغم الجهد الجبار العظيم لم يتعد أبدا طور المحاكاة والتقليد، وأنه مجرد كذبة، الكارثة العظمى أنه صدقها، ومن شدة إيمانه بها صدقه الآخرون. ساعة اللظى من ذلك اليوم الصيفي الحار ماذا حدث؟ وكأن لظاها أذاب هيكل الأسد، وكأنه كان مصنوعا من شمع أو صلصال، وكأن جلبابه قد فرغ من المضمون ومنه وتبدى الفأر حين خاف حقا؛ لأنه لأول مرة ووجه في حياته بناس اعتقد أنهم لا يخافون منه، وفعلا ممكن أن يفعلوها ويضربوه، ذاب مظهره الرهيب وتبدى الأسد على حقيقته فأرا مذعورا، ولا شيء غير فأر مذعور.
10
ولكن المسألة لم تتم هكذا ببساطة كالمعادلات، تردد في قرار أو حتى قرار خاطئ، أو فلنصل بالأمر إلى نهايته ونقول لحظة خوف حين جاءت ومرت، فإذا بها تتركه نتفا ومزقا.
إذا كان الليل قد مر عليه مرور وابورات الزلط فإنه في الصباح كان ذلك الرجل الآخر، بالأدق ذلك الأصل، الأسد، إعصار الترنح الهزيل مضى، واستعاد القوام واعتدل. أنا أنا، ما كنته وما سوف أبقى عليه، مجرد خطأ في الحسابات جرى، ولكن الله سلم.
هكذا قال، وظل من ساعتها يقولها لنفسه.
ولكن الناس بدأت تقول أشياء أخرى تماما.
لا تقولها نطقا أو كتابة أو حتى همسات إشاعة، وإنما تقولها بعينيها، بتبادل نظراتها، بالعيون التي لا تطرف أو ترتعش مطرقة كلما واجهت عينيه، إلى عيون الند للند أصبحت أقرب، بل ربما عيون القاضي إلى من يحويه القفص، وقد أدانه ولم يبق سوى النطق بالحكم. وكان كلما أدرك بذكائه هذا أحس أنه يتعرى تماما، والفأر الذي في أعماقه يرفع رأسه، ويجعله يتردد ويتلجلج، وينتهي إلى لا قرار، أو يؤجلها بأي حجة إلى وقت مناسب، ولا يجيء الوقت المناسب أبدا، وهكذا حين وجد أن منصبه يحتم عليه في كل وقت أن يأخذ قرارا، قرر أن يخرج عن المنصب، بل وعن القانون نفسه، وأن يذهب إلى عزوته وبلده، ويكون عصابة رجال، ويصبح أبا رجال، ومن خلال درع العصابة يخيف الناس، فيبدو كما لو أن قراره اللاقرار، قرار.
الحادثة التي جرت كانت وكأنما خبأها له القدر في اللوح المحفوظ، مارا هو في عصرية عيد يمشي ساقيه وينفرد بنفسه بعد كثرة ما استقبل من زوار ومهنئين بالعيد، عادته السنوية التي لا تتغير حين يقضي أيام العيد الثلاثة في قريته يذكر ويتذكر، ويرى الزمن يغور بآثاره في الوجوه، ويستمتع بالأنوف الشامخة التي لم تكن تحفل به أو بأبيه، وقد أصبحت تدين بالولاء المطلق، وتتدلى كالأغصان المرتخية فيما يشبه الذلة والمسكنة طالبة منه رضا أو نظرة إدراك وتعرف، سائرا في العصرية يطوف بالحقول المحيطة بالقرية، حيث كانت مرتع طفولته ومكمن ذكرياته، لمحه يقود «النورج» وهو جالس على أريكته الخشبية التي لم تتغير من أيام الفراعنة، يقرأ في كتيب نصف مطوي، أصفر الأوراق باهتها. كان الطريق يؤدي بالضرورة إلى الجرن الذي فيه الولد والنورج والقمح المصنوع دائرة واسعة يدرس. ويمهل كلما اقترب من الشاب الفلاح الجالس بالسروال والصديري المتآكل الوجه المهلهل في يوم العيد هذا يدرس القمح والكل في إجازة، ويقرأ من الكتاب الدفتر مع أن الفلاحين معظمهم أمي، بمهل يتقدم حتى أصبح ما بينه وبين الولد أقل من مرمى طوبة دون أن يحس الولد بوجوده، أو إن كان قد أحس لم يعط لهذا الوجود أهمية تستحق أن ينتفض هابطا من النورج قادما مهرولا مقبلا الأيادي منحنيا إلى الأرض أمام عمه «السلطان» كما تعود أن يفعل الناس جميعا من أكبر كبير إلى أصغر صغير، ولكن البهائم ظلت تسير وعجلات النورج المسنونة تعوي وتئن والشاب جالس كأنما لا يدري بما حوله، وسلطان واقف مذهول مما يحدث، إذ هو لأول مرة يحدث. - وله!
شخطته التي يعرف الجميع بصماتها انطلقت، وجعلت الكتاب يكاد يهوي من يد الشاب، وهو يحدق ناحيته، يحدق فقط، دون أن يفعل شيئا آخر. أخيرا بعد لأي يقول: يلزم خدمة؟ - خدمة في عينك قليل الأدب ما اتربتش، أنت اسمك إيه يا ولد، ابن مين يا بن الكلب؟ - يا فندي ما تغلطش فيه لحسن أغلط فيك، أنا مش خدام عندك.
وعلى الزعقة والشخطة والوقفة، كان نفر من المارين قد هرولوا إلى حيث الجرن، وكان أكثر من رجل منهم قد اندفع إلى الشاب يجره من فوق النورج، ويتطوع بزغده ولكمه، وهو يقول له: مش عارف عمك السلطان يا حمار يا بن الحمار.
فعلا كان واضحا أنه لا يعرفه ولم يسبق أن رآه، ولكنه ما أن ذكر اسمه حتى اصفر وجه الولد، وأحس أنه وقع في محظور سبحان المنجي منه.
وارتد الرجال إلى السلطان يعتذرون، وكأنهم هم الذين أخطئوا، ويشبعون الولد سبابا ولكما طالبين منه أن يذهب ويقبل يد عمه السلطان ويستصفحه، ولكن السلطان أشار لهم أن لا داعي، فقط أعاد سؤاله: أنت ابن مين يا ولد؟ - أنا أحمد بن محمد الطحان يا سعادة الباشا. - الطحان؟! بتقول الطحان؟!
وكأنما انفرجت أسارير الدنيا كلها إذ بدأ الباشا السلطان يقهقه، والجميع يقهقهون، والولد حائر يحملق فيهم، ولا يفهم شيئا بالمرة، فمن الواضح أنه كان لا يعرف عن حكاية عمه شاهين الطحان المخنث شيئا. - وريني بتقرا في إيه يا بن الطحان.
وحالا كان الكتيب ينتزع من يد الولد أحمد، ويقدم إلى السلطان في اعتذار واضح عن قدمه وتهرؤ صفحاته. باشمئزاز قلب السلطان الصفحات إلى أن وصل إلى الغلاف المتهالك المصنوع من ورق اللحمة ووجد مكتوبا عليه: موال أدهم الشرقاوي.
وعاد السلطان يقهقه حتى ليكاد يستلقي على قفاه من الضحك والكلمات تختلط بالقهقهة: بقي يبقى عمك شاهين الطحان، وأنت بتقرا أدهم الشرقاوي، وانفض الجمع والحادث، ولكن غيظا ما كان لم ينفرج بعد من نفس السلطان، فأرسل يستدعيه في جلسة المغربية، تلك التي يتبهرج لها دوار الضيافة بالأنوار، وقد أصبحت مصابيح كهربائية باهرة الضوء، وقد ارتدى جلبابا أسود من لون جلده وهات يا تريقة من سلطان والجالسين عليه وعلى عمه، حتى لقد وصل الحد أن قال له السلطان: عمك كان معاك زي الباقيين يا ولد؟ كان بياخدك في الدرة برضه؟ وهنا انطلق الولد مغادرا المجلس في عنفوان كلب قطع سلسلته، والضحكات تشيعه لا تزال.
وربما لهذا السبب عاد إلى سلطان بعض الغيظ الذي كاد ينتهي من نفسه.
كان اليوم التالي يوم جمعة، وبينما السلطان في حاشيته خارجين من المسجد لمحوا أحمد الطحان قادما من الحقل موحل السيقان بالطين يحمل تحت إبطه ربطة برسيم. - وضلالي وما بتصليش كمان، يبقى لازم عمك خدك لفة.
وانفرطت دموع حقيقية من عيون الولد وهو يقول: يا فندي ما يصحش الكلام ده. - إيه، ما يصحش؟ إنت لسه شفت حاجة، والله لنخليك تعملها في عمك عيني عينك الليلة دي.
وهنا حدث شيء لم يكن أحد يتوقعه أبدا.
فجأة، ألقى الولد بحزمة البرسيم جانبا، وقفز على السلطان، واضعا ساقه خلف ساقيه، فتهاوى السلطان على الأرض كالشجرة الفارهة، وانقض الولد عليه وفي يمناه «الشرشرة» التي «يحشون» بها البرسيم، وفي عينيه نار من قرر أن يذبح الرجل ليقتله فورا.
اندفع أكثر من رجل ناحية الراقد والراقد فوقه، فإذا بالولد يزأر: والله اللي حيخطي ناحيتي لجازر رقبة ال... دهه.
وتجمد الكل في مكانه، فالتفت إلى السلطان وطرف الشرشرة مغروز في أيمن عنقه، ما هي إلا جرة واحدة حتى يذبحه ذبح الشاة، والنار لا تزال تتلظى من عينيه، وقال: مش حاسيبك إلا لما تقول أني مرة، قول.
تعالت أصوات الاحتجاجات من خلف الولد وأمامه، وقد أصبح هو والسلطان وسط حلقة لا نهاية لها، ولكن الولد صرخ كالوحش الجريح: اللي عنده كلمة يوفرها ووالله والله إن ما قالها حالا لدابحه. انطق ... قول أني مرة.
ولم ير السلطان مخلوقا في عينيه عزم الجريمة كما رأى وجه الولد، ولم يحس هو برعب فوق طاقة البشر مثلما أحس وسن الشرشرة قد بدأ يقطع والدم يتفجر.
كان صعبا تماما أن يقولها، أو يتلفظ بها، ولكن الموت أمامه ويا روح ما بعدك روح، حاول أن يستجمع رجولته ويشخط أو يزأر أو حتى يسكت، ولو جزت الشرشرة رقبته، ولكن إرادته التي كانت قد تفتت منذ موقفه المتردد الأول، وتتابع تردداته، أبت أن تتجمع أو تقاوم أو حتى تأخذ قرارا بالمقاومة. وأشد ما أذهله أنه لم يقلها بتسليم أو خضوع للأمر الواقع، ولكنه قالها وكأنه يتنفس الصعداء راحة: أنا مرة.
وتهدجت صدور الجماعة الملتفة، وكأن السماء انطبقت على الأرض، أو كأن الأسد قد تحول أمام أعينهم إلى لبؤة، تهدج وأصوات همهمت قطعها أحمد الطحان بجبروت المنتصر قائلا: تفوه عليك.
وبصق الطحان في وجه السلطان، ثم بقفزة كان قد أصبح خارج الدائرة شاهرا شرشرته، مثيرا الرعب، وكان قد ولى الأدبار، بحيث حين أفاق الجميع لم يجدوا له أثرا، لا في بيته، ولا في بيت عمه، ولا في الحقول، ولا في الأرض، ولا في السماء.
11
وصحيح أن الشرشرة لم تجز رقبة السلطان، ولكنها كانت قد فصلت كبرياءه تماما عن جسده. وغادر القرية ولم يعد لها أبدا، حتى والموكب وقد صغر كثيرا يودعه، كانت جماعته تقول أشياء لا تقولها نطقا، أو حتى همسة إشاعة، وإنما تقولها بيديها، بتبادل نظراتها بالعيون التي لا تطرف أو ترتعش مطرقة كلما واجهت عينيه، إنها عيون الند للند، وكلمات الوداع الهشة التي ما كانت تقال إلا جبرا للخاطر.
الموت كان أرحم لهؤلاء الذين يفعلون مثله ويتصدون للزعامة والسطوة، يصبح الخيار بين الموت وهتك العرض، إذا كان لا بد من خيار، فالموت ولا شيء سواه يكون الخيار.
يأتيها من تلك الزاوية أو هذه، لم يجز شعر رأسه، ويصير أسدا أقرع له رأس اللبؤة، وإنما لم يعد ثمة ضرورة للكبرياء، أو حتى الكرامة، سيد الرجال قالها، وأعلن أنه امرأة، حتى لو كان إعلانه إنقاذا للحياة، فهو إعلان قد تم وحدث، غيره يموتون فعلا من أجل مواقف أقل، غيره ممن لا يزعمون أنهم أسياد رجال أو أصحاب سطوة أو زعماء، أناس عاديون يقتل الواحد فيهم أو يقتل بسبب أقل، يقتل أو يقتل ولا ينطقها.
تحييه - ذلك الإنسان - كلمة، وتميته كلمة، وإرادته هي الأخرى تصلبها كلمة وترخيها كلمة، ولا تتراخى الإرادة مرة، إنما إذا هي بدأت الطريق إلى التراخي لا تتوقف، فكل تراخ يقود إلى تراخ أكبر، حتى لتضيق نفسه مرة ويجد أنه يقول: لا بد أني لست بذلك الرجل الذي كنته، لا بد كان في
ما العيب أن يكون الإنسان طحانا؟
وفعلا يحس، حتى بجسده قد بدأ يتغير، حريص ألا يكشفه أمام أولاده الشباب الكبار، حتى لاحظ أن شعر ساقيه وصدره قد بدأ يقل، وينمحي تماما من أجزاء، ويحس كلما نظر إليه شاب وأطال النظر، أنه يرى فيه ما يخجل، فيخجل خجلا ليس مثلما كان يخجل حين كان السلطان، ولكنه خجل الخجلان من نفسه فعلا، الخائف على نفسه من الآخرين فعلا، الموشك أن يخفي كل قطعة من لحمه أو عضلاته كأنما ستفضح خجله، أو تفضح أنه لم يعد أبدا ذلك الرجل الذي كانه.
12
كان الشيخ أبو المعاطي قد انتهى من أذانه، وبدت الدنيا أكثر ظلاما مما كانت قبل أن يحين أذان الفجر، ظلام يغري بانطلاق الهواجس والمكنونات، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يجلس مع «الثور» أو يستبقيه إلى قرب الفجر وما بعد الفجر، حتى لقد بدأ الولد يتساءل عما يريده منه عمه السلطان، ووصل به الأمر أن افترض أنه لو طلب منه مطلب الرجال من النساء، فماذا يفعل؟ لم يكن يدري بالانهيارات الداخلية التي حدثت لسلطان إلى درجة أن مطلبا كهذا كان مستحيلا أن يرد على خاطره، ولكن أنى له أن يعرف أن الأمر قد بلغ بالسلطان إلى منتهاه، وأن تلك اللقاءات الليلية بكثرتها قد فعلت فعلها، وجعلت شيئا غريبا يرتبط في ذهن سلطان بها. كلام رجالة، كلام رجالة. راجل لراجل، راجل لراجل. الرجل يربط لرجولته من لسانه، هكذا كان الكل يعلم، ولكن هو وحده الذي بدأ يعرف أن الرجل أيضا ممكن أن يفك من رجولته بكلمة، ينحل العقد الذي شب وهو يربط نفسه به وبرجولته. ولماذا لا يقترب من الولد «الثور»، والدنيا ظلام، ولا أحد يرى أحدا، حتى هو نفسه لا يرى ولا يريد أن يرى نفسه، وهو يقترب ويقترب، والولد قد وطن نفسه على الاستجابة، فما باليد حيلة، وإذا بالطلب عكس ما وطن نفسه. مذهولا لما حدث ويحدث. فرحان أنه نجا، وإن كان بطريقة أخرى قد وقع، غير مهم، فالمهم أنه قد وصل إلى حالة يستوي معها هذا أو ذاك.
وتم كل شيء والعرق اللزج الفائح برائحة كبرياء يتحطم، وعزة نفس تتمزق، وهوان يستسيغه ويستمتع به، روائح لا تفعل باختلاطها إلا أن تثير الغثيان، ولكنها لم تثر أبدا غثيانه. •••
كل الأسرار يخفيها ظلام ليلة، حتى إذا تعددت الليالي قل ظلامها وكثرت شفافيتها وبدأ ينكشف ما كان يخفيه ظلامها، وبدأت الإشاعات، باهتة تتوالى على أسماع الناس، مستهجنة أول الأمر، وكأنما هي تجديف في حق ولي من أولياء الله، ثم بالإلحاح، تتعودها الأسماع، ثم تصبح شهرته كمثل شهرة شاهين الطحان، الذي كان قد مات، وقيل إن أحمد ابن أخيه هو الذي استدرجه إلى القناطر وأغرقه، غير أن صوته العالي الشاخط المرعب، وإن كانت قد انتابته ليونة، نفس الليونة التي انتابت جلده وعضلاته، إلا أنه كان لا يزال على عادته يشخط: يا ولد. ويستجيب الناس لشخطة الزعيم، ولكن في أكمامهم يخرجون له لسانهم، أو يكتمون ضحكة صاخبة عالية تريد أن تنفجر من صدورهم ذات مرة وتنهي المهزلة.
ولكن أبدا، ذلك الأدب المنافق الذي يتحلى به الناس، كان دائما يحول بينهم وبين أن يجأروا أو يضحكوا أو ينفجروا بالحقيقة.
نفس ذلك الأدب المنافق الذي جعله يستمرئ خضوعهم، ولا يعود يبالي أن يقولوا عنه ما يقولون، يخفون أو يكتمون أو يظهرون، فكما أسقط عنه ذات مرة برقع الرجولة، أسقط عنه بنفسه برقع الحياء.
ونصف نائم، نصف مستيقظ، نصف مخدور، أو سكران، يتأمل جلده وكأنما بفخر، حين يوغل الليل، وهو في الفراندة أو في اللوكاندة، وأمامه فتحي «الثور» أو إبراهيم «الجحش» أو سعيد «البغل» أو صبري «الكلب». فلا يزال هو السلطان، لا يزال هو الأسد.
অজানা পৃষ্ঠা