وترضى أن يقال أبوك زاني
الصفة الثالثة هي: نعومته السياسية، وهي غير الحلم، وقد تعتبر إلى حد ما من نوع المغالطات السياسية، مثال ذلك ما كان بينه وبين الحسن بن علي في شأن نزوله عن الخلافة له، إذ كتب إليه معاوية كتابا قيما جاء فيه: «أما بعد، فأنت أولى بهذا الأمر وأحق به لقرابتك، ولو علمت أنك أضبط له وأحوط على حريم هذه الأمة وأكيد لبايعتك، فسل ما شئت»، وبعث إليه بصحيفة بيضاء مختومة في أسفلها: أن اكتب فيها ما شئت، فكتب الحسن أموالا وضياعا وأمانه لشيعة علي.
أضف إلى هذه الصفات ما كتب لمعاوية من توفيق وسداد في اختيار أكبر دهاة الولاة؛ كعمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة، ممن عملوا معه على توطيد الملك له، والذين ارتسموا - إلى حد غير قليل - خطوات زعيمهم السياسي في شراء الضمائر، وسعة العطن، ورجوح حصاة العقل. وهذا زياد المعروف بشدة الوطأة بلغه عن رجال يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جنديسابور
2
وما يليها، ورزقه أربعة آلاف درهم كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: «ما رأيت شيئا خيرا من لزوم الطاعة، والتقلب بين أظهر الجماعة»، كذلك فعل المغيرة بن شعبة حين حصبه حجر بن عدي وهو على المنبر في خطبة الجمعة، فإنه نزل مسرعا ودخل قصر الإمارة وبعث إلى حجر بخمسة آلاف درهم ترضاه بها، فقيل للمغيره: لم فعلت هذا وفيه عليك وهن وغضاضة؟! فقال: «قد قتلته بها!»
إلى جانب هذه العناصر المكونة لتلك الشخصية البارزة التي اعتمدت في تأسيس ملكها على ما اعتمدت عليه من ترضي الأحزاب بالمال وعامة الناس بالطعام، واستغلال العصبيات العربية، والتساهل في إقامة الحدود الدينية إذا دعت إلى ذلك طبيعة الأحوال السياسية، فإن معاوية يصف بنفسه سبب نجاحه على علي بقوله: «أعنت على علي بن أبي طالب بأربع خصال: كان رجلا ظهرة علنة لا يكتم سرا، وكنت كتوما لسري؛ وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة، وكنت أبادر إلى ذلك؛ وكان في أخبث جند وأشدهم خلافا، وكنت أحب إلى قريش منه، فنلت ما شئت؛ فلله من جامع إلي ومفرق عنه.» (7) معاوية والسياسة المكياڤلية
وبعد، فإن السياسة الحديثة قد أباحت لرجالاتها في سبيل تحقيق غاياتهم أن ينتهجوا من الوسائل ما يكفل لهم نجحهم السياسي، ويجب علينا أن نثبت أن جلهم - ولو أنهم يتظاهرون بنفورهم من مدرسة «ماكياڤلي» التي تضحي بكل شيء تسويغا للوصول إلى الغاية السياسية - يأخذون في الواقع بتعاليمها ويعملون على برنامجها. هذه السياسة الإيجابية في نجاحها العملي، السلبية في إرضائها المناحي الخلقية هي التي أخرجت لنا «ماترنيخ» و«كافور» و«دزرائلي» و«بسمرك» و«پت»، وهي التي كان من أبطالها «جلادستون » ذو المواقف الغريبة في الإقناع واكتساب ثقة الجمهور ولو تنحل من الشواهد واختلق من السابقات ما ليس له من وجود.
كذلك كان معاوية، في جل تصرفاته، يحفل كثيرا بتحقيق غاياته في تشييد الملك، فهو يدبر أمور الناس لهذه الوجهة، وهو ينتهج من الوسائل السياسية ما يكفل نجاحه في هذه الوجهة. وإنه لخليق بنا وبسوانا ألا نعدو بعيدا عن هذه الوجهة حين نظرنا إلى معاوية في كتابه إلى مروان بن الحكم بشأن حده شاعره الكبير ابن سيحان، وحين حكم لابن الزبير بثمن داره المحترقة، وحين أرضى عقيلا، واحتمل من الأحنف بن قيس ما احتمل، وحين تخلص من الأشتر النخعي ومن عبد الرحمن بن خالد، وحين فصل في منازعة عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في حكاية الأرض التي قيل: إن الرسول
অজানা পৃষ্ঠা