de omnibus dubitandum ». ذلك لأن للمرء أن يشك أولا في وجود التقابل بأسره، وثانيا في أن التقييمات والقيم المتقابلة الشائعة، التي باركها الميتافيزيقيون، قد لا تكون إلا تقديرات سطحية، ومنظورات مؤقتة، فضلا عن كونها منظورات من ركن معين، وربما من أسفل؛ أي «منظورات ضفدعية» إذا جاز لي أن أقتبس هذا التعبير الشائع بين الرسامين، فرغم كل ما يعزى إلى الحقيقي
True ، والإيجابي، والغيري، من القيمة، فقد يكون من الجائز أن نعزو قيمة أهم، بالنسبة إلى الحياة عامة، إلى التظاهر والرغبة في الخداع والأنانية والجشع. بل ربما كان ما يضفي على هذه الأشياء الخيرة المحترمة قيمتها، إنما هو كونها متصلة ومربوطة ومنسوجة، على نحو خفي، بهذه الأشياء الشريرة التي تبدو مضادة لها، بل في كونها هي ذاتها هذه الأشياء المضادة. ربما! ولكن من ذا الذي يود أن يشغل نفسه بمثل هذه «الربمات» الخطيرة! إن مثل هذا البحث لا بد أن ينتظر ظهور نوع جديد من الفلاسفة، ستكون له أذواق وميول أخرى، عكس الأذواق والميول السائدة، فلاسفة «ربما» الخطيرة، بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وإني لجاد تماما إذ أقول إني أرى هؤلاء الفلاسفة الجدد آخذين في الظهور. (3) وإني لأقول لنفسي الآن، بعد أن نظرت إلى الفلاسفة مليا وبإمعان، وقرأت ما بين سطورهم وقتا طويلا، إن الجزء الأكبر من التفكير الواعي ينبغي أن يعد من الوظائف الغريزية، وإن هذا يصدق حتى على التفكير الفلسفي، فعلى المرء أن يتعلم هنا من جديد، مثلما يتعلم من جديد عن الوراثة و«الفطرية». وكما أن لحظة الميلاد لا تلقي إلا انتباها ضئيلا في عملية الوراثة بأسرها، وفي استمرارها، فكذلك لا يوجه إلا اهتمام ضئيل إلى التقابل بين «حالة الوعي» وبين ما هو غريزي. والواقع أن الجزء الأكبر من التفكير الواعي للفيلسوف يتأثر سرا بغرائزه، ويدفع رغما منه في مسارات محددة. ومع وراء كل منطق، وكل سيادة ظاهرية مطلقة في حركة هذا المنطق، توجد تقييمات، أو بعبارة أوضح، مطالب فسيولوجية؛ لحفظ نوع محدد من الحياة. (4) إن بطلان أي رأي ليس في رأينا اعتراضا يوجه إليه، وربما كان هذا أغرب ما في لغتنا الجديدة وقعا على الأذان؛ فالمسألة هي: إلى أي حد يعد الرأي مؤديا إلى تقدم الحياة، وحفظها، وحفظ النوع، وربما إكثار النوع؟ وإنا لنميل بكل قوة إلى القول بأن أكثر الآراء بطلانا (وهي الآراء التي تنتمي إليها الأحكام الأولية التركيبية) هي أكثرها ضرورة لنا، وأنه دون اعتراف بالأساطير المنطقية، ودون مقارنة بعالم الواقع بعالم متخيل كله، هو عالم المطلق والثبات، ودون تزييف دائم للعالم عن طريق الأعداد - دون هذا كله لم يكن الإنسان يستطيع أن يعيش - وأن التخلي عن الآراء الباطلة إنما هو تخل عن الحياة، وإنكار لها. فإدراك أن اللاحقيقة شرط للحياة، هذه قطعا إهانة خطيرة للأفكار التقليدية عن القيمة، وأية فلسفة تجرؤ على ذلك، تكون بهذا وحده قد اتخذت لنفسها موقعا بمعزل عن الخير والشر. (5) إن ما يؤدي إلى نظرة الآخرين إلى الفلسفة على نحو تمتزج فيه الريبة بالسخرية، ليس الاهتداء الشائع إلى مدى سذاجتهم - ومدى وقوعهم بسهولة في الخطأ، وضلالهم عن الطريق؛ أي بالاختصار، مدى طفوليتهم - وإنما هو افتقارهم إلى الأمانة في معاملاتهم، في الوقت الذي يرفعون فيه عقيرتهم جهرا، وقد انتفضوا غيرة على الفضيلة، إذا ما لمح أحد إلى مشكلة صدقهم ولو من أبعد طرف، فهم جميعا يحاولون إيهامنا بأن آراءهم الحقيقية قد كشفت وبلغت عن طريق التطور الذاتي لديالكتيك جامد، خالص، منزه مترفع (على عكس الصوفية بجميع أنواعهم، الذين يتحدثون على نحو أصدق وأكثر حمقا عن «الإلهام»)، مع أن الذي يحدث في الواقع هو أنهم يدافعون بحجج يفتشون عنها فيما بعد، عن قضية أو فكرة أو «إيحاء» مغرض، يمثل عادة خلاصة رغباتهم مجردة مصفاة؛ فهم جميعا محامون لا يريدون أن ينظر إليهم بما هم كذلك، وكذلك مدافعون بارعون بوجه عام، عن تغرضاتهم، التي يسمونها «حقائق»، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك الضمير الحي الذي يسمح لهم بالاعتراف بهذا لأنفسهم في شجاعة، وأبعد ما يكونون عن الذوق السليم أو عن الإقدام الذي يجعلهم يسمحون للآخرين بإدراك ذلك، ربما على سبيل تحذير صديق أو عدو، أو في معرض الإفصاح عن دخائل نفوسهم في مرح وسخرية من ذاتهم. وإن منظر نفاق كانت، الذي يتصف بالجمود والترفع في آن واحد، وهو المنظر الذي يغرينا به على السير وراءه في أزقة الديالكتيك المؤدية (أو على الأصح المضللة) إلى «أمره المطلق»؛ ليبعث الابتسام على شفاه المشاكسين من أمثالنا، الذين يجدون مسلاة طريفة في الكشف عن الحيل اللئيمة لفلاسفة الأخلاق ووعاظها القدماء. والأدهى من ذلك هو الاحتيال باسم الصورة الرياضية التي خلعها اسبينوزا على فلسفته ووضعها من وراء قناع مخيف - أو، لكي نترجم لفظ «الفلسفة» ترجمة أنصف وأصرح، لنقل «حبه لحكمته هو» - حتى يبعث بذلك الرعب على التو في قلب المهاجم الذي يدور بخلده أن يجرؤ على إلقاء نظرة على تلك الصبية المصونة، ربة الحكمة الأسطورية. فيا للجبن الشخصي والشعور بالضعف الذاتي الذي يكشف عنه هذا القناع الذي أخفى به ذلك المعتزل المريض وجهه! (6) ولقد اتضح لي بالتدريج قوام كل فلسفة عظيمة ظهرت حتى الآن؛ أعني كونها اعترافا لمبدعها، ونوعا من ترجمته الذاتية لحياته على نحو لا إرادي ولا شعوري، وأن المقصد الأخلاقي (أو اللاأخلاقي) في كل فلسفة، كان هو النواة الأساسية التي نما منها النبات بأسره.
والواقع أن من الأصوب (ومن الأحكم) أن يتساءل المرء أولا، إذا شاء أن يفهم كيف توصل الفيلسوف إلى أعقد تعبيراته الميتافيزيقية: «ما هي الأخلاق التي يهدف (أو يهدفون) إليها؟» وعلى ذلك، فلست أومن بأن أصل الفلسفة «ميل طبيعي إلى المعرفة»، بل إن ها هنا، كما في كل شيء آخر، ميل طبيعي آخر، استخدم المعرفة (والمعرفة الباطلة!) أداة. ولكن كل من يتأمل الميول الطبيعية الأساسية للإنسان بغية تحديد المدى الذي ربما كانت قد قامت فيه بدور الأرواح الخفية الملهمة (أو الشياطين والجن)، سيجد أنها كلها قد مارست الفلسفة في وقت أو آخر، وأن كلا منها كان على أتم استعداد لينظر إلى ذاته على أنه الغاية القصوى للوجود، والحاكم الشرعي لكل الميول الطبيعية الأخرى؛ ذلك لأن كل ميل طبيعي ينزع بطبيعته إلى السيطرة، وعلى هذا الأساس يحاول أن يتفلسف. ومن المؤكد أن الأمر، في حالة الباحثين ورجال العلم الحقيقيين، قد يكون على خلاف ذلك أو «أفضل» من ذلك إذا شئت؛ ففي هذه الحالة قد يكون هناك فعلا شيء يمكن أن يعد «ميلا طبيعيا إلى المعرفة»؛ أي نوعا من الساعة الدقاقة الصغيرة المستقلة، التي تعمل بجد لهذا الغرض إذا ما ملئت جيدا، دون أن يكون لبقية الميول الطبيعية المتعلقة بالبحث العلمي أي دور ملموس فيها. ف «اهتمام» الباحث العلمي إذن يسير عموما في اتجاهات مخالفة تماما؛ في الأسرة، أو في جمع المال، أو في السياسة. والواقع أنه لا تكاد تكون ثمة أهمية لنقطة البحث التي توضع فيها هذه الآلة الصغيرة، أو لكون الباحث الشاب المليء بالأمل سيصبح فقيها لغويا متبحرا، أو إخصائيا في الفطريات، أو كيميائيا ؛ فهو لا يتصف بكونه قد أصبح هذا أو ذاك. أما في حالة الفيلسوف، فليس ثمة شيء لا شخصي على الإطلاق، والأهم من هذا كله أن مذهبه الأخلاقي يشهد بكل دقة ووضوح على طبيعته؛ أي على العلاقة التي ترتبط بها أعمق ميوله الطبيعية بعضها ببعض. ••• (13) ينبغي على علماء النفس أن يفكروا مليا قبل أن يؤكدوا أن غريزة حفظ الذات هي الغريزة الأساسية لدى كل كائن عضوي؛ فالكائن الحي يسعى قبل كل شيء إلى إطلاق قوته، والحياة ذاتها إنما هي إرادة قوة، أما حفظ الذات فليس إلا واحدا من أكثر النتائج غير المباشرة شيوعا لهذه الإرادة. وبالاختصار، فلنحذر هنا، كما في كل موضع آخر، من المبادئ الغائبة المزيفة - ومنها غريزة حفظ الذات (التي ندين بها لعدم اتساق اسبينوزا). هذا ما يقتضيه المنهج، الذي ينبغي أن يكون اقتصادا في المبادئ قبل كل شيء. ••• (16) ما زال هناك من الناس من يلاحظون أنفسهم في سذاجة فيؤمنون بوجود «يقينيات مباشرة»، مثل «أنا أفكر»، أو كما تعبر عنها أوهام شوبنهور: «أنا أريد»، وكأن المعرفة هنا قد أمسكت بزمام موضوعها، وأدركت أنه لا يعدو أن يكون «شيئا في ذاته» دون أن يحدث أي تزييف، لا من جانب الذات ولا من جانب الموضوع. ومع ذلك فها أنا ذا أكرر للمرة المائة أن «اليقين المباشر»، وكذلك «المعرفة المطلقة» و«الشيء في ذاته» تتضمن تناقضا في الألفاظ، وعلينا بالفعل أن نتحرر من المعاني المضللة لهذه الألفاظ! وقد يظن الناس من جانبهم أن المعرفة هي إدراك كل الأمور المتعلقة بالأشياء، ولكن ينبغي أن يقول الفيلسوف لذاته: «عندما أحلل العملية التي تعبر عنها عبارة «أنا أفكر»، سأجد سلسلة كاملة من التأكيدات الجزئية، سيكون إثباتها الجدلي عسيرا، وربما مستحيلا؛ مثال ذلك أني أنا الذي يفكر، وأنه ينبغي أن يوجد بالضرورة شيء يفكر، وأن التفكير نشاط وعملية يقوم بها كائن ينظر إليه على أنه علة ، وأن هناك «أنا
ego ». وأخيرا، أنه قد تم بالفعل تحديد المقصود عن، من التفكير، وأنني أعرف ما هو التفكير؛ ذلك لأني إذا لم أكن بالفعل قد قررت في نفسي ما هو التفكير، فبأي مقياس أستطيع أن أقرر إن كان ما يحدث ليس «إرادة» أو شعورا؟ والاختصار فإن التأكيد القائل «أنا أفكر» يفترض أنني «أقارن» حالتي في اللحظة الراهنة بحالات أخرى لي أعرفها، حتى أقرر ما هي، وبناء على هذا الارتباط الراجع ب «معرفة» أخرى، فليس لهذه العبارة على أية حال أي يقين مباشر بالنسبة إلي.» وهكذا يجد الفيلسوف، بدلا من «اليقين المباشر» الذي قد يؤمن الناس به في هذه الحالة الخاصة، سلسلة من الأسئلة الميتافيزيقية ماثلة أمامه، وهي أسئلة صادقة موجهة فعلا إلى عقله، مثل: «من أين أتتني فكرة «التفكير»؟ ولم أومن بالعلة والمعلول؟ ومن أين لي حق التحدث عن «أنا»، بل عن «الأنا» بوصفه علة، وأخيرا عن «الأنا» بوصفه علة للتفكير؟ «أما من يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة الميتافيزيقية فورا، وبالإهابة بنوع من الإدراك الحدسي، كمن يقول «أنا أفكر، وأعلم أن هذا على الأقل صحيح وفعلي ومؤكد»، فسيقابل بابتسامة وعلامتي استفهام من فيلسوف اليوم. وربما قال له ذلك الفيلسوف: «سيدي، ليس من المحتمل ألا تكون مخطئا، ولكن لم كان يتعين أن يكون هذه هي الحقيقة؟» (17) أما عن أوهام المناطقة، فلن أمل أبدا تأكيد حقيقة بسيطة محكمة، تعترف بها هذه الأذهان الساذجة رغما منها؛ وأعني بها أن الفكرة تأتي عندما تشاء «هي»، لا عندما أشاء «أنا»؛ فالمرء يفكر، غير أن كون هذا «المرء» هو «الأنا
ego » القديم المشهور، إنما هو، على أحسن الظروف، مجرد فرض، وتأكيد، وهو قطعا ليس «يقينا مباشرا». بل إن عبارة «المرء يفكر» هذه مسرفة أكثر مما ينبغي؛ فحتى كلمة «المرء» هذه تنطوي على تفسير للعملية، ولا تنتمي إلى العملية ذاتها، فهنا يسير الاستدلال وفقا للصيغة النحوية المألوفة: «إن التفكير فعل، وكل فعل يحتاج إلى فاعل؟ إذن ...» وعلى نحو قريب جدا من ذلك بحث المذهب الذري القديم عن شيء إلى جانب «القوة» العاملة؛ أي عن الجزيء المادي الذي تكمن فيه هذه القوة وتعمل بدءا منه، وهو الذرة. غير أن الأذهان الأشد صرامة قد عرفت أخيرا كيف تسلك من غير هذا «الباقي الأرضي»، وربما استطعنا يوما ما أن نعود أنفسنا، حتى من وجهة نظر المنطقي، على أن نسلك من غير كلمة «المرء» الصغيرة هذه (التي تشكل بها «الأنا
ego » القديم المحترم بعد أن تهذب وانصقل). (18) ومن المؤكد أن قابلية النظرية للتفنيد من العوامل التي تجعلها محببة إلى النفس؛ ففي هذا تجذب الأذهان الأشد عمقا. ويبدو لي أن نظرية «الإرادة الحرة» التي فندت مئات المرات، تدين بدوامها إلى هذه الجاذبية وحدها؛ إذ يظهر دائما شخص يشعر في نفسه بالقوة التي تجعله يفندها. (19) ولقد اعتاد الفلاسفة التحدث عن الإرادة وكأنها شيء مألوف تماما، بل لقد حاول شوبنهور إيهامنا أن الإرادة هي وحدها ما نعرفه بحق، وبطريقة مطلقة كاملة، بدون أي استنباط أو إضافة. ولكن يبدو لي على الدوام أن شوبنهور لم يفعل في هذه الحالة أيضا سوى ما اعتاد الفلاسفة أن يفعلوه - أي يبدو أنه آمن «بوهم شائع» وبالغ فيه؛ فالإرادة تبدو لي في المحل الأول، شيئا معقدا، شيئا لا وحدة فيه إلا بالاسم - والواقع أن الأوهام الشائعة، التي غلبت التحوطات غير الكافية للفلاسفة في كل العصور، لا تكمن إلا في أسماء. وإذن، فلنكن من الآن فصاعدا أشد حذرا، ولنخالف طريقة الفلاسفة، ولنقل إن في كل إرادة، أولا، عددا كبيرا من الأحاسيس، وأعني بها الإحساس بالظرف «الذي نبتعد عنه»، والإحساس بالظرف «الذي نتجه إليه»، والإحساس بهذا «الخروج» و«الابتعاد» ذاته، يضاف إلى ذلك، إحساس عضلي مصاحب، يبدأ عمله، حتى لو لم نحرك «ذراعينا ورجلينا» بقوة العادة، بمجرد أن «نريد» شيئا. وعلى ذلك، فكما أن الإحساسات (وأنواعا كثيرة منها بالفعل) ينبغي أن ينظر إليها على أنها مكونات الإرادة، فمن الواجب أن ينظر إلى التفكير، ثانيا، على هذا النحو ذاته. ففي كل فعل للإرادة، فكرة غالبة. وعلينا أن نكف عن تصور إمكان فصل هذه الفكرة عن «الإرادة»، وكأن الإرادة ستظل عندئذ مكتوفة الأيدي! وثالثا، فليست الإرادة ظاهرة مركبة تتألف من إحساسات وتفكير فحسب، بل إنها قبل كل شيء انفعال، بل هي انفعال الأمر والسيطرة، فما يسمى ب «حرية الإرادة»، هو أساسا انفعال الغلبة على من يتعين عليه أن يطيع: «أنا حر، وعليه هو أن يطيع» - فهذا الشعور كامن في كل إرادة، وكذلك الحال في تركيز الانتباه، والنظرة الجادة التي تستقر على شيء واحد لا تحيد عنه، والحكم غير المشروط بأن «هذا ولا شيء غيره ضروري الآن»، واليقين الباطن بأن فروض الطاعة ستقدم - وكل أمر آخر ينتمي إلى حالة الأمر المسيطر، فمن يريد يأمر ويسيطر على شيء في نفسه يقدم إليه فروض الطاعة، أو يعتقد أنه سيقدم إليه فروض الطاعة، ولكن، فلنتأمل الآن أغرب ما في الإرادة، تلك الظاهرة العظيمة التعقيد، التي لا يطلق عليها الناس إلا اسما واحدا، فبقدر ما نكون في الظروف المعينة آمرين ومطيعين في آن واحد، وبقدر ما نعرف، بوصفنا الطرف المطيع، أحاسيس الإرغام والإكراه والضغط والمقاومة والحركة، التي تبدأ عادة بعد فعل الإرادة مباشرة، وبقدر ما نعتاد، من جهة أخرى، أن نتجاهل هذه الثنائية، ونخدع أنفسنا حيالها باستخدام اللفظ المركب «أنا». بهذا القدر أصبحت هناك سلسلة كاملة من الاستنتاجات المخطئة، وبالتالي من الأحكام الباطلة عن الإرادة ذاتها، ترتبط بفعل الإرادة، إلى حد أن من يريد يعتقد اعتقادا راسخا بأن عملية الإرادة كافية للفعل. ولما كان ما يحدث في معظم الحالات هو أننا لا نمارس الإرادة إلا عندما يكون تأثير الأمر - وبالتالي الطاعة، وبالتالي الفعل - متوقعا، فقد عبر المظهر عن ذاته بالإحساس بأن هناك ضرورة علية، وبالاختصار، أصبح من يريد يؤمن بقدر غير قليل من اليقين بأن الإرادة والفعل أمر واحد على نحو ما، فيعزو نجاح عملية الإرادة والقدرة على تنفيذها إلى الإرادة ذاتها، وبذلك يتمتع بمزيد من الشعور بالقوة، المصاحب لكل نجاح؛ ف «حرية الإرادة» هي التعبير عن الحالة المعقدة لاغتباط الشخص الذي يمارس عملية الإرادة، ويأمر ويرى في نفسه منفذا للأمر في آن واحد؛ أي يتمتع أيضا بالانتصار، على العقوبات، ولكن يعتقد بينه وبين نفسه أن إرادته الخاصة هي التي تغلبت على هذه العقبات بالفعل. ••• (21) إن عبارة «علة ذاته
Causa sui » هي أفضل تناقض ذاتي ظهر حتى اليوم، وهي نوع من خرق المنطق ومن الخروج على طبيعة الأشياء، غير أن الغرور المسرف للإنسان قد جعله يشغل نفسه بعمق، وعلى نحو مخيف بهذا الجنون المطبق؛ فالرغبة في «حرية الإرادة»، بالمعنى التفضيلي، الميتافيزيقي، كما تتملك عقول الكثيرين من أنصاف المتعلمين حتى وقتنا الحالي للأسف الشديد، والرغبة في تحمل المرء للمسئولية النهائية الكاملة عن أفعاله، وفي إعفاء الله، والعالم، والأسلاف، والصدفة، والمجتمع منها، لا تنطوي على أقل من كون المرء «علة لذاته» بهذا المعنى عينه، وفي أن يجذب نفسه من شعره إلى الوجود من هوة العدم، بجرأة لا تدانيها جرأة «مونشهاوزن
Munchhausen ».
5
فإذا تمكن أحد على هذا النحو من الاهتداء إلى الحماقة الكبرى التي تنطوي عليها فكرة «حرية الإرادة» التي ترتد إلى استخدام باطل للعلة والمعلول، فعلى المرء ألا يخطئ بتجسيد «العلة» و«المعلول» ماديا، كما يفعل الفلاسفة الطبيعيون (وكل من يلف لفهم بالتفكير من خلال المذهب الطبيعي في وقتنا هذا)، تبعا للخطأ الميكانيكي السائد، الذي يجعل العلة تضغط وتدفع حتى «تحدث» غايتها. وعلى المرء ألا يستخدم «العلة» و«المعلول» إلا بوصفهما تصورات؛ أي ألفاظا مبتدعة مصطلح عليها بقصد الإشارة والفهم المتبادل، لا بقصد التفسير. فليس في «الوجود في ذاته» شيء من «الارتباط العلي» أو من «الضرورة» أو من «انعدام الحرية النفسية»، وهنا لا يتلو المعلول من العلة، ولا يسري «القانون». وإنما نحن وحدنا الذين ابتدعنا العلة، والتعاقب، والتأثير المتبادل، والنسبية، والإكراه، والعدد، والقانون، والحرية، والدوافع، والغرض، وعندما نفسر عالم الرموز هذا، ونمزج بينه وبين الأشياء، وكأنه «موجود في ذاته»، فإنما نسلك مرة أخرى كما كنا نسلك دائما بطريقة أسطورية. «فانعدام حرية الإرادة أسطورة، أما في الحياة الحقيقية فليس ثمة إلا إرادات قوية وضعيفة. والواقع أن المفكر عندما يرى في كل «ارتباط علي»، و«ضرورة نفسية » شيئا من الاضطرار، والعوز، والخنوع، والاضطهاد، وانعدام الحرية، يكاد يكشف بذلك عن أعراض لما هو مفتقر إليه؛ فشعور المرء بأحاسيس كهذه شيء يدعو إلى الريبة؛ إذ إنه يكشف بها عن دخيلة نفسه، وإذا كانت ملاحظتي صحيحة، فإن «انعدام حرية الإرادة» يعد، على وجه العموم، مشكلة من وجهتي نظر متعارضتين تماما، ولكن على نحو شخصي عميق دائما؛ فالبعض لا يود أن يتخلى عن «مسئوليته» وإيمانه بنفسه، وحقه الشخصي في مزاياه هو، بأي ثمن (وإلى هذه الفئة تنتمي الأجناس المغرورة). والبعض الآخر لا يود، على عكس ذلك، أن يكون مسئولا عن أي شيء، أو أن يلام على أي شيء، ويسعى، بسبب احتقار ذاتي باطن، إلى الهروب من المعركة، أيا ما كان الأمر. فالأخيرون، عندما يؤلفون كتابا، يعتادون حاليا أن ينحازوا إلى صف المجرمين؛ فالتنكر المحبب إلى نفوسهم هو نوع من التعاطف الاشتراكي. والواقع أن قدرية ضعفاء الإرادة تجمل نفسها على نحو يدعو إلى الدهشة عندما تظهر بمظهر «عقيدة العذاب البشري»؛ فهذا هو «ذوقها الطيب». (22) ولتعذروني يا علماء الفيزياء إذا قلت، بوصفي عالما قديما في اللغة لا يستطيع الإقلاع عن عادة سيئة هي وضع إصبعه على طرق التفسير الفاسدة، إن عبارة «اتفاق الطبيعة مع القانون»، التي تتحدثون عنها بكل هذا الفخر، لا وجود لها إلا بفضل تفسيركم وسوء ثقافتكم اللغوية؛ فهي ليست أمرا واقعا، وليست «نصا»، وما هي إلا تكيف بشري ساذج، وتشويه للمعنى، تستطيعون به أن ترضوا إلى حد بعيد الغرائز الديمقراطية في نفس الإنسان الحديث! فالمساواة أمام القانون شاملة - والطبيعة لا تختلف عنا في هذا الصدد، وليست أفضل منا - وهو مثل رائع لدافع دفين، يتوارى من ورائه مرة أخرى ذلك العداء السوقي لكل ما هو مميز ومسيطر، وكل ما يستحق بالتالي أن يعد إلحادا، بمعنى آخر أعمق للكلمة. «فلا إله، ولا سيد» - ذلك أيضا هو ما تريدون، وعلى ذلك «فليحيا القانون الطبيعي!» - أليس الأمر كذلك؟ ولكن هذا، كما قلنا، تفسير، وليس نصا، وقد يأتي شخص يستطيع، بمقاصد وطرق تفكير مضادة، أن يرى في «الطبيعة» ذاتها، وفي الظواهر ذاتها، مجرد تنفيذ مستبد غاشم لمطالب القوة؛ أعني مفسرا يضع أمام أعينكم الطابع المطرد المطلق لكل «إرادة قوة» على نحو يجعل كل لفظ، بل لفظ «الاستبداد» ذاته، يبدو غير ملائم، أو منطويا على إضعاف وتخفيف من حدة الاستعارة؛ أي يبدو إنسانيا أكثر مما ينبغي، وينتهي به الأمر مع ذلك إلى تأكيد نفس ما تؤكدونه عن هذا العالم؛ أعني أن له مجرى ضروري «يمكن حسابه»، ولكن ليس لأن القوانين تنطبق عليه، بل لأن هذه القوانين منعدمة تماما، ولأن كل قوة تحدث تأثيراتها النهائية في كل لحظة. فلو سلمنا بأن هذا بدوره لا يعدو أن يكون تفسيرا - وهل ستتحمسون إلى حد توجيه هذا الاعتراض؟ - فما زال هذا في نظري أفضل. (23) لقد ظل علم النفس حتى اليوم يتغاضى عن التحامل والجبن الأخلاقي، ولم يجرؤ على اقتحام أعماقه، وبقدر ما يكون من حق المرء أن يدرك فيما كتب حتى اليوم، دليلا على ما ظل حتى اليوم مطويا في ثنايا السكوت، فيبدو أن أحدا لم يتنبه حتى اليوم، كما تنبهت أنا، إلى فكرة علم النفس، بوصفه وصفا لتغير إرادة القوة وعرضا منظما لتطورها؛ ذلك لأن قوة التحاملات الأخلاقية قد تغلغلت بعمق في أبعد نواحي العالم العقلي، ذلك العالم الذي يبدو أشد موضوعية ونزاهة، وأثرت فيه بوضوح تأثيرا ضارا عائقا مموها مضللا. وعلى كل مذهب نفساني فسيولوجي سليم أن يواجه العداوة اللاشعورية في قلب الباحث؛ فهذا «القلب» هو خصمه؛ فحتى المذهب القائل بأن الدوافع «الخيرة» و«الشريرة» تتحكم بعضها في البعض تحكما متبادلا، يولد (بوصفه لا أخلاقية مهذبة) استياء ونفورا في أي ضمير ما زال يتصف بالقوة والشهامة، فما بالك بمذهب يستمد كل الدوافع الخيرة من دوافع شريرة؟ أما إذا نظر شخص إلى انفعالات الكراهية والحسد والطمع وحب السيطرة ذاتها على أنها انفعالات تتحكم في الحياة، وعلى أنها عوامل لا بد أساسا من وجودها من أجل استمرار المجرى العام للحياة (وبالتالي عوامل ينبغي تشجيعها إذا شئنا تشجيع الحياة ذاتها على التطور)، فإنه سيقاسي من نظرته هذه إلى الأشياء كما يقاسي من دوار البحر. ومع ذلك فهذا الفرض ليس أغرب الفروض وأكثرها إيلاما في هذا الميدان الواسع، الذي لم يكد يطرق من قبل، للمعرفة الخطرة، والحق أن هناك مئات من الأسباب المعقولة التي تحتم على كل من يستطيع الامتناع عن طرق هذا الميدان أن يفعل ذلك! ومن جهة أخرى، فإذا وجه امرؤ شراعه في هذا الاتجاه، فعليه أن يقبض عليه بكل ما يملك من قوة، وأن يفتح عينيه ويثبت قبضته على الدفة! فنحن هنا إنما نبحر فوق الأخلاق مباشرة، ونحن إنما نسحق، وربما ندمر، ما تبقى من أخلاقيتنا إذ نجسر على القيام برحلتنا هنا. ولكن فيم يهمنا ذلك؟! لقد تفتح أمامنا عالم للتأمل لم يتكشف مثله للرحالة والمغامرين الجسورين، وعلى الأقل فسوف يكون من حق عالم النفس الذي يقوم بهذه التضحية - وهي ليست «تضحية العقل»، بل عكسها - أن يطالب مقابل ذلك بالعودة إلى الاعتراف بعلم النفس تاجا للعلوم، توجه كلها لخدمته وتزويده بما يريد. فها هنا يسير علم النفس مرة أخرى في الطريق المؤدي إلى المشاكل الأساسية.
অজানা পৃষ্ঠা