ومع ذلك، فهل كان الأمر كذلك حقا، حتى بالنسبة إليه؟ لقد قيل مرارا إن نيتشه، شأنه شأن جميع القائلين بالنزعة الطبيعية، يشوه التمييز بين ما هو موضوع للإرادة وما هو جدير بالرغبة فيه؛ أي الخير، وإنه ينتقل من واقعة وجود إرادة القوة، إن كانت فعلا موجودا، إلى تمجيدها، دون أي تبرير ظاهر لهذا الانتقال. وهذا صحيح شكليا، وهو يوقع نيتشه في نفس المأزق الذي وقع فيه السفسطائي ترازيماخوس في «جمهورية» أفلاطون؛ فهو يعترض على أخلاق العبيد المسيحية بأنها تكبل الأقوياء بالحديد. ولكن من هم الأقوياء في حقيقة الأمر؟ إن الأخلاق المسيحية والنظم الديمقراطية كما يصفها نيتشه، هي حيل تنظم بها إرادات الكثرة المتصفة بالضعف الفردي في إرادة جماعية عظمى تكبت الإرادات الأقوى لمن هم أرفع من هذه الكثرة. وهنا يبدو أن نيتشه يعترف، دون تنبه، بالحقيقة المرة للمبدأ القائل إن «الاتحاد قوة»، وهكذا قد يقول البعض إنه كان من واجبه، بوصفه محبا للقوة على الدوام، أن يعجب بالأخلاق المسيحية والمبادئ السياسية الديمقراطية أكثر من إعجابه بإنسانه الأرقى وبمثله العليا السياسية للصفوة الأرستقراطية. والواقع أن نيتشه يعجب بالقوة، ولكن عندما يملكها أناس أرقى فحسب، لا عندما يستخدمها القطيع ليقيد بها من هم أرقى منه.
وقد صنف نيتشه أحيانا بأنه دارويني اجتماعي، أحال الصراع من أجل الوجود إلى حكمة أخلاقية. ولكن الواقع أن فكرة الإنسان الأرقى عند نيتشه لا تكون نظرية تطورية إلا إذا نظر إليها نظرة سطحية، فما تتنبأ به هذه الفكرة بالفعل ليس نوعا بيولوجيا جديدا، وإنما هو نوع جديد من الإنسان، يدرك قدرته الخاصة على العلاء على ذاته، ويطالب لنفسه ولكل الأناس الراقين من أمثاله بحق العلاء على أنفسهم وتحقيق ذواتهم. فمذهبه هو قبل كل شيء دعوة أخلاقية أو دينية إلى العمل، وهو ينطوي على مناشدة لذوي القدرات الرفيعة بأن يعلوا بالجهد الصارم والتضحية فوق مستوى تراثهم الحيواني من الاستجابات المنعكسة الغريزية، وتراثهم الاجتماعي من الخضوع للنظم السائدة بطريقة رتيبة كطريقة القطعان. وبالاختصار، فنيتشه لم يكن يهتم جديا بالمسألة العلمية المتعلقة بإمكان حدوث تطور لنوع جديد من بعد نوعنا «الآدمي العاقل»، وإنما كان يهتم بالإمكانيات الروحية لهذا «الآدمي العاقل» ذاته.
وأعتقد أن من الإجحاف أن نقول إن نيتشه، الذي كان أبوه قسيسا، قد ظل طوال حياته واعظا غير متخصص يسير في الطريق البروتستانتي التقليدي للفردية غير الخاضعة للنظم السائدة. على أن العقيدة التي يعظ بها هي في أساسها إمكان الخلاص الفردي دون مخلص. وإنا لنلاحظ، بين المثقفين المستنيرين الذين يتعين عليهم، في عصر علمي، أن ينظروا إلى العالم من خلال النزعة الطبيعية، أن الأركان الأساسية للأسطورة المسيحية لا تعود لديهم قابلة للتصديق، وأن هذه الأسطورة، كما ينبغي أن يعترف دعاة المسيحية «المتحررة» صراحة، قد فقدت أخيرا قوتها المخلصة. أما أولئك الذين يسعون، مثل هيجل، إلى الاحتفاظ بالفضل الإلهي المخلص في المسيحية، مجردا من جذوره في الإيمان والأمل البشري الدافق، فهم إنما يخدعون أنفسهم؛ وكل ما يصلون إليه هو إرجاء ظهور الإلحاد النزيه.
وليس معنى ذلك أن نيتشه، حين كف عن أن يكون مسيحيا، قد تمكن آليا من أن يطرح عن عاتقه الحاجات التي دعمت أسطورة البعث لدى عدد لا يحصى من الناس. فالمسألة هي: كيف يتسنى تلبية هذه الحاجات في إطار نظرة إلى العالم من خلال النزعة الطبيعية، لا تستطيع أن تنسب إلى الأسطورة المسيحية فضل التنبؤ، ولا فضل النبوءة الرمزية؟ لقد ظن نيتشه أنه اهتدى إلى الجواب في مذهب قديم هو العود الأبدي. ولقد رأينا كيف لمح هربرت سبنسر من بعيد إلى هذه الفكرة في نظريته شبه الدائرية للتكامل والتحلل التطوريين، غير أن سبنسر لم يستخدمها دينيا. أما في حالة نيتشه، فقد كانت الفكرة في أساسها تصورا دينيا للخلود الفردي؛ ففي رأيه أن كل فرد يمر في كل لحظة بدورة من الفاعلية أبدية العود، وإذن ففي كل شيء يفعله الفرد أو يمارسه، يكون هذا الفرد ذاته حاضرا أبدا. فما يهم الشخص الفردي، من وجهة نظر نيتشه، ليس الخلود اللاشخصي الذي يتمثل في الشهرة أو التأثير في حياة الناس الذين لم يولدوا بعد، وإنما خلوده الشخصي هو ذاته، وهو لا يقنع بأن أناسا سيحيون حياة مماثلة لحياته في المستقبل، أو بأن آخرين سيتمكنون، بفضل جهوده، من الإيمان بأعز القيم لديه، وإنما يطلب أن يظل وعيه هو ذاته مستمرا على الدوام بطريقة ما. فإذا كانت النظرة إلى العالم ذات نزعة طبيعية، فمن المحال تلبية هذه الحاجة إلا عن طريق مذهب للعود الأبدي تعود فيه من جديد، مرات لا متناهية، دورة الحياة ذاتها.
فإذا ما سألت عن الأدلة التي يقدمها نيتشه لمثل هذه النظرية، كان الجواب، لا شيء.
3
غير أن النظر إلى المسألة على هذا النحو فيه إغفال لحقيقة الفكرة؛ إذ إنها لم تكن في الواقع نظرية على الإطلاق، وإنما وسيلة لإشباع حاجة نيتشه العارمة إلى أن يكون. وفضلها هو أنها تجعل من كل لحظة في حياة الإنسان، لا مجرد تجربة عابرة، وإنما ذا أهمية مطلقة أبدية.
والمختارات الآتية مأخوذة من الفصل الأول من كتاب «ما وراء الخير والشر»
4 ⋆
وعنوان الفصل: «تغرض الفلاسفة»: (1) «لكم ثارت في أذهاننا من الأسئلة بفضل الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، تلك الرغبة التي تغرينا على أداء عديد من المهام الخطرة، وذلك الصدق المشهور الذي تحدث عنه الفلاسفة حتى اليوم بالتبجيل! ما أكثر هذه الأسئلة الغريبة، المحيرة، التي تغدو هي ذاتها موضوعا للشك والتساؤل! إن القصة لطويلة حقا، ومع ذلك يبدو أنها لم تكد تبدأ. فهل يستغرب أحد، بعد ذلك، أن نشعر آخر الأمر بالريبة، وينفد صبرنا، وندير ظهرنا متأففين؟ وأن «أبا الهول» هذا يعلمنا أخيرا أن نوجه نحن أنفسنا أسئلة؟ فمن هو الذي يوجه إلينا الأسئلة هنا؟ وما هي بالفعل هذه «الرغبة في الوصول إلى الحقيقة» فينا؟ الحق أننا وقفنا وقفة طويلة عند مسألة أصل هذه الرغبة، حتى وصلنا أخيرا إلى توقف مطلق إزاء سؤال أهم حتى من السابق؛ فقد تساءلنا عن قيمة هذه الرغبة؛ ذلك لأننا نسلم بأننا نريد الحقيقة، فلماذا لا نفضل اللاحقيقة؟ واللايقين؟ بل الجهل؟ لقد مثلت أمامنا مشكلة قيمة الحقيقة، أم إننا نحن الذين جعلنا أنفسنا نمثل أمام المشكلة؟ أينا أوديب هنا؟ وأينا أبو الهول؟ يبدو أن ثمة لقاء هنا بين الأسئلة وعلامات الاستفهام. وهل يصدق أحد أنه يبدو لنا أخيرا كأن المشكلة لم تبحث من قبل قط، وكأننا أول من أدركها ولمحها، وخاطر بإثارتها؛ ذلك لأن في إثارتها مخاطرة ربما كانت أشد المخاطر.» (2) «كيف يمكن أن يظهر أي شيء من ضده ؟ الحقيقة من البطلان مثلا؟ أو الرغبة في الوصول إلى الحقيقة من الرغبة في الخداع؟ أو الصنيع الكريم من الأنانية؟ أو التبصر النقي الوضاء لدى الحكيم من الجشع والطمع؟ إن هذا التولد والظهور مستحيل، وكل من يحلم به أبله وأسوأ من الأبله؛ فلا بد أن يكون للأشياء الأعلى قيمة أصل آخر، أصل خاص بها، ومن المحال أن يكون أصلها في هذا العالم العابر، المليء بالمغريات والبطلان، والتفاهة، هذا المعترك الذي يختلط فيه الخداع بالجشع. وإنما لا بد أن يكون أصلها بين ثنايا «الوجود»، وفيما ليس عابرا، في الإله الخفي، في «الشيء في ذاته». هناك، لا في أي شيء آخر، ينبغي أن يكون أصلها.» هذا النوع من الاستدلال يكشف عن التغرض المميز الذي يمكن عن طريقه التعرف على جميع الميتافيزيقيين في كل العصور، وهذا النوع من التقسيم هو أساس كل أساليبهم المنطقية، وعن طريق «اعتقادهم» هذا، يكرسون أنفسهم «لمعرفتهم»، لشيء يطلقون عليه في النهاية، بكل وقار، اسم «الحقيقة». فالاعتقاد الأساسي لدى الميتافيزيقيين هو الاعتقاد بتقابل القيم. ولم يدر أبدا بخلد أحدهم، حتى أذكاهم عقلا، أن يشك هنا، وهو يخطو هذه الخطوة الأولى (مع أن الشك في الخطوة الأولى ضروري إلى أبعد حد)، رغم أنهم قد آلوا على أنفسهم «أن يشكوا في كل شيء
অজানা পৃষ্ঠা