انطلق صوت جرس حديدي مكتوم من برج الكنيسة الذي يعلو كلية روبرت، موقظا الكاهن جيمس مولر من غفوته في فترة الظهيرة بينما يتردد صداه عبر حوائط منزل الكاهن. كان ذلك جرس الغداء الأول، حيث يقرع ثلاث مرات مشيرا إلى أن طلاب المدرسة الإعدادية عليهم أن يكونوا في المقصف أو في طريقهم إليه. تثاءب الكاهن في مقعده الجلدي البارد الذي غلبه النعاس عليه، وحاول أن يتذكر تفاصيل خطته لهذا المساء. كان مدعوا على العشاء لدى منصف بك، هذا كل ما يذكره، ولكنه لا يتذكر موعد الدعوة. مسح فمه بظهر يده، ونهض واقفا، واتجه إلى الجانب الآخر من مكتبه ذي الأرضية الحجرية، ثم جلس في كرسيه، وأخذ يقلب أوراقه للحظات قبل أن يجد خطاب البك.
عزيزي الكاهن جيمس مولر
أكتب إليك كي أدعوك لتناول العشاء يوم الخميس القادم بصحبتي أنا والآنسة كوهين. لا بد وأنك تدرك أن الآنسة كوهين تعيش حالة من الحزن والبؤس الشديدين عقب وفاة والدها، ولكنني على يقين من أنها سوف تسعد باستقبالك. برجاء أن تعطي الرد للساعي الذي يحمل إليك هذا الخطاب، فلديه تعليمات بأن ينتظر حسبما تدعو الحاجة. يقدم العشاء في السابعة والنصف.
المخلص
منصف باركوس بك
إن السابعة والنصف موعد مبكر لتناول العشاء، ولكن لا يمكن تغيير الموعد الآن. بلل حافتي أصبعيه الوسطى والسبابة، ورفع الخطاب لأعلى نحو شعاع الضوء الأصفر الصادر من مصباح مكتبه وتفحصه بمزيد من الدقة. كانت العلامة المائية من مكتبة فاخرة في روما، ورغم أن الخطاب حديث فإن الورق نفسه قد أصابه الاصفرار عند الحواف. ربما كان البك أقل ثراء مما يفترض عموما عنه. وعلى أي حال، فإن تلك الدعوة تعد ضربة حظ ممتازة؛ فمع حادث السفينة ووفاة نائب القنصل الأمريكي والمخاوف المستمرة من التمرد على الدستور، أصبح منصف بك شخصا شديد الأهمية لأجهزة المخابرات العثمانية والأمريكية. وسوف يسعد الصدر الأعظم ووزارة الحربية بالحصول على تقرير حول ظروف البك العائلية. لم يكن أحد يشك فيه من أي ناحية سوى مجموعات القراءة التي ينشئها وإثارة الطبقات المثقفة عن طريق محاضراته الحماسية عن روسو، ولكن تحت وطأة الضغط السياسي المتزايد لاكتشاف السبب وراء الحادث، يجب تأمل أدق التفاصيل بما فيها تلك التي لا تحمل أي قدر من الخطورة.
بعد أن حدق الكاهن إلى الخطاب بضع لحظات إضافية، نحاه جانبا وأخذ يتصفح كومة من المستندات التي كان قد حصل عليها منذ بضعة أيام في حفل عشاء في ضيافة قائد البحرية الألماني الأميرال كروب. لم يبد أن تلك المستندات ذات أهمية خاصة؛ فهي بضعة خطابات وصك قطعة أرض خارج شتوتجارت وبعض الملاحظات على هوامش صحيفة. ولكن لما كانت لغته الألمانية ضعيفة، فقد رأى الكاهن أنه من الأفضل إعادة النظر فيها مستعينا بمعجم قبل أن يتخلص منها، فالمرء لا يفهم أبدا تلك الأمور؛ فقد تكون تلك الملاحظات على هامش المقال في الصحيفة إشارة ضمنية إلى برنامج تدريب بحري سري، أو خطط لمد سكك حديدية.
زفر الكاهن أنفاسه وطقطق رقبته في الاتجاهين. بالإضافة إلى مشروع الترجمة الصغير هذا ومسئولياته المعتادة في كلية روبرت، ثمة عدد من المهام غير الضرورية التي بحاجة إلى الاعتناء بها على المدى القريب. كانت غرفة مكتبه مثالا للفوضى، ولم تكن كتبه مرتبة ترتيبا أبجديا، ومكتبه مغطى بعشرات الأكوام من الأوراق التي تستحق كل منها مراجعة دقيقة. غمس قلمه في المحبرة التي تعلو المكتب، وكتب قائمة بالمهام التي يتعين عليه إنجازها خلال الأيام الثلاثة المقبلة، ثم وضع القائمة في وسط مكتبه راضيا عن إنجازه وذهب كي يعد نفسه للعشاء.
عندما انطلق الكاهن مولر في طريقه أخيرا كانت الشمس تغمس اللون البرتقالي في مجموعة من أشجار الصنوبر خلف لو بيتي شون دو مورت، أو ما يعرف بطريق الموت الصغير. توقف عند حافة نتوء جبلي يطل على البوسفور، وحجب وهج الشمس التي تتجه نحو الغروب عن عينيه، وراقب سفينة حربية ألمانية مسلحة وهي تتجه ببطء نحو بحر مرمرة. وتحته مباشرة تطل من أسفل النتوء الجبلي أنقاض مبنى قلعة روميل، وهو البرج الذي فرض منه محمد باشا الحصار على إسطنبول منذ أكثر من أربعة قرون. كان أمناء كلية روبرت قد اختاروا موقعها بعناية، ورغم أن لائحة الكلية تفرض عليهم «تعليم شباب الإمبراطورية العثمانية وإرشادهم إلى أساليب العالم الحديث»، فلم يكن سرا أن العديد من الأمريكيين العاملين في كلية روبرت يعملون تحت إمرة وزارة الحربية. ومن وجهة نظر الكاهن، لم يكن ذلك تناقضا في المصالح أو النوايا؛ فإذا أمكن للمرء أن يخدم بلاده في الوقت الذي يعلم فيه أبناء الدول الأخرى، فذلك أفضل وأفضل.
التف طريق الكاهن مولر وهو يهبط التل مرورا بمقبرة عتيقة أفسدتها الجاذبية. كان مشهدا مروعا، شواهد القبور الضيقة التي أصبحت مبهمة بمرور الزمن، وكل منها يعلوه حجر مكلل بعمامة صاحب القبر أو طربوشه. حاول قصارى جهده ألا يتخيل العظام الراقدة تحت قدميه، أو اللحم الذي كان يكسو تلك العظام يوما ما، فحبس أنفاسه ومضى في طريقه هابطا التل. وعندما ابتعد جيمس عن المقبرة، رأى منزل منصف بك وقد أصبح ظاهرا للعيان، وهو منزل شديد الضخامة، فخم، عتيق، يطل على الماء، مطلي باللون الأصفر. لم يكن قد دخل هذا المنزل قط، ولكنه كثيرا ما لاحظه من بعد، وكان مرآه يذكره دائما بالفيل الذي ركبه ذات مرة في كلكتا في تجربة أصابته بالاستياء. وبينما كان يقترب، لاحظ أن المنزل مكلل بسرب من الهداهد الأرجوانية المتطابقة تقريبا في اللون والعدد مع ذلك السرب الذي لاحظه على الرصيف البحري صباح الحادث. كان على يقين أنه قد رأى هذا النوع من الهداهد حتى من قبل الحادث، ولكنه لم يتذكر أين كان ذلك.
অজানা পৃষ্ঠা