الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
خاتمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
خاتمة
عرافة إسطنبول
عرافة إسطنبول
تأليف
مايكل ديفيد لوكاس
ترجمة
سهى الشامي
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
الفصل الأول
وفدت إلينورا كوهين إلى هذا العالم في وقت متأخر في يوم خميس من صيف عام 1877.
وسيذكر أولئك الذين استيقظوا مبكرا في صبيحة ذلك اليوم أنهم رأوا سربا من الهداهد البنفسجية والبيضاء تحلق فوق المرفأ؛ حيث تحوم في حلقات ثم تندفع فجأة كالأسهم كما لو كانت تحاول أن ترتق خرقا في السماء. وسواء أباءت محاولاتها بالفشل أم حالفها النجاح، فإنها كانت تبطئ انقضاضها في نهاية المطاف وتستقر في أنحاء المدينة وعلى أعتاب دار القضاء، وعلى السقف المصنوع من القرميد الأحمر الذي يعلو فندق كونستانتسا، وعلى برج الناقوس الذي يعلو أكاديمية القديس باسيليوس. جثمت الطيور في حجرة الإضاءة بالمنارة، وعلى مئذنة الجامع الحجرية الثمانية الشكل، وعلى السطح الأمامي لسفينة بخارية تنفث دخانها في الأفق الصافي. كست الهداهد المدينة مثل الجليد، وانتقلت عبر مزاريب المطر الناتئة من قصر الحاكم، وغطت القبة المطلية بالذهب للكنيسة الأرثوذكسية. وفي الأشجار المحيطة بمنزل يعقوب وليئة كوهين بدا السرب في حالة جذل ذات طابع خاص؛ إذ أخذت الهداهد تغرد، وترفرف بأجنحتها، وتقفز من غصن إلى غصن كما لو كانت جمعا من الفلاحين المصطفين على جوانب شوارع العاصمة بغية مشاهدة أحد العروض الإمبراطورية. وكثيرا ما ينظر إلى الهداهد على أنها فأل خير، لولا الأحداث المشئومة التي تزامنت مع مولد إلينورا.
ففي وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، تحركت الفرقة الثالثة من سلاح الفرسان الملكي التابع للقيصر ألكسندر الثاني من الشمال، وتجمعت على قمة التل المطل على ساحة المدينة، وقد تألفت الفرقة من: ستمائة واثني عشر رجلا، وخمسمائة وسبعة وثلاثين جوادا، وثلاثة مدافع، وأربع وعشرين خيمة رمادية باهتة من قماش القنب، ومطبخ ميداني، وعلم قيصر المخطط أفقيا باللونين الأصفر والأسود. وطوال أسبوعين كانوا يتنقلون معظم الوقت ولا يحصلون إلا على قليل من الطعام والراحة. ساروا وسط مدن كيليا وتولتشيا وباباداج حيث مستنقعات التوت في دلتا الدانوب وحقول القمح الشاسعة التي تركت من غير زرع منذ الشتاء، وكان مقصدهم النهائي هو مدينة بلفن، وهي مركز تجاري في قلب سهل الدانوب؛ حيث كان المشير عثمان باشا وسبعة آلاف من القوات العثمانية يحاولون التصدي لهم. إنها ستكون معركة مهمة، بل وربما نقطة تحول في مسار الحرب، لكن بلفن كانت لا تزال على مسيرة عشرة أيام أخرى، وشعر رجال الفرقة الثالثة بالتململ والاضطراب.
وقد تركت كونستانتسا، التي كانت ترقد تحت أقدامهم كأنها وليمة جاهزة، شبه عارية تماما من الحراسة؛ فعلى بعد مسافة لا تزيد على اثني عشر مترا من حافة قمة التل ترقد أطلال جدار روماني قديم. في القرون الماضية، حمت هذه الأحجار ذات اللون الوردي الباهت المدينة من الخنازير البرية وقطاع الطرق والبربر التراقيين الذين كانوا يحاولون باستمرار شن الغارات على المرفأ. وكان الجدار الذي أعاد الرومانيون بناءه مرتين، ثم البيزنطيون مرة أخرى، في حالة دمار شامل عندما وصل العثمانيون إلى كونستانتسا في نهاية القرن الخامس عشر. وهكذا ترك مقوضا؛ فقد انتزعت أفضل أحجاره لاستخدامها في بناء الطرق والقصور وجدران أخرى حول مدن أخرى أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية. ولو كان أحدهم قد فكر في ترميم الجدار، لربما حمى المدينة من وحشية الفرقة الثالثة، لكنه في حالته الحالية لم يكن سوى حجر عثرة.
طوال هذا الصباح حتى وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة ورجال الفرقة الثالثة يعيثون فسادا في شوارع كونستانتسا؛ يحطمون نوافذ المتاجر، ويروعون الكلاب الضالة، ويدمرون كل ما تطوله أيديهم من تماثيل. أشعلوا النيران في قصر الحاكم، ونهبوا دار القضاء، وحطموا الزجاج الملون الذي يعلو مدخل أكاديمية القديس باسيليوس. نهب متجر الصائغ بكل ما فيه؛ وسرقت كل محتويات حانوت الإسكافي؛ وبعثر البيض المكسور والشاي في متجر العاديات، وحطموا أيضا الواجهة الأمامية لمتجر السجاد الخاص بيعقوب كوهين، وثقبوا الجدار بحرابهم. وباستثناء الكنيسة الأرثوذكسية التي وقفت شامخة في آخر اليوم لم يمسسها أذى، كما لو كان الله نفسه قد حماها، كانت المكتبة هي البناية المحلية الوحيدة التي نجت سالمة من وحشية الفرقة الثالثة؛ لا لأنهم يكنون تقديرا خاصا للمعرفة، وإنما يعود الفضل كله في نجاة مكتبة المدينة إلى شجاعة حارسها؛ فبينما انكمش بقية سكان المدينة رعدة تحت فراشهم، أو جثموا معا في الطوابق السفلية وفي خزانات الملابس، وقف أمين المكتبة في جرأة على الدرج الأمامي لمملكته، حاملا نسخة مهلهلة من رواية «يفجييني أونيجين» فوق رأسه، كما لو كانت تميمة سحرية. ومع أن رجال الفرقة الثالثة كانوا في الغالب على جهل تام بالقراءة والكتابة، فقد استطاعوا تمييز شكل حروف لغتهم الأصلية السيريلية، وكان هذا على ما يبدو كفيلا لهم كي يعفوا عن المبنى ويفلتوه من براثنهم.
في تلك الأثناء، وفي منزل حجري صغير رمادي اللون بالقرب من قمة إيست هيل، اشتدت آلام المخاض بليئة كوهين، وفاحت غرفة المعيشة برائحة خلاصة أزهار الويتشهازل والكحول والعرق. وكان صندوق البياضات مفتوحا، وعلى الطاولة كومة من أغطية الأسرة الملطخة باليود. ولما كان الطبيب المدرب الوحيد في المدينة مشغولا في مهمة أخرى، تولى رعاية ليئة قابلتان تتاريتان تقطنان قرية مجاورة. لقد أحضرتهما العناية الإلهية إلى عتبة منزل كوهين في اللحظة التي كانت ليئة في أمس الاحتياج إليهما؛ فقد قرأتا العلامات وقالتا في ذلك: بحر من الجياد؛ ومحفل من الطيور؛ والنجم الشمالي بمحاذاة القمر. وذكرتا أن هذه كانت نبوءة تنبأ بها ملكهم الأخير وهو يحتضر، لكن لم يكن أمامهما وقت للشرح. طلبت القابلتان أن يصطحبهما أحد إلى غرفة النوم، ثم طلبتا أغطية أسرة نظيفة وكحولا ومياها مغلية، ثم أغلقتا الباب وراءهما؛ وكل عشرين دقيقة تقريبا تهرول صغراهما مندفعة خارج الغرفة حاملة وعاء فارغا أو كومة ملء الذراعين من الأغطية المستعملة. وبخلاف هذه الرحلات القصيرة الخاطفة، ظل الباب مغلقا.
ولما لم يكن بيد يعقوب زوج ليئة ما يفعله، أو شيء آخر يشغله، فقد استسلم للقلق. وشغل يعقوب - الذي كان ضخم البنية أزرق العينين، ذا شعر أشعث فاحم السواد - نفسه بنتف أطراف لحيته، وخلط إيصالاته، وتعبئة غليونه. وبين الحين والآخر تتناهى إلى مسامعه صرخة، أو بعض الكلمات المكتومة التي تحث على الدفع، أو صوت إطلاق النار والجياد الآتي من بعيد. ولم يكن يعقوب رجلا متدينا بدرجة خاصة أو مؤمنا بالخرافات، ومع ذلك همهم بما استطاع أن يتذكره من صلوات خاصة بولادة الأطفال، وقرع ثلاث مرات على الخشب كي يطرد العين الشريرة. وقد حاول قصارى جهده ألا يستسلم للقلق، لكن ماذا عسى أب ينتظر قدوم مولوده الجديد أن يفعل غير ذلك؟
وبعد الغسق مباشرة، في تلك الساعة البالغة الرقة التي تتحول فيها السماء من اللون البنفسجي إلى الظلام، صمتت الهداهد، وتوقف إطلاق النار، وخف وقع حوافر الجياد حتى توقف تماما؛ وكأنما العالم بأسره توقف ليلتقط أنفاسه. في تلك اللحظة خرج من غرفة النوم صوت تنهيدة متعبة، عقبها صوت صفعة على جسد ثم صرخة المولود الجديد. عندئذ ظهرت القابلة الأكبر سنا، السيدة داماكان، حاملة صرة تحت ذراعها. وباستثناء صوت الرضيع الخافت، غرقت الغرفة في الصمت.
همس يعقوب: «حمدا لله!» ثم مال ليقبل ابنته في جبهتها. كانت الطفلة رائعة، غريرة، تتقد بالحياة الجديدة، ثم مد يده ليحملها بين ذراعيه، ولكن القابلة منعته.
قالت القابلة : «أيها السيد كوهين.»
رفع كوهين عينيه إلى خط فمها الدقيق. «ثمة بعض المتاعب.»
لم يتوقف نزيف ليئة، وكانت واهنة بدرجة خطيرة. وبعد ساعات قلائل فحسب من الولادة أسلمت الروح. وكانت الكلمة الأخيرة التي تفوهت بها هي اسم مولودتها، وما إن نطقت بها حتى انفتحت السماء.
كان هطول المطر كما لم يشهده أحد من قبل في كونستانتسا؛ وابلا لا نهائيا من الأمطار والرعد. تدفقت الأمطار في صورة سيول وأمواج وصفحات من المياه، فأخمدت النيران، وطمست معالم الطرق، وغلفت ساحة المدينة بغطاء من الدخان الرطب. وعندما بلغت العاصفة أشدها، أوت الهداهد إلى فتحات الأشجار اليابسة وتجاويفها. أما الفرقة الثالثة فشدت الرحال جنوبا صوب بلفن، حاملين غنائمهم تتدلى مثل أعشاش العناكب على ظهور جيادهم. أمطرت السماء طوال أربعة أيام اعتنت فيها السيدة داماكان وابنة أخيها بالمولودة الجديدة. ودفنت ليئة في قبر جماعي يضم اثني عشر رجلا تقريبا قتلوا أثناء محاولاتهم الدفاع عن ممتلكاتهم، وملأ يعقوب المنزل عويلا. وبنهاية الأسبوع، كانت النفايات قد سدت المرفأ، واكتسى ميدان المدينة برماد رطب.
لكن الحياة لا بد أن تمضي، فعندما انقشعت السحب أخيرا، استقل يعقوب كوهين عربة إلى تولتشيا، وبعث ببرقيتين؛ إحداهما إلى أخت ليئة في بوخارست، والأخرى إلى صديقه وشريك أعماله في إسطنبول، وهو رجل تركي يدعى منصف باركوس الذي حصل مؤخرا على لقب البكوية. وفي البرقية الأولى أخبر شقيقة زوجته بالمأساة، وطلب منها أن تقدم له ما في استطاعتها من مساعدة. أما البرقية الثانية فقد بعثها بناء على طلب من السيدة داماكان يوصي فيها بتعيينها هي وابنة أخيها في أي وظيفة شاغرة ربما تكون متاحة في منزل منصف بك؛ إذ نوت السيدة داماكان وابنة أخيها - كما الحال مع معظم التتار الذين يقطنون القرى المحيطة بكونستانتسا - الرحيل عما قريب والتطلع إلى حياة جديدة في إسطنبول؛ حيث يلقى المسلمون المزيد من الحفاوة والترحاب. وحتى يأتي ذلك الحين، وافقتا على المكوث مع يعقوب ومساعدته بأقصى استطاعتهما.
بعد بضعة أيام وصل الرد من منصف بك، الذي أشار فيه إلى أنه يسعده استقبال السيدة داماكان، وأنه كان في الواقع يبحث عن خادمة جديدة.
أما الرد على برقية يعقوب الثانية فقد وصل بعدها بأسبوع، بمجيء روكساندرا؛ الأخت الكبرى لزوجته ليئة. كانت الساعة السادسة مساء عندما توقفت عربتها في المرفأ. وكانت روكساندرا، تلك المرأة النحيلة التي ترتدي ملابس السفر وقبعة من اللباد الأخضر الداكن، ذات أنف حاد وذقن صغير وشامة في منتصف وجنتها اليسرى بدت كما لو كانت قمة بركان وشيك الاندلاع. ترجلت روكساندرا من العربة وفي يسراها حقيبة سفر، وفي يمناها برقية مجعدة مبللة بالعرق، ثم حاسبت السائق وبدأت تشق طريقها أعلى التل نحو منزل زوج أختها.
وبينما كانت روكساندرا ترتقي الدرج الأمامي من منزل كوهين، عدلت قبعتها ثم حدقت إلى الوراء في لمعة روث الطيور الذي يغطي الممشى الأمامي، وحملقت في سرب الهداهد البنفسجية والبيضاء الجاثم على شجرة الدلب فوقها، ثم التفتت نحو الباب وقرعته. ولما لم يجب أحد، قرعت مرة أخرى وهي تميل برأسها للأمام كي تنصت إلى صوت أي حركة بالداخل، ومرة أخرى لم يكن من مجيب هناك. ولأنها لم تكن ممن ينتظرون بالخارج في الطقس البارد، فقد عدلت قبعتها وسمحت لنفسها بالدخول.
كان منزل كوهين بأكمله لا يزيد على حجرة الطعام الموجودة في المنزل الذي قضت فيه روكساندرا وليئة طفولتهما في بوخارست. وكان يتألف من ثلاث غرف نوم، وحجرة للمؤن، ومطبخ، وغرفة معيشة جدرانها عارية ما خلا لوحة فحمية صغيرة لليئة فوق المدفأة. وفي أحد أركان الغرفة الرئيسة خزانة ومائدة طعام مصنوعة من خشب البتولا المحبب تغطيها كومة من الأطباق المتسخة، وفي الركن الآخر زوج من المقاعد الجلدية البالية قبالة المدفأة. وكانت أرضية غرفة المعيشة غارقة في بحر من السجاد الشرقي المفروش دون اعتبار للألوان أو الطراز، بل أحيانا تجد ثلاثا من السجاد بعضها فوق بعض، كما لو كانت مدينة قديمة مبنية على أنقاض حضارات أقدم. وبعد أن تخطت روكساندرا العتبة في حذر شديد، أنزلت حقيبة سفرها، ثم أغلقت الباب الأمامي خلفها.
نادت روكساندرا: «مرحبا، هل من أحد هنا؟»
كان يعقوب جالسا طوال الوقت عند الطاولة ورأسه بين ذراعيه خلف كومة من الأوراق. وعندما وقف ليحييها، كان واضحا كم هو في أمس الاحتياج إلى مساعدة روكساندرا؛ فقد كان معطفه الطويل ملطخا ببقع في عدة أماكن، وأطلق لحيته في إهمال واضح، وكانت عيناه شديدتي الحمرة.
قال كوهين مدهوشا لدى رؤيتها في غرفة معيشته: «يا روكساندرا، اجلسي من فضلك.»
سحبت روكساندرا مقعدا عند رأس الطاولة وجلست.
ثم قالت وهي تضع البرقية على المائدة مبرهنة بها على سبب مجيئها: «لقد طلبت المساعدة، وها أنا ذا.»
أجاب يعقوب: «بالطبع. كيف حالك؟»
أجابت: «بالنسبة إلى الظروف الحالية، فأنا بخير. أشكرك. لكن الرحلة كانت طويلة، وأرغب بشدة في تناول قدح من الشاي.»
بينما كانت روكساندرا تتحدث، اندفعت السيدة داماكان بظهرها من المطبخ يتدلى من فمها خيط، حاملة إلينورا في ثنية ذراعها وهي مقمطة. وكانت إلينورا مستغرقة في النوم ورموشها ترفرف مثل أجنحة حشرة اليعسوب، وقد قبضت يديها في سلام عند منتصف صدرها.
قالت روكساندرا وهي تميل فوق اللفافة: «لها فم أمها نفسه.» ثم نظرت إلى أعلى وقالت: «هذه مرضعتها على ما أعتقد.»
رد يعقوب: «نعم، بشكل ما، لقد حضرت السيدة داماكان وابنة أخيها ميلاد إلينورا، وكان من كرم أخلاقهما مساعدتي على مدار الأسابيع القلائل الماضية.»
قالت روكساندرا: «حسنا، لقد فهمت. أنت السيدة دالامان، أليس كذلك؟ هل تمانعين في إعداد قدح من الشاي لي؟ شاي ثقيل من فضلك. لقد كانت رحلة طويلة.»
جلست روكساندرا على مقعدها مرة أخرى وراقبت السيدة داماكان وهي تخرج من الغرفة.
قالت روكساندرا: «إني أفضل بصفة عامة الدخول في صميم الموضوع مباشرة، سواء أكانت هذه هي الطريقة الأكثر تهذيبا أم لا. وهذا أمر ينبغي أن تعرفه عني.»
أومأ يعقوب برأسه موافقا.
استهلت روكساندرا كلامها: «لقد تسلمت برقيتك، وها قد جئت لتقديم المساعدة التي طلبتها. وللقيام بهذا الدور، فإنني مستعدة أن أمكث في كونستانتسا لمدة شهر على الأقل للمساعدة في المهام المنزلية وما إلى ذلك.»
ثم أدارت نظرها في أرجاء غرفة المعيشة. «لقد قلت إن السيدة دالاماتيان سوف تغادر قريبا، أليس كذلك؟»
أجاب يعقوب: «بلى، هي وابنة أخيها ستنتقلان إلى إسطنبول.»
دمدمت روكساندرا: «مدينة قذرة مليئة بالأتراك.»
قال يعقوب: «هما أيضا من الأتراك؛ التتار على وجه التحديد.»
قالت روكساندرا: «حسنا، لا يعنيني كنههما. ستغادران قريبا، أليس كذلك؟» «إنهما تنويان الرحيل في نهاية هذا الأسبوع، مع أن استعداداتهما ضئيلة إلى حد ما.»
قالت روكساندرا: «كما ذكرت، يسعدني أن أمكث هنا لمدة شهر، أو ربما حتى شهرين، لتقديم المساعدة المطلوبة. ولكن إذا كنت تنتظر مني أن أمكث أكثر من بضعة أشهر، فأعتقد أننا سنضطر إلى أن نتزوج.»
لطالما كانت روكساندرا الفتاة الإيثارية والابنة البارة؛ فقد اعتنت بأبويها أثناء مرضهما وشيخوختهما حتى وفاتهما، بينما ذهبت أختها الصغرى إلى المدرسة لتتلقى تعليمها وتزوجت. وبحلول الوقت الذي مات فيه أبوها، منذ ما يزيد قليلا على العام، كانت روكساندرا قد اقتربت على نحو يدعو للقلق من سن الثلاثين، وقد آلمتها الحياة وصارت شديدة الامتعاض. وعلى الرغم من أنها ورثت ثروة هائلة ستخول لمن يتزوجها الحصول على مهر كبير، فإنها لم تستطع العثور على الزوج المناسب. ولم تكن تطمح في هذه المرحلة في إقامة علاقة رومانسية، وإنما كل ما أرادته هو أن يكون لها بيت خاص بها، وزوج يصلح كي تتبادل معه الدعابات بعد العشاء.
رد يعقوب بعد طول صمت: «هل تمانعين إذا احتفظت بردي حتى آخذ بعض الوقت للتفكير؟» «كلا البتة.» «وماذا عن أغراضك؟ أهذا كل شيء؟»
ابتسمت روكساندرا ونظرت نحو الصندوق الصغير ذي الكسوة الجلدية الموضوع أمام ساقيها.
قالت: «لا داعي للقلق بشأن أغراضي، لقد اتخذت ترتيباتي بالفعل.»
وفي صبيحة اليوم التالي وصل من بوخارست صندوقا أمتعة كبيران، وبدأت روكساندرا تتصرف على سجيتها كأنها في منزلها؛ فبعدما أفرغت محتويات الصندوقين في غرفة النوم الثانية، استعانت بمساعدة ابنة أخي السيدة داماكان في تنظيف الأسطح وغسل النوافذ ونفض السجاد وإزالة الأتربة عن خزانات الكتب وإزالة الرماد من المدفأة. وعندما فرغتا من هذه المهام، غسلت روكساندرا الممشى الأمامي، وحاولت ترويع سرب الهداهد التي اتخذت من شجرة الدلب المجاورة للمنزل مأوى لها. ولكن كلما لوحت بذراعيها وألقت بالحجارة، تمسكت الهداهد بمأواها. وبعدها بثلاثة أيام، كان الممشى مغطى بروث الطيور مرة أخرى. ورغم هذا الإزعاج البسيط، استقرت روكساندرا في ارتياح في وضعها الجديد. كانت تطبخ وتنظف، وعندما كانت السيدة داماكان وابنة أخيها منهمكتين في الإعداد لرحلتهما جنوبا بطول ساحل البحر الأسود، اعتنت بإلينورا. وعندما رحلت القابلتان بنهاية الأسبوع الثاني لمجيء روكساندرا إلى كونستانتسا، تولت الشئون المنزلية بالكامل. وبنهاية الأسبوع الثالث، قرع يعقوب باب غرفة نومها، وقال إنه يوافق على الزواج منها؛ لأن في ذلك مصلحة الجميع، والحل الأمثل في ضوء الظروف الراهنة.
أقيمت مراسم الزواج في تولتشيا؛ إذ كان معبد كونستانتسا لا يزال قيد الإصلاح. وقف يعقوب وروكساندرا في مقدمة الغرفة مع الحاخام، وهو شاب ذو لحية حمراء كبيرة. وشهد على زواجهما الأخوان الأصغران للحاخام، وفي مؤخرة الغرفة كانت إلينورا تصرخ بين ذراعي زوجة الحاخام. وبعد مراسم الزواج تفقد يعقوب بعض الأعمال في تولتشيا، ثم استقلا عربة في الساعة السادسة للعودة إلى كونستانتسا، والهداهد تتبعهما على مسافة معقولة فوق رأسيهما.
الفصل الثاني
حدق سلطان الإمبراطورية العثمانية خادم الحرمين الشريفين وخليفة المسلمين وأمير المؤمنين والخاقان الأعظم لممالك متعددة، جلالة السلطان عبد الحميد الثاني، إلى بلاط السقف الأخضر والأزرق المتداخل، في حين رغى حلاق القصر وجهه بالصابون. وتناهى إلى مسامعه من غرفة مجاورة نقر أوتار العود والثرثرة الخافتة للجواري. غرد بلبل من محبسه، ووقعت شمس منتصف الصباح على قدميه في صورة شبكة من الظلال والأضواء. أغمض عبد الحميد عينيه، وأنصت وهو يستنشق رائحة الياسمين المنبعثة من الصابون، إلى صوت نصل شفرة الحلاقة يتحرك على عنقه.
دأب هذا الرجل نفسه على الحلاقة لعبد الحميد كل صباح طوال الثلاثين عاما الماضية، منذ أن نبتت أولى شعيرات الرجولة في ذقنه الملكي، وقبل ذلك الحين خدم سبع سنوات في بلاط والد عبد الحميد. كان الحلاق طاعنا في السن، ولكن يديه كانتا ثابتتين كيد الخطاط، حتى بعد مرور كل تلك السنوات من الممارسة؛ فهو لا يزال يقدم على مهمة الحلاقة الصباحية كما لو كانت أهم مهمة في حياته. وقد قدر عبد الحميد هذه الجدية كثيرا، فمع كثرة المكائد والدسائس التي تحوم حول القصر، كان في حاجة إلى أن يثق في حلاقه ثقة مطلقة؛ إذ لم يكن من المستجد أن يحاول أحد أفراد بلاط السلطان قتل السلطان؛ بل إن ثلاثة من أقاربه البعيدين قد اغتيلوا بالفعل؛ وهم مورات الثاني ومصطفى دوزم وإبراهيم الأول، على يد أفراد من العاملين لديهم ممن يفترض بهم الولاء. فقد اغتيل مورات على يد طباخه، وقتل مصطفى حارسه الخاص، أما إبراهيم فقد كانت نهايته على يد حلاقه.
فتح عبد الحميد عينيه وشاهد حلاقه وهو يمسح شفرته في قطعة من الجلد، ثم أغمض عينيه مرة أخرى وغاص أكثر في مقعده تاركا موسيقى العود الآتية من بعيد تنساب في أوصاله كما لو كانت مياه البحر الدافق. كان ثمة حزن عميق في تلك الأوتار، أعوام عديدة من الأسى. وإذا لم تخنه ذاكرته كان الفارابي هو من روى قصة اختراع العود؛ حيث استلهم مخترعه فكرة العنق المنحني من هيكل عظمي كان متدليا من شجرة خروب. لمن كان هذا الهيكل العظمي؟ هذا ما لا يستطيع عبد الحميد أن يتذكره. ربما كان للامك، أو لأحد أبناء نوح. على أي حال، كان العود آلة موسيقية قديمة تقترن جذورها بالحزن والأسى.
ووسط غمرة هذه الأفكار، شعر السلطان بحضور أحدهم. «جلالة السلطان؟»
كان هذا هو الصدر الأعظم جمال الدين باشا. كان وجهه محمرا من الإجهاد، وشاربه مبروما بما يشبه خيطا من اللعاب.
قال وهو يجفف وجهه بمنديل: «جلالة السلطان، أعتذر عن مقاطعتك أثناء الحلاقة، لكن لدي خبرا مزعجا للغاية.»
قال السلطان وهو يشير إلى الحلاق ليكمل: «تكلم من فضلك، فأخبار مملكتي ليست ضربا من المقاطعة.» «جلالة السلطان، لقد وقعت بلفن منذ ثلاثة أيام في قبضة الروس، وتقهقر عثمان باشا ومن تبقى من رجاله إلى جابروفو.»
كان هذا أسوأ الأخبار حقا، ولم يكن مفاجئا بدرجة خاصة، ولكنه مع ذلك خبر مزعج. تنهد السلطان وهو يشاهد بطرف عينه الحلاق وهو ينتزع الشعر النابت في منطقة عظم وجنته. كانت بلفن هي الأخيرة في سلسلة طويلة من العوائق العسكرية، وعلى الأرجح سيعني هذا نهاية الحرب، ثم عقد مؤتمر آخر للقوى العظمى، واختلاق حجة أخرى لتقسيم إمبراطوريته. في حقيقة الأمر هو لم يكترث لفقدان السيطرة على بلغاريا أو رومانيا؛ فهو لا يأبه حتى إذا ابتلعتهما الأرض، والأمر كذلك مع اليونان ودول البلقان. لم تكن الأرض هي ما يزعجه، بل العار الذي سيلحق به؛ أنياب القوى العظمى التي يسيل لعابها وهي تحوم حول قصره مثل الذئاب. وهو لا يكترث لبلغاريا ورومانيا، لكنه كان على دراية بأن الأمر لن ينتهي عند هذا الحد؛ فالروس ابتغوا الاستيلاء على قارص، ولطالما تاق الفرنسيون إلى اغتنام بلاد الشام، أما اليونانيون، فلن يهدأ لهم بال حتى يحكموا قبضتهم القذرة على إسطنبول. «يرى عثمان باشا أنه من الأفضل سحب رجاله إلى أدرنة، لكنه لن يفعل ذلك دون موافقتك.»
استشار السلطان مستشاره. وكان لجمال الدين باشا، ذلك الرجل القصير السمين ذي الوجه الشديد الحمرة، أنف كبير بدرجة لافتة، على جانبيه عينان تشبهان انحناءة سن القلم، ويختط تحته شارب رفيع. «وماذا ترى أنت؟» «في هذه الحالة، يتحتم علي أن أتفق مع عثمان باشا؛ فأدرنة هي الموقع المثالي الذي سيمكننا منه أن ندافع عن العاصمة إذا لزم الأمر، وأخشى أن هذا وارد الحدوث.» «هذا هو رأيك؟» «هذا هو رأيي يا جلالة السلطان، ولا يمكنني أن أرى غير ذلك.»
كان هذا هو العيب الأكبر في جمال الدين؛ فرغم أنه كان أفضل بمراحل، مشورة وولاء، من الصدر الأعظم السابق لدى عبد الحميد، فإنه كثيرا ما دهسته عجلة الأحداث في خضم وقوعها، وفتنته للغاية مكانته الخاصة في التاريخ. ومن وجهة نظره، كان كل تمرد بداية ثورة، وكل تجسس بداية انقلاب، وكل حرب نقطة تحول في ميزان القوة. ومع أنه كان شديد الذكاء، لم يكن جمال الدين باشا قادرا على النظر على المدى البعيد، والرجوع إلى الوراء ومراجعة موقفه، ولكنه كان صائبا في هذه الواقعة على وجه الخصوص. فعلى المرء أن يدافع عن إسطنبول مهما كلف الأمر.
قال عبد الحميد: «حسنا، لعثمان باشا مطلق الحرية في سحب قواته إلى أدرنة أو أي مكان آخر قد يراه مناسبا. والآن أخبرني يا جمال الدين باشا، ماذا لديك من أخبار أخرى؟»
عدل الصدر الأعظم عمامته، وحدق إلى الدفتر الأسود الصغير الذي يحتفظ به في جيب سترته العلوي، وبدأ يسرد أحداث الأيام الماضية. «نحن مستمرون في تحقيقنا بشأن تمرد الضابط. وصل العميد الجديد لكلية روبرت إلى إسطنبول منذ يومين، وثمة عدد هائل من التقارير حول التوتر الطائفي في سنجق نوفي بازار.»
شعر عبد الحميد بوخزة شفرة الموسى تحت أنفه وطرف بعينيه ليكتم عطسة. «أخبرني المزيد عن هذا العميد الجديد.» «بناء على أوامر جلالتك حاولنا ألا نزعجه أو نثير أي شكوك. وعليه، لم تكن التحريات التي قمنا بها شاملة كما ينبغي أن تكون، ولكننا نعرف الحقائق الأساسية، وهي الآتي: ولد في ولاية اسمها كونيتيكت، وتلقى تعليمه هناك، وبعدما أنهى تعليمه حصل على وظيفة بالجامعة الأمريكية في بيروت، وظل هناك طوال السنوات السبع الماضية، وأحدث وظيفة شغلها هي عميد شئون الطلبة.»
توقف الصدر الأعظم كي ينظر في دفتره.
ثم استطرد قائلا: «ثمة شائعات حوله، ولكنها غير مدعومة بالمرة بأي أدلة حتى الآن. أشار بعض معارفنا إلى أنه جاسوس أمريكي، وأشار البعض الآخر إلى أنه شاذ جنسيا.» «أليس هذان النشاطان متعارضين؟» «نعم يا جلالة السلطان، ليسا بمتعارضين.» «مع أن كليهما يتعارضان إلى حد ما مع مهنته.» «بالفعل يا جلالة السلطان، وأقسمت لي أيضا مدام كورفيل، وهي إحدى معارفنا في القنصلية الأمريكية، أنها التقت العميد من قبل باسم مختلف تماما عندما كانت تعيش في نيويورك، لكنها لا تستطيع أن تتذكر اسمه في ذلك الحين، ولا الظروف التي التقته فيها.»
قال السلطان: «استمر في رصد تحركاته، وأحطني علما إذا اكتشفت أي شيء مثيرا للانتباه.» «سأفعل يا جلالة السلطان.»
وبينما جهز الحلاق وعاء مليئا برغوة الصابون، مال عبد الحميد إلى الوراء ووضع ساقا على الأخرى، وحينها أدرك أنه غفل عن تبديل خفه المنزلي؛ فارتداء خف في هذا الجزء من القصر كان بمنزلة خرق صغير لقواعد الإتيكيت وآداب التصرف. ولكن إذا كان الصدر الأعظم قد لاحظ هذا، فإنه تكتم الأمر. «قبل أن أهم بالرحيل يا جلالة السلطان، ثمة مسألة أخرى قد تكون ذات أهمية.» «تفضل.» «ثمة تقارير تفيد أن منصف باركوس بك قد أنشأ مؤخرا جمعية سرية جديدة، وهو نفسه منصف بك الذي كان له دور نشط في حملة الترويج للدستور الذي كتب في ظل حكم سلفك.»
رد السلطان وهو غارق في التفكير: «منصف بك! أذكر هذا الاسم جيدا. أظن أننا منحناه وظيفة ما في ديار بكر.» «هذا صحيح يا جلالة السلطان. ولعلك تذكر أيضا أن وظيفته انتقلت في اللحظة الأخيرة إلى كونستانتسا.» «التي تقع تحت سيطرة الروس الآن.» «بالضبط، ولكن مدة بقاء منصف بك في منصبه انتهت للأسف العام الماضي، ومنذ ذلك الحين عاد إلى إسطنبول.»
أومأ عبد الحميد برأسه في غموض، وزفر وهو يشاهد الضوء يحيك نسيجا من اللونين الأصفر والأحمر على جفنيه. «هل نعرف طبيعة جماعته الجديدة؟ هل تمثل خطرا؟ أم أنها مجرد حلقة أخرى من حلقات القراءة الثيوصوفية التي يعقدها؟» «من الصعب معرفة ذلك يا جلالة السلطان.» «لننتظر ونر مجريات الأمور.» «حسنا يا فخامة السلطان، ومرة أخرى أعتذر لمقاطعة جلالتك أثناء الحلاقة.» «لا ضير في هذا مطلقا.»
وقبل أن يهم جمال الدين باشا بالرحيل أخبر السلطان بمعلومة أخيرة؛ حيث قال هامسا وهو يميل نحو السلطان إن والدة جلالته كانت تبحث عنه طوال الصباح، وقد بدا عليها الاستياء الشديد. شكر عبد الحميد - وهو يلمس انحناء فكه الأملس - مستشاره على هذه المعلومة، ونهض على نحو مفاجئ قاصدا مكانا أكثر انعزالا. ولم يكن هذا لأنه كان يتحاشى لقاء والدته، بل كل ما هنالك أنه أراد أن يفكر بمفرده في سقوط بلفن وعواقبه المتعددة قبلما ينشغل بمخاوف أي شخص آخر. غادر السلطان مجمع الحمامات من باب جانبي، ثم شق طريقه حول حافة حدائق الحريم، ومر بجدران سجن القصر، ثم سار وسط الحظائر الواقعة شمال الحديقة إلى ما يعرف باسم «حديقة الفيل»، التي سميت بهذا الاسم لأسباب يجهلها.
كان مبتغاه الوصول إلى بقعة ضيقة من أشجار المشمش والكريز اللاذع في الركن الشمالي الأقصى للحديقة، وهي بستان منعزل كثيرا ما يذهب إليه قصدا للتفكير. زرعت تلك الأشجار منذ قرنين بناء على أمر من السلطان أحمد الثاني، وأصبحت بمرور السنين المكان المفضل للسناجب والطيور الصغيرة الذي يعج بثرثرتها وضجيجها. اكتشف عبد الحميد البستان الذي كاد يخلو دائما من الزوار من البشر عندما كان أميرا صغيرا في بلاط أبيه. والآن بعدما صار هو نفسه سلطانا، وصار الآن أمره مطاعا من مدينة سالونيك حتى البصرة، يذهب عبد الحميد إلى هناك كثيرا للقراءة ومشاهدة الطيور بموازاة الماء.
بعد أن تأمل السلطان عواقب انسحاب عثمان باشا، حمى عينيه من الشمس، ونظر بعيدا لتلألئ مياه البوسفور؛ راجيا أن يمسك بجمهرة مبكرة من طيور اللقلق أو مجموعة بعيدة المنال من طيور جلم الماء، ثم تتبع بنظراته سربا من طيور السمام وهي تنحني فوق الممرات المائية الممتدة من برج جالاتا إلى محطة قطار حيدر باشا الجديدة في حي قاضيكوي. وبخلاف طائر السمام، لم يكن يوجد ما يسترعي الانتباه بدرجة خاصة سوى التشكيلة المعتادة من طيور النورس وغراب البحر والسنونو. «ها أنت ذا.»
لم يكن عبد الحميد في حاجة لأن يلتفت، فهو يستطيع أن يميز صوت أمه في أي مكان. ومع ذلك استدار بالفعل، وقبل يدها ثم تزحزح ليفسح لها مكانا على المقعد. وعلى الرغم من أنها قد عمدت قصدا إلى قطع حبل أفكاره، وتجاهلت مرة أخرى أن تخاطبه باللقب الذي يليق به، فإنها أمه. «صباح الخير يا أمي. إنه صباح رائع، أليس كذلك؟»
قالت وهي ما زالت واقفة: «بلى، إنه صباح رائع. وأنا نادمة عن جد على مقاطعة استمتاعك به.» «من فضلك يا أمي اجلسي، فأنت تزيدين استمتاعي.»
قالت له: «لدي طلب صغير فحسب يا جلالتك، وعندئذ سأغادر.»
كانت أمه على قدر فائق من الجمال، حتى مع تقدمها في العمر. إنها قطعا فقدت قوامها الرشيق، وسطرت الحياة علامات الخبرة على وجهها، ولكنه ما زال في إمكانه أن يرى آثار ما جذب والده إليها بقوة.
استهلت كلامها وهي تقبض يديها خلف ظهرها قائلة: «كما تعلم، سيقيم القصر الأسبوع المقبل عشاء على شرف السفير الفرنسي وزوجته.»
قطب عبد الحميد حاجبيه؛ لقد كان السفير الفرنسي رجلا متعجرفا واضح الأغراض بدرجة مزعجة. ولم تكن زوجته أفضل منه حالا؛ فهي امرأة حمقاء بدينة كرست حياتها لإقامة الحفلات ورد التفاهات الاجتماعية. «أعلم أنك لا تميل إليه، لكن حفل العشاء تأخر طويلا، ونحن في حاجة إلى كل الدعم الذي يمكننا الحصول عليه إذا ما أردنا أن نكون قوة موازنة للروس.»
قال السلطان: «نعم، بالفعل علينا ذلك.»
لم يستطع أن يستشف من تعليق والدته ما إذا كانت قد تلقت أخبارا عن هزيمة عثمان باشا في بلفن أم لا. وتحسبا لعدم سماعها بالأمر، احتفظ عبد الحميد بأفكاره لنفسه.
استرسلت والدته قائلة: «لعلك تذكر أن السفير مغرم بكافيار البيلوجا على وجه الخصوص؛ فهو كثيرا ما يأتي على ذكر هذه الحقيقة في مراسلاته معي ومع الصدر الأعظم.» «أجل، أذكر أنه ذكر شيئا عن الكافيار. وإني متأكد أنك ستحرصين على تقديمه في العشاء.» «إنه في قائمة الطعام بالفعل يا جلالتك، ولكن لسوء الحظ أخبرني موسى بك هذا الصباح أن كافيار بيلوجا نفد من المخزن، وقال إنه طلب شحنة جديدة، لكنها تأخرت بسبب أعمال العنف المندلعة في المنطقة، ولن تصل إلا بعد انتهاء الحفل.» «يا له من سوء حظ شديد يا أماه!»
لطالما احتدم الخلاف بين والدة السلطان وموسى بك، حارس مخازن القصر، منذ أن كان السلطان أميرا صغيرا. وبالمقارنة بصراعات القصر، لم يكن هذا الخلاف خطرا نسبيا؛ بل مجرد حرب استنزاف رغب كل طرف فيها فيما هو أكثر قليلا من مجرد مضايقة خصمه. وبدأ عبد الحميد يشك مؤخرا أن نفور أمه العام من اليهود نبع من سنوات عراكها مع موسى بك، مع أنه كان يمكن أن يكون العكس تماما بكل سهولة.
قالت: «توجد عشر علب من سمك الحفش في المخزن.» «سيفي سمك الحفش بالغرض.»
واسترسلت قائلة: «هذا سيناريو أسوأ الفروض، وهو ليس شديد السوء في ضوء المعاناة الهائلة حولنا، ولكن في ضوء ما نعرفه من امتداح السفير لكافيار بيلوجا على وجه التحديد، واحتمال احتياجنا إلى مساندة حكومته في المستقبل القريب، رأيت أنه ربما يمكن أن أفتش جيدا عن بضع علب في مخزن حفظ اللحوم خاصتك، غير أن موسى بك لن يسمح لي بالدخول؛ فقد قال إن الدخول إلى هناك يقتضي أمرا صريحا من فخامة السلطان نفسه.»
حك السلطان أصابعه في الحبيبات الخشبية للمقعد. لماذا يأتيه الناس دائما بمثل سفاسف الأمور هذه؟ هل سلطان الإمبراطورية العثمانية في حاجة بحق إلى أن يشغل نفسه ببضع علب من الكافيار؟ لقد كانت لديه شئون أهم ليتفرغ لها؛ مثل شئون الدولة وشئون الحرب والعلاقات الدبلوماسية الدولية.
قال السلطان باذلا قصارى جهده كي يحتوي غضبه: «سأطلب منه ذلك صراحة.» «ثمة أمر آخر يا جلالة السلطان.» «ما هو يا أمي؟»
قالت وهي تحدق إلى قدميه: «يبدو أن خفيك قد أفسدتهما رطوبة الحدائق. وإذا راق لك أن أحضر لك خفا آخر أو حذاء فأنا في خدمتك.» «كلا. شكرا لك يا أمي، لكن أظن أن لا حاجة لي بتغييره الآن.» «حسنا.» هكذا قالت، ثم استدارت لترحل وهي منحنية.
الفصل الثالث
على الرغم من جهود روكساندرا المتكررة لترويع الهداهد، جثمت الهداهد التي شهدت مولد إلينورا على نحو دائم في شجرة تين خارج منزل كوهين، فأصبح الممر الأمامي مغطى دائما بطبقة لزجة من فضلات الطيور الخضراء والبيضاء. في البداية لم يكن واضحا سبب الإصرار الشديد للسرب على سكنى هذه الشجرة بعينها؛ لماذا يتحملون المكنسة والمواد المبيضة والمياه المغلية في حين كان يوجد عدد كبير من المآوي القريبة الأكثر ترحيبا، ولكن أصبح جليا بمرور الوقت أن انجذابهم ارتبط بطريقة ما بإلينورا، كما لو كانوا يعتبرونها جزءا من سربهم ؛ الملكة التي من دونها تصبح حياتهم بلا معنى؛ فهم ينامون عندما تنام، ويقفون حراسا لها عندما تستحم، وينفصل جمع صغير عن السرب ليتبعها عندما تغادر المنزل. اتسمت هذه الطيور بالغرابة في مظهرها وسلوكياتها، ولكن في نهاية المطاف بات سرب إلينورا جزءا من الحياة اليومية؛ شيئا ثابتا ومألوفا فوق إيست هيل. ولم يكن أهل المدينة يعيرونه انتباها أكثر من الذي يعيرونه للحمام المصطف بطول مزاريب فندق كونستانتسا. وفي نهاية الأمر استسلمت روكساندرا لتنظيف الممر الأمامي كل أسبوع بالماء الساخن والمواد المبيضة.
ربما كان أمر الهداهد سيثير مزيدا من الغرابة ما لم تكن إلينورا نفسها مخلوقا استثنائيا. فعندما كانت رضيعة بين ذراعي مرضعتها، كان يستطيع المرء أن يميز بالفعل اللمحات الأولى التي ستزهر فيما بعد وتتحول إلى جمال أخاذ هادئ؛ متمثل في وجنتيها الجذابتين الحمراوين اللتين تتوجهما بضع خصلات من الشعر المجعد، وعينين خضراوين واسعتين بلون زجاج البحر، وأسنان لبنية كمعكبات العاج الصغيرة. وقلما كانت تصرخ، وقد خطت خطواتها الأولى في الشهر الثامن، وفي عمر السنتين كانت تنطق بجمل كاملة. وكانت تؤثر على المحيطين بها بمنطق طفولي، مع أنه اتسم بالدقة على نحو مذهل، وجذبت قوة حضورها - ذلكم البهاء والنقاء الداخليان اللذان لا يمكن وصفهما - الناس إليها من كل أنحاء السوق محملين برغبة لتقبيل جبهتها فحسب. ورغم هذا التفرد الذي لا شك فيه، كان معظم طفولة إلينورا عاديا للغاية؛ فقد أمضت أيامها تنام وتأكل وتستكشف العالم من حولها، وتلعب باستخدام الملاعق الخشبية والأواني في المطبخ، أو تستغرق في تأمل نقش على إحدى السجاجيد في غرفة المعيشة.
ومن بين ذكريات إلينورا المبكرة الحكايات التي كان والدها يقصها عليها أحيانا بعد العشاء. فعندما كانت تتسلق حجره، كانت تستطيع أن تشعر بملمس سترته الصوفية الخشنة على ذراعها. صوت طقطقة النيران، ورائحة الجلد البالي للمقعد، وروكساندرا ترتق الملابس في زاوية الغرفة. وقبل أن يستهل يعقوب قصته، يضع يده في جيب معطفه، ويخرج حفنة ضئيلة من قطع التوباكو الصغيرة، ثم يحشوها في غليونه بالجانب المسطح من إبهامه . وكانت فوهة الغليون على شكل رأس أسد لونه بني مذهب، منحوت من حجر يسمى المرشوم. حبست إلينورا أنفاسها، بينما أخرج والدها علبة الثقاب من جيب معطفه، وأشعل أحد أعواد الثقاب، وقربه من التاج الذي يعلو رأس الأسد. بدا هذا المشهد كما لو كان طقسا من الطقوس القديمة وهم الوحيدون المتبقون لحراسة أسراره. وبعد أن سحب عدة أنفاس من الغليون لإحمائه، وضع إحدى يديه على كتفها وسألها إن كانت تبتغي أن تسمع قصة. وبالطبع، كانت توافق دائما.
كانت قصص أبيها تدور حول الحكماء والرحالة والتجار والحمقى، وكانت قصصا عن بوخارست وباريس وفيينا وجميع المدن البعيدة الأخرى التي زارها في ريعان شبابه، ومدن أخرى مثل لانتشو وأنديجان وبرسبوليس وسمرقند؛ مدن ذات حدائق معلقة، وبروج شاهقة تطاول عنان السماء، وناس أكثر مما يمكنك أن تتخيل؛ مدن بها نمور تتربص في الظلال، وأفيال تدب وسط الشارع؛ مدن قديمة قدم الجبال تعج بالسحر الخير والشرير. لقد زار والدها كل أنحاء العالم، وشاهد أماكن أكثر مما يستطيع حصرها، لكن مدينته الفضلى عن كل المدن الأخرى كانت محور ارتكاز القارات العريق، موطن آيو وجوستينيان، موضع حسد قنسطنطين وسليم، لؤلؤة البوسفور، الجوهرة المتلألئة في مركز الإمبراطورية العثمانية. كانت مدينته الفضلى هي إسطنبول، وهناك دارت أحداث أفضل حكاياته.
بخلاف قصص والدها، تمثلت أولى ذكريات إلينورا في واقعة حدثت بعد عيد ميلادها الرابع مباشرة. كان عصر يوم كئيب هادئ في مطلع الخريف، عندما لاحظت للمرة الأولى قوة تركيزها. جلست إلينورا القرفصاء تحت أقدام الطماطم المعترشة، وهي حافية القدمين، ترتدي ثوبا بسيطا أحمر اللون مصنوعا من القطن، تحفر بأصابعها حفرة في الأرض الرطبة المتكتلة. هب على التل نسيم دافئ، وكانت الهداهد تلغو فيما بينها، ومن الخلف يمكن للمرء أن يرى الطريق المؤدي إلى نافوداري. وكانت قد أمسكت لتوها بحشرة رمادية لامعة، وأخذت تشاهدها وهي تبسط جسدها في راحة يدها، بينما تناهى إلى مسامعها صوت خشخشة قادم من حافة الحديقة. كان ظبي يطل في تردد برأسه من الغابة. شاهدته وهو يخطو خطوة للأمام نحو رقعة البصل، ثم نصف خطوة إلى الوراء. ولم تكن رؤية ظبي في الحديقة بالشيء الغريب، لكن ثمة شيء ما في هذا الظبي الصغير بعينه لفت انتباهها. وبعد مراقبته لبضع دقائق وهو يتحرك وسط أشجار الطماطم، قررت أن تتبين أمره.
أعادت إلينورا الحشرة إلى حفرتها، ثم نهضت وعبرت الحديقة. لم يتحرك الظبي، مع أنه بدت عليه أمارات القلق لكونه على هذه الدرجة من القرب من إنسان. وقفت إلينورا على حرف رقعة البصل، على مسافة أقل من ذراع من الظبي، فاستطاعت أن تشعر بأنفاسه الدافئة الرطبة على جبهتها. ونظرت إلى ثبات عينيه اللامعتين، ثم مدت يدها ببطء لتضعها عند الجزء السفلي من رقبته. ظل الظبي ساكنا في مكانه. وبخلاف رجفة فتحتي أنفه وانبعاث نفسها الخفيف، وقف كلاهما بلا حراك تماما.
عندئذ، وفي حركة واحدة، أخذ الظبي خطوة إلى الوراء وخفض قرنيه، رافعا ساقه اليسرى كما لو كان جنديا يقدم سلاحه للمعاينة. وعلى الفور أدركت إلينورا سبب انزعاج الظبي، وعرفت ما عليها أن تفعله. كانت توجد فوق حافره مباشرة شوكة؛ قطعة معدنية معقوفة مدفونة على عمق كبير داخل اللحم. بدا الظبي وكأنه قد اخترق أحد الأسوار، أو لعلها أداة صيد علقت به. أزاحت إلينورا خصلة شعر عن عينيها، ثم أمسكت بالطرف المجروح بيدها وتفقدت الجرح. كانت الأوردة المحيطة به تنبض بشدة، وتجمعت رغوة بيضاء على القطعة المعدنية. انتصب شعر ساق الظبي حين قربت إلينورا يدها الأخرى منها. ثم طرفت بعينيها، وبسحبة واحدة سريعة انتزعت الشوكة.
بينما كانت إلينورا تشاهد الظبي وهو يقفز بعيدا عبر الغابة، اقشعر بدنها للتفكير فيما فعلته توا. راحت الهداهد فوقها تغرد بصوت مبحوح، وبدا صوت انسحاق الأعشاب تحتها كأنه تصفيق خفيف، ولكن الاحتفاء بها لم يدم طويلا؛ فبعدها بلحظة أمسكت من تحت إبطيها وحملت إلى الحمام.
قالت روكساندرا وهي تنزع عنها فستانها: «ممنوع منعا باتا أن تفعلي هذا مرة أخرى، فلو عرف هذا الخبر ...»
وقفت إلينورا مطأطئة رأسها ترتعش في منتصف الحمام، بينما كانت روكساندرا تعد لوفة الاستحمام. لم يسبق أن رأت إلينورا خالتها في تلك الحالة؛ فقد بدت مرتجفة، بل كادت تكون مرتعدة. «ماذا تقصدين يا روكساندرا؟ ما الذي جنيته؟»
بدلا من أن تجيبها، أخذت روكساندرا تحك جسدها بقوة باستخدام لوفة مبللة بالصابون، بادئة بالذراعين ثم اليدين، ولا سيما بين الأصابع.
قالت إلينورا منتحبة: «من فضلك، أخبريني ما الخطأ الذي اقترفته؟ لا أستطيع أن أكون بحال أفضل ما لم أعرف ما الذي جنيته!»
توقفت روكساندرا عن حك جسدها. «ليس من الجيد أن نلهو مع الحيوانات. أخشى أن يراك أحد من الناس! كفانا ما لدينا من مشكلات بسبب شكوك الناس في اليهود واشتغال والدك في توريد السجاد باستمرار إلى إسطنبول. وآخر ما نرجوه هو لفت المزيد من الأنظار إلينا.»
قالت إلينورا: «لكنه كان مجروحا. كانت توجد قطعة معدنية مغروسة في ساقه، وأرادني أن أساعده.»
غمست روكساندرا اللوفة في الماء البارد، وأخذت تحك جسدها مرة أخرى. «لا يعنيني ما ظننت أن هذا الظبي يريده. لا أريد أبدا أن أراك تفعلين شيئا كهذا مرة أخرى، ولا أريدك أن تخبري أي شخص بهذا الموضوع، ولا حتى والدك. أتفهمينني؟»
كانت إلينورا أذكى من أن تعترض، وعندما فرغت من الاستحمام اعتذرت بشدة لروكساندرا عما بدر منها، ووعدتها ألا تلهو أبدا مع الحيوانات مرة أخرى. وظنت إلينورا أن الموقف قد انتهى عند هذا الحد، وقد كانت محقة من ناحية ما في ذلك؛ إذ لم تأت خالتها قط على ذكر الواقعة مرة أخرى، إلا أن إلينورا لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في أن ثمة علاقة ما بين الظبي وما أعلنته روكساندرا في صبيحة اليوم التالي وقت الإفطار؛ حيث قالت إنه آن الأوان كي تبدأ إلينورا في تعلم مهارات التدبير المنزلي. فهذه المهارات سوف تنفعها أيما نفع لبقية حياتها، وسوف تساعدها في جذب زوج مناسب، والأهم أن اليد البطالة نجسة. ومع أن يعقوب أبدى بعض التحفظات بشأن هذه الخطة، فإنه خول سلطته في هذه المسألة إلى روكساندرا، التي أكدت له أن إلينورا قادرة تماما على أداء المهمة. وهكذا حسم الأمر.
قالت روكساندرا: «سيكون الدرس الأول تعلم الحياكة.»
وضعت روكساندرا يدها في جيب مئزرها الأمامي، وأخرجت أحد مناديل يعقوب القديمة وإبرة وبكرة خيط. «أترين هذا؟»
مالت فوق كتف إلينورا وأشارت إلى غرز عظام السمك الزرقاء بطول الحافة الخارجية للنسيج. أومأت إلينورا برأسها إيجابا، ثم سندت مرفقيها على الطاولة وأسلمت ذقنها إلى راحة يديها. «كرري النقش نفسه بطول الحافة الداخلية. وإن كانت لديك أي استفسارات، فأنا في المطبخ.»
نظرت إلينورا إلى الإبرة والخيط الملتف مثل ثعبان في منتصف النسيج. لن يكون هذا ممتعا على الإطلاق، لكن لم يكن بوسعها أن تفعل أي شيء كي تعترض. أمسكت إلينورا بالإبرة بين إبهامها وسبابتها، ثم حدقت إلى ثقبها. وبعد أن أغمضت عينيها نصف إغماضة، ضغطت طرف الخيط بين الإبهام وسبابة اليد الأخرى، وبتركيز شديد تمكنت من أن تدخل الخيط في ثقب الإبرة. تصير الحياكة سهلة بمجرد إدخال الخيط في الإبرة. صنعت إلينورا الغرزة الأولى وهي حذرة كي لا توخز نفسها ثم سحبت الخيط بإحكام، ثم صنعت غرزة ثانية، وثالثة، ورابعة. لم يكن النقش صعبا للغاية؛ فكل ما هنالك أنها تصنع الصفين نفسيهما مرارا وتكرارا، ثم تكرر الشيء نفسه حول حافة النسيج. كان عملا مثيرا للضجر، لكنه لم يكن شديد الصعوبة.
هكذا كان شكل حياة إلينورا في الأشهر التي أعقبت حادثة الظبي؛ كانت حياة مضجرة لكنها ليست بالغة الصعوبة. كانت تساعد روكساندرا في الأعمال المنزلية؛ تمارس الحياكة وتقشر الخضراوات، تنفض الأتربة وتنظف الممر الأمامي. وفي يوم الأربعاء من كل أسبوع تنظفان معا الأرضيات، وفي أيام الآحاد تغسلان الملابس، أما يوم الإثنين فتنزلان إلى أسفل التل لارتياد السوق حيث علمتها روكساندرا للمرة الأولى فن التفاوض على الأسعار. لم يكن التدبير المنزلي بالسوء الذي توقعته إلينورا، وبصرف النظر عما كان يتعين عليها القيام به في الصباح أو بعد الظهيرة، كانت على الدوام تتطلع إلى حلول الساعة السادسة، تلك الساعة المبهجة التي تسمع فيها دون أن يخيب أملها أبدا صوت مقبض الباب وصرير وقع أقدام والدها على العتبة. كانت إلينورا تركض نحوه وتدفن وجهها في سترته، مستنشقة الرائحة التي تبدو كغبار الصوف الممزوج بشراب الكركديه، وكانت توقن في تلك اللحظات أن كل شيء سيكون على ما يرام.
في الربيع الذي سبق عيد ميلاد إلينورا السادس، ذلك الوقت الذي كانت قد تعلمت بحلوله أساسيات التدبير المنزلي جيدا إلى حد ما، اقترحت روكساندرا أنه ربما حان الوقت لأن تبدأ إلينورا تعليمها الأكاديمي؛ فرجال هذا الزمن يريدون امرأة تستطيع القراءة والكتابة والحساب؛ امرأة بمقدورها أن تراجع الحسابات وتطلب من القوائم. لم يمانع يعقوب في توسيع مدارك ابنته، وهكذا حسم الأمر. وعليه، فقد بدأتا في هذا الصباح نفسه بأول كتاب قراءة كانت تقرؤه روكساندرا في شبابها، وهو كتاب أخضر صغير كان بحالة جيدة على نحو مثير للدهشة. وفي وقت الغداء، كانت إلينورا قد تمكنت من تعلم الحروف الأبجدية، وشكل كل حرف، والأصوات المختلفة لكل حرف طبقا لموقعه في الكلمة. وبحلول وقت العشاء كانت قادرة على تركيب الجمل. وفي مساء هذا اليوم، حفظت درسها الأول، وكان محاضرة حول عادات التماسيح. رددت إلينورا، وهي تدير ظهرها للمدفأة ويداها متعانقتان أمامها، الدرس بأكمله أمام والدها وروكساندرا. «أكان هذا صائبا؟»
التفتت إلينورا إلى خالتها التي كانت تنظر في الكتاب لتتابع ما تقوله.
قالت خالتها ووجهها يكتسي باللون الشاحب الذي يدل على الدهشة: «أجل، بدقة متناهية!»
أخرج يعقوب الغليون من فمه، وأمعن النظر في ابنته في فضول، كما لو كانت شخصا التقاه في مكان ما منذ أمد بعيد ويحاول أن يتذكر اسمه. «متى تعلمت هذا الدرس يا إيلي؟» «اليوم بعد العشاء يا بابا.» «وتعلمت هذه الفقرة بأكملها الآن فحسب؟»
أخذت إلينورا تحول نظرها من والدها إلى روكساندرا جيئة وذهابا. «هل قلت شيئا خطأ؟»
شعرت إلينورا بدفء النيران في مؤخرتي ساقيها بينما كانت تنتظر ردا منهما. «لا يا إيلي، لم تقولي شيئا خطأ على الإطلاق. كل ما هنالك أننا شعرنا بالذهول، أو أنا على الأقل، من سرعة تعلمك للدرس.»
قالت روكساندرا وهي تقلب في صفحات الكتاب: «هذا غير معقول، كان ينبغي أن يستغرق هذا شهرا على الأقل، ربما أسبوعين بالنسبة إلى طفل شديد الذكاء.»
أخذ يعقوب نفسا عميقا من غليونه، ثم التفت إلى ابنته. «أخبرينا كيف فعلت هذا يا إيلي؟»
لم تعرف بم تجيب. كيف لها أن تفسر شيئا غاية في البساطة؟ لقد تعلمت الحروف، وبشيء من التركيز قامت بذلك.
أجابت إلينورا وهي تخطو خطوة صغيرة مبتعدة عن المدفأة التي صارت شديدة السخونة على نحو غير مريح: «فور أن تعلمت صوت كل حرف، فور أن أتقنت هذا، كنت أنظر إلى الكلمات وأسمعها في رأسي. وما إن استطعت سماع الكلمات في رأسي، حتى كان من السهل حفظ الدرس.»
في تلك الليلة تناهى إلى مسامع إلينورا شجار دار بين والدها وخالتها، ولم تستطع أن تسمع بالتحديد ما كانا يقولانه، لكن بين صوت طرق القبضات وصفق الأبواب، فهمت أن والدها كان مع استمرار تعليمها، في حين أن خالتها كانت تعارض ذلك. وفي صباح اليوم التالي عند الإفطار، صرح والدها أنه سيتولى تعليمها الأكاديمي في حين أن روكساندرا ستظل مسئولة عن تعليمها المنزلي. أومأت روكساندرا برأسها باقتضاب وهي تغطي قطعة من الخبز بالزبد. ومنذ ذلك الصباح، صار يوم إلينورا مقسوما بين هذين العالمين؛ ظلت أوقات الصباح وبعد الظهيرة مشغولة بالإبرة والخيط ومنفضة الريش وفرشاة تنظيف الأرضيات، أما أوقات المساء فقد خصصت للدروس الأكاديمية فحسب.
على مدار الأسابيع القلائل الأولى، انصب تعليم إلينورا الأكاديمي في المقام الأول على حفظ الدروس من كتاب القراءة، ووصف العواصم الشهيرة، ومحاضرات حول عادات الحيوانات المختلفة، وقصص قصيرة عن أطفال تستهويهم إثارة المتاعب والأفعال المشاغبة. لكن سرعان ما بات جليا أنها على استعداد لتلقي مواد قراءة أكثر تقدما. وحينها انتقلا إلى المكتبة التي تقع في ركن غرفة المعيشة؛ وهي ذات تصميم فخم من خشب الدردار يزينه على كلا الجانبين زوج من القطط الصينية الخزفية، وأرففها مليئة عن آخرها بفيض غزير من الكتب المجلدة بالأغلفة الحمراء والزرقاء والخضراء والسوداء، منها الطويل والقصير، والسميك والرفيع، وكعوبها مزخرفة بكل أشكال الكتابة. وطوال الأشهر الستة التالية قرأت إلينورا الكثير من الكتب الموجودة بالرف السفلي، فكانت تجلس على حجر والدها وهو يدخن غليونه ويتخلل شعرها بأصابعه بين الحين والآخر. قرأت إلينورا «خرافات إيسوب»، و«رحلات جليفر»، و«الفرسان الثلاثة»، و«روبنسون كروزو»، و«ألف ليلة وليلة». وبالإضافة إلى القراءة، علمها والدها الكتابة والحساب وأصول اللغة التركية، وقد أتقنتها جميعا بسهولة مذهلة.
ومراعاة لما أطلق عليه والدها مخاوف روكساندرا، أخبرت إلينورا مرارا وتكرارا أنه يحظر عليها تحت أي ظرف التحدث عن دروسها خارج المنزل. ولم تع إلينورا الغرض من هذه القاعدة، لكنها التزمت بها على أي حال؛ حيث إنها تعلمت منذ زمن طويل أنه من الأفضل الامتثال لمخاوف روكساندرا، سواء أكانت منطقية أم لا. وعلى أي حال، لم تكن هذه قاعدة يصعب الالتزام بها كثيرا؛ فبخلاف العطلات والنزهات التي يذهبون إليها بين حين وآخر، لم تكن إلينورا تغادر المنزل سوى مرة واحدة أسبوعيا عندما تذهب روكساندرا للتسوق في سوق يوم الإثنين.
وفي أحد أيام الإثنين، في مطلع الربيع في عام إلينورا السابع، كانت روكساندرا وإلينورا تنهيان تسوقهما في متجر العاديات الخاص بالسيد سيداميت عندما بدأت السماء تمطر. كانت عاصفة مفاجئة وشديدة، دفعت جميع من بالسوق إلى اللجوء إلى مأوى من المطر. وجد باعة الفاكهة مأوى لهم في رواق صغير بعيدا عن ساحة المدينة، أما الهداهد التي كانت تتبع إلينورا عبر التل فقد جثمت تحت سقيفة فندق كونستانتسا. واحتشد عدد من الناس في متجر السيد سيداميت متظاهرين بالتفكير في شراء برطمان الشمندر هذا أو علبة البطارخ هذه. وفاح المتجر برائحة السراويل المبللة، وامتلأ البرميل المتاخم للباب بالمظلات.
قالت روكساندرا وهي تجذب إلينورا نحو الخزينة: «مساء الخير.» ومدت إلينورا عنقها فلفتت نظر موظف شاب يدعى لورنتيو.
قال الموظف: «مساء الخير أيتها السيدة كوهين.» ثم انحنى فوق الخزينة وأعطى إلينورا قطعة حلوى قائلا: «مساء كثير الخيرات أيتها الآنسة كوهين.»
يعمل لورنتيو - ذلك الصبي ذو الشعر الأشعث والابتسامة الودودة - في متجر السيد سيداميت منذ وقت طويل على قدر ما تستطيع أن تذكر إلينورا. وكان يتميز بروح طيبة، رغم أنه كان بطيئا في عمله، وأكثر من مرة وضع بضاعة أخرى خلاف ما تريدان في حقائبهما، وكانتا تضطران أن تهبطا التل مرة أخرى لاستبدالها.
قالت روكساندرا: «نريد كيلوجراما من الفاصوليا، وقطعتين من هذا الصابون الأخضر الموجود هناك بالأعلى، وكيلوجراما من العدس الأصفر، و...» ثم توقفت لتنظر في قائمتها، ثم استرسلت قائلة: «بكرتي خيط، وعلبة حلوى، ومائة جرام من الكمون.» «هل هذا كل شيء أيتها السيدة كوهين؟» «أجل.»
بعد أن كرر لورنتيو القائمة على مسامعه، راح في أرجاء المتجر يجمع كل شيء طلبته روكساندرا، مكوما الأغراض في ذراعه اليسرى، بينما كان يضع البضائع الكبيرة في أكياس بيده اليمنى. وبعدها بلحظات عاد محملا بالأغراض، ملفوفة بإتقان في ورق بني ومربوطة بحبل. «روبلين بالتمام.»
أخرجت روكساندرا حافظة نقودها، وكانت تعد النقود في يدها عندما رفعت إلينورا يدها كي تشد كم ثيابها. «ينبغي أن يكون الحساب روبلا ونصفا يا خالتي روكساندرا.»
تظاهرت روكساندرا بأنها لم تسمع، وأعطت الفتى النقود. «شكرا لك لورنتيو.»
أصرت إلينورا وهي تشد كم ثيابها بقوة: «لكن يا خالتي روكساندرا ينبغي أن يكون الحساب روبلا ونصفا فقط.»
قالت روكساندرا وهي ترفع صوتها: «لا تكوني سخيفة. أتظنين أنك تعرفين الأسعار أفضل من لورنتيو؟»
ولأن روكساندرا كانت تعي وجود الزبائن الآخرين، أحكمت قبضتها على إلينورا من مؤخرة ياقة ثوبها، وهمت بجذبها نحو الباب، ولكن صوتا قادما من ناحية الخزينة الأخرى أوقفهما. «كم قلت إنه ينبغي أن يكون الحساب؟»
كان هذا صوت السيد سيداميت، وهو أحد أبناء إقليم دوبروجا، ذو وجه يشبه سدادة القنينة، وكان يزورهم في المنزل بين الحين والآخر لاحتساء الشاي مع يعقوب بعد تناول العشاء.
كرر السيد سيداميت سؤاله وهو ينحني نحوهما بأدب: «كم قلت إنه ينبغي أن يكون الحساب؟ لا نريد أن نغرمك سعرا أكبر من السعر الحقيقي أيتها السيدة كوهين.»
شعرت إلينورا بارتخاء القبضة عن ياقتها.
قالت روكساندرا وهي تمط شفتيها استهجانا: «تكلمي ، أخبريه ماذا قلت.»
رفعت إلينورا عينيها مرة أخرى نحو خالتها قبل أن تهم بالكلام.
قالت إلينورا وهي تعدل ثيابها: «ينبغي أن يكون الحساب روبلا ونصفا فقط؛ فكيلو الفاصوليا ثمنه أربعون قرشا، وثمن قطعة الصابون الواحدة عشرة قروش، والعدس الأصفر ثمنه خمسة وثلاثون قرشا، وثمن بكرتي الخيط عشرون قرشا، وعلبة الحلوى بخمسة عشر قرشا، والمائة جرام من الكمون ثمنها ثلاثون قرشا. إذن الحساب مائة وخمسون قرشا.»
استغرق السيد سيداميت لحظة ليراجع الحساب في رأسه.
قال السيد سيداميت مخاطبا المتابعين للموقف، وكذلك أولئك المستغرقين فيه: «إنها على حق. ينبغي أن يكون الحساب مائة وخمسين قرشا. من فضلك يا لورنتيو، أعد إلى السيدة كوهين نقودها.»
هز لورنتيو منكبيه تعبيرا عن اعتذاره، ومد يده فأخرج عملة قيمتها نصف روبل وضعها على الطاولة، ولكن السيدة روكساندرا كانت في طريقها بالفعل إلى خارج المتجر.
قالت وهي تجذب إلينورا وسط الجمع: «أنا آسفة، هي لا تعرف عم تتحدث.»
كانت السماء لا تزال تهطل بشدة عندما غادرتا متجر السيد سيداميت، وقد غيمت السحب السماء، ووصل الطين الذي كسا الطريق حتى كاحليها، ولكن روكساندرا لم تكن في حالة مزاجية تسمح لها بملاحظة الأمطار، فقد أسرعت الخطى رافعة رأسها وحاملة أغراضها تحت إبطها، لا تعير الوحل أو إلينورا انتباها، ولم تلتفت للخلف قط، ولم تتفوه بكلمة حتى وصلتا إلى المنزل.
قالت روكساندرا وهي تصفق الباب بقوة هزت القطط الخزفية على قواعدها: «هذا ما عنيته بالتحديد، هذا بعينه ما قلت إنه سيحدث. من أجل هذا تحديدا قلت إنه لا بد من القضاء على هذه الدروس في مهدها. الآن سنصير حديث المدينة بأكملها، وآخر شيء نريده هو لفت المزيد من الأنظار إلينا؛ الأرمل وأخت زوجته العاقر اليهوديان يزاولان أنشطة تجارية مع الأتراك، والآن الابنة تجري الحسابات في ذهنها مصححة لعمال المتجر.» «لكن يا خالتي روكساندرا، ظننت فقط أن النقود ...»
قاطعتها روكساندرا مطلقة ضحكة عبر أنفها: «النقود! لتذهبي أنت ووالدك والنقود إلى الجحيم. سأخبرك شيئا واحدا فحسب أيتها الآنسة كوهين. لقد انتهت دروسك . لقد أخللت بالقاعدة؛ كانت ثمة قاعدة واحدة وأنت أخللت بها.»
اعترضت إلينورا وصوتها يرتعش: «لكنني لم أخل بالقاعدة؛ فأنا لم أتفوه بشيء عن دروسي.» «لقد أخللت بالقاعدة نصا وروحا. والآن اذهبي إلى غرفتك ولا تخرجي منها إلى أن أسمح لك بالخروج.»
عندما استيقظت إلينورا من نومها بعد مرور فترة غير معلومة من الوقت كانت مستلقية فوق لحافها، والوسادة فوق رأسها، وإبهامها لاصقة في سقف فمها. كان الطقس باردا والسماء بالخارج زرقاء لامعة. شعرت إلينورا كما لو كانت في عالم مختلف، أو على الأقل كما لو كانت شخصا آخر في العالم نفسه. وبعد أن أخرجت رأسها من تحت الوسادة، أخرجت إبهامها من فمها وابتلعت لعابها الجاف. وبينما هي في غرفة المعيشة، استطاعت أن تشم رائحة البطاطس المقلية وفطيرة اللحم المفروم، وتناهت إلى مسامعها ضحكات روكساندرا وصوت احتكاك المقاعد بالجدران. كانا يتحدثان، ولكنها لم تستطع أن تفسر تماما ما كانا يقولانه، ولكي تتمكن من السماع بمزيد من الوضوح، تسللت من فراشها وألصقت أذنها بالباب.
قالت روكساندرا: «والأهم أن هذا في مصلحتها. هل تذكر قصة عمتي الكبرى شايدل؟ لم أستطع أن أمنعها عن القراءة، وأمضت كل وقتها في المكتبة. وعندما حان وقت العثور على زوج، لم يردها أحد. فما كان من الخاطبة إلا أن عاملتها كمعاقة. أهذا ما تريده لها؟ أهذا ما تريده لابنتك؟»
ساد الصمت لبرهة، واستطاعت إلينورا أن تسمع صوت تقطيع اللحم. «كل ما أريده أن تكون إيلي سعيدة.» «نريد جميعا أن تكون إيلي سعيدة، ولكنها في حقيقة الأمر أخلت بالقاعدة.»
رد والدها بفم ملئ باللحم: «ربما نستمر في الدروس مرة كل يومين أو مرة واحدة في الأسبوع.» «لقد أخلت بالقاعدة. كانت توجد قاعدة واحدة فحسب، وقد أخلت بها.»
لم يجب والدها. «ثمة شيء غريب بها، وأنت قلت هذا بنفسك. والآن الجميع يعرفون، والآن الكل قد رآه.»
بعد لحظات من الصمت، سمعت إلينورا صوت جر مقعد بعيدا عن الطاولة، ثم تنحنح والدها. «سأذهب إلى غرفة المعيشة.»
استمرت إلينورا تنصت عبر ثقب الباب، بينما امتزج الدخان المتصاعد من غليون أبيها بصوت غسل روكساندرا للأطباق. وبعد مرور بضع لحظات من هذا الصمت غير المريح، عادت إلى فراشها، وبعد أن رقدت على جانبها كالجنين جالت بنظرها في أنحاء غرفتها الصغيرة؛ فاتجهت نظرتها من حوض غسل الوجه المتداعي ذي الأرجل الثلاث إلى العيب الذي يشوب اللوح الزجاجي بالنافذة وخزانة الملابس القصيرة العريضة أسفله. إنها لم تكن تنوي الإخلال بالقاعدة، كما أنها لم تقصد أن تضايق روكساندرا. كل ما هنالك أنها أرادت أن تفعل الصواب. استلقت إلينورا على ظهرها، ثم حدقت إلى السقف وشاهدت الظلال تتحرك في أنحاء غرفتها. هل يشوبها شيء غريب حقا؟ هي لم تشعر بكونها غريبة أو مختلفة أو يشوبها أي شيء بخلاف ما تظنه طبيعيا. أغمضت إلينورا عينيها وأنصتت إلى صوت الهدهدة الواهن الصادر عن سربها، وانجرفت في أفكار حول روبنسون كروزو العالق وحيدا على جزيرة اليأس المهجورة. إذا لم تستطع أن تواصل دروسها، فسيظل هو حبيسا هناك في عقلها إلى الأبد.
الفصل الرابع
لم يكن مصير دروس إلينورا مسألة مطروحة للنقاش؛ فقد أخلت بأهم قاعدة، بل في حقيقة الأمر القاعدة الوحيدة، ولا تكفي أي أعذار أو توسلات لإقناع خالتها كي تلين. ولكن تقديرا لسلوكها المطيع في الأشهر التي أعقبت الحدث الذي وقع في متجر السيد سيداميت، سمح لإلينورا أن تقرأ بغرض الاستمتاع بمعدل كتاب واحد في الشهر، وما زاد على ذلك سيفقد متعته كما عللت خالتها. ورغم أن إلينورا اختلفت معها في هذا الرأي، فقد التهمت حصتها الشهرية دون اعتراض، فكانت تكتفي قدر المستطاع بعدد محدود من الصفحات كل ليلة، وقرب نهاية الشهر تبذل قدرا هائلا من الوقت والطاقة في اختيار الكتاب التالي. قضت ليالي كاملة في موضع النظرة الخاوية للقطط الخزفية، متأملة محتويات المكتبة. وكانت تولي عناية خاصة للكتب نفسها؛ لدرجة اللون، ونسيج التجليد، وجودة الورق، وشكل الحروف على كعب الكتاب، كما لو كانت تلك الخصائص الخارجية قد تكشف إلى حد ما عن محتوى الكتاب.
ذات صباح ممطر في نهاية شهر سبتمبر، بعد عيد ميلادها الثامن بما يزيد قليلا على شهر، كانت إلينورا تتأمل المكتبة كالعادة وهي في انتظار ارتفاع درجة حرارة المكواة. بدأت بالرف السفلي كتابا كتابا وهي ترفع المكواة من على الفحم كل حين وآخر كي تفحص الحرارة. وبينما كانت إلينورا تكبر وتثبت كفاءتها، عهد إليها تدريجيا ببعض المهام المنزلية الأكثر صعوبة مثل تقطيع الخضراوات والحياكة، وكان الكي أحدث إضافة إلى مجموعة أدوارها، وسرعان ما أصبح أحد مهامها المفضلة. كانت تحب رائحة الفحم الثقيلة، والمقبض الخشبي الناعم، والخطوط المتموجة التي تصنعها وهي تضغط على سروال والدها. كانت مسئولية كبيرة، ولكنها كانت كفؤا لها، فلم تحرق أيا من ملابس والدها قط، وكانت دائما شديدة الحرص وهي تخرج الفحم من الموقد. وبالإضافة إلى ذلك، كان موقع الكي يتيح لها رؤية ممتازة للمكتبة.
عندما ارتفعت حرارة المكواة بما يكفي، أخذت إلينورا سروالين من سراويل والدها من الخزانة وبسطتهما، ونضحت حفنة من الماء على ثنية الساق، ولمست سطح المكواة السفلي بأطراف أصابعها المبللة، وبدأت تعمل وهي تراقب البخار المتصاعد وهو يتلاشى. وعندما انتهت من الساق اليسرى أعادت المكواة إلى مكانها على الفحم، وألقت نظرة أخرى على المكتبة. كانت قد قضت شهر أغسطس في قراءة «جين إير»، ومعظم شهر سبتمبر في مغامرات ديفيد كوبرفيلد، وكانت شديدة الحماس بشأن توقعاتها لشهر أكتوبر. تفحصت الرف العلوي محاولة استيعاب الخيارات المتاحة لها. كانت قد قرأت «عائلة روبنسون السويسرية» في شهر أبريل، وكان ثمة مجلد من القصص القصيرة لنيكولاي جوجول التي بدت مثيرة للاهتمام، ولكنها قصيرة جدا لا تستوعب شهرا بأكمله، ثم وقعت عيناها على رواية بعنوان «تريسترام شاندي». رفعت المكواة عن الفحم، ومس غطاء من البخار جبهتها مطلقا صوت الأزيز. كانت المكواة أكثر من ساخنة، فنضحت المياه على ثنية الساق اليمنى، وهمت بالضغط مرة أخرى عندما نظرت لأعلى ثانية نحو الرف. «تريسترام شاندي»، كان عنوانا جذابا، وبالطبع كتابا كبيرا بما يكفي كي يستوعب الشهر بأكمله.
نحت إلينورا المكواة جانبا، ووقفت على أطراف أصابعها وجذبت «تريسترام شاندي » من على الرف العلوي. وبعد أن قرأت بضع صفحات أدركت أنها ليست الرواية المناسبة التي تبحث عنها، على الأقل ليس لهذا الشهر. وبينما كانت تمد يدها مرة أخرى كي تضعها في مكانها لاحظت كتابا آخر يجذب الأنظار في المنتصف، وهو مجلد باللون الأزرق الداكن ذو كتابة باللون الفضي على كعبه. استندت براحة يدها إلى الحائط ورفعت قدمها إلى الرف الثاني، ودفعت نفسها إلى مستوى القطط الخزفية، ومن هذا الموقع استطاعت أن ترى أن الكتاب جزء من مجموعة أكبر، فهو المجلد الرابع من «الساعة الرملية» كما يوضح الكعب. وخلف مجموعة دوستويفسكي كانت المجلدات السبعة الأخرى، المجموعة الكاملة تقبع في صمت منتظرة أن يكتشفها أحد. جذبت إلينورا المجلد الرابع، وفتحته على مؤشر خشبي رقيق في منتصف الفصل الثاني عشر، وأخذت تقرأ:
في صباح اليوم التالي خرج الملازم بروشوف - يخالجه شعور طفيف بالندم - إلى حاميته العسكرية. وبينما كان يسير نحو الترام تعثر عقباه بالحصى مصدرين صوتا عاليا، ونظر خلفه أكثر من مرة كي يرمق زوجته الجديدة عند المدخل بإعجاب. وكان أقصى مبتغاه وقتها أن يستدير عائدا ويلقي بنفسه بين ذراعيها، وأن يقضي معها ذلك الصباح الربيعي الممل، وأن يقضي معها بقية اليوم. ولكن وا أسفاه، فالحياة ليست كلها رقصا وقبلات؛ فثمة أوراق كي توقع، وقضايا يختلف حولها، ومنتجات يجب أن تصنع، وحروب يجب أن تخاض. إنه أمر مؤسف، هكذا كان يرى. لكنه حقيقي؛ فستكون دائما ثمة حروب كي تخاض.
رفعت إلينورا رأسها عن الكتاب عندما استنشقت رائحة الصوف المحترق، فرأت أن المكواة قد سقطت وأحرقت سروال والدها. حدقت إلى العلامة التي صنعتها المكواة، والتي كانت بقعة في ثنية السروال بحجم حبة الفراولة زال عنها اللون، فتجمعت الدموع في عينيها. كانت روكساندرا على حق؛ فهي مشتتة الذهن، غارقة في أفكارها الخاصة. لا شك أن الأمر لن يمر بسلام، وربما لن يسمح لإلينورا بممارسة الكي مرة أخرى، وعلى الأرجح سوف تعاقب بطرق أخرى أيضا؛ فقد تحرم من تناول العشاء، وقد تحرم من امتيازات القراءة التي تتمتع بها. كل هذا من أجل خطأ صغير، من أجل علامة لن يلاحظها والدها. حتى إن لاحظها، فلن يهتم. ألم يكن رأيه هو ما يهم؟ فهو ليس سروال روكساندرا.
بهذا المنطق، وقلبها يخفق كقرع الطبل، انتهت إلينورا من كي السروال وطيه، ووضعت سروالا جديدا على طاولة الكي. وبعد لحظة سمعت صوت الباب الخلفي يفتح، ودخلت روكساندرا حاملة حزمة من البصل الأخضر في يدها. وبدا كما لو كانت ستتفوه بشيء ما عن البصل، ثم توقفت وتشممت الرائحة في اتجاه طاولة الكي. «ما تلك الرائحة؟»
تشممت إلينورا الرائحة في الاتجاهين وقلصت أنفها. «أي رائحة؟»
اقتربت إلينورا بوجهها من الطاولة. «تبدو كرائحة الصوف المحترق.»
تشممت إلينورا السروال الجديد والهواء فوقه والمكواة نفسها وهي تغمض عينيها كما لو كانت تحاول تحديد مصدر الرائحة. «أعتقد أنها قد تكون المكواة.»
دست روكساندرا أنفها في نفس المكان ثلاث مرات، وبدت على وشك إصدار الحكم نفسه عندما لمحت المجلد الرابع من «الساعة الرملية» مفتوحا على مقعد بجوار طاولة الكي. «الساعة الرملية!» قالتها كما لو كانت تقابل صديقا قديما في بلد غريب. «أين وجدت هذا الكتاب؟»
أشارت إلينورا إلى الرف العلوي من المكتبة.
ثم قالت: «خلف تريسترام شاندي، المجلد الأخضر الضخم. توجد مجموعة كاملة هناك في الخلف.»
التقطت روكساندرا الكتاب من غلافه الخلفي وقلبته على الغلاف الأمامي، وبينما كانت تقلب الورق تجعد كما لو كان قطعة من العجين الرقيق. «كان هذا كتابي المفضل عندما كنت أصغر سنا.»
ومررت أصبعها على الغلاف الداخلي. «أين وجدت هذا الكتاب؟»
أشارت إلينورا مرة أخرى إلى الرف العلوي من المكتبة. «خلف تريسترام شاندي.»
وقفت روكساندرا صامتة تتأمل غلاف الكتاب فترة طويلة قبل أن تتجرأ إلينورا على طرح سؤال. «هل تلك الكتب ملكك؟»
فقالت روكساندرا: «إنها ملك لوالدتك، لقد أهداها والدي تلك المجموعة في عيد ميلادها الرابع عشر، فقد كانت دائما طفلته الحبيبة أو نبتته الصغيرة كما كان يطلق عليها. وعلى أي حال، لا بد أنها قد أخذتها معها عندما تزوجت يعقوب.»
وضعت روكساندرا البصل على المقعد الذي كان عليه الكتاب، وقلبته مرة أخرى على الغلاف الأمامي.
وقالت وهي تقرأ اسم شقيقتها قبل الزواج بصوت عال: «ليئة ماندلسون.»
سرت رجفة في جسد إلينورا عندما سمعت روكساندرا وهي تتلفظ باسم والدتها. لم يكن هذا الاسم ينطق إلا نادرا؛ ومن ثم أصبح وقعه شبه مقدس كاسم الرب الذي لا ينطق إلا في أقدس الأيام تقديسا، وفي أقدس الحجرات، على لسان الكاهن الأكبر في المعبد في أقدس المدن وهي القدس. كان اسم والدتها في ذهنها يصلح تعويذة أو سحرا ذا قدرة خفية. وقفت إلينورا صامتة خلف طاولة الكي حتى رحلت روكساندرا، وعندما أصبحت وحدها مرة أخرى جلست حاملة الكتاب وفتحته على الغلاف الأمامي الذي كان رسما محفورا لدرع وسيفين كتب تحته بخط طفولي: «من مكتبة ليئة مندلسون.» افترضت أنه لا يمكن أن يكون إلا لوالدتها، فارتجفت وأغلقت الكتاب.
بدأت إلينورا تقرأ المجلد الأول من «الساعة الرملية» يوم الثلاثاء التالي الموافق الأول من أكتوبر. ومثل كل من حظي بمتعة قراءة تلك الرواية الساحرة ذات المجلدات السبعة، التي تحكي عن عائلة مرموقة في بوخارست ينحدر بها الحال، استغرقت إلينورا سريعا في تيار الأحداث والحفلات والحرب والانتقام والمأساة والعلاقات الغرامية المتعددة. ولأنها كانت يافعة، فقد تأثرت بشدة بالرواية. كان للعديد من الكتب الأخرى تأثير كبير على خيالها، ولكن لم يؤثر فيها كتاب كما فعل «الساعة الرملية». كانت إلينورا تحدق إلى الصفحة، وتشعر أحيانا كما لو كانت فتاة ريفية متعلقة بنوافذ المنزل الكبير، آملة أن تلقي نظرة خاطفة على الحفل. وبدا الأمر كما لو كانت قد اكتشفت بابا يقود إلى عالم آخر، عالم مليء بالأحداث والتقلبات المفاجئة العنيفة للثروة والطمع والتلون والرغبة. وكان يخطر في بالها أحيانا أنها تود لو كانت بارونة؛ تود لو كانت قد نشأت في بوخارست وقضت أمسياتها في صالون أدبي. وخلال شهر أكتوبر ومعظم شهر نوفمبر، ظلت إلينورا طوال الوقت تقرأ الكتاب باستغراق. كانت تقرأ قبل الإفطار، وبعد العشاء، وفي أي وقت يمكنها اختلاسه على مدار اليوم. كانت تنتهز الوقت بين كل غرزة وأخرى من غرز الحياكة، فتسترق النظر إلى بضع جمل، وتختلس فقرات كاملة في أوقات تقشير البطاطس. كانت شديدة الانغماس في الكتاب، شديدة التعلق بوفاة والدي الآنسة هولفرت وخيانة النبيل أولاف وفرص الآنسة يونسكو المتضائلة في الزواج، حتى إنها لم تلحظ القرارات التي تتخذ بشأنها.
كانت قد سمعت مصادفة أجزاء من حديث عن رحلة، وكثيرا ما رفعت عينيها عن الصفحة على ذكر إسطنبول، ولكن رغم ذلك لم تكن إلينورا مستعدة على الإطلاق للخبر الذي سمعته في ذلك المساء من أواخر شهر نوفمبر. كانت تجلس على مائدة العشاء حاملة المجلد الثالث، وكانت قد وصلت إلى المشهد الشهير حيث يجمع الجنرال كرزاب من تبقى من أفراد عائلته كي يوبخهم ويوزع الثروة التي اكتشف وجودها خلف خزانة والدته، بينما توقف والدها عند الباب الأمامي راكبا عربة محملة بأربعة صناديق أمتعة. وعندما انتهى هو والسائق من تفريغ الصناديق في ركن غرفة المعيشة، نظرت إليه إلينورا بفضول. «ما كل هذه الصناديق يا بابا؟» «إنها من أجل رحلتي.»
وضعت الكتاب مقلوبا على مائدة العشاء، ونظر أحدهما إلى الآخر في حيرة متبادلة.
فقال لها: «ألا تذكرين؟ إنني ذاهب إلى إسطنبول الشهر القادم.» «إسطنبول؟»
لم تكن إسطنبول بالنسبة إليها مجرد مكان يمكنك أن تقدم على زيارته فجأة، بل كانت مدينة للأساطير، مدينة كبرى تعرضت للدمار تتلألأ عند حافة الصحراء، العاصمة المفقودة لحضارة عتيقة، تحجرت على مدى قرون بسبب الإهمال، أو دفنت في مكان ما في قاع المحيط.
فأوضح قائلا: «سوف أبيع السجاد، وقد أشتري بعضه. فالعمل لم يكن يسير على ما يرام في الأعوام الأخيرة، وأعتقد أنني سأغدو أفضل حالا في إسطنبول.» «وكم ستغيب؟»
فأجاب: «إنها ليست برحلة طويلة، ربما تستغرق أسبوعا أو أسبوعا ونصفا حسب أحوال الطقس، ولكنني سوف أحتاج إلى الإقامة هناك أسبوعين على الأقل، أو ربما أكثر من ذلك. ولحسن الحظ، فالشخص الذي أعرفه هناك كريم مضياف.»
كيف عساها أن تعلق على تلك الأخبار؟ عندما كانت إلينورا تبذل أقصى جهدها لاستيعاب الفكرة، ظهرت روكساندرا من المطبخ حاملة وعاء من حساء الدجاج ووزعت ثلاثة أطباق. وحدقت إلينورا إلى طبقها وقلبته بملعقتها. كانت شرائح من الجزر والكرفس والبصل ودوامات من البقدونس المجفف تطفو في دوائر بطيئة تحت طبقة من الزيت. تركت إلينورا قطعة من صدر الدجاج يميل لونها بين الوردي والأبيض تطفو في ملعقتها، وحاولت أن تتخيل شهرا دون والدها؛ شهرا تقضيه وحيدة مع روكساندرا. وقد أصابها مجرد التفكير في ذلك بالغثيان.
فاندفعت قائلة: «بابا، أرجوك لا ترحل.»
وضع والدها ملعقته ونظر إليها وهو يلوك في فمه قطعة من الغضروف، فدفنت وجهها بين ذراعيها. تمنت لو كان لديها ما تقوله كي تتمكن من إقناعه بالبقاء، ولكنها كانت تعلم أن هذا لن يحدث؛ فقد حسم الأمر بالفعل.
قال: «سوف أفتقدك يا إيلي.» واتجه إلى الناحية الأخرى من المائدة ووضع يده على ظهرها قائلا: «لكنني لن أغيب أكثر من شهر.»
رددت روكساندرا: «إنه مجرد شهر، ولدينا الكثير كي نفعله في المنزل في تلك الأثناء. سوف يعود قبل أن تدركي أنه قد سافر بالفعل.»
نظرت إلينورا إلى والدها وخالتها روكساندرا، وشعرت كما لو كان عالمها بأسره يتداعى حولها، كما لو كان يتصدع منذ أسابيع ولكنها لم تطلع على الموقف إلا الآن. ازدردت لعابها بقوة، وعضت على شفتها السفلى. إن الشهر فترة طويلة للغاية، ثلاثون يوما أو ربما واحد وثلاثون، وهي رحلة خطرة؛ فثمة لصوص وحيوانات مفترسة وانهيارات صخرية وقطاع طرق. وماذا لو حدث له مكروه؟ تجمع الأسى في حلقها كموجة مالحة، لكنها أدركت أن البكاء لن يجدي، بل سيزيد الأمر سوءا. وبدلا من الاستسلام للحزن، طردت إلينورا هذا الشعور من رأسها. تذكرت الكلمات التي تفوهت بها الآنسة هولفرت إلى ابن عمها بعد وفاة والديها المأساوية: «لم لا أقرر لنفسي كيف أشعر؟ فهي في نهاية الأمر مشاعري أنا. وإذا رغبت في أن أبكي في وقت لاحق فسوف أفعل، ولكنني لا أرغب في ذلك اليوم.»
بعد تناول العشاء، استأذنت إلينورا في الانصراف، وذهبت مباشرة إلى الفراش. رقدت على ظهرها وغطاؤها مطوي تحت عقبيها، وأنصتت إلى أصوات المنزل وهي تخفت. راقبت الظلال تتحرك على السقف وهي تقارن بين صوت تنفسها وبين صليل حيوانات الليل. إنه عالم مختلف، عالم الليل، قاع البئر، فتحة قد لا نخرج منها أبدا. وفي لحظة بدت حلما مر ظبي بجوار نافذتها، ورمقها بعينين تعكسان بعض الضوء المختبئ كما لو كان سلسلة من المنارات تتضاعف على الشاطئ، ثم اختفى مرة أخرى في الظلام.
عندما استيقظت إلينورا في صباح اليوم التالي كانت تعلم جيدا ما عليها أن تفعله، لم يكن لديها خيار آخر. فاستمرت في حياتها كالمعتاد على مدار الأسابيع القليلة التالية. كانت تقرأ وتقشر الخضراوات وتمسح الأرض، بل تستمع أيضا إلى بعض القصص التي يرويها والدها، ولكنها في تلك الأثناء كانت تخطط لتفاصيل الهرب. قررت أن أهم شيء هو تحضير حقيبة من المؤن كي تقيم أودها في الأيام الأولى حتى تتمكن من إيجاد وسيلة للحصول على الطعام. واستخدمت للحقيبة غطاء وسادة قديما، مصنوعا من قماش قطني باللون الأزرق الفاتح، يزينه صف من الورود الصفراء في الأعلى. وكان الحصول على المؤن أيسر كثيرا مما تخيلت، فقد احتفظت ببقايا الشموع وأخفت قطعا من الجبن غير المأكول في جيبها، وكلما أتتها الفرصة اختلست كميات قليلة من أغراض غير ظاهرة من حجرة المؤن. وكان عليها أن تجري تلك الترتيبات في سرية تامة؛ فسوف يفسد الأمر برمته لو شعر والدها أو روكساندرا للحظة بما تنوي فعله.
في اليوم السابق لرحيل يعقوب كانت أكثر مرة تعرضت فيها للخطر ونجت بأعجوبة. كان عصرا صافيا، وهو أول يوم صاف منذ أسابيع، وأعلنت روكساندرا أنها ستخرج كي تنفض السجاد. راقبت إلينورا خالتها وهي تحمل ما بدا عددا لا نهائيا من السجاجيد واحدة تلو الأخرى إلى الحديقة، فأخذت مقعدا واتجهت نحو حجرة المؤن، وصعدت عليه كي تلقي نظرة على الأغراض: اللحم المدخن وقوالب متراصة من الجبن وجميع أنواع المخللات والمربى وفاكهة مجففة وفطيرة كبيرة باللحم المفروم. كان ثمة طعام يكفيها لمدة شهر. وفي نهاية الأمر، استقرت إلينورا على برطمان من مربى العليق وقطعة من السمك المقدد المملح. كانت قد أخذت البرطمان تحت ذراعها بالفعل، وكانت تحاول الوصول إلى السمك عندما شعرت بإضاءة المدخل تحجب. «ظننت أنك قد تختلسين القليل من المربى؟»
فزعت إلينورا وأطاحت بالبرطمان على الأرض، ونظرت هي وروكساندرا إلى الزجاج المتهشم ومربى العليق وهي تسيل ببطء كالحيوان الرخوي الذي دهسته الأقدام. «بينما كنت مشغولة في الحديقة خطر لك أن تصنعي لنفسك شطيرة من المربى، أليس كذلك؟ كان هذا هو آخر برطمان من مربى العليق، هل تعلمين ذلك؟»
بينما كانت روكساندرا تتحدث، نزلت إلينورا عن المقعد وخفضت رأسها في استسلام. لقد ضبطت متلبسة، ولكن روكساندرا لم تكن لديها فكرة عما تنوي فعله بالمربى، والقصد هو المهم.
قالت: «أنا آسفة أيتها الخالة روكساندرا.» وتسللت ابتسامة إلى شفتيها، ولكنها كتمتها وتابعت قائلة: «كنت جائعة.» «حسنا، سوف تظلين جائعة حتى موعد العشاء. والآن نظفي تلك الفوضى، ويفضل ألا أراك تتسكعين في أرجاء حجرة المؤن مرة أخرى.»
في تلك الليلة أعدت روكساندرا وجبة الخريف المفضلة عند يعقوب: دجاج بصلصة البرقوق، وحساء القرع، وفطيرة التفاح. ورغم أن إلينورا كانت تتضور جوعا، فإنها لم تتمكن من تناول الطعام من شدة الاضطراب، فخلال أقل من اثنتي عشرة ساعة سوف تختبئ في السفينة المرتحلة إلى إسطنبول. اضطربت معدتها للفكرة، وظلت تستمع إلى والدها وروكساندرا وهما يناقشان التفاصيل الأخيرة لرحلته، ومتى تأتي سيارة الأجرة لتقله، وموعد رحيل الباخرة، وما إذا كان قماش فيينا المطرز قد وصل، ومن سيكون رفيقه في الرحلة، وهكذا من أمور. وفي تلك الأثناء، كانت تتسابق في عقل إلينورا صور إسطنبول وتفاصيل خطتها وكل المشاكل التي قد تحدث.
بعد العشاء الذي لم تتناول منه شيئا تقريبا، استأذنت في الانصراف، متعللة بأنها ليست على ما يرام. وأخبرها والدها الذي كان مشغولا بتعبئة حقائبه في اللحظة الأخيرة بأنه سوف يطمئن عليها عندما ينتهي، وكالعادة كان صادقا في حديثه.
قال وهو يسترق النظر إلى الغرفة: «إيلي، هل أنت مستيقظة؟»
فانقلبت على جانبها وأغمضت عينيها . ورغم أنها لم تكن قد نامت، فقد رأت أنه من الأفضل أن تتظاهر بذلك. كان والدها يرتدي حلته الرمادية الصوفية المعتادة، ولكنها بدت أكثر تجعدا من المعتاد. وكان شاربه مهذبا، وثمة نبرة من التوجس في صوته.
قال وهو يضع قطعة من الفطيرة على خزانة الملابس: «لقد أحضرت لك هذه في حال شعورك بالجوع، فقد لاحظت أنك لم تتناولي طعامك في العشاء.»
كان بوسع إلينورا أن تسمع صوت معدتها وهي تقرقر جوعا حول رئتيها، كما لو كانت بركانا نافد الصبر. «شكرا يا بابا.»
فقال وهو يداعب جبهتها: «إني راحل غدا، وخطر لي أن أودعك الآن كي لا أوقظك في الصباح.»
نظرت إلينورا إلى والدها وهو ينحني على فراشها. كان الضوء القادم من الباب المفتوح يصنع هالة حول رأسه، وبدا للحظة كما لو كان على وشك أن يتفوه بشيء، ولكنه لم يفعل. «سوف أفتقدك يا إيلي.» «وأنا أيضا يا بابا.»
انسالت دمعة من رموش عينيه كقطرات المطر التي تتجمع على حافة ورقة الشجر، ثم نهض راحلا. «تصبحين على خير.»
لم تشعر إلينورا بالارتياح تجاه ما تضمره من خداع والدها، ولكنها كانت تدرك أن ذلك هو الأفضل؛ فعندما تكشف عن وجودها على متن الباخرة المتجهة إلى إسطنبول، عندما تصبح العودة مستحيلة، سوف يضمها بين ذراعيه ويشكرها. وكانت تعلم أنه سيفعل ذلك. وإذا كان ثمة درس مستفاد من «الساعة الرملية»، فهو أن تتبع ما يمليه عليك قلبك دائما، ف «لا حكيم أعظم من أوامر قلبك.» هكذا صاغتها الآنسة يونسكو. فكرت للحظة فيما إذا كان قول الآنسة يونسكو يتعارض مع قول الآنسة هولفرت، وقررت أن الإجابة بالنفي، بل إن كليهما يدفع القارئ باتجاه النهاية نفسها؛ أن يغوص في أعماق قلبه ويحدد الأفضل ويفعله بلا ندم.
وبعد ساعات عديدة قضتها إلينورا قلقة متوجسة، وعندما تأكدت أن والدها وروكساندرا قد استغرقا في النوم، تسللت من فراشها وارتدت ثياب السفر في صمت، واتجهت مباشرة إلى صف صناديق الأمتعة بجوار الباب الأمامي. وبضغطة واحدة فتحت الصندوق الأقرب إليها ورفعت الغطاء، وكما تخيلت وجدته محشوا بالسجاد، فلفت ذراعيها حول سجادة أرجوانية ضخمة صنعت في هيريكي، واستندت إلى أسفل الصندوق ثم طوحت بها إلى الأرض بكل ثقلها. تحركت بأسرع وأهدأ ما يمكنها، ساحبة السجادة عبر غرفة المعيشة إلى غرفة نومها، وجذبتها بكل قوتها إلى فراشها، ودستها تحت الأغطية، ثم أخذت خطوة للخلف وتأملت المشهد. لم يكن مثاليا، ولكنه يجب أن يجدي نفعا.
وعندما أوشكت على الرحيل، توقفت إلينورا كي تلقي نظرة أخيرة على غرفتها؛ خزانة ملابسها، فراشها، والمجلد الخامس من «الساعة الرملية» على المنضدة. فكرت للحظة في أن تأخذه معها، ولكن لم يكن ثمة مكان لأمتعة زائدة، وبدلا من ذلك فتحت الكتاب وأزالت المؤشر الخشبي الذي وجدته في المجلد الرابع. وعندئذ، تأهبت للرحيل. حملت حقيبة المؤن على ظهرها، وتسللت إلى غرفة المعيشة، ودست نفسها في صندوق الأمتعة القديم البالي إلى حد ما، والممتلئ بالسجاد الذي ينوي والدها بيعه عند وصوله.
الفصل الخامس
رفع الكاهن جيمس مولر قدمه إلى حافة فراشه، وانحنى كي يربط رباط الحذاء. «دار الأرنب حول الشجرة ثم دخل إلى جحره.» كان على مشارف الأربعين، عالما ومعلما شهيرا، ولكنه هنا كان يدندن لحن أغنية قد حفظها منذ ما يزيد على ثلاثين عاما. وكان هذا بذرة مقال عن العلاقة بين الألحان والذاكرة، أو ربما بحثا عن الطقوس الطفولية للعظماء، وهو مقال آخر لم يكن لديه الوقت ليكتبه. أزال قطعة من الوبر عن مقدمة حذائه، ثم نهض وعدل وضع معطفه على كتفيه. يشير جدول اليوم إلى أنهم سيتوقفون في كونستانتسا لفترة وجيزة لأخذ الركاب الجدد، ومنهم - حسبما تدل البطاقة الموضوعة على باب قمرته - السيد يعقوب كوهين، الرفيق الجديد الذي سيشاركه الفراش المتعدد الطوابق على متن السفينة. لا شك أن السيد كوهين يهودي الديانة، وهو ما لا يشكل مشكلة بالنسبة إلى الكاهن. فقد عرف نصيبه العادل من الصفوة في نيو هافن، رغم أن السيد كوهين هذا لن يكون بالطبع خريج جامعة ييل. وتحسس جيبه العلوي بحثا عن السجائر، وألقى نظرة على القمرة ، ولما لم يجد أي شيء محرج أو يدل على الفوضى تقدم إلى سطح السفينة.
كان يوما شتويا مضيئا، باردا، ولكن في الوقت نفسه لطيفا. اختلطت رائحة الفحم المحترق بالصنوبر، ودب النشاط في أرصفة الميناء، وأخذ جمهرة من عمال السفن يحملون على ظهورهم الحقائب من عربات الركاب إلى بدن السفينة. وكان ثمة عدد قليل من لحظات الوداع الباكية، وسائق عربة ركاب يلوح بذراعيه غاضبا على الأرجح بسبب أجرة التوصيل الزهيدة التي تلقاها. وخلف أرصفة الميناء اصطفت كونستانتسا بين قمة تلين، وتجمعت بضع مئات من المنازل الرمادية الحجرية في نصف دائرة حول إحدى ساحات المدينة غير المميزة. أخذ جيمس نفسا عميقا، وأخرج سيجارة من جيب معطفه وأشعلها بحركة مسرحية متباهية. لا تبدو كونستانتسا مكانا رهيبا للعيش بالنسبة إلى من لا يعرف أفضل منها؛ فالمناخ لطيف بقدر كاف، وقد لعبت - حسبما يذكر - دورا ذا أهمية في سقوط الإمبراطورية الرومانية. أخذ نفسا عميقا ونفض الرماد قبل أن يتذكر ذلك الدور: لقد قضى أوفيد أعوامه الأخيرة البائسة في كونستانتسا التي كانت تعرف وقتها باسم توميس، أو كما أطلق عليها «آخر منطقة نائية في نهاية العالم»، ولا بد أنها بدت هكذا لتلك الروح العذبة الذكية في المنفى.
عندما فرغ الكاهن مولر من السيجارة، لاحظ طائرا غريبا حط بالقرب منه على السياج. بدا هذا الطائر كما لو كان هدهدا، رغم أنه لم يشهد مثيلا له في ألوانه من قبل، فهو ذو لون أرجواني فاتح مخطط بخطوط ناصعة البياض على الأجنحة والصدر. وعلى الرغم من أن الهداهد عموما تميل إلى تجنب التواصل مع الإنسان، فإن ذلك الهدهد ظل محدقا بقوة غير عادية كما لو كان يطلب شيئا. وبادله الرجل النظر، مركزا على الرقعة الأرجوانية التي تقع فوق منقاره المدبب الرقيق مباشرة. وبعد مرور بضع لحظات، حلق الطائر منضما إلى اثنين من رفاقه، وجثم ثلاثتهم فوق المقعد العلوي لعربة ركاب في انتظار إفراغ حمولتها. ألقى جيمس بعقب السيجارة في الميناء، وانحنى على السياج الخشبي يشاهد عمال السفن وهم يفرغون العربة من حمولتها من الأمتعة بينما يراقبهم رجل ممتلئ البنية ذو لحية سوداء كثيفة. لا شك أن الرجل تاجر، ويبدو أنه يهودي. ربما كان هو السيد يعقوب كوهين، أو ربما يكون مجرد يهودي آخر. وعندما تم تخزين الصندوق الأخير بسلام في بدن السفينة، اعتلى الرجل الملتحي متن السفينة، وحلقت الهداهد أعلى التل.
انتابت جسد الكاهن مولر قشعريرة وهو يعتدل، فجذب معطفه حول جسده. وكان قد رحل عن إسطنبول فصلا دراسيا كاملا، ولا بد أن لديه الكثير من الأعمال في انتظاره لدى عودته، فسوف يبدأ الفصل الدراسي الجديد بعد عودته بأربعة أيام فقط، وثمة ثلاثة معلمين جدد في المدرسة الثانوية، وعليه أن يكتب خطابا لحفل توزيع الشهادات. وبالإضافة إلى مسئولياته في كلية روبرت، لديه مقال مطلوب منه في «سجلات التعليم»، ونائب القنصل الأمريكي يتلهف على استلام تقريره عن حالة الأقليات الدينية في ظل النظام الخانع الجديد. وعلاوة على هذا كله، كان مصدر إحباط للمسئولين عنه في وزارة الحربية؛ حيث مرت بضع سنين وهو لم يتمكن بعد من كشف أي معلومات استخباراتية فيما يخص النفوذ الألماني في إسطنبول. وكانت تلك المهمة الأخيرة أقصى ما يشعره بالقلق. كان على دراية بكتابة التقارير، وتدريب المعلمين الجدد، وتحرير مقالات للنشر، ولكن لم تكن لديه فكرة عن كيفية جمع المعلومات. لم يكن جاسوسا، أو على الأقل لم يتلق أي تدريب رسمي في هذا المجال، ولم يكن النجاح الذي أحرزه في بيروت سوى نتاج حظ مثلما يعترف هو شخصيا، ولكن الأشخاص الرفيعي المستوى في الوزارة قد اعتبروا صراحته تواضعا، وهكذا أصبح في هذا الموقف.
أشعل سيجارته الثانية، وأخذته أفكاره بعيدا نحو نيران يالطا الدافئة، وممراتها ذات الرياح العاصفة، والواجهة الحزينة للمنازل الصيفية الخالية. كانت يالطا المكان المثالي الذي يقصده للراحة من متاعب إسطنبول، بعيدا عن أحزابها، بعيدا عن خداعها ومكائدها، ولكنه كان يعلم طوال الوقت أن عليه العودة. أسند سيجارته على السياج، وأخذ ينظر بلا مبالاة إلى مجموعة من الركاب الجدد وهم يركبون السفينة، ووسط موجة من المناديل الملوحة بالوداع نفثت السفينة دخانها راحلة من المرفأ. وبدأ يشعر بالندم لعدم اختياره الرحلة المباشرة من سيفاستوبول إلى إسطنبول، فتلك السفينة البخارية المحلية تتوقف على الأقل مرة يوميا، وأهم من ذلك أنه لم يكن على متنها من يمكن إجراء حوار هادف معه. أدرك هذا الصباح أنه سوف يقضي ليلة رأس السنة في السفينة؛ ذلك لأنه لا أحد على متن السفينة يتبع التقويم الغربي. أرغم جيمس نفسه على الابتسام وهو يتذكر شعار والدته المفضل: «لا يمكننا إلا أن نستفيد قدر ما نستطيع من الموقف الذي يضعنا الله فيه.» ربت على جيبه العلوي مودعا من تبقى على رصيف الميناء وداعا حارا، وإن كان تهكميا بعض الشيء، ثم هبط إلى سطح المركب كي يقابل رفيقه الجديد في الغرفة.
كان رفيقه الجديد - حسبما اتضح - هو السيد يعقوب كوهين، نفس الشخص الملتحي الممتلئ البنية الذي لاحظه الكاهن مولر وهو على ظهر السفينة. وعند دخول غرفتهما المشتركة، وجد الرجل يفرغ محتويات حقيبة سفر بالية. «أهلا بك.»
استدار السيد كوهين ومد يده. «السيد مولر؟»
أجاب الكاهن كعادته عندما يتجاهل الناس لقبه: «يمكنك أن تدعوني جيمس، أو الكاهن مولر إذا سمحت.»
فقال: «وأنا يعقوب كوهين.» ثم تصافحا، وأردف قائلا: «في طريقي إلى إسطنبول.»
فابتسم جيمس قائلا: «حسنا، أؤكد لك أنك في السفينة المناسبة.»
كان السيد كوهين يتحدث الإنجليزية بصورة مقبولة، بالإضافة إلى بعض الفرنسية ومعرفة سطحية بالروسية. وبعد أن حاولا التفاهم بتلك اللغات بالإضافة إلى بعض اللغات الأخرى، استقرا على التركية وسيلة للتواصل بينهما. وبينما كان رفيقه في الغرفة يفرغ أمتعته، جلس جيمس أمام المائدة في زاوية الغرفة، وأخذا يتحدثان بحرية عن الرحلة. ومثلما توقع جيمس، كان السيد كوهين يزور إسطنبول في رحلة عمل؛ حيث كان يعمل على وجه التحديد في تجارة المنسوجات، وينوي تصفية بعض المخزون الزائد. ورغم أن كونستانتسا لم تعد تحت السيطرة السياسية للدولة العثمانية، فما زال لإسطنبول تأثير اقتصادي على المنطقة. وأوضح السيد كوهين أن التأثير الأكبر كان في تجارة المنسوجات على وجه الخصوص، فرغم أن أهل كونستانتسا وروسيا يقدرون السجاد الشرقي، كما هو الحال في كل أنحاء أوروبا، فإن بعض الأنواع الأكثر تميزا كانت أسهل في البيع في إسطنبول، أو هكذا كان يأمل.
دهش الكاهن مولر عندما وجد أن السيد كوهين أكثر ذكاء وخبرة بشئون الحياة مما يبدو، فقد قضى معظم شبابه مرتحلا في وسط آسيا والشرق الأوسط، مستغلا ميراثا صغيرا كي يكون رأس المال الذي بنى به مشروعه. وزار عشرات البلدان، ورغم أن تعليمه الرسمي لم يتجاوز سن الثالثة عشرة، فقد كان مثقفا مطلعا كأي من معلمي كلية روبرت. وربما كانا سيستمران في حديثهما وقت الغداء لولا وعكة السيد كوهين المفاجئة العنيفة. اعتذر بشدة، وأوضح أنه مصاب بدوار البحر الذي يصيبه بالوهن، ورفض كل عروض المساعدة مصرا على أن أفضل علاج هو الرقود والراحة حتى يهدأ البحر.
انتهز جيمس تلك الفرصة كي يخرج في جولة ويكتب بضعة خطابات في المكتبة، وعندما عاد إلى الغرفة قبيل العشاء وجد السيد كوهين راقدا وظهره للباب في الفراش العلوي. كانت الغرفة تفوح برائحة العرق الجاف ونكهة المرض. اقترب جيمس من الفراش ووضع يده على كتف السيد كوهين وأيقظه برفق. «أيها السيد كوهين، أهلا بك في عالم اليقظة.»
تمتم قائلا وهو ينقلب على ظهره: «السيد مولر.»
فاستدرك مصححا له: «جيمس، أو الكاهن مولر إذا سمحت.»
طرف يعقوب بعينيه وجال بلسانه في فمه. «معذرة.»
فأجاب جيمس وهو يجلس على الفراش السفلي: «لا عليك، لا مشكلة على الإطلاق. أخبرني يا سيدي، كيف حالك الآن؟» «أفضل قليلا.» «جميل أن أسمع ذلك.»
وبينما كانا يتحدثان، خلع جيمس حذاءه وارتدى سروالا جديدا.
تساءل السيد كوهين: «كم الساعة؟»
قال جيمس وهو يخرج الساعة من جيبه كي يتأكد: «إنها تمام السابعة، سوف يقدم العشاء في غضون نصف ساعة.»
غسل جيمس يديه بسرعة، ونضح القليل من الماء على وجهه، ثم نظر لنفسه في المرآة.
ثم قال وهو يرتدي سترة العشاء: «كنت أخطط للنهوض مبكرا وحجز مائدة، ولكن إذا رغبت في الانضمام إلي يسعدني أن أنتظرك.»
نهض يعقوب وهو مجهد قليلا ودلى ساقيه من حافة الفراش، منحنيا للأمام قليلا كي يتجنب اصطدام رأسه بالسقف. بدا كما لو كان غجريا وهو يرتدي قميصه الداخلي وسرواله المجعد، وكان شعره شعثا وعيناه الزرقاوان اللامعتان تجوبان أنحاء الغرفة.
قال وهو يمسح وجهه: «نعم، سيكون هذا لطيفا. شكرا لك.»
هبط يعقوب السلم المعدني الضعيف درجة تلو الأخرى، واستقر أمام المرآة. لم يكن السيد كوهين في حالة مبشرة على الإطلاق، ولكن بنضحة من المياه وتمشيط للشعر وتبديل للملابس تحول إلى شخص مقبول المنظر، على الأقل بالنسبة إلى مستوى السفينة. ورغم أن الإفطار والغداء لم يكونا رسميين، فقد كان الطاقم يبذل كل ما في وسعه كي يضفي جوا من الفخامة والرقي وقت العشاء. ولما كانت السفينة من الدرجة الثانية، فلا معاطف طويلة أو ملابس للسهرة، ولا دبابيس مزخرفة مصنوعة من الزمرد ولا ثريات بلورية، ولكن ببعض القماش الأحمر وأغطية الموائد المتجعدة وطباخ واسع الحيلة كانت الإجراءات تتم على نحو مرض.
قضى جيمس ويعقوب معظم وقت العشاء في تلك الليلة الأولى يتبادلان الآراء حول قصص من أسفارهما، وغني عن القول أن مبشرا دينيا وبائعا للسجاد ربما يقابلان شرائح مختلفة من سكان المدينة. وظل جيمس مدهوشا من اختلاف حكاياتهما؛ ففي كل مرات زيارته إلى شيراز لم يقابل قط عرافا أو لصا محترفا، ولكن في قصص يعقوب كانت المدينة تعج بكليهما. ومن ناحية أخرى، لم يتناول يعقوب العشاء قط مع رئيس دولة أو سفير، رغم أنه أصر على كونه مقربا من منصف بك عندما كان يشغل منصب الحاكم العثماني لكونستانتسا. ولم يكن ذلك الاختلاف في التجربة حجر عثرة في طريق الحوار، بل إنه في حقيقة الأمر أضفى عليه ثراء. وبعد تناول العشاء، ذهب الرجلان إلى غرفة جلوس تعرف باسم استراحة التدخين، حيث فتحا زجاجة من النبيذ الأحمر وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث بينهما بنفس الطريقة حتى وقت متأخر.
كان جيمس شديد الإعجاب بمدى معرفة رفيق غرفته بالمنسوجات، فقد كان بإمكانه أن يحدد عيبا في القماش في الناحية الأخرى من الغرفة، وكان يعلم عن تاريخ صناعة السجاد أكثر من أي بائع آخر في البازار الكبير. ولكن موهبته الكبرى كانت في البيع؛ فرغم أن بضائعه مخزنة بأمان في بدن السفينة ولا يمكنها أن تخرج للعرض، فإن وصف يعقوب للسجاد وألوانه الزاهية وتصميماته الكلاسيكية وروعة الصناعة، قد أقنع أكثر من مسافر بدفع عربون كي تصلهم الشحنة لاحقا. وحتى جيمس الذي يعرف تأرجح البيع وتقلباته وكان حريصا على تقليل الإنفاق بعد إجازة طويلة كهذه، اقتنع أن يدفع عشرة بالمائة من ثمن سجادة فخمة من طراز هيركي باللونين الأبيض والأرجواني أخبره يعقوب أنها ستبدو جميلة في مكتبه ومناسبة له.
كانت علاقتهما نموذجا مثاليا للصداقات التي يعقدها المرء على متن سفينة؛ حيث لا شيء سوى الحديث، وليس المرء بحاجة إلى أن يراعي فوارق الطبقة والمكانة الاجتماعية. كان رباطا متينا قويا من النوع الذي لم يعرفه جيمس منذ أيام صباه عندما كان طالبا. وبالطبع احتفظ بأسراره الكئيبة لنفسه، ولكن مع مرور أيام الأسبوع قص على يعقوب قصة وفاة والده، وبعض أسوأ أشكال الإذلال التي قابلها لدى وصوله إلى نيو هافن، والأحداث التي أدت إلى قراره الحصول على شهادة من مدرسة اللاهوت. ومن جانبه شاركه يعقوب بعض التفاصيل الأصعب الخاصة بنشأته، والقصة المأسوية لوفاة زوجته الأولى، وقصة الزواج الخالي من الحب التي تبعتها. ولكنه لم يفصح عن ابنته إلينورا إلا في الليلة الأخيرة من الرحلة.
فضلا عن كونها الليلة الأخيرة على متن السفينة، كانت أيضا الليلة الأخيرة في عام 1885، وكانا يحتفلان. تراجعا إلى استراحة التدخين يحتسيان الزجاجة الأخيرة من نبيذ الكاهن مولر ويدخنان الفتات الأخير من غليون يعقوب. وكان الوقت قد تأخر بالفعل، أو لعله كان مبكرا، وكانت الغرفة لهما وحدهما. ارتفع دخان الغليون الأزرق فوق رأسيهما، ولم تتسلل سوى النجوم الساطعة عبر الكوات الضبابية.
قال يعقوب وهو يعدل نفسه على كرسيه: «أود أن أستشيرك في أمر.»
فقال جيمس وهو يتكئ للخلف منصتا وقد وضع كاحلا فوق الآخر: «بالطبع.» «إنه يخص ابنتي.» «نعم، لقد ذكرتها في حديثك منذ بضعة أيام. اسمها إليانور، أليس كذلك؟» «إلينورا.»
صمت يعقوب للحظة وهو يحدق في فوهة الغليون.
قال: «لقد ذكرتها، ولكنني لم أخبرك بأي شيء عنها.»
رشف جيمس رشفة من النبيذ ورفع حاجبيه.
توقف يعقوب للحظات وهو ينظر ليده، ثم قال: «إن إلينورا ... إذا قابلتها فسوف تعلم على الفور. يمكنك أن تطلق عليها عبقرية أو موهوبة، فلست أعلم ما الكلمة الصحيحة التي تصفها.»
انحنى الكاهن مولر إلى الأمام واتكأ بمرفقيه على ركبتيه. كان قد قابل العديد من الأطفال الاستثنائيين على مدار سنوات عمله، أطفال تعلموا القراءة مبكرا والقيام بعمليات حسابية صعبة في رءوسهم، أو أطفال يعتادون اللغات الأجنبية بسهولة. وكان الموضوع مشوقا من الناحية الاحترافية والشخصية، وكان قد فكر مرارا في جمع كتيب عن الأشخاص العباقرة عبر التاريخ. ولكن معظم الأطفال الذين قابلهم لم يكونوا عباقرة، على الأقل ليسوا على شاكلة بنتام أو مندلسون أو ميل. «قلت من قبل إنك التحقت بالجامعة في سن السادسة عشرة؟»
قال جيمس: «نعم، قبيل عيد ميلادي السابع عشر.» «أعتقد أنه بالتدريب والتوجيه المناسبين قد تتمكن إلينورا من الالتحاق بالجامعة خلال عامين أو ربما ثلاثة أعوام. لست أرغب في ذلك، ولكنني أعتقد أن ذلك بوسعها.» «كم عمرها؟» «لقد أتمت عامها الثامن في شهر أغسطس.» «هذا مذهل بالفعل.»
كان جيمس يثق في رفيقه في الغرفة؛ فقد كان رجلا صادقا لا يحب المظاهر أو الغرور، ولكن يصعب تصديق تلك المزاعم دون الشك فيها. تحدثا طويلا عن إنجازات إلينورا المتعددة، وعن الدروس التي أعدها لها يعقوب، ومخاوف روكساندرا بشأن مستقبل الطفلة، بالإضافة إلى مخاوفها من رد فعل أهل المدينة إذا علموا بأمر قدرات إلينورا. فعل جيمس ما بوسعه كي يساند صديقه، ولكن رغم أنه كان يرغب في تصديقه، فإنه لم يتمالك نفسه أن يعبر عن بعض الشكوك التي تراوده. وفي كل مرة كان يفعل ذلك، كان يعقوب يأخذ نفسا عميقا من غليونه وينفثه وهو يهز رأسه.
قال: «لو أنك قابلتها، لخبرت ذلك في لحظة.»
الفصل السادس
حدقت إلينورا إلى السواد، حيث يحيط بها من كلا الجانبين ظلام مخملي شائك، وقد ثنت ركبتيها وعقدت ذراعيها أمام صدرها دون قدرة على تحريكهما، ولم تستطع حتى أن تميز جدران الصندوق الذي كانت محبوسة داخله. وفي مكان ما في أعماق السفينة، ارتفع صوت طقطقة المحرك البخاري وصريره، ثم أصبح ضجيجا مرتفعا، ثم هدأ مرة أخرى كما لو كان عملاقا متململا يغط أثناء نومه في كهفه. وكان يعلو شفتيها مذاق أحماض المعدة وتراب الفحم. وتنامى ألم كالوخز بالإبر أسفل عظم كتفها، وارتعشت عضلات فخذها في قلق كما لو كانت فراشات محبوسة تحت الجلد. شعرت إلينورا وهي تحرك أصابعها بألم جديد ينتشر من عند الكتف، فأغلقت عينيها من الألم وازدردت لعابها ذا المذاق المر. لم تكن قد تناولت شيئا منذ ظهر اليوم السابق، وكانت المؤن التي أحضرتها معها بعيدة عن متناول يدها خلف كاحليها المثنيين. لو أنها تمكنت من الحركة وتغيير وضعها إلى وضع جديد، فسوف تتمكن من تخفيف الألم في ظهرها، وقد تجد نفسها على مسافة ذراع من المؤن. لوت ذراعها اليسرى للخارج جاذبة إياها من تحت قفصها الصدري وهي تزفر، ومالت بكتفها في المساحة الخالية المتبقية. ولكن من هذا الوضع الجديد، كان أقصى ما تستطيع القيام به هو ترنح يائس إلى وضع أكثر مشقة. وفي نهاية الأمر، كان من حسن حظها أن تمكنت من العودة إلى وضع الجنين الأصلي.
لم يكن ذلك هو تخيلها عن الرحلة على الإطلاق، رغم أنها لم تستطع أن تتذكر ماذا كان تخيلها بالضبط. فرغم أنها قد فكرت في التفاصيل الدقيقة المختلفة لخطتها، ورغم أنها قد راجعت قائمتها مرارا وتكرارا، لم تتخيل إلينورا بالفعل معنى أن يحبس المرء نفسه داخل صندوق أمتعة. وعندما كان ذلك الأمر يخطر في بالها، كانت تتخيل أن الوقت سيمر سريعا، وأنها على غرار الأجزاء المملة في الروايات يمكنها أن تتجاوز الرحلة سريعا وتصل إلى إسطنبول وهي لا تعاني سوى الإرهاق. ولكن الأمر لم يكن هكذا بالطبع، فالوقت يمر ببطء شديد يجر أثقاله كما لو كان حصان نقل منهكا أجبر على السفر أياما طويلة فوق طاقته. وإذا كانت حساباتها صحيحة، فقد مكثت في الصندوق ما يزيد قليلا على سبع ساعات. ليست الساعات السبع بالوقت الطويل على مدار حياة المرء، ولكن تلك الساعات السبع مرت كما لو كانت سبع سنوات.
في بادئ الأمر تغلب عليها الخوف. كانت قلقة من أن يكتشف أمرها، أو أن ينتابها السعال أو العطس، أو تبتلع ريقها فيكتشف والدها أو روكساندرا وجودها. ولكن لا بد أنها قد استغرقت في النوم في نهاية الأمر؛ لأن أول ما تتذكره بعد ذلك هو شحن الصندوق في حقيبة الأمتعة لإحدى سيارات الأجرة واهتزازها أثناء هبوط التل. وبعد أن انتظرت فترة طويلة فيما افترضت أنه أحد طوابير التفتيش الجمركي، فتحت حقيبة الأمتعة، وتسلل بصيص من الضوء خلال الصدع الموجود في الغطاء، واعتقدت أنها سمعت صوت والدها. تزاحم حشد صاخب من الرجال حول السيارة، وانتقل الصندوق من يد ليد كما لو كان كيسا من الرمل. ولا بد أن أمتعة والدها كانت آخر ما وضع على متن السفينة، فبعد تحميلها سرعان ما أغلق بدن السفينة بسلاسل حديدية أصدرت صريرا، ودار المحرك، ونفثت السفينة دخانها منطلقة بعيدا عن المرفأ. وفي تلك اللحظة فقط، سمحت إلينورا لنفسها أن تطلق تنهيدة وتتأمل موقفها. كانت خطتها قد نجحت نجاحا تاما، ولكن ها هي محبوسة، وألم حاد يسري في ظهرها، والجوع ينهشها كالحمم البركانية.
صاحت وصوتها يتحشرج في حلقها: «مرحبا، هل يسمعني أحد؟»
لم يكن الأمر ذا جدوى، فلم يكن أحد هناك، حتى لو كان هناك أحد فلن يسمعها مع هدير المحرك. ركلت قاعدة الصندوق بقوة؛ لشعورها بالإحباط من ناحية وأملا في أن تجد طريقا للخروج من ناحية أخرى. ورغم أن الخشب ظل صلبا، سقط شيء من جيب إلينورا الأمامي أثناء تلك الحركة المفاجئة السريعة، فحررت ذراعها من أسفلها ومرت بإبهامها على ذلك الشيء. كان مؤشر الكتاب، وهو أحد المتعلقات الشخصية القليلة التي أخذتها والدتها معها من بوخارست إلى كونستانتسا، أو على الأقل أحد المتعلقات القليلة التي تبقت. كان قطعة رقيقة من خشب البلوط منقوشة عليها أشكال سداسية الأضلاع متداخلة، وبدا كما لو كان به ضوء داخلي يخترق الظلام. تخيلت إلينورا والدتها وهي شاردة الذهن تلف خصلات شعرها حول المؤشر وهي تعيد قراءة إحدى الفقرات المفضلة لديها من «الساعة الرملية». وبينما كانت إلينورا نفسها تلف خصلات شعرها بين إبهامها وسبابتها، تذكرت ذلك المشهد الذي هربت فيه السيدة هولفرت المسنة من سجن عمها عن طريق كسر أصفادها بواسطة دبوس شعر أطبقت عليه بين أسنانها.
كان الأمر يستحق المحاولة، حتى وإن كان ذلك لأنه لا توجد خيارات أخرى لديها. ثنت معصمها للداخل كما لو كانت دجاجة، وضغطت ذقنها إلى صدرها وأطبقت على أسنانها، وبإطباق أسنانها وحافة لسانها تمكنت من تحريك المؤشر بمهارة مذهلة، وبعد بضع دقائق تمكنت من إدخاله عبر الصدع بين غطاء الصندوق وجسمه. قطبت عينيها إمعانا في التركيز، ومررت المؤشر للأمام وللخلف بطول المجرى حتى وصل إلى آلية الإغلاق، وبضغطة واحدة انزاح الغطاء.
احتفظت إلينورا بالمؤشر بين أسنانها، وجلست تغمض عينيها وتفتحهما في غرفة الأمتعة المظلمة التي تكتسي بتراب الفحم. وعلى وهج التنور القادم من بعيد استطاعت أن ترى الشكل الخارجي لصندوقها الخاص وحفنة من الصناديق الأخرى يتغير لونها إلى الأسود الحبيبي. استطاعت أن تميز الأشكال لا الألوان، والروائح لا مصدرها. وببعض المجهود خرجت إلى الأرض المعدنية الدافئة، ومدت ذراعيها فوق رأسها، وانحنت كي تلمس أصابع قدميها. دلكت موضع الألم لديها بمفصل إبهامها، وحركت رقبتها بحركة دائرية وهي ترتعش. وعندما تمددت للدرجة القصوى جلست على صندوق قريب، وأخرجت حقيبة المؤن الخاصة بها وأخذت تتناول الطعام، ملقية بكسرات الخبز وقطع الجبن في فمها كما لو كانت حيوانا جائعا.
وبينما بدأت عيناها تألف الظلام الحالك لبدن السفينة، رأت أنها محاطة بحشد من الأمتعة، وصفوف متراصة من الصناديق وأقفاص الشحن والمنقولات التي لا يضيئها سوى وهج التنور. عاينت المنظر الخرب، وبحثت عن إشارة تدلها على الصناديق التي يختبئ فيها السردين أو الرقائق أو الكرز المجفف أو الجوز أو اللحم المفروم، فقد التهمت ما يزيد على نصف المؤن التي أحضرتها في أكلة واحدة، وما زالت معدتها تطلب المزيد. وبالطبع لن يمانع أحد ممن كتبت أسماؤهم على الأمتعة في إعطاء حصة من طعامهم لطفلة تتضور جوعا. اتجهت إلينورا من صندوق إلى آخر، مستخدمة المؤشر كما لو كان أداة لفتح الأقفال، فاتحة الصناديق التي تمكنت من فتحها ومبتعدة عن تلك التي لم تتمكن من فتحها، منقبة وسط الملابس والكتب والحلي والعطور بحثا عن طعام. وجدت مجموعة من الأدوات المكتبية الفاخرة المزينة بالنقوش، والكئوس البلورية، وآلة ساعة ضخمة، وحقيبة متخمة بالخطابات الغرامية، ولكنها لم تجد ما تأكله.
وأخيرا، وجدت صفا من خمسة صناديق خشبية بمعزل عن بقية الأمتعة في ركن بعيد من السفينة، كل منها بطول إلينورا ذاتها، ويحمل ختما ذهبيا بتوقيع الخطاط. ورغم فخامة تلك الصناديق، أو ربما بسبب فخامتها، لم تكن تحمل أقفالا، بل كان التحصين الوحيد بها مزلاجا ومسمارا خشبيين. كان الصندوق الأول الذي فتحته مليئا بالكتب، وخاصة الروايات، التي كتبت بالفرنسية والألمانية والإنجليزية. ألقت نظرة عاجلة على عناوين الكتب، ثم انتقلت إلى الصندوق التالي. قد تثير الكتب اهتمامها لاحقا، ولكنها الآن بحاجة إلى الطعام. كان الصندوق الثاني مكدسا بالكافيار والسمك المدخن والرنجة ومئات العلب الحمراء والذهبية التي تحمل كل منها بضع كلمات بالروسية أو صورة لسمكة. تلفتت إلينورا حولها، ثم سحبت إحدى العلب من الصف العلوي وفتحت غطاءها كاشفة عن طبقة من الكرات البرتقالية اللامعة. لمست بيض السمك بأصبعها الخنصر بحذر ثم تذوقته، فتقلص أنفها اشمئزازا؛ لم يكن هذا المذاق اللاذع المالح هو ما تأمل فيه، ولكنه كان طعاما على أي حال. وفي أقل من ساعة، كانت إلينورا قد التهمت ثلاث علب من الكافيار، مغترفة حفنة تلو الأخرى حتى ثملت من البطارخ.
افترشت في تلك الليلة النسيج السميك لسجادة إيرانية فاخرة ولفافة مخملية. ألقت رأسها على زاوية مطوية من السجادة وجذبت المخمل حول أكتافها، ثم أغلقت عينيها وشرد ذهنها. كان عقلها يموج بالخوف والشك ، ولكن بقدر خوفها وبقدر شكها في مدى حكمة قرارها بالهرب، كانت إلينورا متعبة للغاية. وبينما هدأت قرقرة الجوع واستقر التنور على صوت دقات ثابتة، انزلق ذهنها إلى محيط النوم الدافئ المالح؛ مرتفعات وأمواج بيضاء، وطيور النورس تحلق فوق الرءوس، وكل حين وآخر تلوح اليابسة من بعيد. وبينما كان التيار يجرفها بعيدا، تحول البحر إلى طريق ريفي؛ بقرة وحيدة تجتر الأعشاب، والكوخ الحجري الذي يظهر من حين لآخر، ومجموعة من أشجار السرو، وخلف ذلك كله رقع شاسعة من أراضي المزارع التي يتراوح لونها بين الأصفر والأخضر. وسرعان ما تحولت الأكواخ إلى قرى، والقرى إلى مدن، واستطالت المدن وأصبحت ذات شوارع عريضة وقباب بلورية وحدائق ليلية تعبق برائحة ماء الورد والياسمين.
في باطن السفينة فقدت إلينورا شعورها بالوقت، فكانت حركة الأمواج وصوت الطقطقة المتقطع للتنور هما العلامتين الوحيدتين على مرور الوقت. كانت تنام عندما تشعر بالتعب، وتتناول الطعام عندما تشعر بالجوع، وتقضي حاجتها في زاوية خالية من السفينة كما لو كانت حيوانا بريا محبوسا في طابق أرضي. وبمرور الوقت اعتادت عيناها ضوء التنور الخافت القاتم، ورغم أنها كانت تصيبها نوبات كثيرة من السعال فإنها اعتادت غبار الفحم. وأكثر من مرة جذبت كتابا من صندوق السلطان وحاولت أن تقرأ، ولكن الكلمات كانت تتداخل بعضها في بعض وتتلاشى عبر الصفحة، متيحة لها أن تقرأ فقرة واحدة فحسب قبل أن يتمكن منها صداع مرهق. ولما كانت القراءة مستحيلة، ولا توجد شمس، ولا توجد مهام تؤديها، فقد شغلت إلينورا نفسها بتفحص أمتعة المسافرين، متذكرة كتبها المفضلة، ومتسائلة مثل ديفيد كوبرفيلد عما إذا كانت ستصبح بطلة حياتها الخاصة أم أن تلك المكانة سيحتلها شخص آخر.
لم تكن إلينورا تعلم أن السفينة مخطط لها التوقف مرتين قبل إسطنبول، وهكذا فعندما أبطأ المحرك لأول مرة وارتفع صوت النفير على سطح السفينة، ارتجف قلبها. هل مر أسبوع بالفعل؟ وكي تؤمن نفسها أخفت فراشها واندفعت خلف صناديق السلطان. صدر صوت طقطقة وصرير، ثم أخذ باب بدن السفينة يفتح. كان الوقت منتصف النهار والشمس تخترق الصدع الذي يزداد اتساعا، والضوء ينصب في كهفها كما لو كان وابلا من السهام المشتعلة. كتمت عطسة بينما شرع ثلاثة من عمال السفن في شحن الصناديق في مقدمة بدن السفينة وتفريغها. وبينما كانوا يحضرون آخر قطعة من الأمتعة للشحن، تشمم أحدهم الهواء وصاح متفوها ببعض الكلمات، فرد عليه زميله ضاحكا. ورغم أنها لم تفهم ما يقولونه، فقد جعل وقع أصواتهم الدم يرتجف في عروقها.
ومع إغلاق الباب الكبير وتدفق المياه للخارج وقعقعة السلاسل الحديدية على نحو غير منتظم، رفرف أحد هداهد إلينورا متجها إلى بدن السفينة. لم تلمح الطائر إلا للحظة واحدة بطرف عينها، ولكن لم يكن لديها شك في أنه أحد أفراد سربها. حلق الطائر في دائرة حول بدن السفينة مرة واحدة، ثم رحل مع إغلاق الباب بالضبط. وعندما تحركت السفينة مرة أخرى في عرض البحر، وجدت إلينورا أن الطائر قد ترك لها هدية؛ برتقالة وضعت في منتصف صندوقها بالضبط. كانت برتقالة كاملة بالساق والأوراق، وتألقت في راحة يدها كما لو كانت شمسا صغيرة. ظلت تحملها فترة طويلة، تاركة دفأها يتدفق في أطرافها. ولما كانت تحمل ثمرة الفاكهة في يديها، أدركت أن سربها ما زال معها؛ ترك أعشاشه في كونستانتسا كي يتبعها عبر البحر، وكي يحرسها أثناء رحلتها. وعندما شعرت إلينورا بالجوع، قشرت البرتقالة والتهمتها قطعة قطعة، متلذذة بانفجار كل جزء غزير العصارة بين لسانها وسقف حلقها.
تلك كانت حياتها في بدن السفينة. ورغم أن معظم احتياجاتها الأساسية كانت تلبى، فإنها لم تكن طريقة لطيفة للعيش، وكثيرا ما تمكن منها شعور بالحنين الجارف إلى منزلها ووالدها، بل حتى إلى روكساندرا. وفي تلك اللحظات، لم تكن ترغب إلا في أن تفصح عن وجودها وتتحسس الطريق إلى السطح، وترتمي بين ذراعي والدها. ولكنها كانت تعلم أنها لو أفصحت عن وجودها مبكرا فسوف تفشل خطتها، وسوف يتخلص منها والدها في ميناء التوقف التالي ويرسل برقية إلى روكساندرا، ولن تسفر كل استعداداتها ومعاناتها إلا عن بضعة أيام من التأخير. وكان السؤال إذن كيف تعلم أن التوقيت مناسب، فلم يكن لديها ساعة أو تقويم أو معرفة واضحة لمسار الرحلة، لم يكن لديها سوى حدسها كي يدلها، وشعور ضبابي بموقعها في العالم.
كانت الليلة الأخيرة في رحلتهما، ليلة ما قبل الوصول إلى إسطنبول، عندما قررت إلينورا أن تفصح عن وجودها. ولم تكن تعلم بالطبع أن السفينة سوف تدخل مصب البوسفور في ذلك الصباح، ولكنها شعرت بتغيير طفيف في شدة الأمواج وانخفاض في قوة التنور، وبأن الوقت قد حان. وبعد أسبوع طويل قضته في بدن السفينة، كانت متسخة، وكانت رئتاها مليئتين بالفحم، وقد بدأت تشعر بألم في بطنها. تخيلت هيئتها، وخطر لها أن تحاول الاغتسال، وغسل وجهها بطريقة ما، أو ابتكار رداء جديد من أحد أثواب النسيج، ولكن لم تكن ثمة مياه في بدن السفينة، وأي رداء يمكنها ابتكاره سوف يفسد المزيد من بضاعة والدها. عليها أن تقدم نفسها كما هي.
مشطت شعرها للخلف، وعدلت ثوبها، ورتبت المكان حول الصندوق، ثم شقت طريقها عبر المنظر المألوف للأمتعة متجهة إلى الباب الحديدي الكبير الذي يؤدي إلى خارج بدن السفينة. وقفت إلينورا أمام الباب، ومررت أصابعها على سطحه المعدني الذي تشبه تجاويفه البثور في الباب المؤدي إلى علية السيدة براشوف. خلف هذا الباب يقبع والدها، وكل ألوان الطعام ووسائل الراحة في النوم، والحساء الساخن، والوسائد المصنوعة من الريش، وهواء البحر النقي. سرت رجفة من القلق في أناملها، وتوقفت كي تنظم أنفاسها. لقد حانت اللحظة. كانت أكثر خوفا مما توقعت؛ خائفة من رد فعل والدها، ومن أن يلقى القبض عليها قبل أن تجده، ومن أي كم من العواقب المخيفة التي لا يمكنها حتى أن تتخيلها. ولكن لم يكن لديها خيار آخر. فلا مخرج آخر. أخذت نفسا عميقا كي تهدأ، وأمسكت بمقبض الباب بكلتا يديها، ثم دفعته لتجد نفسها في ممر رطب خال يعد معتما وفقا للمعايير الطبيعية رغم أنه ساطع الإضاءة مقارنة بظلام بدن السفينة.
فركت عينيها وسارت في الممر بضعة أمتار حتى وصلت إلى غرفة مليئة بالأزرار والروافع والعجلات التي تطلق كلها أصوات صفير وطقطقة كما لو كانت مقهى مزدحما. وبينما وقفت إلينورا كي تختار الباب الذي ستمر عبره من بين الأبواب الثلاثة المتاحة، سمعت مجموعة من الكلمات، التي لم تتمكن من رؤية أصحابها، تعبر واضحة وسريعة كالملائكة. استمعت إلى الأصوات وهي تقترب أكثر فأكثر حتى أصبحت أمام باب الغرفة تماما.
ارتفع صوت رجل وهو يفتح الباب: «لا بد أنه هنا في مكان ما.»
واستطاعت من موقعها خلف كتلة من الأنابيب أن تلمح رجلين؛ أحدهما أكثر ضخامة من الآخر، وكان شارباهما وعمامتاهما تعكس ظلا منحنيا على الباب المفتوح خلفهما. «أين قال إنه موجود؟»
وعندما تحدث الرجل الثاني، أدركت إلينورا أنهما يتحدثان بالتركية. لم تكن قد سمعت تلك اللغة إلا في الدروس التي لقنها إياها والدها، ولكن بقليل من التركيز استطاعت أن تفهم جيدا. «قال إنه هنا.» «أين؟» «لو كنت أعلم ما كنا لنبحث عنه الآن.»
أخذ الرجل الأول خطوة صغيرة للخلف ورفع المصباح بحيث أضاء الغرفة. «هل رأيت ذلك؟» «كلا.»
ساد صمت طويل، وشعرت إلينورا بقلبها يخفق بين ضلوعها، وكان إحساس القبض عليها له مذاق المعدن في حلقها.
قال الرجل الأول وهو يستدير راحلا: «لا أرى شيئا؛ فالمكان شديد الظلام هنا.»
عندما خرجت إلينورا من خلف الأنابيب كانت ترتجف، فلو كان هذان الرجلان قد لاحظاها فلا أحد يعلم المتاعب التي كانت ستحدث لها. واستغرقت بضع لحظات كي تنتظم ضربات قلبها، ثم عدت حتى الرقم ثلاثين وتقدمت عبر الباب الذي خرج منه الرجلان، مفترضة أنهما سوف يعودان إلى الجزء الأساسي من السفينة. مرت عبر غابة من الأنابيب التي تقطر ماء والمصابيح التي لطخها سواد الفحم، حتى وجدت نفسها أخيرا في ممر أكثر إضاءة. وكان هذا الممر الجديد مبطنا بالسجاد والألواح الخشبية، وبه صف من الأبواب، كل منها تزينه نافذة دائرية ولوحة نحاسية تحمل رقما. كانت الأبواب من 16 إلى 30 مغلقة جميعها، ولكنها بينما كانت تشق طريقها أسفل الممر استطاعت أن تسمع سلسلة من الأصوات الخافتة المصاحبة للنوم ؛ الهمهمة والغطيط والتقلب في الفراش، تلك الأصوات التي تميز رحلاتنا المتقطعة في عالم الأحلام. وفي نهاية الممر، تسلقت درجا معدنيا وخرجت منه إلى مدخل المطعم.
رفعت خصلة من شعرها خلف أذنها وألقت نظرة على الغرفة الخالية. كانت الموائد مطوية ومكدسة في انتظار دخول السفينة إلى المرفأ، ومجموعة من أصص النباتات مكدسة في الزاوية، والبيانو يقف مستندا إلى الحائط كما لو كان تلميذا مشاغبا. سال لعاب إلينورا لدى تخيل الطعام. وأملا في أن تقودها تلك الأبواب الجلدية المزدوجة عند البيانو إلى المطبخ، عبرت إلى الناحية الأخرى من الغرفة كي تستطلع الأمر. وعندما اقتربت، استطاعت أن تسمع أصواتا قادمة من استراحة التدخين كما تؤكد اللوحة النحاسية المعلقة على الحائط. وعندما اقتربت أكثر، شعرت بآثار دخان غليون والدها. ربما يكون غليون أي شخص آخر في حقيقة الأمر، ولكن إلينورا لم تكن في موقف يسمح لها بالمراوغة. نحت ترددها جانبا واقتحمت الأبواب، وها هو كما تخيلت. كان والدها يرتدي السترة نفسها التي كان يرتديها ليلة رحيله، جالسا في مقعد ضيق يحتسي زجاجة من النبيذ بصحبة رجل متورد البشرة يرتدي حلة زرقاء داكنة. «بابا!»
في فترة الصمت الطويلة التي أعقبت ذلك، لاحظت إلينورا انعكاسها في المرآة المجاورة لرأس والدها. كان ثوبها ملطخا بالطعام، وقد تمزق جورباها عند الركبتين، ووجهها متسخ بغبار الفحم، وقد تدلت خصلة من الشعر الأشعث على عينيها. بدت مثل كيوبيد (إله الحب عند الإغريق) وقد عاد إلى منزله عقب معركة، مهزوما مسحوبا عبر الأوحال وذقنه للأرض وجناحاه متلاصقان بالطين. فتحت فمها كي تشرح الأمر، ولكن كل ما تدربت عليه وكل تبريراتها ودوافعها ذهبت أدراج الرياح. وبدلا من ذلك، اندفعت عبر الغرفة وألقت بنفسها بين ذراعي والدها، متسببة في سقوط زجاجته وانسكاب الخمر على السجادة.
قال وصوته يفصح عن شعوره بالدهشة وقدر لا يستهان به من الاستياء: «إيلي، ماذا تفعلين هنا بحق السماء؟!»
الفصل السابع
في الصباح التالي جلست إلينورا ووالدها على السطح الأمامي للسفينة يشاهدان إسطنبول وهي تظهر للعيان من البحر. بدت المدينة ضبابية للوهلة الأولى، لا تتجسد إلا كشبح ينام تحت الضباب، ولكن عندما اقتربت السفينة استطاعت أن ترى الخطوط العريضة للمدينة ومصابيح شوارعها تومض كما لو كانت جمهرة من النيازك. لم يكن الفجر قد حل بعد، وتدثرت إلينورا ببطانية من الصوف الخشن وهي جالسة على ساق والدها. كان لا يزال غاضبا منها، ففيما عدا تحية الصباح واقتراح الصعود إلى السطح الأمامي للسفينة، لم يتبادل معها يعقوب أكثر من بضع كلمات منذ أن أفصحت عن وجودها. شعرت بغضبه متجسدا في الوضع المشدود لساعده والشهيق المنتظم الذي كان يستخدمه لتهدئة أفكاره. لم تستطع أن تستشف كنه تلك الأفكار، ولم تعلم هل كان يخطط لإرسالها إلى كونستانتسا أم ينوي السماح لها بالبقاء معه في إسطنبول. لم تكن على دراية بحدود غضب والدها، ولم تكن لديها أدوات تمكنها من تقدير حجم هذا الغضب، ولكنها أدركت أنه من الأفضل ألا تخرق هذا الصمت.
أشرقت الشمس في موعدها من زاوية بعيدة في السماء، ومع شروقها انحسر الضباب. كان البوسفور مزدحما بالفعل، مكدسا بمراكب الصيد وقوارب التجديف والسفن البخارية المتثاقلة التي تمر بين حين وآخر. وعلى الشاطئ تحت ظلال أشجار السرو، أخذ أشخاص ضئيلو الجسم ينادون على بضاعتهم محدثين هرجا ومرجا، يساومون في الأسعار ويعقدون الصفقات ويتوسلون. تلألأت ثلاثة مساجد عملاقة ذات قباب على شكل السلحفاة في الشمس المشرقة ومآذنها تخترق السماء كالحراب، وعند المصب كان يقبع أعظم مبنى شاهدته إلينورا في حياتها؛ حدائق تعلوها حدائق، وقناطر، وأسوار، وجدران عالية يطوقها حائط من الرخام الأبيض اللامع، وتطل عليها وحدة من الأبراج الزجاجية. إنه قصر توب كابي مقر جلالة السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يقبع على حافة القرن الذهبي دليلا على الثروة والسلطة اللتين تفوقان الخيال.
بينما كانت السفينة تدخل المرفأ، دوى نفير القبطان، وانطلقت مجموعة من الصيحات في آن واحد على سطح السفينة. شرع فريق من العمال في ربط الحبال، وانفتح بدن السفينة بصعوبة، وتقدم حشد من عمال السفن إلى السفينة محكمين تثبيت الصناديق والأقفاص والبراميل إلى ظهورهم كما لو كانوا بغالا. وقبالة محطة القطار الجديدة كانت أحواض السفن تضم حشدا هائجا من البشر، مزيجا من الطرابيش والعمائم والسترات والمعاطف. تزاحم المتسولون الحفاة مع الباعة الجائلين الذين يلوحون ببضائعهم فوق رءوسهم، وفي أطراف الحشد أخذت سيارات الأجرة تناور الجمال والكلاب الضالة محاولة الحصول على مكان. كان ذلك ما تعنيه الآنسة يونسكو عندما أطلقت على محطة القطار في بوخارست «حشد سوقي من الرجال يخمشون ويزعجون بعضهم بعضا تنافسا على وضع أكثر تميزا إلى حد ما في الحشد.» وبينما لمحت إلينورا ما يبدو مؤخرة فيل يختفي في الزاوية، نشب شجار بين عاملين، واستطاعت أن تشعر بذراعي والدها وهو يضمها بشدة كي يحميها. غاصت في حجره أكثر، واستنشقت الرائحة المألوفة للكركديه ودخان الغليون قبل أن تجرؤ على توجيه سؤال.
قالت وهي تنظر إلى الجزء السفلي الكثيف من لحيته: «بابا، إلى أين نذهب الآن؟»
فأطلق تنهيدة.
ثم قال وهو يسحب علبة من التبغ من جيب سترته: «أول شيء سنفعله هو إرسال برقية إلى روكساندرا، ثم يقلنا صديقي منصف بك في سيارته حتى منزله. كنت أنوي البقاء معه طوال فترة رحلتي، وآمل أن يتمكن من استضافتك أنت أيضا.»
أشعل يعقوب غليونه تاركا لها الفرصة لاستيعاب مغزى تلك الكلمات.
قال وهو يسحب نفسا من الغليون: «لست أدري كيف خطر لك أنها فكرة جيدة، ولكن ها أنت هنا، وعلنا نستفيد من هذا الوضع بأقصى ما يمكننا.»
بينما كان والدها يدخن، هبت رائحة مالحة لاذعة من أحواض السفن، فتذكرت إلينورا تلك الأيام المظلمة في السفينة. ارتجفت للذكرى، ودفعت ذلك الخاطر بعيدا عن ذهنها. لم يطرح عليها والدها أي أسئلة عن الوقت الذي قضته في السفينة؛ مما أشعرها بالسرور، فقد كانت على يقين من أن بعض الأمور من الأفضل ألا تناقش. وعندما انتهى والدها من تدخين غليونه، وقف حاملا حقيبته في يد بينما يقودها باليد الأخرى هابطا إلى المرفأ. «هل تريد عربة يا سيدي؟ غرفة؟ حمل حقائب؟»
حتى قبل أن يغادرا سطح السفينة احتشد حولهما جمهرة من الباعة الجائلين والسماسرة المتدافعين، وهم رجال ذوو وجوه ملطخة بالشحم يلوحون بالبطاقات ويحاولون انتزاع حقيبة والدها.
وظل يعقوب يردد وهو يمر سريعا: «كلا شكرا، كلا شكرا.»
فقال أحدهم مطلقا ضحكة مكتومة: «فتاة لطيفة. هل هي ابنتك؟»
جذب يعقوب إلينورا عبر حشد الباعة والسماسرة إلى منطقة أقل ازدحاما بالقرب من محطة القطار، ووضع حقيبته. لقد اختفى الكاهن مولر، ويبدو أن منصف بك لم يصل بعد. خطر لإلينورا أن تسأل والدها عما إذا كانا سيرسلان البرقية إلى روكساندرا، ولكنه بدا متوترا، ولم ترغب في إثارة المزيد من غضبه بأسئلتها. بحث وسط الحشود مرة أخرى قبل أن يدفعها برفق في اتجاه مقهى صغير. «تعالي هنا يا إيلي. هيا نجلس ونحتس فنجانا من الشاي.»
وفور أن طلبا الشاي انحدرت عربة نحو باب المقهى، مشتتة سربا من النوارس وبعض المتطفلين غير المهذبين. كانت العربة ذات تصميم فخم، مكسوة بخشب البلوط، تقودها أربعة جياد عربية رمادية اللون. توقفت العربة للحظات قبل أن يفتح الباب ويخرج منها رجل طويل عريض المنكبين. حدست إلينورا أن هذا هو منصف بك. كان يرتدي سترة زرقاء داكنة، ويعلو رأسه شعر أسود كثيف، وترتسم على وجهه بدقة تلك الملامح المحدبة التي تميز المنمنمات الفارسية. يبدو أنه من ذلك النوع من الأشخاص الذين يقابلهم المرء في «الساعة الرملية»، ذلك النوع الذي لن تدهش إذا وجدته يناقش أمورا ذات أهمية كبرى في قاعة استقبال الكونت أولاف، أو يجلس مستمتعا في المقصورة الخاصة بفون هيرتزوج في الأوبرا. «منصف بك!»
ابتسم الرجل وعانق والدها بحرارة. «عزيزي يعقوب، لم أرك منذ زمن طويل.»
قال والدها: «حقا، منذ زمن طويل حقا.»
تعانقا مرة أخرى، ثم حول منصف بك انتباهه نحو إلينورا التي كانت لا تزال جالسة أمام المائدة.
تساءل «وهذه؟ من هذه الفتاة الجميلة؟»
شعرت إلينورا بالدم يندفع إلى أذنيها، فرفعت بصرها وابتسمت لمنصف بك أفضل ابتسامة يمكنها تقديمها.
قال يعقوب: «هذه ابنتي إلينورا، وآمل ألا يسبب وجودها أي إزعاج. كان من المفترض أن أرسل برقية أخبرك فيها بذلك مقدما، ولكن علي أن أعترف أنها كانت مفاجأة لي أيضا.»
قال منصف بك وهو يربت على معصم يعقوب محاولا تبديد مخاوفه: «لا عليك.» ثم استدار فجأة وأشار إليهما أن يتبعاه، وتابع قائلا: «سوف تفيدنا الطفلة، وخاصة إذا كانت طفلة ساحرة الجمال كابنتك.»
وهكذا تم الأمر، ففور أن شحنت صناديق يعقوب وجه منصف بك بضع كلمات إلى السائق ثم رحلوا. وعلى غرار معظم العربات في إسطنبول، كانت نوافذ عربة البك مغطاة بسواتر خشبية على هيئة تعريشة. وأوضح لهم الأمر قائلا إنه اختراع يحجب الشمس عن الركاب، بل أهم من ذلك فهو يمنع الناس من رؤية السيدات وهن يتجولن في أنحاء المدينة. ولحسن الحظ، فهو لا يمنع من بالداخل من رؤية ما بالخارج. وما إن استقرت إلينورا في المقعد المخملي الأحمر، حتى وضعت يديها في حجرها متقاطعتين، وحدقت إلى الساتر المقابل لها، متابعة صورا ومشاهد متعاقبة للمساجد والمباني المحلية، والقصور الخشبية التي تصدر صريرا، وأشجار الدلب، وعربات نقل الخضراوات، وما يبدو أنه سربها يحلق فوقهم منتصرا.
قال يعقوب وهو يضع ساقا على الأخرى: «لقد تغيرت المدينة كثيرا. بالطبع، فلم آت إلى هنا منذ عشرة أعوام تقريبا.»
نظر البك من وراء كتف ضيفيه، وبدا كما لو كان قد استغرق للحظة في المشاهد العابرة.
ثم قال: «ثمة مبان جديدة تظهر كل يوم؛ مقاه ومحلات ومدارس ومساجد وأسواق، ولكن الطابع الأساسي لا يتغير. فمهما يكن من يعتلي العرش، ومهما بنيت محطات سكك حديدية جديدة، ومهما تكن الدولة التي تحرس سفنها الحربية البوسفور، فسوف تظل إسطنبول هي إسطنبول، من الآن وحتى نهاية الزمان.»
قال يعقوب وهو يرفع يده اليمنى كما لو كان يقترح نخبا: «تعبير رائع. نخب إسطنبول.»
وسرعان ما توقفت العربة عند المدخل الأمامي لمنزل البك، وأخذ فريق من السائقين ينزلون أمتعة يعقوب، ويفكون الجياد من العربة ويعيدونها إلى إسطبلاتها. كان منزل البك قصرا ضخما باللونين الأصفر والأبيض يقع على حافة المياه، ويراقب حركة السفن العابرة برقي وهدوء، كما لو كان رجلا عجوزا يرتدي حلة من ثلاث قطع ويطعم الحمائم وهو جالس على أريكة الحديقة. وبينما كان منصف بك يقود ضيفيه إلى الباب الأمامي، ألقى نظرة فضولية على سرب إلينورا الذي اتخذ من شجرة زيزفون تتدلى على الممر الخاص عشا له.
همس والدها: «لقد تبعك السرب. اعتقدت أنني رأيت أحدها خارج فارنا، ولكن السرب بأكمله تبعك.»
دهشت إلينورا أيضا، لا لأنها تشك في وفاء سربها، ولكن لأنها مسافة طويلة ما بين كونستانتسا وإسطنبول. وكانت تتخيل الرحلة التي قطعها سربها عبر البحر عندما دخلت غرفة الانتظار في منزل البك حيث جذبت انتباهها الثريا البلورية الضخمة التي تتدلى من منتصف السقف. كانت تصدر مجموعة كثيفة من الانعكاسات، وبدت كما لو كانت ستنهار في أي لحظة تحت وطء ثقلها، وتتهشم على السلالم الرخامية أسفلها. وداخل الباب الأمامي على يمينها مباشرة ثمة مائدة جانبية تناثرت عليها بطاقات الزيارة، وعلى يسارها تقف درع من دروع الحرب حارسة دائما للغرفة، وبسطت تحت قدميها سجادة ضخمة من الحرير الأحمر والأزرق والأخضر صنعت في هيريكي تمتد لأكثر من ثمانية أمتار من الباب الأمامي حتى أسفل الدرج. كانت أروع سجادة رأتها في حياتها حقا، ذات حافة مزينة بالكثير من الورود تحيط بثلاثة رسومات متداخلة تمكنت من أن تتبين فيها تصوير سفينة نوح وجنة عدن وأيام الخلق السبعة.
قال البك وهو يخلع نظارته الأنفية ويمسحها في حافة سترته: «للأسف، فإن أجنحة النساء مغلقة الأبواب، فلم تعد لدينا نساء يقمن هنا منذ فترة. ولكن إذا لم تمانع الآنسة كوهين في الإقامة في جناح الرجال من المنزل، فإنني أنوي تخصيص غرفة تناسبها تماما.»
توقف ونظر إلى إلينورا ينتظر الحصول على الموافقة، ولمعت عيناه العسليتان في ضوء القمر عندما ابتسم.
قالت: «لا بأس، سأكون ممنونة جدا.» «حسنا، إنها ممتنة. لقد حسم الأمر إذن. أيها السيد كروم، من فضلك اصطحب الآنسة كوهين إلى الغرفة الحمراء.»
وهنا ظهر كبير الخدم من الزاوية المخصصة له، واصطحب إلينورا إلى الطابق العلوي وهو يمد راحة يده مبسوطة لأعلى مرتديا قفازا أبيض اللون.
قال وهو يمسك لها الباب: «غرفتك أيتها الآنسة كوهين. سوف أطرق الباب في الساعة الثامنة من أجل اصطحابك إلى مائدة العشاء.»
كانت الغرفة الحمراء كما يوحي اسمها؛ مغطاة بورق حائط أحمر اللون من نفس درجة لون الزخارف الموجودة خارج المنزل. ولتخفيف حدة ذلك اللون الأحمر، كانت الألواح الخشبية بالغرفة مطلية باللون الأبيض العاجي، بالإضافة إلى السقف والزخارف التي تزين النافذتين الكبيرتين ذواتي الستة عشر لوحا المقابلتين للباب. وعلى يسار إلينورا يوجد فراش ذو أربعة أعمدة مغطى بستائر من الدانتيل، كما لو كان محفة إمبراطورية، وأمامها أسفل النافذتين بالضبط مقعد جلدي باللون البني الفاتح، وطاولة كتابة من خشب البلوط تعلوها محبرة بلورية، وعلى يمينها مكتب ومائدة للزينة، كل منهما به أدراج تسع أكثر مما تتخيل أن تضعه داخلها. ظلت في المدخل فترة طويلة تتفحص الغرفة وأثاثها والسجادة اللامعة ذات اللونين الأزرق والأخضر المفروشة على الأرض والتي صنعت في تبريز. لقد قضت أسبوعا في بدن السفينة؛ ومن ثم كان يصعب عليها أن تتقبل وجود تلك الرفاهية، وأن تتقبل أيضا أن تلك الغرفة التي تفوق مساحة منزلها في كونستانتسا بأكمله أصبحت لها في الوقت الراهن على الأقل.
سارت إلينورا بخطوات حذرة على حافة السجادة حتى مائدة الزينة، وقربت وجهها من المرآة. راقبت أنفاسها وهي تتكون وتختفي على السطح الفضي، وقطبت وجهها في المنطقة المحيطة بأنفها، ونفخت خدودها. ثم ابتعدت عن المرآة، ورتبت خصلة شعر فوق جبينها، وأمالت رأسها إلى اليسار على نحو جذاب. كانت إلينورا قد شاهدت صورتها في المرآة من قبل لدى الخياط في كونستانتسا، ولكنها لم تتح لها الفرصة قط كي تفحص نفسها عن قرب هكذا. اتكأت للأمام مرة أخرى، واستندت بأنفها على سطح المرآة، بحيث لم يتسن لها أن ترى سوى عينيها والنصف العلوي من وجهها. حاولت التركيز، ولكن كلما أمعنت النظر أصبحت الأشياء أكثر ضبابية. تراجعت خطوة للخلف، ومسحت أنفاسها عن الزجاج، وتأملت نفسها عن بعد. لم يكن لديها شك في أنها جميلة، فطالما أخبرها الناس بذلك طوال حياتها، ولكنها في تلك اللحظة بدت رثة قليلا. فرغم أنها اغتسلت في الليلة السابقة وغسلت ملابسها ونامت على فراش ملائم، كان شعرها ملبدا، وعيناها غائرتين في محجريهما، وثوبها مهلهلا لا شكل له.
اتجهت إلينورا إلى الجانب الآخر من الغرفة كي تفتش فيما يبدو أنه خزانة؛ علها تجد ثوبا أنسب هناك. أدارت المقبض وفتحت الباب فتحة ضيقة، فوجدت أنها خزانة بالفعل، ولكنها فارغة إلا من سترة وزوج من السراويل وطربوش يبدو أنه لصبي في مثل عمرها. مدت يدها كي تلمس نسيج الطربوش بينما سمعت الباب يفتح، فاحتبست أنفاسها في حلقها واستدارت ببطء حتى رأت أن الصوت صادر عن امرأة عجوز متغضنة الوجه ترتدي ثوبا أزرق داكنا. لم تكن المرأة غاضبة من إلينورا لاختلاسها النظر في خزانة البك، بل إنها بدت هي نفسها خائفة قليلا. وضعت كومة من المناشف على أحد المقاعد بجوار الباب، ورفعت وشاحها كي تغطي خصلة من الشعر الأبيض، ومسحت جبهتها بكمها.
قالت بصوت منخفض: «إلينورا، لقد وصلت.»
لم تدر إلينورا كيف ترد على هذا التعليق، فانتظرت المرأة كي تكمل حديثها.
قالت وهي تعبر الغرفة: «أنا السيدة داماكان. عرفت والدك منذ عدة أعوام في كونستانتسا، والآن أعمل لدى البك.»
أخذت يد إلينورا بين راحتيها وأمسكت بها لحظة قبل أن يبدو عليها أنها تذكرت الغرض من وجودها في الغرفة. «قال البك إنك قد تحتاجين إلى تبديل ثيابك كما فعل والدك.»
فقالت إلينورا: «نعم، أعتقد ذلك.» «ولا ضير في الاستحمام أيضا.»
ابتسمت السيدة داماكان وقادت إلينورا عبر باب جانبي إلى الحمام الذي كان مفروشا بالبلاط الأزرق والأبيض، مغلفا بالحرارة والرطوبة، يعبق برائحة شجر البتولا. كان حوض استحمام خزفي يحتل إحدى زوايا الحمام، وفي الزاوية الأخرى قدر نحاسية ضخمة. حكت الخادمة عنقها، وتمتمت ببضع كلمات رقيقة قبل أن تنحني وتخلع ثوب إلينورا من عند رأسها، ثم أخذت القدر النحاسية تحت ذراعها وانصرفت مؤكدة أنها ستعود بعد قليل، تاركة إلينورا وحيدة عارية في منتصف الحمام. ورغم أنها لم تكن تشعر بالبرد، فقد ارتجفت ولفت ذراعيها بإحكام حول صدرها، وحدقت في شبح انعكاسها في أحد القوالب الزرقاء، ثم جلست على حافة المغطس وانتظرت عودة السيدة داماكان، التي عادت حاملة لوفة استحمام ووعاء مليئا بالماء الساخن.
قالت وهي تسكب الماء في المغطس: «عندما رحلت عن كونستانتسا، لم تكوني قد تجاوزت طول ذراعي، والآن ها أنت شابة يافعة.»
نظرت إلينورا إلى نفسها واحمرت خجلا، فلم يرها أحد عارية منذ فترة طويلة؛ ففيما عدا الأعوام الأولى من حياتها كانت تغتسل بنفسها وتبدل ثيابها وهي وحيدة في غرفتها. ولكن ذلك الخجل سرعان ما تلاشى في دفء حضور السيدة داماكان. تمسكت إلينورا بالحافة الخزفية الباردة، ودلت ساقيها في المغطس. كانت المياه أكثر سخونة مما توقعت، ولكن بعد بضع لحظات من الشعور بالحرارة اللاسعة نزلت منزلقة للخلف، وبدأت تستمتع بالبخار على وجهها والرائحة الزكية لصابون زيت الزيتون والماء الساخن يتخلل عظامها. أخذت السيدة داماكان تفرك جسد إلينورا بلوفة مبللة بالصابون برقة في بادئ الأمر، أو تقريبا بحذر، ثم بقوة متزايدة على ظهرها وساقيها وذراعيها ورقبتها وبطنها، وذلك بالقوة التي تجلي بها عاملة غسل الأطباق القدر كي تزيل الأرز الملتصق بقاعها.
وبعد ذلك تدثرت إلينورا بمنشفة بيضاء سميكة، وشعرت كما لو كانت طفلة رضيعة ولدت من جديد، وكأن المشقة والقلق اللذين عانت منهما الأسبوع الماضي قد ذهبا بالفرك، ويدوران الآن في دوامة المصرف مع مياه الاستحمام. كانت لا تزال تشعر بالتعب وعظام فخذها بارزة كأوتاد الخيمة، ولكنها شعرت كما لو كانت شخصا جديدا. «والآن، نأمل أن يناسبك هذا.»
استدارت إلينورا ورأت السيدة داماكان تقف خلفها، وثوب أزرق مخملي جميل يتدلى على ذراعها. وبعد أن أعطت إلينورا مجموعة جديدة من الملابس الداخلية، ساعدتها في ارتداء الثوب وإغلاق أزراره من عند الظهر. وبينما كانت السيدة داماكان تغلق الكبشة الأخيرة، قرع السيد كروم كبير الخدم الباب المفتوح، ودون أن يتفوه بكلمة أرشد إلينورا إلى غرفة الطعام بالطابق السفلي. كان والدها والبك قد جلسا بالفعل، ولكنهما نهضا واقفين عندما دخلت.
قال البك: «تبدين فاتنة.» وجذب المقعد المجاور له مشيرا إليها بأن تجلس: «هذا الثوب بالفعل يناسبك تماما.»
شعرت إلينورا بالخجل من مجاملات البك، فجذبت ياقة ثوبها المصنوعة من الدانتيل بعيدا عن عنقها، ونظرت إلى والدها. كان قد ارتدى أفضل ثيابه، وارتسمت على وجهه الذي اصطف فيه شارب مهذب حديثا ابتسامة فخر وهو يعبر إلى الناحية الأخرى من المائدة كي يضغط على يدها. «تبدين جميلة يا إيلي.»
وبعد برهة خرج السيد كروم من المطبخ يحمل ثلاث دجاجات مشوية ترقد على مهاد من الأرز بالزعفران. وبطبيعة الحال، كانت إلينورا ستولي المزيد من الاهتمام للحوار الدائر عن العمل والمشهد السياسي في إسطنبول، ولكن لما كانت تتضور جوعا فقد اقتصر اهتمامها على لحم الدجاجة الرطب المقرمش وحبيبات الزبيب الصغيرة المنتفخة المدفونة في الأرز. ورغم ذلك فقد استمعت مصادفة إلى جزء من الحوار الذي كان والدها والبك يناقشان فيه ظروف ابنة أخي السيدة داماكان التي ظلت في خدمة البك سنوات عديدة قبل أن تتزوج من شاب تتاري يعمل حدادا خارج سميرنا. كان الثوب الذي ترتديه إلينورا في حقيقة الأمر يخص ابنة أخي السيدة داماكان منذ زمن بعيد. وبعد تناول حلوى السفرجل، ذهب الرجلان إلى المكتبة وصعدت إلينورا إلى الطابق العلوي مرهقة كي تخلد إلى النوم.
وفي الصباح التالي، بعد أن أخذوا قسطا من الراحة وجددوا نشاطهم، استقلوا عربة البك إلى محطة جالاتا، وأرسلوا برقية إلى روكساندرا، ثم استقلوا عربة حمراء لامعة من عربات القطار المعلق صاعدين التل حتى شارع لو جراند رو دو بيرا. وقفت إلينورا في منتصف الطريق المنحني قليلا، وشعرت كما لو أنها قد ألقي بها في قلب بوخارست أو باريس، أو كأنها دخلت في إحدى صفحات «الساعة الرملية» أو أي كتاب آخر على نفس القدر من الروعة. أخذت تراقب السيدات الأوروبيات الأنيقات وهن ينتشرن في الزحام، وأغمضت عينيها واستنشقت الرائحة العذبة للوز المغلف بالسكر التي تنبعث من أحد الباعة أمام مقهى أوروبا.
قال البك وكعباه يقرعان الحصى: «تعالي أيتها الآنسة كوهين، أعتقد أن الوجهة التي نقصدها ستلقى اهتماما شديدا لديك.»
في حلته الرمادية المكونة من ثلاث قطع وطربوشه الصوفي الأحمر، كان منصف بك ذا هيئة لافتة للنظر. حتى السيدات الأوروبيات راقبنه باستحسان صامت وهو يقود إلينورا ويعقوب إلى الناحية الأخرى من الشارع، مارين ببائع خردوات وصيدلية واستديو تصوير، حتى توقفوا أخيرا أمام محل مكتوب على واجهته بالذهب «مدام بواريه، خياطة للسيدات». وبينما كانوا يدخلون، قرع جرس، ونظرت السيدة الجالسة إلى الطاولة - وعلى ما يبدو أنها مدام بواريه نفسها - إليهم من خلف نظارتها الطبية.
قالت: «مساء الخير، هل من مساعدة يمكنني أن أسديها لكم؟»
قال البك وهو يجلس على أريكة أمام ثلاث مرايا: «نرغب في تفصيل ثوب للآنسة الصغيرة.»
أدركت إلينورا أنها هي المقصودة بالآنسة الصغيرة.
فسعل والدها في منديله قائلا: «حقا يا منصف، لا داعي لذلك.»
قال البك: «ولكنني أعترض، فثمة حاجة ماسة لذلك.» «إنها بحاجة إلى ملابس جديدة بالطبع، ولكنني أعتقد أن هذا المحل خارج حدود إمكانياتنا.»
رفعت مدام بواريه حاجبيها وتخللت شعرها البني الذي وخطه الشيب بأصابع يدها.
فاستمر يعقوب مخاطبا مدام بواريه: «يمكنني أن أؤكد أن منتجاتكم من الدرجة الأولى، ولكنها مجرد فتاة صغيرة، ونحن لا نرغب في إثارة المتاعب لأحد.»
ظل البك جالسا على الأريكة ووضع ساقا على الأخرى، ثم جذب ساعة ذهبية من جيبه وفتحها كي يلقي نظرة على الوقت. «إنني مصر، وحقا ليس في الأمر أي متاعب. إننا محظوظون لأن السيدة داماكان وجدت هذا الثوب، ولكن كل فتاة يجب أن تمتلك على الأقل ثلاثة أثواب جميلة. أليس كذلك أيتها الآنسة كوهين؟»
أخذت إلينورا تعبث بالتموجات في خصر ثوبها. إنه محق، فلا يمكنها أن ترتدي نفس الثوب طوال الوقت الذي ستقضيه في إسطنبول، والنماذج المعروضة في واجهة المحل شديدة الجمال بالفعل. ولكن أكثر من رغبتها في ثوب جديد، كانت إلينورا ترغب بشدة ألا تثير استياء أي شخص، لا والدها ولا البك بالطبع.
اعترضت مدام بواريه أخيرا: «بالطبع، فآنسة بلا ثوب جميل كالبجعة بلا ريش، ولا أعتقد أنها ستكتفي بثوب واحد أو ثوبين . والآن أيتها الآنسة كوهين، يمكنك أن تجلسي كي نختار القماش الذي يلائمك.»
فقال والدها وهو يجلس بجوارها: «حسنا، لقد هزمت.»
خرجوا بعد مرور بعض الوقت حاملين رزمة من اللفائف الورقية البيضاء، واستقلوا عربة القطار المعلق هابطين التل. وبالإضافة إلى ثوب مسائي حريري رسمي ذي أكمام منتفخة ورباط كبير، اشترى منصف بك لإلينورا ثلاثة أثواب للاستخدام اليومي، وحذاءين ومجموعة كبيرة مما أطلقت عليه مدام بواريه أدوات الزينة الضرورية.
قال والدها وهم يتحركون على جسر جالاتا: «شكرا يا منصف، يمكننا تسوية الحساب بعد أن نقوم بزيارة الحاج بكير.»
وقالت إلينورا: «نعم، شكرا. إنني أقدر ذلك بالفعل.»
فقال البك وهو يلوح بيده لهما في غير اكتراث: «عفوا، لا شكر على واجب.»
وقبيل مدخل البازار المصري صعدت العربة في زقاق ضيق شديد الانحدار يكتظ بالأكشاك التجارية وعمال الشحن والتفريغ والبغال. انعطفوا يسارا ثم يمينا ثم يسارا مرة أخرى، قبل أن يتوقفوا في أعلى طريق مسدود حقير يصطف على جانبيه تجار الذهب. ترجلوا ومروا بصف من الرجال العجز الذين يحركون مسابح الصلاة وهم يحتسون الشاي ويلعبون الطاولة. وفي مركز الطريق المسدود كان ثمة باب متهشم أخضر اللون يؤدي إلى مخزن أهم تجار السجاد في المدينة، وهو رجل سوري يدعى الحاج بكير. كانت إلينورا قد سمعت قصصا من والدها عن الحاج بكير ومخزنه الكبير من السجاد، ولكن رؤية المخزن بعينيها كانت أمرا مختلفا تماما. كانت تلك الحجرة التي تشبه الكهف مضاءة بمصباح غاز واحد، وأي قدر من أشعة الشمس يمكنه أن يشق طريقه عبر النوافذ العلوية المتسخة، وكانت مكدسة على الجانبين بأكوام وأكوام من السجاد، كل منها في طول الإنسان. لا بد وأن ثمة ألف سجادة على الأقل في تلك الغرفة وحدها، بالإضافة إلى المزيد في السراديب الملحقة بها. «منصف بك.»
تراءى من خلف أحد الأكوام رجل بدين، تعلو وجهه البثور، يرتدي عباءة ناصعة البياض وطربوشا أخضر اللون. رفع الحاج بكير يده بالتحية قبل أن يتحرك متثاقلا صوب الناحية الأخرى من الغرفة.
قال البك وهو يسعل في قبضة يده: «أيها السيد كوهين، أود أن أعرفك بصديقي وشريكي في العمل، الحاج الموقر عبد العزيز إبراهيم بكير.»
هز الحاج بكير رأسه ومد يده مصافحا يعقوب بقوة، ثم أشار إلى المقعد الطويل الذي يمتد بطول أحد حوائط المتجر، وضم يديه وقال شيئا للبك. ولما كان الحاج بكير لا يتحدث سوى العربية، فقد كان منصف بك مضطرا للترجمة.
قال منصف بك: «إذا لم تمانع فإن الحاج بكير يرغب في معاينة السجاد الذي أحضرته.» «نعم، بالطبع.»
داعب والد إلينورا أطراف شاربه وهو يراقب المشهد بلا مبالاة، بينما أخذ فتى المتجر يفتح صناديقه ويخرج محتوياتها. وفي الوقت الذي استغرقه احتساء أكواب الشاي الصغيرة العذبة التي قدمها لهم الحاج بكير، كان الفتى قد أخرج كل السجاد ووضعه في كومتين في اتجاه الحاج بكير. كز الحاج بكير على أسنانه، وخفض فكيه، ثم رمق السجاد الذي يصطف على جدران مخزنه، ثم تنحنح مشيرا إلى الكومة الصغرى ووجه بضع كلمات إلى البك الذي بوغت إلى حد ما وهم أن يطرح سؤالا، ولكن الحاج بكير هز رأسه وكرر تلك الكلمات الثلاث مشوحا بيده نحو أنفه في حسم، كما لو كان يحاول إبعاد بعوضة عن وجهه.
قال البك: «يقول الحاج بكير إن سجادك شديد الجمال، ولكنه لن يأخذ هذه المرة سوى القطع التي على يساره، وهو يعرض خمسمائة جنيه في المجموعة بأكملها.»
راقبت إلينورا رد فعل والدها بعناية. إن خمسمائة جنيه مبلغ كبير، ولكنها أدركت من تعبير وجهه أن السجاد يستحق أكثر من ذلك. وفي الوقت نفسه ظنت أنه قد يوافق على هذا الثمن؛ فالحاج بكير لا يبدو من ذلك النوع من الرجال الذي يرغب المرء في استفزازه، فقد هب غاضبا مرتين في فتى المتجر ورفع يده كي يضربه قبل أن يتذكر الضيوف المجتمعين في صحبته. حركت إلينورا إحدى الحواف غير المربوطة للسجادة بطرف حذائها وهي تشاهد والدها ينهض من المقعد ويسير متمهلا نحو وسط الغرفة. ودون أن يلقي حتى مجرد نظرة على الحاج بكير، جلس القرفصاء بجوار السجاد محل النقاش، وأخذ يرفعها من الكومة ويضعها برفق واحدة تلو الأخرى كما لو كان مزارعا يعتني بمحصوله. وبينما لم ينظر الحاج بكير لكل قطعة إلا لمدة عشر ثوان أو خمسة عشر ثانية، استغرق يعقوب وقتا طويلا يقلب الزوايا ويتشمم النسيج. وعندما انتهى من فحص السجاد، اعتدل واقفا وزم شفتيه. وحدق الرجلان أحدهما إلى الآخر لبرهة من الوقت قبل أن يتحدث يعقوب. «لن أبيعها بأقل من تسعمائة.»
أخذ البك يترجم الكلام، ولكنه قوطع في الحديث، مبديا استياءه وعدم تصديقه، شاعرا بالألم والإهانة. كرر الحاج بكير عرضه السابق، ثم قال إنه يمكنه رفع المبلغ إلى ستمائة، وهذا هو العرض النهائي.
قال يعقوب: «ثمانمائة.»
وعندما ترجم البك عرضه المقابل، عض الحاج بكير على شفته السفلى وتمتم بشيء ما من بين أسنانه، فانزعج البك.
تساءل يعقوب: «ماذا قال؟»
قال البك: «لا شيء ذا أهمية، بل كان يحدث نفسه.»
استمرت المساومة لمدة ساعة تقريبا، وظل الحاج بكير يصيح ويلوح بذراعيه في الهواء بينما وقف والد إلينورا ثابتا لا يتزحزح عن الرقم ثمانمائة.
وظل يردد مرة تلو الأخرى: «تلك هي قيمتها»، بينما ظل الحاج بكير يرفع السعر في نوبات متقطعة.
وأخيرا، بينما بدا الحاج بكير على شفا الإصابة بانهيار عصبي، احمر وجهه وأخذ يلهث في زاوية من الغرفة، عندما وصلا إلى حاجز في السعر لا يمكن تخطيه؛ ومن ثم استسلم يعقوب. «سبعمائة وخمسون.»
هنا خرج الحاج بكير من زاويته وصافح يعقوب، ثم بدأ يصدر الأوامر لفتى المتجر. وقبل أن تصبح ثمة فرصة للتفكير مرة أخرى، رص السجاد وتم تبادل النقود، وكانا - يعقوب والبك - في طريقهما للخارج.
وأثناء ركوب السيارة في الطريق إلى المنزل، بعد أن رفض البك مرة أخرى عروضه لرد ثمن أثواب إلينورا، سأل يعقوب عما تمتم به الحاج بكير بصوت خفيض.
فقال البك: «يفضل ألا تعرف.»
فكر يعقوب مرارا وهز رأسه بالموافقة وهو ينظر إلى إلينورا.
وقال: «أنت على حق، ربما علينا ألا نعرف.»
الفصل الثامن
زين سقف غرفة المقابلات الخاصة بالسلطان بتصميم مذهب باللونين القرمزي والأخضر، وهو شبكة متداخلة من الدوائر تذكره دائما بذيل طاووس يبسط في ضوء الشمس. وبالمقارنة ببقية القصر، كان المكان عبارة عن غرفة صغيرة، لا يزيد حجمها عن مسكن كبير الأطباء أو مطبخ صانع الحلوى، ومع ذلك كانت هذه الغرفة تلعب دورا محوريا في شئون الإمبراطورية؛ ففيها يستمع السلطان إلى الشكاوى والطلبات التي يحضرها رعاياه، وفيها يطالع التفاصيل اليومية لملكه ويتواصل معها. جلس جلالة السلطان عبد الحميد الثاني على أريكته يحيط به من كلا الجانبين زوج من حراس القصر الصم واضعا ساقا على الأخرى، منحنيا إلى الأمام كي يستمع إلى سنجق بك - حاكم - نوفي بازار وهو يعرض طلبه. يبدو أن أحد جامعي الضرائب الريفيين قد هوجم بشدة من قبل جمهرة من ملاك الأراضي وشنق في ميدان المدينة. وفي ضوء تلك الأحداث، سعى السنجق بك في طلب المساعدة العسكرية من القصر؛ حيث أكد أن كتيبة أو كتيبتين تكفيان لحفظ النظام.
كان من المستبعد أن تكلف القوات الملكية بفض نزاع بعيد كهذا لا علاقة لها به، ولكن لما كان السنجق بك قد قطع كل تلك المسافة من نوفي بازار كي يطلب هذا الطلب بنفسه، بدا صوابا أن يدعه يقدم التماسه. ولما كان الأمر يتطلب اتخاذ إجراء فوري، ظل الضابط العسكري السابق ذو الوجه الشبيه بالماعز يستعرض الموقف في غرفة المقابلات، متوقفا بين الحين والآخر كي يحك مؤخرة رأسه أو يمسح آثار اللعاب عن شفتيه. وقبل أن يكلف السنجق بك بإدارة نوفي بازار، كان قد خدم ثلاثين عاما في الفرقة الثالثة من الجيش العثماني؛ حيث اشتهر بالوحشية في المقام الأول؛ إذ يشاع - على سبيل المثال - أنه قد أمر بارتكاب مذبحة لمدينة بلغارية بأكملها لرفضها إيواء قواته. لم يكن هذا السلوك بالنسبة إلى السلطان عبد الحميد يستحق المكافأة، ولكن الجنرال سيبا أوغلو قد رشح السنجق بك تحديدا للمنصب ووافق الصدر الأعظم. ولكن للأسف، أثبت السنجق بك عدم كفاءته حتى الآن في الإدارة، فلم يكن قادرا على أي شيء حتى على قمع تمرد يعد الأبسط من نوعه بسبب الضرائب. إنه موقف آخر كان الأفضل للسلطان فيه أن يستمع إلى صوت عقله فقط، مرة أخرى يخيب أمله في مستشاريه.
اتكأ عبد الحميد على مرفقه للخلف وتفحص كم قفطانه، وفرك النسيج بين إبهامه وأصبعه الوسطى مستشعرا الخيوط الحريرية خيطا خيطا. ثمة العديد من الأمور الأكثر أهمية التي يمكنه هو وجمال الدين باشا أن يهتما بها. فبينما كانا يستمعان إلى طلب السنجق بك المزعج على نحو متزايد، كانت الحرب بين الصرب وبلغاريا تتصاعد، وكان اليهود والبولنديون يتعرضون للتهجير الجماعي من بروسيا. فلم يشغل نفسه بتمرد بشأن الضريبة في مكان ناء؟ كان أكثر قلقا بشأن الخلية الوطنية اليونانية التي اكتشفها جمال الدين باشا في سالونيك، أو التذمر المتصاعد للدستوريين الذين يدعون إلى تأسيس برلمان جديد. ولأنه ظل ذلك الوحش في ثوب رجل الإدارة، ترك السلطان لعقله العنان متذكرا العام الماضي عندما كان ينتقد كعادته مؤتمر القوى العظمى المثير للغضب الذي عقد في برلين. وبناء على طلب شخصي من بيسمارك، أرسل عبد الحميد فريقا من أفضل الدبلوماسيين لديه لمساعدة سعد الله بك في برلين، ولكن اتضح أن رجاله ليسوا سوى أحجار على رقعة الشطرنج، مجرد أصوات إضافية تدعم موقف بروسيا وتسانده. فبينما كانت القوى العظمى تقسم غنائم القارة، كان مبعوثوه يدخنون ويحتسون شراب «أكوافيت» الكحولي مع ممثلي السويد والنرويج. لقد أصبحت الإمبراطورية العثمانية العظيمة سابقا، التي كانت حدودها تمتد من بوابات فيينا حتى شواطئ الخليج الفارسي، والتي كانت موضع احترام ومهابة في جميع أنحاء العالم؛ أمة من الدرجة الثانية من الصيادين والسكارى.
قال جمال الدين باشا مقاطعا طلب السنجق بك أخيرا: «كما تعلم، فقد طلبنا سابقا بعض القوات لتسهيل جمع الضرائب في بلاد الشام وأجزاء من البوسنة، ولكنك سوف تتفهم بالطبع أن قواتنا محدودة على نحو لا يمكننا من اتباع تلك السياسة في كل مرة.» «بالطبع.»
تابع الصدر الأعظم قائلا وهو يهذب أطراف شاربه: «في عالم مثالي، نود لو نتمكن من تقديم العون في كل مأزق يعرض علينا ، ونود لو نتمكن من إرسال المساعدة حيثما تكون مطلوبة، ولكن كما تعلم لسنا في عالم مثالي.» «نعم، على العكس.»
توقف جمال الدين باشا لحظات كي يدون بضع كلمات في مفكرته. «آمل ألا تفسر عدم استجابتنا بأنه تجاهل.» «على الإطلاق.» «لا يعني ذلك أننا لا نهتم بالأحداث الأخيرة في نوفي بازار أو بجمع الضرائب، بل على العكس، فإننا نهتم بكليهما، وإذا توافرت الظروف المثالية فلا شك أننا سوف نرسل القوات التي طلبتها في الحال، ولكن في ضوء الموارد المحدودة علينا أن نرتب الأولويات.»
قال السنجق بك: «بالطبع، شكرا يا جمال الدين باشا للسماح لي بالتعبير عن مشاكلي.» «على الرحب والسعة.»
فتابع السنجق بك وهو ينحني بشدة للسلطان: «وشكرا لك يا فخامة السلطان. يشرفني أن تعطفتم ووافقتم على مقابلة شخصي المتواضع.»
فأجاب السلطان: «إنني حريص دائما على تحسين أحوال رعاياي، وخاصة أولئك الذين في الأقاليم النائية.» «نعم يا فخامة السلطان. يمكنكم أن تثقوا تماما في أن مواطني نوفي بازار يتقدمون بخطى سريعة.»
فقال السلطان: «يسعدني سماع ذلك، ورجاء أن تعذرنا لمقاطعة مقابلتك.»
وهنا قاد أحد حراس القصر سنجق بك نوفي بازار، خارج غرفة المقابلات وأغلق الباب خلفه.
عدل السلطان جلسته على الأريكة قبل أن يلتفت إلى الصدر الأعظم. «أخبرني، ما الأعمال الأخرى التي علينا القيام بها قبل تناول الغداء؟» «لقد تسلمنا خطابا آخر من فون سيمنز.»
فأطلق عبد الحميد نفخة من أنفه وأغمض عينيه. لم يكن من مركزه التعامل باستمرار مع هؤلاء المصرفيين وأصحاب المصانع، ولكنه يدرك أن سكك حديد بغداد لا يمكن أن تبنى دون مساندتهم. «وكيف تقترح أن نجيب عليه؟» «أقترح أن ندعوه إلى القصر، ويمكنكم الحديث معه بإيجاز في الأمور العامة، وتترك التفاصيل لرؤساء الخزانة وإدارة الدين العام.»
مرر السلطان إبهامه على حافة الوسادة.
ثم تساءل: «وهل إدارة الدين العام معنية بالأمر؟» «أعتقد أنهم سوف يرغبون في ذلك.»
كز عبد الحميد على شفته وهز رأسه، فإدارة الدين العام تعد انتهاكا صريحا لسلطته، ولكن لم يكن ثمة ما بوسعه أن يفعله للإطاحة بها؛ فالإمبراطورية غارقة في الديون، وتلك هي الشروط التي توصلوا إليها لسداد الديون، أو في حقيقة الأمر تلك هي الشروط التي فرضت عليهم.
استأنف جمال الدين باشا حديثه قائلا: «إذا كنا نريد تطوير المناطق النائية، فعلينا أن نسهل تدفق البضائع بانتظام.»
قال السلطان بحدة: «إنني على دراية بالحجج التي تؤيد بناء السكة الحديدية، كما أدرك رغبة برلين في الربط بين إسطنبول وبغداد، تماما كما أدرك ميلك نحو القيصر. ولكنني أطلب منك ألا تقاطع أفكاري.» «معذرة يا فخامة السلطان، أعتذر لجلالتك.» «يمكنك أن ترسل الدعوة. قم بذلك في الحال.»
فقال الصدر الأعظم وهو يهب واقفا: «حسنا، سأقوم بذلك يا جلالة السلطان.»
رغم أن السلطان كان يعلم أنه لا داعي للتمسك بالشكليات مع مستشاريه، فقد شعر بالاضطراب إلى حد ما بعد هذا الحوار، وداهمته الرغبة في أن يخرج ليستنشق بعض الهواء النقي. هز رأسه محييا حراس القصر على جانبي أريكته، وخرج من الباب الخلفي لغرفة المقابلات، وأخذ منظاره الميداني الجديد من مكتبة أحمد الثالث، ثم تسلل بين حوائط جناح الخدم إلى حديقة التوليب. كان صباحا مشرقا على غير العادة في ذلك الوقت من العام، ورغم أن أزهار التوليب لم تكن قد تفتحت بعد، فقد أضفت أشعة الشمس الثابتة الدفء على الأرض كما لو كانت عاشقا قديما. كان الهواء يلفح وجهه بشدة وهو يتجول بين أزهار التوليب النائمة وحول ظلة بغداد وصولا إلى حديقة الفيل. إن الحاكم الناجح بحاجة قبل كل شيء إلى أن يظل على مسافة مناسبة من الأحداث التي تقع داخل ملكه، فإذا ترك نفسه فريسة للقلق بشأن تفاصيل كل معركة وكل مشروع للبنية التحتية، فلن يتمكن من التركيز أبدا على القرارات المهمة. وللأسف، فإن الصدر الأعظم قد أثبت مرة تلو الأخرى أنه عاجز عن إدراك ذلك المفهوم.
توقف عبد الحميد كي يسوي قفطانه، وجلس على المقعد أسفل أيكته المفضلة من شجر القراصيا. لم يكن ذلك هو الوقت المناسب من العام لمشاهدة الطيور، ولكن من يدري؟ فتح العلبة المبطنة بالحرير الأزرق، وأخرج منظاره الميداني وتفحص طول مضيق البوسفور. كان هذا المنظار الميداني الجديد الذي صنعه إميل بوش نفسه بناء على أمر خاص، أكثر وضوحا بمراحل من كل ما استخدمه من قبل، ولكن لم يكن ثمة الكثير مما يمكن رؤيته؛ بضعة نوارس تحوم حول المجثم، وبرج جالاتا المزود بفتحات للرمي، ونسر ذو ذيل أبيض يجثم على مئذنة مسجد علي باشا. كان السلطان على وشك أن يضع المنظار عندما رأى شيئا غريبا؛ سربا من الهداهد على ما يبدو، ذا ألوان مميزة من الأرجواني والأبيض، يجتمع حول منزل بالقرب من بيشكطاش بير. راقبه السلطان عدة دقائق، متعجبا مما جذب السرب إلى هذا المجثم تحديدا. ففضلا عن اللونين الأصفر والأبيض الزاهيين للواجهة، لم يستطع أن يجد سببا يجذب السرب إلى هذا المنزل، خاصة في ذلك الوقت من العام.
عندما أعاد السلطان منظاره إلى علبته، فوجئ بزوج من الهداهد الأرجوانية البيضاء نفسها جاثم على فروع الشجرة القائمة فوقه. كانا يتحدثان ويتناولان فتات البراعم البيضاء الوحيدة التي خدعت في دفء الأيام الماضية ظنا منها أن الربيع قد حل. حدق عبد الحميد إلى أعلى ناظرا إلى الطائرين، وتتبع رفرفتهما من غصن إلى آخر. كان مولعا بطائر الهدهد منذ رحلاته الأولى لمشاهدة الطيور عندما كان أميرا شابا؛ فهو طائر ملكي رائع يتمتع بالعظمة والأناقة اللازمتين للملوك، ولكنه في الوقت نفسه أحد أنواع الطيور الأكثر وعيا، لا يتحرج من الاغتسال في التراب أو بناء عشه من الفضلات. إنه يذكر أن الهدهد هو ما كان حلقة الوصل بين ملكة سبأ والملك سليمان، والهدهد أيضا هو ما أقنع الطيور الأخرى بالانطلاق بحثا عن سيمرج العظيم (في الأسطورة الفارسية، وهو وحش ضخم مجنح على شكل طائر يعيش في الماء ويعتقد أنه يملك حكمة كل العصور)، وذلك في قصيدة فريد الدين العطار الشهيرة. لم يكن عبد الحميد بارعا فيما يتعلق بالأسماء اللاتينية، ولكنه كان دوما يتذكر الاسم اللاتيني للهدهد: أوبوبا إيبوبس. «أوبوبا إيبوبس.»
وبينما كان يتلفظ بالاسم بصوت عال، وثب الطائر الأصغر إلى الغصن الذي يعلو رأسه مباشرة، وحدق الاثنان أحدهما إلى الآخر لبرهة قبل أن يرفرف الهدهد لأسفل ويحط بجواره على المقعد. أمال الطائر رأسه كما لو كان يترقب شيئا أو يتساءل عن شيء، ثم وثب مقتربا منه. لم يكن عبد الحميد واثقا مما يريده الهدهد، ولكنه اقتطف برعما من الفرع الذي يعلوه وقدمه له. وثب الطائر مرتين ثم حمل البرعم في فمه، كما لو كان هذا ما ينتظره بالضبط، ثم حلق بعيدا عبر المضيق.
الفصل التاسع
قضت إلينورا ووالدها بقية الأيام في إسطنبول على غرار اليوم الأول، فكل صباح بعد تناول إفطار مكون من الخبز والعسل والزيتون وقطع الجبن الأبيض، كانا يستقلان عربة منصف بك، ويركبان عربة القطار المعلق صاعدين التل إلى شارع لو جراند رو دو بيرا؛ حيث يصر البك على شراء المزيد من الهدايا لإلينورا وكذلك ليعقوب. وكانا في بداية الأمر يشعران بعدم الارتياح تجاه ذلك الموقف؛ بالنسبة إلى إلينورا فإنها لم تتلق هدايا قط من أي شخص، وبالنسبة إلى والدها فلم يكن يرغب كما ردد مرارا في أن يثقل على مضيفهما. حاول يعقوب أكثر من مرة أن يجازي البك صنيع معروفه، ولكن البك كان يقابل تلك المحاولات بالرفض التام. أصر منصف بك على أن التسوق ليس إزعاجا على الإطلاق، بل إنه في حقيقة الأمر متعة. فهو لم يكن لديه أطفال أو أبناء أشقاء أو أي شخص يمكنه شراء هدايا له؛ ولذلك كان يستمتع بتلك الفرصة لإنفاق نقوده على آنسة حسناء كإلينورا. فما فائدة النقود على أي حال؟ وعندما ينتهون من التسوق كانوا يجمعون أغراضهم ويتوقفون لتناول الغداء في أحد المطاعم الراقية في الطريق، ثم يتوجهون أسفل التل إلى سوق الأقمشة حيث يرتب منصف بك مجموعة من المواعيد ليعقوب، وفي المساء يعودون إلى منزل البك ويأخذون قسطا من الراحة؛ حيث يهتم كل منهم بشئونه على حدة.
عادة ما كانت إلينورا تقضي ذلك الوقت في غرفتها بالطابق الأعلى تقرأ نسخة البك من «الساعة الرملية» وهي مسترخية على المقعد المجاور للنافذة البارزة. كانت قد عثرت على الكتاب مصادفة وهي تتصفح المكتبة في ليلتها الثانية في إسطنبول. كانت واقفة على سلم في منتصف المسافة إلى أرفف الكتب تتصفح مجموعة البك الضخمة من دفاتر الخرائط عندما خطف بصرها الغلاف المألوف ذو اللونين الأزرق والفضي لكتاب «الساعة الرملية». قضت بقية الليلة وكل ليلة منذ ذلك الحين غارقة في المجلدات الأخيرة المعروفة باسم مجلدات تريستي من الرواية الملحمية. تجلس إلينورا وقد ضمت أطرافها في مقعدها والساعة الرملية متوازنة على حافة ركبتها، لا يمكن أن تكون أسعد من ذلك. كم يسعدها أن تقرأ بحرية وتستغرق في كتاب دون أن تخشى أن تحدق إليها روكساندرا من الخلف. ورغم انهماكها في الكتاب، كانت تنظر بين حين وآخر إلى النافذة متتبعة رفرفة سربها من الإفريز حتى الغصن، أو مداخن السفن البخارية وهي تحلق بمحاذاة تلال البرتقال الداكنة.
انتهت من قراءة المجلد الأخير من «الساعة الرملية» قبل موعد رحيلها هي ووالدها من إسطنبول ببضعة أيام. ورغم أنها تساورها رغبة قوية في العودة إلى المجلد الأول وقراءة الكتاب بأكمله مرة أخرى وهي تضع المصائر النهائية للشخصيات في ذهنها، فقد رأت من الأفضل أن تستريح الليلة. كان العشاء في تلك الليلة مكونا من الباذنجان ويخنة لحم الضأن بالصلصة البيضاء. وعقب تناول العشاء قادهما البك أسفل البهو إلى المكتبة حيث تراصوا حول المدفأة في ثلاثة مقاعد جلدية ذات لون بني فاتح. كانت المكتبة تشغل حيزا داكنا مكسوا بألواح خشبية مزينا بكرات أرضية عتيقة وأدوات ملاحية، وكانت مغطاة من الأرضية إلى السقف بالكتب؛ دراسات في فقه اللغة، وكتب جغرافية، وموسوعات، ومعاجم خاصة بسير الأشخاص، وقصائد، وروايات، وبعض الأوراق الدينية مغلفة كلها بالجلد المغربي الأحمر والأزرق والأخضر والبني. قدم لهم السيد كروم حلوى البقلاوة بالفستق وأكوابا من الشاي على شكل أزهار التوليب، بينما جلس البك يستعد كي يلعب الطاولة مع يعقوب. كان لوح الطاولة الخاص بالبك مزينا بتصميم رباعي الأضلاع على هيئة شجرة أرز صغيرة، وكان تحفة دالة على البراعة والفخامة. جلست إلينورا تراقب يديه الكبيرتين وهما تنزلقان على سطح اللوح، تدفعان القطع الزجاجية المصنوعة من العقيق في أماكنها، وحاولت أن تفهم اللعبة، ولماذا ترتب القطع هكذا، وكيف تتحرك على سطح اللوح.
سألها البك عندما التقت عيونهما: «هل لعبت من قبل؟»
شعرت إلينورا بوجنتيها تتوردان خجلا. «كلا.» «يمكنني أن أعلمك إذا رغبت في ذلك. لن يستغرق الأمر وقتا طويلا.» «أشكرك، ولكنني أفضل أن أشاهد اللعبة فحسب الآن، وذلك إذا لم يكن في الأمر إزعاج.»
نظرت إلى البك ثم إلى والدها الذي كان مشغولا في ضبط السيجار. «لا إزعاج على الإطلاق يا إيلي، وإذا كان لديك أي أسئلة يمكنك أن تطرحيها.»
رغم أن منصف بك ويعقوب كانا أرستقراطيين، فقد لعبا الطاولة بقوة مطلقة؛ حيث أخذا يقرعان اللوح بالقطع ويقذفان زهري النرد العاجي بقوة في الزوايا. ومن وقت لآخر كانا يتوقفان لأخذ رشفة من الشاي أو أخذ نفس من دخان السيجار ونفثه، ولكن ما يحكم إيقاعهما كان اللعبة، وقرع العاج على الخشب، وخلط العقيق والزجاج. كانا يلعبان دون أن يتوقفا للتفكير في تحركاتهما، بنفس الثقة اللامبالية لحداد سحق نفس القالب آلاف المرات. ولم يتحدث أحدهما حتى الدور الأخير من اللعبة.
قال منصف بك وهو يهز زهري النرد بين راحتيه: «نسيت أن أذكر أنني مدعو غدا إلى رحلة بحرية بمناسبة عيد الميلاد الخامس والسبعين لنائب القنصل الأمريكي.»
وضع والد إلينورا الرماد في المنفضة الفضية المجاورة له.
ثم قال: «أنا واثق من أنني وإيلي سوف نتمكن من شغل وقتنا، ربما نزور برج العذراء أو قلعة روملي.»
فقال البك وهو يلقي زهري النرد رابحا اللعبة: «كلا، ما أعنيه أنني أرغب في أن تنضم إلي أنت والآنسة كوهين، فلست أحضر تلك المناسبات عادة، ولكنني ظننت أنكما ربما تستمتعان بها، وأؤكد لكما أن ذلك لا يعد إزعاجا. هذا حقيقي بالفعل في الظروف العادية. أعني أنني ما كنت لأحضر تلك المناسبة، ولكن من المفيد لي أن أظهر في الأوساط الاجتماعية.»
التقط يعقوب إحدى زهري النرد ونقر بظفر إبهامه عليه.
ثم قال وهو ينظر إلى إلينورا كي يتأكد من موافقتها على ما يقول: «إننا نقدر بالفعل كل ما قمت به من أجلنا، وأعلم أن كلينا حزين لمغادرة إسطنبول.»
قطبت إلينورا عينيها وأمالت رأسها. كانت تعلم طوال الوقت أنهما سيضطران لا محالة إلى مفارقة البك وإسطنبول والنمط اليومي الذي اعتادت عليه سريعا، ولكن إدراك المرء أنه يتحتم عليه المغادرة يختلف تماما عن المواجهة بالرحيل الوشيك. فكل منا سوف يرحل مغادرا هذا العالم يوما ما، ولكن من منا مستعد للرحيل؟ نظرت إلينورا للأسفل نحو حذائها الجلدي الأسود الجديد وقرعت كعبي الحذاء معا. «هل تلعب معي يا بابا؟»
لم تسأل لأنها ترغب في اللعب، بل لأنها خشيت أن تكون تلك فرصتها الأخيرة للعب على لوح البك. وبينما ظل السؤال عالقا في الأثير بينهما، تزاحمت في عقلها فرص أخيرة أخرى واحتمالات بعيدة، ولكن ما من مرات أخرى.
فاعترض البك قائلا: «سوف ألعب معك أنا، وذلك إذا لم تمانع يا يعقوب.» «بالطبع لا أمانع، فلا ضير في القليل من لعبة الطاولة، كل ما في الأمر أنهما كانا أسبوعين حافلين.»
قال البك: «بالطبع»، ثم أدار المائدة وشرع في الإعداد للعب مرة أخرى. «هل أنت متأكدة من أنك تفهمين قواعد اللعبة جيدا؟»
فقالت إلينورا وهي تحدق بشدة إلى اللوح: «نعم، أعتقد ذلك.»
ناولها زهري النرد فأخذتهما، وبعد لحظة صمت استشعرت فيهما ملمس العاج البارد في راحة يدها. ألقت بالزهرين، فحصلت على واحد-اثنين، وهو أسوأ استهلال ممكن. ألقت نظرة على والدها، ومالت للأمام. فكرت في الخيارات المتاحة لديها، ثم حركت إحدى القطع ثلاث خانات لليسار.
سألها البك: «هل أنت متأكدة من أنك تريدين ذلك؟ فتلك الخطوة تعرضك لخطر الهجوم.»
فهزت رأسها.
تابع قائلا وهو يحرك القطع الخاصة به على نحو افتراضي نحوها: «انظري، إذا حصلت على اثنين أو أربعة فسوف أصطدم بك.» «إنني متأكدة.»
هز البك كتفيه، ثم التقط زهري النرد وألقى بهما: ثلاثة-خمسة.
فقال وهو يتناول الرشفة الأخيرة من الشاي: «حسنا، أعترف أنني أخطأت.»
بنهاية الدور الأول من اللعب كان يعقوب يغط في نومه، وهي تذكرة لطيفة متذمرة بأن الوقت قد تأخر، ولكن رغم ذلك فقد أنهيا اللعبة التي ربحتها إلينورا، ثم ربحت لعبة أخرى قبل أن تقرر أن موعد النوم قد حان.
صعدت إلينورا متثاقلة على ضوء مصباح زيتي إلى غرفتها، تلك الغرفة التي ستكون عليها مغادرتها قريبا. في غضون أقل من ثماني وأربعين ساعة سوف تودع هذا المنزل والبك والمدينة بأكملها. وإلام تتجه؟ رحلة بحرية عودة إلى المنزل والكدح المضجر للحياة في كونستانتسا. وعندما تخطت العتبة، لاحظت أن إحدى النوافذ في غرفتها مفتوحة. هب عليها نسيم معتم جعل المصباح يصدر حفيفا، فاقشعر بدنها. وعندما استدارت كي تغلق الباب خلفها، هب طائر من أحد أعمدة الفراش وحط على حافة النافذة. كان أحد أفراد سربها، ويبدو أنه كان يريد شيئا ما. وضعت إلينورا المصباح على عمود السرير، وعبرت الغرفة إلى الجانب الآخر، ثم جثت على ركبتيها أمام حافة النافذة، متكئة بذقنها على ذراعيها. كان الهدهد قد أحضر معه برعم كرز معظمه أخضر اللون، به بتلات بيضاء ظاهرة في أعلاه. وبدلا من أن يطير مبتعدا، نظر إليها مباشرة وهو ينفض الريش المخطط باللونين الأرجواني والأبيض في تاجه.
التقطت برعم الكرز ووضعته عند أنفها.
ثم تساءلت بصوت عال: «لم لا يمكننا البقاء في إسطنبول؟»
عندما سمع الهدهد صوتها، أمال رأسه إلى الجانب كما لو كان يرغب في الاستماع إليها بمزيد من الاهتمام. ألقت إلينورا نظرة على المدينة الغارقة في الضباب، التي تلمع كما لو كانت مجموعة شاردة من النجوم وقعت في شرك المضيق المظلم. وعندما أخذت نفسا عميقا كي تتحدث، غرقت المدينة في صمت مترقب، وأبطأت الأرض من دورانها. «أتمنى لو أبقى، أتمنى لو أبقى في إسطنبول إلى لأبد.»
وهنا وثب زائرها إلى حافة النافذة وطار محلقا في الظلام. رفرف بجناحيه وانحدر نحو الماء، ثم انضم إلى السرب واختفى في ظلام الليل.
استيقظت في الصباح التالي على صورة السيدة داماكان وهي تقف في مدخل غرفتها حاملة كومة من المناشف وقدرا نحاسية مليئة بالماء الساخن. ورغم أن إلينورا كانت متحفظة عندما اغتسلت للمرة الأولى، فقد أصبحت تتطلع إلى زيارات السيدة داماكان والماء الساخن المزعج والرائحة العذبة لصابون الياسمين والمنشفة الدافئة المنعشة في نهاية الأمر. وكان الجزء المفضل لديها من هذا الطقس الروتيني يأتي بعد الاغتسال؛ فعندما تجفف إلينورا نفسها وترتدي ملابسها كانت السيدة داماكان تجلسها على أحد المقاعد المخملية الحمراء المجاورة للباب، وتمشط لها شعرها وهي تترنم بأغان من الفولكلور التتاري تستدعي ذكريات إلينورا الأولى كما لو كانت حلما يعاد نسجه. لم تدرك إلينورا حتى ارتدت ملابسها واستعدت لتناول الإفطار أن تلك قد تكون المرة الأخيرة التي تحممها فيها السيدة داماكان.
عندما وصلت إلينورا ووالدها والبك إلى بيشكطاش بير، كان سرب الهداهد بأكمله ينتظر في صمت في أفرع شجرة تتدلى على المبنى. وبعد أن ركب ضيوف نائب القنصل وشقت المركب طريقها بعيدا عن الرصيف، انفصلت مجموعة صغيرة من السرب وتبعتها من أعلى، ولكنها رغم ذلك احتفظت بمسافة حذرة. ألقى منصف بك نظرة على الطيور، ثم على الشاطئ نحو منزله، هناك حيث قضت الطيور معظم الأسابيع السابقة. هب نسيم قارس على البوسفور، واكتست السماء بنفس لون البلاط الأزرق الزاهي في مسجد السلطان أحمد. أمسكت إلينورا بالسياج في يد ولوحت بمنديل والدها الذي كانت تمسكه في اليد الأخرى لعمال السفن والبحارة المتجمهرين حول المبنى. كانت ترتدي فستانا من اللون الأخضر الفاتح، ذا أكمام قصيرة منتفخة وشريط من نسيج التفتة الحريري المتدلي للأمام، وهو نسخة معدلة من أحد التصميمات المعروضة في واجهة محل مدام بواريه. كم تبدو بعيدة الرحلة الأولى إلى بيرا، ولكن في حقيقة الأمر لم يمض على وجودهما في إسطنبول سوى أقل من ثلاثة أسابيع. كانت قد رأت الكثير من المدينة، والآن مهما تقل ومهما تعترض فسوف يرحلان قريبا. كان التفكير في رحيلهما الوشيك أصعب مما تستطيع احتماله، فطردته بعيدا عن ذهنها.
أشار البك إلى نادل عابر، ورفع كأسي شراب عن صينيته ثم أعطى يعقوب إحداهما.
قال وهو يرفع كأسه: «في صحتك .»
فرفع يعقوب كأسه أيضا وتبادلا قرع الكئوس. «في صحتك.»
طبقا لرواية منصف بك، كان من بين الحاضرين في ذلك المساء الليدي كاترين دو برج، والملحق العسكري البروسي، ورسام فييني ذو صيت واسع ينتمي للمدرسة التجريبية، والسفير الفرنسي، ومدام كورفيل، وبالطبع نائب القنصل الأمريكي. لم يكن القنصل نفسه حاضرا، فقد استدعي في ذلك الصباح في مهمة عاجلة تتعلق بترحيل الأجانب من بروسيا. اتكأت إلينورا بكتفها على السياج وتابعت سير الحفل؛ الندل ذوو المعاطف الحمراء يقدمون الكافيار والمقبلات عبر حشد من الملابس الرسمية للرجال والفساتين الواسعة المنفوشة، والشراب في أيدي الجميع، وفي كل كأس من الشراب قطعة من الثلج تعكس ضوء الشمس. كان البك يتحدث مع سيدة أمريكية عجوز عندما التقط يعقوب فطيرة من صينية أحد الندل العابرين، وذلك بعد أن فرغ من تناول شرابه. وبينما كان يلوك قطعة من المقبلات في فمه، لاحظت إلينورا الكاهن جيمس مولر وهو يشق طريقه نحوهما عبر الحشود. «عزيزي السيد كوهين، يا لها من مفاجأة لطيفة!»
تصافحا بقوة، ثم أمسك يعقوب الكاهن من وجنتيه وقبله في جبينه.
وعندما فرغا من العناق قال يعقوب: «منصف بك، أود أن أعرفك على صديقي الطيب ورفيق غرفتي السابق الكاهن جيمس مولر. إنه عميد كلية روبرت، وهو أمريكي من ولاية كونيتيكت.»
قال البك وهما يتصافحان: «تشرفت بلقائك.» «وهذا أيها الكاهن مولر أكرم مضيف وصديق وشريك عمل، منصف باركوس بك. لن تجد تركيا أفضل منه في إسطنبول.»
فقال الكاهن: «منصف باركوس بك! إنني أسمع هذا الاسم منذ أن وطئت قدماي أرض إسطنبول، وإنني سعيد للغاية أن قابلتك شخصيا.» «إن سمعتك تسبقك أيضا أيها الكاهن مولر.» «آمل أن تكون سمعة طيبة.»
ارتشف البك رشفة من شرابه وابتسم. «في الأغلب طيبة.» «هذا يكفيني.»
قال البك وهو يخطو جانبا كي يشرك إلينورا في الحديث الدائر: «أظن أنك تعرف الآنسة كوهين الصغيرة، إنها آنسة رائعة بكل المقاييس، وكما اكتشفت بالأمس فإنها أيضا خبيرة في لعب الطاولة.» «حقا؟»
غضت إلينورا بصرها ونظرت إلى تباين الألوان بين حذائها الأخضر الفاتح وسطح المركب.
قال البك: «لقد هزمتني مرتين متتاليتين بذكاء. أود لو أعزو نجاحها إلى الحظ، ولكن كما يقال فالمرء لا يبحث عن الحظ، ولكن الحظ هو ما يبحث عنه.»
فقال الكاهن بالنبرة الجهورية التي يستخدمها في حالة الاستشهاد: «بالفعل، فالحظ يؤثر على كل شيء. دع صنارتك ملقاة دائما، وفي النهر الذي لا تتوقعه سوف تجد سمكة.»
فاعترض يعقوب قائلا: «لا أعتقد أنه حظ على الإطلاق، فكما أخبرتك على السفينة لقد قرأت كل الكتب تقريبا.»
فردد الكاهن مولر: «كل الكتب؟» ونظر في عيني إلينورا مبتسما: «حسنا يا آنسة كوهين، ما هو كتابك المفضل؟»
فقال والدها وهو يضع يده على كتفها: «هيا يا إيلي، أخبريه بكتابك المفضل.»
نظرت إلى الرجال الثلاثة وهي تقطب جبينها قليلا في الشمس؛ فالحقيقة أنها لم تقرأ سوى العشرات من الكتب.
ثم قالت: «حتى الآن، كتابي المفضل هو الساعة الرملية.»
فانحنى الكاهن مولر إلى مستواها متسائلا: «كم قلت إنك تبلغين من العمر؟» «ثماني سنوات.»
فردد: «ثماني سنوات وتقرئين الروايات؟ كم هذا مثير للإعجاب!»
كان الكاهن مولر على وشك الإسهاب في أفكاره عندما ربتت شابة مليئة بالحيوية على كتفه وهمست شيئا في أذنه. كانت ترتدي ثوبا أخاذا بلون اليوسفي، والقماش البرتقالي الفاقع مزين من أعلى بشريط أبيض يمتد إلى الخلف حتى يتجمع عند ظهرها الذي كان منفوشا ببطانة ضخمة جدا. وخطر لإلينورا أنها تبدو كما لو كانت حلزونا غريب الشكل.
قال الكاهن: «أرجو المعذرة، فقد ذكرتني مدام كورفيل بأمر عاجل علينا أن نهتم به. لن يستغرق الأمر سوى لحظات.»
فقال البك: «لا عليك. في الحقيقة كنت أعتزم الآن أن أري آل كوهين المشهد من مؤخرة السفينة، فهو مشهد ساحر بالفعل. يمكنك الانضمام إلينا إذا أحببت.»
فقال الكاهن مولر: «عظيم.» واستدار إلى يعقوب قائلا: «صديقي العزيز، علينا أن نناقش أمورا تتعلق بالعمل. ولا تظن أنني قد نسيت أمر تلك السجادة المصنوعة في تبريز التي نصحتني بها لمكتبي.» «نعم، سجادة هيريكي. يمكننا مناقشة ذلك الأمر فيما بعد.»
فقال الكاهن وهو يبتعد مع مدام كورفيل: «حسنا، أراكم لاحقا.»
كان المشهد من مؤخرة السفينة ساحرا بالفعل، فقد ألقت زرقة الصباح الفاتحة المشرقة ببعض الظلال الصفراء، ولم تكن ثمة سحب في السماء على الإطلاق على مدى بصر إلينورا. تقلص قصر توب كابي إلى حجم إبهامها على مسافة ذراع واحدة، واختفت كل المآذن خلف التلال فيما عدا أطراف المآذن الطويلة. وفي ذلك المكان، كانت ضفاف البوسفور مغطاة برقعة كثيفة من أشجار الصنوبر تقطعها كل بضعة كيلومترات قرية صغيرة ورصيف بحري وبضعة رجال ذوو طرابيش رثة يحتسون الشاي. كان الهواء باردا مفعما بالدخان يحمل رائحة الصنوبر. أخذت إلينورا نفسا عميقا، وتفحصت الرائحة ثم أودعتها ذاكرتها. فتلك هي الرائحة التي ستتذكر بها إسطنبول.
ولكن الذاكرة متقلبة كالقدر.
وعقب أن أعادهم البك مرة أخرى إلى مؤخرة السفينة، اصطدمت السفينة بموجة هوجاء. تعلقت إلينورا بذارع والدها عند الهزة الأولى، وتعلق هو بالسياج. أخفى يعقوب تقطيب جبينه ثم استدار كي يتوجه إلى ابنته بسؤال. بدا كما لو كان قد انزعج لمقابلة شبح، فقد غارت وجنتاه وأصبح وجهه شاحبا كلون فستانها، وتمتم بشيء عن دوار البحر، ثم أمسك بمعدته واندفع إلى مقدمة السفينة، فكادت قدمه تزل على مجداف غير مربوط. «معذرة.»
وبينما ابتعد وقع خطوات والدها، حملت الرياح صوت أغنية «عيد ميلاد سعيد» من مقدمة السفينة. رمشت إلينورا بعينيها، وفتح البك فمه كي يتحدث، ثم ترنحت السفينة كما لو كانت قد اصطدمت بصخرة، وبين الصرخات أسفل سطح المركب أخذت السفينة تغرق سريعا.
الفصل العاشر
أتى الصباح مخنوقا في ركام من زغب الإوز والأشباح، واختلط وقع الخطوات الخافتة بالهمسات، واندفع سرب صغير من غربان البحر فوق الماء كالدمى المتحركة، واختلط نعيبهم بنداءات باعة الخبز في الصباح الباكر. وبمرور الوقت، اختفت تلك الصيحات المنعزلة في زحام المدينة وقعقعة العربات وباعة السمك ودعاء المؤمنين عن بعد والنباح الحزين للكلاب الضالة وكل ما يدل على أن الحياة وإسطنبول سوف تستمران. رغم كل شيء سوف تستمر الحياة، وسوف تستمر إسطنبول.
بينما تسلل الصباح إلى غرفتها، رقدت إلينورا وقد ضمت أطرافها كورقة شاي جافة، مغطاة بكومة متشابكة من المفارش وهي تتنفس الأنفاس القصيرة المتقطعة التي تميز النوم المضطرب. جذبتها نقرة على الباب من عالم الأحلام، ولكنها أفاقت بما يكفي كي تعرف أنها ترغب في العودة إلى النوم. سمعت صوت أكثر من خف منزلي عند الباب وطرقا معدنيا مكتوما على حافة فراشها، ثم شعرت بيد السيدة داماكان النحيلة الخشنة تستند على مؤخرة عنقها. ارتجفت إلينورا بينما انتشر دفء هذا الجسد في أطرافها.
قالت السيدة داماكان: «إفطارك على مائدة الفراش.» ثم جرت قدميها متثاقلة خارج الغرفة.
انتظرت إلينورا إلى أن سمعت الباب يغلق ثم انقلبت على ظهرها مرة أخرى. كانت رائحة البيض المسلوق والخبز المسطح تتسلل إليها من تحت غطاء صينية الإفطار، ولكنها لم تكن تشعر بالجوع على الإطلاق. جذبت البطانية على رأسها، وأغلقت عينيها وضمت أطرافها مرة أخرى على هيئة كرة. كان رأسها يرتج بقوة داخل عظام جمجمتها، وجدار معدتها يضطرب خوفا. كانت قد استيقظت تماما الآن، ولكن ذكرى الليلة السابقة كانت لا تزال متذبذبة باهتة، كما لو كانت قافلة جمال ترتفع فوق أفق كثيب ضخم من الرمال. برودة الماء العذبة، وقنديل بحر يلدغ كاحلها، وذراع البك المشعرة الممتدة، وفجأة إدراك حقيقة أن والدها قد مات.
شعرت بالغثيان، وبأن معدتها تصعد إلى حلقها، وأطلقت زفيرا حتى فرغت رئتيها من الهواء، ثم ملأتهما بالهواء مرة أخرى. كانت ضربة قاضية، مأساة محطمة من النوع الذي نعزي أنفسنا بأنه يحدث للآخرين فحسب، أو لأبطال الروايات، أو للجيران، أو للمساكين الذين نقرأ عنهم في الصحف. ولكن ها هي المأساة تحدث لها. تشبثت بالوسادة عند بطنها، وحدقت إلى غطاء الدانتيل الأبيض الذي يعلو فراشها. لقد توفي والدها، وهو يرقد الآن جثة هامدة في قاع البوسفور، أو وسط كومة من الأجساد على الشاطئ، أو مدفونا لتوه في باطن الأرض، أو في مكان آخر لا يمكنها أن تتخيله، ولكنه ميت على أي حال. قلبت الفكرة في ذهنها مرارا وتكرارا من وجهات نظر مختلفة ، ولكن التفكير في ذلك كان كالنظر إلى الشمس، يجعلك تفقد بصرك بينما تحاول الرؤية.
طوال ذلك الصباح ظلت دوامة من الأسئلة الخبيثة تحوم حول فراشها كالغربان، وتحط بعنف كي تهمس في أذنها. ماذا عن الهدهد الذي أتاها على حافة النافذة؟ وماذا عن رغبتها في البقاء في إسطنبول؟ أيمكن ألا يكون حادث السفينة ووفاة والدها وحوالي أربعة وعشرين شخصا آخرين حادثا؟ أيمكن أن تكون أمنيتها ورغبتها الطفولية في البقاء في إسطنبول هما ما تسببتا في كل ذلك؟ ارتجفت إلينورا وجذبت الوسادة على رأسها. كانت ترغب في أن تنام وتستيقظ لتجد كل شيء قد عاد لطبيعته، أو على الأقل أن تبعد هذه الأسئلة عن ذهنها بضع ساعات. ولكن مهما تكن رغبتها، فالقدر ثابت لا يتزحزح، وتبعتها تلك الدوامة السوداء البغيضة إلى أحلامها بإلحاح ومرارة.
في وقت ما من ذلك المساء، أو ربما كان في مساء اليوم التالي، قرع البك باب غرفتها وناداها باسمها. كانت مستيقظة ولكنها لم تجب، لم تكن تشعر بالرغبة في الحديث، بل إنها لم تكن تشعر بالرغبة في أي شيء سوى أن ترقد في الفراش، وحتى ذلك لم يكن إلا لأنها لا تجد خيارا أفضل. وبعد أن قرع الباب وناداها مرتين أخريين، فتح البك الباب. كان يرتدي حلته وربطة عنقه الزرقاء المجعدة المعتادة، ولكن وجهه كان متغضنا وعيناه غائرتين إرهاقا. لم يلاحظها في بادئ الأمر، فقد كانت غارقة تحت كم من الأغطية والوسائد كثعلب خائف يختبئ في تجويف شجرة، ولكن أعينهما تلاقت أخيرا. تبادلا النظر فترة طويلة قبل أن يغلق الباب خلفه ويجلس على المقعد المخملي الأحمر بجوار فراشها. «لقد حاولت أن أتصل بخالتك روكساندرا.»
أطلت إلينورا برأسها من مدخل كهفها كي تتمكن من فهم ما يقوله البك على نحو أفضل.
تابع قائلا وهو يشبك يديه أمام فمه: «لست متأكدا ما الذي تذكرينه من أحداث أمس.»
ارتجفت شفتاها وهي تهز رأسها مؤكدة أنها تذكر ما حدث، إنها تعلم كل شيء.
قال وهو يضع يده على زاوية فراشها: «ما زالت السلطات تبحث عن ناجين، رغم أنه من المحتمل إلى حد كبير ألا يجدوا أيا منهم.»
وخلال فترة الصمت التي أعقبت ذلك، نهض البك واقفا واتجه حتى النافذة التي تمنت عندها إلينورا أمنيتها. أنعم النظر في الأنشطة الدائرة على صفحة الماء بالأسفل، ثم جذب ساعته من جيب سترته وأخذ يفتحها ويغلقها بضع مرات.
كرر وهو يهذب أطراف شاربه: «لقد حاولت أن أتصل بخالتك، ولكنني للأسف لم أتلق منها ردا.»
توقف البك كي يعطي إلينورا وقتا للرد.
ثم تابع قائلا: «بالطبع سوف ترد قريبا، وفي الوقت الحالي يمكنك البقاء هنا على الرحب والسعة.»
هزت إلينورا رأسها، وخطر لها أن عليها أن تقول شيئا، من اللائق أن تقول شيئا ما؛ ولكن فكرة الحديث والإفصاح عن أفكارها للعالم كانت أصعب من طاقتها على الاحتمال. «هل لديك أي أقارب آخرين علي أن أحاول الاتصال بهم؟»
توتر ذقنها وشعرت بالدموع تتجمع على حافة رموشها. ليس لها أحد آخر. لقد أصبحت يتيمة الآن، وحيدة في هذا العالم، ولا عائلة لديها سوى روكساندرا. أطلقت نشيجا، ثم عادت مرة أخرى إلى كهفها وأخمدت نيران بكائها في ظلامه الدافئ. وعندما استيقظت مرة أخرى، كان البك قد رحل.
قضت إلينورا معظم الأسبوع الأول في الفراش، تغفو وتفيق من نوم مضطرب تلوح فيه الأشباح والكوابيس. كانت السيدة داماكان تأتي إلى غرفتها كل صباح ومساء حاملة صينية الطعام، ثم تعود بعد ساعة كي تحملها سليمة لم ينقص منها سوى قطعة صغيرة من الجبن أو قضمة من حافة البيضة. لم تكن إلينورا تغادر دفء فراشها إلا كي تقضي حاجتها أو تغسل وجهها، وفيما عدا ذلك كانت تقضي الوقت نائمة، وتبذل قصارى جهدها كي تدفع عنها تلك الأفكار غير المرغوب فيها. لم تتفوه بكلمة منذ الحادث، وبدأ الصمت يصبح عادة لديها، رداء ثقيلا تختفي تحته. لم تكن لديها فكرة عما إذا كان سربها لا يزال معها أم لا، ولم تكن تهتم بذلك كثيرا على أي حال. كانت تذكر بصورة ضبابية أنها لمحت وميضا أرجوانيا عند زاوية نافذتها، ولكنه قد يكون حلما.
وذات صباح، قبيل بداية الأسبوع الثاني عقب الحادث، أتت السيدة داماكان إلى غرفتها حاملة منشفة بدلا من صينية الإفطار. أدركت إلينورا أن الاستسلام هو الطريق الأقل مقاومة، فسمحت للخادمة العجوز بأن تغريها لدخول الحمام وتنزع ملاءاتها القذرة وتنظف جسدها الضعيف. وبعد الاغتسال غادرت السيدة داماكان الغرفة ووجدت إلينورا نفسها وحيدة أمام مرآة منضدة الزينة الخاصة بها، وهي ترتدي نفس الثوب المخملي الأزرق الشائك الذي ارتدته في أول ليلة لها في إسطنبول. كانت تشعر بالضعف، نظيفة ولكنها خاوية من الحيوية والطموح. تحركت إلى الجانب الآخر من الغرفة، وفتحت النافذة البارزة لأول مرة منذ أسبوع. وبينما كانت تستنشق الرائحة المؤقتة لبداية الربيع، تذكرت فقرة قرأتها في المجلد الثاني من «الساعة الرملية» تصف حال السيدة هولفرت بعد مرور أقل من شهر على وفاة والديها الحبيبين:
تفتحت أول براعم الربيع بلا ندم، واستحالت كل بتلة سكينا صغيرة تنغرس في أغشية أعضائها الحيوية، مقطعة أوردتها كما لو كانت آلة درس الحنطة، ومعيدة فتح تلك الجراح التي ظنت أنها قد شفيت. ولكن هذا هو أوان ذلك، ورغم جهودنا الحثيثة لإيقاف نموها وإبطاء مسار تقدمها، فإن الحياة تستمر. ولما كانت صامدة، فهي تتهكم بقسوة على ذكرى الموت؛ على الذكرى، وعلى الموت.
أغلقت إلينورا النافذة وأخذت نفسا عميقا حتى شعرت بحدة الهواء في رئتيها، ثم غادرت الغرفة واتجهت إلى الطابق السفلي نحو غرفة الطعام. كان البك على وشك أن يفرغ من تناول إفطاره عندما دخلت. وقفت متجمدة في مدخل الباب بين غرفتي الانتظار والطعام، حاملة قلم حبر في يد وورقة في اليد الأخرى. كان فمها مطبقا بإحكام، وشعرها لا يزال رطبا من آثار الاغتسال. «صباح الخير أيتها الآنسة كوهين.»
هزت إلينورا رأسها وجلست في المقعد المقابل له، وتفرست وجهه ثم نزعت الغطاء عن قلمها وكتبت ردها أعلى الورقة. «صباح الخير.»
قرأ البك ما كتبته وهز رأسه، كما لو كان من الطبيعي التواصل بتلك الطريقة. «هل ترغبين في تناول الإفطار؟»
فكتبت «نعم»، ثم أضافت «من فضلك».
كان الإفطار نفسه الذي تتناوله إلينورا كل صباح منذ قدومها إلى إسطنبول، ولكن رؤيته على صينية الإفطار أمامها أصابتها بالغثيان، ولكنها كانت تعلم أن عليها أن تتناول شيئا. حدقت إلى الطعام، ثم رفعت حبة زيتون إلى فمها، وكادت تتقيأ وهي تستشعر مذاق الزيتون الأملس المالح وتبتلعه. أزالت النواة من فمها، ثم حاولت أن تتناول ملعقة من مربى التوت على الخبز المسطح، ولكنها لم تحتمل بحاسة تذوقها الرقيقة مذاق بذور المربى المسكرة. وهكذا كانت أيضا ملوحة الجبن الشديدة. رغم ما كتبته، لم يكن صباحا جيدا، ولم يكن بوسعها أن تتخيل أن الصباح سيكون جيدا مرة أخرى على الإطلاق.
جلست قبالة البك في تلك الغرفة الباردة الخالية، وتسارعت ذكريات الحادث إلى ذهنها كالفئران على منضدة المطبخ. كانت معه عندما غرقت السفينة، تتعلق معه بلوح خشب هائم على وجهه. ولاحقا تدثرت ببطانية صوفية متسخة على الشاطئ، وتعلقت بشدة بذراعه وعيناها متسعتان من صدمة البرودة والإدراك البطيء بأن حياتها قد تغيرت للأبد. جلس كل من إلينورا والبك هناك على حافة الشاطئ حتى وقت متأخر من ذلك المساء، يرتجفان بينما فرق الإنقاذ تعدو محاولة الوصول إلى مزيد من الناجين. ومع انقضاء الليل اتضحت حقيقة الموقف؛ فكل الذين لم يحتشدوا على الشاطئ قد فارقوا الحياة. نائب القنصل الأمريكي، ومدام كورفيل، والسفير الفرنسي، ومعظم طاقم السفينة، وجنرال روسي شهير يدعى نيكولاي كاراكوزوف، ووالدها يعقوب، كلهم قد فارقوا الحياة.
قال البك: «ثمة أوقات في حياة المرء»، ثم توقف وبدا أنه يراجع أفكاره: «يمكنك البقاء هنا على الرحب والسعة قدر ما تحبين. لقد كان والدك صديقا عزيزا، وإنني مدين له بذلك على الأقل.»
تنحنح وابتلع الرشفة الأخيرة في فنجان القهوة، ثم قلب فنجانه على الصحن، وانتظر بضع دقائق تاركا لحبيبات البن فرصة كي تترسب على جانب الفنجان، ثم رفعه عن الصحن واستغرق في تفحص بقايا الخطوط التي تبدو كالأشباح. حدق إلى الحبيبات فترة طويلة وهو يتخلص من البقايا الزائدة، مميلا ما تبقى نحو شعاع من الضوء ، قبل أن تلتقي عيناه بعيني إلينورا.
قال ساخرا وهو ينهض من مقعده: «حظ سعيد! علي أن أنصرف. هل ترغبين في أي شيء أحضره لك من الخارج؟ أي شيء؟»
فهزت رأسها. «كلا، شكرا.»
حدق البك إلى عينيها للحظة، كما لو كان يوجه لها نفس السؤال مرة أخرى بلغة الصمت، ثم تمنى لها يوما طيبا، وغادر المكان تاركا إياها وحيدة مرة أخرى. ظلت طويلا تحدق إلى سطح المائدة، متأملة انعكاس وجهها الضبابي يتحرك على السطح المصقول، والثريا تتدلى فوقها كنصل بلوري. وعندما نظرت لأعلى مرة أخرى، وجدت السيد كروم يقف بجوار المائدة مضطربا مترقبا كما لو كان كلبا يبحث عن سيد جديد. يبدو أنه كان ينوي تنظيف المائدة بعد الإفطار، ولكنه لم يرغب في مقاطعة أحزانها. حملت إلينورا الورقة والقلم، ونهضت من أمام المائدة وانطلقت بعيدا عن غرفة الطعام. شقت طريقها عبر الرواق الرئيس في المنزل، حيث تنظر إليها الوجوه الحزينة لأسلاف البك. كان أول باب وصلت إليه هو باب المكتبة. وقفت تحدق إليه فترة طويلة قبل أن تختبر المقبض، فاستسلم في يدها وأصدرت آلية الإغلاق صوتا. جلست في نفس المقعد البني الفاتح الذي جلست فيه ليلة الحادث. أحقا كان والدها يجلس هنا في نفس هذا المقعد منذ أسبوع فحسب، يحتسي الشاي ويلعب الطاولة؟ أحقا قد تغير الكثير في فترة وجيزة كهذه؟ أطلقت نشيجا ودفعت بأنفها إلى حافة المقعد، محاولة أن تستعيد رائحة والدها، ولكنها كانت قد تلاشت في رائحة الجلد العطري.
على مدار الأسابيع التالية اكتسبت إلينورا برنامجا يوميا، ورغم أنه لم يفلح في تخفيف أحزانها، فقد نجح على الأقل في إصباغ معنى على أيامها. كل صباح بعد الاغتسال، كانت تهبط الدرج متثاقلة حتى غرفة الطعام وتحاول بأقصى جهدها تناول الإفطار الذي لا يزيد عادة على قطعة من الخبز المسطح أو بيضة مسلوقة. وبعد الإفطار، عندما يخرج البك وتنظف المائدة، كانت تشغل نفسها بالتجول في المنزل، وتأخذ غفوة على الأريكة الطويلة في قاعة الاستقبال، أو تقرأ في غرفتها بالطابق الأعلى. قضت ساعات لا حصر لها جالسة بجوار النافذة البارزة، تقرأ «الساعة الرملية» وهي مستندة على فخذيها وخصلة من شعرها تتدلى بين شفتيها، محاولة أن تنقص من وقت المساء بالأدب الذي صار يشبه المخدر الممل بالنسبة إليها. ولما كانت تقرأ الكتاب للمرة الثانية وهي تعلم مصائر الشخصيات في النهاية، فقد وجدت القليل من العزاء في الشعور بأن مساراتنا في الحياة تتحدد طبقا لخطة أعظم مما يمكننا أن نتخيله أو نفهمه. وكل حين وآخر كانت ترفع بصرها عن الكتاب وتستغرق في تأمل سحابة مارة. وفي نهاية المساء، عندما تصل حركة السفن لذروتها، كانت تدع عينيها تسرح حالمة مع قوارب التجديف التي تقطع المضيق أو التقدم البطيء للسفن البخارية التي تنفث دخانها نحو البحر الأسود، ولكنها كانت تقرأ معظم الوقت. كانت تقرأ كي تلهي نفسها، كي تنسى نفسها في عوالم تريستي وبوخارست البعيدة، ولا يذكرها شيء بأن الوقت في عالمنا يمر سوى الأذان والإظلام المتهادي للسماء.
ولما مرت الأسابيع ولم يصل أي رد من روكساندرا على الإطلاق، اتضح أن إلينورا سوف تظل مع منصف بك لفترة غير معلومة. لم يكن ثمة اتفاق رسمي أو عقد أو أي حديث بينهما عن شروط هذا الاتفاق، ولكن كان مفهوما ضمنا بينهما أنها مرحب بها قدر ما ترغب في البقاء. كانت تربطهما علاقة ودية، رغم أن كلا منهما يهتم بشئونه الخاصة معظم الوقت، ولم يكن أي منهما يوجه أسئلة كثيرة للآخر. كل يوم بعد الإفطار، كان البك يغادر المنزل، ولا يعود غالبا حتى وقت متأخر من المساء، وكانا يتناولان العشاء معا ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل. وفي الليالي التي يتناول فيها البك العشاء بالخارج، كان السيد كروم يحضر وجبة خفيفة إلى غرفة إلينورا تتناولها بمفردها قبل أن تطفئ مصباحها وتخلد إلى النوم.
خلال تلك الفترة، كانت السيدة داماكان هي الرفيق الأقرب والأكثر انتظاما لإلينورا؛ فبالإضافة إلى الاغتسال الصباحي، كانت الخادمة تطمئن عليها على مدار اليوم كي ترى ما إذا كانت بحاجة لشيء ما، واستيقظت إلينورا من غفوتها أكثر من مرة كي تجد المرأة العجوز جالسة في المقعد المجاور لفراشها. وفي إحدى تلك الأمسيات، استيقظت إلينورا على صوت السيدة داماكان وهي تترنم بلحن عذب خافت.
قالت بابتسامة صغيرة: «كنت أنشد لك هذا اللحن.»
توقفت السيدة داماكان عن الغناء، ولكن إلينورا ظلت تشعر باللحن يداعب حواف ذاكرتها المرهقة، ثم اختفى كما لو كان طائرا وسط الضباب الكثيف.
الفصل الحادي عشر
انطلق صوت جرس حديدي مكتوم من برج الكنيسة الذي يعلو كلية روبرت، موقظا الكاهن جيمس مولر من غفوته في فترة الظهيرة بينما يتردد صداه عبر حوائط منزل الكاهن. كان ذلك جرس الغداء الأول، حيث يقرع ثلاث مرات مشيرا إلى أن طلاب المدرسة الإعدادية عليهم أن يكونوا في المقصف أو في طريقهم إليه. تثاءب الكاهن في مقعده الجلدي البارد الذي غلبه النعاس عليه، وحاول أن يتذكر تفاصيل خطته لهذا المساء. كان مدعوا على العشاء لدى منصف بك، هذا كل ما يذكره، ولكنه لا يتذكر موعد الدعوة. مسح فمه بظهر يده، ونهض واقفا، واتجه إلى الجانب الآخر من مكتبه ذي الأرضية الحجرية، ثم جلس في كرسيه، وأخذ يقلب أوراقه للحظات قبل أن يجد خطاب البك.
عزيزي الكاهن جيمس مولر
أكتب إليك كي أدعوك لتناول العشاء يوم الخميس القادم بصحبتي أنا والآنسة كوهين. لا بد وأنك تدرك أن الآنسة كوهين تعيش حالة من الحزن والبؤس الشديدين عقب وفاة والدها، ولكنني على يقين من أنها سوف تسعد باستقبالك. برجاء أن تعطي الرد للساعي الذي يحمل إليك هذا الخطاب، فلديه تعليمات بأن ينتظر حسبما تدعو الحاجة. يقدم العشاء في السابعة والنصف.
المخلص
منصف باركوس بك
إن السابعة والنصف موعد مبكر لتناول العشاء، ولكن لا يمكن تغيير الموعد الآن. بلل حافتي أصبعيه الوسطى والسبابة، ورفع الخطاب لأعلى نحو شعاع الضوء الأصفر الصادر من مصباح مكتبه وتفحصه بمزيد من الدقة. كانت العلامة المائية من مكتبة فاخرة في روما، ورغم أن الخطاب حديث فإن الورق نفسه قد أصابه الاصفرار عند الحواف. ربما كان البك أقل ثراء مما يفترض عموما عنه. وعلى أي حال، فإن تلك الدعوة تعد ضربة حظ ممتازة؛ فمع حادث السفينة ووفاة نائب القنصل الأمريكي والمخاوف المستمرة من التمرد على الدستور، أصبح منصف بك شخصا شديد الأهمية لأجهزة المخابرات العثمانية والأمريكية. وسوف يسعد الصدر الأعظم ووزارة الحربية بالحصول على تقرير حول ظروف البك العائلية. لم يكن أحد يشك فيه من أي ناحية سوى مجموعات القراءة التي ينشئها وإثارة الطبقات المثقفة عن طريق محاضراته الحماسية عن روسو، ولكن تحت وطأة الضغط السياسي المتزايد لاكتشاف السبب وراء الحادث، يجب تأمل أدق التفاصيل بما فيها تلك التي لا تحمل أي قدر من الخطورة.
بعد أن حدق الكاهن إلى الخطاب بضع لحظات إضافية، نحاه جانبا وأخذ يتصفح كومة من المستندات التي كان قد حصل عليها منذ بضعة أيام في حفل عشاء في ضيافة قائد البحرية الألماني الأميرال كروب. لم يبد أن تلك المستندات ذات أهمية خاصة؛ فهي بضعة خطابات وصك قطعة أرض خارج شتوتجارت وبعض الملاحظات على هوامش صحيفة. ولكن لما كانت لغته الألمانية ضعيفة، فقد رأى الكاهن أنه من الأفضل إعادة النظر فيها مستعينا بمعجم قبل أن يتخلص منها، فالمرء لا يفهم أبدا تلك الأمور؛ فقد تكون تلك الملاحظات على هامش المقال في الصحيفة إشارة ضمنية إلى برنامج تدريب بحري سري، أو خطط لمد سكك حديدية.
زفر الكاهن أنفاسه وطقطق رقبته في الاتجاهين. بالإضافة إلى مشروع الترجمة الصغير هذا ومسئولياته المعتادة في كلية روبرت، ثمة عدد من المهام غير الضرورية التي بحاجة إلى الاعتناء بها على المدى القريب. كانت غرفة مكتبه مثالا للفوضى، ولم تكن كتبه مرتبة ترتيبا أبجديا، ومكتبه مغطى بعشرات الأكوام من الأوراق التي تستحق كل منها مراجعة دقيقة. غمس قلمه في المحبرة التي تعلو المكتب، وكتب قائمة بالمهام التي يتعين عليه إنجازها خلال الأيام الثلاثة المقبلة، ثم وضع القائمة في وسط مكتبه راضيا عن إنجازه وذهب كي يعد نفسه للعشاء.
عندما انطلق الكاهن مولر في طريقه أخيرا كانت الشمس تغمس اللون البرتقالي في مجموعة من أشجار الصنوبر خلف لو بيتي شون دو مورت، أو ما يعرف بطريق الموت الصغير. توقف عند حافة نتوء جبلي يطل على البوسفور، وحجب وهج الشمس التي تتجه نحو الغروب عن عينيه، وراقب سفينة حربية ألمانية مسلحة وهي تتجه ببطء نحو بحر مرمرة. وتحته مباشرة تطل من أسفل النتوء الجبلي أنقاض مبنى قلعة روميل، وهو البرج الذي فرض منه محمد باشا الحصار على إسطنبول منذ أكثر من أربعة قرون. كان أمناء كلية روبرت قد اختاروا موقعها بعناية، ورغم أن لائحة الكلية تفرض عليهم «تعليم شباب الإمبراطورية العثمانية وإرشادهم إلى أساليب العالم الحديث»، فلم يكن سرا أن العديد من الأمريكيين العاملين في كلية روبرت يعملون تحت إمرة وزارة الحربية. ومن وجهة نظر الكاهن، لم يكن ذلك تناقضا في المصالح أو النوايا؛ فإذا أمكن للمرء أن يخدم بلاده في الوقت الذي يعلم فيه أبناء الدول الأخرى، فذلك أفضل وأفضل.
التف طريق الكاهن مولر وهو يهبط التل مرورا بمقبرة عتيقة أفسدتها الجاذبية. كان مشهدا مروعا، شواهد القبور الضيقة التي أصبحت مبهمة بمرور الزمن، وكل منها يعلوه حجر مكلل بعمامة صاحب القبر أو طربوشه. حاول قصارى جهده ألا يتخيل العظام الراقدة تحت قدميه، أو اللحم الذي كان يكسو تلك العظام يوما ما، فحبس أنفاسه ومضى في طريقه هابطا التل. وعندما ابتعد جيمس عن المقبرة، رأى منزل منصف بك وقد أصبح ظاهرا للعيان، وهو منزل شديد الضخامة، فخم، عتيق، يطل على الماء، مطلي باللون الأصفر. لم يكن قد دخل هذا المنزل قط، ولكنه كثيرا ما لاحظه من بعد، وكان مرآه يذكره دائما بالفيل الذي ركبه ذات مرة في كلكتا في تجربة أصابته بالاستياء. وبينما كان يقترب، لاحظ أن المنزل مكلل بسرب من الهداهد الأرجوانية المتطابقة تقريبا في اللون والعدد مع ذلك السرب الذي لاحظه على الرصيف البحري صباح الحادث. كان على يقين أنه قد رأى هذا النوع من الهداهد حتى من قبل الحادث، ولكنه لم يتذكر أين كان ذلك.
بالقرب من سفح الممر الخاص توقف الكاهن كي يلتقط أنفاسه. مسح جبهته بمنديل، وألقى نظرة على الكتاب المهترئ ذي اللونين الأحمر والذهبي، الذي قرر في اللحظة الأخيرة أن يحضره معه، وهو كتاب مترجم لهيرودوت. وبينما كان يتصفح الغلاف الداخلي للكتاب، نبح كلب ففزع الكاهن. كانت لحظة ذات خصوصية، لحظة لم يكن ليفكر فيها مرة أخرى لو لم ينظر عندئذ لأعلى ويرى إلينورا تراقبه من نافذتها. وعندما أدركت أنه رآها، لم تلوح بيدها أو تبتسم، ولم تتراجع بعيدا، ولم تتظاهر حتى أنها تنظر إلى مكان آخر؛ بل استمرت تحدق إليه بنفس النظرة البسيطة الخاوية. كانت طفلة فضولية حقا. وظلا ينظران أحدهما إلى الآخر فترة طويلة قبل أن يتوجه الكاهن كي يقرع الباب الأمامي.
قال كبير الخدم: «مرحبا، أظنك الكاهن مولر، أليس كذلك؟» «بلى.»
فقال وهو يمسك بالباب: «تفضل، سوف أخبر منصف بك بأنك قد وصلت.» «حسنا، أشكرك.»
على الرغم من الواجهة الخارجية المبهرجة لمنزل منصف بك، كانت غرفة الانتظار في المنزل مزينة على نحو أنيق؛ حيث كانت مزيجا مصمما بعناية من طراز لويس السادس عشر والطراز العثماني الكلاسيكي. سوى الكاهن ربطة عنقه وألقى نظرة على الرواق الرئيس. ولعل الجاسوس الماهر كان سينتهز تلك الفرصة كي يفتش بعض الأدراج، أو على الأقل يفحص قفل الباب الأمامي. نظر حوله، وقام بمحاولة تعوزها الحماسة للبحث في كومة بطاقات على مائدة استقبال الزائرين. لا شيء ذا أهمية هنا، رغم أن المرء لا يتوقع أن يترك عميل سري بطاقة عمله هكذا. وعندما رفع الكاهن رأسه مرة أخرى كانت إلينورا تقف أعلى الدرج تحدق إليه بتلك النظرة الخاوية التي تحمل اتهاما خفيا. ورغم أنه كان واقفا على بعد، استطاع أن يرى وجهها مهموما شاحبا، وعينيها غائرتين في محجريهما مخضبتين باللون الأحمر. كانت تحمل في يدها اليمنى قلما وورقة، وهبطت الدرج بحذر يشوبه التوتر كما لو كانت امرأة عجوزا.
أخذ الكاهن مولر خطوة نحو أسفل الدرج، ورسم على وجهه تعبيرا متعاطفا. «إنني حزين لسماع نبأ وفاة والدك.»
ارتجف ذقن إلينورا قليلا، ولكنها لم تقل شيئا .
فتابع الكاهن قائلا: «كان رجلا أمينا، رجلا فاضلا، وكان يهتم لأمرك كثيرا.»
فلمست شفتيها بحافة أصبعها وهزت رأسها. «لم تتحدث الآنسة كوهين منذ أن وقع الحادث.»
استدار الكاهن مولر على وقع الصوت، ورأى البك واقفا في مدخل الرواق الكبير. «عندما ترغب في التعبير عن شيء، فإنها تكتبه على ورقة.»
فقال الكاهن: «حسنا.» «ليس موقفا مثاليا، ولكنها لا ترغب في الحديث.»
حدق كلاهما إلى إلينورا التي كانت لا تزال واقفة أسفل الدرج، ثم تابع البك قائلا: «والآن دعني أقدك إلى غرفة الطعام.»
جلس الكاهن على يسار مضيفه في الناحية المقابلة للآنسة كوهين، وحاول أن يتابع المحادثة.
سألها وهو يبسط منديل المائدة على ساقيه: «أنت تعرفين الكتابة إذن. كم هذا مثير للإعجاب! من علمك الكتابة؟»
نزعت إلينورا الغطاء عن قلمها وكتبت كلمة في أعلى الصفحة، ثم أدارت الورقة نحو الكاهن مولر كي يقرأها: «والدي.»
قال الكاهن وهو يبسط المنديل مرة أخرى: «حسنا، لقد فهمت. بالطبع هذا منطقي.»
وقبل أن يتوجه الكاهن بأي أسئلة أخرى، ظهر السيد كروم حاملا ثلاث صوان فضية، ووضع واحدة أمام كل منهم. كان العشاء تلك الليلة مكونا من لحم الضأن المشوي مع الجزر مقدما على طبقة من البرغل. ورغم الصحبة المتحفظة في الكلام، فقد كان العشاء نفسه جيدا؛ فلحم الضأن مطهو بطريقة رائعة، مقرمش قليلا من الحواف وطري من الداخل، والجزر لين كفاكهة الصيف، والبرغل بنكهة زهر البرتقال. وكان الشيء الوحيد المفقود في هذا العشاء هو الحوار. فبعيدا عن المجاملات الضرورية وطلبات تبادل الملح والفلفل، تناولوا الطعام في صمت، وأدوات المائدة تصدر أصواتا بينما انهمك الكاهن والبك في تناول الطعام.
قال الكاهن محاولا استدراج مضيفه كي يخرج عن صمته: «إن الفترة الحالية مثيرة للاهتمام.» «حقا.» «لم أر اضطرابا كهذا منذ الحرب الأهلية. إن المهديين والصرب والأرمن واليهود يحدثون لغطا غير معلوم السبب. يبدو أن العالم بأسره يحدث لغطا.»
فهز البك رأسه بحكمة. «إن اللغط قد ينهي نفسه بنفسه.» «يقول البعض إنه فجر يوم جديد.» «إن البعض يقولون أشياء كثيرة.»
قطع الكاهن قطعة من اللحم ومضغها بعناية قبل أن يحاول استدراج مضيفه مرة أخرى. «ثمة من يقولون إن النظام السياسي سوف يعاد تنظيمه على نحو جذري قريبا.»
ابتسم البك في أدب، ولكن لم يبد عليه الاكتراث. كان واضحا أنه لا يرغب في الانخراط في مناقشة سياسية، وهكذا فقد حول جيمس انتباهه نحو إلينورا. «حسبما أذكر فأنت قارئة ممتازة. أخبريني عن أحد الكتب التي قرأتها مؤخرا.»
ارتبكت إلينورا، ولكن كما توقع فقد كانت أكثر أدبا من أن تمتنع عن الإجابة. «إنني أعيد قراءة الساعة الرملية.» «تعيدين قراءتها؟» «نعم.» «لأنك لم تفهميها من أول مرة؟»
فكتبت «كلا»، ثم أدركت أنها إجابة مقتضبة على نحو فظ بالنسبة إلى ضيفهما، فأضافت: «ثمة بعض الكلمات التي لا أفهمها، ولكنني أستطيع عادة أن أفهمها من السياق.»
تأمل الكاهن تلك الإجابة، وبدلا من أن يستمر في خط الاستجواب أخرج كتاب هيرودوت القديم الخاص به، واختار مقطعا قصيرا، ثم أعطى الكتاب عبر المائدة لإلينورا.
قال وهو يشير إلى بداية الفقرة: «أتمانعين في قراءة ذلك؟»
هزت رأسها كما لو كانت تأمل أن يكون ذلك فعلا معتادا وقت العشاء، وانحنت على الصفحة وتتبعت الكلمات بأصبعها، ولكنها توقفت في منتصف الفقرة.
كتبت: «ماذا يعني الكاتب عندما يقول إن الأرض والسماء مليئتان بالريش؟»
اتجه الكاهن مولر إلى الناحية الأخرى من المائدة وأخذ منها الكتاب، وقرأ بصوت عال من أجل مضيفه. «يقولون إنه لا أحد في شمال البلدان المجاورة لهم يمكنه الرؤية أو الرحيل أبعد من ذلك؛ وذلك بسبب وابل الريش، فالأرض والسماء مليئتان بالريش، وهو يعوق الرؤية.»
كانت فقرة غريبة، ربما ليست الاختيار الأمثل لاختبار فهم فتاة صغيرة، ولكنها كانت الفقرة التي اختارها. قلب عدة صفحات للأمام حتى وصل إلى الجزء الذي يفسر فيه هيرودوت معنى الريش.
قال وهو يقرأ بصوت عال مرة أخرى: «ها هي الإجابة. فيما يتعلق بالريش الذي يقول السكوثيون إن الهواء يمتلئ به، وهو كثيف لدرجة أن لا أحد يمكنه الرؤية أو المرور خلاله، لدي هذا الرأي : في شمال تلك البلاد يتساقط الثلج باستمرار، رغم أنه في الصيف أقل منه في الشتاء، كما هو متوقع. ومن يرى الثلج يتساقط بكثافة بالقرب منه فسوف يفهم مقصدي؛ فالثلج كالريش. وهكذا، فإنني أعتقد أن السكوثيون وجيرانهم يتحدثون عن الثلج على نحو مجازي، وهكذا فقد تحدثت عن تلك الأماكن التي يقال إنها الأبعد على الإطلاق.»
أعطاها الكتاب مرة أخرى، وقرأت الفقرة لنفسها قبل أن تجيب. «لماذا ينتظر كل تلك الصفحات حتى يخبرنا بأن الريش هو الثلج؟ يبدو ذلك بلا معنى على الإطلاق.»
فاعترف الكاهن قائلا: «أنت على حق، يبدو ذلك بلا معنى.»
وضع جيمس أدوات المائدة الخاصة به على حافة طبقه. كانت موهوبة من الطراز الأول، على طراز لوكريتيوس وميل ومندلسون، ولكن ثمة شيء آخر فيها أيضا؛ كانت ذات حضور نبيل ونظرة معذبة تمتزج بانعدام كامل لتأمل الذات، أو هكذا يبدو على الأقل. وعلى أي حال، لم يكن السؤال هل كانت طفلة استثنائية؟ ولكن السؤال كيف سيتم التعامل معها؟
لسوء الحظ، لم تكن إسطنبول الأرض المثلى بالنسبة إلى عقل كعقلها؛ فلم تكن كلية روبرت خيارا ممكنا بالنسبة إليها لعدة أسباب، ولم تكن مدرسة البنات في إسطنبول جادة بما يكفي. ربما كان أفضل طريق هو أن تستأجر معلما خاصا يعلمها اليونانية واللاتينية وعلم البلاغة والفلسفة والتاريخ، ولكن مرة أخرى كان المعلمون الخصوصيون في إسطنبول ذوو مستوى متدن إلى حد ما. فكر الكاهن في الأمر قليلا قبل أن يتوصل إلى الحل المثالي؛ سوف يعرض عليها أن يعلمها بنفسه، فمن المثير للاهتمام أن يراقب بنفسه الطريقة التي يعمل بها عقلها. ويكفي اكتسابها للمفردات اللغوية الذي يستحق دراسة منفصلة، كما أن مديريه سوف يسعدون بأي وضع يتيح له التواصل المستمر مع منزل منصف بك.
وبعد تناول الجبن، أتيحت للكاهن مولر فرصة لعرض خدماته. سمح البك لإلينورا بالانصراف، واقترح أن يذهبا هما إلى المكتبة لتناول الكونياك وتدخين السيجار.
قال البك فور أن جلسا: «أتمنى أن تكون قد استمتعت بالطعام.» «نعم، بشدة، كان اللحم رائعا، والبرغل أيضا . أكان ذلك ماء زهر البرتقال؟»
أدار البك كأس الكونياك الخاصة به، وراقب السائل الذهبي وهو ينحسر عن جدران كأسه.
وقال متجاهلا سؤال الكاهن: «أخبرني، كيف تبدو لك الآنسة كوهين من وجهة نظرك الاحترافية؟» «يبدو أنها متماسكة جيدا في ضوء الظروف التي مرت بها.»
فوضع البك كأسه على المائدة المجاورة له. «إنني أقدر تأدبك في الحديث، ولكن ثمة وقت للمجاملة ووقت للمصارحة. إنها لم تتفوه بكلمة منذ الحادث، وكما تعلم، فقد مر شهر تقريبا. إن هذا النوع من الحداد ليس طبيعيا، أليس كذلك؟»
سحب الكاهن نفسا طويلا من سيجاره ثم نفض الرماد، وكان الصمت هو إجابته، وترك قلقه يتوجه نحو حفيف النيران ومرونة الجلد الناعمة وصوت ركبة البك وهو يعيد وضع ساق على ساق.
تساءل الكاهن أخيرا: «هل فكرت في تعيين معلم خاص لها؟ قد يساعدها ذلك في الحصول على مادة أكثر جدية للقراءة وتوجيه تعليمها في الاتجاه الصحيح.»
فغطى البك أنفه بأصابعه وانحنى للأمام. «كنت مقتنعا بأن القراءة جزء من المشكلة.»
فصحح له الكاهن: «ليست القراءة ذاتها، ولكن طبيعة ما تقرؤه. إنني لا أعطي قيمة كبرى للروايات؛ فهي نوع أدبي لا يناسب سوى النساء التافهات والشباب الرومانسيين. وتلك التفاهات حتى وإن كانت تحفة فنية مثل «الساعة الرملية»، لا يمكن أن يكون لها أي نفع حقيقي. ولكنني أعتقد أنها لو حصلت على مواد أكثر جدية للقراءة مثل الفلسفة والتاريخ والبلاغة، فقد يكون ذلك مفيدا لها.»
أنزل البك أصابعه من على أنفه وصب لنفسه كأسا أخرى. «وهل تقترح لها معلما؟»
سرح جيمس بعينيه في أرفف الكتب التي تقع في الجانب الآخر من المكتبة، كما لو كان يفكر في الأمر مليا قبل الإجابة.
ثم قال: «إذا رغبت في ذلك، يمكنني أن أتعهدها شخصيا. لقد كان والدها رجلا طيبا، وإنني أدين بذلك لذكراه على الأقل.»
الفصل الثاني عشر
غادر الملازم براشوف المعسكر فجرا، وأحكم تثبيت خرجه إلى حصانه ثم انطلق. أربع عشرة ساعة عبر الأمطار والأنهار التي امتلأت بجثث الأبقار النافقة، مارا بمستشفيات ميدانية غارقة في الماء، وحقول شمندر مغطاة بالملح. ظل يمتطي الحصان ليلا ونهارا عبر الأمطار التي تشبه الأرز الذي ينسكب من حقيبة من الخيش، عبر طرق مبتلة موحلة ومفارق طرق غارقة في الطين. ولم يكن قادرا معظم الرحلة على أن يرى أبعد من أنف حصانه، ثم توقفت الأمطار، وبلا سابق إنذار انطمس بصيص ضوء كان يلوح في السماء كالثقب، وسطع قمر أبيض ... «آنسة كوهين.»
رفعت إلينورا رأسها عن كتابها، فوجدته السيد كروم. «إن الكاهن مولر بالطابق الأسفل. لقد حضر من أجل الدرس. هل أخبره أن يقابلك في المكتبة؟»
هزت إلينورا رأسها، وانتهت من الفقرة التي كانت تقرؤها، ثم أغلقت كتابها واضعة المؤشر. انتظرت السيد كروم حتى يغادر قبل أن تنهض من المقعد، ورمقت نفسها في مرآة مائدة الزينة، ثم اتخذت طريقها هابطة الدرج. لم تكن واثقة من جدوى تلك الدروس، ولكنها وعدت منصف بك أنها ستجربها لمدة شهر على أقل تقدير. ظلت تجر يدها بامتداد السور الرخامي البارد، وهبطت حتى غرفة الانتظار، ثم اتجهت إلى الجانب الآخر من الغرفة في اتجاه قطري. وعندما وصلت إلى المكتبة، وقفت فترة طويلة في مدخلها تراقب معلمها الجديد وهو يتصفح كتابا. كان ظهره باتجاه الباب، فلم تستطع أن تحدد ماذا كان يفعل، ولكن كان واضحا أنه يداعب الحافة السفلى لفتحة أنفه بإبهامه.
قال الكاهن عندما لاحظها أخيرا: «مرحبا، يسعدني أن أقابلك مرة أخرى يا آنسة كوهين.» كان وجهه يشي بالطيبة والصراحة، تزينه عينان دامعتان زرقاوان بلون أواخر الصيف.
لم يكن ثمة شيء محدد في الكاهن مولر يثير النفور منه؛ فثيابه نظيفة وأنفاسه تفوح برائحة النعناع، وهو يتحدث دون أي بادرة من التكبر؛ ولكن لم تستطع إلينورا أن تتخلى عن الشعور بأنهما ذوا أهداف متناقضة، رغم كل الأدلة التي تؤكد عكس ذلك.
قال وهو يشير إلى المقعد المجاور له: «تفضلي بالجلوس، إذا سمحت.»
ترددت إلينورا لحظة، ثم اتجهت إلى الجانب الآخر من الغرفة وجلست في المقعد المجاور له. كانا جالسين على المائدة المصمتة المصنوعة من خشب البلوط التي يطلق عليها البك مكتب الكولونيل؛ وذلك لأسباب لا تعلمها، وإن كانت ترجح أنها ذات صلة بمهنة مالكه السابق. «ما زلت لا تتحدثين؟»
فهزت رأسها إيجابا. «سيصعب علينا القراءة بصوت عال.»
وجدت إلينورا ورقة في أحد أدراج المكتب، فأخرجت قلما من جيب عباءتها.
ثم كتبت: «يمكنني أن أسمع، ويمكنني أن أقرأ أيضا.» «حسنا.»
قلب الكاهن حتى الصفحة الرابعة من كتاب قراءة مهترئ ذي غلاف باللونين الأحمر والذهبي، يشبه كثيرا ذلك الذي أحضره على العشاء في تلك الليلة، وبدأ على الفور يقرأ متتبعا أسفل الكلمات بأصبعه. «منسا منسا منسام منساي منساي منسا.»
وفي نهاية العمود توقف واستدار نحو إلينورا. «هل فهمت؟»
فهزت رأسها. «إنها اللاتينية، لغة روما، لغة فرجيل وأوفيد وشيشرون وقيصر.»
كانت تعرف من هو أوفيد؛ فكل أهل كونستانتسا يعرفونه، وقيصر إمبراطور روماني، وفرجيل هو من كتب «الإنيادة»، ولكنها لم تكن قد سمعت عن شيشرون. «من هو شيشرون؟»
فأوضح الكاهن: «إنه ماركوس توليوس شيشرون، ربما يعد أعظم خطيب في العالم على الدوام. سوف تقضين أنت وتولي الكثير من الوقت معا على مدار الأشهر القليلة القادمة، وأتوقع أنكما ستصبحان صديقين.»
طبقا للخطة التي أعدها هو والبك، كان الكاهن مولر يأتي إلى المنزل مرتين أسبوعيا يومي الإثنين والخميس بعد الإفطار. ورغم أن إلينورا ظلت متحفظة تجاهه، فقد استمتعت بدروسها؛ تصريف الأفعال والأسماء، والترتيب الثابت لقواعد مبنية على أخرى، وصوت الكاهن الأجش، وتلقت دروسها بسهولة ويسر. وكان بوسعها أن تتذكر كلمات أي نص قرأته منذ أسبوع، وكانت تتابع النصوص الفلسفية المعقدة بإصرار عنيد، وتلاحظ أوجه ترابط لم يفكر فيها الكاهن نفسه. ولكن من بين مواهبها الكثيرة، كان أكثر ما أثار إعجاب معلمها براعتها في تعلم اللغات، فبالنسبة إليها كان تعلم لغة جديدة لا يزيد عن ملء مجموعة من الفراغات. فخلال ثلاثة أسابيع من الدرس الأول، أصبحت على دراية بمبادئ اللغة اللاتينية قراءة وكتابة. وخلال شهرين، أصبح بوسعها أن تترجم فقرات طويلة من «الإنيادة»، وتؤلف الحجج التي تدحض بها آراء تولي. وسرعان ما عرفها الكاهن متشجعا بهذا النجاح في اللغة اللاتينية على اللغة الإغريقية وأرسطو والبطالمة وهيرودوت وأسخيلوس والقديس أوغسطين.
لم تغير دروس الكاهن سوى القليل في عادات إلينورا الخارجية، فظلت تقضي معظم أيامها تقرأ في المقعد المجاور للنافذة البارزة تتناوب على قراءة «الساعة الرملية» والكتب التي حددها لها الكاهن، وظلت ترفض الكلام أو مبارحة المنزل، ولكن حالها على المستوى الداخلي كانت تتحسن تدريجيا، فكانت تستمتع بالمناقشات المشاكسة للقدماء، وتجد قدرا من السحر في النثر حسن الصياغة. فسطر مثل ذلك، من حوار أفلاطون الذي يحمل عنوان «فيدروس»: «ساحرات وجياد مجنحة تنطلق بسرعة»، سيجلب حتما ابتسامة إلى شفتيها. «ساحرات وجياد مجنحة تنطلق بسرعة». ظلت تكرر الكلمات لنفسها عدة مرات حتى أصبحت الساحرات معها، متجهمات الطلعة يحدقن على نحو مخيف، ويتحركن على أحصنة مجنحة.
ورغم استمتاعها الشديد بدروسها، لم تكن إلينورا تثق بالكاهن تمام الثقة. لم يكن ثمة حادث محدد أثار ريبتها، ولكنه مجموع التفاصيل. كان كثيرا ما يغير مواعيد الدروس، متعللا بأن لديه مواعيد مهمة لا يمكنه تغييرها، وكان يوجه لها أسئلة غريبة عن البك، ووجدته أكثر من مرة يفتش في أدراج مكتب الكولونيل. ولكن الحادث الذي أكد شك إلينورا على نحو دائم وقع بعد مرور بضعة أسابيع على بدء تعليمها اللغة الإغريقية. وصل الكاهن متأخرا حوالي ساعة في ذلك الصباح، وعندما وصل بدا شارد الذهن. فتح الستائر وأغلقها مرتين قبل أن يطلب منها أن تبدأ، وأخذ يعض على رأس قلمه وهو يذرع المكان جيئة وذهابا، بينما كانت تقرأ لنفسها وأصبعها يتتبع الكلمات، وأخذ حفيف سرواله يشير إلى مرور الوقت كما لو كان بندول إيقاع قلق.
وبعد فترة وجيزة، سرقت بعض الماشية من جزيرة وابية على يد أوتولايكس، وافترض يوريتوس ...
شعرت إلينورا بلمسة خفيفة من يد الكاهن على كتفها، فتوقفت عن القراءة. «ماذا تذكرين عن أوتولايكس؟»
وبينما كان يغير وضعه، شعرت بكم قميصه يمس ذراعها على نحو أزعجها، فقطبت عينيها ووضعت أصبعها تحت الكلمات. «إنه إحدى شخصيات الأوديسا، جد أوليسيس لأبيه.»
حدقت إلى ورق الحائط الأحمر المزركش أمامها، وتذكرت الفقرة المناسبة، وكتبتها في أسفل الصفحة:
وبالفعل، فور أن بدأت تحمم سيدها، علمت في الحال أن تلك هي الندبة التي سببها له خنزير بري عندما كان يصطاد في جبل بارناسوس مع جده الرائع أوتولايكس، الذي كان أمهر لص وشاهد زور في العالم بأسره.
ابتسم الكاهن قائلا: «نعم، بالضبط.» وتابع قائلا وهو يرفع يده عن كتفها ويغير اتجاهه: «إذا لم يكن لديك مانع، لدي شيء جديد اليوم.»
جلس الكاهن مولر أمام مكتب الكولونيل، ومد يده في حقيبته فأخرج أنبوبا فضيا صغيرا. تأمل النقوش بامتداد الحافة العلوية، وفتحه ثم أخرج قطعة ملفوفة من الورق، وبسطها في منتصف المكتب، ثم ثبتها من الجانبين بمثقلة الورق. كانت الورقة مغطاة تقريبا بالكامل بالحروف اليونانية، ولكن الكلمات لم تكن يونانية. لم يخبرها عن مصدر هذه الورقة، ولا عن السبب الذي يدعوه ليحتفظ بها في أنبوب مزخرف كهذا.
قال الكاهن: «كما ترين، فتلك الحروف لا تصنع كلمات، حتى ولو كلمات مفهومة بالنسبة إلينا على الأقل. ولكن ثمة نمط، نظام. وهدف هذه الأحجية هو اكتشاف النمط، وهذا هو درس اليوم.»
أمسكت إلينورا برأسها بين راحتي يديها، وحدقت إلى الحروف. استجمعت تركيزها قدر ما استطاعت في نقطة واحدة، وهو ما كانت تفعله عندما ترغب في تذكر شيء ما؛ استشهاد أو قاعدة نحوية أو تاريخ أو كلمة جديدة. كانت بارعة في تذكر الأشياء، وحالما تلتقط شيئا في ذهنها فإنه لا يهرب منها أبدا. ولكن اكتشاف حل تلك الأحجية كان مهمة مختلفة تماما، كتعلم لغة جديدة بلا كتاب، أو كإدراك أن الريش هو الثلج دون أن يخبرك أحد بذلك. زفرت إلينورا أنفاسها، واستقامت في جلستها، وتركت ذهنها يسترخي. وبدلا من التركيز على الحروف، تركت تركيزها يتفرق إلى آلاف من الأشعة الصغيرة. أغلقت عينيها وأرخت إطباق أسنانها، وتركت الحروف تتحرك عبر ساحة الضوء المستمرة التي تتراقص داخل جفنيها. اهتز كل حرف في ذاته بالإضافة لاحتمالات كل الحروف الأخرى بكل اللغات التي تعرفها، وهكذا تكونت الجملة: «الأربعاء وقت الظهيرة، خلف مقهى أوروبا.»
فتحت عينيها مرة أخرى فأبصرت المكتبة والكاهن بأنبوبه الفضي، ورفع الكاهن حاجبيه بينما كانت تكتب الإجابة:
الأربعاء وقت الظهيرة، خلف مقهى أوروبا. «كيف توصلت إلى ذلك؟»
هل تلك هي الإجابة الصحيحة؟
فقال الكاهن وهو يعض على شفته السفلى: «نعم، أعتقد ذلك، ولكن ما يهمني أكثر من ذلك هو كيف توصلت إلى الإجابة.» «تأخذ الرقم المرتبط بكل حرف من الحروف اليونانية، ثم تطرح منه اثنين، ثم تحول الرقم الجديد إلى الأبجدية العثمانية.» «تماما!»
توقف للحظة كي يتأكد من الإجابة، ثم طوى الورقة وأعادها في حامل المستندات، ونهض واقفا يعتذر لها لاضطراره إلى مقاطعة درس اليوم، مؤكدا لها أنه سيعوضه لها يوم الخميس، ثم انصرف.
رغم أن دروس الكاهن قد قدمت لها القليل من العون، فقد كانت حرة في قضاء أيامها كما تحب. اختارت أن تجلس معظم الوقت هادئة في غرفتها تقرأ كتابا، ولكن مع قدوم الصيف والزيادة البطيئة لطول النهار، وعودة الطيور المهاجرة للوجود بانتظام بامتداد البوسفور، ازداد فضول إلينورا بشأن الأشياء المحيطة بها. فرغم أنها لم تكن تنوي مبارحة منزل البك، فقد زادت رائحة براعم المشمش المتفتحة من جرأة جولاتها في الأروقة والغرف الخالية. وذات مساء في أحد أيام الأربعاء قبيل شهر يونيو، داهمتها رغبة مفاجئة في استكشاف جناح الحريم. وضعت المؤشر عند الموضع الذي توقفت عنده في كتاب «التاريخ الطبيعي» لبليني، وهبطت الدرج، ثم انعطفت يسارا أسفل الدرج. وفي نهاية القاعة الرئيسة وراء المكتبة وقاعة الاستقبال وغرفة موسيقى اكتشفتها منذ بضعة أسابيع، وجدت إلينورا نفسها في مدخل جناح الحريم؛ وهو باب شاهق الارتفاع ضيق ذو نقوش على هيئة أشكال سداسية متداخلة.
فتح الباب على ردهة معتمة تفوح برائحة الأتربة وبيوت العنكبوت. كانت غرفة الانتظار لجناح الحريم غرفة رقيقة شاهقة الارتفاع تتناثر فيها قطع الأثاث غير المستخدم والبقايا المهترئة لوسادات من نسيج السندس الوردي، ويسود أرجاءها جو مترب يوحي بالإهمال استطاعت أن تستشعره حتى وهي ما زالت تقف في المدخل. عطست وخطت خطوة داخل الغرفة، ثم أغلقت الباب خلفها. عطست مرة أخرى ومسحت أنفها بطرف كمها، وهنا فقط لاحظت سلما يمتد متقاطعا أعلى الحائط الخلفي. كان هذا السلم يؤدي حسبما تعلم إلى ممر عائم تحت السقف. لم تكن لديها فكرة إلى أين يؤدي الباب، أو ما الذي قد تكتشفه خلفه، ولكن أليس ذلك هو الغرض من الاستكشاف؟
استنشقت إلينورا الهواء الراكد، ثم عبرت الردهة وصعدت الدرج الخشبي. كانت تصدر صريرا مع كل خطوة، فتشبثت بالدرابزين طلبا للدعم. وفي أعلى الدرج وجدت بابا غير مزخرف مصنوعا من خشب الأرز، وحاولت أن تدير المقبض، فدار في يدها بيسر كاشفا عن رواق مظلم يمتد مستقيما في الاتجاه المعاكس لجوف الحائط. ولم تستطع إلينورا أن ترى من مكانها سوى غمامة من التراب ومجموعة من الفئران تعدو عبر العتبات. مسحت يدها في عباءتها من الأمام، وأخذت بضع خطوات حذرة في الرواق، واستطاعت أن تتبين بقعة من الضوء على بعد. وضعت ذراعيها أمام وجهها، وتوجهت نحو الضوء منحنية أسفل الأشعة، وأخذت تتوقف كل بضع خطوات كي تزيل خيوط العنكبوت عن شعرها.
اكتشفت أن الضوء يتدفق في الأروقة عبر حاجز شبكي يشبه ذلك الذي رأته على نافذة عربة البك. وضعت رأسها عند الحاجز، فشاهدت أسفل منها أرفف الكتب ومجسمات الكرة الأرضية وموائد القراءة بالمكتبة، كما لو كانت تشاهد مسرحا، ووضعت يدها على قلبها الذي خفق بشدة بين ضلوعها. كما علمت لاحقا، فإن تلك الأروقة أمر مألوف في إسطنبول، وهي مصممة كي تتمكن سيدات المنزل من مشاهدة المناسبات الاجتماعية دون أن يعرضن شرفهن للخطر، وهي مبنية في معظم القصور العتيقة الضخمة بامتداد البوسفور. ولكن عندما اكتشفت إلينورا تلك الأروقة للمرة الأولى، كانت كمن وجدت الباب السحري لعالم آخر، أو صندوقها الخاص الذي يمكنها من خلاله مراقبة كل غرفة في المنزل.
ربما كانت ستعود أدراجها لو لم تشعر عندئذ بتيار من الهواء البارد يخترق الظلام. مرت بمفاصل أصابعها على الألواح الخشبية المكشوفة التي تغطي حوائط الرواق، وواصلت تقدمها نحو مصدر الهواء. عبرت فوق غرفة الطعام وغرفة الانتظار؛ حيث رأت خيال السيدة داماكان يختفي في جناح الخدم. وفي زاوية المنزل بجوار ما قدرت أنه موضع غرفتها، انحنى الرواق انحناءة حادة وانفصل في اتجاه المطبخ. ومن هذا التقاطع وجدت سلما خشبيا ضيقا يقود لأسفل. لم تكن إلينورا على يقين من ذلك، ولكن بدا كما لو كان الهواء يأتي من أسفل الدرج.
أمسكت بالدرابزين بيدها الخالية، واتخذت طريقها بحذر أسفل الدرج إلى غرفة ذات باب حديدي صغير مثبت في الحائط. لم يكن ارتفاع الباب أطول منها كثيرا، ولم يزد عرضه عنها سوى ضعف واحد، وكان يعلوه الصدأ البرتقالي حول الأقفال، وتتجمد فوقه طبقة من الرطوبة المختلطة بالغبار. كان ملمسه دافئا، وبدا كما لو أنه لم يفتح منذ فترة طويلة. وجدت أن مصدر الهواء شق بين إطار الباب وخشب المنزل، ناتج عن استقرار المنزل في أساسه. كان ثمة شعاع ضئيل من ضوء النهار يتسلل عبر الشق، ورائحة التبن تملأ المكان حولها. نظرت إلينورا خلفها ثم قرعت منتصف الباب، فأصدر صوتا عميقا أجوف كما لو كان جرسا كبيرا. وضعت أذنها على الباب، ولكن فيما عدا صدى قرع الباب فإنها لم تسمع أي شيء. وقفت إلينورا فترة طويلة واضعة يدها على مقبض الباب قبل أن تقرر ألا تغامر، وأخبرت نفسها وهي تهرول صاعدة الدرج وتتتبع خطواتها عبر الرواق، بأن ذلك الاستكشاف يكفي ليوم واحد، ذلك الاستكشاف أكثر من كاف بالنسبة إلى يوم واحد.
الفصل الثالث عشر
تسلل فصل الصيف إلى إسطنبول تحت غطاء أمطار منتصف النهار، واتخذ مستقرا له بالقرب من قواعد جسر جالاتا، ثم اندفع في المدينة ككلب ضال. ظل الفصل الجديد يدخل الممرات الضيقة ويخرج منها، وأعلن عن نفسه بوضوح في عناد ذبابة الفاكهة وهي تحوم حول جبل من ثمار التين، وفي نبرة المؤذن ذات الثقة المتزايدة، وفي حدة الطبع المتزايدة لأصحاب المتاجر في السوق التجارية. تفتحت براعم الأشجار وأزهرت وأثمرت، بينما امتلأ المضيق بالطيور المهاجرة، واحتشدت موجة تلو الأخرى من الصقور واللقالق وطيور السنونو وغربان البحر في أسراب فوق البوسفور في طريقها إلى أماكن التكاثر في أوروبا. كان بوسع المرء أن يتبين قدوم الصيف في رائحة شراب الكرز الدبق والحمام المشوي وثمار السفرجل الفاسدة. كما لو كان جلدا مدبوغا حديثا يتم شده أكثر فأكثر، كان كل نهار يزداد طولا عن النهار السابق بفارق ضئيل، وكل صباح يأتي مبكرا أكثر، ووطيس الشمس يصير أقوى.
حدقت إلينورا إلى تلك الممرات المائية البطيئة في تدفقها، فشاهدت مجموعة من الصقور التي يعلو رقبتها ريش أبيض تمتطي عصفات غير مرئية من الهواء الدافئ كما لو كانت مطبات في الطريق. ورأت هجمة من الحدآن السوداء في الاتجاه بين قباب مسجد السليمانية، وحصارا من طيور البلشون ذات الأعناق الشبيهة بالثعبان، التي تبسط أجنحتها على مداها كقوارب التجديف بالأسفل. كانت قد اكتشفت في ذلك الصباح في المواضع الخلفية من مكتبة البك نسخة مغلفة بجلد العجل من كتاب «عن التاريخ الطبيعي وتصنيف الطيور» لويليام سوينسون. وعندما طابقت صور الكتاب بما رأته خارج النافذة، تمكنت من التعرف على الصقور والحدآن وطيور البلشون، بالإضافة إلى مجموعة من النسور ذات الذيول البيضاء، وصقر شاهين وحيد يحمل طائرا بحريا في مخالبه.
بينما هدأت الشمس وانحدرت وسط الأشجار خلف أوسكادار، لمحت إلينورا وميضا أرجوانيا بطرف عينها، وحط هدهد أرجواني اللون ذو تاج من الريش المخطط بالأبيض على حافة نافذتها. أمال الطائر رأسه إلى اليسار كما لو كان يشير إلى نقطة مهمة، وراقبت سربها وهو يظهر حول انحناء القرن الذهبي. وبينما كانت أفراد السرب تتوجه نحوها وهي تحلق وتنطلق عبر السماء التي يراوح لونها بين البرتقالي والرمادي، شعرت إلينورا بشيء ينهار داخلها، كما لو كان تيارا جليديا يتحطم. وعندما فتحت النافذة، حلق المستكشف كي ينضم إلى إخوته.
دفعت إلينورا خصلة من شعرها بعيدا عن عينيها، واستندت بمرفقيها إلى حافة النافذة، وراقبت الغسق وهو ينتشر أسفل منها. كانت المدينة ذلك المساء مشحونة بالطاقة التي تنبعث من هدف جديد؛ فبدلا من أن تهدأ حركة السفن مع غروب الشمس - كما تفعل غالبا - بدا أنها تزيد، وبدا المسافرون متلهفين على الوصول إلى وجهتهم، ولاحظت فريقا من الرجال يعلقون المصابيح بين مآذن المسجد الجديد، ورست سلسلة من الزوارق البخارية بامتداد بيشكطاش بير. وعندما لمست الشمس قاع الأفق كانت المدينة قد أصبحت خالية، وتوقفت حركة السفن في البوسفور، وخلت الطرق من العربات. صمت الباعة الجائلون، ولم تسمع صوتا سوى ثغاء خروف مقيد خارج مسجد بيشكطاش. وعندما هرب آخر ضوء للنهار أسفل منحنى الأفق فور اختفاء الشمس، انطلق صوت مدفع بالقرب من قصر توب كابي. سقطت إلينورا على الأرض خائفة، وغطت رأسها بيديها وهي تقاوم أسفل مكتبها. فإذا كان ثمة المزيد من المدافع أو ثمة حرب، فهي ترغب في الشعور بأقصى قدر من الأمان.
كانت في نفس الوضع عندما أتى السيد كروم إلى غرفتها حاملا العشاء.
سألها وهو يضع الصينية على المائدة الصغيرة المجاورة لفراشها: «هل كل شيء على ما يرام؟»
مدت إلينورا يدها لأعلى، وأخرجت قطعة من الورق من الدرج العلوي، ثم كتبت: «المدفع.»
فكتم السيد كروم ابتسامة.
قال وهو يساعدها في النهوض: «إن طلقة المدفع علامة على انتهاء فترة الصيام؛ فاليوم هو الأول من رمضان. ألست تعلمين ذلك؟»
فهزت إلينورا رأسها. كانت تعلم بأمر رمضان؛ الصيام نهارا والوجبات الفاخرة ليلا، ولكنها لم تسمع قط عن استخدام مدفع علامة على انتهاء فترة الصيام، فمن تبقى من المسلمين في كونستانتسا كانوا يعينون رجلا صالحا يطوف بالمدينة وهو يقرع طبلة كبيرة الحجم.
فقال السيد كروم وهو يتكئ على النافذة المفتوحة ويحدق إلى الزوارق البخارية: «حسنا، سوف تستمتعين برؤية الألعاب النارية.»
تناولت إلينورا حساء العدس وهي تجلس وحيدة على مكتبها وتشاهد النجوم وهي تضيء الظلام الخالي كما لو كانت شموعا صامتة. ظلت إسطنبول صامتة طوال الفترة التي تناولت فيها عشاءها، ثم دبت فيها الحياة فجأة بينما كانت تتناول فطيرة التمر. أضيئت المصابيح المعلقة بين مآذن المسجد الجديد حيث رسمت عبارة «رمضان كريم»، ونصب باعة المشروبات وقارئو البخت المقاعد بامتداد المياه، ونصبت خيام ذات قماش أزرق وأحمر في ساحة كل مساجد الحي، وامتلأت الشوارع بالأطفال الصغار وذويهم والأعمام وأبناء الأعمام والأولاد الأكبر سنا حاملين حقائب مهترئة يشقون طريقهم وسط الحشود. وانطلقت أول مجموعة من الألعاب النارية مع صوت مواء قطة، وكانت ذات ضوء أخضر، ثم انطلقت مجموعة أخرى بيضاء اللون، فأطلقت الحشود هتافا فرحا. وانطلقت من الزوارق البخارية أسفل نافذة إلينورا صواريخ حمراء وزرقاء وخضراء وبيضاء، فأضاءت سماء ليل رمضان بوميض دخاني، واستمرت الاحتفالات حتى الفجر.
لم تعلم إلينورا ما إذا كان الأمر هو مرأى سربها في ذلك المساء أو بداية الصيف أو قدوم شهر رمضان أو شيء آخر مختلف تماما؛ كل ما أدركته أنها يراودها شعور مختلف. وقفت أمام خزانة ملابسها في الصباح التالي، ولمست أحد ألواح الأرض المكشوفة بطرف أصبع قدمها الكبيرة فارتجفت. كانت قد استيقظت متأخرة وما زال النوم يداعب عينيها، ولكنها لم تستطع أن تنكر أن شيئا ما بداخلها قد تغير. كان بحر الجليد يتفتت. ارتدت ثوبها الأرجواني الشاحب المفضل وزوجا ملائما من الأحذية، ثم استدارت كي تنظر إلى نفسها في المرآة. لا يمكنها إحكام ظهر الثوب بدون مساعدة السيدة داماكان، ولكنها هبطت الدرج رغم ذلك. كان ثمة شيء تنوي مطالبة منصف بك بفعله الآن قبل أن تخونها جرأتها. «صباح الخير أيتها الآنسة كوهين.»
كان البك قد بدأ بالفعل في تناول إفطاره، وكان يضع مربى الكرز على قطعة من الخبز.
فكتبت على قصاصة من الورق: «صباح الخير.» ثم توقفت للحظة ونظرت إليه، ثم تابعت: «منصف بك، هل يمكنني أن أذهب معك اليوم إلى بيرا؟ أعدك أنني لن أسبب إزعاجا.»
فضاقت عيناه ووضع السكين المغطى بالمربى على حافة طبقه.
وأجاب: «بالطبع، على الرحب والسعة. لست مصدر إزعاج أبدا، ولكنني أخشى أن تشعري بالملل فحسب.»
لن أشعر بالملل على الإطلاق، وسوف أظل هادئة تماما.
فأمسك البك بالسكين مرة أخرى ودهن ما تبقى من المربى على حافة الخبز، ثم قطع شريحة من الجبن الأبيض.
قال: «حسنا، ولكن عليك أن تعديني بأن تظلي هادئة تماما.»
فهزت رأسها بالموافقة، واستدار البك إلى السيد كروم . «أخبر عمال الإسطبل أن يعدوا العربة، فسوف تكون الآنسة كوهين في صحبتي.»
فأجاب كبير الخدم وهو ينحني خارجا من الغرفة: «حسنا يا سيدي.»
وقبل أن يغير أي منهما رأيه، وجدت إلينورا نفسها جالسة في عربة البك تشاهد العالم وهو يمر عبر الحاجز الشبكي. وبينما تراجع اللون الأصفر المميز لمنزله خلف مسجد بيشكطاش، شعرت كما لو كان حبلا داخلها يشد ثم ينقطع. لقد خرجت، والهواء البارد يداعب جبهتها، ورائحة البوسفور المالحة الحادة تملأ أنفها، والزهور البرية الأرجوانية تصطف على حافة الطريق، والسحب في السماء بيضاء كحلوى القطن. طوت يديها في حجرها وهي تتابع المساجد والمباني المحلية والقصور والنوافير وأشجار الدلب والصيادين، ومرا بحمار يجر عربة محملة بتلال من فاكهة البشملة البرتقالية اللامعة، ومجموعة من خيام رمضان، ومخلفات احتفالات الليلة الماضية. ألقت إلينورا نظرة على يديها، على راحتيها المفتوحتين، وغطت بهما وجهها ثم استنشقت رائحة الصابون الهادئة.
قال البك والعربة تتوقف: «علينا أن نترجل هنا؛ فالشوارع بعد ذلك شديدة الانحدار.»
كانت محطة القطار الجبلي المائل بجالاتا على بعد بضع خطوات فحسب من مكان توقف العربة. وقفت السيدات الأوروبيات والحمالون التابعون لهم ومجموعة من الرجال المرتدين زيا موحدا في مجموعات من شخصين أو ثلاثة مستظلين بكهف مطلي بالذهب مكسو بالقرميد الوردي والأصفر. وكان المسافرون يختلسون النظر كل فترة إلى الكهف المظلم الذي سيظهر منه قطارهم، متحدثين بصوت خافت، ويراقب بعضهم بعضا بارتياب. وبعد مرور بضع دقائق، ظهر مصباح غاز في الحافة العلوية للنفق. وبصيحة من صفير الهواء المضغوط، توقفت العربة المطلية باللون الأحمر أمامهما، فركبا في العربة الأمامية. ورغم أن إلينورا لم تستطع أن ترى سوى القليل في الظلام، فقد ظلت طوال الطريق تلصق أنفها بالزجاج، محاولة قدر جهدها أن تتبين ما يوجد أمامهما.
وعندما توقف القطار الجبلي المائل، أعلن البك: «لقد وصلنا»، وتوجهوا في طابور إلى خارج المحطة.
كانت بيرا كما تذكرها إلينورا بالضبط؛ فالأروقة مكسوة بلافتات مطلية من القماش، وتسابقت نوافذ المحلات في الإعلان عن البضائع الصيفية الجديدة، والسيدات الأنيقات يتهادين في سيرهن في الطريق مرتديات ثيابهن الأنيقة ذات اللون العاجي. شعرت كما لو كانت تطفو أخيرا على السطح بعد الغطس لفترة طويلة، كما لو كانت تخرج من أعماق نفسها الصامتة الرقيقة إلى عالم تستشعر حرارته ومذاقه المالح. وبينما كانت تقف عند أسفل لو جراند رو دو بيرا تتأمله بعينيها، شعرت بثقل حزن جديد يسحقها؛ كانت تقف مع والدها منذ بضعة أشهر في نفس هذا المكان، كان يمسك بيدها ويسير معها أعلى الطريق. تجمعت الدموع في عينيها وهي تتذكر رائحته، والشعور براحة يده خلف عنقها. وقفت هي والبك صامتين للحظة، وبعدها مسحت إلينورا دموعها بطرف كمها. قدم لها البك أصبعين، فأمسكت بهما وسارا معا أعلى الطريق متجهين إلى مقهى أوروبا.
أمسك البك الأبواب الحمراء المزدوجة لها، وقادها عبر غرفة المقهى الرئيسة المزدحمة التي تملؤها سحب الدخان، وخرجا من الباب الخلفي، ثم هبطا درجا خشبيا منحدرا إلى رقعة مرصوفة من أوراق الشجر يطلق عليها الحديقة الخلفية. وبينما كانا يهبطان، لاحظت إلينورا قطعا من القماش الأخضر والأبيض تتدلى من الدرابزين، ربما كانت البقايا المتناثرة لأحد احتفالات رمضان. كان عجوزان ذاويان يرتديان الطربوش يدخنان النارجيل تحت شجرة لوز، وأسفل الدرج مباشرة جلس شاب أوروبي يرتدي نظارة يقرأ الجريدة، بينما رفيقه يدون ملاحظات في كتاب صغير. اختار البك مائدة بالقرب من مؤخرة الحديقة بجوار مغطس خال للطيور، وطلبا من النادل فنجانين من الشاي وقطعة من الكعك المحلى. وعندما انصرف النادل، اقترب الشاب الذي كان يدون ملاحظات من مائدتهما حاملا لوح نرد تحت ذراعه. كان رجلا نحيلا عصبيا، يرتدي سترة زرقاء قصيرة وسروالا رماديا فاتحا وقبعة تدخين مخملية مزينة بأزهار صغيرة. لم تتمكن إلينورا من تحديد لهجته بالضبط، ولكنها كانت قريبة من القوقاز. وبعد أن تبادل تحيات قصيرة مع البك، جذب مقعدا وأخذ يعد اللوح، وفي تلك الأثناء قفز قط ناصع البياض ذو عين زرقاء وعين صفراء في حجره، فداعبه وهو شارد الذهن بيد واحدة واستمرت الأخرى تعد اللعبة.
حدقت إلينورا إلى عيني القط غير المتجانستين على نحو غريب، وجلست على يديها حتى غاص المعدن الأسود البارد للمقعد في راحتيها. لم يكن ذلك هو ما توقعت أن ترى عليه مقهى أوروبا، هذه اللوحة الهادئة من الأثاث الحديدي والكروم. ولم تكن على يقين من تخيلها بالضبط، ولكنه لم يكن هذا. على أي حال، من اللطيف أنها خرجت. ثمة أشياء كثيرة كانت قد نسيتها؛ دفء الشمس على رقبتها ورائحة العنب. وبينما كانت تتأمل الأشياء المحيطة بها، تردد صوت الأذان عبر المدينة كسحابة رقيقة منخفضة، وحط أحد أفراد سربها على حافة المائدة. ظل واقفا لحظة، ثم ارتجف رأسه ناحية القط وحلق مبتعدا، ولكن البك وخصمه لم يلاحظاه.
قال الشاب وهو يقرع أحد قطع البك خارج اللوح: «ثلاثة-أربعة.»
أمسك البك بالنرد ونفخ في تجويف راحة يده. كان بحاجة إلى خمسة أو واحد كي يعيد القطعة المطرودة إلى اللعبة.
قال خصم البك مشيرا على ما يبدو إلى محادثة سابقة: «إن نائب الملك لديه بعض الخيارات.»
فقال البك: «بالفعل!» وقذف النرد فحصل على ثلاثة-خمسة، ثم أعاد القطعة إلى اللوح، وتابع قائلا: «ولكن ربما يكون الخيار الأفضل هو الانتظار.» «لا يسع المرء سوى الانتظار.»
ظل الرجلان يلعبان في صمت عدة أدوار. كان البك يكسب، فالقطع الخاصة به غير مكشوفة وتتحرك بثبات نحو الهدف. انحنت إلينورا وتركت نفسها تستغرق في إيقاع اللعبة وصوت حركة القطع وقرع النرد، واختبأت فيه كما لو كان مناقشة فلسفية عميقة، تاركة حوائط اللوح الخشبي البسيط تغلق عليها. وهب نسيم عبر الكروم، فشعرت بدفء المقعد أعلى ظهرها.
قال الشاب وهو يشير إلى الشاي والكعك: «يبدو أنك لست صائما في رمضان.»
فقلب البك الشاي وارتشف منه رشفة. «كلا، لقد تركت تلك العادة منذ عدة سنوات، ولكنني أفضل ألا تخبر أيا من زملائي بعدم مراعاتي لها. فصوم رمضان تماما مثل عادة دفع العشر للكنيسة؛ لا أحد يفعله في حقيقة الأمر، ولكن المجتمع يعتمد على الوهم بأن الجميع يفعلونه.» «إن الطبقات المهمشة تصوم بالطبع.»
فقال البك بعد تفكير وهو يفرك النرد : «ربما، ولكنني أؤكد لك أن لا أحد ممن تعرفهم يصوم.» «وماذا عن صديقتك الشابة؟»
كانت إلينورا تهم برفع قطعة من الكعك إلى شفتيها. «ماذا عنها؟» «أليست مسلمة؟»
فقال البك: «نعم، إنها يهودية.»
وتوقف كي يفكر فيما إذا كان هذا الشرح كافيا، وعندما رأى أنه غير كاف تابع قائلا: «إنها ابنة شريكي السابق في العمل يعقوب كوهين. هل تذكر حادث السفينة منذ بضعة أشهر؟» «الحادث الذي أزعج القيصر؟»
فهز البك رأسه، ولم يكن بحاجة على ما يبدو لأن يوضح الأمر أكثر من ذلك. استمرت مناقشتهما بنفس الطريقة لعدة أدوار، هجوم ودفاع لم تفهم إلينورا معناه تماما، ثم استدار الشاب فأصبح في مواجهتها مباشرة. «ما اسمك؟»
فنظرت حولها تبحث عن ورقة، ولكنها لم تجد أوراقا على المائدة.
فأوضح البك: «إنها لم تتفوه بكلمة منذ الحادث، ولكنها تتواصل عن طريق الكتابة.» «أيمكنها الكتابة؟»
فقال البك بفخر واضح: «نعم، باللاتينية واليونانية والفرنسية والعثمانية.»
فقال الشاب: «حقا؟» وأخرج المفكرة من جيبه ثم أعطاها لإلينورا ومعها قلم قائلا: «اكتبي شيئا.»
فأخذت المفكرة وفتحتها على صفحة خالية.
ماذا تريدني أن أكتب؟
فقال: «أي شيء يعجبك، فقرة من فرجيل مثلا. هل تعرفين الإنيادة؟»
فهزت رأسها وبدأت تقرأ من البداية:
إن حديثي يدور عن شخص، بالقوة والحكمة يتصف، أجبره القدر،
وكراهية جونو المتغطرسة التي لا تلين،
على مغادرة شاطئ طروادة، منفيا ومطرودا.
أعطت إلينورا المفكرة للشاب كي يراجعها، وبينما كانت تفعل ذلك لمحت اسم الكاهن جيمس مولر مكتوبا بحروف صغيرة وتحته خط في أعلى الصفحة المقابلة.
قال وهو ينظر إلى ما كتبته: «حسنا، إنه مؤثر للغاية.»
واستدار إلى البك متسائلا: «قلت كم تبلغ هي من العمر؟»
فقال البك: «ثمانية أعوام، أو قاربت على تسعة أعوام.»
فهز الشاب رأسه غير مصدق. «لن تكف عن إدهاشي أبدا يا منصف بك.»
ثم نهض عن المائدة، واضعا القط تحت قدم إلينورا. لم تكن لعبتهما قد انتهت بعد، ولكن لم يبد على أحدهما أنه يهتم.
قال الشاب وهو يخلع قبعة التدخين: «سوف يقابلك صديقنا بعد ظهر الغد في طريق لو بيتي شون دو مورت.»
فهز البك رأسه وسلم له مظروفا عبر المائدة. ودون أن يتفوه الشاب بكلمة أخرى، وضعه في جيبه وغادر الحديقة.
بعد أن رحل الشاب انتهت إلينورا من احتساء الشاي، ولعبت الطاولة بضع مرات مع منصف بك. لم تتوجه إليه بأي سؤال عن ذلك الشاب الغريب، ولم تسأل لم كان اسم الكاهن مكتوبا في مفكرته، ولم تسأل أيضا عمن سيقابله البك في طريق لو بيتي شون دو مورت. لم تسأل عن أي شيء، رغم أنها تعجبت من أمور كثيرة. تساءلت تحديدا عما إذا كان ثمة صلة بين الشاب والورقة التي أراها إياها الكاهن، تلك الحروف اليونانية التي تقول: «الأربعاء فترة الظهيرة، خلف مقهى أوروبا.» لم يكن اليوم هو الأربعاء، ولكنهما كانا خلف مقهى أوروبا. ربما تكون ثمة صلة بالفعل. فبقدر ما كانت تفهم عن العالم وتدرك الكثير، كان ثمة الكثير من الأمور التي لم تكن تفهمها.
انحنت إلينورا كي تداعب القط الذي كان يذرع المكان جيئة وذهابا عند قدميها، ونظرت في عينيه. كانت عيناه باردتين كحال القطط عادة، ولكن ثمة شيء غريب في سلوكه، وفي الطريقة التي يقفز بها إلى حجرها ويموء لذلك الهدف. بدا الأمر كما لو كان القط يستحثها على أن تتوقف عن الأسئلة، وأن تدع القلق وتنسى نفسها في فرائه الأبيض الناصع.
الفصل الرابع عشر
وضع أمير المؤمنين جلالة السلطان عبد الحميد الثاني كتابه جانبا، وحدق في المدخل المكسو بالقرميد الأخضر لجناح والدته. كانت ساحة جناحها هادئة على غير العادة، وثمة جارية شابة تتمرن على استخدام الكمان في محراب بين عمودين، والماء يصدر خريرا عبر فوهة النافورة الرخامية التي تتوسط الساحة. وبينما كان السلطان يشاهد الماء وهو ينسكب على جانب الحوض العلوي، حط هدهد يجمع بين اللونين الأبيض والأرجواني على حافته وارتشف جرعة ماء، ثم حلق بعيدا. كانت ألوان الطائر نفسها التي رآها منذ بضعة أشهر، أو ربما كان الطائر نفسه. على أي حال، لم يكن هذا اللون مألوفا على الإطلاق.
رمق السلطان والدته، وحاول أن يقرأ بضع صفحات أخرى من كتابه، وهو رواية بوليسية إنجليزية بعنوان «ذات الرداء الأبيض»، ولكن قرقرة معدته أفسدت تركيزه. كان اليوم هو الثاني من رمضان فحسب، ولكن الجوع كان قد أضناه بالفعل على نحو لا يحتمل. ضحك عبد الحميد بينه وبين نفسه ساخرا من المفارقة، فها هو خليفة المسلمين وخادم الحرمين، ولكن معدته تقرقر جوعا في رمضان كأي شخص عادي. بالفعل، فإن ما ورد في سورة مريم صحيح:
ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .
وضع السلطان كتابه مرة أخرى وراقب والدته وهي تمارس تدريب الخط، ممسكة بالقلم بين إبهامها وسبابتها، وهي تجلس على مائدة منخفضة من خشب الجوز وكتفاها متيبستان وساقاها متقاطعتان. كانت قد بدأت دروس الخط منذ وصولها إلى بلاط والده السلطان أحمد الرابع. وبينما كانت الفتيات الأخريات يضيعن الوقت في الثرثرة ونقر أوتار العود، كانت هي تجلس وحيدة في مخدعها الخاص ترسم مجموعة لا نهائية من الدوائر والنقاط؛ آملة في تحسين مستواها. لم تكن بحاجة لأن تبهر أحدا بالطبع الآن، فهي أم السلطان، وعندما تتحدث كانت الفتيات يتفرقن كالغزلان. كان شيئا لا يصدق أن فتاة مثلها، فلاحة بسيطة من سيركاسيا، اختطفت من أهلها وأحضرت إلى القصر في سن الثانية عشرة، يمكنها أن تصعد بقوة الإرادة والجمال حتى تصبح أهم شخصية في الإمبراطورية. كانت قد تمكنت من محو آثار تربيتها الفظة تماما، ولكن عبد الحميد كانت لديه القدرة على أن يستشعر آثار أسلافه البسطاء في بعض الصفات الشخصية لوالدته؛ كغضبها على سبيل المثال. كان يدرك من وقفتها أنها ما زالت غاضبة منه، وكان يعلم بالخبرة الطويلة أن عليه التنازل إذا أراد السلام.
قال مقاطعا فترة صمت طويلة: «إذا كان ذلك يعني لك الكثير، فسوف ألغي هذا الاجتماع.»
أنهت والدته الكلمة التي كانت تكتبها قبل أن ترفع رأسها. «لا يعني ذلك الأمر لي شيئا يا جلالة السلطان، ولست أهتم بمن تدعوهم إلى القصر، ولكنني أشعر بالقلق فحسب من الانطباع الذي تخلفه اجتماعاتك لدى الآخرين ؛ ففور أن تبدأ الإشاعات من الصعب أن تتوقف، وأنت تذكر بالطبع الصعوبات التي لاقاها عمك جيهانكير.»
فهز السلطان رأسه بجدية كما هي عادته عندما يذكر اسم عمه. كان جيهانكير أكولا نهما، ومتحررا غير مقيد بالتقاليد، ومصدرا للكثير من الإشاعات الماكرة. وتوفي وهو جالس على مائدة الطعام وقد غرزت قطعة من لحم الضأن في قصبته الهوائية. «أوافقك الرأي يا أمي أن الإشاعات خطرة، ولكن مقابلة قارئ كف ليست كالتهام خروف كامل.»
فقالت الأم: «لا يقتصر الأمر على قارئ الكف، بل يوجد سحرة الثعابين والمتصوفون والكلب ذو الذيلين والببغاء المتحدث. ويردد الناس أنك تفضل مقابلة متسول عن الجلوس مع سفير جنوة.» «ليس هذا ما حدث.»
فرفعت الورقة وتفحصت مدى دقة خط يدها. «أنت تعلمين يا أمي أن هذا ليس ما حدث.»
فقالت وهي تضع القلم: «لا يهم ما الذي حدث، ولكنني أخبرك بما يقوله الناس.»
وقف عبد الحميد واقترب كي يتفحص العمل الذي فرغت منه. كانت قد كتبت البيت الشهير الساخر للمتنبي: «أرانب غير أنهم ملوك/مفتحة عيونهم نيام» بخط كوفي متقن، وكان عملها لا تشوبه شائبة كالمعتاد. «جميل جدا يا أمي.» «شكرا يا فخامة السلطان. إنك أنت المقصود.»
فارتسمت على شفتيه ابتسامة سخرية. «أرانب غير أنهم ملوك/مفتحة عيونهم نيام». لم تكن ضربة لطيفة؛ فالمتنبي كان معروفا بأبيات الشعر الماكرة التي تنطوي على إهانة، والتي لم يسلم منها أحد حتى أولياء نعمته. «لا يفوتني التلميح الذي تقصدين.»
فقالت وهي تنهض: «فخامة السلطان، أود أن أسأل عن أمر واحد قبل أن أنصرف.»
فهز رأسه لها كي تستمر. «كنت أفكر مؤخرا في حادث السفينة المروع.»
هز عبد الحميد رأسه. كان ذلك الحادث قد اكتسب أهمية جديدة في الأسابيع الماضية، وانتهى تحقيق القيصر في الأمر إلى أن التصادم ربما يكون عملا تخريبيا متعمدا. وطالبت سانت بطرسبرج بتعويض مادي لوفاة الجنرال، قدره خمسون ألف جنيه، وهددت أيضا برفع دعوى ما لم تستدرك الشكوى بدفع التعويض. كان السلطان على استعداد لدفع ضعف ذلك المبلغ سرا، ولكن أحدهم قد سرب مطلب القيصر إلى الصحف، ولو دفع التعويض علنا فسوف يبدو ضعيفا، وسوف يصطف الجميع مطالبين بالتعويض. وإذا لم يدفع، فسوف يجد القيصر حجة أخرى لإعمال سيفه وشن الحرب.
فقال: «كانت مأساة مروعة، فقدا مأساويا للحياة، ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل الآن؟ وماذا كان بإمكاننا أن نفعل؟ لقد أرسلت تعازي الشخصية إلى عائلات الضحايا وإلى حكوماتهم، وحضر جمال الدين باشا جنازة نائب القنصل الأمريكي والسفير الفرنسي، بل إننا اتخذنا إجراءات لتدخل سرية بحرية إلى البوسفور كي تنقل جثمان نائب القنصل إلى نيويورك. وقدمت للروسيين الفرصة نفسها بالنسبة إلى جنرالهم، ولكنهم رفضوا.»
فقالت والدته: «بالطبع إنها مأساة، وقد فعلت كل ما كان بوسعك فعله. إنني أتساءل عما إذا كنت تراه حادثا.»
ثمة عدد من نظريات المؤامرة التي تحيط بالقصر. وكان قد استمع لتوه إلى نظرية الصدر الأعظم المتمثلة في أنها مؤامرة بريطانية لإخافة الأمريكيين وجذب الانتباه بعيدا عن بروسيا، ولم يكن في مزاج يسمح له بالانتظار حتى تنتهي والدته من الحديث.
فقال وهو لا يخفي ضيقه: «نعم، أعتقد أنه كان حادثا. فماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟»
فقالت وهي تنظر خلفها: «أعتقد أنه كان عملا تخريبيا خطط له ونفذه القنصل الأمريكي نفسه.»
فأصدر السلطان صوتا معبرا عن السخرية وعدم التصديق. كان معتادا على نظريات المؤامرة الخاصة بوالدته، ولكن ذلك كان منافيا للعقل تماما. «ولم يغرق الأمريكيون سفينتهم؟ ولم يقتلون نائب قنصلهم؟»
فقالت وهي تبتسم بحياء: «ليس الأمريكيون، بل القنصل الأمريكي.» «ولكن ...» «كما تعلم، فإن القنصل الأمريكي ليس أمريكيا فحسب، بل يهودي صهيوني أيضا.»
فرمش عبد الحميد بعينيه. لم يكن ارتياب والدته في اليهود سرا؛ فقد نمت بذرة خلافها مع موسى بك على مدار السنين حتى تحولت إلى شك في ولائه بالكامل. وبالنظر بعين الاعتبار إلى شعورها نحو الأمر عموما، كان عبد الحميد يميل إلى رفض النظرية تماما، ولكن طبقا لقانون النظريات فهي تنطوي على قدر من التميز.
فقالت وهي تضع ما كتبته بخط يدها على المائدة: «فكر في الأمر .» ثم غادرت المكان.
وقف عبد الحميد في مدخل مخدع والدته الخاص يراقب مجرى لا نهائيا من المياه يتدفق من أعلى نافورة. قرقرت معدته مرة أخرى، وشعر بوخز ألم حاد في كليته، فأمسك بجانبه وشعر بموجة أخرى من الألم تجتاح أحشاءه، فحاول أن يتذكر الشروط التي تبيح الإفطار في رمضان. لم يكن عاجزا أو مسافرا أو امرأة حاملا، ولكن ماذا لو كان الصيام يعوق قدرته على الحكم الصحيح على الأمور؟ ماذا لو هدد قدرته على الاضطلاع بواجباته باعتباره سلطانا؟ يلزم الإفطار في رمضان إذا كان الإفطار سينقذ حياة شخص، وبالطبع فإن القرارات الخطيرة التي يتخذها كل يوم تؤثر على حياة الكثير من الأشخاص. وبهذا التبرير، نظر إلى الساحة الخالية وتسلل إلى المطبخ المجاور لجناح والدته.
كانت الغرفة خالية، والقدور والمقليات مخزنة في الخزانات، وألواح التقطيع نظيفة. كانت وجبة الإفطار تعد في مطبخ القصر الرئيس، مما جعل المطابخ الإضافية كمطبخ والدته غير مستخدمة طوال الشهر، ولكن لا بد أن ثمة أي نوع من الطعام في خزانة حفظ المؤن. ربما لا تكون دجاجة، بل مجرد كسرات من الخبز أو ثمرة مشمش جافة أو ثمرة بلح، أي شيء يمكنه من أداء واجباته على نحو صحيح حتى يأتي وقت الغروب. نظر مرة أخرى إلى الخزانة الخالية، وفتح أبواب خزانة حفظ المؤن، وأخذ يقلب في التوابل وعلبة من السردين وقطعة قديمة من الخبز المسطح. كان على وشك أن يتناول الخبز عندما اكتشف في مؤخرة الخزانة صندوقا من البقلاوة التي تلمع بالشراب على سطحها ويغطيها الفستق الأخضر المطحون. كان لدى والدته ولع بالحلوى، ولا يفاجئه أنها قد أخفت الصندوق خصيصى كي يستهلك في رمضان. لم تكن شابة صغيرة، وكان مرض السكر قد أصابها منذ فترة، ولكن على أي حال فلن تعلم أبدا أنه هو من وجده. نظر خلفه، ثم طوح إحدى القطع في فمه ومضغها مرتين فحسب قبل أن يبتلعها، أما القطعة الثانية فقد استغرق وقته فيها وهو يتلذذ بطعم العجين الحلو المقرمش والنكهة المميزة للفستق المطحون .
لعق عبد الحميد أصابعه، ثم تسلل عائدا إلى مخدع والدته، حيث وجد الصدر الأعظم جمال الدين باشا منحنيا فوق بيت الشعر الذي كتبته والدة السلطان بخط يدها. ونظر كل منهما إلى الآخر في صمت للحظة، وكل منهما يدرك تماما ما الذي يفعله الآخر.
قال الصدر الأعظم: «فخامة السلطان، كنت أبحث عنك.»
قال السلطان وهو يشير إلى ما كتبته والدته: «إنه عمل فني بديع، أليس كذلك؟» «بلى يا فخامة السلطان. طالما تمتعت والدة فخامتكم بخط كوفي رائع، حتى إن المرء قد يظن أنها ولدت في فاس.»
ثم توقف كي يفحص البيت بمزيد من الدقة. «رغم أنني كنت سأختار بيتا آخر من الشعر.»
لم يعبأ عبد الحميد بما عمد إليه جمال الدين باشا من الحض على انتقاد والدته، واستمر في وجهته الأصلية، فعدل الصدر الأعظم من وقفته وأمسك برسغيه خلف ظهره. «وصلتنا تقارير هذا الصباح أن سنجق بك نوفي بازار تمكن من قمع تمرد ضريبي آخر، وللأسف فإن القرية التي جعلها عبرة لباقي القرى تتكون في المقام الأول من المسيحيين الأرثوذكس، ولك أن تتخيل يا فخامة السلطان ما سيستغله الروسيون في ذلك الموقف. فمنذ ثلاثة أيام فحسب أخبر سفيرهم هشام باشا أن القيصر عازم على الدفاع عن الرعايا الأرثوذكس في إمبراطوريتنا كما لو كانوا رعاياه.»
فقال السلطان وهو يمرر ظفر إبهامه على حافة المدخل: «هذا توقيت سيئ. هل ثمة أي شيء يمكننا فعله لتهدئة القيصر؟»
فقال جمال الدين باشا: «يمكننا دفع التعويض الذي طالبوا به، ولكنني أشك أن ذلك سيعمل على تهدئتهم. أعتقد أنهم سوف يصابون بالضيق الشديد، ولو ترامى إلى مسامع الصحف الأوروبية ما حدث في نوفي بازار فسوف تعاد فظائع بلغاريا مرة أخرى.»
صمت السلطان لحظة وارتفع صوت قرقرة معدته.
ثم قال أخيرا مغيرا الموضوع: «دعنا نر كيف سيستجيب القيصر. والآن أخبرني ببعض الأخبار الطيبة. ما مدى التقدم الذي يحرزه جواسيسنا؟»
كانت العمليات السرية هي الملعب الشخصي لجمال الدين باشا، وطالما كان يمكن الاعتماد عليه كي يصف نجاحاته في هذا المجال.
قال الصدر الأعظم: «لدينا أخبار طيبة بالفعل فيما يتعلق بهذا الجانب؛ فقد تمكن رجالنا الأسبوع الماضي من فض اجتماع ثوري في بيوجلو.»
هز السلطان رأسه.
فتابع الصدر الأعظم قائلا: «قد يكون من المهم أيضا أن تعلم أن الشفرة التي قادت رجالنا إلى ذلك الاجتماع قد فكت رموزها فتاة صغيرة يتيمة عمرها ثماني سنوات.» «فتاة صغيرة؟!» «تدعى الآنسة إلينورا كوهين، وهي ابنة تاجر منسوجات يهودي من كونستانتسا، ويبدو أنها موهوبة حقا. على أي حال فقد توفي والدها في حادث السفينة، وهي تعيش الآن مع منصف باركوس بك.»
فردد السلطان: «منصف بك؟! أكان ذلك أحد اجتماعاته؟»
فابتسم جمال الدين باشا قائلا: «نعم، بالمصادفة، أو ربما كلا. بالطبع، فإن تنظيم اجتماع ثوري لا يكفي لتوجيه تهم ضد شخص ذي نفوذ مثل منصف بك، ولكننا سوف نضع ذلك في ملفه.» «وكيف تمكنت الفتاة من فك الشفرة إذا كانت تعيش معه؟»
فقال الصدر الأعظم: «حسنا، إن أحد رجالنا هو معلمها الخاص، وقد أحضر الشفرة لها في الدرس وأخبرها بأنها أحجية.»
فصمت السلطان لحظة. «وماذا نعرف أيضا عن تلك الفتاة؟ أخبرني مرة أخرى ما اسمها؟»
فقال: «إلينورا كوهين. لقد أخبرت جلالتك بكل ما نعلمه، وسوف أسعى إلى كشف المزيد من المعلومات إذا كنت فخامتك ترغب في ذلك. لن يكون ذلك صعبا.»
فقال السلطان: «نعم، إنني أرغب في ذلك.»
الفصل الخامس عشر
بينما كان رمضان يمر متثاقلا عبر أيام الصيف الحارة التي تصيب المرء دائما بالوهن، أذعنت إسطنبول لحالة من الاعتياد على مشقة الصيام. كانت السفن البخارية تبحر متباطئة في المضيق معانقة ضفافه الظليلة، وصوت المؤذن يبدو مشروخا من العطش، بينما جلست إلينورا عند حافة النافذة وبيدها كتاب تستخدمه كمروحة. كانت المشقة التي يحملها كل يوم جديد تبدأ متأججة، ثم يهدأ لهيبها تدريجيا، ثم تخبو مع انطلاق مدفع الإفطار عند الغروب. حتى من لا يصومون، مثل الأرمن واليونانيين والأوروبيين واليهود، كانوا يشعرون بنفس الموجة من الارتياح في نهاية اليوم عندما تمتلئ الشوارع بباعة المثلجات وقارئي الطالع والخيام الحمراء المكسوة بالغبار. وكانت المصابيح تعلق كل ليلة بين مآذن المسجد الجديد تتمنى للجميع رمضانا كريما. واستمرت الألعاب النارية متسارعة، ولكن حجمها كان يتناقص نوعا ما. وفي معظم الأمسيات كان البك يتناول إفطاره بالخارج مع الأصدقاء أو الزملاء أو الأقارب البعيدين، وعرض على إلينورا أكثر من مرة أن يصطحبها معه، لكنها كانت ترفض؛ فلم تحتمل التفكير في الاجتماع مع كل هؤلاء الناس وكل هذا الكم من الطعام والضوضاء. كان ذلك كثيرا عليها، وكانت قانعة بالروتين الهادئ لدروسها وقراءتها وتناول وجباتها وحيدة في غرفتها. ولكن كل ذلك تغير في يوم الثلاثاء من الأسبوع الثالث من رمضان؛ ففي ذلك المساء وصل الكاهن مولر إلى منزل البك متأخرا بضع دقائق، وبدا أكثر حيوية من المعتاد، فكان وجهه متوردا ومغطى بالشعر الناعم.
قال وهو يداعب شعرها: «مرحبا، ها هي الآنسة كوهين الصغيرة الشهيرة.»
ضحك على دعابة خاصة، ثم وضع كومة من الكتب في زاوية مكتب الكولونيل. «خطر لي أن نقوم بشيء مختلف قليلا اليوم.»
أشار لها أن تجلس، ثم أخرج كتابا مهترئا ذا غلاف أخضر داكن. أمسكت به إلينورا وتفحصت كعبه. كان كتاب «التحولات» لأوفيد.
قال الكاهن: «أنت تعلمين رأيي في الروايات وشعر الغزل، ولكن الروح الطيبة البارعة لأوفيد ليست موضع لوم. وإذا لم أكن مخطئا، فأعتقد أنه قضى الأعوام الأخيرة من حياته في كونستانتسا.»
كانت إلينورا ما زالت تحمل الكتاب، ففتحته على الصفحة الأولى. كانت مكتوبة بخط يد مائل يوحي بالثقة: «إلى جيمي ذي اللسان المعسول، مايو 1865، نيو هافن.»
قال وهو يأخذ منها الكتاب ويتصفحه: «نعم، إنه هدية من أيام دراستي الجامعية.»
في ذلك المساء قاطع الكاهن قراءتها الصامتة عندما رغب أن يردد سطرا بصوت عال كي يسمعه يتردد على لسانه. ظل يذرع المكان جيئة وذهابا خلفها، وتابع أصبعها السبابة التي كانت تمر بها أسفل الكلمات، وهو يغمغم لنفسه شارد الذهن بينما هي تقرأ. ومع بداية قصة كاليستو، هدأ حفيف سرواله. ظنت أنه ينوي توجيه سؤال لها، فاسترجعت السطور الأخيرة: «كان ثوبها العلوي مرفوعا لأعلى وشعرها مربوطا، والآن كانت تحمل في يدها رمحا هزيلا، والآن سرت في كتفيها رجفة خفيفة»، ثم نظرت خلفها. كان الكاهن مستغرقا في التفكير، وذراعاه معقودتان على صدره، وعيناه مغلقتان، وشفتاه منفرجتان قليلا. وبعد لحظة فتح عينيه ورأى أنها تنظر إليه.
قال: «بالطبع، استمري من فضلك.»
رغم أن سلوكه لم يكن عاديا، فإن إلينورا لم تستغرب، ولم يكن لديها ما يدفعها إلى الشك في أن ثمة خطأ ما عندما أخبرها الكاهن بأنه سوف يبقى بعد الدرس كي يدون بعض الخواطر. ففي الغالب كان يظل موجودا بعد الدرس لبضع دقائق فحسب، وفي تلك الأحيان كانت إلينورا كثيرا ما تقرأ وهي جالسة على أحد المقاعد في الجانب الآخر من الغرفة، ولكن في ذلك المساء لما رأت أن المكتبة خانقة بإفراط قررت بدلا من ذلك أن تستكشف الممرات التي تعلو جناح النساء. ونظرا للظلام الذي يعم تلك الممرات، فإنها كانت تظل أكثر برودة من بقية منزل البك؛ ومن ثم كانت إلينورا كثيرا ما تقضي أكثر الأوقات حرارة في اليوم تتجول فيها.
كان قلب إلينورا يخفق مضطربا في حلقها في كل مرة تجر قدميها عبر أرضية الممرات المشققة، حتى بعد أن زارتها حوالي اثنتي عشرة مرة. حملت حاشية ثوبها وانحنت قليلا، والسقف فوقها يزداد انخفاضا كلما تقدمت، أو هكذا بدا. وفي تلك الممرات المظلمة العفنة التي تفوح منها رائحة الخشب الرطب المتعفن، لم يكن بوسعها أن ترى أمامها أبعد من يدها والحوائط التي يتناقص عرضها تدريجيا. توقفت عند رقعة الضوء المتفرقة فوق المكتبة وجثت على ركبتيها، ثم انحنت للأمام وقبضت بأصابعها عبر الفتحات في الساتر الشبكي، ونظرت للأسفل نحو الغرفة التي غادرتها توا.
كان الكاهن مولر لا يزال جالسا على مكتب الكولونيل، ومن موقعها أمكنها أن ترى حمرة الشمس على مؤخرة عنقه، ورقعة صغيرة من الصلع تظهر في أعلى رأسه. لم تستطع أن تحدد في بداية الأمر ما كان يفعله، ولكنها عندما انحنت للأمام رأت أنه قد فتح درجا من أدراج المكتب وأخذ يفتش فيه خلسة. وبعد برهة من الوقت بدا أنه قد وجد ما كان يبحث عنه، ودسه في حقيبته. مدت إلينورا عنقها إلى الأمام كي تدقق النظر أكثر، وبينما كانت تفعل ذلك فاجأتها عطسة هائلة.
فنظر الكاهن لأعلى وتفحص الحجرة، ثم مرت فترة صمت طويلة. «مرحبا، الآنسة كوهين؟!»
كانت إلينورا تسمع صوت قلبها يخفق في أذنيها، وشعرت بأنفاسها تحتبس في حلقها. أرادت أن تهرب وتغادر المكان سريعا قدر الإمكان، ولكنها أدركت أنه من الأفضل لها أن تظل صامتة وساكنة. أخذت تتنفس من فم مفتوح، وراقبت الكاهن وهو يقف وينادي اسمها مرة أخرى، ثم تجول في الغرفة وهو يختلس النظر أسفل المقاعد والموائد. وعندما رأى أن الغرفة خالية، حمل حقيبته وانصرف.
طوال ذلك المساء، وطوال فترة تناول العشاء، استرجعت إلينورا ذلك الحادث في ذاكرتها، الدرج المفتوح والحقيبة، وصوت اسمها وهو يتردد. ثمة العديد من التفسيرات المقبولة لما رأته، فربما يكون قد طلب من الكاهن مولر أن يحضر مستندا للبك، أو ربما كان يبحث عن قلم مفقود أو ورقة خالية، ولكن بصرف النظر عن كم الاحتمالات التي استطاعت أن تستحضرها، فقد وجدت صعوبة في إقناع نفسها بأي شيء سوى التفسير الأكثر وضوحا؛ لقد سرق الكاهن البك. ومن وجهة نظر أخلاقية، لم يكن السؤال هو ماذا حدث؟ ولكن ما إذا كانت ستخبر الجميع بما رأته. يبدو أن أفلاطون يرى أن عليها ذلك: «إن الحقيقة هي بداية كل خير للآلهة، وفيها كل خير الإنسان.» ثم أتى دور ترتوليان: «إن الحقيقة تولد كراهية الحقيقة، وفور أن تظهر فإنها تصبح العدو.» ظلت تقلب الأمر في ذهنها طوال فترة العشاء، وخلال الألعاب النارية، وفي أحلامها.
وعندما هبطت الدرج في صباح اليوم التالي لتناول الإفطار كانت المشكلة لا تزال عالقة معها. لم تكن هي والبك يتواصلان أكثر من التحيات والمجاملات الضرورية كالعادة، وأحضر لها السيد كروم الإفطار، وتناولته كالمعتاد، ولكنها ظلت تشعر بالأمر معلقا في سماء الغرفة كما لو كان رأس كركدن محنط صامت. لم تكن قد كذبت ، ولم تخن ثقة أي أحد، ولكنها رغم ذلك كانت تشعر بأنها ارتكبت خطأ، أو أنها بالأحرى لم تقم بالفعل الصحيح حتى الآن. هل ثمة فرق بين هاتين الخطيئتين؟ تناولا الطعام في صمت وإلينورا تحدق إلى ثمار الفراولة المقطعة وهي تقطر عصيرا أحمر اللون في طبقها. كانت بحاجة إلى أن تقول شيئا، إلى أن تقوم بالفعل الصحيح، ولكنها لم ترغب في أن تشهد شهادة زور ضد الكاهن. وضعت قطعة من الفراولة في شوكتها، ومضغتها حتى ذابت في فمها.
قال البك وهو ينهض عن المائدة: «أيتها الآنسة كوهين، إنني لن أعود إلى المنزل حتى وقت متأخر من هذا المساء، فقد دعيت إلى منزل الحاج بكير.»
حسمت ذكرى إلينورا عن الحاج بكير وعدم نزاهته ومزاجه الحاد بالنسبة إليها؛ الأمر، فأخرجت ورقة وقلما من جيب ردائها.
هل يسمح وقتك بدقيقة؟ فلدي سؤال.
قال البك وهو لا يزال واقفا: «بالطبع، ماذا يدور في خاطرك؟»
فتابعت بعد تردد طويل: «بالأمس كنت في أروقة جناح الحريم»، ونظرت إليه كي تقيم رد فعله. طبقا لمعلوماتها فلم يكن البك يعلم شيئا عن رحلاتها الاستكشافية، وسواء أكان يعلم أم لا، فلم يبد عليه أنه بوغت على الإطلاق لإفشائها ذلك السر.
لقد اكتشفتها بالمصادفة، فأنا أصعد هناك أحيانا عندما أرغب في قضاء بعض الوقت بمفردي، وأنا آسفة لو لم يكن مسموحا لي بالدخول إلى هناك.
فقال: «إنني أتفهم ذلك، هل هذا كل ما رغبت في قوله؟»
فرمقت إلينورا السيد كروم الذي كان يقف بجوار الصوان ويداه خلف ظهره.
كنت في الأروقة عندما رأيت الكاهن. كان ذلك بعد انتهاء الدرس، وكان قد ظل في المكتبة كي يدون بعض خواطره. لم أكن أنوي مراقبته، ولكنني عندما نظرت إلى الأسفل رأيته يتصفح محتويات أحد أدراج مكتب الكولونيل.
فزم البك شفتيه. «هل هذا كل ما في الأمر؟»
لست متأكدة بسبب زاوية الرؤية، ولكنني أعتقد أنني رأيته يأخذ شيئا من الدرج ويضعه في حقيبته.
فتساءل البك وهو مضطرب بطريقة لم ترها من قبل: «ما هو؟ هل هو قلم أم خطاب أم ورقة؟»
شعرت إلينورا بوخز الندم يجتاحها حتى أخمص قدميها، ورأت أمامها جبلا من العواقب غير المقصودة، جبلا يتداعى تحتها. وللحظة رغبت في أن تتراجع، لكنها لم تستطع، فقد خرج السر منها، وكان عليها أن تخبر البك بكل شيء.
بدت كما لو كانت ورقة، أو ربما بضع ورقات، رزمة صغيرة.
ودون أن يتفوه البك بكلمة أخرى، خطا بخطوات سريعة نزولا من القاعة الرئيسة إلى المكتبة، وتبعته إلينورا ببضع خطوات.
قال البك عندما وصلا وهو يجلس إلى مكتب الكولونيل: «أي درج هو؟ هل تذكرين؟»
فأشارت إلى الدرج العلوي، ونقب البك فيه، وعندما لم يجد ما كان يبحث عنه أزال محتويات الدرج بالكامل. وضع الأوراق على المكتب، ونظر فيها واحدة تلو الأخرى. وعندما انتهى من فحص كل الأوراق، دفن رأسه بين يديه. «لم يكن علي أن أثق به، عميد كلية روبرت يعرض علي تعليم فتاة صغيرة!»
وقفت إلينورا عند المكتب بينما كان البك يتمتم بكلام غير مفهوم ورأسه بين ذراعيه. انتابها شعور بالسقوط في الهاوية، وأن العالم يتهاوى بإرادتها الحرة. وفجأة رفع البك رأسه وأمسكها من كتفيها، ونظر بقوة في عينيها. «هل أنت على يقين تام من أنك رأيته يأخذ ورقة من هذا الدرج؟»
فهزت رأسها وهي تتحاشى النظر إلى عينيه اللامعتين بقسوة. «إنه أمر غاية في الخطورة، وإذا كان ما تقولين صحيحا فلن نتمكن من استضافته في المنزل تحت أي ظرف بعد الآن، ويجب أن تنتهي دروسك، وعلينا أن نقطع كل العلاقات معه.»
توقف البك وأرخى قبضته عنها، وبدا أنه تمالك نفسه. «وفي الوقت نفسه، يجب أن تنتبهي إلى ألا تشهدي شهادة زور، فهي طبقا للنبي محمد على الأقل إحدى الكبائر الأربع.»
نعم، أنا على يقين من ذلك. «إذن، فليس لدينا سوى طريق واحد.»
فكتبت مترددة: أود أن أسأل ماذا كانت تحوي تلك الورقة؟
أغمض البك عينيه وأخذ عدة أنفاس عميقة قبل أن يخرج ورقة وقلما من الدرج العلوي للمكتب. «ما أخذه الكاهن ليس ذا أهمية كبرى ، ولكن المشكلة أننا لا نستطيع أن نثق به بعد الآن.»
بينما كانت إلينورا تنظر من فوق كتفه، كان البك يكتب خطابا قصيرا.
عزيزي الكاهن جيمس مولر
أخشى أننا لا نستطيع أن نواصل الدروس التي تعطيها للآنسة إلينورا كوهين. ونظرا لظروف خارجة عن إرادتنا لا يمكننا للأسف أن نناقشها، فإنه علينا إنهاء تلك العلاقة في الحال. لقد استمتعت الآنسة كوهين بالدروس التي كنت تعطيها إياها كثيرا، ونحن نتمنى لك كل خير في المستقبل، ونأمل ألا يكون هذا القرار مصدرا لأي متاعب أو أضرار مفرطة بالنسبة إليك.
المخلص
منصف باركوس بك
قرأ البك الخطاب ونظر إلى إلينورا كي يحصل على موافقتها قبل أن يطويه ويضعه في مظروف. وهكذا انتهت دروسها. كانت تعلم أنها قامت بالفعل الصحيح، كانت تعلم ذلك، ولكنه لم يبد شعورا صحيحا على الإطلاق. فبعد أن حاولت أن تقرأ في المكتبة لبضع ساعات، تناولت الغداء وصعدت عائدة إلى غرفتها، ثم اندست في الفراش وهي تفكر في كلمات الجنرال كرزاب إلى زوجته عن جوهر الحقيقة وماهيتها: «سمكة مراوغة تتلألأ قشورها في الماء، ومحارب شريف معرض للخطر، ولكنها صماء كالرصاص في قاع السفينة.»
استيقظت إلينورا في صباح اليوم التالي على قرع الباب والموسيقى الخافتة للسيدة داماكان وهي تترنم بلحن مألوف. تناثرت أحلامها في الزوايا البعيدة من الغرفة، تحت الأثاث، وفي شقوق ألواح الأرضية. فركت عينيها، ثم تسللت من فراشها وتبعت السيدة داماكان إلى الحمام. كان الهواء معبأ ببخار الماء ورائحة الصابون، وأطل الصباح بوجهه من النافذة التي تعلو الحوض كما لو كان متسولا. شعرت إلينورا بقشعريرة في جسدها وهي تنزلق في المغطس، واقتفت أثر حرف
S
على سطح بلاطة زرقاء مربعة.
رفعت إلينورا ذراعيها إلى حافة المغطس، وأمالت رأسها إلى الخلف وتركت السيدة داماكان تكسو شعرها برغوة من الصابون. لم تكن لديها فكرة عما ستفعله الآن، فبلا دروسها كان المستقبل يمتد أمامها كالأمواج، والأسابيع والشهور تعلو وتهبط في محيط غير متمايز من الوقت. لم تندم على ما فعلته؛ فقد قامت بالفعل الصحيح، ولكنها كانت حزينة على فقدان دروسها، وخشيت أن يكون اتهامها خاطئا. ربما تخيلت أن الكاهن يفتح ذلك الدرج، وربما كان فضوليا فحسب. استرخت مع حركة الرغوة، وتركت كتفيها تنحنيان للأمام، ولفت ذراعيها حول ركبتيها. وفي شفافية الحمام المعتمة، استطاعت أن ترى الخطوط العريضة لصورتها في المرآة وقد فرك جسدها حتى أصبح وردي اللون، وعلا رأسها برج من الشعر المكسو بالصابون الأبيض كما لو كان كعكة نمساوية، وخطر في بالها ورقة الزنبق وذقنها يلمس سطح الماء. «إلينورا.»
نطقت السيدة داماكان اسمها بعناية، كما لو كان كتابة منقوشة على ظهر تميمة سحرية. رطبت شفتيها بلسانها، وجذبت مقعدها إلى الواجهة الأمامية للمغطس. وكان غطاء رأسها قد أزيح للخلف أكثر من المعتاد، كاشفا عن شعر أبيض خشن تتخلله خصلات من الشعر الأسود.
قالت: «لقد قمت بالفعل الصحيح، لقد قمت بالفعل الصحيح.»
لم تدر إلينورا كيف علمت الخادمة العجوز بما حدث، ولكن تصريحها الشديد الثقة بأن إلينورا قد قامت بالفعل الصحيح قد أزال شكوكها، في الوقت الحالي على الأقل.
رددت السيدة داماكان: «لقد قمت بالفعل الصحيح.»
وعندئذ وقفت وجذبت السدادة، ثم جمعت أغراضها سريعا وتركت إلينورا وحيدة تراقب مياه الاستحمام وهي تدور في دوامة وتهبط في المصرف. وعندما اختفت المياه الرمادية العكرة، سرت قشعريرة من كتفيها إلى ركبتيها، وانتصب شعر جسدها بأكمله.
الفصل السادس عشر
لم يغير انتهاء دروس إلينورا كثيرا من روتينها اليومي، فظلت تستيقظ في الموعد نفسه، وتستحم ثم تنزل من غرفتها كي تتناول الإفطار مع البك، وتقضي أمسياتها غالبا جالسة في مقعدها أو على مكتب الكولونيل وهي تلف خصلة من شعرها حول أصبعها بينما تقرأ. كانت مكتبة البك ضخمة بما يكفي كي تشغلها لعدة أعوام مقبلة على الأقل، ولكن دون أن يكون الكاهن مولر خلفها ودون الحث المستمر من معلمها، وجدت التركيز صعبا بالنسبة إليها. وبينما كانت تقرأ وهي تتجول في سجلات التاريخ القديم والخطابة، مستخرجة المنافسات والنزاعات التافهة الخاصة بالقرون الماضية، كانت أفكارها كثيرا ما تشرد بعيدا عن النص الموجود في متناول يدها. حتى القراءات الخفيفة؛ مثل مجموعة الروايات البوليسية التي وجدتها بجوار «الأعمال الكاملة لبلزاك»، كانت تجد صعوبة في الانتباه الكامل إليها.
ورغم أن مسألة الكاهن مولر كانت قد حسمت تماما، فقد استعادتها إلينورا مرة تلو الأخرى. كانت تحدق إلى ورق الحائط أمامها وتسترجع ذكرى الحادث؛ الدرج المفتوح والكاهن ينادي اسمها قبل أن يغادر الغرفة. كانت تعلم أن دورها في الأمر لا يستحق اللوم، فلا شك أنها قد رأت الكاهن يفتش درج الكولونيل، ولا شك أنه قد وضع ورقة أو رزمة من الورق في حقيبته، ولا شك أنها قد قامت بالفعل الصحيح عندما أخبرت البك. أخبرت نفسها أن الأمر ليس معقدا، فقد سرق الكاهن مولر شيئا؛ ومن ثم فإن البك لم يعد يرغب في استضافته في منزله، ولكن ما زال شيء ما في الأمر يزعجها؛ فلم تفهم السبب الذي دفع الكاهن إلى سرقة شيء من البك في المقام الأول، ولا السبب في أن رد فعل البك كان بتلك الحدة. ربما كان ذلك تأثير الروايات البوليسية التي كانت تقرؤها، أو ربما كان شعورها الطبيعي بالفضول. وبصرف النظر عن مصدر ذلك الشعور، فلم تستطع إلينورا أن تتخلص من فكرة ارتباط قضية الكاهن مولر بطريقة ما بالشاب الغريب في مقهى أوروبا، وربما أيضا بالرسالة المشفرة التي أراها إياها قبل طرده ببضعة أسابيع.
في تلك الفترة، بين انتهاء دروسها ونهاية شهر رمضان، بدأ البك يقترح عليها القيام بعدة رحلات قصيرة في أنحاء المدينة. فعندما كانا يتناقشان بشأن هوميروس، كان يذكر لها أن أطلال طروادة قد اكتشفت مؤخرا على مسيرة أقل من يوم واحد من إسطنبول. وإذا وجهت إليه سؤالا عن المهندس المعماري سنان، كان يمدح التصميم الداخلي لمسجد السلطان أحمد. وأشار أكثر من مرة إلى منظر المدينة الرائع من أعلى قلعة روميليا، مضيفا أنها تعد إلى حد بعيد أفضل مكان للتنزه في إسطنبول. ولكن لما كان منصف بك لا يرغب في الضغط عليها، فلم يقترح مباشرة القيام بأي من تلك الرحلات، ولم ترفض إلينورا مباشرة أيضا. ظل كل منهما يلمح ويعترض، ثم يعود مرة أخرى إلى نفس الموضع، كما لو كانا ملكا ورخا في حصار أبدي في لعبة الشطرنج. كان البك يمتدح جمال اليوم، وإلينورا تهز رأسها بينما فكرها مشغول بأمور أخرى.
وذات مساء، بينما كان شهر رمضان يوشك على الانتهاء، كانت إلينورا تجلس إلى مكتب الكولونيل في المكتبة تقرأ كتابا لأرسطوفانيس. كانت السماء تمطر في الليلة الماضية، مجرد عاصفة صيفية قصيرة. ولذلك فتحت السيدة داماكان الستائر حتى غمر ضوء الأصيل الغرفة، مضفيا على الأثاث وصفحات الكتاب الذي في يديها صبغة غير معهودة من الكآبة:
أي هموم لم تنخر في قلبي؟ وكم كانت قليلة المتع في حياتي! أربعا تحديدا، بينما متاعبي لا تعد ولا تحصى كعدد حبات الرمل على الشاطئ.
تنهدت إلينورا ونظرت إلى ورق الحائط الذي يمتد أمامها. كالعادة، كان هو التصميم نفسه الأحمر الداكن المزركش ذا الشرائط الذهبية، ولكنها عندما حدقت إليه لاحظت للمرة الأولى مجموعة من السيوف الذهبية الدقيقة المتناثرة عبر ورق الحائط المزركش. أمالت مقعدها إلى الخلف حتى استقر على قائمتين فحسب كي تتمكن من ملاحظة ورق الحائط على نحو أفضل، فخدشت ركبتها في جانب المكتب. نظرت للأسفل واستقرت عيناها على المقبض النحاسي المقوس للدرج الأيسر، وتساءلت، وهي تحك ركبتها، كما تفعل دائما عما كان يبحث عنه الكاهن وما إذا كان قد وجده أم لا. ولكن ذلك المساء لأسباب لا تستطيع شرحها حتى لنفسها فعلت ما هو أكثر من التساؤل؛ فقد دفعت مقعدها بعيدا عن المكتب، ولفت أصبعين عبر مقبض الدرج وجذبته. توقعت أن تجده موصدا، ولكنه فتح بسهولة، وهناك وجدت رزمة من الخطابات مربوطة بعناية بخيط، كما لو كانت عشا من الطيور مختبئا وراء الجدار الأعلى لكنيسة.
نظرت إلى باب المدخل، ثم فكت الخيط وسحبت الخطاب العلوي. كان مظروفا مربعا سميكا يحتوي على دعوة موجهة إلى السيد منصف باركوس، وعنوان المرسل بارز على الغلاف الخلفي: القنصلية الأمريكية في بيوجلو، وتحت تلك الكلمات صورة نسر يحمل العالم في مخالبه. رفعت الغلاف وضغطت على حواف الخطاب حتى انزلقت الدعوة. «مطلوب حضور حامله في حفل تنكري في القنصلية الأمريكية.» وأسفل الدعوة كان مدونا تاريخ أكتوبر 1883 منذ عامين تقريبا. وضعت إلينورا الدعوة جانبا، ورفعت رزمة الخطابات بأكملها. كانت خليطا من المراسلات الشخصية وبضع دعوات وخطابين رسميين من القصر، لا شيء فيهما يهم. كانت على وشك العودة لأرسطوفانيس، عندما وجدت في قاع الرزمة خطابا لا يشبه الخطابات الأخرى.
كان مغطى بالبصمات الزيتية والغبار، مما أعطاه طابعا ريفيا. لم يكن ثمة طابع بريدي أو عنوان مرسل، والدليل الوحيد على وجهته تلك الكلمات: «منصف باركوس بك، حاملته إليك السيدة داماكان.» حملت إلينورا الخطاب أمام أنفها واستنشقت رائحة مألوفة، رائحة طريق ريفي مدفونة في أعماق ذاكرتها. لم يكن هذا هو ما بحث عنه الكاهن بالطبع، ولكن الرائحة لمست وترا بداخلها كما فعلت اليد الصغيرة المترددة في مقدمة الخطاب. أعادت بقية الرزمة مكانها وأغلقت الدرج، ثم جلست مستقيمة وجذبت مقعدها نحو المكتب. أخرجت الخطاب من مظروفه وتركته يسقط على ورق النشاف. كان ورقه مصفرا عند الحواف ومطويا على هيئة مربع، وكان من ورقتين مغطاتين من الأمام والخلف بخط رديء متلهف. «أيتها الآنسة كوهين.»
قبل أن ينطق منصف بك باسمها، سمعته إلينورا وهو يتنحنح، وأدركت من صوته أنه كان يراقبها منذ فترة. اتجه إلى الجانب الآخر من الغرفة واتكأ على حافة مكتب الكولونيل، فرأى الخطاب. كان ينظر إليه مباشرة، ولكن فيما عدا نظرته فإنه لم يعترف بوجوده.
سألها وهو يشير نحو الكتاب: «ماذا تقرئين؟»
فأدارت كعب الكتاب نحوه حتى تمكن من قراءة الاسم: «أرسطوفانيس.»
لم تجد ما تفعله بيديها، فعدلت الكتاب وحركته إلى وسط المكتب.
قال البك: «إنني أفكر في القيام برحلة إلى قلعة روميليا، سوف يكون ذلك لطيفا.»
فهزت إلينورا رأسها وهي غير واثقة مما كان ينتويه من وراء تلك المحادثة، ولكنها سعدت أنها لا تتعلق بالخطاب الموجود فوق النشاف.
فتابع قائلا: «إن الزهور البرية تتفتح، وليس لدي مواعيد أخرى هذا المساء. إنها مسافة قصيرة، ويمكننا أن نأخذ معنا وجبة خفيفة.»
ألقت إلينورا نظرة على المكتبة ذات الستائر الحمراء المخملية التي تحجب الهواء ومجسمات الكرة الأرضية والسجاد وأرفف الكتب التي يعلو بعضها بعضا. كم ساعة قضتها في تلك الغرفة؟ كم صفحة قرأت؟ كان البك يرغب بشدة في الذهاب معها إلى قلعة روميليا، وهي تدين له بذلك على الأقل، أليس كذلك؟
سألها: «ما رأيك؟ هل ترغبين في الذهاب إلى قلعة روميليا اليوم؟»
نعم، سوف تكون نزهة لطيفة.
أعادت الكتاب مكانه على الرف، وفي خلال ساعة كانا قد انطلقا بمحاذاة الشاطئ الغربي للبوسفور في اتجاه المصب الضيق للمضيق. كان يوما رائعا بالفعل؛ فشمس الأصيل تخبو، وأرنب أبيض وبني اللون يقفز على جانب الطريق. وضعت إلينورا رأسها عند الساتر الشبكي، فأمكنها أن ترى لمحات من سربها وهو يحلق فوقها. وكما وعد البك، فقد كانت مسافة قصيرة.
قال وهما يتوقفان: «هذه هي قلعة روميليا. من ذلك البرج حاصر السلطان محمد الفاتح إسطنبول واستولى على المدينة من البيزنطيين منذ أكثر من أربعمائة عام.»
كانت قلعة روميليا برجا حجريا قصيرا يرتفع على نحو عشوائي بين كومة من الأنقاض والكلأ، ولم تبد للوهلة الأولى ذات قيمة على الإطلاق. ولكن عندما ترجلا وسددا النقود للحارس وتسلقا السلالم المقوسة حتى وصلا إلى تاجه المحزز المزود بفتحات للرمي، أدركت إلينورا أن البرج نفسه لا يهم، ولكن ما أضفى على قلعة روميليا أهميتها موقعها عند مصب البوسفور والميزة التي يوفرها ذلك الموقع. في ذلك الوقت من العام، كانت ساعة قلعة روميليا مغطاة بالزهور البرية الزرقاء الفاتحة، ونبتت باقات من الكلأ في شقوق الحجر. كانت حرارة النهار قد هدأت حدتها، وهب نسيم خفيف من جهة البحر. وبينما كان البك يعد الوجبة التي سيتناولانها في الهواء الطلق، والتي كانت تتكون من اللحم البارد والخبز والجبن والزيتون، اندفعت الهداهد من مئذنة أحد المساجد القريبة وامتدت بطول المضيق، وظلت رقعة من اللون الأرجواني تنكمش وتتمدد في مقابل سماء برتقالية زاهية كما لو كانت رئة سماوية. لم تكن إلينورا على يقين مما تود الهداهد قوله ، ولكنها شعرت بوضوح أن سربها يتحدث إليها. وبعد أن عبرت الطيور الماء عدة مرات، تفرقت في أيكة من أشجار الصنوبر خلف أوسكادار.
استنشقت إلينورا نفسا عميقا وتركت المدينة تغمرها، فبدلا من المنظر المحدود الخالي من الحياة التي كانت تراه من نافذتها البارزة، رأت تلك المدينة وهي نابضة بالحياة وتعج بالبشر والصياح والموسيقى ورائحة الخبز. فهناك قبة المسجد الجديد التي على شكل سلحفاة، والمآذن المدببة لمسجد السلطان أحمد، ومنزل البك الذي يحمل اللونين الأصفر والأبيض، وعند ملتقى المياه يوجد قصر السلطان؛ الجوهرة التي تقع في قمة القرن الذهبي بحوائطه الرخامية البيضاء اللامعة وأبراجه البلورية وحدائقه المزينة بزهور الوستارية. عضت باطن وجنتها بينما كان آخر شعاع للشمس يختفي خلف منحنى التل ويطلي حوائط القصر باللون البرتقالي الفاتح المائل نحو الوردي. وعندما اختفى آخر شعاع للشمس، انطلق صوت مدفع من الجانب الآخر للمياه.
قال البك وهو يشير إليها أن تجلس وتشاطره الطعام: «منذ عدة سنوات حظيت بشرف زيارة القصر.»
أعد لها طبقا وسلمها إياه عبر الغطاء الذي افترشه على الأرض المخصص لتلك النزهات. «ولكنك ربما تعلمين ذلك بعد قراءتك للخطابات اليوم.»
توقف ووضع ثمرة زيتون في فمه. «عندما عرضت للمرة الأولى أن أستضيفك أيتها الآنسة كوهين، لا يمكنني القول بأنني كنت مدفوعا بشيء سوى الواجب والوفاء لذكرى والدك. ولكن رغم أن الشهور الماضية كانت صعبة من نواح عديدة، فقد أثبتت أنها من أمتع الأوقات التي يمكن لعجوز عزب مثلي أن يتذكرها.» وتابع قائلا: «أي إنني مستاء من اختلاسك النظر في مراسلاتي، رغم أنني أتفهم الدافع. إنني مدرك أن لديك عددا من الأسئلة حول الخطابات وقضية الكاهن مولر، ولكن قبل أن تتوجهي بتلك الأسئلة أود أن أوضح لك بعض الأمور بقدر الإمكان.»
أخذ قضمة من الشطيرة التي صنعها لنفسه وابتلعها. «هل قرأت شيئا لجان جاك روسو؟»
فهزت رأسها.
فأخذ البك يوضح: «عندما كنت شابا فتنت بأفكار روسو؛ العقد الاجتماعي والمجتمع المدني والإرادة العامة للناس وما إلى ذلك. يمكنك القول إن أفكاره كانت مصدر إلهام بالنسبة إلي، ولم أكن وحدي؛ ففي ذلك الوقت كان ثمة عدد من الشباب مثلي من أبناء رجال الأعمال والمسئولين الحكوميين وضباط الجيش وملتزمي الجباية الذين تلقوا أفكار روسو وأشربوا بها تماما. كونت مجموعة للقراءة تلتقي مرة شهريا، وأصبحت محبوبا بشدة، وكنت أكتب أيضا عددا من المقالات القوية في الصحف مدافعا عن حقوق الإنسان.»
نظر البك في عينيها كي يتأكد من أنها تتابعه. «وكنتيجة مباشرة لروسو ودفاعي عن آرائه أرسلت إلى كونستانتسا، وفي ذلك الوقت كنت عضوا في البرلمان، وكان والدي رجل أعمال ذا شأن؛ حيث كان أحد كبار موردي المنسوجات إلى الجيش. فبدلا من أن يضعني السلطان في السجن كما كان يحب أن يفعل بلا شك، كرمني بمنصب دبلوماسي عند أطراف الإمبراطورية.»
فهزت إلينورا رأسها معبرة عن فهمها. «قابلت والدك في كونستانتسا، وكونت العديد من علاقات العمل المهمة. ولكن قدر استمتاعي بالحياة هناك، فإن إسطنبول هي وطني. وهكذا فعندما هدأ المناخ السياسي عدت مرة أخرى. عدت شريطة ألا أشارك في السياسة مرة أخرى. وبالفعل لم أشارك. ما زلت أحتفظ بآرائي نفسها، ولكن أساليبي تغيرت. فمنذ أن عدت والصدر الأعظم يراقب تحركاتي من كثب، ويمكنني أن أؤكد لك أن شكوكه لا أساس لها من الصحة. إنني لا أدعو إلى ثورة على الدستور، ولم أقم بذلك على الإطلاق من قبل، ولكنني أفهم السبب الذي ربما يدفعه إلى الرغبة في مراقبتي، بسبب ماضي واللغط الذي أثير حول حادث السفينة. ولكنني رغم ذلك لم أشك في الكاهن، ولا أدري لماذا فعل ذلك. ولكن إذا نظرت إلى الأمر بأثر رجعي فإنه يبدو منطقيا. لست أدرى ما إذا كان يعمل لحساب القصر أو الأمريكيين أو كليهما، ولكن على أي حال فلا يمكننا أن نستمر في الدروس. إنك تفهمين الأمر، أليس كذلك؟»
ابتلعت إلينورا طعامها ونظرت إلى البك. كانت تفهم ما يقول، ولكن طنين الأسئلة في عقلها كان كمجموعة من الحشرات محبوسة في برطمان من المخللات.
الفصل السابع عشر
بينما كان الكاهن يقترب من بوابة السلام، أخرج منديلا من جيب سترته ومسح العرق عن جبهته. كانت تلك زيارته الأولى للقصر، ورغم أنه حاول جاهدا ألا يندهش بما يراه، فقد اندهش بالفعل. كانت البوابة محاطة من الناحيتين بزوج من الأبراج الحجرية الضخمة، ولكن الضخامة الشديدة للبوابة ورقة النقوش التي تزينها عكست الترحيب والعداء القوي في آن واحد، وهو ما بدا له منطقيا. ورغم أنه افترض أنه موضع ترحيب في القصر، فإن المرء لا يعلم متى يتبدل هذا الترحيب. طوى الكاهن منديله إلى أربعة أقسام وأعاده إلى جيب سترته، وبينما كان يفعل ذلك اقترب منه الحراس ذوو المعاطف الأرجوانية وأشهروا أسلحتهم في وجهه.
فتذمر قائلا: «بوابة السلام مغلقة في وجه الزائرين»، غافلا على ما يبدو عن المفارقة الكامنة في هذه الفكرة.
ولكن عندما ذكر الكاهن اسم جمال الدين باشا، خفض الحارس سلاحه وتنحى جانبا، فلم يكن أجنبي يقابل الصدر الأعظم بالشخص الذي يرغب المرء في إهانته. وأشار الحارس إلى حارس آخر متمركز عند قاعدة المتراس، فرافق الكاهن مولر عبر سلسلة من الأبواب الخشبية السميكة إلى الصومعة الداخلية للساحة الثانية بالقصر.
وعندما أصبح داخل حوائط القصر، اختفى التزاحم والفوضى اللذان يميزان إسطنبول. ظل يشعر بحضور المدينة، كالقمر الذي يتدلى معلقا في سمائها الشاحبة، ولكن شئون القصر كانت تنتمي لعالم آخر أكثر رقة. استمع الكاهن إلى تقطر الماء البارد على الرخام، ولمح طائرا يعد العش قبل أن يحل الليل، واستنشق الرائحة الخافتة لأزهار الخطمي وهي تتفتح. كانت حركة المرور في الساحة الثانية قليلة بينما كان الدبلوماسيون والطهاة والموسيقيون ينصرفون قبل حلول الليل، سواء إلى عائلاتهم أو إلى المقاهي أو إلى أي ملهى ليلي. وجه الحارس الذي رافقه عبر البوابات بضع كلمات إلى رسول السلطان الذي قاده صعودا في إحدى الطرق المحاطة بالأشجار التي تتشعب من بوابة السلام. حتى ذلك الحين، كانت مقابلات الكاهن مع الصدر الأعظم تتم في نهاية كل شهر في موقع سري مثل مقبرة أو حمام عام خال. ولم تكن لديه فكرة عن سبب رغبة جمال الدين باشا في قدومه إلى القصر شخصيا. ربما سمع عن طرده من عند البك، وربما كانت معاملاته الأخيرة مع الروس، أو ربما لا شيء. قد يكون الصدر الأعظم متكاسلا عن مغادرة القصر فحسب. وبهزة رأس أومأ رسول السلطان إلى مجموعة أخرى من الحرس لإفساح الطريق، وقاد الكاهن مولر عبر دهليز رخامي تصطف على جانبيه الأسلحة العتيقة. وطبقا للرسول فإن تلك هي القاعة الكبرى لمجلس الوزراء، أما غرفة المقابلات الخاصة بجمال الدين باشا فإنها تقع في نهاية القاعة إلى اليسار.
قال الرسول قبل أن يهرول مختفيا في إحدى الزوايا: «سوف تعرفها عندما تراها.»
وبالفعل فقد حدث ذلك. لم تكن مساحة غرفة المقابلات تزيد عن إحدى حجرات الدراسة في كلية روبرت، ولكن سقفها ارتفع عاليا ككنيسة. وأمام الحائط البعيد أريكة مربعة من خشب الماهوجني يتكئ عليها الصدر الأعظم. كان رجلا عصبيا يرتدي عباءة من الحرير الأبيض وعمامة خضراء، ولديه هيئة حيوان قارض وعينان بلون العنب غير الناضج. وعندما دخل الكاهن مولر الغرفة، نهض قليلا كنوع من التحية. «مرحبا يا صديقي، أرجو أن تكون قد وصلت إلى هنا دون مشقة.»
فقال الكاهن: «نعم، أشكرك، فالحراس شديدو التعاون.»
شبك الصدر الأعظم يديه معا، وتجعد أنفه كما لو كان يفكر في تقلبات تلك الإجابة. ركز تماما على ضيفه، ولكنه لم يعرض عليه الجلوس. وفي حقيقة الأمر، لاحظ الكاهن أنه لا توجد مقاعد. لم يعرف ما إذا كان هذا ازدراء مقصودا أم لا، ولم يهتم أيضا.
سأله جمال الدين باشا: «هل ترغب في تناول كوب من الشاي؟ أم القهوة؟» «كلا، شكرا لك.»
فألح قائلا: «إن القهوة في مطبخ القصر من أجود أنواع البن في العالم. أؤكد لك أنك لن تندم.»
فقال الكاهن وهو يعدل ياقة ثوبه: «نعم، يمكنني أن أتخيل، ولكنني رغم ذلك أمتنع؛ فأنت تعلم أنني أعاني من الأرق، وإذا تناولت القهوة الآن فلن أتمكن من الخلود إلى النوم. آمل ألا ترى في ذلك إهانة.» «كلا على الإطلاق.»
ربت الصدر الأعظم على جانب أنفه، ووجه بضع كلمات إلى أحد الحراس الذي اختفى عبر باب مختبئ في الحائط الخلفي. ظلا صامتين حتى عاد الحارس بعد مرور بضع لحظات وهو يحمل كوبا واحدا من الشاي على شكل زهرة توليب على صينية من الفضة.
قال جمال الدين باشا وهو يقلب ملعقة من السكر في الكوب: «والآن أظن أنك قد سمعت أخبار موقفنا مع الروس.»
فقال الكاهن: «نعم، قرأت خبرا عنه أمس في الجريدة.» «وأنا على يقين من أنك تتخيل مدى انزعاجنا من التلميحات التي وردت في تقرير القيصر. ولكن إجمالا ليس ذلك أمرا ذا شأن خطير، ونود لو ننتهي منه بأسرع ما يمكن.»
فغمغم الكاهن تعبيرا عن موافقته. «بالطبع، لا يمكننا الموافقة على مطالب القيصر.»
فقال الكاهن: «بالطبع لا.»
فقال الصدر الأعظم بلهجة تثير تساؤلا: «إن تهديداته خاوية.» «يبدو أنها كذلك.» «نرغب في التأكد من ذلك. أعتقد أنك لا تملك معلومات تساعدنا في تقييم احتمال تعرضنا للانتقام في حالة رفض دفع التعويض الذي يطالب به.»
فقال الكاهن: «أجل، للأسف لا أعلم.» «وليست لديك علاقات بالروس يمكننا استغلالها للحصول على مزيد من المعلومات؟»
فشبك الكاهن يديه أمامه. يبدو أن جمال الدين باشا يعلم بأمر اتصاله الأخير بالروس، ولكن آخر ما يرغب فيه هو إدارة التفاوض بين هاتين الإمبراطوريتين الشرستين. «ليس بينهم من يمكنه أن يفيد القصر.»
فابتسم جمال الدين باشا وربت على طرف أنفه.
ثم قال: «حسنا، أخبرني كيف تجري الأمور الأخرى؟»
فأجاب الكاهن: «بخير، ما زالت كلية روبرت كما هي، والمقال الذي كتبته عن الشعائر الدينية لليزيديين قد حقق نجاحا، وثمة مجلد جديد من ترجماتي على وشك أن يصدر قريبا.»
هز جمال الدين باشا رأسه وحدق للأسفل إلى طيات عباءته، وزم شفتيه كما لو كان يفكر في مسألة أخلاقية محيرة، ثم نظر لأعلى مرة أخرى إلى الكاهن مولر. «يبدو أنك لا تحمل لي أي معلومات جديدة سوى أنشطتك الأكاديمية.»
فقال: «نعم، إنه كذلك بالفعل.» «وماذا عن منصف باركوس بك؟»
ففك الكاهن تشابك يديه ووضعهما إلى جانبه. «حسنا، لقد وقع تطور مؤسف في الأحداث فيما يتعلق بمنصف بك.» «ماذا حدث؟» «لقد قرر منصف بك والآنسة كوهين مؤخرا الاستغناء عن خدماتي باعتباري معلما خاصا.» «ولم ذلك؟»
توقف الكاهن كي يستجمع أفكاره. «لظروف خارجة عن إرادتهما، هذا ما قالاه.» «ألا تعلم ما تلك الظروف؟ ألم تطالبهما بمزيد من المعلومات؟»
لقد أبلغاني بذلك القرار في خطاب ذكر فيه بلهجة لا تحتمل الشك أنهما لا يستطيعان مناقشة الظروف التي أدت إلى ذلك القرار. يبدو أنها أزمة مالية.
فضغط الصدر الأعظم على قصبة أنفه بين إبهاميه. «هل يمكنك التفكير في أي سبب آخر يدعو إلى طردك؟ هل يمكن أن يكون منصف بك قد شك في نواياك؟»
فقال الكاهن: «هذا ما تخيلته في بادئ الأمر.»
وعاد تفكيره إلى الحادث الذي وقع في ذلك المساء في المكتبة، فربما شاهده أي شخص وهو يأخذ الأوراق من المكتب، مثل الآنسة كوهين أو السيد كروم أو السيدة داماكان. ولكن حتى إذا كان أحد قد شاهده، أو حتى إذا كان يعلم يقينا أنه طرد بسبب التجسس، فلن يخبر الصدر الأعظم بذلك.
تابع الكاهن قائلا: «بعد أن فكرت كثيرا في أنشطتي، توصلت إلى أنه لا يوجد ما يدعو منصف بك إلى الشك في أمري.» «لا يوجد أي شيء يعتمل في ذهنك؟»
فقال بعد توقف طويل يوحي بالتفكير العميق: «أجل، لا شيء.»
فقال جمال الدين باشا: «حسنا، إنه أمر يدعو للأسف. ولكن لحسن الحظ لدينا أناس آخرون يراقبون منصف بك، أناس آخرون شديدو القرب منه.»
توقف كي يحتسي رشفة من الشاي، متيحا للكاهن فرصة للتساؤل عن هوية هؤلاء الواشين الآخرين. «والآن أخبرني ماذا تعلم عن الطالبة؟» «الآنسة كوهين؟» «نعم، الآنسة كوهين. لقد ذكرت من قبل أنها موهوبة نوعا ما.»
فأرخى الكاهن قبضته عن يديه المتعرقتين، سعيدا بانتهاء المجموعة السابقة من الأسئلة. «إن الآنسة كوهين تتمتع بقدرة خارقة على تعلم اللغات، وذاكرة شبه مثالية، وفهم للتاريخ والفلسفة يفوق عمرها كثيرا. إنه أمر استثنائي بالفعل، فمنذ بضعة أسابيع سردت الكتاب الأول بالكامل من الإلياذة من الذاكرة، وأعتقد أنني ذكرت أنني أنوي كتابة مقال عنها.» «نعم، أعتقد أنك قلت ذلك بالفعل.» «سيكون الأمر صعبا الآن بعد أن انتهت دروسنا، ولكنني أثق في أن لدي المعلومات الكافية كي أستمر.»
ارتشف الصدر الأعظم رشفة أخرى من الشاي. «هل يمكنك التفكير في أي طريقة يمكننا بها الاستفادة من الآنسة كوهين في القصر؟»
عدل الكاهن مولر وقفته ناظرا للأرض كي يفكر. لم يرغب في توريط إلينورا في الصراعات السياسية في القصر، ولكنه يرغب في المقام الأول في الحفاظ على مصلحته هو؛ فقد رأى ما يحدث للجواسيس الذين يفقدون أهميتهم، وكانت لديه الكثير من الأمور التي يخفيها عن جمال الدين باشا.
فاسترسل قائلا دون أن يدري كيف ينهي الجملة: «يمكنك ... يمكنك أن تستعين بها في مكتب الترجمة.» «لدينا بالفعل مترجمون أكثر مما نحتاج.»
فقال الكاهن: «إذن، فهل لديكم خبراء لفك الشفرات؟» «نعم.» «وهل ثمة أي شفرات لم يتمكنوا من فكها؟»
اتكأ الصدر الأعظم للخلف على وسائد الأريكة كما لو كان يمعن النظر في العرض. «توجد بضع شفرات مستعصية.» «بقليل من التدريب سوف تصبح الآنسة كوهين خبيرة ماهرة في فك الشفرات، سوف يصبح فك الشفرة بالنسبة إليها في نفس سهولة تعلم لغة جديدة.»
فقال جمال الدين باشا وهو يدون بضع كلمات في المفكرة السوداء الصغيرة التي يحتفظ بها دائما: «وماذا عن أقاربها؟ أعلم أنها تعيش مع منصف بك، ولكن هل لديها أي أقارب في كونستانتسا؟»
فقال الكاهن مولر: «والدها متوفى، وأعتقد أنني سمعت ذات مرة ذكرا لخالة أو زوجة أب، ولكنها هامشية التأثير.»
فتساءل الصدر الأعظم: «هل من شيء آخر يجب أن نعرفه عنها؟ ما هي انتماءاتها السياسية؟»
فقال الكاهن: «حسب معلوماتي ليس لها أي انتماءات سياسية، فهي ما زالت مجرد طفلة.» «نعم، أفترض ذلك.»
فقال الكاهن: «ثمة شيء واحد آخر ربما تود معرفته عن الآنسة كوهين. إنها تحتفظ بخواطرها ومشاعرها لنفسها، وهي خصلة استشرت فيها عن طريق رفضها الحديث.»
رفع جمال الدين باشا حاجبيه مشجعا الكاهن على استكمال حديثه. «إنها لم تتفوه بكلمة منذ وفاة والدها في الحادث.»
حرك جمال الدين باشا شفتيه قليلا ثم كتب بضع ملاحظات أخرى في مفكرته ونهض واقفا. يبدو أن المقابلة انتهت. أخرج رزمة من جيب عباءته وسلمها إلى الحارس الأقرب إليه، الذي اتجه بدوره إلى الناحية الأخرى من الغرفة وأعطاها إلى الكاهن.
قال الصدر الأعظم: «آمل أن يعوضك هذا عن متاعبك، يجب أن يغطي الدخل الذي فقدته بانتهاء الدروس، بل يزيد عليه.»
كانت الرزمة الجلدية الصغيرة تبدو أثقل من المعتاد. «شكرا لك يا جمال الدين باشا، ذلك من دواعي سروري.»
تابع الصدر الأعظم قائلا: «إذا علمت أي شيء آخر عن منصف بك أو الآنسة كوهين، فيرجى إخبارنا به في الحال، وفيما عدا ذلك فسوف نتصل بك نحن عندما نحتاج إلى خدماتك.»
وبينما كان مضمون تلك الكلمات يتكشف للكاهن ببطء، رافقه أحدهم إلى الباب نزولا إلى القاعة الكبرى لمجلس الوزراء إلى مخرج سري يقوده إلى خارج أسوار القصر. اختبأ خلف الواجهة المظلمة لمحل أسماك مغلق على مصراعيه، وفتح الرزمة فوجد فيها خمسة عشر جنيها، وهو ثلاثة أضعاف أجره العادي. يبدو أنه قدم لجمال الدين باشا شيئا مهما.
الفصل الثامن عشر
إنها تجدف في الحلم، والسحب ذات لون أرجواني ترابي، والنجوم خلفها ترتجف كقنديل البحر، وثمة حشد من الناس اصطف بمحاذاة الشاطئ. إنهم يحاولون إخبارها بشيء ما، ولكنها لا تنظر خلفها؛ فلو نظرت خلفها سيؤدي ذلك إلى تباطئها وهي بطيئة بالفعل. إن معها رسالة للشخص الموجود في البرج، والرسالة مكتوبة على ورقة في يدها، وهي تجدف.
تبدو محطة حيدر باشا كعملاق ينام على حافة الأفق، كائن خرافي بعين واحدة يرقد في فتحة كهفه ثم ينهض متثائبا. وتلك الممرات كالعروق التي تصل بين الأصابع والقلب، والقطارات كالذراعين، والساعة هي عينه. وخلف المحطة توجد جزيرة بها برج أبيض مربع يبدو كالسجن، وهو المكان الذي تقصده حاملة رسالتها. يغمز لها القمر بعينه، فتفهم الإيماءة.
إنه كيز كولاسي، برج العذراء، هكذا تعتقد. فالاسم يعلق بذهنها كالحلوى اللزجة، وتحاول أن تتذكر قصة البرج. ثمة فتاة ووالدها السلطان، وثمة لعنة وأفعى سامة وسلة من العنب. حبست الفتاة في البرج، وربما كانت أفروديت لها علاقة بالأمر، أم أن تلك قصة أخرى؟ هل يهم ذلك أصلا؟ هي الآن تجدف عبر المضيق ذي القمم العنيدة والأمواج التي تحفل بقناديل البحر، فهل تهم القصة؟
الغريب في الأمر أنها لا تتذكر الرسالة، ولا تذكر ما من المفترض أن تقوله للشخص المحبوس في البرج، ولم عليها أن تقوله، ولكنها تعلم أنه أمر هام، وهي تعلم أن الرسالة مكتوبة على ورقة تحملها في يدها. تعبر محطة حيدر باشا ثم تقفز سمكة خارج الماء وذيلها يقطر ماء، ثم تظهر سمكة أخرى ثم ثالثة، ثم تصبح المياه حية تعج بالسمك. ينثر السمك عليها الماء وهو يتخبط كالممحاة المطاطية، وتجدف هي بأقصى طاقتها مرورا بمحطة القطار، عبر السمك والمياه البطيئة.
جنح قاربها محدثا صريرا، وترنح البرج الشاحب الشديد الرطوبة كما لو كان سكيرا يطعن الليل بعصاه. وعندما سمعت صرير قاربها وهو يجنح، رأت سربها؛ مئات الهداهد الأرجوانية والبيضاء التي تدور في دوامات كآلات الكمان. إنها تقول شيئا، تحاول إخبارها بشيء، ولكن حتى إذا أمكنها سماع الهداهد، وحتى لو فهمت فإنها لا ترغب في المعرفة. ليس هذا ما أتت من أجله؛ لقد أتت حاملة رسالة للشخص المحبوس في البرج.
فتحت باب البرج فوجدت الدرج يمتلئ بالطيور. إنه رطب يرفرف فيه اللون الأرجواني، كدوامة حماسية تملؤها الثرثرة. رفعت غطاء الرأس المثبت في معطفها وهزت خصلات شعرها. إن الهداهد كلها تتحدث في آن واحد، كلها تحاول أن تخبرها شيئا. أهي تقوله أم تغنيه؟ لا يمكنها أن تحدد. وتصعد الدرج مارة وسط الطيور متجهة نحو الغرفة التي توجد في أعلى البرج.
وعند نهاية الدرج توقفت. لقد اختفت الطيور، وثمة حشد الآن، حشد من الأشخاص لا يبدو منهم سوى الساق والجذع. إنهم يجتمعون حول الغرفة الموجودة في أعلى البرج في انتظار الرسالة. أرتهم الرسالة، لوحت بالورقة أمامهم وأخبرتهم بأنها حاملة الرسالة. إنها تصرخ: «ها هي، ها هي الرسالة التي تنتظرونها ، إنني الرسول.» ولكن لا أحد يستمع إليها. حتى إذا كانوا يستمعون فإن ذلك لا يهم؛ وذلك لأن الورقة التي تحملها في يدها خالية.
عندما استيقظت إلينورا كانت جبهتها غارقة في العرق ووسادتها مبللة باللعاب. كان الصباح قد انتشر في أرجاء المدينة كغطاء من الشاش، وأنامله الوردية البرتقالية تغشى تجمعات الضباب والحراس الليليين النائمين. تقلبت إلينورا على ظهرها، وحدقت إلى الغطاء المزركش الذي يعلو فراشها. كانت أحلامها لا تزيد عادة عن ذكريات متفرقة غير مترابطة، مثل رائحة مادة مبيضة أو ظبي مجروح أو منظر ميناء بعيد، ولكن لا شيء كهذا على الإطلاق. كان هذا الحلم مختلفا تماما، كالرؤيا التي رأتها بينيلوبي للإوز، وحلم بيب أنه رأى نفسه هاملت، أو صراع يعقوب مع الملائكة. كان هذا الحلم حقيقيا، شيئا يمكنها الإمساك به. وشعرت أنه يعني شيئا، ولكن ما هو ذلك الشيء؟ لا تدري.
لم تتمكن إلينورا من الخلود إلى النوم مرة أخرى، فتسللت من الفراش وارتدت ثوبها المنزلي. جرت قدميها وهي تشعر بنسيج السجاد يلامس قدميها الحافيتين متجهة إلى الناحية الأخرى من غرفتها صوب النافذة البارزة، وراقبت المدينة وهي تستيقظ. بدا كيز كولاسي مقارنة بالصورة التي رأتها في الحلم مملا حزينا. كان برجا حجريا مربعا تعلوه غرفة مراقبة وقمة مستدقة نحاسية رقيقة، وكان يستخدم فيما مضى سجنا ومنارة ومحطة جمارك. وطبقا لمعلوماتها فهو خال الآن؛ فالجزيرة الصغيرة غير مسكونة إلا من الطيور. ثمة طائرا لقلق أسودان يدسان منقاريهما في المياه الضحلة التي تحيط بالجزيرة، وحسون ذهبي وحيد على عتبة غرفة المراقبة. وبينما كانت إلينورا تراقب الحسون وهو يقفز من أحد جوانب العتبة إلى الجانب الآخر، خطر لها أنها رأت وميضا أرجوانيا داخل البرج. قطبت جبينها في اتجاه الشمس، وانحنت للأمام وفتحت النافذة فتحة صغيرة كي تزيل سطوع الضوء، ولكن كل ما استطاعت رؤيته هو الحسون. إذا كان ذلك أحد أفراد سربها داخل البرج، فقد رحل الآن.
عندما طار الحسون الذهبي، لاحظت إلينورا عربة تتوقف في الطريق الأمامي المؤدي إلى منزل البك. كان هذا أمرا غريبا؛ فالبك نادرا ما يستقبل زائرين في المنزل، وخاصة في هذا الوقت المبكر من الصباح. شدت حزام ثوبها عليها وراقبت العربة المزينة باللونين الأرجواني والذهبي تبطئ حتى توقفت عند حافة الماء. وعندما توقفت الجياد فتح باب العربة من الداخل، وخرج منها رجل يرتدي زيا رسميا أرجواني اللون، ودون أن ينظر إلى أي من جانبيه تقدم مباشرة إلى الباب الأمامي للمنزل وقرعه. تمكن الفضول من إلينورا، فارتدت ثوبا ملائما وهرعت إلى منبسط الدرج الذي يعلو غرفة الجلوس. حدقت عبر قضبان الدرابزين، فشاهدت السيد كروم وهو يفتح الباب بطريقته المتكبرة المعتادة، ولكنه عندما رأى الطارق تراجع خطوة إلى الخلف وانحنى على ركبة واحدة.
لم تتمكن إلينورا من سماع ما يقولانه، ولكن عندما وقف السيد كروم مرة أخرى نظر للخلف في اتجاه غرفتها، وعندما رآها على منبسط الدرج ناداها. «أيتها الآنسة كوهين، هل يمكنك أن تأتي إلى هنا للحظة؟ ثمة من يرغب في الحديث معك.»
بينما كانت إلينورا تهبط، ألقت للمرة الأولى نظرة فعلية على الرجل ذي الزي الرسمي الأرجواني. كان يقف منتبها وصدره مشدود وقبعته مائلة، يرتدي معطفا من الحرير الأرجواني مرصعا بأزرار بلورية. كان أثر رائحة الخزامى يفوح من حوله، وكان يحمل في يده اليسرى أنبوبا فضيا بحجم ثمرة الخيار. أبقت عينيها على السجادة كي لا تحدق إلى الرجل وهي تتجه إلى الجانب الآخر من غرفة الجلوس، وعندما وصلت إلى الباب بدأ السيد كروم بتعريف رسمي. «أقدم لك الآنسة إلينورا كوهين، ابنة يعقوب كوهين، من كونستانتسا سابقا وإسطنبول حاليا، وهي الآن في رعاية منصف باركوس بك.»
استقام ظهر الزائر أكثر، وتنحنح قليلا.
ثم قال: «آنسة كوهين، إن خادم الحرمين الشريفين خليفة المسلمين وأمير المؤمنين والخاقان الأعظم لممالك متعددة، فخامة السلطان عبد الحميد الثاني، يطلب مقابلتك في القصر.»
مد يده بالأنبوب الفضي، فتناولته منه.
ثم تابع قائلا: «سوف نرسل لك عربة غدا صباحا في الموعد نفسه، أرجو أن يكون ذلك مناسبا.»
نظرت إلينورا إلى الهدية الفاخرة التي حصلت عليها، وحملت الأنبوب في يديها كما لو كان سيفا. كان منقوشا على شكل زهور متداخلة ويعلوه غطاء من العاج، وكان مشابها في مهارة صنعه وتصميمه لحامل المستندات الذي استخرج منه الكاهن أحجيته. استطاعت أن تسمع تيارا من الدم يتدفق في صدغيها، وبدت غرفة الجلوس كما لو كانت تضيق عليها.
سمعت السيد كروم وهو يقول: «نعم، بالطبع.»
وبحركة واحدة أخذ حامل المستندات من يد إلينورا، وأخرج الدعوة التي توجد داخله، وأعاد الحامل الفارغ إلى الرسول.
قال وهو يتفحص الدعوة: «يشرفنا ذلك، إن الآنسة كوهين تتشرف باهتمام فخامة السلطان.»
انقضى ذلك المساء في غيمة من عدم التصديق. كيف علم السلطان بأمرها؟ ولماذا يرغب في مقابلتها من بين آلاف الأشخاص في إسطنبول، ومن بين ملايين الأشخاص في الإمبراطورية العثمانية؟ لم تكن لدى إلينورا أي فكرة. كان الهواء في غرفتها ذلك المساء مليئا بالأسئلة التي لا يمكن إجابتها، على الأقل ليس على يدها هي. ظلت تذرع المكان جيئة وذهابا من الفراش إلى المكتب وهي تتصفح كتابها شاردة الذهن، وجلست في المقعد المجاور للنافذة البارزة ويداها متشابكتان في حجرها، وحاولت جاهدة أن تستوعب ذلك الخبر. غدا سوف تقابل السلطان زعيم الملايين، وحاكم الأراضي من سالونيك إلى البصرة، الذي يستطيع أن يقابل أي شخص يرغب في لقائه، هو بنفسه قد طلب مقابلة إلينورا كوهين.
قدم العشاء مبكرا في تلك الليلة. جلست إلينورا في مقعدها المعتاد، وجلس منصف بك في مقعده، وقدم لهما السيد كروم طبقا من لحم البقر المطهو مع الفول الأخضر. ظنت أنها جائعة، ولكنها عندما قطعت قطعة من اللحم ورفعتها إلى فمها قرقرت معدتها بصوت مسموع.
قال البك وهو يبسط منديله على ساقيه: «إنه لشرف، لقد حظيت بشرف عظيم.»
فهزت إلينورا رأسها وهي تمضغ. لم تكن تفهم شيئا عن تلك الدعوة سوى ذلك. «أنا نفسي دعيت إلى القصر مرتين من قبل، ولكن ليس لمقابلة رسمية مع فخامة السلطان.»
قطع البك قطعة من اللحم وغرز فيها شوكته. «ولكنني ما زلت أتساءل عن دوافع السلطان، إنه معروف باهتمامه الشديد ب ...»
وتوقف بحثا عن الكلمة المناسبة. «بالأمور الغريبة؛ قارئي الطالع والطيور الناطقة وما إلى ذلك. في بادئ الأمر شككت في أن هذا هو الدافع وراء تلك الدعوة؛ أنه قد سمع عن قدراتك الاستثنائية فيما يتعلق بالذاكرة ويود مناقشتها معك.»
ابتلعت إلينورا طعامها ووضعت أدوات المائدة الخاصة بها على حافة طبقها منتظرة أن يكمل البك طرح أفكاره.
تابع قائلا: «ولكنني أتساءل عما إذا كان الأمر له دوافع أخرى أيضا. ربما انتابه الفضول بشأن علاقتنا، وربما يرغب في أن يتأكد مما إذا كنت قد رأيت أي شيء مثير للشك في المنزل.»
لم تكن إلينورا قد فكرت في هذا الاحتمال، بل إنها في حقيقة الأمر لم تكن قد فكرت في دوافع السلطان على الإطلاق.
تابع البك قائلا وهو يمد ذراعيه كما لو كان يدعو الجميع لتفتيشه: «أنت تعلمين أنه لا يوجد لدي ما أخفيه. لقد تناقشنا في ذلك الأمر عندما كنا في قلعة روميليا، وأرغب فقط لمصلحة كل منا أن تنتبهي جيدا لما تقولينه للسلطان غدا. لست أعني بأي حال أن تخدعي أحدا، وخاصة فخامة السلطان أو الصدر الأعظم، ولكن احترسي فحسب، وفكري كيف تؤثر كلماتك في الآخرين.»
فهزت رأسها معلنة عن فهمها. «أنت ترين بالطبع كيف ارتبطت مصائرنا.»
التقطت إلينورا شوكتها ورفعت حبة فول خضراء إلى فمها. كانت ترى بوضوح شديد كيف ارتبط مصيرها بالبك؛ فقد أصبح هو وخادمته وكبير الخدم في مقام عائلتها. كان كما تقول السيدة يونسكو عن والدها: «القلعة الحجرية التي تطل على بساتيني، والمطر الذي يغذيها، وفريق الجياد الذي يتعلق به محراثي.» كان آخر ما ترغب فيه إلينورا هو أن تأتي بأي فعل يؤثر سلبا على مصيره، ولكن من الغريب أن يشدد في التأكيد على تلك النقطة. وبالطبع بوصفه ضحية للاضطهاد السياسي ظلما في الماضي، فمن المفهوم قلقه بشأن دوافع السلطان.
بعد تناول العشاء، استأذنت إلينورا في الانصراف، وذهبت إلى غرفة نومها بالطابق الأعلى. كان الوقت مبكرا، ولم تكن تشعر بالتعب على الإطلاق، ولكنها كانت ترغب في الاختلاء بأفكارها. كانت قد اختارت بالفعل الثوب الذي سترتديه، ولكنها لم تكن واثقة من أمر الحلي. فتحت الدرج العلوي من مائدة الزينة، ونظرت إلى مجموعتها الصغيرة من الأساور والقلادات. ها هي قلادة الزمرد الكمثرية الشكل التي أهداها البك لها في يومها الثالث في إسطنبول، وها هي الأساور التي ابتاعاها من بائع الذهب المتشنج في سوق الأقمشة والمنسوجات. وبينما كانت إلينورا ترتدي الأساور، وقع بصرها على المؤشر الخشبي الذي أخذته معها من كونستانتسا، مؤشر والدتها الذي استخدمته في فتح قفل صندوق والدها. التقطته من الدرج وحملته كمرآة مكبرة، ونظرت في انعكاسها خلال الفراغات المعكوسة في الخشب.
كانت إلينورا تعلم من قراءتها لمكيافيلي أنها لا يمكنها تقديم النصيحة ما لم يطلب منها السلطان، ولكنه إذا سألها فسوف تخبره بالحقيقة قدر استطاعتها. أما بشأن كيفية التصرف فلم تكن لديها فكرة، فلا أحد من شخصيات «الساعة الرملية» قد حظي بشرف مقابلة الملك، ما عدا السيدة هولفرت التي دعيت إلى نزهة بالخيل مع أحد أمراء آل هابسبورج. ولكن تلك الواقعة انتهت نهاية كارثية - «كل ما تبقى من اليوم صندوق من الزهور البرية المجففة والدموع وخطابات لم ترسل» - رغم أنها تصلح كمثال معاكس. لم تدر كم ظلت واقفة أمام المرآة عندما فتح الباب ودخلت السيدة داماكان إلى الغرفة. لم تكن تحمل مناشف أو ملاءات، ولم تكن لديها أي ذريعة أخرى للزيارة. فوضعت إلينورا المؤشر فوق مائدة الزينة وأغلقت الدرج.
قالت السيدة داماكان وهي تضع يدها برفق على كتف إلينورا: «سوف تذهبين إلى القصر غدا، إنه لشرف عظيم.»
نظرت إلينورا إلى الخادمة العجوز ولمحت في عينيها نظرة خبيثة.
رددت السيدة داماكان: «إنه لشرف عظيم، ولكنني أعتقد أنك متوترة.» «لست أدري ...»
بعد عدة شهور من الصمت، كان صوتها ناعما مجروحا في حلقها. هزت السيدة داماكان رأسها، منتظرة أن تكمل إلينورا حديثها.
همست قائلة: «لست أدري ماذا أقول.»
تركت السيدة داماكان يدها تنزلق على ذراع إلينورا وضغطت عليها برفق: «كيف يمكنك أن تعلمي الإجابة قبل أن تسمعي السؤال؟ ثقي بنفسك، فأنت تعلمين أكثر مما تظنين.»
انحنت الخادمة العجوز للأمام وقبلت إلينورا على جبهتها، ثم استدارت وخرجت تتهادى من الغرفة.
الفصل التاسع عشر
وقفت العربة الملكية المزينة بالمطاط الذهبي والأسود على حافة الماء، ولمعت أبوابها وسقفها وتروسها السفلية باللون الأرجواني البراق الذي يشبه ثمرة باذنجان غير ناضجة. رفعت إلينورا ثوبها عن الحصى وهي تسير خلف الرسول عبر الطريق الخاص، وكانت قد ارتدت ثوبا حريريا باللون الأزرق الفاتح، وحذاء من الجلد الأسود اللامع، وزينت شعرها بباقة صغيرة من الزهور. انقضى ذلك الصباح بأكمله في الاستعداد، سواء الاستحمام أو اختيار الحلي والجلوس بينما تضع السيدة داماكان الدبابيس في شعرها. لم تدرك حقيقة الموقف إلا الآن؛ هي - إلينورا كوهين - ذاهبة إلى القصر لمقابلة السلطان، وإذا كان ثمة مجال للتراجع من قبل فقد انتهى الآن.
في منتصف الطريق الأمامي، استطاعت إلينورا أن ترى جلود الجياد وهي تتلألأ بلمعة حجر الغليون وأعينها كالرخام الأسود الحزين. وبينما اقتربت من تلك الخيول الضخمة، تصلبت وقفتها ورفع كل منها قائمته الأمامية اليسرى كالجندي الذي يشهر سلاحه على سبيل التحية. هزت رأسها تعبيرا عن شكرها لذلك التقدير، وتوهج منخار الجواد الأمامي علامة على أن بقية الفريق يمكنه الاستراحة. فتح لها الحوذي الباب، ودخلت إلى العربة. وبينما كانت تقوم بذلك صاح نورس على سقف منزل البك وانطلق مرفرفا بجناحيه عبر البوسفور ومنقاره الأصفر البرتقالي يشير نحو القصر.
كانت العربة من الداخل مبطنة بالمخمل الأرجواني الداكن، ومجهزة بأثاث من العاج وغرزة ذهبية حول حافة الجدار. سوت إلينورا ثوبها من الخلف وجلست مقابلة للرسول ووجهها للخلف. وبينما كانت الجياد تخطو بمحاذاة الشاطئ، راقبت منزل البك وهو يختفي عن الأنظار تدريجيا ويصغر حجمه أكثر فأكثر في النافذة الخلفية حتى اختفى خلف أحد منحنيات الطريق. نظرت إلى حذائها والجلد الأسود اللامع الذي يضغط على أصابع قدميها، وأخذت نفسا عميقا كي تهدئ نفسها. «لقد حظيت بشرف عظيم.»
نظرت إلينورا إلى الرسول. كان أنفه محاطا بإطار بين عينيه الغائرتين في محجريهما، ولديه شامة ضخمة فوق فتحة أنفه اليسرى. ظنت في بادئ الأمر أنه الشخص نفسه الذي استدعاها بالأمس، ولكنها لم تكن متأكدة. وعلى أي حالة فهو يتوقع إجابة.
قالت: «نعم، لقد حظيت بشرف عظيم.» كانت تتحدث بهدوء، فهي ما زالت تعتاد على الشعور بالاهتزاز في أحبالها الصوتية. «إنه لشرف عظيم أن تحظي بمقابلة السلطان.» «نعم، أتشرف بذلك.»
سارت العربة محدثة ضجيجا مرورا بالألواح الخشبية لجسر جالاتا، ثم استدارت يسارا عند البازار المصري مفرقة حشدا من الحمام مقيما تحت القباب الخارجية للمسجد الجديد. ومن الناحية الأخرى، استطاعت إلينورا أن ترى برج جالاتا وهو ينحني فوق المدينة كما لو كان أصبعا منذرا. وها هي بيشكطاش تستلقي في كسل على الشاطئ: المرفأ ومسجد بيشكطاش والمنازل التي تطل على الماء، وقد استطاعت أن تحدد من بينها بسهولة الواجهة الصفراء لمنزل البك. انحنت مقتربة من نافذة العربة حتى لمست حافة أنفها الزجاج؛ هناك في الطابق الثاني عند الفتحة الثالثة إلى اليسار تقع النافذة البارزة التي قضت خلفها العديد من الأمسيات وهي تقرأ وتشاهد مرور السفن وتتخيل حياة الناس على الجانب الآخر من المياه. ولكن إلينورا لن تعلم أبدا ما إذا كان أحد السكان في الجانب الآخر من المضيق، سواء باعة السمك أو خادمة تبتاع الكركم من سوق التوابل أو صاحب متجر تقي يتوضأ في النافورة العامة التي تقع خارج المسجد الجديد، قد نظر وفكر في حياتها. «هل أنت على دراية كافية بأصول وقواعد البلاط الملكي؟»
فقالت وهي ترفع ذقنها للأمام: «كلا.»
فتنحنح الرسول قليلا وارتسم على وجهه تعبير شديد الجدية. «في بلاط السلطان ثمة قواعد محددة عليك اتباعها. لقد كتبت كتب كاملة في هذا الموضوع، وللأسف لا وقت لدينا الآن لتوضيح ذلك.»
فهزت إلينورا رأسها. «أهم ثلاث قواعد عليك أن تتذكريها هي؛ أولا: الانحناء فور دخول غرفة المقابلات، وعندما تنحنين يجب أن تلمس جبهتك الأرض.»
لمست جبهتها بإبهامها كي توضح أنها فهمت الأمر. «ثانيا: عليك دائما أن تخاطبي السلطان إذا خاطبته بلقب فخامة السلطان.»
فرددت: «فخامته.»
فصحح لها قائلا: «بل فخامتك . عندما تخاطبين السلطان تطلقين عليه فخامتك، أما إذا كنت تحدثين عنه شخصا آخر، وهو ما يجب ألا تقومي به، فسوف تطلقين عليه فخامته.» «فخامتك.» «ثالثا: يجب أن تتذكري دائما أن تواجهي السلطان، مهما يكن من يتحدث إليك فلا تديري ظهرك للسلطان.»
كررت إلينورا القواعد الثلاث لنفسها. «تلك هي الأساسيات الثلاثة في البلاط الملكي. وثمة الكثير من القواعد الأخرى، فعلى سبيل المثال عليك ألا تعارضي السلطان أبدا، وألا تقاطعي فخامته أثناء تحدثه، وألا تقدمي له النصيحة ما لم تطلب منك صراحة. ولكننا لا نملك وقتا لتوضيح تلك القواعد.»
وهنا انعطفت العربة إلى شارع منحدر ملتو مقحم وسط المحلات، مكتظ بموكب مترب من المستجدين السائلين. أبطأت الجياد وهي تمر عبر الحشود - غطاء الرأس المجعد الأبيض الخاص بالبدو، والسكاكين القوقازية المعلقة في أحزمة زاهية مزركشة، والأوشمة الهندسية على ذقون النساء البربريات وجبهاتهن - الكل صاعد التل نحو القصر محدثا الكثير من الضوضاء. كانت بوابة السلام معلما جديرا بالمشاهدة في حد ذاته؛ حيث يعلوها سقف أخضر مكسو بالخشب على هيئة موجة، ويحرسها ستة من الحراس؛ اثنان منهم كي يفتحا البوابة، وأربعة كي يمنعوا الزائرين من الدخول. وأمام الحشود لاحظت إلينورا فلاحا مسنا يرتدي طربوشا أحمر اللون مهترئا، ويحمل خروفا تحت ذراعه ويلوح بعصاه في الهواء مرددا إحدى الكلمات مرارا وتكرارا، كما لو كان التكرار سوف يصلح من أي خطأ قد ارتكب من قبل.
تساءلت إلينورا وهما يترجلان من العربة: «ماذا يريد؟»
نظر إليها الرسول لحظة بوجه خال من التعبير، وعندما أدرك من تقصد أصدر صوتا دالا على الاحتقار. «إن طلبات الناس من فخامته لا تنتهي أبدا.»
كانت على استعداد لاستكمال المحادثة، ولكن في تلك اللحظة فتحت البوابات الداخلية وقادهما حارس إلى القصر نفسه. كانت حدائق القصر تفوح برائحة الياسمين وأزهار اللوز، وكانت منسقة على هيئة دوائر متحدة المركز ذات انحناءة خفيفة، كل منها مزروعة بمجموعة مختلفة من أزهار الفاكهة المتفتحة. قاد الرسول إلينورا عبر ممر واسع تصطف على جانبيه الأشجار المقلمة، مارين بالباشوات والإنكشارية الذين ينسلون صامتين كالثعابين في الماء. كان يسير بسرعة، فلم يترك لها فرصة كي تتأمل بإعجاب النافورة الضخمة ذات اللونين الأزرق والأبيض التي تقع في وسط الحدائق أو تتمهل أمام المباني التي تطل من بين أوراق الشجر. توقف أخيرا في الطرف البعيد من الحدائق أمام بوابة بنفس حجم تلك التي عبرا منها توا، يحرسها أربعة رجال يرتدون نفس الزي النظامي ذا اللون الأرجواني الزاهي الذي تحمله العربة الملكية. كانوا بلا شك أضخم رجال رأتهم إلينورا حقا، فكل منهم يماثل طوله ارتفاع الحصان، وتبرز عضلات ساقه من تحت الثياب.
قال الرسول وهو يشير إلى قطعة بالية إلى حد ما من القماش الأخضر تعلو كتلة من الحجر الرملي المجاور للبوابة: «هذه هي راية النبي محمد عليه الصلاة والسلام.»
انحنت إلينورا مقتربة من الراية المطرزة بكتابة من الفضة:
بسم الله الرحمن الرحيم «إنها تشير إلى مدخل الغرف الخاصة بفخامة السلطان. لا يمكنني المرور أبعد من ذلك.»
أشار إلى أحد الحراس، ثم ألقى تحية الوداع وأسرع متجها إلى ممر جانبي. وقفت إلينورا بضع لحظات بجوار راية النبي محمد قبل أن تتحدث.
توجهت إلى الحرس متسائلة: «إذا سمحت، هل علي أن أقف هنا؟ أم أنتظر في مكان آخر؟»
ظل الحراس صامتين يحدقون أمامهم في نقطة غير محددة في منتصف المسافة. لم تكن إلينورا واثقة من صوتها بعد، فظنت أنها ربما لم تتحدث بصوت واضح بما يكفي.
أعادت السؤال بصوت أعلى: «هل علي أن أنتظر هنا؟»
ولكن الحراس لم يبدوا ما يدل على إدراكهم لوجودها، وكأنها لم تتحدث قط. «إذا سمحت.»
خطت خطوة للأمام ولوحت بيدها أمام الحارس الأقرب إليها. كانت عيناه زرقاوين داكنتين كالأحجار الكريمة الدقيقة، ولديه ندبة عريضة في وجنته من الصدغ حتى الفم. خفض بصره ونظر إليها، ثم وضع يده على أذنه وهز رأسه؛ يبدو أنه أصم. ثم أشار إلى مقعد طويل عند الجانب الآخر من البوابة واستأنف وقفته.
لم تشعر إلينورا برغبة في الجلوس؛ فقد كانت شديدة التوتر، ورغم ذلك فقد تتبعت أصبع الحارس نحو المقعد الرخامي واستدارت ملقية نظرة على الحديقة التي أتت عبرها، وهنا لاحظت مجموعة صغيرة من سربها وقد حطت على المستوى الأعلى من النافورة الرئيسة. ها هي أربعة هداهد باللونين الأرجواني والأبيض تراقبها في هذا اليوم العظيم. كان وجودها وحده كافيا كي يعطيها مزيدا من الثقة، وعندما اقتيدت عبر البوابة إلى غرفة مقابلات السلطان كانت تعلم أنها تنتظرها بالخارج.
كانت حوائط غرفة المقابلات مزينة بالجبس المنحوت بالأخضر والأحمر والأزرق، وتضيئها من أعلى حزم من الضوء تسقط من حاجز شبكي يعلوه سقف مزين بألوان الطاووس، وكانت الغرفة تفوح برائحة زهر الليلك. كانت الغرفة أصغر كثيرا مما توقعت، تقريبا بنفس حجم غرفة نومها في منزل البك. وقف صف منظم من الوزراء وموظفيهم بمحاذاة الحائط إلى يمينها، وإلى يسارها جلس جمال الدين باشا الصدر الأعظم في مقعد خشبي ضخم. وفي منتصف الحائط الخلفي على أريكة قرمزية ضخمة اتكأ فخامة السلطان عبد الحميد الثاني. جسمانيا كان السلطان رجلا نحيلا ذا حاجبين داكنين كثيفين وشارب حاد وشفتين كالكرز المزدوج. كان شعورا غريبا رؤيته شخصيا. شعرت إلينورا بالقشعريرة تسري في جسدها، ها هو سلطان الإمبراطورية العثمانية خليفة المسلمين. كان أحد أقوى الرجال في العالم، ولكنه في الوقت نفسه رجل كسائر الرجال.
انحنت على ركبة واحدة كما علمها الرسول، وضغطت جبهتها على الأرض الرخامية الباردة. وعندما وقفت مرة أخرى، ابتسم الصدر الأعظم واعتدل في مقعده. أعاد ضبط شريط عمامته، ثم أخرج مفكرة صغيرة من ثنايا قفطانه. «أيتها الآنسة كوهين، أنت بالطبع تدركين أننا مشغولون بالكثير من الأعمال كل يوم، ولكن رغم ذلك فقد انبهر فخامته بما سمعناه عنك وعن دراساتك وعن قصة حياتك ...» «بالطبع.»
بالكاد سمعت إلينورا ما قاله السلطان، ولكنه عندما تحدث غرقت الغرفة في الصمت. انحنت مرة أخرى وسرت حمرة الخجل في جسدها بأكمله. أخبرت نفسها بأنه يخاطبها، وشعرت بالعرق يتصبب في راحتيها.
بدأ قائلا: «هل تمانعين إذا توجهت إليك ببعض الأسئلة؟ لقد سمعنا عددا من الأمور المذهلة عنك، ولكن يصعب أحيانا التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي.»
قالت إلينورا بصوت أجش: «تفضل، شكرا يا فخامة السلطان.» «هل صحيح أنك تقرئين بخمس لغات؟»
أحصت إلينورا العدد في ذهنها. لم تكن ترغب في معارضة السلطان، ولكن الحقيقة أنها تعرف القراءة بسبع لغات: الرومانية واليونانية واللاتينية والتركية والفرنسية والإنجليزية والعربية. «بعد إذنك يا فخامة السلطان، هذا ليس صحيحا.»
فدون الصدر الأعظم شيئا في مفكرته. «كم لغة تعرفين القراءة بها؟» «سبع لغات يا فخامة السلطان.»
تابع السلطان بابتسامة ماكرة: «وهل صحيح أنك قرأت كل الكتب في مكتبة القائم عليك صديقنا منصف باركوس بك؟» «قرأت الكثير من الكتب في المكتبة يا فخامة السلطان، ولكنني لم أقرأها كلها.»
فهز السلطان رأسه. «وأي من الكتب التي قرأتها هو كتابك المفضل؟» «الساعة الرملية يا فخامة السلطان.»
ألقت نظرة على الصدر الأعظم الذي كان يدون إجاباتها في مفكرته.
قال عبد الحميد مفكرا: «الساعة الرملية! لا أعتقد أنني صادفت هذا الكتاب من قبل.» «إنه كتاب شديد الروعة يا فخامة السلطان.»
التفت السلطان إلى الصدر الأعظم. «هل قرأت الساعة الرملية؟» «كلا يا فخامة السلطان، لم أقرأه.»
ثم التفت إلى صف الوزراء على يساره. «هل قرأ أحدكم الساعة الرملية؟»
ارتفع وابل من الهمسات المتوترة قبل أن يتحدث أحد الوزراء. «لا أظن يا فخامة السلطان أن هذا الكتاب مترجم إلى التركية.» «حسنا، علينا أن نأمر بترجمته ...»
وهنا دخل الرسول إلى الغرفة وهمس شيئا في أذن جمال الدين باشا، فهز رأسه وغادر الرسول الغرفة بصمت كما دخلها.
تابع السلطان قائلا: «أنا شخصيا متحيز لروايات الغموض والتشويق، ومعظم مؤلفيها بريطانيون. وأرى أن إدجار آلان بو وويلكي كولينز أفضلهم، رغم أنني معجب ببعض الكتاب الفرنسيين أيضا.»
توقف ونظر إلى السقف. «وبالطبع، فإنني منجذب أيضا لكبار شعراء العرب والفرس.»
قبل أن تجيب إلينورا، دخل رسول آخر إلى الغرفة وسلم برقية إلى الصدر الأعظم.
قال بعد أن قرأ البرقية: «فخامة السلطان، إنني آسف جدا لمقاطعة حديثنا مع الآنسة كوهين، ولكن أمرا عاجلا غاية في الخطورة قد طرأ الآن .»
تقدم أحد الحراس كي يقود إلينورا خارج الغرفة، ولكن السلطان رفع يده مستوقفا إياه. «يمكنها أن تبقى، فأعتقد أن هذا الأمر لن يستغرق أكثر من بضع لحظات، ولا أحب أن أترك ضيفتنا تنتظر بالخارج.»
قال جمال الدين باشا: «نعم يا فخامة السلطان، بالطبع.»
بسط البرقية على مفكرته وقرأها لنفسه مرة أخرى قبل أن يلخص محتواها للبلاط. «تبلغنا البحرية الملكية الألمانية بأن السفينة ميسودي ما زالت تتعرض لمضايقات من زوارق الطوربيد الروسية حتى بعد انسحابها في اتجاه سينوب، وهم يقولون إنهم قد قاموا بمحاولات عديدة للاتصال بالقادة البحريين الروس في كل من سيفاستوبول وسانت بطرسبرج بلا جدوى، ويبدو من الصمت الروسي أن ذلك عدوان رسمي.»
تنهد عبد الحميد وضغط على قصبة أنفه. «إن هذه البرقية مرسلة من الجنرال فون كابريفي نفسه، وهو يقول إنه يتفهم دقة الموقف ويحترم سيادتنا لأقصى الحدود، ولكنه يكرر توصيته بالرد العنيف.»
سأل السلطان: «وبم توصي أنت؟» «أوصي بإعطاء قبطان ميسودي الحرية في الاستجابة بالكيفية التي يراها مناسبة؛ فزوارق الطوربيد الروسية الجديدة بها بعض الأسلحة، ولكنها لن تصمد أمام نيران سفينة حربية مدرعة.» «أليس ثمة خيارات أخرى؟» «أجل، لا أرى أمامي أي خيارات أخرى. أدرك أنك تتحفظ بشأن الطوربيدات الروسية يا فخامة السلطان، ولكن تلك السفن قد أصبحت داخل المياه العثمانية. وإذا لم نرد على العدوان على المياه الإقليمية، فسوف نفقد مكانتنا في البحر الأسود، وإذا لم نفعل أي شيء فسوف ينم ذلك عن الخوف بالنسبة إلى سانت بطرسبرج وبرلين أيضا.»
فكر السلطان للحظة في نصيحة الصدر الأعظم، ثم التفت إلى صف الوزراء على يساره. «هل تتفقون جميعا مع جمال الدين باشا؟»
ارتفع خليط من الهمهمة بالموافقة وهز الرأس. عقد عبد الحميد حاجبيه وأمسك بحافة قفطانه، وبدا أنه نسي نفسه وهو يتحسس طراز القماش، ثم رفع رأسه ونظر إلى إلينورا. «وأنت ما رأيك؟ بم توصين؟» «أنا؟» «نعم، بصفتك ساكنة قديمة لمقاطعات البحر الأسود ودارسة للتاريخ، بم توصين؟»
سعل الصدر الأعظم بقوة في يده ودون بضع كلمات في مفكرته.
قالت إلينورا: «لا يمكنني أن أقول إنني أفهم الوضع جيدا.»
كان الرسول قد أخبرها بأنها يمكنها تقديم النصيحة للسلطان في حال أن طلبت منها النصيحة صراحة، وقد طلب فخامته نصيحتها بوضوح؛ ولكنها لم تكن تعلم أي شيء عن السياسة ما عدا ما قرأته في الكتب. عضت باطن صدغها وأخذت تفكر في كل الكتب التي قرأتها من قبل محاولة أن تتذكر موقفا مشابها.
قالت أخيرا: «ربما كان هذا الموقف يا فخامة السلطان مشابها لموقف بيثينيا بعد صعود الملك ميثريداتس.»
فقال السلطان: «استمري.» «طبقا للمؤرخ أبيان، كانت كل من بيثينيا وروما مهددتين من الملك ميثريداتس، ولكن تهديد ببيثينيا كان مباشرا. ولما كانت روما تعلم ذلك، فقد تمكنت من تحريض بيثينيا ضد ميثريداتس. خسر البيثينيون المعركة وتكبدوا خسائر فادحة، ولكن خسارتهم أعطت الرومان وقتا كي يستجمعوا قواهم.»
فكر السلطان للحظة. «إذا أطلقنا النيران على زوارق الطوربيد الروسية، فسوف نشعل فتيل معركة تصب في صالح ألمانيا ...»
قاطعها الصدر الأعظم قائلا: «فخامة السلطان، لقد استرعى انتباهي أمر غاية في الأهمية والسرية. هل يمكنني الحديث معك على انفراد؟»
الفصل العشرون
عندما أصبحت غرفة المقابلات خالية، نهض جمال الدين باشا من مقعده واقترب من أريكة السلطان. «ما الذي يدور في خاطرك يا جمال الدين باشا؟» «أرجو ألا تمانع في أن أتحدث بصراحة يا فخامة السلطان.» «تفضل.» «أرجو أن تعذرني لمقاطعة مقابلتك مع الآنسة كوهين، ولكن علي أن أقول يا فخامة السلطان إنني لا أظنه أمرا حكيما أن تطلب النصيحة من طفلة صغيرة.»
فربت عبد الحميد على الشعر خلف عنقه. «ولم ذلك؟» «أولا، وأهم ما في الأمر، أن الآنسة كوهين لا تفهم شيئا عن موقفنا السياسي أو علاقاتنا بالروس والألمان؛ هي نفسها اعترفت بذلك. وثانيا، من غير اللائق أن يطلب ملك النصيحة من طفلة صغيرة مهما تكن الظروف. وثالثا، فإننا لا نعلم شيئا عن اتجاهاتها السياسية، فربما ترسل الآن معلومات إلى منصف بك أو للكاهن مولر، وقد تكون هي نفسها جاسوسة للروس أو للرومانيين أو الفرنسيين ...»
قال السلطان: «أشكرك على وجهة نظرك في هذا الأمر. كالمعتاد فإنني أقدر نصيحتك، ولكنني في تلك الحالة أختلف معك.»
نظر جمال الدين باشا مرة أخرى في البرقية.
تابع السلطان قائلا: «لم تسمع الآنسة كوهين اليوم شيئا لن تقرأه في صحف الغد، ولكنها أثبتت من حصافة نصيحتها أنها تفهم الموقف السياسي جيدا. وبالنسبة إلى الحكمة في أخذ النصيحة من طفلة، فإنني شخصيا أميل إلى الرأي القائل بأن النصيحة السديدة سديدة أيا كان مصدرها، وأعتقد أنه عليك تقدير هذا الموقف كالجميع.» «بالفعل يا فخامة السلطان.» «بالإضافة إلى ذلك، فقد تصادف أن عبرت الآنسة كوهين عن نفس رأيي في الأمر. ولو كانت متسولة أو قردة أو حتى قيصر روسيا نفسه، لكنت أيضا سأقبل نصيحتها.»
قال الصدر الأعظم: «يا فخامة السلطان، بعيدا عن مصدر النصيحة، يجب أن أعارضك بشدة بشأن سياسة عدم الاشتباك.»
توقف كي يقيس رد فعل السلطان قبل أن يستفيض في إيضاح تلك النقطة. «إذا لم نطلق مجرد طلقة تحذيرية، فإننا بذلك نتنازل فعليا عن البحر الأسود للروس، كما أنني أخشى أن يفسر الجنرال فون كابريفي عدم اتخاذنا رد فعل بأنه إهانة مباشرة لتحالفنا مع القيصر.» «وما فائدة تحالف يجبرك يا صديقي على التصرف ضد مصالحك؟» «كما تعلم يا فخامة السلطان فإن الألمان من أهم حلفائنا، فهم يملكون ثاني أقوى أسطول بحري في العالم، وقد أقسموا على حماية مصالحنا أينما تتعرض للخطر.» «ولم لا يحموننا من الروس الآن؟»
ودون أن ينتظر إجابة، أصدر عبد الحميد أمره النهائي. «أخبر قبطان ميسودي بألا يطلق النيران ما لم تطلق عليه النيران، وأن يتجنب الاشتباك المباشر قدر الإمكان.»
ظل الصدر الأعظم صامتا فترة طويلة قبل أن يجيب. «إنني أتفهم يا فخامة السلطان أن ذكرى حادث تفجير السفينة أنتيكبا قد تجبر المرء على تجنب إطلاق النار على زورق طوربيد روسي.»
قال عبد الحميد وهو ينهض واقفا من على أريكته: «إن أنتيكبا لا علاقة لها بقراري.»
ودون أن يتفوه السلطان بكلمة أخرى، غادر غرفة المقابلات. أغمض عينيه في وهج الشمس الساطع، وسار عبر ممر الحديقة الخاص بمكتب الإندرون، من مكتبة أحمد الثالث حتى جناح الخدم جيئة وذهابا. بصرف النظر عن مشاعره تجاه الاشتباك البحري، كان واضحا أن الروس يحاولون إثارة رد فعل يمكنهم استغلاله ذريعة لمعركة أكبر، وكان واضحا أيضا على الرغم من كل ما يؤكده جمال الدين باشا أن الألمان سوف يستفيدون بشدة من حدوث مناوشة عثمانية روسية في البحر الأسود. وهكذا، فإن عدم الاشتباك هو أفضل رد في الوقت الحالي على الأقل بصرف النظر عن توصيات الجنرال فون كابريفي. لم يكن عبد الحميد مستمتعا بالتنازل عن المعركة، ولكن كما قال داريوس الأول بحكمة: «لا حاجة لاستخدام القوة حيث تفيد الحيلة.»
حتى لو كان عبد الحميد يرغب في استخدام القوة، فهو يعلم أن الإمبراطورية أضعف من أن تحتمل حربا ممتدة مع الروس. وكان بالكاد ما يمكنه هو تزويد القصر بالموظفين، فضلا عن الحكومات المحلية؛ والأقليات تصرخ مطالبة بمزيد من التمثيل، بل الحكم الذاتي في بعض الحالات؛ وجيشه الذي كان يوما ما مصدر رعب لفيينا وبودابست يعاد تشكيله بواسطة الجنرالات الأوروبيين. حتى مع إنشاء كلية الترجمة وتحديث الأسلحة العسكرية والسكة الحديدية، وبرغم التعديلات الدستورية التي قام بها، فالإمبراطورية على شفا كارثة. كان عبد الحميد يشعر كل يوم بالأغلال تضيق حوله. ولو كان بوسعه أن يسحب الإمبراطورية بعيدا عن سيطرة القوى العظمى ويسدد ديونها ويلغي الامتيازات الأجنبية ويطرد المستشارين العسكريين الأجانب، لتمكن عندئذ من استعادة السيطرة على البحر الأسود. ولكنه في تلك اللحظة كان عليه التحلي بالحذر.
توقف عبد الحميد عند المزولة المجاورة لجناح الخدم، وتخلل بأصابعه التجاويف التي تمثل ساعات اليوم. كان ظل الشمس يميل إلى مفاصل أصابعه مستمرا في طريقه. ورغم قوته كان يعلم أن ثمة الكثير من الأمور التي تخرج عن نطاق سيطرته. على المرء أن يبذل أقصى ما في وسعه ضمن حدود التاريخ. وتمنى في نفسه لو كان جمال الدين باشا يفهم ذلك، لو كان مستشاروه يشبهون الآنسة كوهين، غير مكبلين بالتقاليد ولا يخشون الحديث بصراحة . توقف كي يتأمل هدهدا باللونين الأرجواني والأبيض جاثما على السقف المقوس لغرفة المقابلات، هز رأسه نحو اليسار ثم حلق عبر الماء. إنه هو. قرع السلطان عصا المزولة بمفصل أصبعه، ثم توجه مباشرة إلى مكتبة أحمد الثالث.
وعندما دخل هناك، كاد أمين المكتبة يسقط عن السلم من الصدمة.
قال بعد أن هبط باحتراس وانحنى: «فخامة السلطان! يا لها من مفاجأة سارة! كيف يمكنني أن أساعدك؟» «لدي طلب بحاجة إلى أن يتم في سرية تامة.» «بالطبع يا فخامة السلطان، تفضل.» «أولا أريد منك أن تجمع لي كل الفرمانات والمراسلات المتعلقة بعلاقتنا مع القوى العظمى، وخاصة الروس والألمان، ثم تصنع منها نسخا وترسلها إلى الآنسة إلينورا كوهين في منزل منصف باركوس بك.»
توقف السلطان متيحا الفرصة لأمين المكتبة كي يدون تلك التفاصيل. «عندما تنتهي من جمع المواد المطلوبة احضر إلي وسوف أعطيك خطابا ترفقه معها كغلاف. هل هذا الأمر واضح؟» «نعم يا فخامة السلطان، ولكن المشكلة الوحيدة أن حجم المواد التي تطلبها قد يزيد عن سعة عربة كاملة.» «ضع حدا أقصى لها ستة صناديق شحن، وأعط الأولوية للمستندات الأكثر أهمية.» «نعم يا فخامة السلطان، على الفور.»
وفي فجر اليوم التالي انطلق السلطان في رحلته السنوية لمشاهدة الطيور عند بحيرة مانياس. استغرقت الرحلة عبر بحر مرمرة معظم اليوم الأول، وفي ذلك المساء نصبوا مخيما بالقرب من إحدى قرى الصيادين القوزاق عند الجهة الشمالية من البحيرة، وفي صباح اليوم التالي انطلقوا إلى الشاطئ الشمالي ونصبوا مخيما لفترة أطول على مسافة بضعة كيلومترات من إحدى قرى اللاجئين التتار. أرسل كل من القوزاق والتتار هدايا ترحيبا بزيارة السلطان، ولكن بصفة عامة لم يهتم عبد الحميد وجماعته بسكان المنطقة، فبعد أن نصبوا المخيم قضوا معظم الوقت مرتدين المنظار الميداني. لم يكن الصيف هو الوقت المثالي من العام لمشاهدة الطيور في المنطقة، ولكن د. بينديكت عالم الطيور البريطاني المرموق الذي دعي كي يقود الرحلة كان جدول أعماله مزدحما للغاية.
رغم أن هجرة الربيع كانت قد انتهت منذ بضعة أسابيع ، تمكنوا من ملاحظة عدد من الفصائل وهي تصنع أعشاشها وتتكاثر. وبينما كانت مياه البحيرة تتراجع صنعت طيور الصداح والبلشون الأبيض والبجع أعشاشها في الرقعة الشاسعة المكشوفة من نباتات الخيزران والزهور البرية. أشار د. بينديكت وهو يقود جماعة السلطان بمحاذاة الشاطئ إلى عش عصفور الرميزية، وهو عش متقن الصنع غريب الشكل على هيئة الكمثرى يتدلى من أفرع شجرة صنوبر، نسج من خيوط العنكبوت المهملة وشعر الحيوانات والنباتات، وبه مدخل زائف وفتحة خفية لإرباك الحيوانات المفترسة المحتملة. وعلى مدار الرحلة رأى السلطان أكثر من خمسين فصيلة من الطيور: الإوز الأبيض الجبهة، وطائر الصفارية الذهبي، ومالك الليل الحزين، وأبو منجل المصقول، وحشد من طيور أبو ملعقة وثلاثة أزواج من البجع الدلماسي ذي المنقار البرتقالي الزاهي. وفي الليلة الخامسة والأخيرة من الرحلة قبيل الغسق، هاجم خنزير بري المخيم. وقبل أن يفكر أي من المرشدين والمترجمين في التصرف، أطلق عليه د. بينديكت النار ببندقيته فأرداه قتيلا. وأمر السلطان بسلخ الخنزير وشوائه تكريما لدكتور بينديكت، رغم أن السلطان لم يشاركهم تناول الطعام. كان ختاما رائعا للرحلة، فبالإضافة إلى الخنزير دعيت جماعة السلطان إلى السفرجل المحشو ولحم الضأن المشوي وحساء الشعير اللذيذ.
عندما عاد عبد الحميد إلى القصر متأخرا في ذلك المساء، أدرك على الفور أن ثمة شيئا ما خطأ. ولكن لما كان الوقت قد تأخر كثيرا فقد خلد للنوم مباشرة، وعندما استيقظ وجد أن حدسه كان صحيحا؛ وذلك لأن والدته كانت تجلس في صبر على مقعد بجوار باب مخدعه. «صباح الخير يا أمي.»
قالت وهي تنهض كي تنحني: «سمعت أن رحلتك حققت نجاحا.»
فابتسم قائلا: «نعم، حققت نجاحا كبيرا. لقد رأيت ثلاثة أزواج من البجع الدلماسي وعش عصفور الرميزية.»
رددت قائلة: «الرميزية، هذا رائع.» «ولكنني لا أعتقد أنك جلست بجوار فراشي طوال الصباح كي تسأليني عن أخبار رحلتي.» «أجل يا فخامة السلطان، علي أن أعترف بذلك.» «ماذا يزعجك يا أمي؟» «لا أود أن أفسد صباحك الأول بعد العودة بهمومي.»
فقال وهو يعتدل جالسا في الفراش: «إذا كنت مهمومة فأنا أيضا كذلك.»
فجلست في مقعدها مرة أخرى ووجهته نحوه. «لقد سمعت إشاعة بالأمس أزعجتني كثيرا، وشعرت بالحاجة لأن أوقظ ابني الأكبر الحبيب من نومه.» «أخبريني يا أمي، ما الأمر؟» «يقول الناس إنك طلبت النصيحة من تلك الفتاة المدعوة كوهين فيما يتعلق بأمر عسكري دقيق، وإنك تخطط لإرسال مواد سرية إليها كي تقرأها.»
أكد صمته أن تلك الإشاعة صحيحة.
تابعت قائلة: «لا يعنيني من أين تحصل على النصيحة، فأنا أعلم أنني قد ربيتك جيدا بما يكفي كي تعلم الفرق بين النصيحة الجيدة والرديئة، ولكن ما يعنيني هو سمعتك؛ فقد بدأ الناس في القصر يتحدثون بالفعل عن الموقف بألفاظ مهينة.»
قال: «دعيهم يتحدثوا، فهم يتحدثون طوال الوقت.» «وإتاحة المباحثات الداخلية الخاصة بالقصر بين يدي تلك الفتاة، وإعطاؤك معلومات حساسة لطفلة يهودية لا نعلم عنها شيئا! في حقيقة الأمر إن هذا يقلقني أيضا.»
تقلب السلطان على ظهره. لقد انتشرت المعلومة سريعا، حتى على مستوى القصر. «من أخبرك بذلك؟» «جمال الدين باشا.» «وكيف علم هو بذلك؟» «لقد افترضت أنك أخبرته بنفسك.»
قال السلطان وهو يتقلب على جانبه: «كلا، لم أفعل.»
استأذن عبد الحميد من والدته، وأخبر الرسول الأقرب إليه أنه يرغب في تناول الإفطار في مكتبة أحمد الثالث. كان ذلك طلبا غريبا للغاية، ولكن الرسول لم يتأخر ثانية قبل أن ينحني ويهرول مسرعا كي يبلغ العاملين في المطبخ. وفي تلك الأثناء توجه السلطان نحو المكتبة التي وجدها خالية كما يأمل. كانت الحركة الوحيدة تتمثل في عمود من ذرات التراب، والصوت الوحيد صادرا عن حشرة السمك الفضي. جلس عبد الحميد إلى مكتب أمين المكتبة وانتظر، وبعد مرور بضع لحظات قدم له إفطاره هناك. وبينما كان يتناول الإفطار أخذ يتصفح سجلا ضخما أزرق اللون في منتصف المكتب؛ كان سجلا بكل الكتب التي طلبت واستعيرت من المكتبة خلال الشهر الماضي، ورأى أن معظم المباحثات والمراسلات الرسمية التي تخص علاقة الإمبراطورية مع برلين وسانت بطرسبرج قد طلبت استعارتها، ولكن لا شيء في السجل يشير إلى أن السلطان هو من طلب تلك المستندات، وهكذا فقد رتب أمين المكتبة تلك النقطة على الأقل، ولم يكشف الأمر. أغلق السلطان السجل، وعندما انتهى من احتساء الشاي دخل أمين المكتبة نفسه إلى الغرفة.
قال ووجهه شاحب كحشرة السمك الفضي: «فخامة السلطان، ما سبب تشريفكم لي بالزيارة؟» «كي أطمئن فحسب على الطلب الذي طلبته الأسبوع الماضي.»
اطمأن أمين المكتبة قليلا لهذا التفسير، ولكن ليس تماما. «كدت أنتهي من إعداده يا فخامة السلطان، وآمل أن أحضر لك النتائج غدا صباحا. ستة صناديق مليئة بالخطابات والفرمانات الرسمية.»
قال عبد الحميد وهو يلقي نظرة على السجل المغلق: «حسنا، لدي سؤال آخر.» «تفضل يا فخامة السلطان.» «ألم أخبرك بأن هذا الأمر سري؟» «بلى يا فخامة السلطان.» «لماذا إذن أيقظتني والدتي هذا الصباح وهي تخبرني أن هذه الخطة أصبحت معروفة للجميع؟»
انبطح أمين المكتبة أمام السلطان وأطباقه الخالية وكاحلاه يرتجفان. «لم أتفوه بكلمة لأحد، أقسم على ذلك يا فخامة السلطان.»
تأمل السلطان أمين المكتبة للحظة قبل أن يشير إليه بالوقوف. «إنك رجل متدين، أليس كذلك؟» «بلى يا فخامة السلطان، إنني أبذل قصارى جهدي.» «إذن أحضر لي مصحفا.»
نفذ أمين المكتبة الأمر، وفتح عبد الحميد المصحف على السورة الأولى. «هل تقسم بالمصحف وبالرسول عليه الصلاة والسلام وبالخلفاء الراشدين أنك لم تتحدث مع أي شخص على الإطلاق عن ذلك الأمر؟»
فوضع أمين المكتبة يده على المصحف.
وقال وفتحتا أنفه تتسعان خوفا: «من المحتمل يا فخامة السلطان أنني لم أوضح لأمين محفوظات القصر أو للكتبة الذين ساعدوني الطبيعة السرية لهذه المهمة. وإذا كان الأمر كذلك، فإنني أتحمل المسئولية كاملة عن ذلك. وأنا على استعداد لتقديم استقالتي إذا كان ذلك مناسبا.» «وفيما عدا أمين محفوظات القصر والكتبة، هل أخبرت أي شخص بهذا الطلب؟» «كلا يا فخامة السلطان، وكما ترغب فإنني أقسم بالمصحف الشريف وبالرسول عليه الصلاة والسلام أنني لم أفعل.»
قال السلطان وهو ينهض من أمام المكتب: «حسنا، أرجو أن تحضر الصناديق إلى غرفتي فور الانتهاء منها.»
وعندما غادر عبد الحميد الغرفة، انهار أمين المكتبة على ركبتيه ووضع جبهته على الأرض.
الفصل الحادي والعشرون
جلست إلينورا وحيدة على رأس مائدة طعام البك اللامعة تتأمل كسرات الخبز المتبقية من طعام إفطارها. كان قد مر أكثر من أسبوع منذ مقابلتها السلطان، ولكن ذكرى تلك المقابلة لا تزال حية تطفو على حافة ذاكرتها كبالون من الهواء الساخن. قلبت الرشفة الأخيرة الفاترة من فنجان الشاي بأصبعها الصغير ولمسته بشفتيها. في الصباح الذي تلا المقابلة، تناقشت هي والبك بالتفصيل في تجربة مقابلتها بالسلطان. وصفت له حديقة القصر، والحرس، والوزراء وموظفيهم، والمأزق في البحر الأسود، ونصيحتها للسلطان. استمع البك إلى وصفها بفخر واهتمام شديدين، وخاصة بعد أن اتضح أن السلطان قد عمل بنصيحتها. ولكن همه الأكبر كان بشأن ما إذا كان السلطان أو الصدر الأعظم قد وجه إليها أي أسئلة عنه هو شخصيا أو عن عاداته اليومية أو أي شيء من هذا القبيل. مسحت إلينورا فمها بمنديل، وقلبت بإبهامها مجموعة من فتات الخبز حول حافة طبقها، محاولة أن تتذكر بعض التفاصيل الأدق عن القصر: التقوس البسيط في سقف غرفة المقابلات، ورائحة الليلك واللافندر، والمثلثات الفضية المتداخلة المطرزة على ياقة قفطان الصدر الأعظم، وأشكال الضوء التي تسقط من خلال فروع أشجار الجوز حول النافورة الضخمة.
استغرقت في تلك الذكريات حتى سمعت قرعا على الباب الأمامي ووقع خطوات واثقة تدخل المنزل، ورأت أن تلك الخطوات لمجموعة من حمالي القصر. راقبتهم من خلف عضادة الباب وهم يسيرون عبر الباب الأمامي كموكب من الخنافس الأرجوانية، وكل منهم يحمل صندوقا خشبيا بحجم صندوق الأمتعة. أزيحت السجادة الضخمة في غرفة الجلوس بعيدا، وكدست الصناديق أزواجا في المساحة بين مائدة استقبال الزائرين والباب الأمامي. ظل السيد كروم وأحد مندوبي القصر يراقبون الموكب في صمت، وعندما وضع الصندوق الأخير في مكانه أبرز المندوب حامل مستندات فضيا من خلف ظهره. «هذا للآنسة كوهين.»
قال السيد كروم: «سوف أتأكد أنه قد وصل إليها.»
فألقى المندوب نظرة على قفازه الممتد. «لقد طالب فخامته بإعطاء هذا الخطاب للآنسة كوهين مباشرة، ولا أحد غيرها.»
فخرجت إلينورا من خلف عضادة الباب. «بعد إذنك.»
استدار الجميع كي يشاهدوها وهي تعبر الغرفة سيرا مرتدية خفها ورداءها المنزليين. وعندما وصلت إلى المندوب، خفض رأسه كما لو لم يكن واثقا مما إذا كان عليه الانحناء.
قال وهو يفتح الأنبوب الفضي ويبسط ورقة ثقيلة الوزن: «علي أن أخبرك بأن هذا الخطاب كتبه فخامة السلطان بيده.»
حملت إلينورا الخطاب بكلتا يديها. كان مكتوبا بالفرنسية بخط يد أنيق يوحي بالثقة.
عزيزتي الآنسة كوهين
قبل أن أتناول أمر الصناديق، أود أن أعبر لك عن سعادتي الشديدة بالفرصة التي أتيحت لي للتعرف عليك في ذلك اليوم. يمكن للمرء أن يؤكد من النظرة الأولى أنك شخص استثنائي بالفعل، فيما يتعلق بذكائك وشخصيتك. وأرجو أن تكوني قد استمتعت بزيارتك للقصر، وآمل أن نتقابل مرة أخرى في المستقبل.
أما عن الصناديق التي تكدست بلا شك أمام حائط غرفة جلوس البك، فسوف تجدين داخلها خلاصة عشرة أعوام من التقارير الرسمية والمعاهدات والبيانات المالية والمراسلات الدبلوماسية المتعلقة بأمر علاقتنا بالإمبراطوريتين الروسية والألمانية، بالإضافة إلى القوى العظمى الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا وإمبراطورية هابسبورج. أرجو أن تدرسي تلك المستندات بعناية، وفي غضون أسبوعين سوف أرسل في طلبك مرة أخرى كي نناقش محتوياتها. ولست بحاجة لأن أخبرك بأن تلك المستندات غاية في السرية، وأنه محظور عليك مشاركة محتوياتها مع أي شخص مهما تكن الظروف.
أنتظر لقاءنا التالي بلهفة شديدة.
المخلص
عبد الحميد الثاني
وأخيرا وصلت الصناديق إلى مقرها في المكتبة، ورصت بعناية تحت صف من النوافذ مواجهة لميناء بيشكطاش. وفي الجانب الآخر من الزجاج هبت رياح شديدة من الماء في غير أوانها، محدثة اهتزازا عنيفا في فروع الأشجار، حتى أخذت طيور البحر تتقافز وتتشقلب في حركات بهلوانية. ولكن بالداخل كان الجو هادئا، واختلطت طبقات كثيفة من دخان السيجار بالرائحة العتيقة لجلود الكتب القديمة والكونياك، بينما ظلت أهداب الستائر الثقيلة تداعب أسطح الصناديق كأزهار الهندباء البرية. أزاحت إلينورا غطاء الصندوق الذي يحمل رقم واحد، وانحنت على مدخله وأخذت تقلب فيه بأصابعها. نزعت مجموعة متنوعة من الخطابات مربوطة بخيط حريري وفكتها، كان الخطاب الأول مرفقا بمظروف مربع كبير موجها إلى اللواء نيكولاي كاراكوزوف، وكان ملطخا من الجانب بما يبدو أنه مربى الفراولة. ولم يكن ثمة عنوان للمرسل. دفعت إلينورا حواف المظروف وتركت الرسالة تنزلق للخارج. كانت دعوة مكتوبة بخط اليد إلى حفل بمناسبة تجديد محل إقامة السفير الفرنسي. لم تجد شيئا يثير الاهتمام الفوري في تلك الرزمة، فأعادتها إلى مؤخرة الصندوق وحملت أول ملفين إلى مكتب الكولونيل.
كان الصندوق الأول خليطا من المراسلات بين إسطنبول وسانت بطرسبرج: خطابات شخصية ودعوات وتهديدات مقنعة وأخرى صريحة، وعروض شكاوى واعتذارات، وبعض طلبات اللجوء السياسي. كانت المراسلات في معظمها باللغة الفرنسية، مع استخدام كلمات تركية وروسية حسبما تدعو الحاجة. وكان فحوى معظم الخطابات واضحا، رغم أن القنصل الروسي يشير أحيانا إلى اتفاقيات ومحادثات ومسئولين غير معروفين لها. ظلت إلينورا تقرأ طوال اليوم باستثناء استراحة قصيرة كانت تأخذها لتناول الغداء. وعندما طرق السيد كروم بابها لإبلاغها بحلول موعد العشاء، كانت قد قرأت حوالي نصف الصندوق الأول، ورغم أنه ما زال هناك العديد من الأمور التي لا تفهمها، فقد أدركت الآن الخطوط العريضة للعلاقة بين الروس والعثمانيين.
استغرقت إلينورا كل يوم على مدى أسبوعين في عالم الصناديق، في الأحداث العابرة الدقيقة الخاصة بالدبلوماسية والعداء المتبادل والتحالفات المتقلبة. وبينما كانت تقرأ اتسع فهمها للموقف الجيوسياسي الراهن؛ فقد أجبرت حرب 1878 ومعاهدة برلين التي تلتها العثمانيين على التخلي عن سيطرتهم على معظم الأراضي في جنوب غرب أوروبا؛ وعادت موانئ شبه جزيرة القرم إلى الروس، وأعطيت البوسنة لآل هابسبورج، وولدت بضع أمم بما فيها مملكتا بلغاريا ورومانيا. وفي الوقت نفسه جثمت كل من فرنسا وبريطانيا تراقب المجزرة، متحينة الفرصة المناسبة كالغربان على أعمدة السياج. ولما كان العثمانيون محتجزين بين موسكو وفيينا، وبين لندن وباريس، فقد توجهوا إلى برلين. وبناء على أوامر الصدر الأعظم، عين أمراء البحار الألمان في مناصب مستشارين عسكريين، واستقبل القيصر في إسطنبول بعرض عسكري إمبراطوري، وحصلت الإمبراطورية على قرض ضخم من البنك الألماني بهدف تمويل وصلة إسطنبول-بغداد من سكة حديد برلين-بغداد. وكان القيصر قد كتب في أحد الخطابات الشخصية القليلة التي أرسلها إلى السلطان عبد الحميد الثاني قائلا إن هذا الشريان سوف يدعم كلتا الإمبراطوريتين ويقوي العلاقة بينهما لأعوام عديدة قادمة، ومهر القيصر خطابه بختم رسمي والتحية غير الرسمية على نحو غريب: مع تحيات التحالف، ويلي.
نامت إلينورا بعمق في الليالي الاثنتي عشرة الأولى، وعقلها مشغول بالعلاقات والاحتمالات، ولكن في الليلة الأخيرة السابقة لزيارتها للسلطان لم تتمكن من الخلود إلى النوم. كانت السماء صفحة سوداء حريرية عميقة، تتناثر فيها النجوم كالسكر المسكوب، وهادئة فيما عدا بضع قطط ضالة وحيدة تتجول على الضفة. مرت مجموعة متناثرة من السفن عبر المضيق، وكان القمر مفعما بالوهج المنعكس. تقلبت إلينورا على بطنها وجذبت الغطاء بإحكام حول كتفها. كانت قد قرأت عن الأرق في رسالة أرسطو التي تحمل عنوان «عن النوم والأحلام»، وأيضا في «الساعة الرملية»، وفي تلك الكتب كانت الكلمة تستحضر مشاهد رومانسية مثل الكولونيل الشاب المصاب بالأرق رايسو وهو يتردد على حديقة منزل والده المتوفى حديثا حاملا في يده كوبا من اللبن الدافئ ولحنا ما زال يتكون على شفتيه. ولكن تجربة الأرق نفسها كانت أمرا مختلفا تماما؛ كان ميعاد نومها قد مضى منذ فترة طويلة، وشعرت بمزيج من التعب والقلق وكأن ثقلا يزن خمسة كيلوجرامات معلق في مؤخرة عنقها. كانت ترغب بشدة في النوم، ولكن عقلها لم يستطع التوقف عن العمل، وظلت أطرافها ترتجف في قلق انتظارا للصباح.
كانت قد قرأت محتويات الصناديق كلها، مئات الصفحات من المقارعة بالسيوف والعلاقات الودية الحذرة، ولكنها ما زالت لا تدري كيف تفكر أو ماذا تقول عندما يطلب منها السلطان النصيحة. ونظرا لأن الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية كانتا مقيدتين بلا رحمة بحدود الجغرافيا، فقد كانتا متورطتين في المأزق الدموي نفسه لعدة قرون، تتصارعان على رقع غير ذات أهمية من الأرض، تسلحان الجيوش وتسترضيان القوى العظمى. حتى إذا كانت تعلم ما تقول، فكيف لها - هي إلينورا كوهين - أن تؤثر على تلك القوى الضخمة العنيدة؟
انطلق نفير الضباب ثلاث مرات في تلك الليلة يهدي سفن الشحن اليقظة عبر المضيق، ويقلق ساكني إسطنبول في أسرتهم. وبعد بزوغ الفجر مباشرة، أيقظت النفخة الرابعة إلينورا من غفوة كانت قد استغرقت فيها منذ لحظات، وعلمت أنها لن تتمكن من الخلود إلى النوم مرة أخرى. كان الوقت ما زال مبكرا على الإفطار، ولكن نيران المطبخ كانت قد أشعلت بالفعل. صاح باعة الخبز في أول الشارع وآخره كطيور النورس التي انفصلت عن أسرابها، وتسللت الهرر الباحثة عن فريسة في ممرات ضيقة كريهة الرائحة حاملة غنائمها. وفي نهاية الأمر، أقنعت إلينورا نفسها بأنها لو لم تتمكن من الخلود إلى النوم ففي استطاعتها على الأقل أن تلقي نظرة أخيرة على الصناديق.
لم تتفاجأ بوجود البك في المكتبة، رغم أن مظهره قد صدمها إلى حد ما. كان نائما في مقعده بجوار المدفأة وحلته متجعدة وعيناه متدليتان كالكلاب الخاملة. وكان ثمة فنجان شاي فارغ على المائدة بجواره، بالإضافة إلى مصباح جاز وكومة من الخطابات. أغلقت إلينورا الباب وجلست في المقعد المقابل له، وجذبت ركبتيها نحو صدرها. وبينما كانت تراقبه نائما، أحدث الجمر صريرا في المدفأة وتسللت هالة من ضوء الشمس عبر الستائر. وأخيرا تحرك البك وفتح عينيه. «الآنسة كوهين.»
خفت صوته وهو ينظر حوله في الغرفة. «هل أتى الصباح؟» «نعم يا سيدي، تقريبا.»
وقف وسوى حلته ومرر يده بطول كلا كميه.
قال وهو يلقي نظرة على اللوحة التي تعلو المائدة المجاورة له: «لم أستطع النوم.»
طوت إلينورا ساقيها تحت ثوبها المنزلي. «وأنا أيضا.»
وفي فترة الصمت التي تلت ذلك، أخرج البك نظارته من جيب معطفه الداخلي وبحث عن منديل، ولكنه لم يجد، فمسح نظارته في طرف قميصه، ثم أمسك بخطابين في أعلى الكومة المجاورة له ومد يده إليها بهما، فأخذتهما منه.
قال: «كنت أرغب في أن أنتظر حتى تكبرين قليلا، ولكن الوقت قد حان.»
همست قائلة: «أشكرك، رغم أنني لا أدري ما الأمر.»
قال وهو يأخذ بقية الكومة: «سوف أتركك مع خواطرك.» ثم غادر الغرفة.
كان الخطاب العلوي هو نفس الخطاب الذي وجدته منذ بضعة أشهر في مكتب الكولونيل. كان مغطى ببصمات الأصابع والتراب، ولم يكن يحمل طابع بريد أو ختما أو عنوان مرسل، بل فقط الكلمات «منصف باركوس بك، حاملته إليك السيدة داماكان» على مقدمة الخطاب. رفعته إلينورا إلى أنفها واستنشقت الرائحة. كان ورقه مصفرا عند الحواف ومطويا على هيئة مربع، وأمسكت به بين راحتيها الصغيرتين المرتعشتين. وكان الحبر قد بدأ يميل للون البني، لكنها استطاعت قراءته بسهولة في ضوء الصباح.
عزيزي منصف بك
آمل أن يصلك هذا الخطاب وأنت في سعادة وتتمتع بصحة جيدة، رغم أنه علي أن أعترف أن الشكوك تساورني بشأن ما إذا كان هذا الخطاب سيصل إليك. لست أشك إطلاقا في أمانة السيدة التي بعثت معها بتلك الرسالة، ولا في رغبتها الحارة في توصيلها، بل إنني في حقيقة الأمر أكتب بناء على إلحاحها. ولكن إذا كان لامرأة أن تقطع تلك المسافة الشاسعة وحيدة في غمار المعركة، فلا يسع المرء مع رسول كهذا إلا أن يكون له بعض التحفظات. ولكنني رغم ذلك فإنني على يقين من أنه لا يوجد خيار آخر؛ فأسلاك التلغراف ما زالت معطلة، والخدمة البريدية قد توقفت.
كما تعلم، فقد سقطت كونستانتسا منذ حوالي أسبوعين على يد سلاح الفرسان الملكي التابع للقيصر، وفي أثناء ذلك رأيت أهوالا لم أتخيلها من قبل؛ السلب والنهب والحرق والتخريب المتعمد للممتلكات والاغتصاب الوحشي المتكرر لنساء مدينتنا. لا وقت كي أصف تلك الأحداث، رغم أنها قد حفرت في ذاكرتي للأبد. أعتقد أنه يكفي القول إن الحديث عن سمعة جنود القوزاق ليس مبالغة على الإطلاق، فهم يتسمون بالفظاظة والغلظة والعنف والقسوة والسكر. وللأسف فإن القوات العثمانية ليست أفضل حالا، فقد هرب هؤلاء المئات من الجبناء المتمركزين في كونستانتسا في الليلة السابقة للهجوم تاركين المدينة بلا دفاع. ولكنني لن أعطلك بتلك التفاصيل، فلا شك أنك قد سمعت العديد من الروايات المشابهة، وليس لدي سوى مساحة محدودة كي أوضح لك أمرا غاية في الأهمية. سوف أدخل في الموضوع مباشرة.
في خلال تلك الأحداث العاصفة داهمت زوجتي العزيزة ليئة آلام المخاض، وبعد أن وضعت طفلة تعرضت لنزيف شديد، وغطت صدمة وفاتها على كل مظاهر الفرحة بميلاد طفلتي الأولى؛ فلم أتمالك قواي كي أكتب خطابا إلا الآن بعد مرور أسبوعين على الأحداث التي ذكرتها. أعلم أن تصور سيناريوهات مغايرة لما حدث لا تفيد على الإطلاق، ولكنني لا أملك إلا أن أتساءل ماذا كان سيحدث لو حضر الولادة طبيب المدينة د. هوسيك، الذي كان مشغولا بالعناية بالجرحى؟ فقد حضرت ولادة إلينورا بدلا منه قابلتان تتاريتان أرسلتهما العناية الإلهية إلى باب منزلنا فور أن بدأت آلام المخاض تداهم ليئة.
أخبرتاني بأن ما جذبهما إلى منزلي نبوءة قديمة أنبأت بها مجموعة من العلامات؛ طيور وحلقة من الجياد وطور القمر، شيء من هذا القبيل. علي أن أعترف بأنني لا أفهم طبيعة تلك العلامات، ولست أثق بها كثيرا. ولكنني أعلم أن هاتين المرأتين، وإحداهما حاملة الرسالة، قد قدمتا لي مساعدة قيمة، ولست أدري ماذا كنت سأفعل من دونهما؛ فقد وافقتا على البقاء معي ومساعدتي في إدارة شئون المنزل حتى موعد رحيلهما إلى إسطنبول. وكما ذكرت في برقيتي التي أرسلتها منذ أسبوع، فسوف تبحث كلتاهما عن عمل عند وصولهما إلى إسطنبول، وأوصي بتعيينهما في إدارة شئون أي منزل تراه مناسبا.
أما الآن وقد شارف هذا الخطاب على النهاية، أود أن أطلب طلبا صغيرا خاصا بي. فلما كانت ابنتي قد أتت إلى العالم يتيمة الأم ولا تملك عائلة ممتدة، أشعر بالحاجة لإجراء ترتيبات رسمية في حال حدوث أي مكروه لي. فكما أوضحت لك من قبل، فإنني أعتبرك من أشرف الرجال الذين أعرفهم وأكثرهم استقامة وثباتا على المبادئ، وأتشرف بترك ابنتي في رعايتك لو حدث لي أي مكروه. أرجو أن تدرس ذلك الطلب بمنأى عن الظروف التي وصلك فيها، وآمل أن نلتقي قريبا في ظروف أفضل.
وحتى ذلك الحين سوف أظل
صديقك المخلص
يعقوب كوهين
عندما انتهت إلينورا من قراءة الخطاب، طوته كما كان ووضعته في المظروف. أعادت ربط ثوبها المنزلي، ونظرت إلى الرماد المتبقي من نيران الليلة الماضية. يبدو أن والدها لم يكن يثق كثيرا بعلامات السيدة داماكان، وهي تثق بوالدها أكثر من أي شخص في العالم. ولكن ها هي في الصفحة؛ النبوءة، الجياد والطيور، مصير مكتوب سلفا، قدر عتيق لا تعلم طبيعته. كانت لديها أسئلة كثيرة عن نفسها وعن والدها والسرب الذي يتبعها والسيدة داماكان والبك ومولدها والقابلتين والنبوءة، ولم لم يخبرها أحد بذلك من قبل. كادت تنسى أمر الخطاب الثاني الذي كان موجها أيضا إلى منصف باركوس بك ومختوما بتاريخ منتصف فبراير، وكان أقصر كثيرا من الخطاب السابق. أخرجت الورقة من المظروف وقرأت سريعا.
منصف باركوس بك
أشكرك على التعازي القلبية المخلصة لوفاة زوجي العزيز يعقوب، وأنا أتقبلها وأقدرها بشدة، فقد أخبرني كثيرا كم يحبك ويحترمك باعتبارك صديقا، وذكر لي أيضا ذات مرة أنه قد طلب منك تولي مسئولية إلينورا وحمايتها في حال وقوع أي مكروه له. ورغم أنني كما قلت خالتها وزوجة أبيها، فإنني أطلب التخلي عن تلك المسئولية التي أكد لي يعقوب أنك قبلت تحملها بصدر رحب؛ فلست في موقف يسمح الآن بالعناية بطفلة صغيرة. وأما عن الشئون المالية التي أشرت إليها في برقيتك السابقة، فيمكنك أن تستفيد من أي أموال قد جناها يعقوب أثناء إقامته في إسطنبول، وسوف أتدبر أموري بطرق أخرى.
وأشكر لك تفهمك في هذا الوقت العصيب.
روكساندرا كوهين
وقفت إلينورا ووضعت الخطابين أمامها على المائدة. ولما كان والدها غائبا، لم يكن هناك سوى شخص واحد في العالم تأمل أن يهدئ طوفان الأسئلة الذي يدور في عقلها. أدارت المقبض وخرجت من المكتبة إلى الممر الذي يضيئه القمر، وبذلت أقصى جهدها كي تهدئ من أفكارها وتركز على المهمة الحالية، فتوقفت ووضعت يدها على صدرها. كان قلبها يخفق بقوة عبر القماش الرقيق لرداء نومها. أخذت نفسا عميقا وصفت ذهنها، وسارت خطوة بخطوة بطول محيط غرفة الطعام تحت ضوء الثريا الخافت مرورا بباب المطبخ.
كان المطبخ باردا خاليا من السجاد، يفوح برائحة زيت الطهي والبصل. وفيما عدا سلسلة من المقليات التي تتدلى من فوق الموقد، لم تكن ثمة أي زخارف تذكر. وفي الجانب البعيد من الغرفة كانت توجد ثلاثة أبواب مثبتة بأدوات حديدية ثقيلة. كانت تعلم أن الباب الذي يقع في الجانب الأيسر يقود إلى ساحة صغيرة بالخارج، والباب الذي يقع في الجانب الأيمن يقود إلى حجرة المؤن، أما الباب الأوسط الذي يعلو البابين الآخرين بارتفاع بضع أصابع فهو يقود إلى جناح الخدم.
انفتح الباب بسهولة كاشفا عن درج خشبي منحدر يتلاشى في ظل ضوء شمعة خافت. صعدت إلينورا الدرجة الأولى محدثة صوت صرير، وأغلق الباب خلفها. وضعت يدها على الدرابزين الحديدي البالي، وصعدت خطوة خطوة إلى ردهة في الأعلى. كان بوسعها أن ترى الآن أن ضوء الشمعة يتسلل من أسفل أحد البابين. أملت بشدة أن تكون تلك غرفة السيدة داماكان، وإن كانت غرفة السيد كروم فسوف تدعي أنها تبحث عمن يساعدها في شأن نسائي. لم تكن تعلم ما هو ذلك الشأن النسائي، ولكنها تعلم أن ذلك سوف يقودها إلى مكان السيدة داماكان دون مزيد من الأسئلة. أخذت إلينورا بضعة أنفاس مكتومة أمام الباب قبل أن تطرقه بهدوء شديد. مرت برهة طويلة، ثم سمعت سعالا وصوت جرجرة قدمين على الأرض، ثم فتح الباب. إنها السيدة داماكان.
صاحت في دهشة وهي تضع يدها على كتف إلينورا: «عزيزتي، ماذا تفعلين هنا؟»
حاولت إلينورا أن تجيب، ولكن طوفانا من المشاعر اجتاحها. بدأ الأمر بنشيج مكتوم وشعور بالاختناق وانفجار في الدموع، ثم شعرت بارتياح يسري في أوصالها بدءا من جوفها مرورا برئتيها وحلقها كما لو كان كائنا بحريا شاحب العينين يبرز إلى سطح الماء أخيرا بعد عقود من سكنى الأعماق. وعندما فتحت فمها، ارتجف جسدها النحيل. ضغط الأسبوعين الماضيين، والنبوءة، والسلطان، وكل الأسئلة التي تراودها، كل ذلك ظهر في صورة انهيار. دفنت إلينورا وجهها في حضن الخادمة العجوز وبكت؛ بكت على والدها ووالدتها وعلى كونستانتسا، وعلى السيدة داماكان وابنة أخيها، وعلى المعاناة التي لم تكن تدر شيئا عنها، ولكن في المقام الأول بكت رثاء لحالها وعلى استبعاد وجودها والشك التام في موقعها في هذا العالم.
وعندما أنهكت قوى إلينورا، جلست فترة طويلة على حافة الفراش تحدق في الشمعة. ظلت السيدة داماكان تضمها وتداعب شعرها وهي تهمس بلغة لا تفهمها إلينورا. وأخيرا اعتدلت إلينورا واعتذرت بصوت خافت.
قالت وهي تمسح دموعها في كم ثوبها: «أنا آسفة، آمل ألا أسبب لك إزعاجا.» «كلا، على الإطلاق.»
نظرت إلينورا إلى يديها التي تختبئ في طيات ثوبها المنزلي. كان وجود السيدة داماكان فحسب كافيا لتهدئتها.
قالت الخادمة العجوز وهي تداعب شعر إلينورا: «إنك طفلة شديدة التميز، وأنت تعلمين هذا، أليس كذلك؟»
فتمتمت إلينورا تعبيرا عن الموافقة. «أنت تعلمين أنك متميزة، ولكن أعتقد أنك لا تدرين كيف ذلك.»
فهزت إلينورا رأسها.
تابعت السيدة داماكان: «لآلاف الأعوام تناقل قومي نبوءة تنبأ بها آخر ملوكنا العظام في ساعته الأخيرة على فراش الموت، بقدوم فتاة صغيرة تغير مجرى التاريخ وتحرر شعبنا. وثمة علامات لمولدها: رقعة كبيرة من الجياد، ومحفل من الطيور، والنجم القطبي بمحاذاة القمر، واثنان من شعبنا. وعن طريق تلك العلامات سوف نعرف أنها هي الفتاة المقصودة.»
نظرت السيدة داماكان إلى إلينورا بمزيج من الخوف والإجلال، ووجهها يظلله وميض الشمعة. «إنك هي.»
قاطعت إلينورا نظرة السيدة داماكان ونظرت للأسفل نحو بحيرة دموعها. سواء أكانت تصدق تلك الكلمات أم لا، فقد ارتجف جسدها حتى النخاع لتلك الكلمات التي قيلت بهذا اليقين الذي لا يتزعزع.
ولكنها أصرت قائلة: «وماذا عن السلطان والصناديق؟ ماذا يفترض أن أفعل غدا؟ لست أدري ما أقول، وكيف لي أن أكون ذلك الشخص الذي تتحدثين عنه إذا لم أكن أعلم ماذا أقول؟»
ابتلعت السيدة داماكان لعابها وأغمضت عينيها. «ثقي بنفسك، واستمعي إلى صوتك الداخلي. هذا كل ما لدينا الآن.»
الفصل الثاني والعشرون
بينما كانت السيدة داماكان تثبت المشابك في ظهر ثوب إلينورا واحدا تلو الآخر كما لو كانت درجات سلم غير ثابت، استغرقت إلينورا لحظة كي تتأمل نفسها في مرآة مائدة الزينة. كان الإرهاق باديا عليها بوضوح، فعيناها ذابلتان عند الأطراف ووجنتاها شاحبتان كالخزف، ومهما حاولت أن تهدئ من ارتجاف يديها فقد ظلتا ترتجفان قليلا إلى جانبها. لم تتناول أي شيء في الإفطار ذلك الصباح، وشعرت أن معدتها ملساء كحوض استحمام خال. لم تتفوه هي أو السيدة داماكان بكلمة عن الحوار الذي دار بينهما منذ بضع ساعات، ولكن ذكراه كانت تحوم حولهما. كان خطاب والدها ودليل مادي على غيابه كافيين كي تفقد أعصابها، وبالإضافة إلى ذلك كان عليها أن تستوعب روايته القاسية عن مولدها والنبوءة (مهما تكن صحتها) وخطاب روكساندرا. رمقت نفسها في المرآة، وشعرت برعب الانتظار في أخمص قدميها وفي أعصابها كمجسات كثيرة تتحسس العالم من حولها. لم تكن ترغب في الذهاب إلى القصر، ليس الآن، وليس وهي في تلك الحالة، ولكن لا أحد يستطيع رفض طلب للسلطان؛ حتى لو كان ذلك ممكنا فقد تأخر الوقت كثيرا. وبينما كانت السيدة داماكان تربط المشبك الأخير في عروته، توقفت العربة الملكية عند منزل البك، وبعد مرور بضع لحظات طرق الباب الأمامي.
انطلقت العربة حاملة إلينورا ورسول السلطان صامتين مارة بالبحارة المتثائبين والحراس الليليين وهم يراقبون الجمر الخامد في المجامر. مرا بمجموعة من طلبة المدارس الثرثارين خارج البازار المصري، عبر مجموعة متناثرة من المستجدين السائلين صعودا إلى بوابة السلام. وبينما كانت بوابات القصر الداخلية تفتح، لمس رسول السلطان ركبتها.
قال وهو يجذب جفنه السفلي كاشفا عن حافته الممتلئة بالعروق: «خذي حذرك، فأنت كل ما نملكه.»
ودون أن يتفوه بكلمة أخرى، ودون حتى أن يلقي نظرة خلفه، قاد الرسول إلينورا عبر حدائق القصر حتى أودعها أمام راية النبي محمد عليه الصلاة والسلام. اقتيدت إلى غرفة المقابلات مباشرة، ولاحظت وهي تنحني أن الغرفة شبه خالية. فبالإضافة إلى السلطان وهي شخصيا والقليل من الحرس، لم يكن يوجد أحد سوى شخصين تعرفت على أحدهما؛ إنه الصدر الأعظم، والآخر امرأة أكبر سنا لم ترها من قبل. «صباح الخير أيتها الآنسة كوهين.»
عندما تحدث السلطان، توقف كل من في الغرفة عما يفعلونه والتفتوا نحوه. «صباح الخير يا فخامة السلطان.» «أرجو أن تكون رحلتك إلى القصر لطيفة.» «نعم، كثيرا.» «إنني سعيد لسماع ذلك.»
وتابع قائلا وهو يومئ إلى الصدر الأعظم: «هل قابلت جمال الدين باشا؟» «نعم يا فخامة السلطان.»
لم تكن إلينورا والصدر الأعظم قد تعرفا رسميا حتى الآن، ولكنها تعرفت عليه من المقابلة الماضية.
قال وهو يومئ إلى المرأة الأكبر سنا التي تقف على يساره: «ولكنني أعتقد أنه علي أن أقدمك إلى أمي، السلطانة الأم. لقد تأثرت كثيرا بحديثي عن المقابلة الماضية ورغبت في أن تحظى بالفرصة كي تقابلك شخصيا.»
كانت والدة السلطان إنسانة أنيقة راقية، تتدلى المجوهرات من عنقها، وجسدها غارق في العطور.
قالت إلينورا وهي تنحني مرة أخرى: «تشرفت بمقابلتك.» ولكنها لم تكن انحناءة عميقة كالسابقة عندما دخلت الغرفة. «إن الشرف لي يا عزيزتي.»
قال السلطان وهو يطوي يديه تحت ذقنه: «قبل أن نشرع في عملنا الرسمي، أود أن أبلغك أن فريق المترجمين لدينا قد انتهى من ترجمة المجلد الأول من «الساعة الرملية» إلى التركية، وقد بدأت أقرؤها منذ بضعة أيام فحسب، ولكنني أدركت بالفعل سبب استمتاعك بها كثيرا إلى ذلك الحد.»
هزت إلينورا رأسها. لم تكن متزنة بسبب سرعة الانحناء، وتدفق في رأسها طوفان من المشاهد من «الساعة الرملية»: الآنسة هولفرت تختبئ متكومة على نفسها في قبو المنزل الريفي الخاص بابن عمها، والملازم براشوف وهو يمر عبر المدن التي تتوهج بالمشاعل والمدفعية الثقيلة، والقاضي رايكو وهو يضحك بطريقة لا يمكن التحكم بها في قاعة المحكمة المزدحمة. مر كل ذلك في رأسها، ولكنها لم تستطع أن تفكر كيف تجيب السلطان؛ كل ما تبادر إلى ذهنها هو أحد سطور المجلد الرابع: «جذبه خيط القدر عبر الدنس والأشواك والمصاعب والمأساة وليالي الأرق التي لا تحصى. كان يبدو أحيانا كما لو كان صراعا غير ذي جدوى، ولكنه عندما وصل إلى خط النهاية أخيرا فهم أن كل ذلك كان ضروريا .» هل كانت كل حياتها السابقة مجرد إعداد لتلك اللحظة؟ أومضت بعينيها وتماسكت. «نعم يا فخامة السلطان.»
قال السلطان وهو يتكئ على مرفقه: «ثمة أمر آخر، فكما تعلمين فإنني أهوى مشاهدة الطيور منذ أعوام عديدة، وتعد إسطنبول ملتقى عدة أنواع من الطيور المهاجرة، ويوفر القصر موقعا مثاليا لملاحظة حركاتها. وفي الشهور القليلة الماضية، لاحظت أكثر من مرة سربا غريبا من الهداهد الأرجوانية الجاثمة حول منزل منصف بك. لن أزعجك بملاحظاتي، ولكن تلك الطيور ليست مألوفة في المنطقة، وتشير الكتابات إلى أنها كائنات منعزلة في المقام الأول. أرغب في معرفة خواطرك عن هذا الأمر، على الأقل لأن السرب يبدو مرتبطا بك إلى حد ما.»
توقف متيحا لها الفرصة كي تجيب.
فقالت إلينورا: «إنه سربي؛ لقد كان معي عندما ولدت، وتبعني من كونستانتسا إلى هنا.»
طبقا لخطاب والدها وحديث السيدة داماكان، فإن سربها يرتبط أيضا - على الأقل رمزيا - بالنبوءة. ولكنها رأت أنه من الأفضل ألا تفصح عن هذا الارتباط؛ فهي شخصيا لا تفهمه فهما تاما.
ردد السلطان: «سربك! إذن فالأمر بتلك البساطة.»
فابتسمت إلينورا مؤكدة هذا الأمر.
تابع السلطان مغيرا الموضوع: «على أي حال أعتقد أنك تصفحت المستندات التي أرسلناها إليك، وأنك وجدتها مشوقة.» «نعم يا فخامة السلطان، لقد قرأتها.» «وماذا كان انطباعك عنها؟»
فبدلت إلينورا مكان قدميها على الأرض.
ثم قالت: «وجدتها ممتعة للغاية. ثمة بضعة خطابات لم أفهمها جيدا، ولكن بالنسبة إلى معظم الخطابات فقد وجدتها ممتعة للغاية.» «أي خطابات لم تفهميها؟» «يصعب تحديد ذلك.»
وجهت حديثها إلى الصدر الأعظم الذي وجه إليها السؤال، ثم تذكرت قواعد البروتوكول فالتفتت مرة أخرى إلى السلطان. «كان ثمة خطاب، على سبيل المثال، من القنصل الروسي إلى القصر يحدد شروط تبادل الأسرى، وكذلك كان ثمة مسودة أولية لمعاهدة سان ستيفانو. ولا أظن أنني أفهم السياق السياسي لأي من الموقفين.»
طمأنها السلطان قائلا: «مع هذا الكم الكبير من المستندات وتلك السياسات المعقدة، لم نتوقع منك أن تفهمي كل التفاصيل، رغم أنه بوسعنا بالطبع أن نقدم لك مستندات توضح سياق كلا الموقفين.»
التفت إلى الصدر الأعظم قائلا: «هل ستتولى ذلك الأمر؟» «نعم يا فخامة السلطان.»
واصل السلطان حديثه ملتفتا مرة أخرى إلى إلينورا: «والآن رغم أنك لم تحظي بالفرصة لقراءة كل المستندات ذات الصلة بالموضوع، فإنني أود أن أسمع انطباعاتك عن الموقف ككل، بالإضافة إلى أي نصيحة يمكنك تقديمها حول تصرفنا في المستقبل.»
أحكمت إلينورا إطباق قبضتيها وهي تغرس أظافرها في راحتيها. كانت صعوبة السؤال الذي وجهه إليها السلطان تحيط بها كغيمة من البعوض. فتحت فمها كي تعتذر، كي تخبرهم بأنها تشعر بالتعب الشديد، وبأنها بأمانة شديدة لا تملك انطباعا عن الموقف ككل، ولكن قبل أن تتحدث اندفعت والدة السلطان قائلة: «أتعلمين أن نصيحتك السابقة للسلطان قد نفذت بالفعل؟ وحتى الآن على الأقل فهي ناجحة.»
قالت إلينورا: «كلا، لم يكن لدي علم بذلك.» «لقد نشر الأمر في الصحف المحلية.» «ولكنني لا أقرأ الصحف المحلية.»
تابع الصدر الأعظم قائلا وهو يدون شيئا ما في مفكرته: «لقد نشر في الصحف العالمية أيضا.»
قالت إلينورا: «إنني لا أقرأ أي صحف على الإطلاق، وأعتذر إذا كان من المفترض أن أقوم بذلك، ولكنني ظننت أنه علي قراءة محتويات الصناديق فحسب.»
وضع الصدر الأعظم مفكرته جانبا. بدا كما لو كان سيطرح سؤالا، ولكنه جعد أنفه فحسب.
قال السلطان: «لقد كانت خطتك ناجحة تماما؛ فعندما رأى الروسيون أننا لن نشتبك في القتال، توقفوا عن مضايقتنا وعادوا إلى سيفاستوبول. وأما الألمان فقد شعروا بالضيق في بادئ الأمر، ولكنهم في النهاية بدت عليهم السعادة لتجاهلنا اقتراحهم بالاشتباك في القتال.»
توقف السلطان ونظر في عيني والدته. «ولذلك السبب أود أن أسمع انطباعاتك عن موقفنا السياسي بوجه عام.»
مسحت إلينورا راحتيها في ظهر ثوبها وابتلعت لعابها. كما قالت السيدة داماكان، عليها أن تثق بنفسها؛ ليس أمامها سوى ذلك، وتمنت لو كان في وسعها أن تفكر في اعتذار مناسب. تزاحمت في عقلها صور الخلفاء والمفتين، والملوك القدامى والعواصم المهجورة.
قالت متشبثة بأول خاطرة مكتملة خطرت في بالها: «إن موقف الإمبراطورية بوجه عام لا يختلف كثيرا في رأيي عن موقف الهيركانيين كما وصفه زينوفون في روايته «سايروبيديا».»
توقفت إلينورا كي ترى مدى تأثير هذا التشبيه، ولكن لم يبد أن أحدا من الحاضرين يعلم شيئا عن الهيركانيين، أو عن زينوفون من تلك الزاوية. «كان الهيركانيون تابعين لجيرانهم الأكثر قوة - الآشوريين - الذين كانوا يستغلونهم أسوأ استغلال في شئون السياسة، بالإضافة إلى الشئون العسكرية. وفي الموقف الذي يصفه زينوفون، أعطيت الأوامر للفرسان الهيركانيين بحماية مؤخرة سارية آشورية، حتى إذا حل أي خطر من الخلف يتحملون هم وطأته، ولكن ...»
توقفت إلينورا لحظة كي تبلل شفتيها بلسانها، وعندما فعلت ذلك أصيبت بدوار. انقشعت غيمة عن أشعة الشمس التي أشرقت في الغرفة، مضيئة رقعة الرخام التي تقف عليها.
قالت محاولة ترتيب أفكارها: «وبينما هم ...»
وهنا انهارت إلينورا. جثت أولا على ركبتيها، ثم ارتجفت ارتجافة شديدة وانهارت حتى سقطت على الأرض. وعلى الأرض في منتصف غرفة مقابلات السلطان دخلت في نوبة من التشنجات، وتوقف عقلها عن العمل تماما.
رغم أن إلينورا كانت قد قرأت القرآن كاملا، بل وحفظته في الواقع، فإنها لم تلق بالا لمسألة الوحي. وإذا لم تستحضره الظروف، فلم تكن تفكر في محتوياته إلا نادرا. ومن العجيب أن سورة الغاشية كانت أول ما خطر ببالها عندما فتحت عينيها، وأغمضت عينيها وفتحتهما مرة أخرى في محاولة لإدراك ما يحيط بها:
فيها عين جارية * فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة . وعبر باب مفتوح استطاعت أن ترى ساحة واسعة تمتلئ بفتيات جميلات ينقرن على الآلات الوترية ويهمسن بعضهن لبعض في نبرة ضاحكة. ها هي العين الجارية، والبسط الممدودة، والنمارق المصفوفة.
كانت ترقد ووجهها للأسفل على أريكة مرتفعة في منتصف غرفة صغيرة متفرعة من الساحة، وكان رأسها مسنودا بمجموعة من الوسادات المخملية، وقدماها حافيتان. شعرت بالخدر والوخز في يدها اليمنى، وسرعان ما اكتشفت أنها عالقة بين جسدها والوسادة. وبصعوبة شديدة تمكنت من جذب يدها من تحتها وانقلبت على ظهرها، وعندما فعلت ذلك رأت أن والدة السلطان تقوم على رعايتها. حاولت أن تجلس، ولكنها عندما رفعت رأسها اخترقها ألم حاد من صدغها حتى الجهة الأخرى. وهنا فحسب تذكرت نهاية السورة وبدت منطقية لها:
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر . «ليس عليك أن تتحركي، اهدئي وارقدي هنا فحسب.»
لمست والدة السلطان جبهة إلينورا بظهر يدها ثم رفعت كأسا كبيرة إلى شفتيها.
قالت: «هيا، اشربي هذا.»
كانت الكأس تحتوي على شراب ذي لون أحمر داكن، وبنكهة الرمان ذي المذاق الحلو دون الأنسجة القاسية. وعندما انتهت إلينورا من تناول الشراب وضعت والدة السلطان الكأس نصف الفارغة على الأرض. «لقد كنت عطشة.»
هزت إلينورا رأسها ووضعت يدها الخدرة المتعرقة على جبهتها. كانت ترغب في أن تسأل عن مكانها وما حدث، وما إلى ذلك، ولكنها كانت تشعر بالتعب لدرجة تمنعها من الحديث، بل حتى من التفكير.
قالت والدة السلطان: «إن السلطان مهتم جدا بصحتك، وفور أن قرر الطبيب أن حالتك مستقرة أصر على إحضارك إلى هنا في جناحه الخاص؛ ظنا منه أنه أكثر الأماكن راحة كي تستعيدي صحتك وتتعافي.»
حاولت إلينورا أن تتحدث مرة أخرى، ولكن الكلمات لم تخرج، بل فقدت في الطريق من عقلها إلى فمها، وعندما كانت تدرك أن الكلمات ضاعت منها كانت تنسى ما ترغب في قوله. «خذي رشفة أخرى من عصير الرمان، فسوف يمدك بالطاقة.»
وبينما كانت إلينورا تشرب، شعرت بالقوة تتدفق في عروقها، وبالسكر وهو يضخ في دمها، ولكن رغم القوة كان عقلها مشوشا.
سألتها والدة السلطان وهي تداعب ظهر يدها: «ماذا تذكرين؟ هل تذكرين ما قلته لنا؟»
رفعت إلينورا ذقنها كي تهز رأسها. «ألا تذكرين أي شيء أخبرتنا به؟ حول الكاهن مولر والأحجية؟ حول منصف بك والشاب الغريب في مقهى أوروبا؟»
همست بصعوبة قائلة: «كلا، ماذا قلت؟» فلم تكن تذكر شيئا سوى الهيركانيين.
قالت والدة السلطان: «ليس مهما.» وقفت وأزاحت خصلة من شعر إلينورا عن جبهتها، ثم تابعت قائلة: «من الأفضل بالفعل أنك لا تذكرين شيئا.»
أراحت إلينورا رأسها على الوسادة ونظرت مرة أخرى إلى الساحة التي تضم الفتيات وآلاتهن الوترية، وحاولت أن تتذكر ما قالته. وعندما لم تتمكن من ذلك، أعادت أفكارها إلى الأمور المحيطة بها حاليا.
تساءلت إلينورا: «من هؤلاء؟ هل هن موسيقيات السلطان؟»
قالت والدة السلطان وهي تنظر خلفها كي تخفي ابتسامة: «نوعا ما، فالموسيقى نشاط شائع بين من يعشن في جناح الحريم.»
سألت إلينورا: «وهن يعشن هنا؟ كلهن؟»
أجابت: «نعم، كلهن يعشن هنا.» «وأين أهلهن؟»
توقفت والدة السلطان كما لو كانت لم تفكر في هذا السؤال من قبل.
قالت أخيرا: «معظمهن يتيمات، ومن أهلهن على قيد الحياة أرسلوهن إلى هنا كي يحسنوا من وضعهن. فكما تعلمين، لقد كنت يوما جارية شابة في بلاط السلطان أحمد الرابع والد عبد الحميد.» «هل كنت يتيمة؟»
استغرقت والدة السلطان بعض الوقت كي تجيب عن هذا السؤال.
قالت أخيرا: «نعم، لقد فقدت والدي كليهما في سن مبكرة مثلك.»
في وقت لاحق من ذلك المساء أعيدت إلينورا إلى منزل البك، وقضت معظم الأسبوع التالي راقدة في الفراش. ظلت الستائر مسدلة والأغطية محكمة حول ذقنها، وأخذت تتناول الخبز المحمص المبلل بالشاي، وتشرب كميات كبيرة من عصير الرمان حتى اصطبغت أسنانها بلون أرجواني عند الحواف. لم تكن مريضة أو جريحة، ولكنها أوضحت للبك وللسيدة داماكان وللعدد اللانهائي من الأطباء الذين أرسلهم القصر، أنها فقدت قواها فحسب، كما لو كانت أصيبت بثقب في قلبها فانسكبت منه كل طاقتها. وكان للأطباء تفسيرات أخرى أكثر علمية، تتراوح بين الصرع إلى التهاب السحايا إلى مرض السكر، ولكن أحدهم لم يستطع الجزم بحالتها. والأمر لا يهم في الحقيقة، فأيا كان ما أصابها فها هي الآن تتعافى.
في تلك الأثناء، كانت إسطنبول تتبادل الشائعات ما بين همهمة وغمغمة. ففي نفس اللحظة التي كانت العربة الملكية تعيد فيها إلينورا عبر جسر جالاتا، كانت قصة النوبة التي أصابتها قد تسربت عبر بوابات القصر وانحدرت أسفل التل نحو وسط المدينة. وإذا أصغيت السمع فسوف تتمكن من سماع صوت الشائعات الواضح الذي هبط من أعلى كسرب من الجراد، وانطلق من منزل إلى آخر وهو يحدث طنينا. ولما كانت الألسن تتناقله باستخفاف، فقد ظل يتحول وهو ينتشر. لم تكن إلينورا قد ارتكبت خطأ أو أمرا مشاكسا أو لا أخلاقي، وهكذا فلم تكن فضيحة بالمعنى الكامل للكلمة؛ ولكن في الوقت نفسه لا ينكر المرء أنها قصة مشوقة. ورغم أن إسطنبول مدينة تضم مليوني نسمة وكثيرا من الأحياء السكنية، وتتحدث عشرات اللغات، فقد كانت الشائعات تنتشر عبرها كما لو كانت قرية صغيرة. وعندما تسلقت إلينورا فراشها الأبيض الدافئ واستغرقت في النوم، كانت الشائعة قد انقسمت بالفعل إلى فريقين متقابلين.
انتشر الفريق الأول الذي اعتقد أن إلينورا عرافة أو متنبئة بالمستقبل من نوع ما على ضفاف البوسفور، متوقفا عند المنازل الصيفية للأثرياء في طريقه إلى جزر الأمراء. ظل خبر الشائعة يحاك على جزر الأمراء بضعة أيام، يطوف بكل المهرجانات وحفلات العشاء قبل أن يعود إلى إسطنبول نفسها على ظهور الخدم. أما الفريق الثاني الذي زعم أن إلينورا جاسوسة بريطانية أرسلت كي تفسد التحالف العثماني الألماني، فقد انطلق عبر جسر جالاتا صاعدا التل حتى بيرا، حيث تناقلته الجاليات الأجنبية فيما بينها همسا، ناظرين خلفهم بين حين وآخر كي يتأكدوا من عدم وجود جواسيس آخرين يسترقون السمع إليهم. وداخل القصر سادت الرواية الأولى، ودعمتها روايات من رأوا رأي العين النوبة التي داهمت إلينورا في غرفة المقابلات، ولكن بعض الفصائل - ومنهم الصدر الأعظم - تمسكوا بالجزء الثاني من الشائعة وظلوا يرددونه، مصرين أن إلينورا عميلة أجنبية.
الفصل الثالث والعشرون
استمر سقوط منتظم لقطرات المطر حتى بداية الصباح، يزيل التراب عن الأسطح القرميدية الحمراء لكلية روبرت، ويعيد بعض الرونق إلى أوراق النباتات الموجودة فيها. ورغم أن النوافذ مغلقة بإحكام، كان مكتب الكاهن يفوح برائحة الأرض الرطبة وحبوب اللقاح، وهي نفس رائحة حقل الهندباء البرية الذي يقع خلف القديس إغناطيوس. أطبق الكاهن على حافة القلم بأسنانه متيحا لنفسه الاستغراق في حلم يقظة قصير. تدفق الماء في المزاريب، وبدا الضوء الذي تسلل من زجاج النافذة الملطخ فوق مكتبه كما لو كان مغسولا، كما لو كان هو أيضا مغمورا بالماء. ولكن رغم روعة الضوء، فعليه أن يركز في المهمة التي يقوم بها. بسط راحتيه على كل من جانبي الخطاب الذي أمامه، وقرأ ما كتبه حتى الآن.
عزيزي دونالد
آمل أن يصلك خطابي وأنت تتمتع بموفور الصحة والسعادة، وأن تعذرني لغيابي الطويل.
غطى الكاهن قلمه، وسار على مهل عابرا غرفة المكتب حتى المدفأة. كانت الكلمة الصحيحة هي «تأخري» وليس «غيابي»، ولكنه لم يكن في مزاج يسمح له بإعادة كتابة الخطاب من جديد. فعندما يتعلق الأمر بموضوعات ضرورية، فهو لا يهتم بما يقوله دونالد ستورك عن أسلوبه في الرسائل وما إلى ذلك. أما السبب وراء استمرار المراسلات بينهما تلك الفترة الطويلة، فهو أمر متعلق بالانصياع والمجاملة لا الصداقة، فلم يكن الكاهن بالطبع مهتما بمغامرات دونالد في وول ستريت ولا الحفلات التي يحضرها هو وزوجته. وإحقاقا للحق، فإن جيمس لا يتخيل أن دونالد يهتم بالأوضاع المعقدة في مجتمع إسطنبول أو بالتطور المنتظم لكلية روبرت. استند الكاهن مولر على الحجر البارد للمستوقد، ولاحظ أن نباتاته أصبحت ذابلة. وذكر نفسه أنه عليه التحدث إلى السيدة إسكي أوغلو بشأن الطريقة المناسبة للاعتناء بنباتات الزينة، حتى وهو يسجل تلك الملحوظة في ذهنه كان يدرك أنها ستتوه في زحام المهام التي عليه الاهتمام بها قبل تناول عشائه ذلك المساء مع فريدريك.
من بين كل أصدقائه في كلية ييل، كان فريدريك ساتون آخر من يتوقع جيمس أن يأتي إلى زيارته. لا لأنهما لم يكونا صديقين مقربين، ولكن لأنه لما كان كلاهما ابنا لعائلة من الطبقة العاملة، فقد كان هو وفريدريك يتشاطران مزيجا لا مفر منه من الانجذاب والتنافس، ولكن أمواج الحياة قد جرفتهما في اتجاهين متقابلين؛ الكاهن مولر إلى النسيج، وفريدريك إلى الكدح الوضيع في عالم الصحافة. ولكن بالإضافة إلى ذلك التباعد الوظيفي، لم يكن فريدريك كاتب خطابات على مستوى عال. ظلا يتبادلان البطاقات البريدية بضعة أعوام بعد التخرج، ولكن تلك المراسلات مع تفقد المستجدات في حياة كل منهما سرعان ما تلاشت حتى انتهت. وظل الكاهن مولر يعلم أخبار فريدريك عن طريق أصدقاء آخرين أكثر اهتماما به، فعلم بأمر الترقيات والعلاقات والانتقال إلى نيويورك، ولكنه لم يتلق أي خطاب من الرجل منذ عامين على الأقل. حتى شهر مضى، عندما وجد برقية صفراء على مكتبه تحمل الرسالة التالية:
أحضر إلى إسطنبول في الثاني من أغسطس. على الخطوط الهولندية الأمريكية. أراك في ذلك الحين يا صديقي. فريدريك ساتون.
على الرغم من جناح الضيوف الوثير المتاح في كلية روبرت، أصر فريدريك على البقاء في فندق بيرا بالاس. شعر جيمس بالضيق إلى حد ما لقرار صديقه بالإقامة في فندق، ولكن في النهاية ربما كان ذلك لصالحه؛ فلديه الكثير من العمل كي ينجزه خلال الأسبوعين التاليين، وآخر ما يحتاجه هو ضيف يكرم وفادته. ذلك المساء على وجه التحديد، كان يرغب في أن ينهي خطابه إلى دونالد ستورك، ويعد الخطوط العريضة للتقرير الذي سيرفعه إلى نائب القنصل الأمريكي ويستعرض المسودة النهائية لمقاله حول المظاهر المختلفة للعبقرية أثناء الطفولة. ولكنه قبل أن يستغرق في العمل مرة أخرى خطر له أنه من الأفضل الخروج في نزهة قصيرة سيرا على الأقدام كي يصفي ذهنه.
كان الهواء بالخارج مشبعا ببخار الماء، والشمس تتسلل أشعتها عبر مجموعة من السحب السريعة الحركة. كانت الأشجار تتدلى بالطحالب الندية، وخارج مكتبه بالضبط أخذت مجموعة من طلاب السنة الأولى تمارس لعبة جماعية بالكرة. رفع يده ملقيا التحية على طلابه وهو يعبر الساحة الرئيسة حتى موقعه المفضل للتأمل، وهو مقعد خشبي يطل على البوسفور. بدا أن العاصفة قد أخلت الطريق حتى جزر الأمراء؛ حيث كان سرب من السفن يسير مسرعا تحت ستارة منخفضة من السحب الرعدية. حجب عينيه من أشعة الشمس وقطب جبينه. ربما كانت إحدى تلك السفن هي ما تقل فريدريك، لن يعلم أحد أبدا. وبعد ساعة تقريبا من التأمل، نهض الكاهن وذهنه صاف، وقد أخذ قرارا جديدا بإنجاز ما يتحتم عليه إنجازه. كان يسير في الممر الضيق بين الكنيسة ومكتبه وهو يخطط في ذهنه الجزء التالي من خطابه إلى دونالد ستورك عندما استوقفه أحد الطلاب، وهو غلام نحيل كان قد استخدمه منذ عدة شهور كي يراقب تحركات إلينورا. كان الصبي يلهث وياقة قميصه ملطخة بالعرق، واستغرق لحظة كي يلتقط أنفاسه.
قال: «هل سمعت الأخبار يا سيدي؟»
هز الكاهن رأسه بلا مبالاة، معطيا الصبي الإذن كي يواصل حديثه.
قال: «الآنسة كوهين، لقد كانت في قصر السلطان أمس وسقطت مغشيا عليها، وأخذت ترتجف على الأرض وتتحدث بلغة غير مفهومة.»
قال الكاهن بصوته الذي يحمل نبرة تحذير: «بني، فكر فيما تقول. ترتجف على الأرض؟ تتحدث بلغة غير مفهومة؟ يصعب علي تصديق ذلك. أخبرني أين سمعت بالأمر.» «الجميع يتحدثون عن ذلك يا سيدي.»
انحنى الكاهن حتى مستوى عيني الصبي ووضع يده برقة على كتفه. «من هم الجميع؟»
قال الصبي وهو يمسح العرق عن شفته العليا: «لقد سمعت ذلك أمس من شقيقي، ثم سمعناه مرة أخرى في المقهى، وقالت لي أمي إنها سمعته من صديقتها التي يعمل شقيق زوجها في القصر.» «هل هذا كل ما سمعته يا بني؟»
فهز الصبي رأسه. «هل أنت على يقين من ذلك؟» «نعم يا سيدي.» «أشكرك، يمكنك الانصراف.»
راقب الكاهن مولر الصبي وهو يهرع في الممر، ثم فرك صدغيه وحاول أن يتخيل الآنسة كوهين وهي ترتجف على الأرض وتتحدث بلغة غير مفهومة. كانت صورة غريبة، ولكنها لم تكن مستحيلة؛ فقد رأى أمورا أغرب من ذلك بلا شك. والآن بعد أن فكر في ذلك الاحتمال، بدت له فكرة أنها قد تكون مصابة باضطراب عصبي - كالصرع، أو ربما التهاب الدماغ - أقرب إلى المنطقية، فتلك الحالة تفسر الارتجاف والحديث بلغة غير مفهومة. وإذا تعمق في بحث هذا الأمر فقد يفسر أيضا قدراتها الخارقة فيما يتعلق بالذاكرة. ومع ذلك، فعلى المرء ألا يصدق كل ما يسمعه في تلك المدينة. كان الكاهن قد تعلم هذا الدرس بالتجربة، بعد أن أعطى مديريه معلومات زائفة أكثر من مرة. أحكم إطباق حزامه ونظر حوله. كان قد نسي وجهته بالضبط، وفي الوقت نفسه كان وقت العشاء يقترب.
وبعد أن بدل جيمس ثيابه استقل عربة حتى طريق لو بيتي شون دو مورت، وسار عبر الشارع العريض حتى فندق بيرا بالاس. كان مبنى ضخما مبهرجا على الطراز الفرنسي، مطليا باللون الأصفر الشاحب، ومزينا بعدد من الزخارف الشرقية المدهشة. وجد فريدريك في بهو الفندق محاطا بمجموعة من المسافرين الألمان الذين يبدو عليهم أنهم قد عادوا توا من نزهة مسائية.
قال فريدريك وهو يشير بيده موضحا الأبعاد: «طوله أربع أقدام، وسمكه كذراعي. كان أضخم ثعبان رأيته حقا، وعندما رأيته كان ملتفا حول رقبة جمل كالطوق.»
تساءل أحد المسافرين بلهجة بريطانية رصينة: «هل ذهبت إلى حي قارئي الطالع؟ لقد اصطحبنا إلياس الترجمان الخاص بنا إلى هناك أمس.»
قال فريدريك وهو يومئ إلى الترجمان المسن: «أول مكان ذهبت إليه بعد النزول من السفينة مباشرة. أخبرت عمال السفن بأن يحملوا حقائبي إلى بيرا بالاس، ثم يشيروا لي في اتجاه حي قارئي الطالع. سوف يصدر مقالي عنه في صحيفة الأحد القادم.»
بينما كان الألمان يهزون رءوسهم بالاستحسان، لاحظ فريدريك جيمس مولر وهو يقف عند أطراف المجموعة يستمع إلى الحديث الدائر.
صاح فريدريك وهو ينهض كي يعانقه: «جيمي، لقد مرت فترة طويلة للغاية منذ أن تقابلنا آخر مرة يا صديقي.»
قادهما كبير الندل عبر مطعم الفندق الرئيس إلى طاولة لشخصين بالقرب من مدخل استراحة المدخنين. لم تكن أفضل طاولة في الفندق بأي حال من الأحوال، ولكن في فندق مثل بيرا بالاس فالكاهن مولر وصديقه الصحفي لا يعتبران شخصيات غاية في الأهمية. وفي طريقه عبر المطعم، لمح الكاهن البارون فون فيتز - الملحق العسكري الأمريكي الجديد - ومجموعة من الأطباء من المستشفى الإيطالي. على أي حال، فإن الإضاءة الخافتة نسبيا للطاولة سوف تناسب أغراضهما أيضا. ذاب الجليد بينهما بسرعة وهما يتجاذبان أطراف الحديث بينهما حول أحداث الأعوام الثلاثة الماضية، ويتبادلان النميمة عن الأصدقاء القدامى من نيوهافن. ولما كان فريدريك يعيش في ألباني، فقد كان لديه المزيد من النميمة كي يشاطرها: انفصال آل هورنر، وكتاب داربي الجديد، والنزاع القائم بين جاك والحاكم، رغم أن الكاهن كانت لديه بعض الأخبار المشوقة الخاصة به، فهو لا يزال على اتصال وثيق بعدد من رفقاء الدراسة، وكما اكتشف فإن الناس يبدون استعدادا أكبر لإفشاء أسرارهم إلى شخص مؤتمن يقطن بعيدا.
قال فريدريك عندما وضع الطبق الأول: «هذا رائع!» وكان سلطة تركية بسيطة متبلة بزيت الزيتون وعصير الليمون.
اتكأ للخلف كي يقيم المطعم بمزيج من الغرور والسذاجة. «إنه نسخة طبق الأصل من أحد فنادق الريفيرا، ولكن ثمة إيقاع شرقي أيضا. إنه مثالي لمجموعتي.»
قال الكاهن وهو يضع قطعة خيار في الشوكة: «أخبرني مرة أخرى ما تلك المجموعة؟»
قطع فريدريك قطعة من الطماطم نصفين وتفحصها من الداخل، كما لو كان يشك أنها في الواقع صنف شرقي غريب من الخضار يتنكر في هيئة طماطم. «لا شيء محدد، «صور وصفية من الخارج» هو اسم المجموعة. وفي الواقع، فإن الصحيفة ترسل محررا إلى أوروبا كل عام كي يكتب عن مكان محدد أو يكتب بعض ملامح الحياة المحلية في منطقة معينة، وربما يؤدي دورا ما في المجتمع على سبيل الهواية.» «فهمت.» «إنها مكافأة في حقيقة الأمر، تعويض عن الضرر الذي لحق بأنفي بسبب المطحنة في ألباني. أربعة أعوام هناك في الوحل وسقوط المبنى الحكومي يكافئ شهرا من هذا.»
أومأ على نحو متكلف نحو الأشياء المحيطة به. «بدأت أعتقد أنها مقايضة عادلة.»
قال جيمس: «إن بيرا مجرد البداية، مجرد لمحة صغيرة من إسطنبول، والمدينة ملأى بالألوان إذا كان هذا ما تريده.»
قال فريدريك: «لهذا السبب تحديدا طلبت المجيء إلى هنا. حاربوني في بادئ الأمر، فلم يعتقدوا أن القراء سيرغبون في مشاهدة صورة وصفية من آسيا. فأخبرتهم بأن نصف المدينة يقع في أوروبا، وثمة سبب ثان؛ وهو أن هذا بالتحديد ما يريده القراء؛ إنهم يريدون الدراويش والأفيال. انظر إلى فيرن، انظر إلى «ألف ليلة وليلة»؛ إن الناس يريدون لونا شرقيا.»
رفع الكاهن كأسه مقترحا نخبا. «نخب اللون الشرقي، والأصدقاء القدامى. مرحبا بك في إسطنبول.»
تبادلا قرع الكئوس وفرغا من تناولها. وبعد برهة وصل النادل حاملا الطبق الرئيس، وهو دجاج بيرا. كان ذلك هو الصنف الذي اشتهر به الطاهي، وهو ربع دجاجة صغيرة مطهوة في خلاصة عصير البرتقال والزيتون ومزينة بالقراصيا.
تساءل الكاهن بعد أن تناولا بضع لقيمات: «هل سمعت عن الدب المتكلم؟» «بالطبع.»
شعر الكاهن مولر بشرارة التنافس القديم بينهما تشتعل داخله مرة أخرى، فبعد أقل من يوم واحد في إسطنبول ها هو فريدريك يجلس كما لو كان يعرف مداخل المدينة ومخارجها.
تابع جيمس قائلا: «إنها مدينة نابضة بالحياة بالفعل، إسطنبول هي عاصمة الألوان حقا؛ فثمة حي قارئي الطالع الذي ذهبت إليه، وسوق العبيد، وساحر الثعابين من أوسكادار، بالإضافة إلى المعالم الأكثر شهرة؛ مثل البازار الكبير وآيا صوفيا وأطلال طروادة.»
قال فريدريك: «نعم، إننا بحاجة للذهاب إلى طروادة؛ فهي إحدى المقالات التي أصر محررو الصحيفة التي أعمل فيها على الكتابة عنها. إنها ليست بعيدة عن المدينة، أليس كذلك؟» «إنها على بعد أقل من يوم بالسيارة.»
وبينما كانا ينتهيان من تناول الطبق الرئيس، مر نادل بطاولتهما حاملا إناء برونزيا ضخما من القهوة التركية وصب لكل منهما فنجانا.
قال فريدريك وهو يتشمم الفنجان الذي لا تزيد سعته عن رشفة واحدة: «إن رائحتها زكية. ما اسم هذا النوع من التوابل؟» «الهال.»
قال فريدريك بلهجة منتصرة: «الهال! يمكنني كتابة مقال وصفي كامل عن القهوة التركية.»
ظل الكاهن مولر صامتا للحظة. كان يرغب في إدهاش صديقه، وفي تعريفه بجانب من المدينة لم يكن ليراه قط.
وأخيرا قال وهو يشعر بأثر الشراب في عنقه: «كما تعلم، فإن سحرة الثعابين وقارئي الطالع أمور استعراضية فحسب، وكل ذلك للأجانب، ولكن إذا رغبت في مشاهدة لون حقيقي فلدي طالبة سابقة ...» «لا أقصد أن أكون وقحا يا جيمي، ولكنني لا أعتقد أن أحدا يهتم كثيرا بطلابك.»
قال الكاهن وهو يراقب صديقه: «إنها فتاة عمرها ثمانية أعوام، وهي مستشارة للسلطان.»
فقطب فريدريك جبينه. «لقد درست لها بضعة أشهر، ولكن بعد فترة لم يعد لدي ما أعلمها إياه. وسمع السلطان عن مهارتها في اللغات فدعاها إلى القصر. وأما ما حدث في القصر، فثمة روايات عديدة، ويصعب تحديد أي منها كان حقيقة، فكما تعلم تلك هي مدينة الشائعات. ولكنني سمعت من مصدر موثوق به إلى حد ما أنها كانت ترتجف على الأرض وتتحدث بلغة غير مفهومة.»
فرغ فريدريك من تناول قهوته ووضع الفنجان الخالي مقلوبا، كما لو كان أحد الندل سوف يقرأ له الطالع. كان في وسع الكاهن أن يرى عقل صديقه وهو يعمل، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة.
قال: «لقد وجدت العنوان بالفعل.» وقرع المائدة بطرف ملعقته متابعا: «إنه مثالي.»
الفصل الرابع والعشرون
رغم أن إلينورا كانت تستيقظ كل يوم بمزيد من النشاط الملحوظ عن اليوم الذي يسبقه وشهيتها تتحسن والقوة تتدفق في أطرافها، كان تماثلها للشفاء أبطأ مما تتمنى. وطبقا لأوامر الأطباء كانت تتناول الوجبات في غرفتها ولا تغادر الفراش إلا بغرض الذهاب إلى دورة المياه، أو الجلوس في مقعدها المفضل بجوار النافذة البارزة. وقضت معظم فترة النقاهة مستكينة في هذا المقعد، لا تقرأ ولا تفكر كثيرا، بل تراقب حياة المدينة وهي تمر أسفل منها فحسب. كانت قد نسيت متعة مراقبة حركة السفن عبر البوسفور، ومرور السفن البخارية المنتظم ذهابا وإيابا بين بحر مرمرة والبحر الأسود الذي تقطعه شبكة من قوارب الكاياك تمتد من بيشكطاش حتى إمينونو وأوسكادار وحيدر باشا وأبعد من ذلك. ومن موقعها عند حافة المضيق، كانت إلينورا ترى أنماطا لم تكن قد لاحظتها من قبل: سير المتسولين المتثاقل من مسجد إلى آخر، وانجراف قناديل البحر والطمي مع التيار باتجاه الجنوب، والظلال الرقيقة للمآذن تمتد عبر المدينة كما لو كانت عقارب ساعة عملاقة.
في صباح اليوم الخامس بعد إصابتها بالنوبة، غامرت إلينورا بالنزول إلى الطابق السفلي، وتناولت الإفطار في غرفة الطعام مع البك، وعندما انتهت من الإفطار عادت إلى الطابق العلوي حيث الخمول الخانق الذي يميز غرفتها. قضت صباح اليومين التاليين على نفس الوتيرة، ولكن في صباح اليوم الثامن قررت فجأة أن تقضي يومها في المكتبة، فقد أصبح قضاء ساعة أخرى في غرفتها أمرا غير محتمل بالنسبة إليها، ولم يكن ثمة سبب يجعل جلوسها في غرفتها يختلف عن جلوسها في المكتبة. وهكذا، فبدلا من أن تجر إلينورا قدميها حتى الطابق العلوي كي تجلس بجوار النافذة البارزة، نهضت من مقعدها وسارت من القاعة الكبرى حتى المكتبة.
وعند بلوغ وجهتها كانت قد شعرت بالتعب، وكل ما استطاعت فعله هو أن تنهار في المقعد المجاور للمدفأة. وعندما استجمعت قواها، تفحصت الأشياء المحيطة بها. يبدو أن البك قد قضى معظم الليلة الماضية جالسا على هذا المقعد نفسه، فقد كانت قاعدته غائرة لأسفل من كثرة الجلوس عليه، وامتلأت الطاولة الجانبية بمتعلقات شخصية مبعثرة وأكواب الشاي وأعقاب السجائر. وأسفل تلك الفوضى التي تمخضت عنها الليلة السابقة، عثرت إلينورا على نسخة يوم الأحد من صحيفة لم ترها من قبل. طوت ساقيها تحتها كما لو كانت حشرة فرس النبي، ورفعت صحيفة «نيويورك صنداي نيوز» بهدوء من أسفل زجاجة نصف خالية من الكونياك. وفتحت الصحيفة وأخذت تتصفحها. ثمة مقال عن إعادة بناء فانكوفر، ومقال طويل يستعرض إنجازات الجمعية الجغرافية الوطنية في عامها الأول، ولكن لم يستحوذ أي منهما على اهتمامها. كانت على وشك أن تضع الصحيفة عندما عثرت بالمصادفة على مقال «صورة من الخارج» لهذا الأسبوع. احتل المقال المقصود معظم الصفحة الخلفية، وزين بصورة بالنقش الصلب للبوسفور، وأسفل الصورة طبع العنوان بخط كبير: «عرافة إسطنبول».
منذ عدة قرون في دلفي، في عصر هوميروس وأفلاطون، كانت الفتيات يتنبأن بأقدار كل مواطن محظوظ تقع في حوزته بضع عملات معدنية ولديه القوة لمعرفة الحقيقة. وتحت لواء كلمتين اثنتين فحسب - «اعرف نفسك» - كانت أولئك العرافات يتنبأن بمصائر الملوك والشعراء والفلاسفة والتجار. وقصة الإسكندر وعرافة بيثيا معروفة أيضا، شأنها في ذلك شأن قصة شيشرون وفيليب الثاني. قد يظن المرء أن الأمور قد تغيرت كثيرا منذ أيام قيصر، ولكن في إسطنبول ما زال الملوك يتشاورون مع أصحاب العلم الباطني؛ فقد سمع مراسلكم أن سلطان الترك العظيم عبد الحميد الثاني قد تشاور الأسبوع الماضي مع عرافة تشبه عرافات دلفي القدامى، وهي فتاة يهودية قادرة على الاستبصار تدعى إلينورا كوهين، يزعم أنها قد دخلت في نوبة تنبئية عند قدمي السلطان أثناء لقائهما.
قال البك وهو يغلق باب المكتبة خلفه: «إنه أمر مربك أن يقرأ المرء عن نفسه في الجريدة.»
ورغم أنه كان يبتسم، فقد حمل بقية وجهه تعبيرا يوحي بخطورة المقصد؛ زاوية حاجبيه، وتصلب يديه المطويتين عند خصره، وكل ما في مظهره كان يوحي بأن الأمر الذي يوشك على مناقشته غاية في الجدية والخطورة. «أنا شخصيا كنت محظوظا بما يكفي كي أحظى بمقالات كتبت عني تنقل الحقيقة، لا تخلو من السباب ولكن معظمها حقيقي.»
لمست إلينورا رقبتها بأطراف أصابعها وطوت الجريدة نصفين. لم تكن ترغب في أن يظن البك أنها لا تعيره انتباهها بالكامل.
قال وهو يجلس في المقعد المقابل لها: «منذ لقائك مع السلطان ظلت مجموعة من الشائعات تنتشر.»
كان صعبا على إلينورا أن تتخيل أنها موضع اهتمام من أي شخص غير سكان منزل البك. كانت قد جذبت انتباه السلطان بالطبع، ولكن ذلك كان أمرا استثنائيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولم تتخيل قط أن ذلك الاهتمام قد يمتد إلى الآخرين.
قال البك وهو يلتقط الجريدة من فوق ساقيها: «رغم أن هذا المقال جانبه الصواب في بعض الأمور، فإنه في حقيقة الأمر مقتطف دقيق من الشائعات، على الأقل كما سمعتها.»
تساءلت إلينورا وهي غير متأكدة كيف تجيب أو مما إذا كان يريد منها الإجابة: «وهل تلك الشائعات حقيقية؟»
رفع البك حاجبه الأيسر، وبسط الجريدة ثم وضعها على ذراع مقعده. «هذا بالضبط ما أود مناقشته معك. ففي الأيام القليلة الماضية لاحظت عددا من الرجال غير المألوفين يحومون حول رصيف الميناء ومسجد بيشكطاش ومقهى أوروبا، وكل ذلك يجعلني أثق في أن منزلنا، وأنا شخصيا، تحت المراقبة المشددة.»
غص حلق إلينورا وشعرت بحمرة الخجل تصعد إلى وجنتيها، فقد كان منصف بك شديد الطيبة معها، وحماها في أوقات الحاجة وأشرف عليها وأعالها، دون أن يطلب شيئا في المقابل. وآخر ما كانت ترغب فيه هو أن تزيد متاعبه.
تابع البك قائلا: «أعلم أن ذاكرتك ما زالت ضعيفة، ولكن من أجل سلامتك، ولصالح كلينا أريدك أن تخبريني بكل ما تذكرينه عما قلت للسلطان.»
قالت: «لو تذكرت فسوف أخبرك، ولكنني حقا لا أذكر شيئا. كل ما أذكره هو الهيركانيون.» «الهيركانيون؟» «لقد أخبرت السلطان، أو على الأقل شرعت أخبره، بقصة الهيركانيين والآشوريين من زينوفون.»
ردد البك وهو يحدق إلى اتجاه كتبه: «زينوفون! أيا كان ما قلته فقد أثرت كثيرا في تفكير السلطان، وهكذا فثمة عدد من القوى العظمى المهتمة بالأمر.»
وقف البك واتجه إلى الناحية الأخرى من الغرفة حتى وصل إلى رف يمتلئ بكتب التاريخ. كانت الابتسامة ما زالت مرتسمة على وجهه، ولكن إلينورا استطاعت أن ترى قلقه واضحا في ارتجافة فمه والشد في مؤخرة عنقه. وبعد أن تصفح نسخة من «الأعمال المختارة» لزينوفون، عاد إلى مقعده.
قال وهو يتكئ على المقعد الجلدي: «إن الهيركانيين والآشوريين قياس مناسب.»
لم تجب إلينورا، ولم تدر كيف تفكر. وبعد فترة صمت طويلة، أعاد لها البك الجريدة ووقف مرة أخرى.
قال وهو يقف عند مقعدها: «والآن أخبريني، هل تذكرين أنك قلت أي شيء للسلطان عن الكاهن مولر، أو اللقاء الذي حضرته في مقهى أوروبا؟»
وضعت إلينورا الجريدة على ساقيها، وفي محاولة لتخفيف التوتر الذي بدأ يتراكم في عينيها ضغطت جسر أنفها بين إبهامها وسبابتها. كان ذلك أقل ما بوسعها فعله - أن تتذكر - ولكن ذلك الجزء من عقلها كان فارغا تماما.
قالت أخيرا: «بينما كنت أفيق في مخدع السلطان الخاص، سألتني والدته عما إذا كنت أذكر أي شيء مما قلت. وعندما أجبتها بالنفي، سألتني عما إذا كنت أذكر أي شيء قلته عن الكاهن مولر والأحجية أو لقائك مع ...»
توقفت ووضعت يدها على فمها مدركة ما فعلته؛ لقد أخبرت السلطان ووالدته والصدر الأعظم بما كان البك يرغب في ألا يعلموه بالضبط. حتى لو لم يكن ذلك مقصودا، فقد خانت أعظم صديق لها ومدافع عنها. نظرت إلينورا لأعلى نحو البك الذي كان يقف بجوار مقعدها، وقد زم شفتيه كي يمنع ارتجافهما.
قالت: «لم أكن أقصد ذلك.»
قال وهو يضع يده على كتفها: «أعلم ذلك، أعلم أنك لم تقصدي.»
في وقت لاحق في ذلك المساء، بعد أن أخذت قيلولة عميقة تتخللها الدموع، تلقت إلينورا القطرة الأولى من نهر من الرسائل سوف يصلها فيما بعد من معجبين في جميع أنحاء العالم. ولما كان البك كثيرا ما تصله خطابات وبرقيات بعد العشاء، لم يفاجأ هو أو إلينورا عندما قرع جرس الباب ودخل السيد كروم غرفة الطعام حاملا خطابين على صينية الرسائل، ولكن بدلا من أن يفتح الخطابين ويسلمهما إلى البك كالمعتاد ذهب إلى الجانب الآخر من المائدة ووضع الصينية بجوار إلينورا. كان المظروف الأقرب إليها ذا ورق أبيض كاللؤلؤ، وكان اسمها مكتوبا بالكامل على وجه المظروف: الآنسة إلينورا كوهين. أما الخطاب الثاني، فكان مكتوبا على ورق أكثر رداءة وموجها إلى عرافة إسطنبول.
تساءل السيد كروم وهو يقف ثابتا بطريقة رسمية: «هل ترغبين أن أفتحهما لك؟»
فقالت: «نعم، إذا سمحت.»
أخرج فتاحة الرسائل من جيبه العلوي، وبحركة بسيطة فتح المظروف بعناية من الجانب العلوي. وكانت حركة قد رأته إلينورا يقوم بها عشرات المرات من قبل، ولكن رؤيته وهو يفتح هذا الخطاب؛ أول خطاب موجه إليها شخصيا، قد حبست أنفاسها وجعلتها مضطربة.
قالت بعد أن تصفحت الخطاب: «إنها دعوة ودية لحضور حفل عشاء في السفارة البريطانية.»
قال البك: «هذا غريب!» ولكنه لم يقل لماذا يظنه غريبا.
كان الخطاب الثاني طلبا من فتاة شابة توفي والدها فجأة قبل أن يدبر لها زواجا مناسبا، والآن لديها ثلاثة خاطبين يدعي كل منهم حصوله على موافقة والدها المتوفى. لم يكن واضحا ما تبغيه الفتاة من إلينورا بالضبط، رغم أنها أنهت الخطاب بالعبارة التالية: إنني أثق في قدرتك على تقديم المساعدة.
على مدار الأيام الثلاثة التالية، غرقت إلينورا في طوفان من الدعوات وبطاقات الزيارة والخطابات والبرقيات التي تطلب حضورها وإرشادها. كان معظم المرسلين يعيشون في إسطنبول، رغم أن القليل منهم أتى من أماكن أبعد في الإمبراطورية العثمانية، من مدن مثل سيلونيكا وترابزون، أماكن قد سمعت عنها ويمكنها تحديد موقعها على الخريطة، ولكنها باستثناء ذلك لا تعلم عنها سوى القليل. وفي وقت لاحق من ذلك الأسبوع، بدأت البرقيات تصل من مناطق بعيدة؛ مثل كوبنهاجن وشيكاجو. وأيا كان مصدر الرسائل، وبصرف النظر عن رداءة الورق أو جودته، كانت إلينورا ترد عليها كلها بنفس الطريقة؛ كانت تعتذر بلطف عن تلبية الدعوات للحفلات ولأمسيات العشاء، معللة بأنها لم تسترد كامل صحتها بعد، وكانت تبذل قصارى جهدها كي تجيب طلبات الإرشاد بأفضل نصيحة يمكنها تقديمها، رغم أنها في الحقيقة كانت تواجه أياما عصيبة في التعامل مع مشاكلها الخاصة.
الفصل الخامس والعشرون
بنهاية شهر أغسطس، كانت إلينورا قد تعافت تماما من النوبة التي داهمتها في القصر. ورغم تلك الانفراجة السعيدة، لم تستطع الهروب من الشعور بأن شيئا راسخا في حياتها قد تغير. كان الأمر يشبه الجلوس أمام مائدة فاخرة تضم اللحم المشوي والسفرجل المحشو وسلطة الشعير، وفجأة تكتشف أن أدوات المائدة غير موجودة. وكانت تدرك تماما منشأ ذلك الشعور؛ فرغم أنها قد أخبرت البك بكل ما تذكره عن مقابلتها الثانية مع السلطان، ثم إفاقتها لاحقا في جناح الحريم، ورغم أنها قد أوضحت له أكثر من مرة آراءها حول الصلة بين الهيركانيين والإمبراطورية العثمانية، ورغم أنه قد سامحها عدة مرات، ورغم أنهما قد أصبحا يتحدثان بصراحة أكثر وبمعدل أكبر مما كانا عليه من قبل؛ فقد شعرت إلينورا كما لو كان جانب من علاقتها بالبك قد تغير إلى الأبد، حتى عندما يتحدث إليها عن أمور تافهة كارتفاع الحرارة أو أسعار القطن أو توافر الكرز في السوق التجارية، كانت جبهته تصبح مشدودة. قد تكون تلك أصداء شعورها بالذنب فحسب، ولكنها كانت تخشى أن شيئا ملموسا أكثر من ذلك قد تغير.
ولم يقتصر الأمر على البك؛ فقد أصبح السيد كروم أكثر احتراما لها من ذي قبل، وأثناء حمامها الصباحي أصبحت السيدة داماكان تنظفها كقطعة زجاج رقيقة تخشى إتلافها. حتى سرب إلينورا قد تغير؛ فقد أصبح أكثر نشاطا وإصرارا كما لو كان يشعر بتحقق وعد مختبئ في مكان ما أسفل طبقة الهواء الساخن. كانت تراقب السرب كل صباح وهو ينطلق واحدا تلو الآخر من النتوء البارز أسفل نافذتها، وفي نهاية اليوم ترقب عودته واحدا تلو الآخر بنفس الترتيب الذي رحل به. أين كانت تقوده طلعاته؟ وعم كان يبحث في براري المدينة؟ لا يسع إلينورا سوى التخمين.
في فترة تماثلها للشفاء اعتادت إلينورا قراءة جريدة «ذا ستامبول هيرالد» كل صباح بعد تناول الإفطار. وبينما كانت تقرأ الجريدة وحيدة على رأس المائدة والسيد كروم يرفع الأطباق الفارغة، لم يسعها إلا أن تشعر بأن العالم بأسره يتغير أسفل منها. ففي خلال أسبوعين فقط، قرأت عن هدنة متوترة بين البحرية البريطانية وإمبراطور الصين، وزلزال مدمر في جنوب الولايات المتحدة، وتفشي وباء الكوليرا في إسبانيا، وعشرات من حالات الانتحار (ومنها محاولة انتحار زائفة ومثيرة من أعلى أحد جسور نيويورك)، وأكثر من بضع طعنات، وسلسلة من عمليات السطو السافرة على البنوك في جنيف. وبالإضافة إلى كل تلك الصراعات والأمراض، فقد أكدت «ذا ستامبول هيرالد» أيضا أن فخامة السلطان عبد الحميد الثاني يعمل على تفكيك تحالف الإمبراطورية القائم منذ القدم مع الألمان. ولم يتضمن المقال تفاصيل أكثر من ذلك، رغم أنه عزا دافع السلطان إلى تأثيرات «مستشارته الشابة» عليه، وهي مفاجأة بالفعل.
ولكن المفاجأة الكبرى أتت في صورة برقية وصلت في أواخر صباح أحد الأيام في ذروة الصيف، بينما كانت إلينورا تتصفح الإعلانات المبوبة في الصفحة الخلفية من «ذا ستامبول هيرالد» عندما دخل السيد كروم إلى غرفة الطعام حاملا كومة من الخطابات والبرقيات، ووضع الرزمة وفتاحة الخطابات على المائدة بجوارها، وانحنى خارجا من الغرفة مدركا أنها تفضل أن تفتح الخطابات بنفسها. وكعادتها، تفحصت الرزمة وفحصت كل مظروف منفردا قبل أن تشرع في استخدام الفتاحة. كان يوجد بين الرزمة برقية من باريس وخطاب رديء نوعا ما من ترابزون، وبضعة خطابات كانت قد أرسلتها لكنها أعيدت لسبب ما. وبالقرب من أسفل الرزمة وجدت برقية غريبة لم تتمكن من فك لغزها في بداية الأمر، كانت مرسلة عن طريق شركة بريطانية تدعى شركة المراسلات الملكية والعالمية المحدودة. وبصرف النظر عن مصدرها، فلم تكن الرسالة مكتوبة بالإنجليزية، على الأقل ليس بإنجليزية مفهومة بالنسبة إليها. حدقت إلينورا إلى المزيج الأرجواني المشوش للحروف، وأومضت بعينيها، ثم بسطت الورقة على المائدة وتركت عقلها يسترخي، وركزت بأقصى حد ممكن، وسرعان ما توصلت إلى الحل؛ فرغم أن البرقية مكتوبة بحروف أبجدية لاتينية، فقد كانت مكتوبة بلغتها الأم:
لقد قرأت خبرا عنك في الجريدة. ألف مبروك. سأحضر إلى إسطنبول قريبا، وأرغب في مقابلتك عندئذ. إن الأمور في كونستانتسا تسير بخير. خالتك روكساندرا.
بعد أن قرأت إلينورا البرقية مرتين، رفعت الورقة عن المائدة، ثم حدقت إلى السطح اللامع الخالي وراقبت انعكاسها يتحول عبر حبيبات الخشب. خالتها روكساندرا. عضت على شفتها السفلى وكورت البرقية إلى كرة زرقاء شاحبة صغيرة، وفعلت ما بوسعها كي تطردها من ذهنها، ولكنها كانت تعلم أن ذلك مستحيل. فمهما فعلت، حتى إذا أحرقتها أو ابتلعتها أو مزقتها إربا، فلن تتمكن من الخلاص من تلك الرسالة ولا ذكرى خالتها ولا معرفة كيف تخلى عنها الجميع بقسوة. مهما فعلت إلينورا، فسوف تظل رائحة الحبر عالقة في يديها، وسوف تحفر الحروف في ذهنها بحجم كبير. «الآنسة كوهين؟»
انتبهت إلينورا إلى صوت السيدة داماكان، ولكنها لم ترفع عينيها للنظر إليها. «هل تشعرين بالتعب أيتها الآنسة كوهين؟»
شعرت برجفة تسري في أطرافها؛ لم تكن تشعر أنها بخير على الإطلاق. أغمضت عينيها وأحكمت إغلاق قبضتها على البرقية المكورة، وهي تشعر بحوافها تنغرس في راحة يدها. وقدر ما كانت ترغب في أن تري السيدة داماكان الخطاب، وأن تحصل على نصيحتها وتعاطفها، لم تكن ترغب في إزعاج أي شخص آخر بمشاكلها، فقد سببت مشاكل بالفعل للكثير من الأشخاص حتى الآن.
قالت وهي ترفع رأسها: «إنه الحر، إذا لم تمانعي فأعتقد أن تناول كوب من الماء سيفي بالغرض.»
سرت السيدة داماكان بتنفيذ الطلب ، وعندما عادت حاملة كوب الماء، تناولته إلينورا على جرعتين كبيرتين.
ثم زفرت أنفاسها قائلة: «أشكرك، أشعر بتحسن الآن.»
وكان ذلك حقيقيا؛ فهي تشعر بتحسن بالفعل. ولكن مشكلة البرقية ما زالت موجودة.
قالت وهي تحرص على إخفاء قبضتها المطبقة بإحكام: «أرغب في أن أتجول قليلا سيرا على الأقدام حول المنزل.»
رفعت السيدة داماكان الكوب الفارغ عن المائدة.
وتابعت قائلة: «لو احتجت أي شيء ...» «لو احتجت أي شيء، فسوف أخبرك بالطبع.»
وبينما كانت تستدير كي ترحل، رمقتها السيدة داماكان بنظرة استسلام حزينة؛ نظرة قد يعطيها والد أمي لابن قد وبخه بالفعل. لم تقصد إلينورا تلك الحدة، فقد كانت تحب السيدة داماكان كخالتها أو كوالدتها. «أشكرك يا سيدة داماكان، إنني مضطربة فحسب.»
تجولت إلينورا في منزل البك بلا هدف محدد في ذهنها. سارت متمهلة حتى القاعة الكبرى يحدق إليها آل باركوس بنظرة متجهمة، مارة بالمكتبة والمرسم. لم تشعر قط بالوحدة إلى هذا الحد من قبل، ولأول مرة فهمت ما كان يعنيه الجنرال كرزاب عندما اشتكى من «عبء المسئولية الثقيل؛ ذلك النير المرهق الذي يسعى صفوة البشر كي يحملوه على عاتقهم.»
الفصل السادس والعشرون
بسط فخامة السلطان عبد الحميد الثاني منديلا من القماش الأبيض على ساقيه، وخفض أنفه إلى طبق الدجاج المشوي البارد على المائدة أمامه. رغم أنه كان يفهم جيدا أهمية آداب التصرف والعظمة الملكية والبروتوكول، فإن الاهتمام المتواصل بالشكليات أحيانا ما يصيبه بالتعب. وأحيانا لم يكن فخامته يرغب إلا في تناول طبق كامل من الدجاج المشوي البارد بيديه، وهو ما كان ينوي فعله بالضبط، فهو السلطان على أي حال. ابتسم لنفسه ابتسامة عريضة مستشعرا الرفاهية المثلى في تناول تلك الوجبة البسيطة، وفصل ساق الطائر المسكين عن جسده ثم غاص بأسنانه في اللحم. كانت الدجاجة مشوية على طريقة إيجه، ومتبلة بمعجون الجوز الحلو، حتى وهي باردة كان جلدها مقرمشا. وبعد أن فرغ عبد الحميد من التهام الساق استخدم كسرة من الخبز المسطح كي ينتزع اللحم من الصدر والظهر والجانب السفلي.
وعندما فرغ من التهام الدجاجة، ترك هيكلها محطما على الطبق كما لو كانت عاهرة ملقاة على قارعة الطريق. مسح يديه ووضع المنديل فوق العظام الخالية، ثم اتكأ في مقعده حاملا قدحا من الشاي بالنعناع. وأطلق لنفسه العنان للاستغراق في حلم يقظة قصير قبل أن يشرع مرة أخرى في تناول المجلد الثاني من «الساعة الرملية». كان بالفعل كتابا رائعا مليئا بالأحداث والعلاقات المركبة والرومانسية والكبرياء والطمع. كانت ترجمة مثل هذا العمل الأدبي العظيم خدمة لرعاياه وفخرا للغة التركية. وكانت مفيدة أيضا من حيث متعته الشخصية في القراءة، ولكن تلك نتيجة ثانوية، مجرد مكافأة إلهية على كرمه. رفع عبد الحميد الكتاب بين يديه مستندا على بطنه، وسرعان ما استغرق في خواطره. وبينما كان مستغرقا في مشهد المعركة الرهيب بالقرب من نهاية المجلد، الذي يعلم فيه الملازم براشوف بوفاة شقيقه المزعومة؛ لم يسمع السلطان صوت الباب وهو يفتح. «فخامة السلطان.»
كان ذلك الصدر الأعظم الذي دخل وهو يلوح بجريدة مطوية كما لو كانت سيفا. «ماذا هناك؟» «فخامة السلطان، أعلم أنك طلبت ألا يزعجك أحد، ولكنني أعتقد أنك سوف تهتم برؤية ذلك.»
اعتدل السلطان وجذب المنديل مغطيا عظمة دجاجة مكشوفة، ثم انحنى على المائدة كي يأخذ الجريدة من يد مستشاره الممدودة إليه.
قال وهو ينظر إلى العنوان: «عرافة إسطنبول؟ ما هذا؟ مقال افتتاحي يطالب باستقالتي؟ مطالبة أخرى بالحرية الدينية؟» «بل أسوأ كثيرا يا فخامة السلطان، إذا لم تمانع في أن أقول ذلك.»
قرأ السلطان الفقرة الأولى التي استغرقت منه بعض الوقت؛ إذ لم يكن متمرسا في اللغة الإنجليزية. سعل جمال الدين باشا ووضع يديه أمام جسده.
قال وهو يشير من بعد: «لقد شعرت بالاستياء تحديدا من الجزء الذي يتناول والدة فخامتك، في منتصف الفقرة الرابعة.»
فقرأ السلطان بصوت مرتفع. «ويشيع البعض أنها متحالفة مع والدة السلطان نفسه.»
اختتم نهاية الجملة بضحكة مرتفعة متقطعة. «الآنسة كوهين متحالفة مع أمي؟ ضد من؟ وما الهدف؟»
ولكن جمال الدين باشا لم يضحك، وعلم عبد الحميد أنه لن يتمكن من العودة إلى كتابه حتى يحل ذلك الأمر. ارتسم على وجهه مظهر جدي، ثم طوى الجريدة ووضعها بجوار بقايا الدجاجة المقطعة الأوصال.
قال: «إنني أتفهم بالطبع وجه الإزعاج الذي تجده في هذا المقال، فهو تطاول على صلاحيتي للحكم، علاوة على الجزء الخاص بوالدتي. ولكن ما الذي يمكننا فعله إزاء صحيفة تصدر في نيويورك؟» «لقد تتبعنا مؤلف المقال، وهو مقيم في فندق بيرا بالاس غرفة 307. وإذا رغبت فخامتك، يمكنني استدعاؤه لمقابلة في القصر، ويمكننا بث الرعب في قلبه وإعطاؤه شيئا مؤثرا يكتب عنه في العدد القادم، ثم شحنه في السفينة التالية المتجهة إلى نيويورك.»
قال السلطان: «نعم، حسنا.» «كما أقترح يا فخامة السلطان ألا تقابل الآنسة كوهين مرة أخرى في ضوء تلك الشائعات.»
أغمض السلطان عينيه وضغط جسر أنفه بين إبهامه وسبابته.
ثم قال: «اعتقدت أنك ستقترح ذلك. من فضلك اترك الجريدة هنا، وسوف أقرؤها بتمعن وأعطيك المزيد من التعليمات هذا المساء.»
قال الصدر الأعظم: «ثمة معلومة أخيرة يا فخامة السلطان، إذا لم تمانع.» «كلا، على الإطلاق.» «لقد اتصلت بخالة الآنسة كوهين، وهي تدعى روكساندرا كوهين، ويبدو أنها الفرد الوحيد في العائلة الذي يمكن الاستعانة به. لم أكن أرمي إلا إلى أن أخبر الخالة بمكان ابنة شقيقتها، ولكن في سياق حديثنا شعرت بأنني مضطر إلى أن أعرض عليها مساعدة القصر في حال رغبت الآنسة كوهين في العودة إلى كونستانتسا.»
غمغم السلطان شيئا لنفسه ونهض واقفا من مقعده، مشيرا إلى نهاية اللقاء. «كما قلت، سوف أعطيك المزيد من التعليمات هذا المساء.»
قال الصدر الأعظم وهو ينحني خارجا من الغرفة: «حسنا يا فخامة السلطان.»
عندما أغلق الباب، جلس عبد الحميد مرة أخرى وفتح الجريدة. كان عليه أن يعترف بأنه مقال طريف، رغم أنه تعوزه الدقة في العديد من الجوانب ويمتلئ بتلميحات مدينة. يمكن للمرء أن يتخيل الشائعات التي قد تنشأ عن تلك القصة. كان يعيد قراءة الجزء الخاص بالآنسة كوهين ووالدته عندما اندفعت الوالدة نفسها إلى داخل الغرفة. وأيا كان مقصدها من الزيارة، فقد انحرف عن المسار برؤية المقال. «آمل أن يعاقب بشدة من كتب ذلك الهراء بما فيه من سب وتعريض.»
فطوى السلطان الجريدة إلى نصفين واعتدل في جلسته. «مساء الخير يا أمي.»
فقالت وهي تنحني: «اغفر لي وقاحتي يا فخامة السلطان، ولكن الأمر ...»
قال: «لا تقلقي، فقد أخبرت جمال الدين باشا توا بأن يقتفي أثر ذاك المؤلف؛ ومن ثم يعاقبه. ورأينا أن الترحيل كاف.» «أظن أن الترحيل كاف، رغم أنه لن يصلح الضرر الذي أحدثه ذلك الحثالة.»
فقال السلطان آسفا وهو يرتشف البقايا الدافئة في قاع قدح الشاي: «إذن، فالسؤال الذي ينبغي التفكير فيه الآن هو ما الإجراء الذي علينا اتخاذه للقضاء على تلك الشائعات؟» «ماذا اقترح جمال الدين باشا؟» «إنه لا يدري.» «لا يدري؟» «نعم، فقد قال إنه لا يملك رأيا قويا.»
كانت تلك كذبة بالطبع، فوالدته تعلم أكثر من أي شخص في العالم أن الصدر الأعظم لا يمكن أن يقول لا أدري في أي موضوع، ولكنها لم تستطع أن تكذبه مباشرة، فحولت الحديث إلى مسار آخر.
فقالت: «بالإضافة إلى معاقبة المؤلف والتعامل مع الشائعات، ثمة أمر الفتاة نفسها؛ يجب أن نفعل شيئا بشأنها. أرى أنه لا داعي لمعاقبتها، فلم ترتكب خطأ، ولكن حتى نتخذ قرارا بشأنها لن يكون في مقدورنا إبطال الشائعات.» «وماذا تقترحين يا أمي؟»
رفعت يدها إلى عنقها ومررتها عليه بالكامل كما لو كانت تفكر في هذا السؤال للمرة الأولى. «في رأيي، ثمة مساران يمكننا اتخاذهما، كلاهما ليس مثاليا، ولكنهما سوف يخدمان هدفنا.»
قال عبد الحميد وهو يرمق دوامات أوراق الشاي والنعناع في قاع القدح: «نعم، استمري.»
فقالت: «المسار الأول هو الترحيل؛ أعدها إلى رومانيا وانس أمرها. والمسار الثاني هو دعوتها للعيش هنا في القصر. يمكننا إيجاد غرفة لها في مكان ما عند حدود جناح الحريم، وإعطاؤها دروسا في الموسيقى أو الخط. ولكلا المسارين متاعبهما بالطبع، ولكن كليهما أيضا لهما مزاياهما.»
قال السلطان وهو يحك مؤخرة رأسه أسفل العمامة: «رائع. لا يمكنني أن أزعم أنني قد فكرت في الخيار الثاني ، ولكنه خيار مثير للاهتمام. سوف أفكر في الأمر.»
لاحقا، في ذلك المساء، توقفت سلسلة من العربات الملكية في مدخل حمامات سمبرليتس، وترجل منها السلطان. كان يرتدي قفطانا حريريا باللون الأزرق الفاتح يزين حاشيته اللونان الأحمر والفضي، وتبعه إلى الحمام حاشية من الحلاقين وعاملات التدليك وحاملي المناشف ومجموعة متنوعة من الخدم الآخرين. كان مجمع الحمامات يمتلئ ستة أيام في الأسبوع بظهور العامة المشعرة وهم يغمغمون ويغطون أجسامهم بالصابون، ولكن في اليوم السابع كان سمبرليتس يغلق أبوابه في وجه العامة. ففي أيام السبت، كان عبد الحميد يستلقي وحيدا في منتصف الغرفة الرئيسة يشاهد خيوط أشعة الشمس وهي تسقط عبر البخار. ورغم أن القصر به مجموعة من الحمامات الرائعة من أفخر التصميمات والمهارة في الصنع، فلم يكن أحدها يضاهي سمبرليتس.
خلع السلطان ثيابه ودخل الغرفة الرئيسة المليئة بالبخار. كان السقف يتخذ شكلا ذا اثني عشر وجها صاعدا بانحدار ضئيل، وينحني في مجموعات لا نهائية متكررة من القرميد صانعا مشهدا مقببا لأشعة الشمس. وكان اثنا عشر صنبورا تملأ محيط الغرفة، وكلها تشير نحو اللوح الرخامي الضخم ذي اللون الرمادي الفاتح في المنتصف. كان كمسجد مخصص لجسد الإنسان، وبينما يرقد على ظهره في منتصف اللوح الرخامي كانت أشعة الشمس تسقط عبر البخار مضفية عليه شعورا بشيء أكبر منه. وبعد مرور بضع دقائق من العزلة، استدعى عبد الحميد الفريق المصاحب له، الذين شرعوا في تنظيف الجسد الملكي وتدليكه. كان عبد الحميد يتوصل لأفضل أفكاره أثناء جلسات التنظيف تلك؛ فهو يتلقى العون في معية الله، وحواسه يغلفها البخار، وفريق من الأيدي يدلك جسده، فكان عقله طليقا يتجول في مناطق غير مطروقة، ويسير متمهلا بلا هدف في طريق المنطق. في هذا المكان فكر في طريق نقل الحجيج بالسكة الحديدية، وتوصل إلى حلول للكثير من الخلافات مع إدارة الدين العام، وقرر أخيرا كيفية التعامل مع الصفويين.
وفي هذا اليوم بالتحديد، كان المأزق بالطبع هو ما ينبغي فعله بشأن الآنسة كوهين. لم يكن مقتنعا تماما بأن ثمة إجراء يجب أن يتخذه مع الفتاة نفسها، ولكن والدته والصدر الأعظم قد أصرا. وهو يعلم أنه في تلك اللحظات النادرة التي يتفق فيها كلاهما، فإن الأمر يستحق على الأقل التفكير في جميع الخيارات المتاحة. لقد صاغت والدته الأمر على نحو رائع؛ يمكنه إعادة الآنسة كوهين إلى كونستانتسا، وهو مسار يبدو أن الصدر الأعظم يفضله، أو يمكنه دعوتها للعيش في القصر وإعطاؤها بعض دروس الموسيقى أو وظيفة في أحد الدواوين وتركها تحيا حياة مغمورة. لم يكن يرى أن جمال الدين باشا سوف يعجب بهذا الإجراء، فقد كان مستاء بالفعل من تفكك التحالف الألماني، حتى إن السلطان كان يتساءل أحيانا عما إذا كان يمكنه إجراء مهامه الأخرى بأمانة. ولكنه رأى أن يرجئ هذا السؤال ليوم آخر. أخذ السلطان نفسا عميقا وأغلق عينيه، وتتبع شبكة الألوان التي صنعها الضوء داخل جفنيه، وركز انتباهه بالكامل فيما سيفعل مع إلينورا كوهين. وعندما فتح عينيه مرة أخرى، أصبح الأمر واضحا.
وهكذا وسط البخار ورائحة العنبر التي تملأ سمبرليتس، قرر عبد الحميد دعوة إلينورا كي تعيش في القصر وتصبح مستشاره الخاص. فمن بين كل الخيارات المتاحة، كان ذلك الخيار المنطقي الوحيد. وبالطبع، فإن وجودها في دهاليز السلطة سوف يشكل خطرا على مستشاريه الآخرين، ولكنهم سوف يتعلمون التعايش معها كما تعلموا التعايش بعضهم مع بعض، وإذا لم يتمكنوا من ذلك فعليهم أن يجدوا وظيفة أخرى مناسبة، فهو السلطان ويمكنه أخذ النصيحة عمن يشاء.
الفصل السابع والعشرون
اختلفت زيارة إلينورا الثالثة للقصر عن سابقتيها؛ وذلك من حيث الشكل والهدف معا. عندما توقفت العربة الملكية أمام منزل البك، كانت بالطابق العلوي في غرفتها ترتدي ثيابها بمساعدة السيدة داماكان وتفكر في خططها لهذا اليوم. كان قصف الرعد يدوي معظم الصباح، وثمة كومة من الخطابات على مكتبها يتعين الرد عليها، بالإضافة إلى البرقية المرسلة من خالتها روكساندرا التي كانت قد كورتها على هيئة كرة بجوار الكومة. ورغم أنها لم تكن مستعدة بعد للعودة إلى نظام حياتها السابق، فإن فكرة القراءة قد بدأت تروق لها للمرة الأولى منذ النوبة التي تعرضت لها، وخطر لها أنها قد تحب قضاء بعض الوقت في استكشاف منزل البك، ولكن وصول العربة الملكية قد أفسد تلك الخطط بالطبع. أغلقت السيدة داماكان الزر في ظهر ثوب إلينورا، وأسرعا إلى الطابق السفلي حتى غرفة الجلوس؛ حيث كان رسول السلطان ينتظر ويداه متشابكتان عند حزامه، وكعبه يقرع الأرض في قلق.
قال وهو ينحني حتى خصره: «أيتها الآنسة كوهين، إن فخامة السلطان يطلب مقابلتك في أسرع وقت ممكن.»
فترددت قائلة: «حسنا، بالطبع.»
استدارت إلى السيدة داماكان، ثم مرة أخرى إلى الرسول. «هل تسمح لي بلحظة أبدل فيها ثيابي؟»
فقال الرسول: «يمكنك ذلك، ولكن علي أن أخبرك بأن فخامته قد أكد أنه يرغب في مقابلتك فور أن تتمكني من ذلك، دون أن تلقي بالا لأمر الثياب أو الحالة التي أنت عليها.»
شعرت إلينورا بالسيدة داماكان وهي تدفعها برفق من الخلف، وخرجت من الباب الأمامي تتبع الرسول عبر الممشى. ودون أن يسمح الوقت بالتفكير في أي خاطرة أخرى، كانا قد استقلا العربة وسارت بهما في الطريق، ولكن بدلا من أن تصعد التل نحو بوابة السلام سارت مع منحنى البوسفور حول القرن الذهبي مرورا بنافورة عامة خضراء اللون ذات قمة نحاسية نحو الجانب الشمالي الشرقي من القصر. كانت البوابة التي تحمي ذلك المدخل أصغر كثيرا من بوابة السلام، ولكنها مهيبة في حد ذاتها. كانت فتحتها منحوتة من قطعة واحدة من حجر البازلت، ومزينة بقرميد فيروزي اللون على هيئة نجوم؛ مما أعطى إلينورا الانطباع بأنها حوت ضخم يفتح فكيه كي يبتلعهما بالكامل.
وعندما ترجلت من العربة اقتربت منها امرأة شابة هادئة تشبه كثيرا تلك اللواتي لاحظتهن عندما كانت تتعافى من النوبة التي داهمتها في جناح السلطان الخاص. كانت صغيرة السن لا تتجاوز السابعة عشرة، رغم أنها كانت تبدو امرأة في عباءتها القطنية الواسعة. ودون أن تتفوه بكلمة أمسكت بيد إلينورا بين يديها، وقبلت أطراف أصابعها. «إن السلطان ينتظر.»
كانت تملك عينين خضراوين لافتتين للنظر، لامعتين كالذهب، تستظلان بغطاء كثيف من الرموش. أتاحت المرأة بعض الوقت لإلينورا كي تشعر بالارتياح لحضورها، ثم استدارت وقادتها إلى القصر نفسه. أخذتا تهبطان وتصعدان، واستدارتا لليمين مرتين ولليسار مرة قبل أن تدخلا قاعة مقببة تفوح برائحة الليمون والمسك.
قالت وهي تتوقف أمام باب مرتفع يحيط به اثنان من حراس القصر: «علي أن أتركك؛ فقد طلب السلطان مقابلتك على انفراد.»
تنحى الحارسان جانبا، وشعرت إلينورا بالمرارة في حلقها، فأمسكت بيد الفتاة. «بعد إذنك، هل يمكنني أن أطرح عليك سؤالا؟»
رمقت الفتاة إلينورا بمزيج من الشفقة والتعاطف، كما لو كانت عصفورا صغيرا قد وجدته يتجول وحيدا في الغابات. «هل تعلمين فيم يرغب فخامته في الحديث معي؟»
فقالت: «كلا، لا أعلم، ولكن ثقي بأنه سوف يعاملك جيدا مهما يكن الأمر الذي يريدك بشأنه.»
حاولت إلينورا أن تفكر في سؤال آخر، ولكن لم يخطر على بالها أي سؤال، وهكذا استدارت الفتاة الشابة عائدة عبر القاعة.
كانت الغرفة التي اقتيدت إلينورا إليها تعرف باسم غرفة الزنبق، نسبة إلى التصميم المحفور في الجبس حول مدخلها. كانت غرفة صغيرة ذات طابع بسيط إلى حد ما، والحائط البعيد بها تشغل معظمه أريكة زرقاء نصف دائرية جلس عليها السلطان يقرأ. وبالإضافة إلى الأريكة ومقعد خشبي محدب الشكل مرصع بعرق اللؤلؤ، لم تكن غرفة الزنبق تضم أثاثا سوى مكتب ولوحة زيتية تصور صيد الثعالب. ظلت إلينورا تراقب السلطان بعض الوقت وهو يقرأ قبل أن تتحدث. «هل هذه الساعة الرملية؟»
قال وهو يضع كتابه على الأريكة مقلوبا: «نعم، لا أعلم كيف أشكرك لترشيحها لي للقراءة.» «إلى أين وصلت فيها؟» «المجلد الثالث. عندما دخلت كنت قد وصلت إلى المشهد الذي يستدعي الجنرال كرزاب فيه أفراد العائلة الباقين كي يوبخهم ويوزع الثروة التي اكتشفها في ظهر خزانة والدته.»
قالت إلينورا مقتبسة كلمة الجنرال كرزاب الشهيرة التي مرت منذ بضع صفحات: «إن الحقيقة سمكة مراوغة تتلألأ قشورها في الماء، ومحارب شريف معرض للخطر ...»
فابتسم السلطان وأكمل الاقتباس: «ولكنها صماء كالرصاص في قاع السفينة.»
وبينما كان السلطان يتحدث، أدركت إلينورا أنها قد ارتكبت خرقا جسيما لقواعد السلوك الخاصة بالقصر. فلم تكتف بمخاطبته مباشرة بلا ألقاب، بل إنها أيضا قد نسيت أن تنحني عند دخولها الغرفة. غطت فمها وجثت على ركبتيها، حتى لمست جبهتها الأرض.
قال السلطان: «تفضلي.»
استدارت كي تنظر إليه وصدغها ما زال يلامس القرميد البارد.
قال وهو يشير نحو المقعد الخشبي المقعر على يمينه: «لا داعي لذلك، يمكنك الجلوس إذا أردت.»
تحركت نحو المقعد بحذر خشية أن تخرق قواعد البروتوكول مرة أخرى، وجلست على حافته. لاحظت عن قرب أن وجه السلطان يشبه كثيرا وجه البك، وخاصة الأنف والشفة العليا. ولكن على النقيض من رائحة سيجار التبغ الأخضر الخاصة بالبك، كان السلطان يفوح بعبير الخزامى وزهر الليلك مع لمسة من رائحة البرتقال.
بدأ السلطان قائلا: «أردت الحديث معك على انفراد، فلدي سؤال مهم أرغب في توجيهه إليك، وأود الحصول على إجابتك الشخصية دون التعرض لضغط من البلاط. هل تزعجك الإجابة عنه شخصيا؟ هل أنت مستعدة لاتخاذ قرار خطير قد يؤثر على مسار حياتك؟»
نظرت إلينورا إلى حذائها وهو يتأرجح فوق الأرض. «نعم.» «بالطبع، فإن القرار يخصك وحدك، ولكن أتمنى أن تضعي في الاعتبار أن اختيارك سوف يؤثر على حياة الكثيرين.»
توقف كي ينظر إليها. كانت يداها مطويتين في حجرها، ووجهها يكتسي بتعبير من الهدوء الشديد. «ما أرغب في سؤالك عنه هو ما إذا كنت ترغبين في الحياة في القصر. سوف تقيمين هنا في جناح الحريم، وربما في تلك الغرفة نفسها، وسوف تقضين أيامك في القراءة وعزف العود وتعلم دورس الخط وأي نشاط يعجبك. وسوف تجاب كل طلباتك، وليس عليك القيام بشيء في المقابل عدا مناقشة أحد شئون الدولة كل حين وآخر معي أو مع الصدر الأعظم.»
فكت إلينورا تشابك يديها وتخللت شعرها بأصابعها. كان سؤالا خطيرا بالفعل، وقد أصابها بالمفاجأة إلى حد ما. كانت ثمة احتمالات وعواقب كثيرة كي تفكر بها. حاولت أن تفكر في الأمر، ولكن بينما كانت تفعل سيطر عليها شعور ثقيل كأنها في دوامة، شعور لا يشبه فقدان الوعي الذي أصابها قبل النوبة السابقة، فطرفت بعينيها وتمالكت نفسها. «وماذا عن البك؟» «البك؟ إن كل ما أظنه أن البك سوف يواصل حياته كما كان يفعل قبل قدومك.» «ألن يستاء؟»
بدا السلطان حائرا إلى حد ما. «لا يمكنني أن أتنبأ برد فعله، ولكنني أذكرك أن هذا القرار يخصك وحدك. ورغم أنني أتفق معك في ضرورة التفكير في المحيطين بنا، فمن المهم أن تتذكري مصلحتك الشخصية.»
فهزت رأسها بالموافقة على رأيه. «وماذا سيحدث لي إذا لم أوافق على العيش في القصر؟»
قال السلطان: «حسنا، لا أحد يعلم بالضبط، ولكن هذا سؤال بارع؛ فهو يوضح أنك تفهمين موقفك جيدا.»
توقف وهو يلوك في فمه قطعة من الكراميل. «أظن أنك تعلمين أن خالتك في طريقها إلى إسطنبول، وأدرك أنها تنوي إعادتك معها إلى كونستانتسا. وبالطبع فإذا اخترت العيش في القصر فسوف نجري ترتيبات أخرى لها.»
بينما كان السلطان يتحدث عن الحياة في القصر ومقتنيات المكتبة الملكية، توجهت عينا إلينورا إلى لوحة صيد الثعالب. كانت الجياد والكلاب تطغى على الصورة، لدرجة أن الأمر استغرق منها لحظات كي تكتشف ذيل ثعلب صغير في تجويف شجرة في أسفل يمين الصورة. وأدركت أنها قد ظلت صامتة بعض الوقت عندما نهض السلطان واقفا. «أيمكنني أن أعرف ما الخيار الذي تميلين إليه؟»
لم تكن إلينورا تميل إلى أي من الخيارين، بل كانت ترغب في مواصلة حياتها كما هي في هدوء مع منصف بك والسيد كروم والسيدة داماكان، ولكنها أدركت أن ذلك لم يعد خيارا متاحا الآن، فقد أصبح وجودها يثير متاعب مفرطة للبك، ورفضها عرض السلطان لن يزيد تلك المتاعب إلا سوءا. وبالطبع، فإن المرء لا يمكنه الإفصاح عن تلك الأفكار.
قالت: «إنني أميل نحو العيش في القصر، ولكنني أرغب في بعض الوقت كي أحسم قراري.»
قال السلطان وهو يجلس مرة أخرى على المقعد: «حسنا، إنه قرار خطير، ولا أرغب في أن تتسرعي في اتخاذه. سوف أرسل لك رسولا غدا صباحا، وإذا قررت الإقامة هنا أعدي أمتعتك. أما في حالة الرفض، فإنني أتمنى أن ترسلي لي خطابا صغيرا بذلك.» «حسنا.»
وقف السلطان مرة أخرى ورافقها حتى الباب. وللحظة وهما يقفان في مدخل غرفة الزنبق، بدا كل منهما على حقيقته؛ مجرد طفلة صغيرة ورجل ضئيل الحجم في منتصف العمر. انحنى عبد الحميد حتى خصره، وأمسك يدها وقبلها.
وفي رحلة العودة من القصر، رأت إلينورا إسطنبول بلون جديد: القصور الساحلية، والرجال المسنين الذين يصطادون على جسر جالاتا، وحمى التبادل التجاري في الأسواق، حتى الطيور البحرية التي تحلق فوق الرءوس؛ كل شيء قد أصبح مشبعا بعبق الاحتمالات. خطر لها الجزء المفضل لديها من حديث الملازم براشوف لشقيقه قبل وفاته مباشرة: «مع كل خيار، حتى خيار السكون واللانشاط، علينا أن نغلق الباب في وجه مجموعة من المصائر المستقبلية البديلة. وكل خطوة نتخذها في طريق القدر تقلل من الاحتمالات، وتمثل وفاة عالم مواز.» وعندما يفكر المرء في ثقل الخيارات المطروحة، حتى أكثر تلك الخيارات تفاهة، فإنه يصعب تخيل الكيفية التي يقرر بها أي شيء في هذا العالم.
لم تكن إلينورا في مزاج يسمح لها بالحديث عند عودتها إلى المنزل، فقد كان لديها الكثير لتفكر فيه، ولم يكن أمامها كثير من الوقت. وبعد أن أخبرت البك بفحوى زيارتها إلى القصر وعرض السلطان، قضيا المساء غارقين في صمت متبادل، فجلس البك يتصفح جرائد الأسبوع بينما كانت هي تهتم بالخطابات التي لم ترد عليها، ومنها خطاب من طفلة في باريس كانت ترغب في معرفة الكتب التي درستها، وشكوى طويلة من راهب إيطالي يصف الموقف السياسي في سيينا. وردت على بضعة خطابات قبل أن تستغرق في تأمل مجموعة بعيدة من السحب، وأدركت أن الحقيقة أنها لا ترغب في أي شيء؛ لا حماية السلطان ولا البك، ولا كونستانتسا أو روكساندرا، ولا نبوءة السيدة داماكان ولا كل هؤلاء الناس الذين يطلبون نصائحها، بل ما ترغب فيه بشدة أن تصبح وحيدة طليقة مستقلة. ولكن للأسف لم يكن هذا أحد الخيارات المطروحة أمامها.
وبعد تناول عشاء صامت من يخنة اللحم والأرز، انصرفت إلينورا وجرت قدميها إلى الطابق العلوي حتى الفراش. وضعت شمعتها على المائدة المجاورة للفراش، واتجهت إلى الناحية الأخرى صوب النافذة البارزة. كان المضيق يتلألأ كبلورات السكر عاكسا حبلا من المصابيح التي تتدلى بين مآذن المسجد الجديد. استندت بمرفقيها على إفريز النافذة، وحدقت إلى حوائط القصر الذي قد تصبح من سكانه غدا. كانت ترى هياكل سفن تعبر الماء كما لو كانت أشباحا كثيرة، وسمعت على بعد صوت مكبح قطار وهو يتوقف في محطة سيركيزي. كان هذا الصوت يحمل معه خاطرة تحط برقة على إفريز النافذة كما لو كانت طائرا بحريا عابرا للمحيط. وبدا لها الحل المثالي، ولكن قبل أن تتمكن من دراسته قرع الباب. «تفضل.»
كان البك يقف في المدخل وملامحه تبدو كالشبح.
قال: «آمل ألا أكون قد أيقظتك.» رغم أنه كان واضحا أنها لم تنم بعد.
قالت وهي تستدير كي تواجهه: «كلا، على الإطلاق.» «كنت أود أن أخبرك بأنني سوف أبذل أقصى ما في وسعي كي أساندك وأدافع عن مصالحك، مهما يكن قرارك.»
ظل صامتا للحظة وضوء الشمعة يتراقص بشدة على وجهه، ثم مد يده في جيب معطفه وأخرج كيسا صغيرا.
قال وهو يحمل الكيس في راحته المفتوحة: «لقد ترك والدك هذا. كان مع أمتعته.»
وضع الكيس على الطاولة المجاورة للفراش وعاد إلى الردهة، وأخذت ملامحه الحادة تغيب في الظلام. «مهما يكن المسار الذي تختارينه، فسوف يكون مفيدا.»
قالت: «أشكرك، أشكرك على كل شيء.» «لا شكر على واجب.»
أغلق الباب خلفه، وظلت إلينورا ثلاث دقائق كاملة تقف عند النافذة المفتوحة تحدق إلى ظلام غرفتها وهي تفكر في خطتها، ثم أغلقت النافذة وخلعت ثيابها وتسللت إلى الفراش. وقبل أن تطفئ الشمعة فكت الكيس الجلدي الناعم وحدقت بداخله. كانت به عملتا كوروس من فئة العشرة، وخمس عملات من فئة المائة جنيه. لم تكن ذات خبرة كبيرة بالنقود، ولكنها أدركت أن ذلك كاف.
رقدت إلينورا في الفراش تستمع إلى أصوات المنزل وهي تتلاشى، وصرير الأبواب وحركتها وهي تهدأ مفسحة المجال لأصوات خارجية أكثر خفوتا مثل هبوب الرياح عبر أوراق الشجر ووقع أقدام الحيوانات. بزغ القمر كمدينة بعيدة في الأفق مضيئا مكتبها ومقعدها ومائدة الزينة الخاصة بها بالضوء الأبيض الذي يميز أواخر الصيف. سوف تفتقد تلك الغرفة كما افتقدت غرفتها في كونستانتسا، ولكنها لن تستطيع البقاء. لا يمكنها ذلك. عندما ارتفع القمر إلى عنان السماء وصمت المنزل، تسللت إلينورا من الفراش وسارت بحذر حتى خزانتها. نحت فساتينها جانبا وأخذت السروال والقميص والطربوش والسترة التي لاحظت وجودها في يومها الأول في إسطنبول. وضعت المشابك في شعرها، والقليل من غبار الكحل أسفل عينيها، فتمكنت من أن تظهر بمظهر ساع ذي ملامح رقيقة بصورة مقنعة.
ثم أتى دور الخطاب. أخرجت ورقة من درج المكتب الأوسط، وغمست قلمها المفضل في المحبرة، ثم كتبت كلمة واحدة في أعلى الصفحة: «الوداع»، ثم وقعت باسمها ووضعت بصمة أصبعها. كان قلبها يخفق الآن أسرع، وأنفاسها تتلاحق. فتحت الدرج العلوي من خزانة الملابس وأخرجت مؤشر والدتها، ووضعته في جيب معطفها الداخلي. مدت أصابع قدميها وطقطقت فكيها، ثم وضعت كيس والدها الجلدي بجوار المؤشر. نظرت إلى نفسها مرة أخرى في المرآة، ثم مدت رأسها في الردهة وغادرت غرفتها.
وعند أعلى الدرج توقفت ونظرت إلى غرفة الجلوس. كانت غرفة كالكهف ذات أركان مظلمة وظلال تتراقص عند الحواف. أحكمت قبضة يدها على الدرابزين، وتسللت لأسفل الدرج على أطراف أصابعها وهي تتنفس من فمها بينما كانت تستمع إلى وقع أقدامها. وعندما وصلت إلى أسفل الدرج أصدر المنزل أنينا كما لو كانت قد خطت على جرح مفتوح، وامتدت السجادة أمامها كبحيرة من النار تتلألأ بانعكاسات ضوء القمر في الثريا. لمست الكيس في جيب معطفها وسرت رجفة في أوصالها، ثم واصلت طريقها أسفل القاعة الرئيسة حتى جناح الحريم مرورا بالأروقة المظلمة المزدحمة نزولا بالدرج، ثم عبر الباب الحديدي الصغير الذي وجدت أنه يقود إلى خارج إسطبلات البك. تركت الباب مفتوحا قليلا، وتسللت مرورا بمجموعة من الجياد التي تصهل خارج بوابات الإسطبل.
أصبحت خارج المنزل. كان الهواء يداعب كاحليها ولا شيء فوقها سوى السماء، صفحة مظلمة تتخللها لمحات من السماء الزرقاء التي تخفيها. تسلل قط أبيض في طريقها، وغمز لها بعينه الزرقاء الواحدة، ففهمت الأمر. كان العالم كبيرا باردا يفوح بالاحتمالات. كان سربها قد تشتت؛ فقد انتهت مهمته هنا. ألقت نظرة خلفها على منزل البك الأصفر الفخم، وهرعت أسفل الطريق الرئيس. لم تكن واثقة مما إذا كانت قد رأت خيال السيدة داماكان المنحني في نافذتها البارزة بالطابق الثاني، وشقت طريقها عبر الجسر المنير بضوء القمر نحو محطة سيركيزي. من هنا يمكنها أن تستقل قطارا إلى أي مكان في أوروبا، إلى باريس أو بودابست أو برلين أو سانت بطرسبرج أو براج. يمكنها أن تختبئ وتتسلل خارج التاريخ دون أن يلاحظها أحد.
خاتمة
في الثلاثين من أغسطس عام 1886، وبعد تسعة أعوام وأسبوع من مولد إلينورا كوهين، استيقظت إسطنبول على خبر اختفاء عرافتها. شوهدت الهداهد الأرجوانية البيضاء وهي تجثم على مدخل البازار المصري، وفي أفرع شجرة زيتون بالقرب من طريق لو بيتي شون دو مورت، وهي تعبر فوق المستشفى اليوناني القديم خارج بوابة يديكول. وأمسك فتى مقدام من فتيان البلاط بهدهد في سلة الخبز الخاصة بوالدته، ولكن للأسف سرعان ما مات الطائر عقب الإمساك به. أما بقية الهداهد، فقد شوهدت متفرقة تحلق في اتجاهات مختلفة.
وبناء على أوامر فخامة السلطان عبد الحميد الثاني تم إيقاف جميع المواصلات المغادرة للمدينة وتفتيشها، ووضعت الشرطة في حالة استنفار، وأعطي مسئولو السكة الحديدية في نطاق خمسين كيلومترا حول إسطنبول أوصاف إلينورا، وأجريت عملية تفتيش موسعة في البوسفور، وأعطيت رائحة إلينورا لمجموعة من كلاب كانجال من سيفاس. واعتقل كل من منصف بك والسيد كروم والسيدة داماكان للتحقيق معهم، ولكن لم يبد أن أحدهم لديه أي فكرة عن مكان إلينورا. لقد ذهبت. اختفت بلا أي أثر، ولم تخلف وراءها أثرا سوى خطاب وخزانة مليئة بالثياب.
وفي نهاية الأمر أقيمت جنازة وعادت الحياة إلى مسارها الطبيعي؛ عادت روكساندرا إلى كونستانتسا مع زوجها الجديد، وأنهى الكاهن مولر الفصل الدراسي في كلية روبرت، وحصل على منصب في ييل، وعاد منصف بك إلى تنظيم لقاءاته في مقهى أوروبا، واستمر السيد كروم في إبلاغ القصر بتقارير حول أنشطة سيده، وغادرت السيدة داماكان إسطنبول كي تحيا مع ابنة شقيقتها في سميرنا. وقرر السلطان مرتين طرد جمال الدين باشا، ثم وافق بناء على توصية من والدته على إعطائه فرصة أخيرة. وافتتحت مدرسة جديدة للفتيات في زيتينبورو، وأنشئ مسجد يلديز حميدي، وأحبطت خطة سكة حديد برلين-بغداد، ونشر روبرت لويس ستيفنسون روايته «الحالة الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد»، ونصب تمثال الحرية في ميناء نيويورك. وسار التاريخ في مساره كما لو كانت إلينورا كوهين لم تعبره قط.
وعلى مدار العقد ونصف العقد التاليين، استمرت الأقليات في الإمبراطورية في التذمر، وكذلك الدستوريون، ولكن السلطان تمكن من استرضائهم جميعا بمجموعة من الامتيازات التي أتت في وقتها المناسب. وظلت القوى العظمى وإدارة الدين العام تحيط بالإمبراطورية كغربان كثيرة، ولكن العلاقات الآخذة في التحسن بين إسطنبول ولندن منعت حتى أكثر الأطراف المتربصة إصرارا من الاقتراب. ولما كان القيصر قد تعرض للصد في البحر الأسود، فقد حول عدوانه إلى الشرق معززا السيطرة على كامشاتكا، وزاجا بالسفن الحربية اليابانية في أول الحروب الروسية اليابانية الثلاث. وفي نهاية الأمر تخلت فيينا عن «تجربتها الاستعمارية» في البوسنة، متنازلة عن السيطرة على المنطقة إلى حكومة انتقالية أنجلو روسية عثمانية، والتي تنازلت بدورها عن السيطرة على المنطقة إلى تحالف السلاف الجنوبيين. ومع نهاية القرن أدى التوتر المتصاعد بين لندن وبرلين إلى مجموعة من المناوشات البحرية المتزايدة في العنف في بحر الشمال، ولحسن الحظ تم تفادي الحرب الكاملة. وكما يعلم دارسو التاريخ جيدا، فقد أدى حل الصراع في بحر الشمال في نهاية الأمر إلى توقيع معاهدة ديلاوير (المعروفة أيضا باسم معاهدة القوى السبع)، وهي اتفاق عالمي على نزع الأسلحة البحرية اشتهر بالاسم الذي أطلقه عليه نائب الرئيس الأمريكي والأمين العام للبحرية مستقبلا تيودور روزفلت «معاهدة إنهاء كل المعاهدات». ودخلت قصة إلينورا كوهين طي النسيان، وأصبحت مجرد حاشية للتاريخ العثماني في أواخر القرن التاسع عشر، ثم خمد ذكرها تماما للأبد.
অজানা পৃষ্ঠা