قضت إلينورا معظم الأسبوع الأول في الفراش، تغفو وتفيق من نوم مضطرب تلوح فيه الأشباح والكوابيس. كانت السيدة داماكان تأتي إلى غرفتها كل صباح ومساء حاملة صينية الطعام، ثم تعود بعد ساعة كي تحملها سليمة لم ينقص منها سوى قطعة صغيرة من الجبن أو قضمة من حافة البيضة. لم تكن إلينورا تغادر دفء فراشها إلا كي تقضي حاجتها أو تغسل وجهها، وفيما عدا ذلك كانت تقضي الوقت نائمة، وتبذل قصارى جهدها كي تدفع عنها تلك الأفكار غير المرغوب فيها. لم تتفوه بكلمة منذ الحادث، وبدأ الصمت يصبح عادة لديها، رداء ثقيلا تختفي تحته. لم تكن لديها فكرة عما إذا كان سربها لا يزال معها أم لا، ولم تكن تهتم بذلك كثيرا على أي حال. كانت تذكر بصورة ضبابية أنها لمحت وميضا أرجوانيا عند زاوية نافذتها، ولكنه قد يكون حلما.
وذات صباح، قبيل بداية الأسبوع الثاني عقب الحادث، أتت السيدة داماكان إلى غرفتها حاملة منشفة بدلا من صينية الإفطار. أدركت إلينورا أن الاستسلام هو الطريق الأقل مقاومة، فسمحت للخادمة العجوز بأن تغريها لدخول الحمام وتنزع ملاءاتها القذرة وتنظف جسدها الضعيف. وبعد الاغتسال غادرت السيدة داماكان الغرفة ووجدت إلينورا نفسها وحيدة أمام مرآة منضدة الزينة الخاصة بها، وهي ترتدي نفس الثوب المخملي الأزرق الشائك الذي ارتدته في أول ليلة لها في إسطنبول. كانت تشعر بالضعف، نظيفة ولكنها خاوية من الحيوية والطموح. تحركت إلى الجانب الآخر من الغرفة، وفتحت النافذة البارزة لأول مرة منذ أسبوع. وبينما كانت تستنشق الرائحة المؤقتة لبداية الربيع، تذكرت فقرة قرأتها في المجلد الثاني من «الساعة الرملية» تصف حال السيدة هولفرت بعد مرور أقل من شهر على وفاة والديها الحبيبين:
تفتحت أول براعم الربيع بلا ندم، واستحالت كل بتلة سكينا صغيرة تنغرس في أغشية أعضائها الحيوية، مقطعة أوردتها كما لو كانت آلة درس الحنطة، ومعيدة فتح تلك الجراح التي ظنت أنها قد شفيت. ولكن هذا هو أوان ذلك، ورغم جهودنا الحثيثة لإيقاف نموها وإبطاء مسار تقدمها، فإن الحياة تستمر. ولما كانت صامدة، فهي تتهكم بقسوة على ذكرى الموت؛ على الذكرى، وعلى الموت.
أغلقت إلينورا النافذة وأخذت نفسا عميقا حتى شعرت بحدة الهواء في رئتيها، ثم غادرت الغرفة واتجهت إلى الطابق السفلي نحو غرفة الطعام. كان البك على وشك أن يفرغ من تناول إفطاره عندما دخلت. وقفت متجمدة في مدخل الباب بين غرفتي الانتظار والطعام، حاملة قلم حبر في يد وورقة في اليد الأخرى. كان فمها مطبقا بإحكام، وشعرها لا يزال رطبا من آثار الاغتسال. «صباح الخير أيتها الآنسة كوهين.»
هزت إلينورا رأسها وجلست في المقعد المقابل له، وتفرست وجهه ثم نزعت الغطاء عن قلمها وكتبت ردها أعلى الورقة. «صباح الخير.»
قرأ البك ما كتبته وهز رأسه، كما لو كان من الطبيعي التواصل بتلك الطريقة. «هل ترغبين في تناول الإفطار؟»
فكتبت «نعم»، ثم أضافت «من فضلك».
كان الإفطار نفسه الذي تتناوله إلينورا كل صباح منذ قدومها إلى إسطنبول، ولكن رؤيته على صينية الإفطار أمامها أصابتها بالغثيان، ولكنها كانت تعلم أن عليها أن تتناول شيئا. حدقت إلى الطعام، ثم رفعت حبة زيتون إلى فمها، وكادت تتقيأ وهي تستشعر مذاق الزيتون الأملس المالح وتبتلعه. أزالت النواة من فمها، ثم حاولت أن تتناول ملعقة من مربى التوت على الخبز المسطح، ولكنها لم تحتمل بحاسة تذوقها الرقيقة مذاق بذور المربى المسكرة. وهكذا كانت أيضا ملوحة الجبن الشديدة. رغم ما كتبته، لم يكن صباحا جيدا، ولم يكن بوسعها أن تتخيل أن الصباح سيكون جيدا مرة أخرى على الإطلاق.
جلست قبالة البك في تلك الغرفة الباردة الخالية، وتسارعت ذكريات الحادث إلى ذهنها كالفئران على منضدة المطبخ. كانت معه عندما غرقت السفينة، تتعلق معه بلوح خشب هائم على وجهه. ولاحقا تدثرت ببطانية صوفية متسخة على الشاطئ، وتعلقت بشدة بذراعه وعيناها متسعتان من صدمة البرودة والإدراك البطيء بأن حياتها قد تغيرت للأبد. جلس كل من إلينورا والبك هناك على حافة الشاطئ حتى وقت متأخر من ذلك المساء، يرتجفان بينما فرق الإنقاذ تعدو محاولة الوصول إلى مزيد من الناجين. ومع انقضاء الليل اتضحت حقيقة الموقف؛ فكل الذين لم يحتشدوا على الشاطئ قد فارقوا الحياة. نائب القنصل الأمريكي، ومدام كورفيل، والسفير الفرنسي، ومعظم طاقم السفينة، وجنرال روسي شهير يدعى نيكولاي كاراكوزوف، ووالدها يعقوب، كلهم قد فارقوا الحياة.
قال البك: «ثمة أوقات في حياة المرء»، ثم توقف وبدا أنه يراجع أفكاره: «يمكنك البقاء هنا على الرحب والسعة قدر ما تحبين. لقد كان والدك صديقا عزيزا، وإنني مدين له بذلك على الأقل.»
অজানা পৃষ্ঠা