لم تكن إلينورا تعلم أن السفينة مخطط لها التوقف مرتين قبل إسطنبول، وهكذا فعندما أبطأ المحرك لأول مرة وارتفع صوت النفير على سطح السفينة، ارتجف قلبها. هل مر أسبوع بالفعل؟ وكي تؤمن نفسها أخفت فراشها واندفعت خلف صناديق السلطان. صدر صوت طقطقة وصرير، ثم أخذ باب بدن السفينة يفتح. كان الوقت منتصف النهار والشمس تخترق الصدع الذي يزداد اتساعا، والضوء ينصب في كهفها كما لو كان وابلا من السهام المشتعلة. كتمت عطسة بينما شرع ثلاثة من عمال السفن في شحن الصناديق في مقدمة بدن السفينة وتفريغها. وبينما كانوا يحضرون آخر قطعة من الأمتعة للشحن، تشمم أحدهم الهواء وصاح متفوها ببعض الكلمات، فرد عليه زميله ضاحكا. ورغم أنها لم تفهم ما يقولونه، فقد جعل وقع أصواتهم الدم يرتجف في عروقها.
ومع إغلاق الباب الكبير وتدفق المياه للخارج وقعقعة السلاسل الحديدية على نحو غير منتظم، رفرف أحد هداهد إلينورا متجها إلى بدن السفينة. لم تلمح الطائر إلا للحظة واحدة بطرف عينها، ولكن لم يكن لديها شك في أنه أحد أفراد سربها. حلق الطائر في دائرة حول بدن السفينة مرة واحدة، ثم رحل مع إغلاق الباب بالضبط. وعندما تحركت السفينة مرة أخرى في عرض البحر، وجدت إلينورا أن الطائر قد ترك لها هدية؛ برتقالة وضعت في منتصف صندوقها بالضبط. كانت برتقالة كاملة بالساق والأوراق، وتألقت في راحة يدها كما لو كانت شمسا صغيرة. ظلت تحملها فترة طويلة، تاركة دفأها يتدفق في أطرافها. ولما كانت تحمل ثمرة الفاكهة في يديها، أدركت أن سربها ما زال معها؛ ترك أعشاشه في كونستانتسا كي يتبعها عبر البحر، وكي يحرسها أثناء رحلتها. وعندما شعرت إلينورا بالجوع، قشرت البرتقالة والتهمتها قطعة قطعة، متلذذة بانفجار كل جزء غزير العصارة بين لسانها وسقف حلقها.
تلك كانت حياتها في بدن السفينة. ورغم أن معظم احتياجاتها الأساسية كانت تلبى، فإنها لم تكن طريقة لطيفة للعيش، وكثيرا ما تمكن منها شعور بالحنين الجارف إلى منزلها ووالدها، بل حتى إلى روكساندرا. وفي تلك اللحظات، لم تكن ترغب إلا في أن تفصح عن وجودها وتتحسس الطريق إلى السطح، وترتمي بين ذراعي والدها. ولكنها كانت تعلم أنها لو أفصحت عن وجودها مبكرا فسوف تفشل خطتها، وسوف يتخلص منها والدها في ميناء التوقف التالي ويرسل برقية إلى روكساندرا، ولن تسفر كل استعداداتها ومعاناتها إلا عن بضعة أيام من التأخير. وكان السؤال إذن كيف تعلم أن التوقيت مناسب، فلم يكن لديها ساعة أو تقويم أو معرفة واضحة لمسار الرحلة، لم يكن لديها سوى حدسها كي يدلها، وشعور ضبابي بموقعها في العالم.
كانت الليلة الأخيرة في رحلتهما، ليلة ما قبل الوصول إلى إسطنبول، عندما قررت إلينورا أن تفصح عن وجودها. ولم تكن تعلم بالطبع أن السفينة سوف تدخل مصب البوسفور في ذلك الصباح، ولكنها شعرت بتغيير طفيف في شدة الأمواج وانخفاض في قوة التنور، وبأن الوقت قد حان. وبعد أسبوع طويل قضته في بدن السفينة، كانت متسخة، وكانت رئتاها مليئتين بالفحم، وقد بدأت تشعر بألم في بطنها. تخيلت هيئتها، وخطر لها أن تحاول الاغتسال، وغسل وجهها بطريقة ما، أو ابتكار رداء جديد من أحد أثواب النسيج، ولكن لم تكن ثمة مياه في بدن السفينة، وأي رداء يمكنها ابتكاره سوف يفسد المزيد من بضاعة والدها. عليها أن تقدم نفسها كما هي.
مشطت شعرها للخلف، وعدلت ثوبها، ورتبت المكان حول الصندوق، ثم شقت طريقها عبر المنظر المألوف للأمتعة متجهة إلى الباب الحديدي الكبير الذي يؤدي إلى خارج بدن السفينة. وقفت إلينورا أمام الباب، ومررت أصابعها على سطحه المعدني الذي تشبه تجاويفه البثور في الباب المؤدي إلى علية السيدة براشوف. خلف هذا الباب يقبع والدها، وكل ألوان الطعام ووسائل الراحة في النوم، والحساء الساخن، والوسائد المصنوعة من الريش، وهواء البحر النقي. سرت رجفة من القلق في أناملها، وتوقفت كي تنظم أنفاسها. لقد حانت اللحظة. كانت أكثر خوفا مما توقعت؛ خائفة من رد فعل والدها، ومن أن يلقى القبض عليها قبل أن تجده، ومن أي كم من العواقب المخيفة التي لا يمكنها حتى أن تتخيلها. ولكن لم يكن لديها خيار آخر. فلا مخرج آخر. أخذت نفسا عميقا كي تهدأ، وأمسكت بمقبض الباب بكلتا يديها، ثم دفعته لتجد نفسها في ممر رطب خال يعد معتما وفقا للمعايير الطبيعية رغم أنه ساطع الإضاءة مقارنة بظلام بدن السفينة.
فركت عينيها وسارت في الممر بضعة أمتار حتى وصلت إلى غرفة مليئة بالأزرار والروافع والعجلات التي تطلق كلها أصوات صفير وطقطقة كما لو كانت مقهى مزدحما. وبينما وقفت إلينورا كي تختار الباب الذي ستمر عبره من بين الأبواب الثلاثة المتاحة، سمعت مجموعة من الكلمات، التي لم تتمكن من رؤية أصحابها، تعبر واضحة وسريعة كالملائكة. استمعت إلى الأصوات وهي تقترب أكثر فأكثر حتى أصبحت أمام باب الغرفة تماما.
ارتفع صوت رجل وهو يفتح الباب: «لا بد أنه هنا في مكان ما.»
واستطاعت من موقعها خلف كتلة من الأنابيب أن تلمح رجلين؛ أحدهما أكثر ضخامة من الآخر، وكان شارباهما وعمامتاهما تعكس ظلا منحنيا على الباب المفتوح خلفهما. «أين قال إنه موجود؟»
وعندما تحدث الرجل الثاني، أدركت إلينورا أنهما يتحدثان بالتركية. لم تكن قد سمعت تلك اللغة إلا في الدروس التي لقنها إياها والدها، ولكن بقليل من التركيز استطاعت أن تفهم جيدا. «قال إنه هنا.» «أين؟» «لو كنت أعلم ما كنا لنبحث عنه الآن.»
أخذ الرجل الأول خطوة صغيرة للخلف ورفع المصباح بحيث أضاء الغرفة. «هل رأيت ذلك؟» «كلا.»
অজানা পৃষ্ঠা