وفي رحلة العودة من القصر، رأت إلينورا إسطنبول بلون جديد: القصور الساحلية، والرجال المسنين الذين يصطادون على جسر جالاتا، وحمى التبادل التجاري في الأسواق، حتى الطيور البحرية التي تحلق فوق الرءوس؛ كل شيء قد أصبح مشبعا بعبق الاحتمالات. خطر لها الجزء المفضل لديها من حديث الملازم براشوف لشقيقه قبل وفاته مباشرة: «مع كل خيار، حتى خيار السكون واللانشاط، علينا أن نغلق الباب في وجه مجموعة من المصائر المستقبلية البديلة. وكل خطوة نتخذها في طريق القدر تقلل من الاحتمالات، وتمثل وفاة عالم مواز.» وعندما يفكر المرء في ثقل الخيارات المطروحة، حتى أكثر تلك الخيارات تفاهة، فإنه يصعب تخيل الكيفية التي يقرر بها أي شيء في هذا العالم.
لم تكن إلينورا في مزاج يسمح لها بالحديث عند عودتها إلى المنزل، فقد كان لديها الكثير لتفكر فيه، ولم يكن أمامها كثير من الوقت. وبعد أن أخبرت البك بفحوى زيارتها إلى القصر وعرض السلطان، قضيا المساء غارقين في صمت متبادل، فجلس البك يتصفح جرائد الأسبوع بينما كانت هي تهتم بالخطابات التي لم ترد عليها، ومنها خطاب من طفلة في باريس كانت ترغب في معرفة الكتب التي درستها، وشكوى طويلة من راهب إيطالي يصف الموقف السياسي في سيينا. وردت على بضعة خطابات قبل أن تستغرق في تأمل مجموعة بعيدة من السحب، وأدركت أن الحقيقة أنها لا ترغب في أي شيء؛ لا حماية السلطان ولا البك، ولا كونستانتسا أو روكساندرا، ولا نبوءة السيدة داماكان ولا كل هؤلاء الناس الذين يطلبون نصائحها، بل ما ترغب فيه بشدة أن تصبح وحيدة طليقة مستقلة. ولكن للأسف لم يكن هذا أحد الخيارات المطروحة أمامها.
وبعد تناول عشاء صامت من يخنة اللحم والأرز، انصرفت إلينورا وجرت قدميها إلى الطابق العلوي حتى الفراش. وضعت شمعتها على المائدة المجاورة للفراش، واتجهت إلى الناحية الأخرى صوب النافذة البارزة. كان المضيق يتلألأ كبلورات السكر عاكسا حبلا من المصابيح التي تتدلى بين مآذن المسجد الجديد. استندت بمرفقيها على إفريز النافذة، وحدقت إلى حوائط القصر الذي قد تصبح من سكانه غدا. كانت ترى هياكل سفن تعبر الماء كما لو كانت أشباحا كثيرة، وسمعت على بعد صوت مكبح قطار وهو يتوقف في محطة سيركيزي. كان هذا الصوت يحمل معه خاطرة تحط برقة على إفريز النافذة كما لو كانت طائرا بحريا عابرا للمحيط. وبدا لها الحل المثالي، ولكن قبل أن تتمكن من دراسته قرع الباب. «تفضل.»
كان البك يقف في المدخل وملامحه تبدو كالشبح.
قال: «آمل ألا أكون قد أيقظتك.» رغم أنه كان واضحا أنها لم تنم بعد.
قالت وهي تستدير كي تواجهه: «كلا، على الإطلاق.» «كنت أود أن أخبرك بأنني سوف أبذل أقصى ما في وسعي كي أساندك وأدافع عن مصالحك، مهما يكن قرارك.»
ظل صامتا للحظة وضوء الشمعة يتراقص بشدة على وجهه، ثم مد يده في جيب معطفه وأخرج كيسا صغيرا.
قال وهو يحمل الكيس في راحته المفتوحة: «لقد ترك والدك هذا. كان مع أمتعته.»
وضع الكيس على الطاولة المجاورة للفراش وعاد إلى الردهة، وأخذت ملامحه الحادة تغيب في الظلام. «مهما يكن المسار الذي تختارينه، فسوف يكون مفيدا.»
قالت: «أشكرك، أشكرك على كل شيء.» «لا شكر على واجب.»
অজানা পৃষ্ঠা