تابع السلطان قائلا: «لم تسمع الآنسة كوهين اليوم شيئا لن تقرأه في صحف الغد، ولكنها أثبتت من حصافة نصيحتها أنها تفهم الموقف السياسي جيدا. وبالنسبة إلى الحكمة في أخذ النصيحة من طفلة، فإنني شخصيا أميل إلى الرأي القائل بأن النصيحة السديدة سديدة أيا كان مصدرها، وأعتقد أنه عليك تقدير هذا الموقف كالجميع.» «بالفعل يا فخامة السلطان.» «بالإضافة إلى ذلك، فقد تصادف أن عبرت الآنسة كوهين عن نفس رأيي في الأمر. ولو كانت متسولة أو قردة أو حتى قيصر روسيا نفسه، لكنت أيضا سأقبل نصيحتها.»
قال الصدر الأعظم: «يا فخامة السلطان، بعيدا عن مصدر النصيحة، يجب أن أعارضك بشدة بشأن سياسة عدم الاشتباك.»
توقف كي يقيس رد فعل السلطان قبل أن يستفيض في إيضاح تلك النقطة. «إذا لم نطلق مجرد طلقة تحذيرية، فإننا بذلك نتنازل فعليا عن البحر الأسود للروس، كما أنني أخشى أن يفسر الجنرال فون كابريفي عدم اتخاذنا رد فعل بأنه إهانة مباشرة لتحالفنا مع القيصر.» «وما فائدة تحالف يجبرك يا صديقي على التصرف ضد مصالحك؟» «كما تعلم يا فخامة السلطان فإن الألمان من أهم حلفائنا، فهم يملكون ثاني أقوى أسطول بحري في العالم، وقد أقسموا على حماية مصالحنا أينما تتعرض للخطر.» «ولم لا يحموننا من الروس الآن؟»
ودون أن ينتظر إجابة، أصدر عبد الحميد أمره النهائي. «أخبر قبطان ميسودي بألا يطلق النيران ما لم تطلق عليه النيران، وأن يتجنب الاشتباك المباشر قدر الإمكان.»
ظل الصدر الأعظم صامتا فترة طويلة قبل أن يجيب. «إنني أتفهم يا فخامة السلطان أن ذكرى حادث تفجير السفينة أنتيكبا قد تجبر المرء على تجنب إطلاق النار على زورق طوربيد روسي.»
قال عبد الحميد وهو ينهض واقفا من على أريكته: «إن أنتيكبا لا علاقة لها بقراري.»
ودون أن يتفوه السلطان بكلمة أخرى، غادر غرفة المقابلات. أغمض عينيه في وهج الشمس الساطع، وسار عبر ممر الحديقة الخاص بمكتب الإندرون، من مكتبة أحمد الثالث حتى جناح الخدم جيئة وذهابا. بصرف النظر عن مشاعره تجاه الاشتباك البحري، كان واضحا أن الروس يحاولون إثارة رد فعل يمكنهم استغلاله ذريعة لمعركة أكبر، وكان واضحا أيضا على الرغم من كل ما يؤكده جمال الدين باشا أن الألمان سوف يستفيدون بشدة من حدوث مناوشة عثمانية روسية في البحر الأسود. وهكذا، فإن عدم الاشتباك هو أفضل رد في الوقت الحالي على الأقل بصرف النظر عن توصيات الجنرال فون كابريفي. لم يكن عبد الحميد مستمتعا بالتنازل عن المعركة، ولكن كما قال داريوس الأول بحكمة: «لا حاجة لاستخدام القوة حيث تفيد الحيلة.»
حتى لو كان عبد الحميد يرغب في استخدام القوة، فهو يعلم أن الإمبراطورية أضعف من أن تحتمل حربا ممتدة مع الروس. وكان بالكاد ما يمكنه هو تزويد القصر بالموظفين، فضلا عن الحكومات المحلية؛ والأقليات تصرخ مطالبة بمزيد من التمثيل، بل الحكم الذاتي في بعض الحالات؛ وجيشه الذي كان يوما ما مصدر رعب لفيينا وبودابست يعاد تشكيله بواسطة الجنرالات الأوروبيين. حتى مع إنشاء كلية الترجمة وتحديث الأسلحة العسكرية والسكة الحديدية، وبرغم التعديلات الدستورية التي قام بها، فالإمبراطورية على شفا كارثة. كان عبد الحميد يشعر كل يوم بالأغلال تضيق حوله. ولو كان بوسعه أن يسحب الإمبراطورية بعيدا عن سيطرة القوى العظمى ويسدد ديونها ويلغي الامتيازات الأجنبية ويطرد المستشارين العسكريين الأجانب، لتمكن عندئذ من استعادة السيطرة على البحر الأسود. ولكنه في تلك اللحظة كان عليه التحلي بالحذر.
توقف عبد الحميد عند المزولة المجاورة لجناح الخدم، وتخلل بأصابعه التجاويف التي تمثل ساعات اليوم. كان ظل الشمس يميل إلى مفاصل أصابعه مستمرا في طريقه. ورغم قوته كان يعلم أن ثمة الكثير من الأمور التي تخرج عن نطاق سيطرته. على المرء أن يبذل أقصى ما في وسعه ضمن حدود التاريخ. وتمنى في نفسه لو كان جمال الدين باشا يفهم ذلك، لو كان مستشاروه يشبهون الآنسة كوهين، غير مكبلين بالتقاليد ولا يخشون الحديث بصراحة . توقف كي يتأمل هدهدا باللونين الأرجواني والأبيض جاثما على السقف المقوس لغرفة المقابلات، هز رأسه نحو اليسار ثم حلق عبر الماء. إنه هو. قرع السلطان عصا المزولة بمفصل أصبعه، ثم توجه مباشرة إلى مكتبة أحمد الثالث.
وعندما دخل هناك، كاد أمين المكتبة يسقط عن السلم من الصدمة.
অজানা পৃষ্ঠা