আমি স্বাধীনতা সম্পর্কে কথা বলছি
عن الحرية أتحدث
জনগুলি
تلك هي خلاصة الفكرة عند أبي حيان التوحيدي (في القرن الرابع الهجري) وعند «ج. ك. تشسترتون» في عصرنا، وهي التي أصابت صاحبنا الطالب المهندس بالقرف من التراث؛ ولذلك صمم على أن يهجره، ولم يكن قد خطا فيه إلا مقدار أصبع من قدم.
وربما سألني الطالب صاحب الرسالة: وبماذا ينفع الناس هذا الكلام؟ وهنا نجيبه قائلين: إنه كلام يلقي الضوء على ما غمض من طبيعة الإنسان فيزداد الناس علما بأنفسهم، وبالتالي فهم يزدادون مهارة في التعامل بعضهم مع بعض، أم أن هذا في ظنك حصاد قليل؟ وما دمنا نتحدث الآن عن طبيعة الإنسان، وكيف تنطوي تلك الطبيعة على «تغالب بين الذكاء والإرادة» (وهذه عبارة التوحيدي) فيحسن بنا أن نقف دقيقة أخيرة عند هذين الجانبين : الإرادة والعقل؛ لنحدد على شيء من الدقة نوع العلاقة القائمة بينهما، لأهمية هذا التحديد في مواقف كثيرة جدا من حياتنا العملية، ومن أهمها ما ينبغي أن تكون عليه الصلة بين رجال السياسة ورجال العلم، فالإرادة «رغبة» من صاحبها في تحقيق هدف معين يبتغيه لنفسه، لكنها لا تشتمل في ذاتها على «معرفة» الوسائل التي بها تتحقق تلك الرغبة، فيأتي أهل العلم ليحددوا بعلومهم المختلفة - كل عالم منهم في مجاله - ماذا تكون وسائل التحقيق في الهدف وكيف نعالج تلك الوسائل لكي توصلنا إلى ما كنا أردناه، فرجال السياسة، من حيث هم، في مجموعهم، يعكسون الرأي العام، يريدون للأمة أن تبلغ غايات معينة، فهم يريدون «مثلا» أن تزال الأمية، وأن يكون لكل مواطن فرصة للعلاج الطبي، وألا يقل متوسط الدخل للمواطن عن كذا من الجنيهات في السنة، هم يريدون، لكن ليس من شأنهم أن يقولوا كيف يكون السبيل إلى تحقيق ما يريدون؛ لأن ذلك من شأن العلماء في تخصصاتهم المختلفة، فالرغبة الأولى من الرغبات التي ذكرناها، هي من شأن علماء التربية والتعليم، والرغبة الثانية من شأن علماء الطب، والرغبة الثالثة من شأن علماء الاقتصاد، وهكذا يتبين لنا كيف تجيء «الإرادة» في حياة الإنسان أولا، ثم يجيء «العقل» (متمثلا في العلوم) ليخدم الإرادة فيما اتجهت إليه. ثم لا بد لنا من إضافة خطوة ثالثة وأخيرة، وهي أنه إذا ما وضع العلم خطته فهو وحده لا يملك التنفيذ، فتعود القوة المريدة مرة أخرى لتعين في أن تتحول الخطة العلمية إلى عمل، فالإرادة هي بمثابة من يأمر أولا والعقل العلمي بمثابة من يأتمر في بيانه كيف يكون الوصول، وأخيرا يتعاون الجانبان في مجال العلم، فإذا سئلنا - على هذا الضوء - على أي نحو ينبغي أن تكون العلاقة بين الجامعات والمجتمع، كان الجواب واضحا، وهو: المجتمع يعلن عن مشكلاته ورغباته والجامعات تعرض الحلول العلمية لتلك المشكلات ولتحقيق هذه الرغبات، ثم يتعاون الجميع على إخراج الخطة النظرية إلى حيز الوجود.
الفصل الرابع والعشرون
كلمة حق عن هذا الجيل
للآباء أحيانا طريقة يتحدثون بها إلى أبنائهم كلما أرادوا أن يشحذوا فيهم الهمة والطموح، وهي أن يتحسسوا فيهم مواضع الضعف فيضخموها، وأن يسكتوا عن مواضع القوة التي يعرفونها في أبنائهم ، فلا يذكرونها ظنا منهم أن ذلك أدعى إلى استثارة هؤلاء الأبناء إلى مزيد من الجهد وإلى ارتفاع بدرجة الطموح، لكن انظر إلى أولئك الآباء أنفسهم إذا ما ساقت لهم المصادفات من يقول عن أبنائهم ما قالوه هم لأبنائهم من تضخيم لمواضع الضعف وسكوت عن مواضع القوة، انظر إليهم كيف يجيبون بجواب يقلبون فيه الرأي سكوتا عن الضعف وإظهارا للقوة؛ فهم عندئذ يبرزون للمهاجم الغريب ما قد أغمض عنه العين من قدرات أبنائهم لائذين بالصمت عما فيهم من عجز وتخاذل، وشبيه بهذا الموقف من الآباء نحو أبنائهم موقف المصري عندما يشدد كلمات النقد التي يوجهها إلى مواطنيه، حتى إذا ما سافر إلى خارج وسمع نبرة نقد من غريب انبرى له موضحا ومصححا، وليس في هذا كله شيء من تناقض؛ لأن التناقض لا يكون إلا إذا حكمنا بالكذب على شيء هو نفسه الذي كنا بالأمس قد حكمنا عليه بالصدق، وأما ما نحن صانعوه حين ننقد أبناءنا في مواضع قصورهم غاضين أبصارنا عن مواضع قدرتهم؛ فإنما نحن نتحدث عن جانب ونسكت عن جانب آخر، ومن حق المتكلم أن يختار ما يتحدث عنه من الجانبين، وربما اختار لحديثه الجانبين معا.
وإنني لأعلم عن نفسي كم أهاجم هنا وكم أدافع هناك، فهنا أصطنع موقف أولئك الآباء في الجانب الذي يهاجمونه من أبنائهم، وفي الجانب الذي يلتزمون عنه الصمت، وهناك أقلب الأسطوانة فلا يتحرك لساني أو قلمي إلا بما أعرفه عن أبنائي من قدرات ومواهب ساكتا عما هو غير ذلك، ومرة أخرى أقول إنه لا تناقض في موقف كهذا ولا كذب، بل هو الصدق في الحالتين، فإذا قيل: لكنه صدق وليس هو «كل» الصدق؛ كان الشفيع في ذلك هو حب الوالد لأبنائه والرغبة البصيرة في أن يراهم من الموكب الحضاري في طلائعه.
أقول هذا تمهيدا للرد على خطاب جاءني من السيد أحمد عبد العزيز أحمد متسائلا في مرارة عن جيله هذا ما الذي أصابه ليجعله جيلا مسطحا ممسوح القسمات حتى ليتعذر على الفاحص أن يقع له على سمات تميزه، ولماذا امتلأ الجيل الماضي بالعمالقة بينما خلا هذا الجيل منهم، فلم يكونوا إلا مجموعة من أقزام. فشعرت - عندما قرأت الخطاب - أن واجب الحق يقتضي أن أقول كلمة الصدق فيما تعودت أن أغمض عنه العين غالبا، ولا أهتم بذكره إلا قليلا معتذرا لنفسي عن ذلك بأن جانب القوة في هذا الجيل هو جانب مكسوب، فإذا كان لنا كفاح لنتجه به نحو الجانب المفقود؛ فالمقارنة بين الجيلين إذا تنزهت عن الأغراض الخاصة إنما تدلنا على أن لكل جيل حسناته التي يتفوق بها على الجيل الآخر، ففي الحياة الثقافية - بصفة عامة - كان الكاتبون الأعلام «قارئين أكثر منهم كاتبين»؛ إذ الكثرة الغالبة مما كتبوه إنما هي عروض جيدة لما قرءوه. ولقد قرءوه من كتب التراث آنا ومن ثقافات الغرب آنا آخر، وكان لهم في ذلك فضل كبير، لكنه فضل من يمهد الأرض للبناء، والبناء هو الإبداع الذي يأتي أصحابه بجديد غير مسبوق لا في صفحات التراث ولا في صفحات الغرب، وجاء هذا الجيل ليجد الأرض ممهدة يبني مبدعاته، ولذلك غلبت عليه وسيلة الرواية والقصة والمسرحية بعد أن كانت تلك الوسيلة نادرة الظهور عند الجيل الماضي، والفرق واضح - بالطبع - بين الحالتين، فبينما كانت أصابع الجيل الماضي مشغولة بتقليب الصفحات للأخذ عنها، ترى أصابع هذا الجيل مشغولة بالنبض الحي تحسه في أبناء الشعب أينما كانوا على اختلاف أعمالهم وتفاوت درجاتهم، وهكذا استبدلوا بكتب الجيل الماضي مطالعة لحياة البشر.
وكانت تلك الخطوة نحو الإبداع عند أبناء هذا الجيل لتكون نقلة بنا نحو ما هو أفضل وأبعد تقدما، لولا أن خالطها ما قيدها وأنقص من قيمتها، وذلك أن أبناء هذا الجيل قد أحاط بهم ما ملأ آذانهم بضرورة توكيد المصري لذاته، وإلى هنا والدعوة خيرة ووطنية ومقبولة، لكن الأمر لم يقف بهم عند هذا الحد المعقول المقبول، بل تجاوزه ليملأ آذان أبناء هذا الجيل بإضافة ليست محققة الصواب، وهي أن توكيد الذات يقتضي بالضرورة كراهية الآخرين، وهي كراهية تقتضي بالضرورة - كما أفهموهم - أن يتنكروا لما عند أولئك الآخرين من فكر وأدب وفن، فإذا أضفنا إلى ذلك الموقف اللاثقافي واللاحضاري، بل واللاأخلاقي واللاوطني أيضا، إذا أضفنا إليه جانبا آخر هو أنه حتى لو لم يكن عند أبناء هذا الجيل تلك الكراهية وما تقتضيه في ظنهم من رفض لثقافة المكروه لوجدوا في أنفسهم ما يسد عليهم طريق الاتصال بتلك الثقافات الأخرى، بل ما يسد عليهم كذلك طريق الاتصال بالثقافة العربية ذاتها، وهي في عيونها ومصادرها، وذلك لضعف القدرة اللغوية فيما يختص باللغة العربية ولانعدام قدرتهم - تقريبا - في اللغات الأجنبية فنتج عن ذلك أن أصبحوا - إذا استثنينا ترجمات شائهة في معظم الحالات - مغلقين في أبراج مصمتة لا يكادون يعرفون شيئا مما يعج به الغرب من فكر وأدب، اللهم إلا أسماء مؤلفين وعناوين لكتب يخطفونها خطفا من هنا وهناك ليوهموا الناس بأنهم إذ يزدرون الغرب وثقافته؛ فذلك إنما يفعلونه عن علم ودراية، فانتهى بهم هذا الشذوذ كله إلى نتيجة غريبة، وهي أنهم لما كانت لبعضهم مواهب الإبداع فقد أبدعوا، لكنهم كذلك كانوا فقراء فكر للأسباب التي قدمناها فجاء ما أبدعوه محدود القيمة إذا كانت القيمة هي أن يدوم نتاجهم لتقرأه أجيال بعد أجيال كما هي الحال في البديع إذا جادت خامته. وكما كان الأدباء الأعلام في جيلنا الماضي يكتبون عما قرءوه أكثر جدا مما يكتبون ما أبدعوه، وبذلك جاءت كتاباتهم وكأنها خالية من حياة الناس على أرضنا، فكذلك كان شأن الدارسين أعلاما وغير أعلام؛ إذ كانوا ينشرون دراساتهم، فإذا هي قد اتخذت موضوعات من أقطار الدنيا في هذا العصر أو فيما سبق من عصور، وكأن مشكلات مصر الآن ليست من شأنها ولا من أخصاصها، فكان يندر أن يجد الشاب القارئ الدارس كتابا عربيا حديثا في أي موضوع حيوي يعرض له ويريد أن يزداد به علما، فكان الشاب منا كلما عرض له موضوع جديد ورغب في القراءة عنه؛ اتجه رأسا إلى البحث عنه في مظانه من المؤلفات الأجنبية؛ إذ كان أمرا مفروغا منه ولا يحتاج منا أن نسأل عن كتاب عربي حديث في موضوعنا، ولكن انظر الآن إلى ما ينتجه الدارسون في هذا الجيل في شتى الموضوعات الجديدة، فما من ميدان إلا وقد صدرت فيه عدة مؤلفات لعلمائنا والدارسين من أبنائنا، فهذه - إذن - نقطة محسوبة بغير أدنى شك لصالح هذا الجيل على سابقه. فالفكرة التي كان الدارس من أبناء الجيل الماضي يكتفي في عرضها بمقالة في مجلة أو صحيفة أصبح الدارس من أبناء هذا الجيل لا يرضيه فيها إلا كتاب.
لكننا وقد أنصفنا هذا الجيل، فاعترفنا له بأنه أكثر من سالفه لجوءا إلى الإبداع في الأدب وإلى إفاضة القول في الدراسات العلمية وما يشبهها، فليس من حقنا أن نتجاهل حقيقة صارخة في المقارنة بين الجيلين في هذا المجال، وتلك الحقيقة الصارخة بوضوحها هي أنه إذا رأينا هذا الجيل في دنيا الأدب «أكثر» إبداعا؛ فهي كثرة عددية. ولقد عوض الجيل الماضي عن ضيق المجال الإبداعي بارتفاعه في جانب الإجادة، وما زلنا نجد في هذا الجيل الحاضر نفسه أو شوامخه ليسوا من أبنائه، بل هم ممن ينتمون إلى الجيل الماضي، وشاء الحظ الحسن للأدب العربي أن يمتد بهم الأجل، بارك الله لهم في حياتهم وأطال أعمارهم، ليظلوا منارات تشهد بقوة ضيائها أنهم أبناء جيل أخلص وأجاد.
وهذه المقارنة نفسها بين الجيلين في دنيا الأدب قلة جيدة فيما مضى وكثرة معظمها هزيل فيما هو قائم حولنا اليوم، أقول إن هذه المقارنة نفسها تصدق كذلك على مجال الدراسات البحثية، بمعنى أنه إذا كان دارس الجيل الماضي تكفيه المقالة أو سلسلة المقالات في عرض دراسته بينما دارس اليوم يلجأ إلى وسيلة «الكتاب»، فلقد اقترنت القلة الكمية عند الجيل الماضي - أحيانا كثيرة - بقوة الفكرة المعروضة وأصالتها، في حين أن مثل تلك القوة وهذه الأصالة هما في كتب أبناء هذا الجيل أندر من الكبريت الأحمر كما يقال، وإذا شئت فقارن أعوام العشرينيات بأعوام السبعينيات - وبينهما نصف قرن - فبينما كان العمل الفكري أو الفني يصدر عن صاحبه ليشق أمام الناس دربا جديدا غير مطروق، وغالبا ما يكون الدرب الجديد مصحوبا بنوع من الحرية جديد. تبحث في نتاج السبعينيات عن أمثال تلك الضربات الخلاقة؛ فلا تجد منها إلا ما هو أقل من القليل، فإذا طالبتني بشرح ما أعنيه بالضربات الخلاقة أجبتك بأنها الضربات التي من شأنها أن تغير طريق السير المعتاد المألوف ليصبح أمام الناس معيارا جديدا ووجهة نظر جديدة.
অজানা পৃষ্ঠা