আমি স্বাধীনতা সম্পর্কে কথা বলছি
عن الحرية أتحدث
জনগুলি
مقدمة
القسم الأول: عن الحرية أتحدث
1 - هذه ألف باء الحرية
2 - معجزة الحياة إبداعها
3 - وهكذا انسابت خواطري
4 - شرح وتشريح
5 - رهبة المجهول
6 - حرية الفكر مرة أخرى
7 - المسلم الجديد
8 - رأس الحكمة مخافة الله
অজানা পৃষ্ঠা
9 - التراث هو أول الطريق
10 - صورة يفزعني صدقها
11 - ضمير مكتوم
12 - تلك هي القضية
13 - فكرة الأدب وأدب الفكرة
القسم الثاني: إنسانية الإنسان
14 - إنسانية الإنسان
15 - ويل للمعاصرين من المعاصرين
16 - عين فتحة عا
17 - سلطان الكلمات
অজানা পৃষ্ঠা
18 - شيء من روح العصر
19 - يوم الثقافة العربية
20 - خطاب من مجهول
21 - كانت بالأمس شجرة خضراء
22 - سبع سنابل
23 - إرادة تأمر وعقل يأتمر
24 - كلمة حق عن هذا الجيل
25 - قوة الساحر
26 - نريدها صحوة واعية
27 - أستاذ يحلم
অজানা পৃষ্ঠা
28 - العصور هي أفكارها
29 - ورقة مزقها طفل
30 - وللشمس شروق بعد كل غروب
مقدمة
القسم الأول: عن الحرية أتحدث
1 - هذه ألف باء الحرية
2 - معجزة الحياة إبداعها
3 - وهكذا انسابت خواطري
4 - شرح وتشريح
5 - رهبة المجهول
অজানা পৃষ্ঠা
6 - حرية الفكر مرة أخرى
7 - المسلم الجديد
8 - رأس الحكمة مخافة الله
9 - التراث هو أول الطريق
10 - صورة يفزعني صدقها
11 - ضمير مكتوم
12 - تلك هي القضية
13 - فكرة الأدب وأدب الفكرة
القسم الثاني: إنسانية الإنسان
14 - إنسانية الإنسان
অজানা পৃষ্ঠা
15 - ويل للمعاصرين من المعاصرين
16 - عين فتحة عا
17 - سلطان الكلمات
18 - شيء من روح العصر
19 - يوم الثقافة العربية
20 - خطاب من مجهول
21 - كانت بالأمس شجرة خضراء
22 - سبع سنابل
23 - إرادة تأمر وعقل يأتمر
24 - كلمة حق عن هذا الجيل
অজানা পৃষ্ঠা
25 - قوة الساحر
26 - نريدها صحوة واعية
27 - أستاذ يحلم
28 - العصور هي أفكارها
29 - ورقة مزقها طفل
30 - وللشمس شروق بعد كل غروب
عن الحرية أتحدث
عن الحرية أتحدث
تأليف
زكي نجيب محمود
অজানা পৃষ্ঠা
مقدمة
منذ فتحت أبوابنا على حضارة العصر الجديد حين أدركنا - أوضح ما يكون الإدراك - أن فروسية المماليك - بكل ما كانت تتصف به من براعة ومهارة - لم تنفعهم أمام فنون حربية هاجمهم بها نابليون في معركة الأهرامات، وهي فنون لم يكن لهم بها عهد من قبل، أقول إنه منذ ذلك اليوم، الذي لم يكن قد بقي بعده إلا عامان، ليبدأ القرن التاسع عشر، أصبحت القضية الكبرى التي واجهت كل ذي فكر وصاحب قلم في بلادنا، هي قضية الملاءمة الصحيحة بين ما كنا قد ألفناه قبل ذلك من صور الحياة، وما جاء به ذلك الوافد الجديد.
فإذا نحن استثنينا فريقا - وكان في الحق فريقا كثير العدد واسع الانتشار - وقف من المسألة كلها وقفة الرافض، فلا هو راغب في أن يطور ما بين يديه، ولا هو قادر على دفع المهاجم عن بلاده، ألفينا تيار الفكر في بلادنا قد اتجه أساسا نحو ضرب من المواءمة بين الطرفين، وأخذنا نسعى إلى تجديده وتوضيحه، لكي نضمن لأنفسنا بقاء هويتنا الوطنية والقومية بمنجاة مما قد يصيبها بالضياع أو حتى بالانتقاص، ثم لكي نضمن في الوقت نفسه ألا يفوتنا العصر بما فيه من أسباب القوة بكل أشكالها وفروعها.
وكان أهم ما تفرع لنا عن تلك القضية الأساسية حق «الحرية»؛ إذ كانت فكرة «الحرية» قد اكتسبت من الثورة الفرنسية - وما جاء بعدها من مراحل التاريخ في الغرب - أبعادا جديدة لم تكن قط مذكورة في تراثنا بأكثر من كلمات مفردة هنا وهناك، وما تاريخنا الفكري الحديث والمعاصر، إلا سلسلة من جهود بذلت للمطالبة بالحريات المختلفة، كما وكيفا، فكلما تحقق للناس جانب من جوانب الحرية، أو تحقق لهم نوع من أنواعها بقدر قليل أو بقدر أكثر من القليل؛ طالب قادة الفكر بجانب آخر، أو ينبوع آخر، وبقدر أكبر مما قد ظفر به المواطنون.
وقد تجد منا اليوم من يتوهم بأنه لم يعد في الإمكان أحسن مما كان، لكننا في الحقيقة ما زال يعوزنا من «الحريات» شيء كثير.
وفي هذا الكتاب محاولات، أردنا بها أن نبين - من زوايا مختلفة - بعض ما ينقصنا في سبيل حياة حرة بمعناها الأكمل، وأن نوضح بشتى الصور كيف نحيا حياتنا إذا أردنا اكتساب الجانب المفقود.
وبعد أن فرغنا من الحديث عن الحريات أوردنا في الكتاب قسما ثانيا، خصصناه لضرب آخر من «القيم»، ليس منقطع الصلة بموضوع «الحرية»، وأعني بها إحساس الفرد الواحد بوجود «الآخرين»؛ إذ لا يكفي أن يعيش الفرد حرا، بالمعاني الكثيرة التي وردت في القسم الأول، بل لا بد له أن يعي وعيا كاملا بأن ثمة «آخرين » لهم حقوق كحقوقه، وإنما نقول ذلك؛ لأن ما نراه اليوم في حياتنا، يوحي بأن كل فرد يسعى إلى تحقيق أهدافه حتى لو داس بقدميه على رءوس مواطنيه، على أن إحساس المواطن الفرد بمن يعايشونه في وطن واحد، إنما هو «قيمة» اجتماعية عرفناها بكل قوتها في تاريخنا، والمطلوب هو عودة الضال إلى طريق آبائه، وليس من شك في أن الأصيل عائد إلى أصله، كما يكون للشمس شروق جديد بعد كل غروب.
وبالله التوفيق.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
অজানা পৃষ্ঠা
عن الحرية أتحدث
الفصل الأول
هذه ألف باء الحرية
المدينة هادئة
كأهدأ ما تكون مدينة في هذا العصر الذي كتب علينا أن نعيش فيه، وهي مدينة صغيرة، تتوسطها بحيرة واسعة، وتحيط بالبحيرة - دائرة ما تدور - سلسلة من جبال ليست شديدة الارتفاع، وعلى سفوح تلك الجبال تقوم المباني ... وكان الفندق على أسفل السفح، يوشك أن يستوي مع البحيرة على مسطح واحد.
وللفندق حديقة فسيحة الأرجاء، كثر فيها الشجر صنوفا صنوفا، وغزر على أرضها العشب الأخضر، وتناثرت فيها المقاعد للنزلاء، وكان النزلاء جميعا - كما بدوا لعيني - من طلاب الراحة الساكنة، تقدمت السن بمعظمهم، ولا بد أن قد كان لكل منهم ما أنقض ظهره من هموم الحياة، ولقد جاء منهم كثيرون مزودين بوسائل التسلية، منها ما عهدته في شعوبهم، ومنها ما لم أعهده، فلم أكن قبل ذلك قد عهدت أن أراهم يلعبون الطاولة، أما هذه المرة، فقد رأيت أكثر من أسرة، تحلقت حول منضدة، حيث فتحت «الطاولة» بين اللاعبين، ولأول مرة في حياتي رأيت الطاولة مكسوة كلها بالمطاط وكذلك كسيت بالمطاط أحجار اللعب، وأعد كوب من المطاط ليضع اللاعب «الزهر» فيه ليقذفه على سطح الطاولة، وبهذه الكسوة المطاطية التي غلفت كل شيء لم يسمع للعبة ولا لاعبيها صوت، فكانوا وكأنهم صورة تشاهدها على سطح مرآة، وليسوا بشرا من البشر، جاءوا ليقضوا إجازتهم في لهو صاخب.
وفي تلك الحديقة الفسيحة الهادئة قضيت ساعات الضحى من نهار جميل، فرأيت أول ما رأيت «أسرة من النخل»، ولم أكن أتوقع نخلا في تلك البقعة من الأرض، وقد كن نخلات ثلاثا، ملساء الجذوع شامخات الرءوس، فأحسست حيالها بشعور قوي غريب، وهو الشعور بالقربى، فكأننا أبناء أسرة واحدة، لم يفرق بينها أن يكون بعض أبنائها نباتا، وبعضها بشرا، والحق أنني هكذا أحس كلما رأيت نخيلا خارج الوطن العربي، وعبثا أذكر نفسي بأن المسألة لا تعدو ضربا من النبات وبيئة تصلح لحياته، ولا شأن هنا للقومية العربية والوطن العربي، نعم عبثا أحاول أن أذكر نفسي بذلك؛ ففي أعماق نفسي شيء يربط النخل بأرض العرب، فأنظر إلى النخلة وهي في غير أرضها وكأنها - مثلي - قد اغتربت عن ديارها.
كانت «أسرة» النخلات الثلاث، أول ما وقع عليه البصر مما يحيط بي، ولبث البصر مركزا فيهن فترة طويلة، يصعد مع الجذوع الفارهة الممشوقة حتى الرءوس، ثم يهبط من الرءوس إلى المنابت على الأرض المعشوشبة بنجيلها الأخضر ... يا سبحان الله! إنهن ثلاث نخلات، ينتمين إلى أسرة نباتية واحدة، وقد اشتدت بينهن أوجه الشبه، لكن انظر! انظر كيف أبت عليهن الحياة إلا أن يتميزن بخصائص تتفرد كل منهن بما يميزها من أختيها؟ وذلك لكي لا يكون للكائن الحي شبيه، وتلك هي حكمة الخالق فيما خلق من «أحياء»، وهي أن يكون للكائن الحي فرديته الفريدة، حتى وإن ارتكزت تلك الفردية المتميزة المتفردة على بضع تفصيلات صغيرة، وكان مدار الحكمة الإلهية هنا هي أنه إذا تشابه كائنان من الأحياء كل الشبه في كل تفصيلة، كان أحدهما قد خلق عبثا، وتعالى الله الخالق البارئ المصور أن يجيء في خلقه ما هو عبث ... وهل كان يمكن أن تخطر برأسي هذه الخاطرة، دون أن نلحق بها خاطرة أخرى، تقول لي: إذا كانت أسرة النخل، على شدة ما بين أفرادها من شبه، لم تمنع أن يتفرد أبناؤها بما يطيب لكل منها أن يتفرد به، وهو تفرد ينم في أعماقه عن شيء من «حرية» تركت لكل نبتة أن تمارسها، كي تستطيع مقابلة مواقف حياتها بما يلائمها، فهل يجوز لأسرة من البشر أن تصب أبناءها في قوالب من حديد، حتى لا يجد أي منهم متنفسا حرا إذا أراد أن يتنفس؟
أغمضت عيني قليلا، مسندا رأسي على ظهر مقعدي، وكان مقعدا مديدا من قماش، يأذن للجالس أن يتخذ لجسده وضعا فيه نصف الرقاد، فنزعت بي أفكاري نحو ذكريات أليمة لم أكن أحب لها أن تنزوي في الذاكرة وسط هذا الهدوء الساكن الجميل، ففتحت عيني لينشغل البصر بما يراه حولي، فكان أن رأى بجانب المقعد «أسرة» من ست حمامات رمادية اللون، يخالط لونها الرمادي ريشات بيضاء على الجناحين وحول العنق، ولم تكن الحمائم ساكنة في مواضعها سكون النخلات في مغارسها من الأرض؛ بل كانت تتحرك كلها، بعضها حول بعض، بحيث يظل لها تكوينها العام، وهو تكوين شبه دائري، وهكذا لبث لها إطار عام له شيء من الثبات، برغم الحركة الدائبة التي أخذت تتحرك بها كل حمامة على حدة، وكل من عبر منا البحر الأبيض المتوسط إلى أي بلد في أوروبا، لا بد أن يكون قد لحظ - في عجب - كيف لا تفزع الحمائم من أبناء آدم، إذ علمتها الخبرة ألا خوف عليها من الإنسان؛ فاطمأنت له، يتحرك أمامها ووراءها وإلى جوارها كيف شاء، فلا تنفر حمامة لتطير.
ولما أمعنت النظر في أسرة النخل، أمعنته في أسرة الحمام، لأجد العبرة أقوى وأوفى، بمقدار ما يعلو به حيوان على نبات، فقد التزمت كل حمامة جماعتها، ولم يكن لها بد من أن تحصر نفسها في طبيعة الحمام، إذ ليس في وسعها أن تخرج على طبيعتها لتصبح صقرا أو تنقلب عصفورا، لكنها مع هذا كله ترك لها شيء من «حرية» الحركة لتتفرد به في مواجهة ما عساها تصادفه مما لا يصادف سواها، وكما ختمت حديثي عن النخل، أختمه في حديثي عن الحمام، فأتساءل: أتكون الحياة وقوانينها قد أمدت كل حمامة فردية تتفرد بها دون سائر أخواتها؟ ثم نجد من جماعات الإنسان من يريد أن يتنكر لهذا الحق الذي أراده للأحياء خالق الأحياء، بحيث ترى هؤلاء المتنكرين وكأنهم يريدون لكل فرد معهم أن يتقيد في تفكيره وفي سلوكه بقضبان من حديد، صنعوها بأوهامهم، وثبتوها على الأرض بجبروتهم ... وا فضيحتاه، ووا خجلتاه!
অজানা পৃষ্ঠা
وهنا أغمضت عيني مرة أخرى، ومرة أخرى نزع بي الفكر نحو أن تنزوي في الذاكرة صورة أليمة لم أكن أريد لها أن تعكر صفو هذا الهدوء الساكن الجميل، ففتحت عيني ليشغل البصر بما يرى، فرأيت تلك الأسرة البشرية التي جلست بجوارنا، وكنت قد شغلت عنها بمتابعة النخل والحمام، ولقد كفاني منها لمحة أسرع من السريعة؛ لأرى والدين وأبناءهما الثلاثة، الوالد يقرأ الصحيفة اليومية والوالدة تتحرك أصابعها بإبرة التطريز فيما لست أعرف ماذا، وفتاة تقرأ كتابا، وفتى يشبه أن يكون قد أخذه النوم على كرسيه الطويل، وطفل جلس على قماشة فرشت له على العشب، وأخذ يخرج من صندوق بجانبه مكعبات، ليبني منها شيئا لست أدري ماذا عساه أن يكون.
فلو كنت مصورا فنانا، لأسرعت إلى مرسمي لأثبت على لوحة تلك الأسرة في جلستها التي رأيتها؛ لأنها نموذج جيد، سواء أخذناها في حقيقتها كما تبدت للمشاهدين، أم أخذناها من حيث هي رمز يشير إلى حقيقة كبرى، فأما وهي مأخوذة على الصورة التي شوهدت بها، فواضح أن مجموعة أفرادها قد ترابطت في كيان يجمعها، لكنها في الوقت نفسه تركت لكل فرد منها أن ينفرد باهتمام خاص، إنها «الحرية» من الداخل، الحرية التي لم تشرع لها قوانين، بل شاءتها طبيعة الحياة نفسها، ولذلك هي الحرية التي شملت الأحياء جميعا، من الأميبا الأولى إلى أرقى ما ارتقى إليه البشر، إنها هي، الحرية التي تعني أن يعبر الكائن عن دخيلته بسلوك ظاهر، وأرجوك أن تقف لحظة عند كلمة يعبر هذه؛ لأنها كلمة استطاعت بها عبقرية اللسان العربي أن تبثها معنى ضخما بعيد الدلالة، فالتعبير إنما هو «عبور»، فهنالك في دخيلة الكائن الحي سره الإلهي العظيم، لكنه سر لا يراد له أن ينكتم، فمهدت له وسائل «العبور» من الداخل إلى الخارج، وذلك هو نفسه «التعبير». الشجرة تعبر عن سرها الذي يعتمل به جسدها من الداخل، فتخرج إلى الدنيا الخارجية أوراقها وثمارها وأزهارها. الحيوان، كل الحيوان يعبر عن السر الإلهي الذي يسري في خلاياه فيكون منه ما نراه في حياته الظاهرة من براعة ومهارة، وأي براعة ومهارة في جمع قوته وفي بناء مأواه، وفي الوقاية من الأعداء! حتى إذا ما وصلت بنا درجات السلم الصاعدة إلى الإنسان، رأينا عجبا من العجب في إرادة «التعبير» أولا، ثم في ممارسته ثانيا؛ لأنه لا يقف عند الحدود التي وقفت عندها صنوف النبات والحيوان، بل إن عملية «العبور» هنا لتتسع وتتسع، حتى نراه - أعني الإنسان - وهو يعالج ما قد اضطرمت به نفسه من «معان»، محاولا أن يمهد لها طرقا تعبر عليها من دنيا الجوانح في ظلامها وغموضها، إلى عالم النور فتراها الأبصار مجسدة في رموزها، أو تسمعها الآذان أنغاما وألحانا وشعرا وأدبا، وليس في وسعنا مقدما أن نتنبأ أي الطرق يستطيعها فلان هذا أو فلان ذاك لإخراج كوامن نفسه، أيخرجها حديثا ساذجا يديره مع من يريد الاتصال بهم، أم هل يبلغ مبلغا من القدرة الفنية والأدبية، فيخرج تلك الكوامن معزوفة، أو قصيدة، أو لوحة، أو تمثالا، أو عمارة، أو ما شاء له الله أن يكون؟ ولقد كانت الأسرة التي حدثتك عنها مثلا جيدا، يرمز إلى تنوع الناس في وسائل العبور من داخل النفس إلى ظاهر الدنيا.
واصبر معي قليلا - أيها القارئ - لأريك كيف أن هذا الجمع بين حرية الأفراد في حركاتها، وفي خلجاتها، ثم في رغبة التعبير عن تلك الخلجات تعبيرا يهيئ لها العبور من محابسها لتصبح مرئية ومسموعة، أقول إني سأحاول أن أريك كيف أن الجمع بين حرية الأجزاء من جهة، والتزامها حدود الكيان الذي هي أجزاء فيه، إنما هو سر عظيم في بناء الكائنات جميعا، من الذرة الصغيرة إلى الكون الكبير في مجموعه، فانظر إلى الذرة الصغيرة، تجدها - كما ينبئنا عنها علماؤها - مؤلفة من كهارب تدق حتى لتتعذر رؤيتها بالمجاهير، وإنما هي استدلال علمي أثبت صدقه بصدق تطبيقاته العملية، أقول: انظر إلى الذرة الصغيرة تجدها مؤلفة من كهارب، لكل كهرب منها فلك يجري فيه، لكنه «حر» في أن يقفز من فلك إلى فلك داخل الذرة، حرية تجعل التنبؤ بها قبل وقوعها أمرا مستحيلا، لكن تلك الكهارب الصغيرة، في حريتها تلك، إنما تلتزم أن يكون نشاطها ملتئما مع البناء العام، الذي هو الذرة في مجموعها.
وهذا الجمع بين حرية الفرد والتزامه، تراه في كل كائن أيا كان نوعه. خذ الفرد الواحد من أفراد الإنسان مثلا، تجده مؤلفا من مجموعة أعضاء، لكل عضو فيها تكوينه ووظيفته وقوانينه، فالقلب يعمل من حيث هو قلب، والكبد تعمل من حيث هي كبد، والمعدة تعمل من حيث هي معدة، وهكذا، لكنها في عملها إنما تلتزم حدود الكيان الكبير، وهذا الذي قلناه عن الفرد الواحد من أفراد الإنسان يصدق بحذافيره على الكون العظيم في مجموعه، فكل ما في الكون يسبح في فلكه، لكنه في الوقت نفسه يلتزم العلاقة التي تنسق بينه وبين سائر الكائنات.
ولم نكن لنرى موضعا للعجب في هذا، إذا كان كل جزء قد رسم له الطريق رسما لا يترك له مجالا آخر إلا أن يسير، لكن المعجزة الكبرى هي أن لكل جزء حريته التي هي نفسها مجموع الحريات المتمثلة في الذرات الصغيرة التي منها يتألف، ومع ذلك، فهي حرية لا تتنافى مع الاتساق العام.
الأساس - إذن - في نظام الكون كله مجتمعا في كيان واحد، وفي كل كائن من كائناته - وبصفة خاصة وواضحة في الأحياء من تلك الكائنات - هو حرية الأجزاء، أو قل حرية الأفراد، حرية مقيدة ومحكومة بطبيعة الكيان التي تكون تلك الأجزاء، أو الأفراد، هي قوامه، وليس في هذا القول تناقض؛ إذ قد يقال: كيف تكون «حرية» و«مقيدة»؟ فأنت - مثلا - حر في تحريك رجليك لتمشي أو في تحريك ذراعيك لتتعامل مع الأشياء، لكن رجليك أو ذراعيك في تلك الحركة الحرة، محكومتان بطبيعة ما فيهما من عضلات وأعصاب وعظام وغيرها مما تتكون منه الرجل أو الذراع، إن لاعب الكرة حر وهو يضرب الكرة، فقد يتجه بها إلى يمينه أو يساره، أو إلى أمامه أو ورائه، لكن حريته تلك محكومة بالقصد الذي يستهدف الوصول إليه بالتعاون مع زملائه، فضلا عن أنها حرية تحكمها قواعد اللعبة نفسها. وهكذا تستطيع أن تسوق لنفسك من الأمثلة الموضحة أي عدد تريد، لكن الذي نحب أن نضيفه هنا هو أنه كلما ازداد القيد صعوبة، ازدادت الحرية حرية، إذا جاز لنا مثل هذا القول، فالشاعر وهو ينظم لفظه في قصيدة أكثر حرية ممن يقذف بكلماته قذفا كما اتفق في حديث عابر؛ لأنه يضع أمام نفسه صعوبات الوزن ليغلبها وكأنها ليست عقبة في الطريق. إن صاعد الجبل إذ تعترضه العقبة تلو العقبة، فيغالبها ويغلبها، هو أعمق في شعوره بالحرية ممن يمشي على «سهل» منبسط، والصائم أقوى شعورا بحريته من المفطر، فالمعول في الحرية هو دائما قدرة الحر على مواجهة الصعب ليقهره. وإذا خلت حياة الإنسان من كل صعوبة (وهذا فرض نظري محال له أن يتحقق) لما عرف ماذا تكون الحرية وماذا يكون معناها، وهكذا قل في «الأخلاق»، فليس من حق إنسان أن يدعي لنفسه الفضيلة، إلا إذا عرضت له الرذيلة فقاومها وانتصر عليها، ومن يدري ربما كانت الحكمة في وجود الشيطان بغوايته أن تظهر الفضيلة في الإنسان الفاضل.
أما الحرية المقيدة، بالمعنى الذي شرحناه لتكون أساسا أوليا لما يشمل الكون وكائناته من نظام، فالأمر فيها درجات تتصاعد بتصاعد الكائن ونوعه. فالكائن كلما علت رتبته، كان أقدر على مجاوزة قيوده، حتى نصل إلى الإنسان، فنرى الحرية بمعناها الذي أسلفناه قد بلغت ذروتها؛ إذ هو لا يكتفي بصعوبات تصادفه فيغلبها، بل إنه ليخلق الصعوبة خلقا ليزداد شعورا بحريته - وبالتالي يزداد شعورا بإنسانيته - حين يزيح العقبة من طريقه، بل إنه ليكلف بحكم عقيدته الدينية نفسها أن يصنع الصعوبة ليقهرها فهو مكلف بالجهاد. وما الجهاد إلا مجاهدة لتذليل عقبات قائمة. ولعل مجاهدة الإنسان في محاربة نفسه الأمارة بالسوء، أن تكون من أخص خصائص الإنسان، بالقياس إلى سائر الكائنات. وقمة الحرية هي قدرة الإنسان على إلجام نفسه، ليحكمها بدل أن تحكمه.
وانظر كم يحرم الإنسان من هذه الخاصية التي تميزه، إذا ما أرادت له الجماعة التي يعيش فردا من أفرادها، أن يتقولب مع الآخرين في قالب واحد، كأنه قطعة من الصلصال يصوغها القابض عليها في أي شكل يريد، وماذا يكون الرق إذا لم يكن هو فقدان الفرد لفرديته، ليصبح عجينة طيعة بين أصابع سواه؟ وإن هذا المعنى ليبرز أمام أعيننا واضحا في الأسطورة اليونانية التي تحكي لنا قصة رجل (هو بروكر ستيز) أقام نزلا في طريق المسافرين، ليبيت فيه من يلحقه الليل، لكنه أعد الأسرة (جمع سرير) لتكون متساوية في الطول، وصمم على أن يخضع المسافر الذي يبيت في نزله لذلك المقياس، فإذا شاءت المصادفة أن يجيء المسافر مستوفيا بطبيعته لذلك الشرط المفروض، كان بها، وإلا فقد جهز آلة تجز ساقي المسافر إذا كان أطول من سريره، كما جهز آلة أخرى تمط من هو أقصر في قامته من طول السرير، حتى يتساوى الطولان. فصاحب النزل لم يتصور أن يختلف الأفراد في أطوالهم عن المقياس الذي فرضه عليهم. وهكذا تكون الحال في مجتمع يريد لأبنائه أن ينصبوا جميعا في قالب من حديد، لا يقبل من أحد أن ينقص دونه أو أن يزيد عليه، وقل في مجتمع كهذا إن فردية الأفراد عليها العفاء، فتصبح حرية الإنسان - بناء على ذلك - سرابا في سراب.
وقد يطول بنا القول، إذا نحن أخذنا في تحليل طبيعة «الإنسان» تحليلا يبين على وجه الدقة ما نعنيه، حين نطالب للإنسان بحريته، بالمعنى الذي تكون الحرية فيه محكومة بقيود تؤكد وجودها، وتزيد من عمقها، لكننا نكتفي بلمحة موجزة عن جانب هام في تلك الطبيعة (وليس هو الجانب الوحيد) وأعني جانب «العقل» من الإنسان، وقبل أن نتحدث عن «حرية» هذا العقل لا بد من تذكير القارئ بالصفة الرئيسية التي تميز العقل عن سائر القدرات البشرية، وتلك الصفة هي أنها حركة انتقالية يبدأ سيرها من شواهد وبينات ومقدمات، وينتهي عند نتيجة تتولد به مما بدأ به، فليس عقلا ذلك الإدراك الذي يدرك ما يدركه بلمحة مباشرة، أو بلمعة (كما يقولون)؛ لأن أمثال هذه الإدراكات المباشرة لها أسماء أخرى، وطبائع أخرى، ليس هنا مكان تفصيلها، أما العقل فإدراكه دائما غير مباشر؛ لأنه قدرة استدلالية، ومعنى ذلك أنه يتضمن قيام طرفين، طرف نبدأ منه، وطرف آخر هو النتيجة التي ننتهي إليها.
ويكون العقل حرا في اختيار الطرف الأول، وما دام قد حدد لنفسه نقطة البدء، فلم تعد له بعد ذلك حرية النتائج؛ لأن هذه النتائج تلزم بالضرورة عن نقطة الابتداء، ونقطة الابتداء هذه إنما هي «فكرة ما»، يرى فيها صاحبها صلاحيتها لتوليد النتائج النافعة للناس، فإذا حرمنا إنسانا من أن يتقدم بأفكاره وما يترتب عليها؛ جردناه من آدميته، إذ نكون قد سلبنا منه حرية عقله حتى ألف بائها.
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثاني
معجزة الحياة إبداعها
عن الحرية أتحدث
وليس السجين الذي نبحث له عن حريته هنا هو سجين زنزانة ضاقت حولها الجدران، وضربت على بابها ونافذتها المرتفعة الصغيرة قضبان الحديد، كلا، ولا هي الحرية التي سلبها من صاحبها غاصب مستبد، بل هي الحرية التي كبلتها خيوط من حرير، غزلها صاحبها لنفسه على مغزله هو، ونسجها قماشة ناعمة بمنواله هو، ثم أحاط جسده كله بلفائفها حتى أوشكت أن تسد له أذنيه، فلا يسمع إلا خشخشة خفيفة تجيئه منها إذا تحركت أطرافها، وكادت تنسدل على عينيه، فلا يرى شيئا إلا خلالها.
إنه سجن من حرير، من شأنه إذا مست جدرانه بدن السجين أن يشيع شيء من الخدر اللذيذ في جوارحه فتستريح، وفي أوصاله فتسترخي؛ ولذلك ترى السجين يقاتل من أجل بقائه فيه، وإذا أحس يدا تمتد لتفك عنه الأغلال، بترها بترا إذا استطاع، وأما ذلك الحرير الذي نعنيه، فهو الماضي إذا ما سرى في القلوب وفي العقول بسحره الأسطوري العجيب، وموضع المفارقة في هذا الموقف المحير المربك، هو أن أي إنسان، وكل إنسان، يحب أن يتمسك بماضيه، بل إنه لا اختيار للإنسان في ذلك، فهو - مثلا - لم يخلق لنفسه اللغة التي يتكلم بها ويكتب، عندما استيقظ من نومه هذا الصباح، بل أخذها جاهزة كما انحدرت إليه من ماضيه، وهو لم يصمم لنفسه ثيابه، وصنوف طعامه، وأساليب تعامله مع الآخرين، بل هي أمور جاءته من أبناء أمسه القريب أو أمسه البعيد، ومحال محال أن يخلع ماضيه عن حياته، كما يخلع ثيابه القديمة عن جسده، لا، بل إنه ليرفض ذلك رفضا قاطعا حتى لو كان في مستطاعه أن يفعل، ومع ذلك فالفرق بعيد بين الإنسان السوي السليم وهو يستبقي لنفسه ماضيه، والإنسان الذي أخذته في ذلك علة المرض، فبينما الأول يثبت قدميه على أرض حاضره، ويستدعي الماضي لينسج من خيوطه خيوطا يراها حيوية وضرورية لحياة عصره، ترى الثاني وقد خفت قدماه عن أرض حاضره فقفل بجسده كله راجعا إلى حيث الأجداد ليحيا معهم حياتهم، فالقول ما يقولونه، والفعل ما يفعلونه، وكل ما أبدعته العصور بعدهم من ثقافات وحضارات باطل مذموم.
ليس في هؤلاء المساكين الأبرياء ذرة من شر، فنواياهم هي أطيب ما تكون النوايا، وهم فوق ذلك معذورون؛ لأن لمسة الماضي عند كل إنسان هي من لمسات الحرير، وهل رأيت إنسانا واحدا إذا تلفت وراءه لم يقل إنه إنما كان عصرا ذهبيا ذلك العصر الذي ذهب؟ لكن هذا الشعور الطبيعي الجميل لا يلبث أن يستر الحق عن صاحبه، فهو كشعور الناعم بشفق الغروب في روعته، لا يريد للشمس أن تغيب ليظل الشفق بورده الأحمر، حتى ولو قيل لذلك النشوان: إنه إذا غابت الشمس وذاب الشفق؛ فما ذلك إلا لتشرق شمس جديدة في الصباح، وكيف تريد للنشوان بلحظته أن يستمع إليك، وهو لا يرى شيئا سواها، ولا يرغب في أن يرى.
فأين السبيل إلى تحرير ذلك المخمور بلحظته، وقد اختارها من الماضي الذي هو دائما عصر ذهبي، كان نقاء كله، وكان صفاء كله، وكان بلاغة وفصاحة، وكان طهرا واستقامة، وكان حكمة وصدقا وخيرا؟ كيف تقنع النشوان بلحظته التي اختارها من ماضيه أن الزمن ليس صفا من لحظات رصت لحظة «مستقلة» بعد لحظة مستقلة، بحيث يستطيع أن يختار إحداها «ليسكن» فيها، بل هو سيال مستمر لا سبيل إلى تقطيعه شرائح شرائح ، وإذا كنت ترانا نقسمه أعواما وشهورا وأياما ودقائق، فذلك لنيسر على أنفسنا طريق الحساب، وسيال الزمن كسيال الماء في النهر الدافق، كسيال الحياة نفسها، يتجه اتجاها واحدا لا رجعة فيه، فإذا تشبث إنسان بضرورة أن يرتد بسيال حياته إلى الوراء كان معنى ذلك هو الموت؟
ومعجزة الحياة في مجراها، هي أنها «تبدع» جديدا، بعد جديد، في أثر جديد، خلال ذلك الجريان يموت ما يموت ومن يموت من أبنائها، فتلد الجديد، وضرب من المحال في عالم الأحياء أن يولد جديد ليكون صورة مكررة بكل حذافيرها وتفصيلاتها من سالفه، بدءا من أوراق الشجر التي تسقط عن شجرها أثناء الخريف والشتاء، لينبت مكانها في الربيع أوراق جديدة، فصاعدا إلى الإنسان كلما جاء ولد بعد والد، ولو كان الزمن لحظات متفرقات تتعاقب، وكانت الحياة أفرادا متشابهة في كل نوع من أنواعها، تجيء خلفا بعد سلف؛ لأمكن أن نغير في ترتيبها، فنأتي بقديمها ليكون هو جديدها، ونرتد بجديدها - ولو بمجرد الخيال - ليكون هو قديمها، لكن ذلك محال، وفي كل حالة من الحالات يجيء الحاضر الجديد أكثر امتلاء بمضمونه من الماضي القديم.
وحتى لو فرضنا المستحيل، وهو أن تيار الحياة يسير بالأحياء من الممتلئ إلى الهزيل، ومن الغني بمضمونه إلى الفقير، لبقي لنا أن نقول إن الحاضر الهزيل الفقير إنما يكون أكثر أداء لدوره الحيوي، إذا هو صنع لنفسه حياته بنفسه، و«أبدع» جديدا لم يشهد الماضي مثيلا له، وهذا «الإبداع» الذي فرضنا فيه الهزال والفقر إنما هو أرفع قيمة عند الحي المبدع من كمال صنعه سواه، وذلك لأن ما يصنعه إنسان لنفسه بنفسه يحقق له هويته ووجوده، في حين يبقى المستعار مستعارا. انظر إلى طفل وهو يرسم بيده صورة لأي شيء يجتذب خياله، وقارن شعوره بذاته وبوجوده، بحالته إذا ما جئت له بصورة رسمها فنان عظيم، إنك إذا قلت له: اترك هذا الرسم الهزيل الفقير الذي صنعته، وخذ بديلا له هذه الصورة في روعتها وكمالها! إنك إذا فعلت ذلك، صرخت «الحياة» كلها على لسان الطفل قائلة: ابعد عني بهذا الباطل الذي تفوه به، فالكمال الذي بين يديك هو كمال صاحبه، قد أقتنيه فيكون عندي بعض ما أملكه، لكنه ليس إياي، فأنا فيما أبدعته، ويحكي طاغور - شاعر الهند العظيم - حكاية غنية بمغزاها، فيقول إنه شهد طفلا جاء له أبوه الغني بطائرة صغيرة من بلد ما في أوروبا كان قد سافر إليه، والطائرة قد بلغت في صناعتها غاية الدقة، ثم شاءت المصادفة لذلك الطفل أن يخرج إلى الطريق العام بلعبته الأنيقة، وإذا بمجموعة من الأطفال مشغولة بالتعاون معا على صنع طيارة من الورق، ولبث الطفل صاحب اللعبة الجميلة يرقبهم، حتى أوشكوا على الفراغ من صنع طيارتهم، فلم يسعه إلا أن يقذف بلعبته جانبا ليشارك ولو بالقليل في استكمال ما تصنعه مجموعة الأطفال، حتى إذا ما فرغوا جميعا من مهمتهم، وطارت في الهواء طيارتهم، وهم ممسكون بخيطها في أيديهم الصغيرة، أحس الطفل صاحب اللعبة الجاهزة، بنشوة لم يحس بشيء منها وهو يلهو بلعبته الأنيقة الجميلة، التي اشتراها له أبوه.
ومن هذا القبيل نفسه أذكر شيئا كان كثير الحدوث في صباي، ولا أدري إن كان لا يزال قائما، وهو أن كتبا كانت تباع، فيها خطابات مكتوبة تصلح للمناسبات المختلفة، فيشتريها من يشتريها، حتى إذا ما جاءت له مناسبة ليكتب خطابا، بحث في الكتاب عن صورة تصلح لمناسبته، لينقلها ويرسلها، وكذلك كان من المألوف الشائع في المدارس أن يحمل مدرس اللغة العربية تلاميذه على حفظ عبارات بعينها، ليدخلوها في إنشائهم ... فقارن كل هذه النماذج الجاهزة مهما بلغت من درجات الجودة، وبين كلمات يكتبها صاحبها مملاة عليه من نفسه، مهما بلغت بدورها من درجات الفقر والهزال. أقول: قارن بين الحالتين، من حيث القدرة على تحقيق الذات وإثبات الوجود! كانت والدتي - عليها رحمة الله ورضوانه - لا تكتب، فلما ذهبت إلى الحج للمرة الأولى (فقد حجت سبع مرات) أرسلت إلي خطابا مطبوعا يباع جاهزا، فلما عادت بسلامة الله من حجها، أبلغتها كم انقبضت نفسي لخطاب ليس فيه شيء منها، فقالت: وماذا كنت أصنع ؟ أجبتها: كان خيرا لي أن ترسلي ورقة بيضاء وعليها بصمة أصبعك. نعم، الفرق بعيد بين أن يكون في حياتك شيء منك، وبين أن تستعير صورة من حياة الآخرين، من المعاصرين أو من الغابرين، حتى ولو بلغت ما بلغته من درجات الكمال.
অজানা পৃষ্ঠা
لقد كان من أروع ما لفت أنظارنا إليه، من حيث القوة الإبداعية في فطرة الإنسان، فيلسوف اللغة الرائد في عصرنا هذا «نوام تشومسكي» أن الطفل منذ المرحلة الأولى لتعلمه اللغة لا يقف عند حرفية ما يسمعه من الذين حوله، بل هو لا يلبث حتى يأخذ في التصرف الحر فيما قد سمعه، فقد تعددت التحليلات ووجهات النظر عند فلاسفة اللغة - والمعاصرين منهم بوجه خاص - فمنهم من يذهب إلى أن الطفل لا يعدو أن يحاكي ما يتلقاه من مفردات وتراكيب لغوية، فيتساءل تشومسكي - بحق - كيف إذن يتاح للطفل، بعد قليل جدا من بدء تعلمه للغة، أن يعيد «المعنى» المعين بعدة صور للعبارة التي سمعها تعبر عن ذلك المعنى؟ فمثلا قد يسمع من يقول له: فلان أخذ لعبتك، فترى الطفل بعد ذلك يردد ما سمعه، ولكن بصور أخرى، إذ قد يقول: لعبتي أخذها فلان، أو لعبتي فلان أخذها، وهكذا إلى ما لا نهاية، ويطلق تشومسكي على هذه الخاصية «الإبداعية» في القدرة اللغوية، ثم يستطرد في تحليلاته العميقة الدقيقة، ليبين أن من أهم ما يميز الإنسان في مجال اللغة، هو سرعة اكتسابه ذوقا خاصا في لغته، بحيث يعرف ابن اللغة ما يجوز وما لا يجوز استعماله من تراكيب لغوية، ومن هنا نرى الفرق بين ابن اللغة وبين الأجنبي الذي يتعلم تلك اللغة، فبينما ترى ابن اللغة قادرا على تنويع التراكيب للمعنى الواحد بتذوق لغوي يفرق به بين ما يصح وما لا يصح، ترى الأجنبي الذي تعلم تلك اللغة مقيدا بما سمعه أو قرأه، دون أن يكون له - إلا بعد ممارسة طويلة - ذلك الذوق اللغوي الذي يمكنه من التصرف المبتكر في حدود ما يجوز قوله عند أهل اللغة الأصليين. وبهذه المناسبة أروي قصة كنت سمعتها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه أرسل نسخة من كتاب له - لعله كان «ضحى الإسلام» - إلى أحد المستشرقين الكبار، فأرسل إليه الرجل خطابا باللغة العربية يشكره على الهدية، خاتما ذلك الخطاب بعبارة يقول فيها: «أدامك الله لننتفع من خرارة علمكم»، فلم يكن له ذوق اللغة الذي يعرف به متى يجوز استخدام كلمة «خرارة»؛ إذ هي عنده كلمة مشتقة من الفعل «خر» ولا شيء أكثر من ذلك.
ولهذه القدرة الإبداعية التي أشار إليها تشومسكي في مجال اللغة، علاقة قوية - فيما أرى - بموضوعنا الذي نتحدث عنه، وهو وجوب أن يكون لكل عصر طابعه الخاص الذي يميزه من أسلافه، فإذا كنا قد أخذنا اللغة العربية عن أسلافنا، وليس لنا بديل آخر سوى أن تكون هي لغتنا التي نفخر بها ونفاخر، فلا بد لنا كذلك أن نمارس فطرتنا البشرية في الإبداع اللغوي، بحيث تجيء عبارتنا وقد تميزت بمذاق خاص، كما تميزت اللغة في العصر الأموي، أو العصر العباسي، عنها في العصر الجاهلي، مع أن اللغة في كلتا الحالتين هي هي، تلتزم قواعد معينة، لكن كان لكل عصر ذوقه المتميز.
معجزة الحياة في إبداعها، سواء أكان ذلك الإبداع - في المجال الإنساني - على مستوى الأفراد أم كان على مستوى الجماعات، وإن حيوية الإنسان في شتى جوانب حياته لتقاس بمقدار ما أبدع، أعني بمقدار ما أضافه من ناتج جديد، أما الذي يحيا حياته محاكاة لحياة غيره - من السلف أو من الخلف على حد سواء - فهو إنما يحيا صورة باهتة لأصل كانت له قوته عند صاحبه.
لكن هذا القول لا يعني أن يقوم الفرد أو الجماعة كل صباح، ينقض كل ما تم غزله على أيدي سواهم، ليغزلوا هم الخيوط من جديد، لكي يقال إنهم مبدعون، بل يعني أن يضع الإنسان بين يديه - فردا أو جماعة - ما استطاع أن يضعه من تراث السلف، ومن إنتاج المعاصرين، ليتمثل من هذا كله ما وسعت قدراته الهاضمة أن يتمثل لكي يعود فيخرج منه إبداعا جديدا، فهذا هو ما حدث في كل حياة ثقافية ناهضة عندنا أو عند غيرنا، ولك أن تراجع في روية وأناة ما صنعه العرب الأقدمون، إبان القرنين الثالث والرابع بالتاريخ الهجري «التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي»؛ لترى كيف كان على أطراف أصابعهم معظم ما أنتجته الإنسانية قبل ذلك من فكر وكل ما أنتجه أسلافهم العرب في العصر الجاهلي، ليكون هذا كله ماثلا أمام عقولهم وقلوبهم، لا ليحفظوه حفظا أصم، ويعيدوه مكرورا بحروفه كالببغاوات؛ بل ليتمثلوه ولينتجوا هم بعد ذلك نتاجهم الأصيل، مشبعا بذلك الزائد الوفير، ومعبرا في الوقت نفسه عن ذوات أنفسهم، وإذا أردت مثلا آخر، فراجع كذلك ما صنعته النهضة الأوروبية إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وعندئذ ترى الصنيع نفسه، فلقد كانوا على إلمام واسع ودقيق بما تركه الأسلاف - أسلافهم اليونان والرومان، مع أسلافنا العرب - لا ليحفظوه حفظا أصم «وأقولها للمرة الثانية»، بل ليمزجوه بخبراتهم المباشرة، ليخرج لهم بعد ذلك كله ثمر جديد.
ولماذا لا نضيف إلى تلك الأمثلة التاريخية الكبرى، مثلا محليا من حياتنا نحن خلال المائة العام الأخيرة، فيما قبل هذه المرحلة الراهنة التي نجتازها، فقد كنا على وعي شديد بضرورة أن نلم أوسع إلمام ممكن بتراثنا وأوسع إلمام ممكن بما ينتجه الغرب؛ ليمتزج الرافدان في نهر واحد، نملأ أكوابنا منه، فإذا نحن قد أصبحنا أكثر قدرة على إبداع شيء جديد.
إن أفتك ما يفتك بالطاقة الإبداعية في أصحاب المواهب، هو أن توضع أمامهم نماذج العباقرة من أسلافنا وأسلاف غيرنا، لا ليستلهموها جديدا يبدعونه هم، بل ليضعوها من أنفسهم موضع التقديس فيجلسوا أمامها فاغري الأفواه من دهشة الإعجاب، إنهم في هذه الحالة ليكونون أشبه شيء بمن جلسوا في مسرح يشاهدون رواية عظيمة التأليف يقوم بتمثيلها كبار الممثلين القادرين، أما هم - أعني المتفرجين - فجالسون في الظلام، وأما الممثلون فهم وحدهم الذين تنصب عليهم الأضواء القوية، فيخرج المتفرجون آخر الأمر وقد كادوا ينسون أنهم أحياء؛ إذ لم يعد يملأ خيالهم إلا من شاهدوهم من الأبطال.
كان للفيلسوف البريطاني «هوايتهد» في ذلك ملاحظة لطيفة، إذ سئل مرة : لماذا أخرجت جامعة كيمبردج عددا أكبر ممن أخرجتهم جامعة أكسفورد من أدباء وشعراء، مع أن المعروف هو أن كيمبردج تغلب عليها نزعة العلوم، في حين تغلب على أكسفورد نزعة الآداب؟ فأجاب هوايتهد «وهو نفسه خريج كيمبردج في العلوم الرياضية» قائلا: إن علة ذلك هو أن دارس الآداب في أكسفورد توضع أمامه نماذج العمالقة من الشعراء والأدباء في جو يوهمه بأن هؤلاء العمالقة كقمم الجبال العالية التي يتعذر الوصول إليها، فيحدث أن تشل في الدارس موهبته إذا كان من أصحاب المواهب. وأما دارس العلوم في كيمبردج إذا تصادف أن كانت له موهبة الإبداع الأدبي، فإن موهبته تنمو وتبدع دون أن تعرقلها العراقيل.
أليس مما قد يفيدنا أن نسأل: لماذا كثرت العبقريات العربية في شتى ميادين الفكر والأدب إبان القرون الخمسة الأولى من التاريخ الإسلامي، لتقل بعد ذلك بصورة تلفت النظر؟ ففي تلك القرون الخمسة ظهر أعظم الفقهاء على الإطلاق، وأعظم الفلاسفة وأعظم علماء اللغة، وأعظم الشعراء وأعظم الناثرين، وعدد ملحوظ من أعظم المتصوفة ومن أعظم النقاد ومن أعظم رجال العلوم الطبيعية، ثم جاءت بعد ذلك قرون أربعة غلب عليها «التجميع»، أعني تجميع ما كان قد أبدعه عباقرة الفترة السابقة، وأما بعد ذلك فتكاد لا ترى إلا تكرار المحاكاة.
وقد يكون التعليل لتلك الظاهرة هو أن عباقرة القرون الخمسة الأولى لم يكن لهم سابقون من أسلافهم، بلغوا من الضخامة في ميادينهم حدا من شأنه أن يخيفهم، بحيث يؤثر في ثقتهم بأنفسهم، اللهم إلا في ميدان واحد، هو ميدان الشعر؛ إذ لبث الشعر الجاهلي هو الذي يقيم للشعراء مقياس فحولة الشعر، ولهذا أبدع عباقرة القرون الخمسة الأولى ما أبدعوه وهم أحرار من المعوقات النفسية، وأما بعد ذلك فكلما نشأت موهبة في أي ميدان كان لسان الحال كأنه يصيح في وجه الموهوب قائلا: أين أنت من هؤلاء؟! فتضعف قواه وتفتر همته.
وبعد هذا الذي قدمته فلننظر إلى المرحلة الراهنة التي نجتازها، ولست أظن أن المتتبع النزيه لحياتنا الفكرية يستطيع أن يتغافل عن شيء من شلل المواهب في ميدان الفكر الاجتماعي؛ إذ علت الصيحة التي تنادي بأن يكون لنا من نماذج الماضي وحدها مصادر الهداية، أما في غير هذا الميدان فقد تركت للمواهب حرية الإبداع إلى حد معقول، فأمكن فيها أن نساير الزمن بعض المسايرة، ففي ميدان السياسية نتحدث عن أفكار ونظم لم يكن للسابقين عهد بها، وفي ميدان التعليم نتحرك في إطار ليس هو الإطار الذي كان فيما مضى يقام فيه التعليم، وفي مجالات الفن والأدب نشأت صور جديدة جاءت في معظمها صدى لما نقلناه عن الغرب، وفي ميادين العلم والصناعة وغيرها وغيرها، سايرنا العصر بالقدر الذي سمحت به قدراتنا وظروفنا، إلا ميدان الفكر الاجتماعي، فبعد أن استطعنا في النصف الأول من هذا القرن أن نزيح عنه جانبا من القشرة الجامدة التي كانت تغلفه وتسد عليه الطريق، عدنا بعد هزيمة 1967م بصفة خاصة إلى الحيلولة بينه وبين روح العصر، وقد يكون في هذه العودة شيء كثير من الرغبة في تحصين هويتنا حتى لا تنهار جدرانها، فتنجرف في تيار غيرها، فتضيع، لكن هذا الفرض نفسه حتى لو صدق؛ لا يمنع أن يكون مجال الفكر الاجتماعي عندنا قد جمد، بل تراجع إلى الوراء بخطوات سريعة، ويخشى أن يكون للتخلف في هذا الميدان الحيوي أثره في الحد من قوة الإبداع فيه وفي غيره، ونصبح كالدمى، لا تحركها أيدي الأحياء، بل يحركها سحر الموتى.
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثالث
وهكذا انسابت خواطري
عن الحرية النزيهة أتحدث
كانت الساعة في قلب الضحى، وكنت فيها أهدأ ما يكون إنسان! نوافذ الغرفة زجاجها مزدوج، فلا أسمع إلا همهمة خفيفة من صخب الطريق. كانت السحب قد أفرغت ماءها، فراقت السماء وشف الهواء وامتدت الرؤية خلال زجاج النافذة إلى أقصى مداها. جلست مسترخيا لا أفكر في شيء، بل ولا أريد لشيء أن يشغلني فأفكر فيه، فلقد جئت هنا لأستريح، أحسست في جلستي تلك كأنني وعي صاف مجرد لا يستند إلى بدن؛ إذ تحولت بانتباهي إلى باطن نفسي عندئذ، لم أكن أرى سابحا على تيار ذلك الوعي الصافي ، سوى ما يشبه البقايا التي تخلفها وراءها عاصفة عاتية، ولقد كانت بالفعل عاصفة هوجاء ظالمة، لا عقل فيها ولا عدل، تلك التي مرت فطفت في تيار الوعي تلك البقايا.
كنت منذ ساعة واحدة، قبل تلك الجلسة المسترخية الهادئة، قد هممت بالكتابة عن فكرة ألحت وتريد أن أعبر بها البرزخ الحاجز بين الداخل والخارج، ولكني شعرت بالقلم يثقل حمله بين أصابعي، وكانت علة ذلك أني رأيت تلك البقايا السابحة على تيار الوعي في جوفي، فهي التي حملتني عندئذ على أن أسائل نفسي: أتكتب لمن يوشكون أن يطالبوك بأن تقسم لهم بأن السماء تكون زرقاء إذا صفت، وبأن في البحر ماء يضطرب بالموج إذا هبت الريح؟ أتكتب لمن جعلوا قلة الأدب برهانا على قوة الإيمان؟ لكني لم ألبث إلا دقائق حتى هدأت النفس واطمأن الفؤاد، فقد كان الشاتمون في غير أدب، وكان المعتدون في غير حق ولا عدل، هم أهلي، ولا حيلة لي في أهل بيني وبينهم صلات الرحم.
وفي أثر ذلك كانت تلك الجلسة المسترخية الهادئة، ومددت يدي إلى منضدة صغيرة بجانب مقعدي، والتقطت مذياعا أصغر حجما من الكف، وأدرت ترسه الصغير في أعلاه، فإذا بحديث لمتحدث يحسن صياغة الكلمات، ويجيد النطق إجادة تستبد بالسمع، فلا تستطيع لنفسك فرارا إذا أردت الفرار، وكان الحديث لمراسل الإذاعة في كوريا الجنوبية، يصف للسامعين ما قد بلغته كوريا من تقدم في علوم العصر وصناعته، حتى لقد باتت منافسة خطيرة، فهي إن لم تكن يابان أخرى، فهي بغير شك توشك أن تكون.
أعدت المذياع الصغير إلى حيث كان، ومررت بأصابعي على جبهة أخذت تند بالعرق الخفيف برغم هبوط الدرجة في حرارة الصيف، وذهب الهدوء عن النفس الهادئة، ولم يعد الفؤاد على طمأنينته التي كانت، وخرجت من شفتي آهة حزينة، يتبعها صوت يتعجب وهو يقول: كوريا! كوريا! لقد تعجبنا بالأمس أن يقال لنا عن اليابان وتقدمها ما يقال، ثم ألفنا أن تكون اليابان في طليعة الطليعة من دول العالم القوية الغنية العالمة المبدعة الصانعة، ثم تعجبنا بعدها أن يقال عن الصين وتقدمها، وهي التي ترزح أرضها تحت عدد من أبنائها زاد عن ألف مليون، ونحن الآن على وشك أن نألف أن تكون الصين قوة جبارة لا يجرؤ أحد على الاستهانة بها، ولكن كوريا! من الذي يستبعد بعد الآن أن يكون دور الجنس الأصفر في حمل مشعل الريادة في حضارة الإنسان الحديث قد دنا؟
وأنت يا مصر، أين أنت في معمعة الريادة الحضارية يا مصر؟ ألم يطرق العصر الجديد أبوابك منذ مائة وثمانين عاما؟ لقد فتحت له الأبواب مرحبة به، قبل أن تفعل اليابان ذلك بثمانين عاما، بل قبل أن تفعل ذلك روسيا! وقبل أن تحلم الصين مجرد الحلم أن تفعل ذلك، وها هي ذي كوريا تكاد تلحق بأختيها، وكأن نبوءة بسمارك قد اقتربت من التحقيق، إذ تنبأ - منذرا - وهو على فراش مرضه الأخير، قائلا لمن حوله: حذار من الجنس الأصفر، فهو على حافة اليقظة والوثوب!
وأنت يا مصر! افتحي صحائف التاريخ واقرئي، إن كنت قد نسيت، اقرئي لتعلمي أنه ما من حضارة شهدها التاريخ - قبل حضارة عصرنا هذا - إلا وكنت أنت منها في مكان الريادة، إنني إذ أقول ذلك أعرف معنى ما أقول، فحتى بعد أن ذهبت عنك ريادة المبدع الأصيل بذهاب العصور الفرعونية - ولا يغيبن عنك أن مداها في ذلك الإبداع الأصيل قد بلغ أربعين قرنا في أقل تقدير، بينما عصر الإبداع في الغرب الحديث مدته أربعة قرون - أقول إنه حتى بعد أن ذهبت عنك ريادة الإبداع الأصيل، فقد كان دأبك بعد ذلك أن تجيء إليك من خارجك ثقافة وحضارتها، فلا تلبثين طويلا حتى تتمثلي هذا الذي جاء إليك من خارج حدودك، لا لتكوني بهذا التمثل واحدة من الأتباع؛ بل إنك لتتمثلينه لتصبحي فيه الطليعة الرائدة، وهذا هو المعنى الحقيقي للعبارة التي نكررها بصدق، وأعني القول بأن مصر كانت دائما مقبرة لغزاتها، إنها لم تكن لهؤلاء الغزاة مقبرة بمعنى أنها تقاتلهم فتقتلهم فتقبرهم تحت ترابها، بل كانت مقبرة لهم بمعنى أنها تسود في ثقافتهم وفي حضارتهم، حتى أصبحت تشق الطريق أمامهم وهو يتبعون.
سقطت شعلة الفكر من أيدي اليونان القديمة، فالتقطتها الإسكندرية، لا لتحاكي ما قد أخذته محاكاة الولد لوالده، أو محاكاة التلميذ لأستاذه؛ بل لتتمثله ثم تضيف إليه من روحها، فإذا هو نتاج جديد لم تشهد له الدنيا مثيلا قبل ذلك، فما هو ذلك الذي التقطته الإسكندرية من اليونان؟ كان في الأساس علوما وفلسفة، فإذا بجامعة الإسكندرية يومئذ تدفع إلى الأمام ما تلقته من العلوم «العلوم الرياضية منها بوجه خاص»، ثم تنفث في الفلسفة المنقولة روحا دينية من روحها التي تدينت منذ فجر الزمان، وإذا بالناتج ضرب من فلسفة متصوفة لها طرازها الفريد، وهي التي اغترف منها العرب بعد ذلك إبان مجدهم ما اغترفوا، غير أنهم كانوا على ظن بأنهم إنما يغترفون من إناء اليونان، ولم يفرقوا في وضوح بين ما كان مصدره اليونان، وما كان مصدره مصر.
অজানা পৃষ্ঠা
ولك أن تزور زيارة فاحصة لمتحف الفن اليوناني الروماني بالإسكندرية، لترى كم كانت مصر في فترة الحكم اليوناني الروماني، مبدعة في إطار ما قد وفد إليها من الغزاة، وجاء بعد ذلك العصر المسيحي في مصر، وكما هي العادة دائما مع الديانات، يبدأ الأمر بإيمان مطلق، لا يريد أن يقف من موضوع إيمانه موقف التحليل الذي كثيرا ما ينتهي بأصحابه إلى التشعب في مذاهب مختلفة، ثم تذهب مرحلة الإيمان المطلق هذه لتليها مرحلة التحليل والتمذهب، فلما جاءت هذه المرحلة الثانية وحدث فيها اختلاف في التأويل ووجهة النظر، بين مصر وغيرها، كان للمسيحي المصري وجهة نظره التي تميزت بما تميزت به مصر دائما، على تعاقب عصورها، واختلاف المجالات والمواقف، وأعني روح الاعتدال.
وجاءها الإسلام، فأسلمت، وتعربت مع إسلامها، أعني أنها استبدلت بلغتها اللغة العربية، ولنتذكر أنه ليس كل من أسلم تعرب في لغته كذلك، فهناك من البلاد الإسلامية التي لم تغير لسانها. أمثلة كثيرة: تركيا، وإيران، وباكستان، وإندونيسيا، وكثير من الأقطار الأفريقية. ولقد أراد الله بالإسلام وباللغة العربية خيرا، حين أسلمت مصر وحين تعربت؛ إذ أصبحت مصر على امتداد تاريخها بعد ذلك هي الحصن وهي المنارة، التي لا ينازعها في ذلك منازع، ونحن إذ نقول اليوم في أحاديثنا العابرة شيئا عن «التراث» الإسلامي والعربي، فإنما نشير بهذا القول - في الحقيقة - إلى تلك الجهود الجبارة، التي اضطلع بها علماء مصر من رجال الأزهر الشريف؛ إذ إليهم يرجع جزء كبير من الفضل في التجميع والترتيب والتبويب، فيما لو ترك بغير تلك العناية لتبعثرت أجزاؤه، ولما عرفت في وضوح إلى أي شيء تشير وأنت تتحدث عن «التراث».
هكذا يا مصر كان دورك الريادي في عصورك المبدعة الأولى أولا، ثم فيما جاء إليك من خارج حدودك، إلا هذه المرحلة الأخيرة يا مصر! فلقد فتحت أبوابك في بداية القرن الماضي - منذ مائة وثمانين عاما - مستقبلة لثقافة جديدة تولدت عن حضارة جديدة وصحيح أنك ما لبثت إلا مدة لم تطل أكثر من ثلث القرن، حتى بدأت تعبين من ذلك الجديد عبا: ترسلين البعثات إلى الغرب، وتستقدمين العلماء من الغرب، وتقرنين ذلك بالترجمة عن الغرب جنبا إلى جنب مع ما تحبينه من تراثك الإسلامي والعربي، وأخذت الثمرة من ذلك كله تتفتح زهورها، وتزداد نضجا عقدا من السنين بعد عقد، فكان ما رأيناه من ثورات تلاحقت، كلها يطلب الحرية، ثم يطلب مزيدا منها، ثم يطلب مزيدا من المزيد: ثورات أحمد عرابي، وسعد زغلول، وجمال عبد الناصر.
وكذلك كان ما رأيناه من طموح في ميادين التعليم، والأدب، والفن، والاقتصاد، والصناعة، وغيرها، وإنه ليستحيل على المتتبع للحياة المصرية منذ أواخر القرن الماضي، وإلى أن قامت ثورة 1952م وما بعد قيامها بنحو عشرين عاما ألا يشهد في معظم الميادين خطوات تخطو بنا إلى أمام، ولا بد لنا عند كلمة «أمام» هذه من السؤال: ماذا نعني عندما نزعم في مجال معين أننا نسير فيه إلى «الأمام»؟ ولست أجد إجابة مقنعة عن هذا السؤال، إلا أن نقول إن الحركة إنما تكون متجهة إلى أمام إذا هي تحركت نحو صيغة من الحياة اندمج فيها التراث مع الوافد الجديد من حضارة العصر وثقافته، اندماجا يعطيه مذاقا فريدا نستطيع معه أن نقول هذه هي مصر المعاصرة.
كانت الحركة إذن تسير بنا إلى «الأمام» - بالمعنى الذي حددناه لهذه الكلمة - حتى أوائل الخمسينيات وخلال الستينيات كذلك، مع شيء من النقص ساير تلك الحركة طوال الطريق، وهو أننا فيما كنا نأخذه عن الغرب كنا نقطف الثمار جاهزة، دون أن نعنى بأن نبث في عقولنا روح «المنهج» الذي أدى بأصحابه في الغرب إلى إنتاج ما أنتجوه، فنتج عن ذلك أن لبثنا نأخذ دون أن نكتسب القدرة على العطاء لما هو مصري أصيل في دنيا العلم وما ينتج عنها من صناعات ومهارات.
لكننا مع هذا النقص الذي تحفظنا فذكرناه كنا نسير إلى «الأمام» بصفة عامة، إلى أن حلت بنا هزيمة 1967م، فأصبحنا حتى اليوم شيئا آخر، وهو موقف يتطلب منا في تحليله ومعالجته كل ما في قلوبنا وصدورنا من نزاهة وإخلاص، وإنه لمن الطبيعي الذي لا يثير سؤالا، أن يتصرف المهزوم بما يتناسب مع هزيمته، وذلك بأن ينكمش ويكمن، لائذا بالعناصر القوية في مقومات شخصيته، فيجترها حتى تقوى رجلاه على حمله من جديد، والأغلب في هذه الحالة أن يلتمس مصادر القوة في ماضيه، فمن أبطال الماضي يعيد إلى نفسه الإحساس بالبطولة، ومن مجد الماضي يحفز ملكاته لإعادة ذلك المجد، ومن هنا لم يكن أحد ليدهش في أثر الهزيمة أن يرى اتجاها قويا نحو الاحتماء في السلف، حتى لا نظن في أنفسنا أننا ممن جاءوا تحت سقيفة التاريخ الحضاري بمحض مصادفة عابرة.
فالموجة السلفية - إذن - كان لها ما يبررها في أثر هزيمة 1967م، لكن الذي يرفع أمامنا علامات استفهام هو - أولا - لماذا لم يكن لانتصارنا في حرب 1973م ما يرد عنا الشعور بالهزيمة وما قد ترتب عليه من آثار؛ إذ جاءنا ذلك النصر وذهب، لتعود روح الهزيمة إلى نفوسنا حيث كانت. و- ثانيا - (وهو الأهم) لماذا نعيش الهزيمة النفسية بالكلام والكتابة، ولا نعيشها في حياتنا العملية بنفس المقدار؟ بعبارة أخرى: ما هي العلاقة بين الهزيمة وأثرها من جهة، ومن جهة أخرى هذه الازدواجية الرهيبة التي تشق حياتنا شطرين: جعجعة متشنجة باللسان وبالقلم، تصرخ صراخ الهوس منادية بالعودة إلى حياة السلف حرفا بحرف، كما وردت فيما تركه لنا ذلك السلف من توجيهات في طريقة العيش، بل وفي طريقة التفكير ذاتها؟ إنه لمن حسن الحظ (في هذه الحالة) أن نتكلم ونكتب في ناحية، وأن ننشط ونسلك من ناحية أخرى، فنحن - بحمد الله - ماضون في البناء الحضاري بقدر مستطاعنا، نقيم المصانع على أحدث طراز، وندخل الميكنة في الزراعة، ونعد للكهرباء مصادرها المختلفة من مساقط الماء إلى المحطات، ونسلح قواتنا العسكرية بأكثر الأسلحة تقدما وهكذا وهكذا. ثم ترى أشد الدعاة إلى العودة السلفية تحمسا يحيا هو نفسه من أول حياته اليومية إلى آخرها، مستعينا ومستمتعا بما أنتجته حضارة الغرب، فها هو ذلك المسئول الكبير، الذي تقدم بمذكرة رسمية إلى هيئة رسمية، يقول بين ما يقوله فيها إنه يطالب بالزيادة في تحفيظ شبابنا القرآن الكريم؛ ليستطيعوا مقاومة الحضارة القائمة. مفارقة تستوقف النظر، فالقلم الذي كتب به المسئول الكبير مذكرته أنتجته الحضارة القائمة، والمطبعة التي طبعت له المذكرة صنعتها الحضارة القائمة، ومكبر الصوت الذي تحدث أمامه المسئول الكبير ليسمع الحاضرون قوله هو كذلك من إنتاج الحضارة القائمة، والمصابيح الكهربائية التي تومض بأضوائها في سقف القاعة لتمكنه من قراءة مذكرته، هي مما اخترعته الحضارة القائمة، والسيارة التي انتقل بها سيادته من مكتبه إلى مكان الاجتماع أمدته بها الحضارة القائمة، والله أعلم بمن نسج له قماش ثيابه التي يرتديها، فهي حتى لو كانت صناعة مصرية، فهي إنما صنعت بآلات اشتريناها من أصحاب الحضارة القائمة. وإنه لفخر لنا أن نتابع حضارة العصر في إنتاجها، فبأي معنى - إذن - وفي أي جانب من جوانب الحضارة القائمة يريد المسئول الكبير لحافظ القرآن الكريم أن يقاوم تلك الحضارة؟ ولماذا يقاومها؟ ألم يكن الأصوب أن نحمل حافظ القرآن على التزود بقوته ليتمكن من المشاركة في البناء الحضاري، حتى لا نظل إلى الأبد عالة على أصحابها؟
نعم، كان من الطبيعي بعد الهزيمة أن نكمن في ركن من أركان ماضينا المجيد حتى نستعيد قوانا، ونسترجع الثقة في أنفسنا، لكنه أبعد ما يكون عن الطبيعي أن نستطيب الإقامة في ذلك الركن، فنرقد بين جدرانه رقدة الموت.
أليس من الحكمة أن نستعرض في هدوء عاقل ما صنعته بلاد «الجنس الأصفر» اليابان أولا، فالصين ثانيا، فكوريا ثالثا، وقد يكون هنالك غيرها من ذلك الجنس الأصفر تقدم بمثل ما تقدمت به الثلاثة المذكورة، أقول: أليس من الحكمة أن ندرس في أناة وموضوعية ونزاهة، ما صنعته تلك البلاد لتنهض ذلك النهوض القوي، مما لم نصنع نحن مثله فلم نتقدم بمثل ما تقدموا؟ لتكن نتائج هذا ما تكون، لكني أرجح أن يكون من أهم تلك النتائج أن أبناء الجنس الأصفر لم يقعوا في مثل الازدواجية المخيفة التي وقعنا فيها نحن، فالكلام والكتابة في ناحية، والحياة العملية في ناحية أخرى. وقد يسألني سائل قائلا: وماذا يضيرك فيما نقوله وما نكتبه، ما دامت حياتنا العملية تسير في إنشاءاتها ومشروعاتها في الطريق الذي تريد لنا أن نسير فيه؟
الإجابة عن هذا السؤال لها شقان: أولهما أن هؤلاء الذين يتكلمون ويكتبون في اتجاه مضاد للتاريخ إنما هم في الحقيقة من صفوة من أنفقت مصر على تعليمهم ما أنفقت، فلو أنهم تكلموا وكتبوا في الاتجاه الحضاري، لكنا بمثابة من استثمر المال الذي أنفقناه في تعليمهم؛ لأنهم كانوا سيصبحون قوة دافعة إلى الأمام، بدل أن يكونوا كما هم الآن قوة تسير إلى الوراء فتؤدي إلى «فرملة» السرعة التي كنا نتمنى أن نتقدم بها، وأما الشق الثاني من الإجابة فهو أن هؤلاء الألوف ممن يعيشون على دعوتهم الرجعية، كان يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من البناة الذين يشيدون المنشآت الحضارية، فهم على كلا الشقين قوة مهدرة على أقل تقدير، إن لم يكونوا إلى جانب ذلك قوة معرقلة، ولك أن تضيف إلى شقي الإجابة المذكورين أن تلك الفئة الكبيرة التي تنفق حياتها في كلام وكتابة لا يعينان أحدا على عمل إيجابي، نشيد به مسكنا، أو نخبز به رغيفا من الخبز أو ننسج به ثوبا . أقول إن تلك الفئة بما تقوله وتكتبه قد تؤثر في بعض شبابنا تأثيرا هداما كهؤلاء الشباب الذين يبلغ بهم التطرف حدودا نعرفها جميعا، وننكرها جميعا، ونقيم لها في وسائل الإعلام ندوات بعد ندوات، لعلنا نفلح في أن نمحو من أذهانهم ما كنا نحن أنفسنا الذين حفرناه في أذهانهم بما قلناه وما كتبناه.
অজানা পৃষ্ঠা
وماذا تقول في فئة من خيرة أعلامنا وهم يشغلون أنفسهم في وسائل الإعلام على اختلافها، بمسائل كهذه: من الذي يشفي المريض أهو الله سبحانه وتعالى أم الطبيب ودواؤه؟ من الذي انتصر في حرب 1973م، أهي قواتنا المسلحة وحدها، أم ساعدتهم على هذا النصر كائنات من الغيب المجهول؟ ما الذي أدى بالطالب المتفوق أن يتفوق، أهو جهده فقط أم كان هناك فوق جهده ما ليس يدريه؟ قل لي: بأي انطباع يخرج القارئ أو السامع لهذه الأمثلة والمناقشات التي تدور حولها؟ أليس من المحتمل أن يؤثر ذلك فيمن هو ضيق الأفق بطبعه، ضعيف الإرادة بطبعه، إلى أن يترك حياته كالسائمة السائبة في الفلاة لا تعرف اتجاها لسيرها، ولا هدفا تسعى إلى بلوغه، وأحب هنا أن أكون واضحا، حتى لا يسيء الفهم من يسيء عن عمد أو عن غفلة، فاعتراضي ليس منصبا على مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولا على العوامل التي تعمل على أن نوفق أو لا نوفق في حياتنا، ولكن اعتراضي منصب على أن نجعل هذه الأمور موضوعا للسؤال والحيرة، فالمطلوب من الإنسان أن يحيا بكل جهده وبكل قدراته. وفوق ذلك يكون من مشيئة الله سبحانه وتعالى ما يشاؤه نتقبله مؤمنين. وإلا فليقل لي من يبلبلون أذهان شبابنا بأمثال هذه المسائل: على أي صورة يتغير سلوك المريض، إذا أقمت أمامه السؤال الأول فيما ذكرناه؟ أيذهب إلى الطبيب ويترشد بتوجيهه أم ينصرف عنه؟ فإذا كان الجواب هو أنه يجب أن يعرض حالته على الطبيب؛ فماذا إذن يغير منه أن تثار أمامه مشكلة كالتي ذكرناه؟ وأمثال ذلك كثير في وسائلنا الإعلامية، وعلى ألسنة أعلام من أعلامنا وبأقلامهم ، فانظر إلى هذا الجهد الذي يبذلونه وهم لا يريدون لأحد أن يغير من سلوكه شيئا على ضوء ما يسمعه أو يقرؤه.
وهكذا انسابت خواطري، فعدت إلى قلمي الذي تركته غاضبا، حين قد ثقل بين أصابعي، فأجريته ليخط على الورق هذا الذي أثاره عندي ما سمعته في المذياع الصغير عن كوريا ونهضتها، مما لم أكن أعلم منه إلا أقل من القليل.
الفصل الرابع
شرح وتشريح
عن حرية التفكير الجريحة أتحدث
إنني أوثر ألا أصل إلى بغيتي بأقصر الطرق؛ لأنني لو فعلت ذلك لأضعت على نفسي وعلى القارئ معالم هامة أريد لها أن تكون موضع السمع والبصر؛ ولذلك سأصحب القارئ في خط دائري يدور حول موضوع الحديث، قبل أن نمسه مسا مباشرا. وأما هذا الخط الدائري الذي أعنيه فهو لمحات من المنهج العلمي؛ لأني أرى في تلك اللمحات معينا قويا على مواجهة الموضوع الذي هو هدف الحديث.
أما اللمحة المنهجية الأولى فهي أن نتبين أوضح ما يكون التبين وأقواه، بأن أي لفظ من ألفاظ اللغة التي تستخدمها فيما تقول وما تكتب، ليس هو «الشيء» الذي جاء ذلك اللفظ ليعنيه، أي ليشير إليه، أو لينوب عنه؟ فلفظة «كرسي» ليست هي الكرسي الشيء الذي تجلس عليه، وكلمة «لحم» ليس فيها شيء من البروتين الحيواني الذي يتغذى به الجسم؟ وكلمة «أسد» لا تزأر ولا تفترس، إن أية كلمة منطوقة إنما هي موجات الهواء تلفظها الشفتان عند مرسلها، وتتلقاها الأذن عند سامعها.
وأية كلمة مكتوبة إن هي إلا قطرة من مداد جفت على الورق، ذلك إذا كان كاتبها قد استخدم لها قلم الحبر والورق.
لكن ألفاظ اللغة تلك ليست هي كل شيء، إنما هي «رموز» اصطلح عليها أصحابها، لتنوب كل منها عن الشيء الذي أريد لها أن تنوب عنه، وذلك لاستحالة أن نقدم - بعضنا إلى بعض - الأشياء نفسها عند التفاهم، فليس بوسعي أن أقدم لك فيلا كلما أردت أن أحدثك بشيء عن الفيل، فتواضعنا أنت وأنا على أن تنوب هذه اللفظة عنه، ليتم بيننا الحديث الذي أردناه. على أن من الألفاظ ما صنعناه لا ليدل على شيء بعينه، بل ليدل على «علاقة» قائمة بين أشياء، مثل كلمة «بين» التي ذكرتها لتوي! فإذا قلت لسامعي: إن مدينة المنيا تقع بين القاهرة وأسيوط؛ كان الموجود القائم على أرض الطبيعة ثلاث مدن، هي المذكورة في الجملة، وأما «بين» فليست تشير إلى «شيء» بل تشير إلى علاقة معينة تربط الأشياء على صورة محددة، وإذا أعدت النظر إلى الجملة المذكورة، وجدت كلمات أخرى لا تسمي أشياء، بل تشير إلى علاقات تصل الأشياء بعضها ببعض، أو تصل الأشياء بالمتكلم نفسه، وشرح ذلك يطول، ولكن يكفينا عن «حرية التفكير»، ولكي أقيم الحديث عن أرض في صلابة الحديد، صممت على أن أشرك القارئ معي في «منهج» التناول ومحور المنهج هنا هو أن تقف عند العبارة نفسها أولا، أعني العبارة التي جعلناها موضوعا لحديثنا؛ إذ ما جدوى أن نتحدث قبل أن نتفق، بادئ ذي بدء، على حقيقة ما أردنا أن ندير حوله الحديث، فالعبارة المشار إليها مؤلفة من لفظتين: «حرية» و«تفكير»، على أن اللفظتين لم نرد لهما أن تكونا مستقلتين إحداهما عن الأخرى، بل أضفنا إحداهما إلى الأخرى، والمضاف إليه هو «التفكير»، والمضاف هو الحرية، وإذن فالتفكير وطبيعته وحقيقته هو الأساس، ثم بعد ذلك تجيء الصفة المعينة التي قصدنا إليها وهي صفة أن يكون ذلك التفكير «حرا»، فماذا نعني بتلك الصفة حين تضاف إلى التفكير، وذلك لأنها قد تصف أشياء أخرى كثيرة، ليست هي جزءا من موضوع حديثنا هذا.
ونبدأ «بالتفكير» ماذا يعني؟ وأرجوك أن تستحضر في ذهنك ما قد أسلفناه، وهو أن «اللفظة» ليست هي «الشيء» الذي جاءت اللفظة لتشير إليه، فنحن الآن نسأل عن ذلك «الشيء» الذي تعنيه كلمة تفكير، وأول ما نجيب به هو أن الشيء المطلوب في هذه الحالة المعينة هو «عملية» مؤداها شديد الشبه بالعملية التي يؤديها من أراد أن يقوم برحلة، فرسم لرحلته المرتقبة خريطة تبين طريق السير ومراحله؛ فإذا كانت الخريطة قد رسمت بدقة، جاءت الرحلة على أرض الواقع مطابقة لها مرحلة فمرحلة فهدفا منشودا، «وعملية التفكير» هي من هذا القبيل نفسه، مع اختلاف الأهداف وتنويعها، ويكون التفكير سليما ودقيقا؛ بقدر ما نجد أنفسنا أثناء التنفيذ موفقين خطوة بعد خطوة حتى نبلغ ختام الرحلة، فإذا هو الهدف الذي ابتغيناه لأنفسنا منذ البداية، وعلى سبيل التوضيح أحكي لك ما يأتي: لقد أردت لرحلتي صيف هذا العام (1984م) أن أقضي أسبوعا في مكان ما، وكعادتي دائما، أردت أن أعد كل ما يمكنني إعداده من تفصيلات التنفيذ قبل أن أبدأ السير، وكان بين تلك التفصيلات أن لجأت لإحدى الشركات لتحجز لي غرفة في المكان المقصود، من يوم كذا إلى يوم كذا، وتم كل شيء في إعداد «الخريطة» أو قل إنني أتممت عملية «التفكير»، فلما وصلت إلى المكان المقصود، فوجئت بأن الغرفة قد حجزت لي في أيام أخرى غير الأيام التي أردتها، وكان ما كان من عناء، فها هنا ترى أن «التفكير» لا بد أن يكون قد حدث فيه «خطأ» ما، هو الذي ظهر على الصورة التي ظهر بها عند التطبيق.
অজানা পৃষ্ঠা
وإننا لنسأل: إلى أي شيء تشير كلمة «تفكير» (ولا تنس أن الكلمة ليست هي الشيء الذي جاءت لتعنيه) وها هو ذا جوابنا نعيده: التفكير عملية ذهنية نرسم بها خريطة العمل المؤدي إلى تحقيق هدف ما، وبعد ذلك لتتنوع الأهداف ما شاء لها أصحابها أن تتنوع، لكنها جميعا تلتقي عند هذا الأصل المشترك، فصاحب العمارة التي تنهار بعد بنائها، لم يكن يريد لها أن تنهار، لكنها انهارت لخطأ وقع في عملية التفكير الأولى، أي إنه حسب فأخطأ في الحساب، وخريج الجامعة الذي نراه غير مستوف للصفات التي كنا نود أن نجده محققا لها، لم يكن يريد، ولا كنا نحن نريد له أن يتخرج ضعيفا في مهاراته ومدركاته، لكنه خطأ وقعنا فيه عند رسم الخريطة الفكرية للتعليم الجامعي، وهكذا، كما أن الجوانب الكثيرة التي جاءت ناجحة ومحققة لأهدافها إنما استمدت نجاحها من دقة «التفكير» الذي سبق تنفيذه، ونحن إذ نقول عن أنفسنا - بصفة عامة - إنه ينقصنا شيء كثير من دقة التفكير العلمي؛ فإنما نعني هذا الذي ذكرناه، وهو أننا كثيرا ما «نفكر» فيما نريد إنجازه، فلا نحسن رسم الخرائط الذهنية لما نريده، فتجيء منجزاتنا وفيها من الضعف ما ينتهي بها إلى فشل جزئي، أو أحيانا فشل كامل.
هذا - إذن - هو التفكير، فماذا تكون «حريته» عندما يكون حرا؟ وللإجابة عن ذلك نعود إلى تشبيهنا عملية التفكير في موضوع ما برسم خريطة لرحلة نريد القيام بها، فالتفكير الحر هو الذي لا يتدخل أحد ذو سلطان في طريقة الراسم للخريطة، فهو راسمها، وهو بعد ذلك مسئول عن تحقيقها لأغراضها، فافرض - مثلا - أنه قد طلب إلى مسئول أن يعد خطة - والخطة والخريطة مترادفان - للتعليم الجامعي في مصر، فجلس هذا المسئول «يفكر» والتفكير هو عملية رسم الخطة، فإذا به قد جعل أولى خطوات رحلته، تحديد الأعداد التي يسمح لها بالتعليم الجامعي، فهبط عليه عندئذ صوت من ذي سلطان أعلى، ليقول له: لا، لا بد لك أن ترسم خطتك على أساس أن لا تحديد؛ لأننا نريد لأبناء الشعب كله أن يتخرجوا في جامعات إذا استطعنا، كان هذا التدخل عاملا على تقييد حرية التفكير؛ لأن الخريطة عندئذ لن تستوفي شروطها التي من أجلها سميت باسمها.
ولنوضح فنقول: إن في فلسفة الرياضة ضربا من العلاقة، يطلقون عليه اسم «علاقة واحد بواحد»، وذلك عندما تقول عن شيئين إن بينهما تشابها كاملا، فالشيئان يتشابهان إذا كان كل عنصر من مقومات الشيء الأول يقابله عنصر مثيل في الشيء الثاني، فمثلا إذا قلنا عن صورة لفرد معين من الناس إنها صورة دقيقة له، كان معنى ذلك أن كل مقوم من مقومات الفرد الذي صورناه يقابله مقوم مثيل في الصورة، وهكذا تكون الفكرة بالنسبة لمشروعها، ينبغي أن يكون بين الجانبين علاقة واحد بواحد، لكن افرض أن الفرد الذي أريد تصويره اشترط على المصور ألا يخرجه أصلع الرأس، كما هو في حقيقته، فيكسو رأسه بفروة من الشعر، جاءت النتيجة - بالطبع - محققة لرغبات صاحب السلطة، وغير محققة للحقيقة في موضوعيتها، وقد حدث لي ذات يوم من عام بعيد، أن سمعت سيدة تطلب من المصور الفوتغرافي أن يدخل على صورتها «رتوش»، يحيلها بيضاء ممتلئة الجسم، وشيء كهذا تماما هو الذي يحدث، عندما يشترط صاحب سلطان - أيا كان نوع سلطته - على المفكر أن تجيء الفكرة مطابقة لما يريده هو لها بغض النظر عن الحقيقة الموضوعية كما يراها المفكر حين يأخذ في رسم خريطته الذهنية التي توصل الناس إلى هدف مقصود.
إنني لأكاشف القارئ بحقيقة تصادفني مرة بعد مرة، وهي أن أجد الكاتب الذي أقرأ له ممن كنت أقرأ لهم من كتاب الغرب قد عرض مشكلة اجتماعية أو تربوية أو كائنة ما كانت مما أراه شبيها بعض الشبه بمشكلاتنا نحن في بلدنا، لكنني أجده قد رسم لها حلولا يستحيل على كاتب مصري أن يجرؤ على مجرد ذكرها على قومه، حتى ولو كانت حلولا - في رأيه - تصلح للتهذيب والتعديل، إذا لم يكن ممكنا أخذها بحذافيرها. لماذا؟ لأن في بلدنا - إذا لم يكن القارئ يعلم فليعلم - فئات أعطت نفسها حق «الفيتو»، فإذا قالت: لا، وجب على الشعب كله أن يردد وراءها: لا، وبهذا تنتفي حرية التفكير.
وقد لا يصدقني القارئ إذا أنبأته بأن بيننا من يصادف فكرة تعجبه عند مفكر غربي، لكنه في الوقت نفسه يراها تتضمن بعض الجوانب التي قد يمارس عليها أصحاب الحق في «الفيتو» حقهم في الرفض، فماذا يصنع؟ إنه بدل أن يترك الفكرة برمتها؛ نراه وقد لجأ إلى حذف أجزائها غير المرغوب فيها، مع أن مثل هذا الحذف - أحيانا - يكون من الخطورة بحيث تنقل الفكرة من صورتها الأصلية إلى نقيضها، ولا علينا إذا وقع افتراء على المؤلف الأصلي، بل لا علينا إذا مسخت الحقيقة العلمية مسخا، ومن الأمثلة العامة التي ترد الآن على خاطري «الميثاق» الذي أصدرناه سنة 1962م، وليس الذي يعنيني منه هنا جانبه السياسي، بل الذي يعنيني الآن هو الجانب الذي يمس منطق الفكر، فقد بني الميثاق على مذهب الاشتراكية العلمية كما فهمت تلك الفكرة عند أصحابها من زاوية الفلسفة المادية الجدلية، والأساس في تلك الفلسفة هو ألا شيء وراء الطبيعة المادية، وبالتالي فإذا أردنا أن نرد النظم الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة إلى أصولها الأولى ألفينا أنفسنا وقد انتهى بنا التحليل آخر الأمر إلى البيئة المادية، وما تحتوي عليه من عوامل وظروف، ومن تلك العوامل أدوات الإنتاج ونوعها، إلى آخر ما يقال في هذا الباب، لكن واضع الميثاق - أو واضعيه - كما لو كانوا قد تذكروا فجأة أننا شعب مؤمن بالله، ومن مقتضى الإيمان بالله أن يكون إطار الرؤية العامة قائما على أساس أسبقية الفكرة على المادة؛ لأن هذه مربوبة لتلك؛ فأضاف واضع الميثاق فصلا أخيرا يعلن فيه أننا مؤمنون بالله آخذون بما يقضي به دين الله، فها هنا أحب لك أن تلحظ التحليل في منطق التفكير، فأنصار المادية الجدلية وما يلزم عنها من اشتراكية علمية متسقون مع أنفسهم حين ينتهون آخر الأمر إلى وقفة إلحادية، لا هي تؤمن بالله ولا هي تقيم سلوكها على دين الله؛ لأن هذه النتيجة مشتقة من المقدمة التي تفترض أن الطبيعة المادية تفسر كل ما يحدث بين جنباتها، بما في ذلك الإنسان وحياته وتاريخه. فإذا جئنا نحن لنأخذ المقدمة ذاتها ثم لنتلافى النقطة الخاصة بالإيمان الديني، فأضفناها إضافة مصطنعة، وقعنا في تناقض، ولا مخرج لنا من هذا المأزق إلا بأحد أمرين: فإما أن نحرص على المقدمة، وعندئذ نلتزم بنتائجها، وإما أن نحرص على تلك النتائج فلا يكون لنا بد من رفض المقدمة التي كانت قد أدت بأصحابها إلى ما ينقض النتائج الإيمانية التي نحن حريصون على بقائها، ولست أظن أن الكثرة الغالبة منا تتردد لحظة في الاختيار بين هذين البديلين؛ إذن تختار البديل الثاني. ومرة أخرى أقول: إنني لم أذكر هذا المثل لدلالته السياسية، بل ذكرته لأبين به كيف نخدع أنفسنا بمسخ ما ننقله عن غيرنا من فكر مسخا يجعله في ظاهره مسايرا لوجهة نظرنا، ولم يكن مثل هذا التلفيق ليضرنا في شيء، لولا أنه في أغلب الحالات يتركنا أمام فكر مضطرب لا يستند إلى جذور ثابتة.
إن موضوع حديثنا هذا هو حرية التفكير، وقد أسلفت القول بأن تلك الحرية تقتضي من رجل الفكر أن يرسم بفكره خريطة للسير من أجل الوصول إلى هدف منشود، وأنه إذا تدخل ذو سلطان بإقحامه على الخريطة شروطا من إضافة أو حذف، كان بمثابة من يحول بين السائر وبلوغه الغاية التي يستهدفها، وأود الآن أن أعرض جانبا من جوانب المنهج العلمي في التفكير؛ لأنه جانب بالغ الأهمية فيما نحن بصدد الحديث فيه، وذلك هو أن كل تفكير منهجي مهما يكن موضوعه لا بد أن يبدأ من أساس يوضع وضعا، إما على سبيل الفرض، وإما لأنه نص مأخوذ مأخذ التسليم، فحركة الفكر لا تبدأ من فراغ، خذ المجال العلمي الصرف تجد هناك مجموعتين من العلوم، لكل مجموعة منها منهاجها في السير: الأولى هي مجموعة العلوم الرياضية، ومنهاجها هو أن تجعل أساسها الذي تبدأ منه سيرها الاستدلالي عددا مما يسمونه بالمسلمات، لكن تلك المسلمات قابلة للتبديل على أيدي العلماء المختلفين، ولا ضير في ذلك طالما التزم كل منهم مسلماته التي صدر بها سيره الاستدلالي، وأما المجموعة الثانية فهي العلوم الطبيعية، وهنا يكون الأساس الذي يبدأ منه الباحث سيره الاستدلالي ما يسمونه «فرضا» يبني على ما كان قد جمع من شواهد ومعطيات، وهنا أيضا يجب على الباحث العلمي أن يبدل فرضه بفرض آخر إذا وجد أن فرضه الأول قد أوصله إلى نتائج لا تتفق مع واقع الأشياء.
وأما في مجالات الفكر الأخرى، وفي مقدمتها الفكر الديني؛ فالأساس الذي يوضع أمام الباحث العلمي ليبدأ منه سيره الاستدلالي هو النص أو النصوص التي آمن بصدقها إيمانا دينيا، والفرق بين هذه الحالة والحالتين السابقتين وهما: العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، هو أن الأساس المبدوء منه غير قابل للتبديل من باحث إلى باحث.
ولقد ذكرت هذا كله لأوضح على ضوئه كيف تكون حرية التفكير في كل حالة من هذه الحالات، أما في الحالتين الأوليين، فالباحث العلمي حر في فروضه التي يرى فيها قابلية الوصول إلى نتائج صالحة للتطبيق، وأما في الحالة الثالثة؛ فالأغلب فيها أن يكون النص أو النصوص التي تحتم على المؤمنين بها قبولها وتصديقها، أقول إن الأغلب في هذه الحالات أن تكون النصوص قابلة لتعدد التأويلات في فهمها، ولهذا قد تتعدد المذاهب فيما تستخرجه من أحكام ونتائج، وفي هذه الحالة لا ينال من قدرة الفقيه وسمعته أن يختلف مذهبه عن فقيه آخر، ومن حق المتلقي العادي أن يقبل أحدهما دون الآخر ولا يكون في ذلك خروج على مصادر إيمانه.
فإذا أردنا أن نعمم القول تعميما يشمل كل مواقف التفكير لترى متى يكون التفكير حرا ومتى لا يكون، قلنا إن هنالك طرفين لكل موقف: أما أحدهما فهو الأمر الواقع، وأما الآخر فهو تفسير ذلك الأمر الواقع، واستدلال النتائج التي تترتب على وقوعه، ففي الطرف الأول لا مجال لحرية المفكر، فالواقع واقع، وفي المجال الثاني يكون للمفكر كل الحرية في استخدام قدراته ليفسر ذلك الأمر الواقع بما يراه تفسيرا مقبولا عند العقل «والتفسير معناه رد الشيء إلى ما يمكن أن يكون مصدرا لحدوثه»، كما يكون المفكر حرا كذلك في استدلال النتائج التي يرى أنها يمكن صدورها عن ذلك الواقع، خذ مثلا لذلك: هذه هي أرضنا التي نعيش على سطحها، تدور حول نفسها دورة الليل والنهار، كما تدور كذلك حول الشمس دورة الفصول الأربعة، فليس لأحد حيلة سوى أن يقبل هذا الأمر الواقع، لكن نبدأ حرية العقل في فاعليته حين يسأل: كيف حدث هذا؟ فها هنا لا قيد على العقل في أن يفسر وأن يستدل طالما هو يبين في دقة كيف سارت خطواته المنطقية وهو يرد ذلك الأمر الواقع إلى مصدره، ثم وهو يستدل ما عساه يحدث بعد ذلك. وخذ مثلا آخر من حياتنا العملية: فهنالك أمر واقع خاص بشبابنا في هذه المرحلة الزمنية الراهنة يمكن تحليلها تحليلا علميا دقيقا من حيث ميوله ونزعاته ومداركه، وما إلى ذلك من جوانب حياته، وليس لأحد منا حيلة سوى أن يقبل بأن تلك الصورة التي يقدمها لنا التحليل العلمي هي أمر واقع، ويبدأ نشاط العقل في عملية التفكير الحرة حين يأخذ في البحث عن الأصل الذي انبثقت منه حالة شبابنا الواقع، وحين يستبق الزمن لينبئ بما عسى أن يترتب على هذه الحالة من نتائج، لو أنها تركت هكذا بغير تعديل، فإذا تدخلت سلطة أيا كان نوعها وحالت بين العقل وبين أن يفسر أو أن يستدل كان ذلك قتلا لحرية التفكير.
وحرية التفكير إنما هي نوع واحد من صور متعددة تتبدى فيها «الحرية»، فهنالك العبد يعتقه مولاه فيصير حرا، وهنالك السجين يفك القيد عن يديه أو قدميه أو يفتح له باب سجنه ليخرج طليقا، وهنالك الفرد أو الشعب الذي تستبد به سلطة ما لترغمه على سلوك معين أو لتحرمه من سلوك معين، وقد يثور ذلك الفرد أو الشعب على من استبد به ليسلك في حياته كما يريد لنفسه أو أن يحكم نفسه بنفسه على الصورة التي اختارها، وهنالك وهنالك، لكن صورة الحرية مهما اختلفت وتنوعت فأظنها تلتقي عند أصل واحد وهو أن يكون هناك قيد ما أضيف بغير ضرورة ملزمة إلى القيود الطبيعية التي لا مفر منها، والحرية في كل صورة من صورها هي كسر ذلك القيد، ولعل أسمى ما يسمو إليه الإنسان في مدارج الحرية هو أن يكشف بالعلم سر الطبيعة في هذا الجانب منها أو ذاك، فيصبح بهذا الكشف سيدها بعد أن كان سجينها؛ لأنه كلما كشف سرا من أسرارها كان له بذلك القدرة على تسخيرها في المجال الذي انكشف له سره.
অজানা পৃষ্ঠা
لكننا في هذا الحديث قد قصرنا أنفسنا على نوع واحد من الحرية، وهو حين تكون تلك الحرية مضافة إلى عقل يفكر، ولقد اخترنا حرية التفكير موضوعا للحديث بعد أن رأيناها قد أوشكت أن تكون شهيدة طغيان غاشم.
الفصل الخامس
رهبة المجهول
عن الحرية المغامرة أتحدث
من يقرأ لي فيراني متلفعا بمنطق العقل رائحا وغاديا، قد لا يعلم أن لي خيالا يشتعل لأتفه المؤثرات، اشتعالا يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى ، ولكم تأملت طبيعتي تلك، إذا ما انزاح من رأسي ما اشتعل فيه من سورة خيال تشطح بي إلى دنيا المستحيلات والعجائب، فأحزنني عندئذ أن أجد تلك القوة العارمة في فطرتي، مضيعة مع الهباء؛ لأنه وإن يكن خيالا ملتهبا، إلا أن لهبه يحرق ولا يضيء، ويهدم أكثر مما يبني، ولو كان خيالا بناء مع قوته تلك، لأنتج لي أعمالا فنية تستعصي على الفناء السريع، ولكنه لم يفعل، واكتفى معي بتلك الشطحات المجنونة إلى عوالم أغرب من عالم علاء الدين.
ولم يتغير الموقف في ذلك كثيرا بين طفولتي وأعوام نضجي، اللهم إلا أن يكون الفرق بين العهدين هو أن احتكامي إلى العقل ومنطقه أخذ مع الأيام يزداد، وربما كان ذلك لرغبة أكيدة في عمق نفسي بأن يتولى العقل عني كبح الخيال إذا جمح، ولو كان خيالا بناء - كما قلت - لأرخيت له العنان ليفعل فعله، لكنه جموح، وكثيرا ما شعرت بشيء من النجاح فيما أردته؛ إذ كنت ألحظ أن ذلك الخيال الملجم المكبوت، يتحول معي إلى أحلام هي أروع وأنصع ما تكون الأحلام عند حالم، وعندئذ ينفض الإشكال، فتوزع نفسي قوتيها بين صحو ونوم، فللصحو نشاط العقل بمنطقه، وللنوم أحلام يشطح بها الخيال كما يشاء.
وكان من لحظات الطفولة لحظة، حكيت فيها حكاية على مسمع مني، فحركت في جوفي ذلك الخيال بأقوى قوته، حتى لقد بقيت معي شعلته حتى هذه الساعة من حياتي، ولو أن شعلته تتقد حينا وتخبو حينا. وكانت تلك الحكاية تحكي عن قصر فيه أربعون غرفة، قيل لساكنيه أن يرتعوا في تسع وثلاثين منها، أما الغرفة الأربعون فهي مغلقة، ويجب أن تظل مغلقة حتى لا يكشف أحد عن شيء من سرها المكتوم. وانتهى الحاكي - أو الحاكية لا أذكر - وبدأ الخيال يؤرقني في نهار وفي ليل: ماذا يا ترى في تلك الغرفة المحرمة؟!
ومرت بي الأعوام، وتقدمت بي السن، والسؤال ما زال قائما، لولا أن نطاقه قد اتسع، ولم يعد يسأل عن غرفة واحدة من أربعين غرفة، بل ازدادت الغرف المغلقة على أسرارها ازديادا أشرك العقل في أمره مع الخيال، فكل ذرة في هذا الكون الفسيح العظيم منطوية على سر، يكشف لنا جانبا من حقيقتها، وتخفي جانبا أو جوانب، وكأنها الحسناء ترخي قناعها على شيء وتضمه عن شيء، والناس حيال حقائق الكون المكشوفة المحجوبة أحد رجلين: فرجل يؤثر أن يزيد من ألغاز ما انكشف ليصبح كل شيء فوق قدرات البشر، ورجل آخر يصب الضوء على ما احتجب، حتى ينكشف مع ما انكشف، فيزداد الإنسان علما بدنياه، فيزداد نتيجة لذلك قدرة على أن يمسك بالعنان، وأراني من الصنف الثاني، وأرى كثيرين حولي من الصنف الأول، وحول هذا المحور الانقسامي تدور حياتنا الفكرية كلها.
الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، ويطمئن لما هو معلوم له اطمئنانه للضوء، ففي الظلام تنشط العفاريت وتتحرك الأشباح، وتستيقظ كثرة كثيرة من الحيوان المخيفة ومن الحشرات القارضة واللاسعة والسامة، وكذلك في ظلام الليل يسطو اللصوص على فرائسهم وتحاك المؤامرات وتدبر الوقيعة، مهما قيل بعد ذلك عن الليل من حلو السمر فيه ولقاء المحبين، وحقيق بالمؤمن أن يعوذ برب الفلق من شر غاسق إذا وقب، ففي ستر الغسق ينزوي الشر من مكامنه، وتنفث النفاثات بسحرهن في العقد ليؤذين من أردن بهم الأذى، ويدبر الحاسد شراك حسده ليهدم من يدبر له أن ينهدم، ولما كان الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، حق للمؤمن أن يعوذ برب الفلق من خطورة المجهول وشره، ولكنني أرى - وا عجباه - أصحاب الفكر منا ينقسمون رأيين: فإذا كانت دنيانا فيها المعلوم لنا وفيها المجهول، والمعلوم ضوء والمجهول ظلام، والأول مؤنس والثاني موحش، فمنا من يتجه برأيه إلى محاولة أن يصبح الكل معلوما - ما وسع الإنسان أن يعلم - ليصبح الكل نورا تطمئن له النفوس، ومنا كذلك من يتجه برأيه في الاتجاه المضاد، فيحاول أن يبين للناس أن ما حسبوه معلوما إنما هو مغلق مجهول، فالكل علينا ظلام في ظلام، وبين من يسعى إلى إضاءة المظلم، ومن يحاول إظلام المضيء، تقع حياتنا الفكرية جدالا لا أظنه ينفع أحدا أو يشفع لأحد.
علم الإنسان بشيء معناه حريته إزاء ذلك الشيء، يصوغه كما شاء ويحركه كما شاء، ومزيد من العلم به هو في الوقت نفسه مزيد من حرية الإنسان، إنه إذا بقي الإنسان منحصرا في ذاته هو، لما عرف الكثير عن تلك الذات نفسها، ولما استطاع عندئذ أن يتحرك إلا بمقدار ما تسعفه رجلاه على التحرك، وكان تطوره في هذا الصدد يقف عند حدود الدواب التي يجد في مقدوره أن يسخرها، لكنه إذ عرف سر البخار وقدرته، كان له القطار والباخرة والمصنع الذي تدور عجلاته بغير سواعد البشر، وإذ عرف الكهرباء ازداد تحرره من قيد المكان، وتحولت ظلمة الليل إلى ضوء النهار، إذا أراد لها الإنسان أن تتحول، ثم عرف الذرة وقوتها الحبيسة، فعرف كيف يطلق تلك القوة من سجنها، فكان له ما كان من معجزات تتكشف له كل صباح. إن التحرر من قيود المكان وقيود الزمان، هو من أبرز ما يميز الإنسان من سائر الكائنات الحية، فالنبات سجين موقعه من الأرض، لا يتحول عنه إلى موقع آخر، فلئن كان يعلو بجذعه وفروعه في حركة رأسية، فهو لا يستطيع الحركة الأفقية التي فيها أمام وفيها وراء، وفيها يمين ويسار، فيأتي بعد النبات حيوان ليقهر قيد المكان، محدودا في ذلك بحركة جسمه، لكنه يظل مقيدا بلحظته الزمنية، فهو لا يعرف من زمانه إلا «الآن»، ليس له أمس ولا غد، ليس له تاريخ يعيه ويستلهمه، وليس له مستقبل يتسلفه ويدبر له، وأما الإنسان ففي جوهره أن يحطم قيود المكان وقيود الزمان معا، دون أن تحده في ذلك حدود، فها هو ذا قد أخذ يزداد تحررا في خفة حركته وسرعتها، حتى تغلب على قوة الأرض في جذبها لجسده؛ إذ جاوز حدود الأرض وغلافها ومجالها، وأما قيود الزمان فقد أعانته فطرته على تحطيمها منذ خلقه الله إنسانا، إن اللحظة الراهنة لا تعتقله بحدودها، فله من الخيال ما يطير به إلى اللانهاية فيما هو آت أو ما يقدر هو بحسابه أنه آت - ولا يزيل عنه قوة الخيال أن يخطئ في الحساب - كما أن له من قوة الذاكرة ما يسترجع به الماضي وكأنه يحيا في رحابه مع أبناء ذلك الماضي.
অজানা পৃষ্ঠা
تلك الحرية كلها مكسوبة للإنسان، مرتفعة به عن سائر الأحياء إلى فلك أرفع وأسمى، وهي حرية مرهونة بفطرته البشرية أولا وبما هو في مقدور تلك الفطرة من «علم» بطبائع الأشياء، ولقد ألفنا جميعا ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبي وحده، دون جانبها الإيجابي الذي بفضله تبنى الحضارات وتقام الثقافات، وجانبها السلبي هو المرحلة الأولى التي تفك فيها القيود، ويصبح الإنسان بعد ذلك «حرا» في أن ينطلق إلى حيث شاء، وها هنا يأتي الجانب الإيجابي من الحرية، فإلى أين ينطلق، وكيف ينطلق، وعند هذه النقطة تأتي أهمية المعرفة بطبائع الأشياء، وعندما أمرنا في كتاب الله أن نضرب في مناكب الأرض، وأن نتفكر في خلق السموات والأرض، كان ذلك التوجيه الإلهي بمثابة إرشادنا إلى الشرط الأساسي الذي بغيره لا تتحقق للإنسان حريته بمعناها الإيجابي البناء. وتلك الحرية - بمفهومها السلبي والإيجابي - هي بدورها المقوم الأساسي لجوهر الإنسان وكرامته، وهل تكون مسئولية خلقية بغيرها، أو يكون للإنسان بدونها حضارة تقام بعلومها وفنونها ونظمها وسائر عناصرها؟
مغامرة الإنسان في مواجهته للمجهول، وهتك أستاره وكشف أسراره، ثم تسخيره وتسييره إلى حيث أراد له الإنسان أن يسير، إنما هي صميم الصميم من حرية الإنسان، وقد يغنى فيه أفراد من الناس عن أفراد؛ لأن الناس متفاوتون في القدرات، وتلك المغامرة في مواجهة المجهول قدرة قد توهب لإنسان ولا توهب لآخر، لكنها مع ذلك قدرة يجب أن نجعلها في طليعة القدرات التي نربي أبناءنا على اكتسابها، فالموهبة دائما تكون هي الأساس، ولا بد لها من شحذ وتدريب وتنمية حتى تثمر، وأحسب أن ليس في البشر جميعا إنسان خلت فطرته من هذه الموهبة، أو تلك، لكنه الخوف من الحرية الذي يصاب به من يصاب فيشل عن المغامرة ملقيا بالعبء على سواه، وهذا السوى قد يحيل المهمة بدوره على سوى آخر، وهكذا قد تتسع الدائرة حتى تصبح شاملة للأمة كلها أو معظمها، وأعتقد أن هذه الحالة المتواكلة هي جزء مما أصابنا منذ القرن السادس عشر، وحتى تباشير النهضة الجديدة في أوائل القرن التاسع عشر، حيث أخذت الصحوة تعلو بنا لتردنا إلى ما كنا عليه في تاريخنا كله، من إبداع حضاري لم يفتر قط بمثل ما أخذه الفتور - بصفة عامة - في المرحلة الأخيرة، فها هنا غمرتنا حضارة الغرب، فلم نكد نأخذ منها بنصيب حتى أوهمنا من أوهمنا بأنها ليست منا ولا نحن منها، فسرى في أوصالنا «خوف» من المغامرة، خوف من الحرية، خوف من الإبداع الذي نشارك به سائر الدنيا التي تقدمت.
وقد تعجب من كلمة «خوف» في هذا السياق، الذي يسوقها منسوبة إلى «الحرية» كيف هذا؟ من ذا الذي يخيفه أن يكون حرا؟ ألسنا نثير الثورة تلو الثورة لنظفر بالحرية في جوانبها المتعددة؟ وهذا كله صحيح، لكننا لم نكد نظفر بجانب منها، حتى رأينا كثرتنا الغالبة قد استثقلت عبئها، فأحالت ذلك العبء إلى أفراد منا قليلين، ليكونوا هم الأحرار أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن بقية الشعب، وأقول ذلك راجيا أن يفهم بالمعنى الحضاري العام، وألا يقصر على جانب السياسة وحدها؛ لأن في الحضارة عناصر كثيرة أخرى غير السياسة، ففيها علوم تقتضي منهجا خاصا في النظر إلى الأشياء، فإذا كانت العلوم قد حصلها نفر وتأثر بمنهاجها، فهو نفر، أقل من القليل، ولن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تسربت الرؤية العلمية الجديدة قطرة قطرة، حتى تعم الشعب كله بدرجات، وتصبح طابعا يميزه عن نفسه وهو في مراحل تاريخه الماضي.
وفي الحضارة فنون وآداب وفكر، ولكل ذلك في حضارة عصرنا مذاق خاص يميزه عن أشباهها في المراحل الحضارية السابقة، وفي هذا المجال - كما في مجال العلوم ومنهاجها - اقتصر الأمر على فئة قليلة، قليلة جدا، هي التي أتاحت لها الظروف أن تتذوق روح العصر في تلك الجوانب المذكورة، ومرة أخرى أقول: إنه لن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تقطر الذوق الجديد قطرة قطرة حتى يعم الشعب كله بدرجات، وإلا لظل هذا الشعب غريبا في دنياه، غربة أهل الكهف حين استيقظوا وساروا في شوارع المدينة، فإذا كل شيء حولهم ينكرهم، وإذا هم ينكرون كل شيء، على أني أحب أن أوضح هنا بأن المقصود بهذا ليس هو أن نحاكي سوانا محاكاة تستغرق ذواتنا، بل المقصود هو أن ندخل مع حضارة العصر وثقافته دخول من يقبل ويرفض ويعدل، أي دخول من يحاور ويجادل ويبدع، لكن هذا كله يتطلب أولا إلماما بعصرنا وما يدور فيه لا إلمام من يسمع الأخبار وكأنها ليست من شأنه هو، بل إلمام من يتبنى القضية لتكون جزءا من حياته، مؤيدا أو مهاجما، وقد فعل شيئا كهذا جمال الدين الأفغاني في «الرد على الدهريين»، وسواء أصاب أو لم يصب فيما أورده من أفكار في ذلك الكتاب، إلا أنه لم يكن ليكتب سطرا منه إذا لم يكن قد ألم بقدر مستطاعه بتيارات الفكر في أوروبا في عصره، وفي ألمانيا بصفة خاصة، وكذلك فعل شيئا كهذا الإمام الشيخ محمد عبده، حين كتب رده على هانوتو، وحين زار فيلسوف بريطانيا إذ ذاك «هربرت سبنسر» أثناء زيارة الإمام لتلك البلاد؛ لأنها لم تكن زيارة تفريج، بل كانت زيارة تتيح الفرصة لحوار يدور بين ثقافتين، وفعل شيئا كهذا أيضا كثيرون جدا من أعلامنا، فأين هؤلاء جميعا ممن ينادون اليوم بالفزع مما أسموه بالغزو الثقافي؟ وأين هؤلاء جميعا من ذلك المسئول الكبير الذي سمعته يقول: إن في الدنيا الآن حضارة جديدة، وعلينا أن نحمل شبابنا على حفظ القرآن الكريم ليقاوموا به تلك الحضارة؟! إلا أنه الخوف من مواجهة المجهول، الخوف من الغرفة المحرمة في القصر المسحور، ومع الخوف من مغامرة مع المجهول حتى ينكشف يجيء الخوف من أن نكون أحرارا، وكان كل نصيبنا من الحرية هو أن نهتف باسمها في المظاهرات، ثم نأوي إلى مخادعنا لنغط في النوم!
الحرية مسئولية وفكر وإرادة، لأن يكون الإنسان حرا لا بد أن يضطلع بعمل يؤديه أداء القادر الماهر العارف بأسرار مهنته، وهو حر بمقدار ما يكون في وسعه أن يسيطر على مادة مهنته، حرية الطبيب هي أن يعرف أين يكون شفاء مريضه وكيف، حرية القاضي هي أن يعرف مسالك القانون وحناياه، ليعرف أين يقع منها من قدموه إليه ليحاكمه، وهكذا يكون معنى الحرية في كل ميدان من ميادين العمل، الإنسان الحر «يعرف» فيتصرف على هدي معرفته تصرفا مؤديا به إلى تحقيق غايته، وغير الحر لا يعرف أنه يقف أمام وقائع الحياة العملية فاغرا فاه في ذهول التائه الذي ضل الطريق.
ونحن إذ نجعل الحرية بمعناها الإيجابي، مرهونة بقدرة العامل على معالجة موضوعه بحيث ينتهي به إلى غاية يريد تحقيقها، نود لفت الأنظار إلى نقطة لها الأهمية الكبرى في حديثنا هذا، وهي أن روح العصر تقتضي أن يكون معظم الفكر، ومعظم العمل، منصبا على «أشياء» والقليل من ذلك الفكر أو العمل، هو الذي نتجه به إلى «كلمات» إلا أن تكون تلك الكلمات وثيقة الصلة بمواقف عينية فيها مواجهة لأشياء فيقتضي الأمر أن نكون على معرفة علمية دقيقة بطبائع تلك الأشياء، فشعورنا بالحرية عندما نغالب قفر الصحراء حتى نرغمها على أن تخضر بالزرع، أغزر جدا من شعورنا بالحرية حين نبذل الجهد في حفظ صفحة كتبها سوانا، حفظا لا يحمل في طيه مفتاحا نغزو به الأشياء العصية إذا استعصى علينا تشكيلها وتسخيرها لصالح الإنسان.
ولم تكن الحضارات التي شهدها التاريخ كلها سواء في الطابع العام الذي يميزها، من حيث رجحان القيمة في كفة «الكلمة» أو رجحانها في كفة «العمل» فانظر - مثلا - إلى الحضارة المصرية القديمة في عصر الفراعنة، بالمقارنة مع حضارة اليونان القديمة، تجد الأولى أميل إلى العمل في طابعها، العمل في ميادين الصناعة والبناء والنحت والتصوير والحرب، بينما الثانية أميل إلى «الكلمة»، ففيها فلسفة وفكر نظري أكثر جدا مما كان فيها من صناعة وبناء إلى الدرجة التي لا يفوتنا معها أن نلحظ أمرين: الأول هو أن المصري القديم حين عرف كيف «يعمل» لم يهمه كثيرا تنظير ذلك العمل تنظيرا يخرج ما كمن فيه من مبادئ وقوانين وأفكار، حتى لقد جاء اليوناني بعده، واهتمامه الأكبر هو مثل ذلك التنظير، وكان مما حاول استخراج الجانب النظري فيه هو بعض ما كان شاهده مما يصنعه المصري، مثال ذلك ما رآه فيثاغورس اليوناني عندما كان المصري يريد أن يرسم على الأرض زاوية قائمة تحدد له ركن الأرض الزراعية التي في حوزته، فكان يأتي بحبل فيه اثنتا عشرة عقدة، على مسافات متساوية بين العقدة والعقدة، ثم يجعل ثلاثا منها في جانب، وأربعا في جانب، حريصا على أن يرى أن طرفي الحبل قد تلاقيا في جانب ثالث، فعندئذ تكون زاوية الركن بين الجانبين الأولين زاوية قائمة، ولم يهتم المصري بعد ذلك بأن يبحث بحثا نظريا يعرف به لماذا نتجت زاوية قائمة بهذه الحيلة العملية، أما فيثاغورس فقد جعل هذا البحث الرياضي النظري مهمته، حتى أقام البرهان المعروف الخاص بالمثلث القائم الزاوية، حين يكون المربع المقام على وتر المثلث مساويا لمجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين. وعناية اليونان القدماء بالفكر الفلسفي معروفة؛ إذ يكفي أن يكون منهم سقراط وأفلاطون وأرسطو خلال عصر واحد لم يزد على مائة عام. أما الأمر الثاني مما أردت ذكره في تلك المقارنة بين حضارة الكلمات وحضارة الأفعال، فهو أن اليونان قد ذهبوا في مبالغتهم نحو تفضيل الفكر النظري على الفعل، حتى جعلوا «العمل» مما يشين أفراد الطبقة الأرستقراطية، فهؤلاء إنما خلقوا للتفكير النظري، وأما من دونهم فيختصون بالأعمال التي يستخدم فيها الجسم، والفرق بين هؤلاء وأولئك هو نفسه الفرق بين الروح والجسم في المنزلة.
وجاءت الحضارة الإسلامية مزيجا من كلمة وفعل، إلا أن كفة الكلمة راجحة، ويكفي أن يكون أخص خصائص العربي هو الشعر، كما ورد عند الجاحظ وهو يتناول الحضارات المختلفة بالمقارنة، وإبراز الطابع المميز لكل حضارة منها. ولقد أغرى هذا الفارق بين الكلمة والفعل بعض الباحثين في خصائص الحضارات أن يجعلوها نوعين: حضارات مدارها «أخلاق»، وأخرى مدارها «أفعال» وهو تقسيم لا ينفي - بالطبع - أن يفيد أصحاب النوع الأول من إنتاج النوع الثاني، وأن يأخذ أصحاب النوع الثاني مبادئ السلوك من أصحاب النوع الأول!
وفي ضوء هذا الذي أسلفته أقدم الصورة التي أتصورها وأتمناها لحياتنا الثقافية في اتجاهها العام، ولطالما عرضت هذا التصور فيما كتبته؛ لأنني مؤمن بصوابه، لكنني هذه المرة أعرض تصوري مقرونا بما حدث قبل ذلك في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره، فنحن في موقفنا الحاضر نواجه حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة سايرتها، إحداهما حضارة ورثنا أصولها عن آبائنا، وكان محورها الثقافي هو «الكلمة»، وهي ثقافة - كما قلنا - طابعها أخلاقي، وذلك لأن محورها «مبادئ»، وأما الحضارة الأخرى التي تواجهنا فهي حضارة الغرب في عصرنا الحاضر، وإنها لتختلف عن حضارتنا الموروثة اختلافا جوهريا، في أساسها وفي مدارها معا، فأساسها ليس «الكلمة» بل «الشيء» ومدارها ليس «المبادئ» مصوغة في ألفاظ، بل «العلم» متمثلا في منهجه أولا، وفي قوانينه التي تصور مسلك الأشياء ثانيا، وإذا كانت «الكلمة» في الثقافة الأولى قد بلغت ذروتها في الشعر فنا وفي مبادئ الأخلاق سلوكا، فإن معالجة «الأشياء» في الثقافة الثانية قد بلغت ذروتها في الأجهزة العلمية والآلات.
ويبدو واضحا أنه لا بد لنا من الجمع بين أصول الحضارتين معا في صيغة واحدة، هي نفسها الصيغة التي ترسم لنا خطة السير في ثقافتنا الجديدة، فنجمع بين الكلمة والجهاز، أي بين مبادئ الأخلاق كما وردت في العقيدة الدينية، وقوانين العلم الحديث بما تتضمنه من منهج جديد للنظر، وليس هذا الجمع مستحيلا، وإن لم يكن يسيرا، ولقد تحقق هذا النموذج في بعض أعلامنا، كما تحقق في بعض مواقف حياتنا، وفي هذا السياق أذكر المثل التاريخي الذي يوضح مثل هذا الجمع، وهو موقف أوروبا في نهضتها؛ إذ وجدت نفسها أيضا بين حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة تلائمها، فمن جهة كان بين يديها تراث اليونان القدماء، وهو فلسفي أخلاقي في المقام الأول، مضافا إليه عقيدة دينية استولت وحدها على معظم الحياة الفكرية في العصور الوسطى، ثم كان بين يديها (أعني أوروبا في نهضتها) حركة جديدة قوية، اتجهت بكل اندفاعها نحو الطبيعة تقتحمها برا وبحرا وسماء، فنتج عنها علم جديد مصحوب بمنهج للنظر والبحث جديد، فما لبثت أوروبا أن دمجت التيارين في نهر واحد هو ما يسمى بأوروبا الحديثة!
অজানা পৃষ্ঠা
وربما قيل إن أوروبا حين احتفظت بتراثها الفكري لتضمه إلى الحركة الكشفية العلمية أيام نهضتها، فإنما كانت تضم قديمها هي إلى حديثها هي، فلا تناقض، أما نحن إذا حاولنا مثل هذا الضم، فإنما نحاول به الجمع بين قديمنا نحن وجديدهم هم، وهنا التناقض فيما يظهر، لكن اعتراضا كهذا ليس صحيحا على إطلاقه، لأن الجانب الديني من مقومات الحضارة الأوروبية الجديدة، لم يكن يونانيا ولا غير يوناني من السلف الأوروبي، إنما هو عقيدة مسيحية - على الأغلب - هبطت وحيا على عيسى - عليه السلام - وهو على أرض فلسطين، ولبثت بضعة قرون فيما يسمى الآن بالشرق الأوسط، قبل أن تعبر البحر إلى روما فإلى سائر أنحاء أوروبا.
رافدان لا بد من جمعها معا في بنائنا الثقافي الجديد: موروثنا الحضاري الثقافي من جهة، وما أبدعه الغرب في العصر الحديث من جهة أخرى، ولئن كان الجانب الأول سيلزمنا بالدوران في نصوصه، حفظا واستدلالا، فإن الجانب الثاني لكونه يعالج «الأشياء» فسوف يدفعنا دفعا إلى ارتياد الكون المحيط بنا، فننعم عندئذ بضرب من الحرية لا أظننا قد ألفنا منه الشيء الكثير، وهي الحرية المغامرة في الهواء الطلق، غير منحبسة في نصوص نحفظها ونشرحها ونستدل منه نتائجها، كلا الجانبين ضروري ومطلوب لتولد أمة عربية ناهضة على جناحين، هما تاريخها وتراثها الحيوي من ناحية، وحاضرها بعلومه وفنونه وبعض نظمه من ناحية أخرى.
تعليق على مقال شرح وتشريح
حمدي غيث
قرأت في عدد الأهرام الصادر يوم الإثنين الماضي مقال الدكتور زكي نجيب محمود بعنوان «شرح وتشريح»، وأنا واحد من الذين يتابعون باستمرار كتابات ذلك المفكر العظيم الذي جعل همه الأول الدعوة إلى إعمال العقل وإعلاء الفكر العلمي ليحكم سلوكنا، وليكون منهجا لحركتنا الاجتماعية والسياسية، بل وسلوكنا الفردي، وهو بلا شك يكابد من جراء هذه الدعوة كثيرا من العنت ويتحمل كثيرا من العذاب، ولكنه لا يفصح عن هذا فيما يكتب، وإن كان المرء لا يفوته أن يدركه من خلال كلماته الصادقة العميقة المفعمة بالمعاناة من أجل الحقيقة.
تحدث الدكتور في مقاله عن «حرية التفكير»، وأخذ في تشريح وشرح ما تحتمله هذه العبارة من معان ومقاصد، وكان تعريفه لحرية التفكير بأنها «عملية ذهنية لرسم خطة عمل نحقق بها هدفا ما»، كان هذا التعريف جامعا مانعا كما يقول المناطقة، ولكن مع ذلك فليسمح لي أستاذي الدكتور أن أختلف معه في تشريحه بعد ذلك لمعنى «حرية التفكير» ومضمونها.
إن مقتضى تعريفه السالف يعني أن هناك حدين لحرية التفكير هما أولا «العملية الذهنية»، وثانيا «الخطة التي تحقق هدفا ما»، والدكتور ركز على أن ما يعتور حرية التفكير إنما يكون فيما يحدث من تداخلات وعوائق في رسم الخطة وتحديد الأهداف، وأخذ يضرب الأمثال على ذلك بمن يضع خطة للسفر، أو بمن يضع خطة للتعليم، وأنه يجب أن تكون هناك علاقة واحد بواحد، أي علاقة مشاكلة كاملة بين الفكرة ومشروعها، وأنه عندما يحدث خلل في هذه العلاقة لسبب ما كتدخل ذوي السلطان تنعدم الحرية عندئذ، وهذا كله حق، ولكن الدكتور قصر حديثه على «الخطة» ولم يتحدث عن «العملية الذهنية» نفسها، وقد يتوهم واهم أن «العملية الذهنية» - لأنها عملية حيوية - تتم داخل دماغ شخص ما لا يمكن أن تخضع لصاحب سلطان، أي لا يمكن أن يكون لأحد سلطان عليها بالمنع أو الخوف أو الإضافة، ولكن السلطان يفعل فعله عندما يبدأ الشخص (المفكر) في وضع «خطته»، فأنا يمكن أن أرسم خطة العمل بملء حريتي في ذهني، (خطة سياسية أو اجتماعية أو هندسية أو فنية) ولكن عندما أريد أن أخرج بها إلى مجال التنفيذ قد أصطدم بمن يريد أن يغيرها بالحذف والإضافة، إما لأن أهدافه تختلف عن أهدافي، وإما لأن فهمه وثقافته ومعطياته العقلية تختلف عما يخصني مما يترتب عليه اختلاف العملية الذهنية نفسها في الأساس.
وهنا إما أن أرضخ لهذا الشخص لأنه صاحب سلطان، فأغير وأبدل وأضيف وأحذف في «خطتي»، وأفقد حريتي، وإما أن أقاوم من أجل حريتي.
وعلى أية حال فإن هذا القهر الذي يقع على «الخطة» و«تنفيذها» هو أهون ألوان القهر؛ لأنه تدخل في المظهر الخارجي ل «التفكير»، هو محاولة لمنع التفكير من أن يحقق ذاته، ولكنه يدع «المفكر» قادرا على المقاومة، أما أسوأ ألوان القهر، وهو ما لم يتحدث عنه الدكتور، فهو ما يقع على «العملية الذهنية نفسها»، هو ما يكمن في عقل المفكر من عوامل الضغط والإرهاب، أو عوامل الزيف والغش والتدليس، وهي عوامل قد تكون قديمة، كالتقاليد والمسلمات الدينية، التي قد تكون أقوى وجودا من المسلمات الرياضية، وقد تكون آنية كالدعاية وعمليات غسل المخ الملحة التي تقع تحت تأثير أشد العقول ذكاء وفهما، فتفقد الوعي دون أن تعي ذلك.
ومن هنا فإنه لكي تتحقق «حرية التفكير» لا بد من أن يكون «المفكر» حرا من الضغط الخارجي المادي الذي يقع على «خطته» ومن الضغط الداخلي المعنوي الذي يقع على «عمليته الذهنية»، ولا بد من أن يكون المفكر قادرا على أن يقاوم كل المؤثرات التاريخية والآنية، مادية كانت أو معنوية، ليتحقق له إجراء «العملية الذهنية» ووضع «الخطة» دون أي تأثير ينحرف بهذه أو تلك عن الهدف المنشود، يجب أن يكون «المفكر» عاريا تماما إلا من إيمانه بالهدف الذي يريد أن يحققه.
অজানা পৃষ্ঠা
وهذا ليس مجرد فذلكة عقلية، ولكنها رؤية محددة تساعدنا على إدراك ما قد يعتور «حرية التفكير» من عوائق، فليست هذه العوائق مجرد سلطان أو صاحب نفوذ، أو أية عوامل خارجية مادية كانت أو معنوية تعترض «الخطة»، ولكنها أيضا عوائق قد تخترم العقل نفسه وتؤثر على «العملية الذهنية» دون أن تستثير أية رغبة في المقاومة؛ لأنها تحدث بإرادة من تقع عليه أو على الأقل في غفلة منه، وتسري في دماغه مسرى السرطان الخبيث، ومن أجل هذا كان النضال من أجل حرية التفكير ليس فقط نضالا «ماديا» لإزاحة عوامل القهر التي تقع على «الخطة» وتنحرف بالأهداف، بل أيضا نضالا معنويا، يستهدف تحرير العقل ذاته الذي يقوم ب «العملية الذهنية»، تحريره من كل عوامل القهر والتخلف والقصور.
ومن هنا أيضا قد ننخدع في بعض المجتمعات ونعتبرها مثل الحرية الأعلى، حيث لا يبدو لنا فيها ذلك القهر المادي الذي يقع على «الخطة والهدف»، وإنما يبلغ فيها القهر مبلغا فظيعا من المكر والخبث؛ لأنه يقع على «العملية الذهنية»، يقع في بساطة ويسر وبلا عنف، بل يقع على «المفكر»، أي على «الإنسان» وهو يستمتع به في الصحافة والإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما، بل في برامج التعليم، ويقع بما تحمله التقاليد والموروثات والمسلمات الفكرية، والاجتماعية الطاغية، من عوامل التخلف والقهر.
الفصل السادس
حرية الفكر مرة أخرى
لقد أعجبت إعجابا شديدا بالوضوح الناصع الذي عرض به الفنان الكبير الأستاذ حمدي غيث رده على ما كنت نشرته من حديث عن حرية التفكير، ويتلخص الرد في أنه بمثابة «تكملة» أراد بها الأستاذ حمدي غيث أن يستوفي بها جانبا من الموضوع رأى الأستاذ أنني أسقطته من حسابي بغير مبرر، وذلك أني حين عالجت موضوع التفكير وحريته، بدأت أولا بتحليل ذلك الشيء الذي نطلق عليه لفظة «تفكير» فإلى أي شيء نشير - على وجه الدقة - حين نستخدم هذه الكلمة فيما نقول أو نكتب؟ حتى إذا ما فرغت من ذلك التحليل، انتقلت إلى معنى «الحرية» حين توصف بها عملية التفكير.
وكانت خلاصة ما حددت به طبيعة «التفكير» أنه عملية ذهنية تنتهي بصاحبها إلى ما يشبه رسم خريطة لو اهتدينا بها عند التنفيذ، بلغنا الهدف الذي من أجل بلوغه جرت عملية التفكير عند من أجراها، وبمقدار ما تكون تلك الخريطة الذهنية صحيحة، تكون قوتها في تحقيق الهدف المنشود، وكذلك بقدر بعدها عن الصواب، لا يترتب على تنفيذها بلوغ للغاية التي يراد بلوغها، ثم تجيء «حرية التفكير» أو الحرمان منها، عند إخراج الخريطة الذهنية، أو النظرية إلى حيز التطبيق، فإذا روعيت حرية المفكر، ترك ليخرج فكرته من رأسه إلى دنيا العمل، لتتحول هناك من كونها فكرة في الذهن لتصبح عملا يؤدى، أو سلوكا يسلك، أما إذا قيدت حرية المفكر، رأيت صاحب السلطان الذي فرض ذلك القيد، قد فرض إجراءات من شأنها ألا تتم عملية الترجمة التي تحول الفكرة الكامنة في رأس صاحبها إلى واقع في دنيا الناس يرونه أو يسمعونه.
تلك خلاصة شديدة الإيجاز لما عرضته، فرأي الأستاذ حمدي غيث أنه إذ يوافق على الجانب الذي ذكرته من الموضوع، فهو يراني قد أغفلت جانبا آخر له أهميته وخطورته، فحديثي عن الحرية أو الحرمان منها قد انصب على جانب الفعل والتطبيق، أي إنه اقتصر على النصف الخارجي المنظور أو المسموع، ولكن ماذا عن الفاعلية الذهنية الداخلية نفسها؟ فإذا أجبته بأن أحدا لا يستطيع أن يحرمك من فاعلية عقلك، ما دمت منحصرا في حدود رأسك لا تخرج شيئا مما يدور فيه إلى الناس كلاما أو سلوكا تنشط به، أسرع فتلافى مثل هذه الإجابة في رده، شارحا لنا أوضح ما يكون الشرح، بأن الذي يعنيه هو أن حرية المفكر تتعرض للخطر حتى وهي لا تزال في مخبئها من الدماغ وذلك إذا كان المفكر قد وقع تحت تأثير العوامل الخارجية التي من شأنها أن تشكل للإنسان المتلقي لتلك العوامل طريقة تفكيره، فهناك ما نعلمه جميعا من وسائل الإعلام، وما تحدثه في تشكيلنا على نحو ما يريده لنا المسيطرون على تلك الوسائل، وسواء كنا على وعي بما يقع علينا ويؤثر فينا، أو كنا في غفوة عنه فالحاصل واحد، وهو أن يجد الإنسان نفسه يفكر وفقا لما شكله به من شكلوه، لا وفق ما كان ليفعله إذا خلوا بينه وبين فطرته وموهبته؛ ولهذا يرى الأستاذ حمدي غيث وجوب أن يكون المفكر «عاريا تماما إلا من إيمانه بالهدف»، وهذا الجانب الداخلي من حرية التفكير هو الذي يأخذ على الأستاذ غيث أنني أسقطته من الحساب - مكتفيا بالجانب الخارجي، جانب التنفيذ - الذي قد يتدخل صاحب السلطان في مجراه فيلغيه أو ينقص منه بالقيود التي يختارها لذلك.
واعتراض الأستاذ حمدي غيث له قوته ووجاهته، لولا أنه يتمنى للإنسان أمرا مستحيلا عليه بحكم طبيعته ذاتها؛ إذ إن عملية التفكير لن يكون لها وجود - مجرد وجود - إلا إذا كان قد سبق إلى ذهن الإنسان شيء ما ترتكز عليه ، كفراخ الطير تخرج من بيضها مزودة بأجنحتها لتطير، وإلا قبعت في أعشاشها، إن عملية التفكير - بطبيعتها - ضرب من الفاعلية لا يولد إلا وله في الرأس ركيزة يتكئ عليها ليتحرك، وانظر إلى حركة الفكر في دنيا «العلم» بشطريها: العلم الرياضي، والعلم الطبيعي، ففي العلم الرياضي لا بد من «افتراض» مجموعة من المسلمات حتى يتاح للفكر الرياضي أن يتحرك منبثقا منها لا لأن تلك «المسلمات» أمور تولدت عن العقل ذاته بما فطر عليه ذلك العقل منذ ولادته، بل لأن عالم الرياضة قد «افترضها» افتراضا، وكان يجوز له أو يجوز لغيره أن يفترض سواها، ولماذا وجوب افتراضها؟ ذلك ليكون لحركة الفكر محطة قيام، وإلا لما عرف القطار كيف يسير ولا إلى أين يسير، وأما في العلم الطبيعي فالموقف - في جوهره - هو هو، والاختلاف مقصور على الشكل؛ إذ العلم الطبيعي محطة القيام فيه هي مجموعة معلومات تجمع أولا عن الظاهرة المراد التفكير فيها بطريقة علمية، ثم يعقب ذلك تفسير يضم تلك المعلومات المتفرقة تحت فكرة واحدة نقدمها على سبيل الافتراض أيضا إلى أن يثبت تطبيقها على دنيا الواقع أنها فكرة صحيحة فها هنا أيضا كما ترى، لا بد من ركيزة يستند إليها العقل ليتحرك.
لكنك مع ذلك قد تسأل، ويحق لك أن تسأل قائلا: صدقنا وآمنا بأن عملية التفكير لا تبدأ في الحركة إلا إذا كان قد سبق ذلك في ذهن المفكر ركيزة ترتكز عليها لتسير، ولكن من الذي يضع في رءوسنا تلك الركيزة، أنضعها لأنفسنا بأنفسنا، أم يضعها لنا ذو نفوذ وسلطان؟ ولقد ذكر لنا الأستاذ حمدي غيث في رده أمثلة لركائز تقحم على عقولنا بغير اختيارنا، كالتقاليد، وما تبثه فينا الدعاية بأشكالها المختلفة، وها هنا نكون - بحق - قد وضعنا أصابعنا على نقطة بالغة الخطورة في تربية العقل تربية عملية موضوعية، وإن هذه المناسبة مواتية أقول فيها إن التاريخ الفكري للإنسان يشهد في جلاء أنه لا انتقال لجماعة الناس من مرحلة فكرية لم تعد صالحة للعيش المزدهر النامي، إلى مرحلة أخرى إلا إذا اقتلع من رءوس الناس بعض ما ركز فيها من أفكار بليت وذهب زمانها، لتحل محلها أفكار أخرى أكثر صلاحية لسير الحضارة.
ومن الأمثلة القوية لعملية الاقتلاع هذه ما بشر به فلاسفة أوروبا؛ إذ كانت على مشارف نهضتها من وجوب تنقية الرءوس مما بها، لإعادة النظر فيه وتمحيصه لكي يعاد البناء الفكري على أساس أقوى، وكلنا يعلم ما صنعه ديكارت في هذا السبيل حين طالب نفسه أولا بأن يفرغ رأسه مما يحتويه لأنه قد تلقى كثيرا جدا من الأفكار التي تلقاها قبل أن تكون له القدرة على النقد والتحليل والمراجعة والتحقيق؟ فإذا ما نحى جانبا محتوى الذهن، كان في وسعه عندئذ أن يعيد البناء من جديد على أسس ثابتة اليقين، ولا تقبل أن يشك في صوابها.
অজানা পৃষ্ঠা