আমি স্বাধীনতা সম্পর্কে কথা বলছি
عن الحرية أتحدث
জনগুলি
الفصل السادس عشر
عين فتحة عا
معذرة إذا كنت قد اخترت لهذا الحديث عنوانا يعود بالذاكرة إلى عهد الكتاتيب، ولكن عذري في اختياره مع كل ما فيه من خروج على المألوف هو كثرة ما يدون بيننا اليوم من أحاديث غاضبة عن «العلمانية» - هجوما أو دفاعا - وسواء أكان المتحدث مهاجما أم كان مدافعا، فكلاهما ينطق اللفظة مكسورة العين، وكأنها منسوبة إلى «العلم»، مع أن حقيقتها هي العين المفتوحة، نسبة إلى هذا «العالم» الذي نقضي فيه حياتنا الدنيا، ولو كان المخطئون هم من أبناء هذا الجيل فقط؛ لقلت إنها جهالة تضاف إلى جهالات، لكن موضع العجب هو أني سمعت رجالا من ألمع الرجال الذين هم في الحقيقة ممن ينتسبون إلى الجيل الماضي، وقد امتد بهم الأجل ليقطعوا شوطا من مرحلة هذا الجيل - مد الله في أعمارهم وبارك لهم في أيامهم - ولست أدري كيف جاز لهم الوقوع في خطأ كهذا، وكلنا يعرف أن جيلنا الماضي كان على كثير من صحوة الضمير العلمي، الذي يدفع أصحابه إلى المراجعة والتثبت من صحة ما يقولونه أو يكتبونه؟ أو قل إن رجال الجيل الماضي كان لهم من تلك الصفات قدرا ملحوظا، وبينهم وبين أبناء هذا الجيل في ذلك مسافة من السبق لا تخطئها عين، كما أنها تستوقف الانتباه لتعليل حدوثها، ولقد ورد في القاموس الوسيط الذي أخرجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة عن كلمة «علمانية» (الجزء الثاني، ص630) ما يلي: «العلماني نسبة إلى العلم (بفتح العين وسكون اللام) بمعنى العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي.»
ولو كان الفرق في المعنى بين أن تكون «العلمانية» مكسورة العين أو مفتوحة العين فرقا يسيرا يمكن تجاهله؛ لقلنا إنه خطأ لا ينتج ضررا كبيرا، ولكن الفرق بين الصورتين في نطق الكلمة فرق لا يستهان به، مما يستوجب الوقوف والمراجعة.
إنني كلما قرأت لكاتب في هذه الأيام كتب ليهاجم العلمانية وهو يشتعل بالغضب، أراني - دون قصد مني - قد تذكرت قصة قصيرة لسومرست موم، خلاصتها أن شابا من هواة الفن في بلد ما كان شديد الإعجاب بفنان إسباني، حتى لقد قرر السفر إلى إسبانيا ليلتقي به، فلما وصل إلى حيث يعيش الفنان وعرف سبيله إلى مسكنه، ضغط على زر الجرس، وفتح له الباب، فقال للخادم الذي فتح له الباب: لقد جئت للقاء سيدك، فأدخله وأجلسه في غرفة استقبال الزائرين، وكان من مجلسه ذلك يستطيع رؤية الهابط على سلم الدار من طابقها الأعلى إلى طابقها الأرضي، فلما أن رأى السيد على درجات السلم رأى شيخا وقورا، ابيضت لحيته، ودبت في جسده شيخوخة واضحة المعالم، فأخذ الشاب يتفرسه بنظراته من بعيد، هامسا لنفسه ما يؤكد له بأن هذا الوقار كله، وتلك الجبهة العريضة الوضاحة الوضاءة، وشعره الأبيض الطويل الذي تهتز ذوائبه على عنقه وفوديه، كلها تدل على أن ذلك الفن الرفيع الرائع الذي عرفه له وهو هناك في بلده، لا بد أن ينضح به مثل هذا الجلال الوقور والهدوء الساكن، والحكمة التي يكاد ينطق بها كل ما أراه في هذا الرجل، حتى إذا ما التقيا وتلاقت كفاهما بالتحية، وجلسا في صمت دقيقة أو دقيقتين قال الشاب للشيخ: كم تملؤني السعادة إذ أراني جالسا في حضرة فلان الفنان العبقري العظيم. فأجابه الشيخ في هدوء أخطأت يا ولدي. ففلان الفنان يسكن في البيت المجاور لبيتي.
وهكذا كلما قرأت لكاتب في هذه الأيام يهاجم العلمانية؛ إذ تكون في ظنه مكسورة العين، منسوبة إلى العلم، تمنيت لو أني رأيت ذلك الكاتب جالسا أمامي، لأقول له شيئا يشبه ما قاله ذلك الشيخ للزائر الشاب: لقد أخطأت الطريق يا صاحبي، فالذي تسدد إليه سهامك، ليس هو العدو الذي ظننته، ولكن بينه وبينه فارقا صغيرا في الملامح، كبيرا في حساب الحقائق، فهذا الذي تهاجمه مكسور العين، وعدوك الحقيقي مفتوحها، كان ذلك الخلط بين صديق وعدو هو عذري في اختيار العنوان لعله يشد انتباه القارئ، فيرهف الأذن و«يفتح العين».
وما هي «العلمانية» بفتح العين؟ لا أظن أن لهذه الكلمة وجودا في اللغة العربية قبل عصرنا الحديث، لكنها كلمة ترجمنا بها - في عصرنا - كلمة مقابلة لها في اللغات الأوروبية، والكلمة هناك لها عند القوم أهمية وتاريخ، على عكس الحال عندنا، فقد كان ينبغي ألا تكون لها أهمية، وهي بحكم الأمر الواقع ليس لها عندنا تاريخ، أما أهميتها وتاريخها هناك فلأن عصورهم الوسطى (التي هي الفترة الواقعة بين القرنين الخامس والسادس عشر من التاريخ الميلادي) شهدت لرجال الدين سلطانا رفعوا به مثلا أعلى أمام الناس، يتمثل في حياة الرهبان، فالزهد في الدنيا لا الإقبال عليها هو ما ينبغي للإنسان الكامل أن يهتدي به، وذلك لأن عقيدتهم تسمح لهم بأن يفصلوا بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة، وفي الأولى تكون السيادة للقيصر، وفي الثانية يكون الأمر لله، ولما كان الغض من الدنيا وقيمتها ينتهي بالضرورة إلى إهمالها إهمالا يخف به وزنها في أعين الناس، وبالتالي تقل الرغبة فيما يؤدي إلى الارتقاء بشئون الحياة فيها، فلا يكون علم ولا يكون عمل - إذا جاز لنا مثل هذا التعميم الجارف - فكان من أبرز ما تميزت به النهضة الأوروبية التي نفرت لتقضي على هذا الوخم كله أن هب الناس وكأنهم أرادوا أن يعبوا الحياة النابضة في أجوافهم عبا، لم يتركوا طريقا للمغامرة إلا سلكوه في نشاط محموم، فمنهم من أقلع بالسفن في بحار الظلمات ليكشف عنها ظلماتها، ومنهم من اخترق آفاق الأرض اليابسة التي كانت تتناثر إلى مسامعهم أخبارها دون أن يروها، وكأنها أرض يراها النائمون في أحلامهم، ومنهم العلماء الذين اتجهوا بأبصارهم نحو السماء يتعقبون أجرامها في مسالكها، بل ومنهم الفلاسفة الذين أصروا على أن يغوصوا بتأملاتهم في طبيعة الإنسان ذاتها، ليروا ذلك العقل المتستر في عظام الجمجمة كيف يعمل، وتلك المشاعر كيف تسري رعشاتها في الجوانح، فنتج عن هذا كله بعث هو الذي خلق لهم أوروبا الحديثة كما نعرفها، ومن هنا ارتفعت صيحة «العلمانية» كأنها تقول: عليكم بهذا العالم، عليكم بهذا العالم، لا تهملوه!
فما لنا نحن بهذا كله، وليس في عقيدتنا ما يدعونا إلى إهمال هذا العالم؟ بل العكس هو الصحيح، فقد أمرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها أبدا، وأن نعمل للآخرة كأننا منتقلون إليه غدا، ما لنا نحن بذلك كله، والدنيا في عقيدتنا هي الفرصة التي أتيحت لنا ليبلونا الله تعالى فيها أينا أحسن عملا؟ إن صيغة الحياة للأوروبي في عصوره الوسطى يمكن إيجازها كما يلي: إما الدنيا وإما الآخرة ولا اجتماع بينهما، فمدينة الأرض شيء مبتور الصلة بمدينة السماء، وأما صيغة الحياة عندنا فيمكن إيجازها فيما يأتي: لا بد للحياة الدنيا أن تمارس على أن تظل الآخرة هدفا أسمى، فكلتاهما خير، ولكن الآخرة خير وأبقى، والآخرة خير من الأولى، فهل هناك - إذن - في حياتنا وعقيدتنا ما يدعو إلى صيحة تقول: عليكم بهذا العالم فلا تهملوه؟! فإذا كنا قد رأينا أنفسنا وقد أهملناه بالفعل، وغفونا عنه، فأخذ منا الضعف والهزال والفقر والجهل، حتى أمسك الطغاة برقابنا، فإن ذلك لم يكن ناشئا عن عقيدة تحول بيننا وبين هذا العالم، بل كان لأسباب حضارية، وهذه الأسباب هي التي يجب أن نقلعها من أرضنا اقتلاعا.
تلك هي العلمانية، التي لم تكن تحتاج منا إلا أن نفتح لها العين، فإذا هي جزء من حياتنا، ومقوم جوهري من مقومات تاريخنا في فترات عزه ومجده، فمن الذي يحاربه أولئك الذين ركبوا جيادهم، وحملوا قسيهم ورماحهم؛ ليقاتلوا «العلمانية» حتى يقتلوها؟ أيحاربون عصر الرشيد والمأمون، الذي نشطت فيه الحياة الدنيا بقوة نبضها، والتي هي في الوقت نفسه الزهرة الحضارية والثقافية التي نشير إليها حين نريد أن نقول للناس: انظروا كيف ازدهرنا؟
ولست أبالي إذا كان في صدور الدعاة إلى «العلمانية» (بفتح العين) في أيامنا غل يخفونه وراء ستارها؛ لأنهم إن كانوا كذلك، فلنحاربهم في أشخاصهم، ولا نحارب الدعوة إلى الاهتمام بالعالم، لأن العالم هو مسرح العمل والنشاط وموطن الحضارات، وإلا فأين تريدوننا أن نقيم للحضارة على أرضنا قائمة؟
অজানা পৃষ্ঠা