আমি স্বাধীনতা সম্পর্কে কথা বলছি
عن الحرية أتحدث
জনগুলি
وإنني لعلى وعي كامل بأن التعميم في أحكامنا عندما يكون الموضوع خاصا بجمهور عريض إنما هي أحكام معرضة للخطأ، فنحن إذ نقول عن الشعب المصري في هذه الفترة الزمنية التي يجتازها منذ ما يقرب من عشرين عاما إنه لا يعبر عن نفسه تعبيرا حرا صريحا يدل حقا على خلجات نفسه (وحديثي منصب أساسا على الحياة الثقافية بوجه عام)، فلا يفوتنا أنه لا بد أن يكون بين رجال الأدب والفن والباحثين في مجال الدراسة العلمية من علوم النفس والاجتماع، من يطالعنا بما هو حق وصدق، لكنني أشعر برغم ذلك أن الفجوة منفرجة بين ما نقوله ونذيعه ونكتبه عن أنفسنا وبين ما تضطرب به جوانحنا بالفعل من خواطر ومشاعر، بحيث إذا أراد مؤرخ في المستقبل البعيد أن يرسم عن عصرنا صورة مستندا إلى المنشور في الكتب والصحف، والمسجل في أشرطة التسجيل الصوتي، فالأغلب أن تجيء الصورة المرسومة بعيدة بعدا شديدا عما هو كائن في نفوسنا لا نقوله صريحا إلا للأقربين، ولا تقل لي إن أحدا لا يمنع أحدا من الإفصاح عن ذات نفسه؛ لأنه حتى لو كان الأمر كذلك فقد بات الخوف الذاتي كفيلا وحده بأن تكون هناك تلك الفجوة المنفرجة بين السر والعلن.
لقد ذكرت لك فيما أسلفته جانبا من أحلام الفلاسفة والمفكرين، في صورة المجتمع الأمثل كيف تكون، وكان من عناصر تلك الصورة المثلى أن يكون هناك بين الإنسان وما يعمله، تلك الصلة الحميمة المباشرة، التي تكون بين الفنان وفنه، لكي نضمن بذلك: أولا أن يكون كل إنسان سعيدا بعمله؛ لأنه تعبير حقيقي عن نفسه، وثانيا أن يجيء إنتاج العمل أجود ما يستطاع له أن يجيء، لكن انظر إلى حياتنا العملية من جميع أطرافها تجد الشائع هو أن يكون بين العامل وعمله نفور وكراهية، فكأن العمل كله تكليف وتسخير، فمنذ مراحل التعليم الفني والمهني كثيرا ما لا يوضع المتعلم حيث يريد أن يتعلم إلا بالمصادفة، أما القاعدة فهي أن يوضع حيث يراد له أن يكون.
وإذا كنت لأرسم صورة توضح على وجه التقريب ما أظنه قائما في حياتنا من حيث التعبير عما نفكر فيه وما نشعر به، قلت إن الأمر في ذلك أشبه بأسرة كبيرة تسكن بيتا من الطراز القديم الذي كان يخصص غرفة أذكر أنها كانت تسمى بغرفة «المسافرين»، وهي الغرفة التي كان الزائرون يستقبلون فيها، ولها بابها الخاص، بحيث يدخل الزائر ويقيم ما يقيم، ثم يخرج وهو لم يشهد من البيت إلا تلك الغرفة، ولم يسمع من أحاديث الأسرة ذاتها إلا ما يدور مع من يجالسه من أفرادها، أما الأسرة بكل أفرادها وبما تتحدث عنه أو ما تشعر به من يسر أو من عسر ومن الرضا أو من السخط؛ فلن يعلم الزائر من أمره شيئا، وهكذا نحن في جملة حياتنا الفكرية والشعورية ترانا قد خصصنا غرفة ل «المسافرين» الغرباء هي الكتب والصحف والإذاعة مرئية ومسموعة للغرباء أن يقرءوا وأن يسمعوا، لكننا قد طوينا في جوانحنا ما يسره بعضنا في آذان بعض إذا ما خلونا لأنفسنا.
هناك في حياتنا عمق باطن، وسطح ظاهر، ففي العمق ترانا صادقين مع أنفسنا مخلصين لهويتنا المصرية الصميمة مهما خدعتنا بعض الظواهر التي قد تدل على غير ذلك، فالمصري مصري بمجموعة من الثوابت التي لا يوهنها الزمن؛ فهو مصري بشعوره الديني العميق الغزير، فحتى وهو يسهو عن شعائر دينه يظل ضميره الديني على يقظته، وأعني بذلك إيمانه الراسخ بأن هذه الدنيا ليست كل شيء في حياته، فبعد الدنيا آخرة تكفل للعدل أن تقام له موازينه، فليكن من ظلم الدنيا وجورها ما يكون بحيث يثاب المعوج ويعاقب المستقيم، فهنالك آخرة خير من الأولى، وهناك من يعمل (في دنياه) «مثقال ذرة خيرا يره»، ومن يعمل (في دنياه) «مثقال ذرة شرا يره»، فالعدل مطلق. وكامل هذا الضمير الديني راسخ في نفس المصري، ولا أظن أن في العالم شعبا آخر يتساوى مع المصري في عمق هذا الضمير؛ لأنه ضمير نشأ مع نشأته، حيث لم يكن في العالم شعوب سواه، أو كاد الأمر أن يكون كذلك، ولم يكن عالم التاريخ المصري «بريستد» لاهيا بالكلمات حين جعل عنوان كتاب لعله أعظم ما كتب: «فجر الضمير»، مشيرا بذلك إلى الشعب المصري عند نشأته الأولى.
ومع الضمير الديني في المقومات الثابتة الدائمة من هوية المصري علاقته بأسرته وعلاقته بأرضه، وتلك هي الثوابت التي تكون من المصري عمقه الباطن الذي أشرنا إليه، والذي لم تنل منه عوامل الزمن، إلا أنه اليوم في حالة مكتومة الصوت نسبيا حتى ترانا فيما نسمع عنه أو نقرأ له، لا نرى منه إلا نبرات خافتة.
أما المسموع عنه في صوت جهير، والمقروء له، فمعظمه صادر عن «السطح» الظاهر، الذي لا تدري فيه أين الحق وأين النفاق، أين الصدق وأين الكذب، أين ما يعبر عن ذاته نفسه حقا، وأين ما أراد أن يتصيد به المنصب والراتب والرواج والازدهار، فما الذي حدث في حياتنا بحيث انقسم وجودنا إلى باطن وظاهر بينهما تلك الهوة السحيقة التي تفصل بينهما على هذا النحو الخطير؟ ما الذي أصابنا بحيث اختلف في حياتنا عمقها عن سطحها؟ ففي العمق ما زال المصري مصريا بضميره الديني اليقظان، وأدائه للواجب نحو أسرته ونحو وطنه، وأما على سطح السلوك فلم يعد المصري هو المصري الذي عرفه التاريخ الطويل، أو هكذا يخيل للرائي في الخارج، فهو يمكر بمواطنيه إذا اقتضت مصالحه مثل هذا المكر، وهو يجرف أرضه الزراعية التي كانت منذ الأزل موضع حبه وعزه، إذا كان ذلك التجريف يعود عليه ببضعة ألوف من الجنيهات، وهو يسطو على أصحاب القلوب الطيبة بطرق لا علم لهم بها، حتى لتتكدس بين يديه الملايين في غفلة الحوادث، ثم يسرب تلك الملايين إلى حيث لا ندري وهو يقفز إلى مواقع القوة والنفوذ دون أن يسلك إليها سبيلها المشروع، واختصارا فقد انفصل عقله المدبر عن قلبه المؤمن العابد، وأصابه من الانفصام ما أصابه، ولقد شاءت له روحه الفكهة أن تصور نفسه لنفسه في مرارة لاذعة كعهدنا به دائما كلما أراد أن يعالج أزماته بالمزاح الساخر، ومن ذلك هذا الحوار الآتي الذي اخترعه ليصور به ذلك الانفصام النفسي الذي أشرنا إليه، وهو حوار متخيل بين بقال وصبيه يوم جمعة قبيل الصلاة:
البقال :
هل خلطت الجير بالدقيق؟
الصبي :
نعم قد فعلت.
অজানা পৃষ্ঠা