16
ومرت على الشاعرة فترة - تقول زينب فواز - فقدت خلالها والدها (سنة 1882) ثم زوجها بعد ثلاثة أعوام، «وصارت حاكمة نفسها، فأحضرت لها اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض إحداهما تدعى فاطمة الأزهرية، والثانية ستيتة الطبلاوية، وصارت تأخذ عليهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت بحوره وأحسنت الشعر وصارت تنشد القصائد المطولة والأزجال المتنوعة ...»
17
يجوز الاعتراض هنا بأن عائشة نظمت كثيرا قبل تعلم النحو والعروض على هاتين السيدتين. فقد طالعنا في ديوانها مثلا قصائد الترحيب بميلاد أخيها، وتأبين والدها، وغير ذلك، وجميعه وقع قبل أن «تبرع في الشعر وتتقن بحوره»، ومن هنا نستنتج أن استفادتها من قليل الدروس السابقة كانت غير هزيلة.
ولكن، أليس أن ضوابط النظم تتعلق بالموسيقى السمعية أكثر منها بالقواعد المدونة؟ والواقع أن هذه القواعد لم تكن إلا تقريرا محسوسا لتلك المطالب الدقيقة التي تجهر بها حاسة السمع، فتلبيها أفراد الطائفة الواحدة كل من جانبه على غير تعاهد من الآخرين. حتى إذا أجمع كثيرون على أمر واحد عرفوا أنه حاجة أولية فعرفوه بيانا، ودونوه قاعدة، ترجع إلى حكمها الأجيال من هذه الطائفة. لا لأنها «حكم»، بل لأن هذا الحكم يترجم عن الحاجة النفسية التي نشدتها حواس الشعراء في الماضي وستنشدها على الدوام. لذلك نرى أن شعراء جميع البلدان في جميع العصور أوجدوا في مختلف اللغات - غير متحالفين فيما بينهم وجاهلين بعضهم بعضا - بحورا للشعر وأوزانا وضوابط موسيقية ذات وقع لفظي في النفس (حتى لمن لا يفهم اللغة)، بينما المعنى الشعري يحبو النفس بوقعه الخاص. وعوارض المغالاة والإغراق والتمسك بصيغة النظم دون المبالاة بالجوهر، طوارئ تداهم اللغات تبعا لحالات الأقوام ووفقا لنواميس الاجتماع، إلا أنها لا تنقص من الشعر دعامته الموسيقية المؤثرة.
كذلك قد يعترض بعض أهل الذوق اعتراضا خافتا على أن معلمة العروض تدعى ... الطبلاوية، قائلين إنه على التي تعلم الأوزان الشعرية أن تنتحل لها اسما يتفق مع عملها ويوحيه للسامع. ولكن، أليس للطبل من موسيقى؟ وإن لم يكن للطبل شدو اللحن والنغم، أليس أن له موسيقى الفصل والوقع والتعريف؟ والسيدة الطبلاوية لم تكن تلقن الشعر، وهو ليس بما يتلقن، بل تعلم كيفية التمييز بين اتزانه وانكساره. فاسمها بهذا متضمن لعلمها وعملها.
وسواء رضي أهل الذوق لهذا الشرح أم لم يرضوا فليذكروا أنه أمر فائق أن يوجد بين السيدات الشرقيات من يستطعن في ذلك العهد المظلم للنساء أن يدرسن هذه الدروس، في حين أن من يستطعنه اليوم نادرات بيننا وقليلات عند الشعوب الأخرى. أذكر أن كاتبا فرنسويا كبيرا (أظن ألفرد كابس
Alfred Capus ) ندد قبيل الحرب الأولى في مجلة «فمينا» بالسيدات الفرنساويات؛ لأنهن، بعد إحصاء فئة من المتعلمات بينهن، ظهر أن العارفات بقواعد النظم وأصول البحور الشعرية، يكدن لا يبلغن الخمس في المائة. فما أعظم فضل تينك السيدتين الأزهرية والأخرى، ولو كانت الطبلاوية، بما كانتا تعرفان، وبأنهما أضافتا إلى مصباح عائشة زيتا يعين على تغذية نوره!
بيد أن تمتع الشاعرة بالابنة المحبوبة لن يطول. قدر على توحيدة أن تموت باكرا في ربيع الصبا . علة مجهولة ترقبها وتنفث في جسدها وهي تكتم أمرها رفقا بالتي تحبها. وها هي تسرد لنا طرفا من حديثها المحزن:
قبل أن تنطرح على فراش المرض فاجأتها في أحد الأوقات وهي في رداء نومها وبين أناملها قلم تكتب به القطعة العربية الآتية:
অজানা পৃষ্ঠা