وكان الملك قد بلغ القاعة الكبرى، فلما دخلها اشتغل القوم بلقائه وتحيته عما كانوا فيه من اللذات في ظل ساحته، وكان أول ما التقى وجهه بوجه «آرا» فتقدمت فمثلت لديه، ثم دنت فقبلت يديه فوقف معها برهة يتحادثان في بعض شئون القصر.
ثم إن الملك ارتجل نظرة إلى الملأ، فلمح «هوتر» مارا يتمشى فأومأ إليه أن يدنو فدنا. فقال له ممازحا: ماذا تقول في مرافقة «آرا» يا «هوتر»؟ قال: وهل السعادة يا مولاي والنعيم إلا مرافقة مثل هذا الملك الكريم؟ قال: فخذها إذن فتمشيا فلأنت أحق بذلك مني، والحق فوق كل عظيم فأخذها «هوتر» وانثنيا يخترقان الزحام، إلى أن اهتديا لمكان في مأمن من الأسماع والأبصار فجلسا، ثم شرعا يتحادثان . فقال «هوتر» بصوت يشف عن الوجد والحقد: لعل سعيك يا مليكة الغد مصادف بعض النجاح في مشروعك الخطير، الذي أوشكت أن تقلبي المملكة من أجله؟ قالت: علي أن أسعى وأبذل جهدي، وليس علي أن يساعدني الدهر. قال: ولكن «آشيم» يروح ويغدو كارها للقائك. قالت: وتبسمت: وما ضرني وأنا عندي الذي يبيت ويغدو مغرما بي حبا. قال: ومن أين لك نبأ هذا؟ إنك واهمة يا «آرا» أو أنت تمزحين.
قالت: إنه ليس بالوهم. إنه عين اليقين، وإني لأعجب لك يا «هوتر» كيف تغلب الآلام، وأسألك مندهشة بأي قلب تكتم الغرام؟ فلبث الفتى برهة حليف الصموت، عصي النطق كالمبهوت، وقد كاد الموقف يغلبه على أمره فلا يملك كتمانا لسره، وآنست «آرا» منه ذلك، فعادت فقالت: تكلم يا «هوتر»، تكلم، وصرح ولا تتكتم، وبح بهواك الذي أضناك، وكاشف «آرا» ولا تخف الوجد عنها، إنها بها منك فوق ما بك منها، فلم يكن من جواب «هوتر» على هذا الإقرار الصريح إلا أن نظر إلى الفتاة نظرة مسيء الظن مرتاب. ثم قال مستنكرا: و«آشيم»؟ قالت: قبح من اسم وقبح حامله! قال: ولكني أراك تفعلين ما لا يفعل في سبيله. قالت: بل في سبيل الملك يا «هوتر». ولو أن أمري في دفع الطمع بيدي ما بته إلا أنعم الناس، ولكنه داء المطامع تمنى به نفوس، وتعفى نفوس، وما مني به أحد إلا عاش في نكد ومات بالكمد (مجزوء الكامل):
تحت التراب خلائق
ما كلهم قتلى المرض
النصف مات بجهله
والنصف ماتوا بالغرض
قال: إذن فأنا أرمي عليك هواك، ولا أقبل منك هذا الحب المشوب بالسفالة، الدنس من اللؤم. قالت: ارحمني يا «هوتر». إنك بمهجة وفؤاد، ولا تأخذني بما يزين إلي الطمع. إنه من جناية الميلاد. قالت هذا وأخذت يد الفتى غصبا تتأملها طورا، وحينا تقبلها وتارة تمرها على صدرها، ومرة تبللها بالدموع، وآونة تجففها بالأنفاس. أما هو فكان يجمع فمه ليقبل الجبين الذي تيمه. وكلما هم شعر بأنفة تمسكه عن ذلك فيمتنع.
وبينما هما على هذا الحال سمعت «آرا» كأن مناديا يناديها فالتفتت وراءها، وإذا هي «آثرت» بنت الملك وكانت خارجة من غرفة الاستراحة تؤم القاعة الكبرى، فتوجهت نحوها مسرعة وتركت «هوتر» في شر حالة، فابتدرتها الأميرة قائلة: ما هذه الخيانة يا «آرا»؟ وأين الشرط ما بيننا؟ وهل هكذا جزاء الإحسان؟ قالت: عفوا يا مولاتي، واعتقدي أن جاريتك على قدم الإخلاص سرا وعلانية، وعلى ذاك العهد غيبا ومشهدا، وإنما نحن نقطع الوقت بالكلام كما يجيء، وما «هوتر» عندي إلا كبعض الناس؛ بل لولا أن جلالة الملك هو الذي وكله بي ليسايرني ويسامرني، لما ضمني وإياه مكان تحت سماء هذا البنيان. قالت: حسنا يا «آرا»، وما زلت الخليلة الوفية، ولكن هل ذكرني لك «هوتر» بأمر حلو أو مر خير أو شر؟ قالت: لا يا مولاتي. قالت وتنهدت: إذن فهو لا يلقي لوجودي بالا، إلا وهو مشغول بغرام ذي سر، لم أطلع بعد عليه، فمن يا ترى تلك التي تزاحمني على حبيبي، ولا ترجو لأبي وقارا في مكايدتي وتعذيبي؟ قالت: هوني عليك يا مولاتي، فورأس الملك ما قضي «هوتر» إلا لك ولن يقترن إلا بك.
وعند ذلك لمحت «آرا» خادمتها الخصوصية مقبلة من بعد تخترق الجموع نحوها، فاستغربت الأمر وأنكرته في نفسها ومشت إلى لقائها، فلما التقتا قالت لها الخادمة همسا: إن الملف الذي أمرت يا مولاتي أن يؤخذ من الثوب الأبيض ليوضع في صندوق المصوغات، لم أجده على الثوب فلعلك جعلته في مكان ثم نسيت فما تذكرين؟ فأطرقت الفتاة برهة تذكر نفسها فلم تذكر من الأمر غير كونها أمضت برهة في غرفة «رادريس» وأن الملف لا بد أن يكون قد سقط منها هنالك، عندما كانت تخلص ذيل ثوبها من يدي التمساح، وما زالت هذه الفكرة تؤثر في الفتاة ويشتد تأثيرها، فتتمثل لها العواقب سيئة وخيمة، والفضيحة هائلة جسيمة، حتى زاد بها الاضطراب، وتزلزل مجموع الأعصاب فسقطت بين ذراعي الخادمة مغشيا عليها.
অজানা পৃষ্ঠা