إهداء
تنبيه
الباب الأول: الحوادث في الهند
1 - جزيرة العذارى
2 - الببغاء الأسود
3 - الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
4 - عود للصاحبين في الغابة
5 - فيما كان من أمر الأسطول
6 - الشقي «طوس» في جزيرة العذارى
7 - تلاق ولا تلاق
অজানা পৃষ্ঠা
الباب الثاني: الحوادث في منفيس
1 - عذراء الهند في قصر الأمير
2 - الأمير «آشيم»
3 - ما كان يجري في طريق الخفاء
4 - الأمير في الطريق
5 - عذراء الهند في الطريق
6 - حزب الأحرار
7 - حادث باغت
8 - بيداء الذئاب
9 - «هاموس» في القفار يهيم
অজানা পৃষ্ঠা
10 - ظهور النمر حارس بعد الخفاء
11 - أفراح منفيس
الباب الثالث: الحوادث في طيبة
1 - «رادريس» في السجن
2 - ليلة أنس في قصر الملك
3 - الأحرار في طيبة
4 - الوفد الهندي في قصر الملك
5 - محاكمة «رادريس»
6 - طيبات طيبة
7 - ليلة القران
অজানা পৃষ্ঠা
إهداء
تنبيه
الباب الأول: الحوادث في الهند
1 - جزيرة العذارى
2 - الببغاء الأسود
3 - الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
4 - عود للصاحبين في الغابة
5 - فيما كان من أمر الأسطول
6 - الشقي «طوس» في جزيرة العذارى
7 - تلاق ولا تلاق
অজানা পৃষ্ঠা
الباب الثاني: الحوادث في منفيس
1 - عذراء الهند في قصر الأمير
2 - الأمير «آشيم»
3 - ما كان يجري في طريق الخفاء
4 - الأمير في الطريق
5 - عذراء الهند في الطريق
6 - حزب الأحرار
7 - حادث باغت
8 - بيداء الذئاب
9 - «هاموس» في القفار يهيم
অজানা পৃষ্ঠা
10 - ظهور النمر حارس بعد الخفاء
11 - أفراح منفيس
الباب الثالث: الحوادث في طيبة
1 - «رادريس» في السجن
2 - ليلة أنس في قصر الملك
3 - الأحرار في طيبة
4 - الوفد الهندي في قصر الملك
5 - محاكمة «رادريس»
6 - طيبات طيبة
7 - ليلة القران
অজানা পৃষ্ঠা
عذراء الهند
عذراء الهند
تأليف
أحمد شوقي
إهداء
إلى سدة سيدنا ومولانا ولي النعم الأكرم، الجناب الخديوي المعظم.
مولاي ...
الكاتب وما كتب غراس نعمائك، وجنى ظلك ومائك، فإذا وفق ليرفع إليك عملا، فقد أسند أفعالك في الفضل إلى أسمائك.
بقي القبول يا مولاي، وهو عندك مأمول، فتفضل زاد الله في فضلك، واجعل هذا القليل الحقير في ذراك وفي ظلك، كرامة لما تناول من سيرة رب طيبة ومنفيس، «رمسيس الثاني أمون رع سيزوستريس»، خير ملك لخير جيل رأى وادي النيل.
خادم السدة
অজানা পৃষ্ঠা
شوقي
تنبيه
أشخاص الحقيقة في هذه الرواية أربعة، وما سواهم فمن وضع الخيال؛ «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر، وهو أكبر ملوك الزمن الأول نصيبا من مدحة الأحاديث، وقد كان معظم اعتمادي فيما وصفت من مفاخر أيامه، وعرفت من أحوال البلاد تحت أحكامه على كتاب نفيس، مرصد لسيرة «رمسيس» عنوانه: «رمسيس الأكبر»، أو «مصر منذ 3300 سنة»، لجامعه العالم المحقق «فرديناند دي لانوا»، وعلى مؤلف ظهر في هذه الأيام هو خير المصادر في هذا المقام، أريد «الأثر الجليل» لواضعه الأستاذ الفاضل والعالم العامل «أحمد نجيب بك» مفتش عموم الآثار المصرية. - والأمير كميوم أو شميوم المحرف اسمه في الرواية «آشيم» أكبر أولاد هذا الملك، ومبلغ العلم في أمره أنه كان حاكم منفيس، وولي عهد «رمسيس»، وأنه مات في السنة الخامسة والخمسين من حكم والده، عن ثلاثين سنة، كان في أواخرها أحب إخوته الكثيرين إلى الأمم والشعوب، وأجذبهم بأزمة الرأي العام، وأمتنهم أعلاقا في القلوب، وأن لهذا الموت المعجل أسبابا لا يزال علمها في جانب الغيوب. - والأميرة «آثرت» كريمة الملك، وجملة الخبر عنها أنها كانت ساحرة ماهرة، وأن الملك مدين لنصحها الثمين بفتوحاته الأربعين. - و«بنتؤر» ونصيبنا من أنبائه أنه كان صاحب الملك وشاعره، وأن له فيه مدائح وأشعارا، قالها على لسانه في خطاب الآلهة والضراعة إليهم عند كل أزمة.
وجملة القول: إن التأريخ المصري القديم لا يزال في عهد الطفولية الأولى، إذا نحن قسناه بمعاصرات العلوم والفنون، وما صارت إليه من تمام الوضوح وكمال الثبوت، وإن الحقيقة معه لا يستقر بها خبر؛ فهي عين تارة وأثر، تحيا بحجر وتموت بحجر، فالمستند إليه فيما هو قائل، إنما يستند إلى ظلام زائل، أو جدار مائل، وهذا ما أنبه إليه المؤرخ الذي أعوذ بالله بين يديه أن أكون من الجاهلين.
شوقي
الباب الأول
الحوادث في الهند
الفصل الأول
جزيرة العذارى
كم لنا من عجيبة
অজানা পৃষ্ঠা
طي هذي البسيطة
أمم قد تغيرت
وبلاد تولت
وبحار تحولت
من مكان لبقعة
ثم نابت جزيرة
عندها عن جزيرة
أيها الأرض خبري
عن شباب الخليقة
حدثينا حديثهم
অজানা পৃষ্ঠা
وصفي القوم وانعتي
دول قد تصرمت
دولة إثر دولة
وقرون تلاحقت
وعصور تقضت
ذهب الدهر كله
بين يوم وليلة
مجزوء الخفيف
كانت إلى جنوب الهند الشرقية، وعلى مسيرة أيام من تلك الشواطئ القديمة الأزلية، جزائر شتى صغار منتشرة ها هنا وهناك، كما عامت اللآلئ أو طفت على الماء الشباك، تنهض بالجلال والجمال خلال زرق الماء، نهوض نجوم الجوزاء في القبة الزرقاء.
وكانت كلها أبكارا، لم تئو من قبل نزيلا ولا ديارا، إلا واحدة كان يقال لها جزيرة العذارى، وكانت يتيمة ذلك العقد المأنوس، المنتثر بالمنظر الضاحي على لبات الأقيانوس، وهي التي نلقي عليها المراسي الآن، في ابتداء قصتنا التي وقعت حوادثها من نحو خمسين قرنا من الزمان.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان يسكن هذه الجزيرة مائة فتاة وفتاة، كلهن ملك كريم، ومثال عال غال لنعيم الجمال، وجمال النعيم.
وكن كلهن أبكارا، بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة أعمارا، إذا رأيتهن حسبتهن أقمارا، طالعة ليلا ونهارا، تملأ المكان والزمان أنوارا، وكن يأوين جمعاء إلى قصر هنالك مشيد على الماء، يضمهن مثلما ضمت نجومها الجوزاء، وذاك القصر مبني بالبلور والمرمر، مفرش بصنوف الجوهر، مترب بالند والعنبر، وكان يحمل مفاتيحه ويحرس أشياءه رجل شيخ كاهن، لا عمل له إلا تطبيب البنات، إن مرضت واحدة منهن، والصلاة بهن في الميقات، وتعليمهن ما تجب معرفته من أصول العبادات.
وكان الزاد يحمل إلى البنات في كل ثلاثة أشهر مرة، فتأتي سفينة كبيرة مملوءة من الذخيرة، فتودع ذلك كله في الجزيرة، بدون أن ينزل أحد من رجالها إلى البر، ثم تنثني آخذة عريض البحر.
أما حراسة الجزيرة شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، فكان يقوم بها مائة نمر ونمر، من أندر ما أخرجت هاتيك الأصقاع، من هذا النوع من السباع، كلها من حجم واحد، وشكل واحد، كأنما دفعها رحم واحد، صفر الأحداق بازرقاق، صفر الجلود بيسير بياض، فيما دون الأطواق، مخططة الظهور بمخطاط قدرة الخلاق، خفاف رشاق، مطلقة الوثاق، لها هنالك على سائر الحيوان الحكم ذو الإطلاق.
وكان في عنق كل واحد منها طوق من الذهب، منقوش عليه بالمينا اسم الفتاة التي هو لها خاصة دون سائر البنات.
وكان بين هاته النمورة واحد، وكان أبيض نقي البياض، ياقوتي الحدقتين، عقيقي حواشي الفكين، دقيق الرأس مستديره، غليظ العنق قصيره، رشيق القامة النضيرة، له سيقان الغزال، وأخفاف الجمال، وإلى مجموع خلقته ينتهي الجلال والجمال، وكانت في عنقه قلادة من الياقوت الأحمر بقفل من ذهب منقوش عليه بالجواهر هذه العبارة، وهي: «ذو الفك العقيقي، خادم عذراء الهند.»
وعذراء الهند هذه، هي إحدى الفتيات، ولكنها في الحقيقة مولاتهن، والسبب في وجودهن في الجزيرة على تلك الحال، وهي بنت الملك «دهنش» ملك ملوك الهند الشرقية، جعلها أبوها هنالك في مائة عذراء من أترابها كريمات الملوك والأمراء، وبنات الوزراء والكبراء. وضرب لإقامة الجميع بالجزيرة أجلا سبع سنوات كوامل، مضى منها ست وبقيت السابعة التي نحن بصدد حوادثها الآن، وكان فعل الملك هذا صادرا عن نصيحة أحد كبار المنجمين له وإشارته عليه؛ ولذلك حديث عجيب نسوقه للقارئ مجملا في هذا الفصل، ليعلم أسباب الغرام المبنية عليه الرواية؛ كيف نشأت وأسرار حوادثه، كيف بدأت فنقول: كان ل «دهنش» ملك الهندين يسوسه وينهض به جميعا، وكانت أعلام سيادته منشورة على ملوك القطرين أجمعين، إلى أن ارتاح «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر، فيما كانت ترتاح إليه همته العلية من كبار المشروعات الفتحية إلى الاستيلاء على هاتيك الأقاليم، واتخاذها أسواقا لتجارات وطنه الفخيم، ومستعمرة جسيمة يعز بها آية ملكه الجسيم، فغشيها بالجحافل برا والأساطيل بحرا، حتى تملكها قسرا، وأخذ «دهنش» في جملة الأسرى.
غير أن فرعون لم يلبث أن شاور في الأمر عقله، ونظر في العواقب نظر حكمته، فرأى أن ملكا كملك الهندين محتاج إلى ملك يتفرغ لتدبيره، أو يكون سريره على الأقل قريبا من سريره، وأن بقاء الهندين في قبضة مصر واستمرار تبعيتهما لملوكها العالين أمران لا يمكن أن يكونا إلا إلى حين؛ فانتهج تلقاء هذه التأملات سياسة حسنة، بأن جعل الهند الغربية التي هي أقرب إلى البلاد المصرية، وأيسر منالا على سفنها حربية كانت أو تجارية، ممالك شتى صغيرة من نظام واحد، بملوك مستقلين بعضهم بإزاء بعض، ومستظلين تحت لوائه، يقدمون له الجزية، ويمهدون السبيل لمتاجر النيل، ثم أنعم على «دهنش» بالهند الشرقية جمعاء، يستقل بملكها ويحكم بلادها كيف شاء.
وكان «رمسيس» قد استصحب معه في تلك الحملة الكبرى ابنه وولي عهده الأمير «آشيم»، وكان في بداية صباه، وكانت مع «دهنش» فتاته عذراء الهند، وكانت طفلة كذلك، فلما رد فرعون عليه ملكه، وأعاد إليه بلاده، دخل عليه في آله ورجاله يؤدون شكر إحسانه الذي لا يؤدى. فكان أول من ابتدر لثم نعاله، عذراء الهند على صغر سنها، وقصور إدراكها؛ فأعجبه ذلك منها واستلطف روحها ومنظرها، فطلب إلى والدها أن تبقى مع «آشيم» تؤنسه ويؤنسها مدة إقامته القصيرة بالهند.
فكان من عواقب هذا الاجتماع، أن الطفلين انجذب أحدهما إلى الآخر انجذابا شديدا، وصادف الهوى فؤادين ناشئين خاليين، فدب، فدرج، فتمكن. فلما افترقا لم يفترق؛ بل وجد حافظا من مزاج الفتى والفتاة، فراح ينمو في فؤاديهما مع الحياة، وهكذا الحب بعضه من المهد إلى اللحد، ومنه ما يلبث يوما أو بعض يوم (الخفيف):
অজানা পৃষ্ঠা
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
ففراق يكون منه دواء
أو فراق يكون فيه الداء
نعم، كان من الفراق لذينك العاشقين داء، ومن ملحقاته ألف داء؛ خصوصا عذراء الهند، فلقد كان يزيدها ألف هم على همومها، أن والدها لما ذهبت السيئات عنه، وعاد فاطمأن بالملك والأحباب والوطن، بدأ يقتني ل «رمسيس» الموجدة والعداوة، ويذخر له الضغائن والأحقاد، فكان كلما تجدد تذكار ذلك العار، عار الهزيمة والانكسار، تجدد في نفسه الأمل بأخذ الثأر، ثم يدرك أنه يروم المستحيل، فيركن للحقد مطية غير الراكبين، وسلاح العزل المغلوبين (المتقارب):
رأيت الجنون جديرا به
حريا أخو المهجة الحاقدة
سلاح ثقيل بلا مضرب
وحمل ثقيل بلا فائدة
وكانت الفتاة تلحظ ذلك من أبيها، وكلما ألفته مملوءا من البغضاء نحو والد الحبيب، راحت مملوءة القلب من اليأس، تخفي في نفسها، وتكتم في صدرها، وتضغط على سرائرها في هوى الأمير أن تنهك، ولكن النفس البشرية وإن كان دونها في كثير من قواها الأدبية، تلك القوة الهائلة السارية بالوجود، المتدفقة بالبروق والرعود، فإنها تصطدم باليأس، فتنخذل، كما تصطدم بالمرض فتموت (الكامل):
অজানা পৃষ্ঠা
شيئان فوق قوى النفوس كلاهما
ردع لها ووقى من الطغيان
اليأس وهو لهن موت أول
والداء وهو لها الحسام الثاني
وفي الحقيقة، فإن عذراء الهند لم تلبث أن غلبتها بوادر اليأس على كل ذلك الثبات، فذهب الصبر عنها وبان، والجلد المدخور ولى وخان، فمرضت فطالت أيام المرض وخفيت أسبابه، واشتكلت أعراضه، وشاع الخبر، وأراب الأمر وتكلم الناس.
وكانت الأميرة واحدة «دهنش»، التي لم يكن يعطى عنها صبرا، ولا يقبل فيها ولا ملك النيل مهرا؛ فكيف إذا علم أنه ابن عدوه الظافر، وخصمه القوي القاهر، الذي لا يدري إن هو خطبها لفتاه، أعطيها عفوا أم أخذها قسرا؟
فكانت كل هاته التأملات تملأ قلب الفتاة مهابة من الأمر، وتجسم بعينيها العواقب، فتستصعب الإقرار، وتشفق من تبعاته، ولا تقدم عليه تاركة والدها الأسيف يشقى ويعذب، ويذهب من مداواتها في غير مذهب، فكلما عرضها على أطباء الهندين حار الأطباء، وخانتهم العقاقير، فيلوي على السحرة فيستفتيهم، فيحيلون على أصحاب الجن، وهؤلاء يبرئون الجن ويتهمون الأفلاك، فيجاء بالمنجمين، فلا يزيدون الملك بالأمر علما.
ثم ما زالت الأيام تتعاقب، والليالي تختلف سودا على ذاك الوالد المحزون، والمرض ما زال، والبنت بحالتها غادية على خطرين، من موت وجنون، إلى أن أخطر بعض الناس على باب الملك شنو أكبر أطباء الصين، وإمام منجميها الراسخين، وكان مغضوبا عليه من ملكه مودعا في السجن من سنين، فتذكر «دهنش» أن شنو هذا كثر ما صدقه الرواية في جسيمات المسائل، وقام له في المهمات، بالخدمات الجلائل؛ فأنفذ إلى صاحبه ملك الصين رسالة يقول فيها:
من «دهنش» سلطان القطرين وملك ملوك الهندين ... إلى ابن السماء وسلالة الخواقين العظماء، ذي الملك الواسع والعرش المكين، الملك تيتو ملك ملوك الصين: أما بعد؛ فإن الملوك بالملوك، وإن العلماء نجوم الإشراق، التي لا تختص بها آفاق دون آفاق، وقد علمت أن شنو إمام منجمي الصين، مغضوب عليه منك مودع في السجن من سنين، فجئتك شافعا له، وطالبا أن تسيره إلي، فإني مستفتيه في علة عذراء الهند التي تشتد بها، وتتهدد أيامها. والسلام.
التوقيع «دهنش» ملك ملوك الهندين
অজানা পৃষ্ঠা
فحين وردت هذه الرسالة على ملك الصين، عفا عن طبيبه ومنجمه شنو، ثم حمله الجواب على ذلك الكتاب، ورحله معززا مكرما إلى عاصمة المملكة الهندية؛ حيث بولغ له في الحفاوة، وقوبل بمجالي الاحتفال اللائق بمقام العلماء، وأنزل في قصر الملك ضيفا كريما عليه، فعكف أياما يخبر أحوال الداء، ويسبر أغوار تلك العلة العسراء، بدون أن يدرك غايتها علمه، أو يصل إلى كنهها فهمه، وهو كلما خلا إلى الأميرة احتال، وأكثر السؤال، عسى أن تقر أو لعلها تبوح بالسر، والفتاة لا تزداد إلا تماديا في الجحود، وتصميما على الكتمان.
فلم يجد شنو بدا من الركون للتنويم الذي كان أبرع أهل آسيا في معرفته، وأخذ سرائر الأميرة غصبا، فلم يزل بها ينومها المرة بعد المرة، وهو يجدها أشد عنادا في حال النوم منها في حال اليقظة، حتى كلت روحها وخارت أعصابها، وأذعن للقوة عصي العنان، فتحركت الشفتان، وانطلق اللسان، وصادف دخول «دهنش» في تلك اللحظة المكان، ففاجأ ابنته؛ إذ هي منومة؛ إذ تقول بأفصح بيان (المنسرح):
آشيم يا من بحبه نعلو
ومن أديم السهى له نعل
عزت مع الشوق نحوك السبل
وبات صعبا لقاؤك السهل
يا ليت شعري والبعد مجلبة
للترك والعيش كله شغل
أذاكر أنت أم نسيت لنا
إذ نحن طفلان والهوى طفل
অজানা পৃষ্ঠা
إذ تعجب الهند والديار بنا
ويعجب الناظرون والأهل
وإذ يدب الغرام مجتهدا
ونحن لا فكرة ولا عقل
ما نحن قلنا فالحب قائله
وما فعلنا فللهوى الفعل
وإن نقلنا لبقعة قدما
فللهوى لا البقعة النقل
فإن تكن يا أمير ناسينا
فنحن ما ننسى وما نسلو
অজানা পৃষ্ঠা
تلك سماء الهند شاهدة
وأرضها والجبال والسهل
وأنجم الهند ما طلعن لنا
وما رعتنا عيونها النجل
إني على العهد ما حييت فإن
خلوت تبقى العهود لا تخلو
فكان الملك يسمع هذا الإقرار الصريح، وهو حنق هائج، لذكر اسم «آشيم» ابن الخصم الأشد، والعدو الألد، الذي ما من صداقته بد، وكلما هم أن يقطع على النائمة كلامها، أو يكدر عليها أحلامها، منعه الطبيب مخافة أن يعجل ذلك للفتاة حمامها، إلى أن باحت بسرائرها من أولها إلى آخرها، ولم يبق سوى تنبيهها ورد الإرادة إليها، فالتفت شنو إلى الملك قائلا: إن كنت يا مولاي تريد حياة الأميرة، ولا تريد قتلها في هذا الشباب الغض، والعمر النضير، فاكتم عنها خبر ما رأيت وما سمعت؛ لأنها إن علمت أن أحدا وقف على سيرتها، أو اطلع في الغرام على سريرتها، راحت بشر حالة، ثم هلكت لا محالة. قال: ولكنني يا شنو لا أطيق أن تعيش ابنتي على عشق ابن عدوي، ولا أن تموت عليه، فصف لي بحقك حيلة، فحيلتي اليوم قليلة. قال: إن الغرام المتمكن يا مولاي لا ينفع فيه إلا العزلة وجوار البحر. قال: إذن فاختر لي مكانا أجعلها فيه، ينفع صحتها ويعصمها من يد «آشيم» إلى حين. فأطرق المنجم برهة، ثم قال: قد وجدت يا مولاي المكان الذي تكون فيه كالشمس في سماء الوجود، ولا تستطيع إلى معشوقها النزول، ولا يستطيع معشوقها إليها الصعود. قال: أين؟ وكيف؟ قال: يوجد يا مولاي على مسيرة أيام من الساحل الجنوبي الشرقي لهذه المملكة، أرخبيل منعزل خشن اللمس من جميع الجهات لكثرة الحجر في مياهه، عزيزة منال المداخل على السفن، ولو أنها من حديد، فلتنقل الأميرة إلى إحدى جزره، ولتقم هناك سبعة أعوام كاملة، وليرافقها في كل هذه المدة طبيب ماهر ممن تعهد فيهم العلم، وتعرف لهم الإخلاص؛ لأني أرى الداء متمكنا من هذا الجسم الناعم، محتاجا إلى عناية فائقة، وسهر من طبيب حكيم. فأطرق الملك برهة ثم قال: وأنا يا شنو لا أجد من أتكل عليه في هذه المهمة سواك. قال: أعفني يا مولاي بفضلك، وانظر في أمري بعين عدلك. إنني خرجت من السجن إلى بلادك، لم ألو على أهلي وأولادي، ولم أتمتع من شميم نسيم بلادي. قال: كل هذا مضمون لك في المستقبل، مأمون ميسور، مع الزمن يهون، وأما الآن فلن يكون إلا ما شئت أن يكون. قال الطبيب واحتد بالغضب: إن مولاي وسيدي تيتو أولى بي منك أيها الملك، وإنه سوف يعوزه منجمه وطبيبه، فيسأل عن أمري فبماذا أنت مجيبه؟ قال: ولكنه سامح بك يا شنو؛ إذ وهب لي عقوبة ذنبك، وإن كنت في ريب مما أقول؛ فهذه رسالته اقرأها تخرج من ريبك. فلما اطلع الطبيب على الرسالة أطرق امتثالا، وانحنى خشوعا وإجلالا. ثم قال: الآن أنا لك وإليك، ووقف يا مولاي عليك. قال: إذن فإني ناظر في أمر السفر وتهيئتكم له، تارك لك أنت تدبير الخروج من مياه المملكة، وقيادة الأسطول الذي يسير بكم، واختيار الجزيرة الصالحة للمقام.
ثم إن الملك أخذ في العمل بكل خفاء وتستر، ومداراة وتنكر، بحيث لم يمض أسبوع حتى صار الأسطول على قدم الاستعداد التام، لا ينتظر إلا الإشارة بالقيام، حتى إذا صدرت إليه خفية، خرج فأدى المأمورية ثم رجع بسلام.
الفصل الثاني
الببغاء الأسود
অজানা পৃষ্ঠা
كان الفصل شتاء، وكانت أقطار الهند تقطر ماء، أرضا وسماء، وأكنافا وأرجاء، وقد تملك الضباب الآفاق فأدجت إدجاء، وتلاه الليل فأضفى عليها من ظلامه رداء.
وكانت على بعض النواحي الشمالية من أطراف الهند الشرقية غابة عذراء، ممدة شماء، يضيق عن دائرتها الفضاء، وهي مظلمة الأرجاء أبدية الأدجاء، لا تغشاها الشمس بصبح، ولا يزورها النجم في مساء.
وكان عند مدخل هذه الغابة رجلان، ليس ثم غيرهما إنسان، أحدهما عظيم كتلة الجسد، في صورة الأسد، ذي الأظفار واللبد، مكشوف الرأس والصدر، غائبهما في الشعر، وعليه سربال من كتان بال، ممسك بحبال، وفي خاصرته اليمنى خزانة سلاح، مستكملة أدوات الكفاح، وفي اليسرى خزانة أخرى فيها عدد وآلات، ومواد للاستعمال وأدوات، وهو كأنه سارية من اعتدال قامته الوافية، وكان شيخا يناهز الستين، وإن يكن يراه الرائي فلا يزيده على الأربعين، والآخر فتى شاب في الثلاثين، له أجمل صور الإنسان، وعليه كذلك ثوب من كتان، وهو قد تقلد سلاحه، وحمل جرابا مملوءا طعاما وشرابا، وكانا يتمشيان على المكان، والشيخ يقول للفتى: ها نحن قد بلغنا الغابة يا «هاموس»؛ غابة الببغاء الأسود، الذي يحج إليه ويعبد فصفحا للسفر عن إساءاته؛ إذ كان هذا اليوم من حسناته. قال: يا مولاي، إن كان كنز لا يفنى فالسفر، أو كتاب لا يفرغ من قراءته في هذه الأرض، وإني لأعجب للإنسان كيف يخلق كل هذا الملك لأجله، ويعيش فيه بعقله ثم يموت، وهو لم يجس أديمه برجله، ولم يعرف وعره من سهله. قال: هذا يا بني أكبر عيوب الأنام، أو هو نقص القادرين على التمام، فإن أكثرهم يفنون أيامهم بالحضر، ثم يتهمون الأعمار بالقصر. وهيهات هيهات ما سدى قدرت أيام الحياة، وإنما نتوهمها قليلة من سوء استعمال الأوقات، وإنهم يا بني ثلاثة، لا تجتمع المفاخر لأمة؛ حتى يجتمعوا لها: الكرام، والعلماء، ورجال الأسفار. قال: وأنت هي جملة يا مولاي، فأنت إذن أمة في المفاخر وحدك، فأجاب الشيخ متبسما: ولكني الشقي «طوس». قال: إنه من كيد الكهنة يا مولاي، إن كيدهم عظيم. قال: خلنا الآن من هذا يا «هاموس»، وانظر هل تطلع النجم بعد، فارتجل الفتى نظرة في الأفلاك، ثم قال: نعم، ظهر يا مولاي وبان. قال: إذن فهلم على اسمه وببركة مطلعه السعيد. ثم تقدم نحو المدخل فتبعه الفتى يحمل شريطا من المعدن مشعل الذبال، حثيث الاشتعال يضيء لهم خلال الثرى، ويكشف من الغابة الجوانب والذرى، وكان يديره للشيخ حيث دار، ويسير به بين يديه أينما سار، وقد أمسك هذا ورقة صفراء من البلى مخرقة وهو منهمك يقرأ فيها، فلما فرغ منها طواها بصيانة، وألقاها في الخزانة، ثم أخذ في سيره اليمين، والتفت إلى الفتى يقول: سندخل من حيث دخل يوقو الصيني يا «هاموس». قال: وهل لذلك أثر حي على المكان، أم أنت يا مولاي تعتمد على الورقة لا غير؟ قال: تأدب يا «هاموس»؛ إن يوقو كان عالما، وإن الزمن الذي يفشو فيه الكذب بين العلماء لم يأت بعد. وإن كنت في ريب مما أقول؛ فانظر إلى هذا الجذع وهذا الساق كيف يتفاوتان لدى السنين، فهذا له آلاف من السنين، وهذا لا يتجاوز عمره المئين، فهنا لا شك نزل يوقو بالبلط وهشم وقطع وحطم؛ ليفتح له طريقا بين الأشجار. قال: وكم كانت أيامه في غابة الببغاء الأسود يا مولاي؟ قال: تسعون شهرا وشهرا. قال: إنها لمدة طويلة يا مولاي، ونحن لنا شأن غير هذا الشأن، يضطرنا إلى أن نختصر من الزمان. قال: ليطمئن قلبك يا بني فورأس «آشيم» لا يكونن الشهر عندي إلا يوما، فنلبث ثلاثة أشهر في هذه الغابة التي لو كانت واحدة لسهل الأمر وهان، ولكنها غابات ثمان، فيها من كل موبقة زوجان، وبعد ذلك لنا إلى مياه الشمال طريق مختصر بين الرمال نقطعه في سبعة أيام بليال، حتى نبلغ البحر؛ حيث المركب والصيادون على الشاطئ ينتظرون، ثم نقلع قاصدين جزيرة العذارى؛ مطلبنا الصعب الذي سوف يهون.
ثم إنه ابتدر الدخول من ذلك الموضع، فتبعه الفتى يحمل الشريط، واندفعا يصلان السرى حثيثا بين شجر ألفافا، وأعشاب تختلف أشكالها وألوانها اختلافا، إلى أن مضت تلك الليلة، وانقضت بدون أن يعتري تعويق، أو يعترض شيء في الطريق.
فلما أقبل النهار ولم تكن ظهرت له في الغابة آثار، غير تحول النبات من السواد الشديد إلى الاخضرار، التفت الشيخ إلى «هاموس»، فقال: أطفئ يا بني الشريط، وخذ هذا السائل فادهن به أطرافك. واعلم أننا قادمان بعد لحظة على موطن الثعبان الأخضر، وستصادفه في الطريق جماعات على أبعاد، منتصبا على أطراف ذنبه في صورة أمهات الموز. فإياك أن تحتك به في مسيرك، فتقيم علينا قيامة لا طاقة لنا بها. قال: وهل لأجله صنع هذا العطر؟ قال: نعم، وإن نكهته تحدث به من الطرب ما يشغله عن أمرنا.
وفي الحقيقة لم يكن غير يسير زمان، حتى قدم الرجلان على أمثال جماعات الموز، وكانت في أتم سكون، فلما تخللاها وسرى في جوها طيب ما كانا يحملان، راحت تموج بالمنظر العجب، كأنما أخذها من تلك الروائح طرب، فاستمرا في سيرهما آمنين قريرين ببدائع ما يجتليان، والشيخ يقول لتلميذه: تمتع يا «هاموس» من رؤية هذه المناظر، التي لم يشهد الأوائل لها نظائر، ولا أظن أن سيرى الأواخر، ومد معي لقدمك الخطو، واحتمل للسفر، واحمل مشاقه، واعلم أن المروءة منه، والصبر منه، والشجاعة منه، وهي الثلاثة القائمة بمكارم الأخلاق.
فتشجع الفتى بهذا الكلام، وازداد إقداما على إقدام، إلا أنه استأذن أستاذه في تناول بعض الطعام فأذن له، وطلب هو أيضا شيئا من الزاد فأكل، ثم عاودا السير يوغلان فيه إلى أن أخذ النهار في الإدبار، وكانا قد بدآ يبتعدان عن أماكن الثعبان، فأشعل الفتى الشريط واندفعا يتبعان السير سرى موصولا، فلم يكن نصف الليل، إلا وهما بعيدان كل البعد عنها وبأمان تام منها، ثم إذا هما بأرض خضراء نقية العشب، كأنما أمطرت أمطارا أو غسلت مرارا، فلما غشياها أعجب الشيخ مرآها، فنظر إلى الفتى قائلا: توسد يا بني هذا المهاد الوطيء وخذ لبدنك حصته من النوم، وأنا ساهر عليك أحميك وأشتغل بمطالعاتي. قال: سمعا وطاعة، ثم اضطجع فأخذه النوم فنام. وجلس الشيخ عند رأسه ساهرا ينظر في بعض أوراقه على ضوء الشريط، حتى طلع النهار، فانتبه الفتى من رقاده ناشطا خفيفا، وقام الشيخ فمشيا يومهما كله بين أكل وشرب وحديث، يسيران في أرض كبسط الخز تأخذ القدم منها ولا تأخذ من القدم.
فلما كان المساء، عادت الأشجار فتنكرت دلالة على زوال النهار، فأراد الفتى أن يشعل الشريط ليسريا بهداه وفي سناه، فمنعه الشيخ ونهاه قائلا: لقد أوشكنا أن نلج الغابة الثانية، غابة الثعبان الوضاء. قال: وهل في الثعابين كما في الدود ذو النور المشهود؟ قال: ولم لا وليست هذه إلا أصغر عجائب الوجود؟ قال: وما ذلك الثعبان ذو اللمعان؟ قال: شيء يا بني في حجم الثعبان الأخضر أو هو أكبر، وأما لونه فأصفر، ويقول يوقو الصيني: إنه بالنهار جهنمي ثوار، وثاب صفار، جواره شر جوار، وإلى لقائه تنتهي الأخطار، حتى إذا بدا له الليل عانق الأشجار، يتدفق خلالها بالأنوار، ثم نام نومة العاشق الممتع بالأسحار ، فلو قامت القيامة عند رأسه ما انتبه حتى مطلع النهار.
وما استتم الشيخ حتى قدم الصاحبان على منازل ذلك الثعبان، فإذا نوره التام المحيط، خير من ألف شريط، وهو على الأشجار، يرتجل الأنوار، مختلف الصور والأشكال، آخذ من كل فلك في السماء بمثال، وقد انجلت الغابة في رواء فتان، لم ير مثله حالم ولا يقظان، فاندفع الرجلان يسريان في كلاءة الليل، وبذمة من ساكن الغاب وأمان، والشيخ يقول للفتى: انظر يا بني إلى هذا المكان، كيف يتغير من شأن إلى شان، فبينما هو النهار مسبعة بغير قرار أو كمساكن الجان، إذا هو كما تجتليه الآن، أفق منير الأهلة مزدان، يجتازه الطفل على قدم السكينة والاطمئنان. قال: وهل سرى ليلة يا مولاي يكفي للابتعاد عن موطن هذا الثعبان؟ قال: لا بل هما ليلة ونهار لمن سرى وسار. قال: فما عندنا له من عدد التوقي، فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: سر يا بني ولا تخف، فمن كان مليك الوجود لن تغلبه هذه الدود، وقد أعددت لذلك مسحوقا يشمه الثعبان، فلا يستطيع إلينا دنوا ولا يملك سببا.
حتى إذا مضى الليل هب ساكن الغاب من نومته فسمعت لذلك ضجة، راحت بها الأرض مرتجة، وماج الجو واضطرب الغاب، وسالت بالمزاحف الأعشاب، فالتفت الفتى إلى شيخه كالمذعور فوجده ينثر من ذلك المسحوق في الطريق، والثعابين تنفر عنه نفارا، وتولي من تلك الرائحة فرارا، إلا أنها كانت تجتمع من بعيد عن اليمين وعن الشمال، وتسايرهما هائجة حنقة، وهي تموج كالجبال، فجد بالفتى القلق، وزاد به الفرق، ورأى الشيخ عليه ذلك فزجره قائلا: ما هذا الجزع يا «هاموس»؟ أتشفق من هذه الديدان، وأنت لو فتشت عن أفئدتها لوجدت أن بها منك فوق ما بك منها، فمهلا رويدا بعض هذا الخوف، واعلم أن بالعقل قام هذا الوجود، فمهابته منذ البداية سارية في الأشياء، ممتزجة بالغرائز عند سباع الأرض والسماء، يحملها الحي الذي يرزق، وتتشربها النطف التي لم تخلق، فلما سمع الفتى هذا الكلام تقوى جنانه وثبتت الأقدام على الأقدام، ومسخت الثعابين بعينيه حبالا وكانت جبالا، فراح متنشطا في السير لا يلقي لجمعها بالا.
অজানা পৃষ্ঠা
واستمر الرجلان كذلك يسيران إلى أن ولى النهار وبان، وهجر أكوانا إلى أكوان، وعندئذ انقلبت الثعابين على الأعقاب، آيبة إلى مساكنها من الغاب، فكف الشيخ عن إلقاء المسحوق ووقف متبسما يقول لفتاه: الآن لا خوف علينا، ولا نحن نضجر يا «هاموس»، فأشعل شريطك وسر بنا في ظلام الغابة الثالثة؛ غابة الفيل الكسلان. قال: وما ذلك الكسلان أيضا يا مولاي؟ قال: إنها يا بني أفيال عراض طوال في أجرام الجبال، ولكن الكسل منها بمكان، فتراها تقضي الأشهر والأيام في مراكزها، ثابتة لا تتحرك؛ بل قد تتخذ الطير في آذانها وظهورها أوكارا، فلا تحرك خرطومها لتذودها، أو لتمنع الحشرات أن تدمي جلودها. قال: إذن فتلك غابة سهلة المجاز، مأمونة المذاهب على السالكين. قال: نعم، كذلك هي، إلا أنها طويلة مظلمة ثقيلة. قال: ذلك لنا فيه يا مولاي ألف حيلة. أما في جبال الثعابين فالحيلة قليلة، فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: صدقت يا «هاموس»، إن الأمان ألزم حوائج الإنسان، وأطيب المكان حيث كان، فإن بان لا أهل ولا أوطان، ولا حياة ولا وجدان، وهو في الحضر منة، وفي السفر منة وإحسان.
وما هي إلا برهة زمان حتى بدت لهما أشباح الفيلة من بعد، تموج بها قباب الظلماء، فهزت رؤية ذلك من الشيخ فقال: ألا تبصره يا «هاموس»؟ قال: بلى يا مولاي، وإنه لعلى جرم كما تقول عظيم. قال: إذن فعجل بنا فورأس «آشيم» لا بتنا ليلتنا هذه إلا على ظهر هذا الكسلان. قال: وما لنا وله يا مولاي، وهذا وجه الأرض يغنينا عن متون السباع. قال: إنه يا بني جبان، والجبان مضيع الجانب، ومطية كل راكب، فلا تنظر إليه عن صفة السباع، وعد هذه الكتلة الهائلة من سقط المتاع، فلما قابلا بعضها وكان في معزل تأملاه في ضوء الشريط فإذا شيء كالجبل، في الضخامة والثقل، تزدحم الحشرات عليه وتحوم صغار الوحش حواليه، مما لم يريا له أثرا في الغابة الأولى ولا الثانية. فنظر إليه الشيخ نظرة المستزري الحاقر، وهو يقول: يا ضيعة الغابة التي أنت حاميها، يا جبل الشحم! ثم إنه أخرج ذلك المسحوق، فنثر منه في الأرض، فطارت كتائب الحشرات عن جلد الفيل، وانفضت جموع الوحش من حوله فرارا من كريهات الروائح، وعمد الشيخ بعد ذلك للخرطوم فتعلق، ثم ما زال يتسلق، حتى بلغ ذروة الرأس، فانحدر منها إلى العريض الطويل، من ظهر الفيل، وهناك نادى صاحبه، فلبى يصعد على عجل ويفعل مثلما فعل، حتى إذا اطمأن بهما المرتقى، جلسا فشعرا بذلك الجبل يميد، فسأل «هاموس» شيخه: ألا تحس بحركة يا مولاي؟ قال: بلى يا بني، ولكنها حركة الجسم بعد الموت، فإني لا أحسب هذا الكسلان إلا أغضبه سوء صنيعنا به فخطا خطوة.
ولما كان النهار، نزل الرجلان من حيث صعدا، فانطلقا يجدان في المسير والفيلة تبدو لهما من كل جانب، كتائب دونها كتائب، إلى أن وافى الظلام، فقابلاه بمثل ما فعلا في الليلة الماضية، واستمرا على هذا الحال ثلاثة أيام بليال، حتى خرجا من غابة الأفيال، ودخلا الغابة الرابعة؛ غابة النمال، فالتفت الشيخ عندئذ إلى «هاموس»، وقال: الآن نحن يا بني في غابة النمل، فلا تنظر إليه عن صغر، فما كل صغير يحتقر، وانظر إليه كيف يأخذ القوت، ويحمي البيوت، ويثبت أمام العدو، حتى يتم له الظفر أو يموت. قال: وهل هو يا مولاي من النوع المعتاد المألوف في سائر البلاد؟ قال: لا بل هو الأبيض ذو المنشار الذي لو سلطت كتائبه على جبل لأصبح هباء منثورا، وهو في حجم الخنفساء، ويذكر يوقو الصيني أن فيلا عظيما مما خلفنا وراءنا طوح به أجله إلى هذه الغابة، وكان يوقو على شجرة ينظر. قال: فلم أشعر إلا بالملايين من هذا النمل قد خرجت إلى لقاء العدو، ثم لم أدر إلا بالفيل قد قضم قضما لحما وعظما، وانصرف النمل من حيث أتى، فنزلت لأنظر فلم أجد للحيوان أثرا على المكان. قال الفتى: وما عندنا يا مولاي من السلاح لهذا الأبيض ذي المنشار؟ قال: النار ذات الدخان، وإن يوقو الصيني لم يلق في غابة من الغابات، عشر معشار ما لقي في هذه الغابة من الصعوبات، فلقد عمل تجارب شتى أخفق في جميعها.
ولو لم تساعفه الصدفة بإخطار ذكر النار على باله، لأقام بهذه الأرض عمرا متنقلا من شجرة إلى شجرة، أو منحبسا في صندوقه الحديدي من خشية الأبيض ذي المنشار. قال: إذن ففيم التأخير الآن؟ وهذا الحطب بين أيدينا حاضر وواف بالحاجة. قال: إننا لم ندن بعد من معسكرات النمل، ولا نبلغها إلا قبيل المساء، أما الحطب ففوق حاجة الطلب، وسنجده أين التمسناه.
وفي الحقيقة لم تكن أواخر النهار حتى أبصر الشيخ عشرات من النمل تعدو فارة أمامه، فصاح بالفتى قائلا: أوقد يا «هاموس»، أوقد؛ فهذا المخبر قد سبقنا لينذر، فشرع الفتى في الإيقاد، وما هو إلا أن أشعل الحطب أو كاد، حتى أحدق بهما ذلك البلاء الأبيض من كل جانب كتائب تنهال، غير مكترث بالنار ذات الاشتعال، ولا مبال بضوء لهيبها المتعال. فأدرك الشيخ من فوره أن النمل لا يرهب النار، ولكن يكره الدخان، فأخرج المسحوق بسرعة، وألقى بشيء منه في النار، فذهب دخانا كثيفا يتدجى، فلما شمت النمل منه ولت الأدبار، واختفت في مثل لمح البصر عن الأنظار.
فخلا الطريق للشيخ وتبعه الفتى يحمل في كلتا يديه النار، واستمرا كذلك يسريان إلى أن بدا لهما النهار، فأتبعا السرى سيرا غير ذي قرار، حتى تقضى ذلك اليوم أيضا، وكان آخر العهد بالأبيض ذي المنشار، فألقيا عندئذ العصا وعمدا لمكان فجلسا يستريحان من عناء ما كان، وهنالك خاطب الشيخ الفتى، فقال: اعلم يا «هاموس» أنني ناوأت الحكومات والممالك، وقطعت على الجحافل الطرق والمسالك، ودبرت للملوك كما دبروا لي المهالك، ودخلت على الأسود غابها، ولقيت سباع الأرض وكلابها، وحملت الأمراض لم أحسب حسابها، وجبت وحيدا كل قفر، ورفعت شراع كل بحر، فلا أذكر أنني عرفت لشيء مهابة، قبل عرفاني هذه الغابة، وذلك لا لأن النمل سلطان الحيوانات، أو أقوى كل هاتيك المخلوقات، ولكن لكونه أمة التعاون، والاتحاد، والثبات، وكل واحدة من هاته الثلاث كافية لتهز الأرض، وتقيم قيامة السموات.
ثم إنهما رقدا على ذلك المكان، فلم ينتبها إلا وقد ظهر الصبح وبان، فتناولا بعض الزاد ثم خفا يسيران، والشيخ يقول للفتى: اليوم نفد يا «هاموس» على الغاب الأسعد، غاب الببغاء الأسود، فاستعد لذلك، فكل العجائب هنالك. قال: وهل بلغناه بعد يا مولاي؟ قال: بل ندخله والضحى. قال: وما عليه من الحيوان؟ قال: بل قل: من الإنسان؟ فالتفت الفتى كالمستغرب الدهش، فعاد الشيخ فقال: نعم يا بني، من الإنسان، فإن غابة الببغاء الأسود تأويها من عهد مجهول للعلم، عائلة بشرية متوحشة أورثها أبواها الأولان عبادة الببغاء، ويذكر يوقو الصيني أنها كانت من ستمائة سنة؛ أي على عهد نحو ألف، ولكنها كانت مبتلاة في زمن وجوده في الغابة، بنوع من الأوبئة خاص بالقردة، وكان يفتك فيها مسرفا وهذا أغرب ما سمعت للآن، حتى لقد حرت فما أدري هل الإنسان من القرد أم القرد من الإنسان؟ قال: لعلها يا مولاي خطرة من وساوس ذلك العالم؟ قال: إن العلماء لا ينطقون عن الهوى، ولا ينبغي لهم، ولا لك أن تتهجم على مقاماتهم يا «هاموس».
وما هي إلا ساعتان من الزمان، حتى غشي الرجلان المكان، فإذا هما بقبة واحدة عظيمة من الشجر المتشعب الأغصان، المتكاثف الأفنان، عائبة الجوانب في الأفلاك، لاحقة الذرى بالسماك، فلما صارا تحتها واطمأن بهما فضاؤها، سأل الفتى شيخه قائلا: أين يا مولاي ذلك الإنسان؟ إني لا أجد ريحه على المكان. قال: لعله يا بني لم يحفظ من خلائقه الأولى سوى الجبن، فلما تنشق نسيما غريبا أخذ لنفسه الحذر، فتوارى خلف هذا الشجر. قال: والآن كيف السبيل إلى الببغاء الأسود، ونحن بين خلق من الطير لا يحصى، ومساكن في هذه الذرى الشم لا ترام؟ قال: لقد سألت يا بني عن الأمر العظيم، فاعلم أن أول من وصل إلى هذه القبة واقتنص الببغاء، هو أبو السياح العالم الشهير تيحو المصري المنفيسي المتوفى من نحو عشرين قرنا، وقد فصل رحلته الفاخرة، وبين علمه العظيم في كراسة من ورق البردي، فوقع النصف الأول منها في قبضة يوقو الصيني، وكان كذلك عالما مولعا بالأسفار، فسافر خلف دليل من ذلك السفر الجليل، حتى بلغ هذه الغابة التي كان من شقاء يوقو أن الكلام ينتهي إليها فيما بيده من الكراسة، فاضطر إلى الرجوع خائبا بعد أن كاد يأتي بالمستحيل، لاستنزال الببغاء من أيكه المنيع فلم ينجح فيما حاول.
أما النصف الأخير من الكراسة، فقد عثرت أنا عليه في مكتبة معبد طيبة الأكبر أيام قيامي بتوكيل هذا المعبد، فأخذته لنفسي وشرعت من ذلك العهد في البحث عن النصف الأول، ولكن بحث اليائس العارف أنه يروم المستحيل، إلى أن كان ما هو معلوم مشهور، من شرائي لتركة يوقو الصيني التي نقدت فيها ملك الصين الجاهل ثلاثين ألف حلقة من الذهب، دفعتها من مالي الخاص. فكان من تمام سعدي أنني وجدت بين أشيائها النصف الأول من الكراسة، ومعه كراسة أخرى كاملة من قلم يوقو يشرح فيها رحلته ويذكر خيبته، ويودع الحياة ويزعم أنه لما وصل الصين آيبا من سفره ذاك، شعر على الأثر بانحطاط القوى، ودبيب الفناء، ويختم بالدعاء لمن يقصد بعده غابة الببغاء الأسود أن ينقلب أسعد منه حالا، وأحسن منه مآلا.
فلما صار ذلك كله في يدي، ودون بعضه يا بني ملك الدنيا، رحت أحلم ليلي والنهار، بالرحلة إلى هذه الأقطار، واقتفاء آثار أولئك الرجال الكبار، إلا أن الفرص لم تكن تسنح، ولا الصدف كانت تسمح، إلى أن كان ما كان من اعتزالي الكهانة، وانفصالي عن خدمة الديانة، ودفعت بي الحماسة في ولاء الأمير «آشيم»، ولي عهد بلادنا المحبوبة إلى أن آتي هذه الديار لأسرق عشيقته الأميرة عذراء الهند، ثم أحملها إليه هدية من عبده «طوس»، مصحوبة بالثناء عليه. فرأيت أن نغتنم فرصة استظلالنا بسموات الهند، لنقتنص ذلك الأسود الذي يلقبه تيحو الصيني بالمغني عن سؤال الأفلاك.
অজানা পৃষ্ঠা
وما فرغ الشيخ من عبارته حتى أخذ أولئك البشر المتوحشون ينهالون عليهما من كل ناحية ومكان، وهم في صورة القردة، ولهم خفة المردة. فلما رآهم الفتى تفزع لرؤيتهم، واهتز إشفاقا من كثرتهم، فالتفت إليه الشيخ قائلا: تشجع يا «هاموس»، وألصق ظهرك بظهري، ثم در معي كيفما أدور، فإنني منيمهم جميعا في لحظة، فأسند الفتى ظهره إلى ظهر الشيخ وجعل هذا يدور، ويكثر الصراخ كالليث الزءور، وكلما وقعت عيناه على جماعة من ذلك الإنسان المتوحش راحت نائمة، وهي قائمة، كأنما سمرت في الهوى، أو كأن بها سحرا، فلم تكن لحظة حتى صار أكثرهم في أسر الشيخ وفتاه، وفر الباقون مختفين في جوانب الغاب وزواياه.
وبعد ذلك عمد الشيخ لثلاثة من الأسرى، فأطار أعناقهم بضربة واحدة من سيفه المسلول، ثم التفت إلى الفتى يقول: الآن ينزل ساكن السماء يا «هاموس». قال: وما ينزله يا مولاي؟ قال: رؤية الدماء؛ دماء البشر، فإن له بها من الكلف والغرام، فوق ما بالفراش من النار ذات الضرام، وفي الحقيقة ما أتم الشيخ هذا الكلام، حتى نزل طائر صغير، كأضأل العصافير، أسود بإنارة، كفحم الحجارة، فجعل يدنو طورا وينأى تارة، ثم غمس في الدماء منقاره، فشرب ما شرب، حتى انتشى وطرب، فتقدم الشيخ عندئذ نحوه، وهو لا يكاد يملك من السرور خطوه، فقبض على الأسود متلبسا بالنشوة، وكان قد أعد لذلك سلسلة من الذهب طويلة خفيفة، محكمة ظريفة، فشد بأحد طرفيها لحم ساعده، وقيد بالآخر الببغاء، ثم حمله على كفه، وجعل يتأمله ويخاطبه قائلا:
أهلا بعاشق الدماء، المغني عن استشارة السماء، الطويل البقاء، المنبئ بالرياح والأنواء، المشير أبدا نحو المشرق بجبهته السوداء، الزاجر عن نزول الدأماء، إذا كان في ركوبها بلاء، الحافظ الكلم المعيدها لمن شاء، متى شاء، المبشر بالضحك، المنذر بالبكاء، الناتف ريشه إذا أحس من أجل حامله الانقضاء.
الفصل الثالث
الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
لقد مضى على إقامة الأميرة في الجزيرة ستة أعوام وبعض عام، قضاها الملك في أسر القلق والأوهام، لا يعرف الراحة ولا يهنأ المنام، من الفكر فيها وفي أحوال ذلك الغرام، وتوقعا أن يتم بأخذها لعدوه المرام.
وكأنما كان شنو يتمثل مكان الأسى من الوالد، ويرى جيئة الهوادس، وذهابها في فؤاده المشوق الواجد، فلم يكن يدع سفينة الزاد تعود إلا ويحملها من البريد إلى الملك ما يخفف من كربه، ويعيد السكينة إلى ربوعها من قلبه، حتى ولت السنة السادسة، وهلت السابعة، فبلغ مسامع الملك أن رجلين غريبين متنكري الزي مريبين، قد رئيا على نقط من المملكة، ثم في العاصمة؛ حيث كانا يجتمعان بأحد بحارة الأساطيل، فلما بلغ «دهنش» الخبر قام له وقعد، وأحدق به الوسواس بعدما كان ابتعد، فأقام حكومة العاصمة وسائر قوات الأقاليم في طلب ذينك الرجلين، طلب قوي قادر مطلق في الأحكام، حتى تفرغ الأهالي وضاقت البلاد بالعيون والأرصاد بدون أن يقبض على الغريبين، أو يبلغ «دهنش» منهما المراد، فتحول عندئذ غضب الملك كله نحو ذلك البحار المسكين، فلم يغادر صنفا من العذاب إلا عذبه به، فلما فتش فيه وجد نحو ألف حلقة ذهبية من العملة المصرية، وعدد كثير من أواني النبيذ بين ملأى وفوارغ، وكانت كذلك من صناعة المصريين، فجلت عندئذ التهمة وهالت وبولغ للرجل في التعذيب، ولكنه كان خائنا شريفا، فلم يزل مصرا على الجحود حتى قتل كخائن مرتش، وهكذا اشتريت ذمة الإنسان في الزمان الأول بالمال محمولا من أحد طرفي الأرض إلى الطرف الآخر.
إلا أن بريد الجزيرة كان لا يزال يرد كالعادة منبئا باستمرار استقامة الأحوال هنالك، ومبشرا بمصير صحة الأميرة من حسن إلى أحسن، فكان الملك يطمئن بهذه الأخبار بعض الاطمئنان، ويتكل فيما سوى ذلك على السفن العديدة التي كان بادر من تخوفه فبثها في مداخل المحيط ومخارجه، لتحمي الموارد والمصادر، وتكون بالمرصاد لكل فلك عابر، قادم أو مسافر. ثم على مستيقظة الجنود الساهرة، كذلك للمراقبة على الحدود بين مملكته وبين الهند الغربية من جهة، وبين الأولى والصين من جهة أخرى، حتى إذا كان ما بعد النصف من العام السابع موعد الإياب، وأوان تشريف ذاك الركاب، أسرع الملك يستعد لاستقدام الأميرة، ويهتم لها بأمر ترحيلها من الجزيرة ، فاختار لهذا الشأن الجليل، أسطولا من أحسن الأساطيل، ثم انتقى له أخاير الرجال، من بين صفوف البحارة الأبطال، وشحنه بعد ذلك بالذخائر والمهمات، وما يستلزمه حسن الدفاع من العدد والآلات، حتى تم أمره واكتمل، وصار صالحا للعمل، ولم يبق غير انتخاب القائد الذي يحقق الأمل.
وكان لعذراء الهند قريب من خيرة أمراء العائلة يدعى ثرثر، وكان ابن أحد الملوك المستظلين تحت لواء «دهنش»، وكان ثرثر يحب الأميرة حبا شديدا، ويؤانس من والدها الملك الارتياح لمصاهرته، ويطمع منه بالقبول التام إن هو خطبها إليه، نظرا من جهة لما كان له من المكانة الخاصة في الحب عند الملك، ومن جهة أخرى لكون نسبه العالي يرشحه لهذا الشرف الرفيع، ويجعل له التفضيل على الجميع.
وكان حب ثرثر لعذراء الهند صادقا ثابتا جنونيا إلى حد أنه لم يتأثر مثقال ذرة بسوء حال الفتاة، ولا بما شاع وذاع وطرق جميع الأسماع من غرامها الهوسي ب «آشيم»، وغضب الملك عليها بسبب ذلك، ونفيه إياها إلى مكان بعيد، كما أنه لم يسله بعد الأميرة عن عينه كل هاتيك السنين بجزيرة العذارى.
অজানা পৃষ্ঠা
وإذا كان الملك مطلعا على سرائر الفتى في الحب من أول يوم، واقفا تمام الوقوف على حركات هذا الغرام وسكناته في كل تلك المدة، فقد رأى أن يغتنم فرصة قرب عود الأميرة، ليظهر له ما طالما عقد عليه النية من تشريفه بالمصاهرة، فطلبه من أبيه ثم سلمه أزمة الأسطول، ووعده أنه إن عاد بعذراء الهند سالمة، زوجه بها قادمة، بحيث تكون الليلة الأربعون، من عودها الميمون، ليلة الزفاف والمهرجان، التي يتم له فيها بالحبيبة القران، فقبل ثرثر الأرض وبالغ للملك في الخطاب حامدا شاكرا، ومحدثا بالنعمة وذاكرا، واستأذن بعد ذلك في السفر، فأذن له فخرج فقبض من فوره على أزمة الأسطول، وكان مؤلفا من سبع سفن كبار، ومن ثامنة فيها المهمات والذخائر، وعليها الأدلاء العارفون بمداخل هاتيك الجزائر، ثم صدرت الإشارة للأسطول بالإقلاع، فتحرك فاندفع يشق العباب والتيار، وهو يقف بالليل وينساب بالنهار، إلى أن شارف في اليوم العاشر أرخبيل الجزر الأبكار، وكان الظلام قد هجم يحول دون الاستمرار، فلم تجد السفن بدا من الإرساء والانتظار، فلوت على أول جزيرة منه فألقت عصا التسيار.
الفصل الرابع
عود للصاحبين في الغابة
لما فرغ الشيخ من خطاب الببغاء، التفت إلى الفتى فقال: لم يبق إلا أن ننظر في الخروج يا «هاموس». قال: فليكن ذا يا مولاي. قال: ولكني لا أحب أن نكون لتيحو وبوقو كلبي صيد نصبر على فضلاتهما، ولا نخرج عن مدى خطواتهما، بل أحب أن نبني مثل بنائهما، فإن المجد في الدنيا اجتهاد، وإن الكريم إذا ورث شيئا أضاف عليه من عنده وزاد. قال: وما وراء هذه المقدمات يا مولاي؟ فتبسم الشيخ ضاحكا ثم قال: أريد يا بني أننا نحذو حذو ذينك البطلين، فكما أن الأول أنشأ طريقا؛ تلك التي جئنا منها، وكما أن الثاني اكتشف لرجوعه طريق الغابات الثلاث نحو الشمال، فخرج منه آيبا إلى وطنه الصين، كذلك أصبح دينا علينا نحن المقتفين لآثارهما أن نبحث لنا عن طريق نخرج منه لا يكون هذا ولا ذاك، ليبقى أثرا طيبا بعدنا، وبرهانا ساطعا على إقدام المصريين. قال: وإني لا أكره يا مولاي أن أكون من العاملين النافعين. قال: إذن فاتبعني. ثم إنه نظر إلى اتجاه منقار الببغاء، وكان موليه شطر المشرق، فتعين عنده الشمال الشرقي، فسار والفتى يتبعه حتى خرجا من غابة الببغاء الأسود، فإذا هما على أرض ذات شجر ونبات، لا تخرج عن صفات ما مر عليهما من الغابات، إلا أنها عطل من الحيوانات نقية من الحشرات، فمشيا فيها بقية نهارهما حتى جاء الليل، فأبرز الفتى الشريط ليوقده كالعادة، فمنعه الشيخ قائلا: إن النور كما يهديك يهدي إليك، وإن الخمول خير ما ارتدى الجاهل المجهول، فلا تظهر يا بني الساكن الغاب قبل أن يظهر لك، واحتجب فإن تسعة أعشار الهيبة في الحجاب.
وفي الحقيقة ما أتم الشيخ كلامه حتى أخذت سماء الغاب تتنكر لناظرها، وتتدجى قليلا قليلا، فإذا هي كتلة هائلة سوداء قائمة في الهواء ، ثم إذا بهذه الكتلة تهبط بمقدار حتى انكفأت على الأرض فتركتها بغير قرار، فقال الشيخ عندئذ للفتى همسا: لا يلبث هذا الصخر الهابط أن ينام النومة التي ما بعدها قيام. قال: لعلك تريد قتله يا مولاي؟ قال: ولم لا وليس هو - إن صدق زعمي - إلا غواص المحيط الأكبر فبطنه المحيط الأصغر، الحامل لمدهشات الجوهر، وإن لنا لجولة فيه نعلم بها ما يخفيه. وكان الطائر في أثناء ذلك قد نام وعلا له شخير شديد كادت له الغابة أن تميد.
فبادر الشيخ إليه بآنية صغيرة فيها شيء من السوائل، فلم يزل يصب منها في منقاره المنفغر، حتى مال رأسه وانطبق فمه وارتخى جناحاه، ثم انقض يخب على الأرض، فالتفت الشيخ إلى «هاموس» وكان خلفه قائما ينظر. فقال له: الآن نشرع في العمل، فخذ لك سكينا وساعدني على فتح هذا البطن الجسام، فجرد الفتى سكينه وانكبا على العمل، فما زالا يعالجان ذاك البطن حتى انفتح، فإذا هو كالشكول أو كبطن النعام يحتوي على المعدن وغير المعدن، ويحمل ما يهضم من الأشياء وما لا يهضم، فأنزلا كل ذلك إلى الأرض ثم ابتدراه بالأيدي يقلبان ويفتشان، فعثرا بين تلك المواد على شيء كثير من الحجارة المختلفة المقامات، المتفاوتة الدرجات.
وكان الفتى يغسل والشيخ ينقد فإما إلى الخزانة وإما إلى الأرض حتى حصلا على كنز من أنفس الكنوز، ولم يكن بقي سوى الفضلات، فنهضا للرواح، ولكنهما ما هما حتى عادت السماء فتنكرت ثانية، وشوهدت تلك الظواهر بعينها، فصاح الشيخ حينئذ بالفتى قائلا: هذا الذكر يتنزل يا «هاموس» فاستل أكبر خناجرك وأمضاها، وقف بجانبي، فإذا رأيته وقد مست مخالبه الأرض وجناحاه مبسوطان من قوة الهبوط يخفقان، فاطعنه تحت أحدهما، وخل الآخر، فإني ممكن منه خنجري قبل أن يتمكن من النظر إلى رفيقه، ورؤية ما حل به، فيهيج فنقع معه في حرب وكرب.
وما فاه الشيخ بهذه الكلمات حتى بلغ الطائر الأرض، فما كاد يطمئن بحيزه العظيم منها حتى سأل الشيخ الفتى: كيف طعنتك يا «هاموس»؟ قال: من المذيبات الحديد يا مولاي. قال: إذن فتقدم؛ فقد هلك هذا الآخر أيضا وآل إلينا كنز جديد، ثم إنهما انبريا يفعلان به كفعلهما بالأول، فبينما الفتى يلتقط وينقي ثم يناول الشيخ وهذا يأخذ، أو ينبذ، دفع إليه «هاموس» بلؤلؤة صفراء بلمعان الذهب، ولها شكل البيضة الصغيرة وحجمها، فحين وقع نظره عليها لم يتمالك من فرحه أن صرخ قائلا: أتدري قدر ما ناولتني يا «هاموس»؟ قال: وما عساي ناولتك مما فات التفاتي قدره يا مولاي. قال: يتيمة الصين المحتجبة منذ آلاف السنين. قال: وأين كانت قبل طول احتجابها؟ قال: في صدور الملوك والسلاطين، يحملونها فتكسو وجوههم أزين اللون وأجمله. كما أنها تكسب الثياب لمعانا لطيفا، فإذا رأيتها حسبتها مزرة على النجم الساطع، وكذلك هي تداوي من عشق الحسان، فإذا حملها إنسان، وكان مصابا بهذا الداء القتال، انصرف عنه مع الزمن وزال، فكأنما يتسلى بجمال، عن جمال، ويتعوض باشتغال، عن اشتغال، ويزعمون أيضا أنها كانت حجاب هيبة وجلال، وسعادة وإقبال، لبيت من البيوت المالكة في الصين قديم خال، فلما فقدت أخذ ملك الصين في الاضمحلال، ووقعت البلاد من ذلك الحين في شر حال. فأنا لو حملتها اليوم إلى ملك الصين لأعطاني بها الجبال الشم من المال. فإن استزدت شاطرني ملكه الواسع مرتاحا غير قال. فمرحبا بك يا يتيمة الصين، وأهلا وسهلا بهذا الحباء السماوي الثمين، ثم إنه لف الدرة بصيانة، ووضعها في جانب خاص من الخزانة، ونهض بعد ذلك فسار، ومشى الفتى يحمد مع شيخه الأسفار، وقد ثبت عنده أنها خير الحبائل لصيد محاسن الصدف، واقتناص عجائب الأقدار، إلى أن راح الليل وجاء النهار، وإذا الغابة خالية الجو لهما صفر من الوحوش والأطيار. فاستمرا في سيرهما آمنين ناشطي الأقدام، فقضيا نهارهما ذاك في طعام ومدام، ومشي وكلام، حتى وافى الظلام، فقابلاه على ذلك الغاب الأمين بطيب المنام.
فلما أصبح الصبح انتبها من رقادهما، وكانت الغابة قد أخذت تتبدى لهما في مظاهر غير تلك المظاهر، وتتبدل أمامهما مناظر من مناظر؛ فأدرك الشيخ حينئذ أنهما يفدان على غابة جديدة، فنبه الفتى لذلك ثم قال: لم يبق ما لم نصادف غير النمر، مع كونه حيوان الناحية، وطامة الهند والداهية. قال: لعل هذه غابته يا مولاي؟ قال: لعلها يا «هاموس». وإني أكاد أحس سره في المكان. قال: وهب أنها غابته، وأنه خرج إلينا، فبماذا نحن ملاقوه يا مولاي؟ قال: بالخناجر الماضية يا «هاموس».
وبينما هما كذلك في ذكر النمر يتوقعان ظهوره، تقضى الشيخ نظره الحديد، فرأى حيوانين صغيري الحجم أسودين يقبلان من جوف الغابة؛ فأشار للفتى أن يستعد قائلا: هذا هو النمر الرهيب يا «هاموس»، لقب بذلك لأن النمورة على اختلاف أنواعها وأجرامها ترهبه على قلة حجمه، وتجفل عن لقائه، ولا تملك لمفاصلها شدا أمام نظراته الجاذبة المؤثرة، ولا أحسب هذين إلا ذكرا وأنثى فتكفل أنت بأصغرهما. وهي الأنثى، وخل لي الآخر، والآن دعني أطعنهما بالرعب قبل طعن الخناجر.
অজানা পৃষ্ঠা