واستمر الموكب كذلك سائرا بين شعب بأسره، على قدم الإخلاص في سره وجهره، لأميره الساعي في خيره، حتى بلغ دار الإمارة، وهناك أطلقت السجناء، ووزعت الصدقات على الفقراء، وقام «آشيم» بعد ذلك في ركن الإمارة، فاستقبل وفود المهنئين حتى إذا انقضت هذه الحفلة أيضا، انتقل الأمير والأميرة إلى غرفة مجاورة، فأقاما يتلقيان التحف والهدايا، وهي تقدم بين أيديهما بكثرة، وتزلف من كل صناعة وكل صانع، حتى ضاقت الحضرة عما حضر.
وكان في أخريات المهدين رجل متلثم، فلما لم يبق من لم يتقدم سواه، دنا فرفع إلى الأميرة درة اهتزت لها الفتاة، والتفت الناظرون ثم أسرع فناول الأمير مرآة صغيرة، نظر فيها فرأى صورته، وهو محمول على تابوت يخرج من قصر أبيه الملك بطيبة، فارتاع «آشيم» لهذا المنظر المشئوم ودفع بالمرآة إلى عذراء الهند قائلا: خذي يا عزيزتي فانظري هذا المضحك المبكي، فأخذت الفتاة فنظرت فلم تر شيئا فردتها إليه قائلة: وما فيها يا مولاي؟ إني لا أرى شيئا، فأعاد الأمير نظرا فرأى، ثم أعاد نظرا فرأى، وانقطعت بعد ذلك الرؤية، فصارت المرآة بغير صورة، فهدأ حينئذ روع الأمير، وراح يتهم أعصابه بالاضطراب طورا، ويظن بالمرآة السحر تارة، ثم التمس العروسان المهدي ليشكراه فلم يجداه، فسألا عن أمره، فلم يجدهما السؤال، حتى كأن السقف انفتح للرجل فصعد أو أن الأرض انشقت له فاختفى.
ومرت هذه الحادثة منسية بين ذلك الصفو الموفور، وبين كثرة أسباب الأنس والسرور، بل لم يكن اليوم التالي حتى أرسل الملك إلى «آشيم» يستقدمه هو وعذراء الهند، فلم يجد الأمير بدا من التلبية، فترك منفيس في أعيادها، تمرح هانئة محتفلة، ورحل إلى العاصمة، مستصحبا خطيبته الكريمة تشيعهما القلوب، أو هي في رحالهما التي ليس فيها إلا محب ومحبوب، فسار الموكب كذلك يؤم مدينة شمس القوية، إلا أنه لم يكد يجتاز أبوابها حتى تقدم رجل من أفراد الرعية التي كان الأمير عودها رفع كل حجاب، فقبل الركاب، ثم رفع إلى «آشيم» طائرا صغيرا أسود واشتهى عليه أن يحمله لحظة على بطن راحته فأجابه الأمير إلى التماسه، وأخذ الطائر فتساقط على الفور منه ريش، فاستغرب «آشيم» الأمر والتفت إلى الرجل كالمستفهم، فكان جوابه أتدري يا مولاي ما يقول الببغاء؟ قال: وما عساه يقول؟ قال: إنه يا مولاي يكره لك أن تسير إلى طيبة، فأغضب الأمير الذي رأى وسمع، فرمى بالطائر في وجه الرجل قائلا: ولكني أسير إلى أبي بالرغم من سحركم يا محتالي الكهنة، فانصرف الرجل من حضرته منهورا خائبا، واستمر الركاب سائرا فلندعه الآن في الطريق نحو طيبة، ولنختم هذا الباب بذكر ما كان من أمر ذلك العجيب بعد رواحه عن وجه «آشيم»، فنقول: أخذ الرجل أول طريق صادفه كأنه ابن سبيل، أو هو من أهل الهيام فلا وجهة ولا دليل، وفي الواقع فإن «طوس» كان قد أوحشه ابنه وواحده «هاموس»، وندم على ما كان من سوء تصرفه معه، فلما لاقى من عناد الأمير وعماه وصممه ذاك الذي لاقى حزن حزنا كبيرا، وإذ كان من شأن الأحزان، إماتة الحقد والأضغان، تذكر الرجل ابنه فتاق، والذكرى مجلبة الأشواق، فحلف لا رجع إلى مغناه، أو يرجع إليه فتاه، ثم اندفع بهذه النية يهيم في البوادي والقفار، حتى قطع معظم النهار، وقد عقد العزم على الاستمرار، لولا أنه استمع بأنين، كاد يطير له فؤاده الحزين، فوقف يبعث بالنظرات إلى جميع الجهات، فلاح له من جانب الصوت، شخص بين الحياة والموت ، فقصد نحوه حتى بلغه، فإذا هو فتى مجروح يحاول القيام، فلا تطاوعه الأقدام، فسأله «طوس» قائلا: من الفتى؟ وما شكواك؟ قال: غريب يا مولاي، جرحني اللصوص وأنا ماض في سبيلي أقصد إلى طيبة، فدنا «طوس» وكشف عن جرح الفتى، وكان موضعه الخاصرة اليمنى، فتأمله وجسه. ثم قال وقد أخذته من حال الغلام رأفة: لا خطر عليك يا بني من هذا الجرح الذي لولا نزول الخنجر بهذه المنطقة أولا لكان القاضي لا محالة.
ثم إنه صب على الجرح شيئا من ماء شربه، ورشه بمسحوق من عنده، وربطه بعد ذلك رباطا محكما، ثم أخذ بيد الغلام، فنهض قادرا على القيام. فقال له «طوس»: الآن يمكنك يا بني أن تستأنف المسير إلى طيبة، وإن لك إليها لطرقا ثلاثة أدلك عليها، ووصفها له جميعا ليختار، ثم ودعه مشكورا وسار، وقد بدا يبني على الحادثة الظنون، فكان يقول في نفسه: غريب مجروح جرحه اللصوص، وهو ماض في سبيله يقصد طيبة، ما هذا الكلام؟ بل ما هذه الأحلام؟ أين علومك يا «طوس»؟ أين اقتدارك؟ أين نجومك؟ أين أنظارك؟ هل سلبت كل ذلك النور، جزاء استعلائك والغرور؟ أم هو المقدور، بنحسك يدور؟
وظل الشيخ سائرا على تلك الحال بين تراكم أوجال، وتعاظم بلبال، وهموم من كل نوع تنهال، وهو من مجموع ذلك في أسر رؤيا مزعجة مسيئة لم ينتبه منها إلا على ريش الببغاء المتساقط على كتفيه، فعندئذ استقبل السماء فقال: يا من نموت ولا يموت، ومن له وحده الثبوت، يا من لا أول لعلمه ولا آخر، ومن إليه الأوائل ثم إليه الأواخر، زنيت في العمر مرة، والزناء سبة ومعرة، وأذى لخلقك ومضرة، فامح بعظيم عفوك ذنبي العظيم، واغفر لي ولأم «هاموس»، إنك أنت الغفور الرحيم.
ثم إن الشيخ تقدم خطوات في ذلك الفضاء، وكانت الظلماء قد ملكت جهات البيداء، وأضفت حلتها السوداء، على مناكب الغبراء، حتى استعد الأحياء لليلة ليلاء، وحتى قال كل راء (المتقارب):
ظلام أناخ بلا كوكب
ينير ولا بارق يلمع
سل الليل هل أضمر الغدر أم
لأمر سوى الغدر يجمع
অজানা পৃষ্ঠা