فلم يكن من حيلة البنات ساعتئذ إلا أن تهافتن على الكاهن يجاذبنه ثيابه من الفزع، ولو استطعن لدخلن فيها، فإذا هو كإحداهن طيران فؤاد وارتخاء مفاصل، لا يملك لهن ولا لنفسه عصمة من الخوف، فنحن تاركوه والبنات على هاته الحال، لننظر فيما كان يجري مما أطار طائر النمورة، فنقول: كانت السفينتان قد وصلتا الجزيرة بعد يومي مسير، وبعد عناء كبير وجهد كثير، تقلان جماعة الصيادين، وأصحابهم الأربعة الملاحين. فلما رستا وكان زئير النمور قد دوى في آذان القوم، وغبار هجومها قد سد الفضاء في وجوههم، لم يتمالك الهنود من صيادين وبحارة أن وقعوا في مثل ما تركنا البنات عليه، من خوف مانع للفكاك، ورعب مفقد للحراك، وبالجملة وقعوا من الفزع في أضيق من الشراك.
وإذا رأى الرئيس ما حل برجاله، إلا أصحابه المصريين الذين ثبتوا حافظين لوعيهم أمام هذا البلاء المحدق، عمد لجرابه فأخرج منه ست بيضات من الحجر من طبخ يده، شديدة التوقد، قوية اللمعان، تحسبها نارا وليست من النار في شيء، فمسك اثنتين منها في يديه، وجعل ينقلهما من يد إلى أخرى بسرعة غريبة، بحيث كانتا تتعددان في رأي العين. ثم قال لصاحبيه «هاموس» وبلباص: خذا هذه البيضات الأربع فاصنعا بها كما أصنع، وانزلا بنا إلى البر غير حاسبين لكلاب الهند هذه حسابا. فبدر الثلاثة إلى البر يلعبون بالبيضات في وجوه الوحوش وهي تستأخر بين أيديهم، وتتقهقر أمامهم. وكان الرئيس كلما قابل واحدا منها نظر إليه نظرة منوم مقتدر، فتركه مكانه مأخوذا مسحورا، وهكذا حتى أتى على النمور جميعا فكنت إذا رأيتها حسبتها لوحا متقنا بديعا.
ثم صاح بالهنود انزلوا أيها الأصحاب فانظروا ما أصاب هذه الكلاب، فنزل الهنود في الحال مكثري التعجب مما يرون، خصوصا بحارة الأسطول؛ إذ كانوا يستغربون الحادثة، ويكلمون فيها الصيادين فيقول هؤلاء لهم: ليس ما ترون إلا من لعب الرئيس، وإلا فإن له في حال الجد جراب سحر لا ينفد، وكنز علم لا يفنى. كيف لا وهو الشقي «طوس» الذي لا يعرف الغنى من لا يخدمه، ولا يدري السعد من لا يلزمه، والجواد الغني الذي فوق أنعم الملوك أنعمه، وحسبكم أنه استخدمنا نحن صعاليك الصيادين في هذه المهمة التي لا تستغرق أكثر من سنة وفقدنا سلفا جزاء إتمام هذه الخدمة خمسمائة ألف حلقة ذهبية من العملة المصرية، هذا عدا الزاد والثياب والنبيذ الغالي الذي نشربه بغير حساب، وإنه لمال لا يتسنى لملك من ملوك العصر دفعه، ولو أنه «رمسيس الثاني سيزوستريس» ملك مصر.
ثم إن الرئيس تقدم بين رجاله متوغلا في الجزيرة يفتش عن مسكن الأميرة بها، إلا أن الظلام كان يعاكس بصره ويقف له بجداره الأسود دون المعالم والأشباح، فلم يكن منه إلا أن أخرج من الجراب أربعة عيدان صغيرة فأشعل أطرافها، ثم رمى بها في جوانب الفضاء الأربعة، ووقف بعد ذلك ينظر فبدا له من الجانب الأيسر شيء عال كالبنيان، فحول إليه مشيه موغلا في السير، وهو من وقت إلى آخر يقذف بواحد من العيدان المعهودة، فيضيء له دجى الليل حتى انكشف له القصر تماما، ولكنه لم يكد يبلغه حتى عاد فاحتجب تحت قبة من شبه الضباب الكثيف، فالتفت الرئيس عندئذ إلى رجاله متبسما يقول: لا يهلكم الأمر يا قوم؛ فإن عندي ما أمزق به هذه القبة الخيالية التي لا أحسبها إلا من عمل بعض كهنة الصين الدخيلين في العلم.
وفي الحال تناول من الجراب ربطة عصي كانت فيه، فدهنها بدهان من عنده وتربها بتراب أصفر من تركيبه أيضا، ثم أدناها من النار فاتقدت أطرافها فقذف بها تلك القبة الوهمية فتبددت للحين. واستمر القوم سائرين حتى وصلوا إلى القصر، وهنالك استقبل الرئيس الباب وقال بصوت عال تميد له الجبال: «يا من حاول أن يعمينا بسحره، عن قصره، فغلبناه على أمره. إن كنت كاهنا فانزل إلينا آمنا إني أنا «طوس»، ولي السعود والنحوس، المنتقم للنفوس، من طائفة القسوس، ولكني أكرمك لأجل من معك، فأطعني عسى الطاعة أن تنفعك.» فلم يكد «طوس» يستتم حتى فتح الباب، وأقبل الكاهن يمشي على عجل من الوجل انسياقا بجاذبية ذلك الاسم، كما تنساق الحملان بجاذبية بعض الثعابين الكبيرة، حتى صار بين يديه فانحنى، ثم خاطبه قائلا: الأمان يا أبا «هاموس» الأمان، فسأله الشيخ مستغربا: من أين لك أيها الكاهن عرفان كنيتي حتى دعوتني بهما، فاندفع الكاهن يقول (الرمل):
عرفتني بك يا «طوس» النجوم
مثلما أعلمتني هذا القدوم
إنما أنت قضاء واقع
قصرت عن رده مني العلوم
هذه الأفلاك سعدا جريها
অজানা পৃষ্ঠা