ثم إنه انبرى هائلا كالصخرة فجعل يهدر يمنة مرة ويسرة، ويبعث الزائرة، بعد الزائرة، والخنجر بيمينه يتوقد كالجمرة، حتى إذا ظهر الأسودان، وبان كلاهما للعيان، صرخ الشيخ قائلا: الق كلبتك يا «هاموس»، فطار الفتى نحو الأنثى، وابتدر هو لقاء الذكر فبلغه في وثبة، وكان كأنه الثعبان النافر، استجماعا وقياما يلحظ الشيخ شررا بعينيه تتدفقان جمرا، وبين فكيه جهنم الحمرا، وهو حنق ثائر يزأر زأرا، فما زال الشيخ به يزائره ويشابه ويداوره، حتى تمكن من ظهره، فأنشب فيه خنجره، فخر الحيوان على الأرض هدا، فتركه كذلك شيئا، ليس بالحي، ومشى سريعا نحو «هاموس» لينظر كيف حاله مع الأنثى، فإذا هو لا يزال معها في عنيف قتال. وقد ظهر على ساعديه الكلال، فأومأ إليه أن يكف فكف، وأخذ هو محله في الصف، وكانت الخبيثة قد وهنت قواها، وأوشكت أن يخذلها ساعداها، فلم يقتلها الشيخ، ولكن أسرها، فاستغرب «هاموس» فعله وسأله قائلا: ما نفعها يا مولاي حتى تكلفنا عناء سحبها وحبسها؟ قال: إننا سنطلقها يا «هاموس» إذا حققنا أن لها صغارا ينتظرون أوبتها انتظارا. قال: ومتى رئي أو سمع أن السباع تؤسر ثم تطلق؟ قال: ليس الجبن مني بهذا المكان حتى أرهب فريستي أو أهاب أسيري، وليست المروءة بضائعة عندي إلى هذا الحد حتى أظلم صغار هذا الحيوان (الخفيف):
إن تكن ظافرا فكنه برفق
فشجاع بغير رفق جبان
إن عندي لكل شيء تماما
وتمام الشجاعة الإحسان
ثم إنه سار يسوق أسيره بين يديه و«هاموس» خلفهما يكثر التعجب من الأمر حتى إذا قطعا مسافة عظيمة من الطريق شعر الشيخ بالنمرة تجاذبه الحبل بقوة نحو اليمين، فنبه «هاموس» لذلك ثم أطلقها، فإذا هي قد أخذت اليسار تعدو عدوا حتى توارت عن نظريهما فتركاها وشأنها واستمرا في سيرهما. فسأل «هاموس» عندئذ شيخه قائلا: ما بالها يا مولاي أخذت اليسار وقد كانت تجاذبك الحبل نحو اليمين؟ قال: إنها كانت تصرفنا عن مناخ صغارها، وهذا يا بني من غريب الحنان عند الحيوان؛ فالشفقة عنده مبصرة بقدر ما هي عمياء عند الإنسان.
وكان النهار قد فني أو كاد، ووجوه الغاب قد أخذت تتصور صورا جديدة، فصارت الأرض رملية صفراء، وكانت طينة سوداء، وتحول الشجر من الطول للقصر، وظهر في الصغر بعد مظهر الكبر، وأخذ يقل بعد الكثرة، ويتعوض عن لون الأخضر بالصفرة، وانكشفت لناظرها السماء، وسرى نسيم الدنيا في ذلك الفضاء، فالتفت الشيخ عندئذ يقول للفتى: لقد أوشكنا نستقبل سماء الدنيا يا «هاموس». ولو شئت وشاءت لك القوى فوافقتني على متابعة التقدم لأصبحنا وليس قدامنا إلا فضاء البحر طويله وعريضه. قال: هذا ما أبغي يا مولاي، فسر بنا على اسم السلامة.
ثم إنه أشعل الشريط وسار يتبع مولاه، ولكنهما ما كادا يحوزهما الفضاء حتى سمعا زئيرا يردد من بعيد، فتفرغ الفتى والتفت الشيخ فأجهد أذنيه، ورمى في فحمة الظلماء بشرر حدقتيه. ثم قال: تلك أسيرتنا التي مننا عليها بالإطلاق، قد زكا عندها المعروف، فأتت تحذرنا من محذور، وتنبئنا أن الطريق معمور. قال: وما عسى يا ترى أن يكون على هذه الأرض العراء؟ قال: ليكن ما هو كائن يا «هاموس»، فورأس «آشيم» لا تزعزعنا ولا تزحزحنا ولا امتنعنا عن السرى، ولا استرحنا أو نرى النهار طالعا. ثم إنه مد لقدمه الخطو يصل السرى، وتبعه «هاموس» مطيعا ممتثلا، فما زال يعتسفان في بوادي الظلام وبين جيوشه والخيام، حتى انتصف الليل فلم يدريا إلا بشيء هائل كالتل قد أقبل من بعد يسعى. فقال الشيخ عندئذ للفتى: عجل يا «هاموس» فأنل بطنك ظهر الأرض واعتنقها ثم لا تتحرك، وأنا أيضا فاعل ذلك، حتى نرى لنا مع هذا التل الزاحف أمرا.
وما هو إلا أن انطرح الرجلان بتلك الصورة على الأرض حتى مر بهما حيوان هائل الجثة في عرض الفيل الكبير وطول أربعة من الفيلة مقطورات، وهو يمر مر الريح، فيسيل بمزاحفه الغاب، وعلى بشرته الحجرية خلق لا يحصى من حشرات البر والبحر، وهو لا يحس منها بشيء ولا يستشعر لحملها ثقلا، حتى إذا صار بعيدا عنهما نهضا. فقال الشيخ ل «هاموس»: إن هذا الوحش بحري بري في آن، وهو لا شك قادم من البحر، ولعل له بيضا على هذا المكان، فهو يغشاه ليتعهد بيضه، ثم يعود إلى عالم الماء.
والآن إذ قد صرنا ولا مقصد لنا إلا البحر، فهذه خير فرصة تغتنم للاختصار من الزمن وتقريب المسافات؛ لأن ما نسيره نحن منها في أيام، يقطعه هذا الفلك البري في ساعات. قال: لعلك ترى لنا يا مولاي أن نمتطي ذاك الجبل المتحرك؟ قال: ولم لا وقد ساقته لنا السعادة مطية لم يركبها قبلنا أحد؟ قال: أنت يا مولاي كالقائد الجريء السعيد يراه الجند أولى بالطاعة، وإن ضرت منه بالمخالفة، وإن نفعت فاقض ما أنت قاض. فإشارتك مطاعة في كل مقترح. قال: إذن فاستعد لما أشرت به، فإذا رأيت الوحش وقد دنا منا عائدا من مبيته فثب فتعلق فاركب، ثم يكون لنا نظر في الطريق التي يأخذها نحو البحر، فإن كانت شمالية غربية بقينا على ظهره، وإلا نزلنا نمشي ولم نكن خاسرين.
অজানা পৃষ্ঠা