وكل هذه الأقسام التي ذكرناها من البيان لا تخلو من أن تكون ظاهرة جلية، أو باطنة خفية، وذلك لما دبره الله - عز وجل - في هذا من الحكمة والدلالة، لأنه جعل بعض خلائقه محتاجا إلى البعض، فالظاهر محتاج إلى الباطن، لأنه معنى له، والباطن محتاج إلى الظاهر لأنه دليل عليه، فكذلك سائر مصنوعات الله - عز وجل - محتاج بعضها إلى بعض ليعلم الإنسان أنه ليس يستغنى شيء بنفسه، ويقوم بذاته غير الله -عز وجل-، وكل ما سواه فإنما هو بغيره، ولو جعل الله - تبارك وتعالى - الأشياء كلها ظاهرة لتساوي الناس في العلم، ولم يتفاضلوا فيه، وفي تساوى الناس - حتى لا يكون فيهم [رؤساء] متبعون، وأتباع مطيعون - بوارهم؛ وقد قيل: لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا # وعلى ما قلناه دبرهم - سبحانه -، فقال في كتابه: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة} إلى آخر الآيات، فجعل علم آدم بما أظهره له وأخفاه عن ملائكته دليلا على فضله ورياسته، وأنه المستحق من بينهم ما أفضى به إليه من خلافته، لأن من حكمه ألا يسوي بين العالم وغيره، ولو سوى بين الملائكة وبينه في علم ما علمه إياه لم يكن هناك تفاضل يوجب له المنزلة التي جعلها له، ولو جعل - تقدست أسماؤه - الأسماء كلها خفية لم يكن إلى علم شيء سبيل، ولتساوى الناس في الجهل [لكنه] بحكمته ومتقن صنعه جعل بعضها ظاهرا مستغنيا بظهره عن طلبه، وبعضها باطنا يحتاج إلى إظهاره والفحص عنه، وجعل الظاهر دليلا على الباطن وسلما إليه، ولم يقنع من عباده بعلم الظاهر من الأشياء التي يعرفوا معانيه، وباطن تأويله، وذم من اقتصر على علم ظاهر الأمور دون بواطنها، وفي العلم عنهم فقال: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} وشبه من حمل التوراة حمل حفظ لظاهرها من غير تدبر لمعانيها بالحمار، فقال: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} وقال في ذم قوم: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما ياتهم تاويله} وقال: {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تاويل الأحاديث} وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - "نية المؤمن خير من عمله" والنية باطنة، والعمل ظاهر، ولذلك لم يقنع بعلم الباطن، # والعمل به دون الظاهر فقال: (إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وأعلمنا أن بالظاهر تقوم الحجة فقال: {قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول}، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأركان"، وقال "ليس الدين بالتجلي ولا بتمني ولكنه ما وقر في النفوس، وصدقته الأعمال" وذلك لأن النية مغيبة عنا، وليس يعلمها إلا الله - عز وجل - وصاحبها، وإنما يستدل عليها بالقول والعمل، ألا ترى أن الإنسان إنما تعرف حكمته الباطنة بما يظهر لنا من صحة قوله وإتقان عمله، وبين في العقل أنه لما كان الظاهر سببا إلى الباطن، وعلة لنيله والوصول إليه وجب أن يكون معلقا به، وغير منفصل عنه، وأن يكون ما يدرك من فضيلة العلم منسوبا إليهما لاشتراكهما في إيضاحه، فإن لعلة بالمعلول تدرك، والمعلول بالعلة يوجد، وأن لا يكون الأمر كما ظن قوم أرذلوا علم الظاهر وتركوا العمل به، وهم مع ذلك مقرون بأنه لا يصلون إلى علم الباطن، والإيضاح عن حقيقته إلا به، فجعلوا ما لا تدرك الحاجة إلا به غير محتاج إليه، وهذا هو المحال البين، ولو كان الأمر كما ظنوا لبطلت حقوق الناس، وتعطلت تجاراتهم، وفسدت معاملاتهم، وسقطت أخبارهم، لأنهم إنما يعملون في جميع ذلك على الظاهر دون الباطن، ووضوح هذا يغني عن الإطالة فيه.
পৃষ্ঠা ৬৪