أما الدراسات النفسية «السيكولوجية»، فقد أسرعت في اتخاذ طريقها إلى الأدب وإلى فن الرواية بصفة خاصة، فكاد كل بطل من أبطال الروايات أن يصبح نموذجا لدراسة نفسية، وذاع هذا الأسلوب الروائي من روسيا حيث كان يكتب دستيفسكي، إلى فرنسا حيث كان يكتب بورجيه، إلى النرويج حيث كان أبسن ينظم ملاحمه ومسرحياته.
ولم يبق نوع من الناس - آحادا وجماعات - إلا تناوله البحث من ناحية نفسية، فكتب العلماء والمفكرون والأدباء عن: نفسية المجرم، ونفسية الجماعة، ونفسية العبقري، ونفسية السادة والعبيد، وأعاد النقاد تحليل «الشخصيات الأدبية والفنية» على هذا النمط الحديث، وكانت الغريزة الجنسية أهم ما تناوله البحث، واقترن به تعليل الأخلاق والبواعث، بل تعليل الحركات الفنية والاجتماعية، وخرجت «المرأة» خاصة من هذه المشرحة بتكوين جديد يختلف فيه معنى الغواية، ومعنى الخطيئة، ومعنى الرذيلة عما كان عليه في «تكوينها» الذي عرفه أبناء العصور الوسطى، وأبناء العصور الغابرة على الإجمال.
ويمكن أن يقال إن النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كانا في مجال الدراسات النفسية عصر لمبروزو وأتباعه من جهة، وعصر فرويد وأتباعه من جهة أخرى، فأصبح للدوافع العقلية كالعبقرية، والدوافع الحيوية كالحب، تفسير غير تفسيرها في آراء الأقدمين. •••
وظهرت في هذه الفترة دعوات سياسية، أو دعوات اجتماعية، تنزع كلها إلى التحرير وتحطيم القيود، ولا سيما القيود التي تطلق «الفرد» من ربقة العرف، أو ربقة السادة المستأثرين بحقوق المجتمع ومزاياه.
ونحن في هذا العصر نفرق بين الدعوة إلى الشيوعية والدعوة إلى الحرية الفردية؛ لأنهما يتعارضان في تقدير حق الفرد بجانب حق الحكومة.
إلا أن الشيوعية نفسها كانت تحسب في أواسط القرن التاسع عشر من حركات الدعوة إلى الحرية الفردية وإنقاذ الآحاد من طغيان الجماعات؛ لأن خطوتها الأولى كانت تستلزم إنكار الامتيازات التي يستأثر بها أبناء بعض الطبقات، فهي تسوية بين آحاد وآحاد، واتجاه إلى المساواة العامة في الحقوق السياسية، يتلاحق فيه الفرد الوضيع والفرد الرفيع. •••
ومع اختلاف هذه الميادين - ميادين العلوم، وميادين الأخلاق، وميادين السياسة - كانت النزعات الغالبة عليها جميعا مما يتجه بالذهن الإنساني إلى وجهة واحدة، وهي إعادة النظر في القيم المسلمة على العموم.
ما قيمة الإنسان؟ ما قيمة العرف؟ ما قيمة السلطة؟ ما قيمة النظم القائمة؟ ما قيمة الحقوق المحترمة؟ ما قيمة البطل؟ ما قيمة المرأة؟ ما قيمة المصطلحات والمعارف والآراء؟
فاتسع في الجواب عن هذه الأسئلة مجال السخرية كما اتسع مجال الأمل، وعمت الرغبة في التجديد والابتداع حتى بلغت حد الإغراب والاصطناع.
وسيرى القراء أن برنارد شو لم يكن بعيدا من آثار هذه النزعات في أدبه وتفكيره، وقد تناول بهما مذاهب العلم والفن، كما تناول بهما مذاهب السياسة والأخلاق والاجتماع.
অজানা পৃষ্ঠা