ولذلك لا بد لي من الرجوع إلى المنزل، وإن طاب لنا ههنا المقام، فإن رمتم إتمام الجميل فأسعفونا بدليل يسلك بنا سواء السبيل، فإنا غرباء لأنا من التيه. - فقال «ڤكتور» متهيبا مترددا وجلا: إن شئت يا سيدتي كنت بنفسي لكم دليلا. - تلطفت وتفضلت ولكن يسوءني أن أزعجك في مثل هذه الساعة، وأجعل مدام «ديلار» - تريد زوجته - في قلق وبلبال، ففي رجل من خدامكم غناء. - إني أعرف الناس بمسالك هذه الناحية، وقد ألفت التنزه ليلا فلست أنزعج منه، أما زوجتي فلا تقلق ولا تخاف علي. - إن كان الأمر كذلك فقد رضيت بما قضيت، إنا نكون معك آمن منا مع سواك، ولسنا نروم التيه مرة ثانية في نواحيكم؛ فإن التائه لا يجد في كل حين ما وجدناه عندكم من حسن الضيافة، فما بقي إلا أن أستعيد ثوبي لنسير معا.
ولقد مر هذا الحديث كله بسمع «ماري» وهي صامتة لا تخرج عن حد ما يجب على ربة المنزل في هذه الحال، ولا تزيد على الإيماء أو الإشارة بما يناسب قول زوجها مما يفيد الرضى والقبول، ثم صحبت الباريسية إلى غرفتها لإعانتها على تبديل الثوب المستعار، وهي على حالها من السكون والاحتشام، لكنه كان من طي احتشامها ضرب من الجزع والنفور تشعر به وتغالب نفسها فيه، فإنها قد رأت المركيزة على حالة ممتازة لم ترها من قبل، وتأملت ما عليه من الرشاقة وما تعنى به من صغار أمور الزينة التي لا تخطر لها ببال، فقابلت بين نفسها وهذه المرأة الحسناء ذات البهجة والرواء، فتولاها الخجل والأسف، ثم قطعت المركيزة السكوت، وقالت على نية التحبب إلى «ماري»: هل لك يا سيدتي من ولد؟ - رزقت ولدين، وأنا حامل بالثالث. - أتم الله نعمته عليك، أما أنا فالغالب أني لا أرزق ولدا.
وتنهدت إثر هذا القول تنهد الآسف الآيس؛ فأجابتها «ماري»: لا تقنطي يا سيدتي من رحمة الله، فأنت صبية والله كريم منان.
وكان في هذا المقال من التوكل والإيمان، وعلى محيا «أوچيني» من سيماء الطهر وصفاء النية ما أثر في طبيعة المركيزة على كونها عسيرة الانفعال، فقالت: ما أحسن هذا التوكل وما أسعد هذه الحال!
ثم جاء الخادم يخبر الباريسية أنه قد استكمل الأهبة وشد على الخيل، فخرجت من الغرفة وودعت أهل المنزل متلطفة مبالغة في الشكر، ثم امتطت صهوة الجواد، وراضته على الرغم من الظلام حول الدرابزين، ثم أطلقته فجرى خببا، وسار على أثرها زوجها و«ڤكتور»، فلما غابت عن الأبصار قال الكافالير والد «ماري»: لو كنت في عمر العشرين لفتنت بهذه الحسناء. - فقال الكونت: لا بدع إن فتنت كثيرا من الناس، وأنشد معه لسان الحال قول من قال:
وحسناء تزري بالغزالة في الضحى
إذا برزت لم تبق يوما بها بها
لها مقلة نجلاء كحلاء خلقة
كأن أباها الظبي أو أمها مها
فقالت «ماري»: وما فائدتها من افتتان الناس بها وهي محصنة ذات بعل؟!
অজানা পৃষ্ঠা