فنظر فؤاد إليها نظرة توبيخ وقال: مهما دنت المرأة من الكمال النسائي ومهما تقدمت في العقل والتهذيب، تبقى على بعض أخلاق مختصة بالنساء؛ من مثل حب النكاية وجرح إحساسات الرجل. فإنك يا بديعة الحبيبة تعلمين بأنني لم أتركك إذ ذاك برغبة مني بل إتماما لرغائبك أنت، ولو علمت بأنه سيحدث ما حدث لفضلت أن أخسر علمي - حتى وحياتي - على أن أفقدك سعادة يوم من حياتك. وأرى بأن لتغير الأحوال تأثيرا عليك، وأنك سوف تضعين ذكر «المال» أمامك في كل أحاديثك. فإذا كان الأمر هكذا وكنت لا تنسين كل شيء، ما عدا أنني أنا ذلك الشاب الذي نظرته في مستشفى الفقراء في نيويورك، وأنك تلك الخادمة التي تعرفت عليها في بيروت؛ فاطرديني من أمام وجهك. قال هذا وتظاهر بأنه يروم الابتعاد عنها، فضحكت وقالت: اصبر يا فؤاد، فقد فاتك بأن في النساء عادة هي تفقد حبهن في قلوب الرجال دائما، وطبيعي فيهن استخراج مديح الرجال بذم نفوسهن، فدع الماضي حتى والمستقبل أيضا، ودعنا نتلذذ الآن بجمال هذه الطبيعة المحتفية بنا. اسمع اسمع! إنا نسر باستماع أصوات الطيور الجميلة. أما يلذ لك ويطربك صوت خرير الماء وحفيف أوراق الشجر. فكل هذه أنغام طبيعية سماوية، أين منها الألحان الاصطناعية وهي تذكرنا الآن بأن حبنا ابتدأ صادقا وطاهرا لا أثر للأثرة فيه، وهكذا يجب أن ينتهي. فاجلس ولا تفتكر بغير الحاضر، وانس الماضي حتى والمستقبل أيضا.
فأطاعها فؤاد وهو يقول: إنني أقدر على تناسي الحاضر، ولكنني شديد الافتكار بالمستقبل لأنني لا أتصور به غير السعادة، أعني أن سعادتي هي باجتماعي بك، وكل مصائب العالم لا تعد شيئا إذا كنت بالقرب مني، كما أن كل سعادة لا تكون شيئا بدونك. والشيء بالشيء يذكر؛ فأي متى تريدين أن يكون وقت اقتراننا يا بديعة؟
أجابت بديعة: إنك لا تطلب تعجيل هذا الأمر بعد يا فؤاد؛ لأن لوالدتي حقا بي، وأرى من واجباتي أن أخصص لها كل التفاتي وذاتي مدة أعوض عليها بها ما خسرته في الماضي.
وكان إذ ذاك جيش الظلام قد ابتدأ بالانهزام، وانبثق نور الفجر على الزهور الباسمة بقطرات الندى من ثغورها. فقدرت بديعة أن ترى وجه فؤاد المكفهر عند استماع جوابها، فقال: ليس هذا عذرا يا بديعة؛ لأن والدتك ستكون معنا دائما قبل اقتراننا وبعده، وهي لا شك ترضى باقتراننا العاجل. - إنني أترك الأمر لها ولك ولوالديك - قالت بديعة - وكما تحبون أجري.
الفصل الخامس والأربعون
العرس
وفي اليوم الثاني كانت بديعة مع والدتها تودع فؤادا ووالديه على محطة القطار. وبعد هنيهة جرى ذلك القطار مقلا فؤادا بدون قلب، إلا إذا جاز أن نسمي قلب بديعة قلبه.
وشاع الخبر بمدينة دمشق الشام بقرب موعد اقتران بديعة الفتاة الجميلة الغنية المهذبة بفؤاد الشاب المناسب لها.
وبهذا الاقتران اسودت وجوه وابيضت وجوه، وصرمت حبال آمال كثيرين من الشبان والبنات في المدينتين.
واجتهد والدو العريسين بجعل العرس بهجة ذلك العام. أما العريسان نفساهما فلم يكترثا لهذا الأمر كثيرا، ويستدل على هذا من قول بديعة لفؤاد مرة: لو لم يكن حبنا العظيم يشدد ربط الزواج المقدس، هل كانت كل هذه الفخفخة تسرنا يا ترى؟
অজানা পৃষ্ঠা