24

وقف الركب، والتفت الناس نحو الصائحين وهم على أكوار الإبل فإذا هم يتبينون في فترة الصباح ثلاثة أشباح تنحدر عن قمة الجبل حيث قامت الكنيسة، وتتراكض بين النخيل القائم على السفح تراكض الظلمان المستنفرة تبتغي ساحة الركب بأدنى سفحه. حتى إذا دنت لاح أنها أشباح ثلاثة من الشمامسة جاءوا لينهوا إلى الركب بخبر. فأخذ الناس في عجبهم يتساءلون ماذا جرى؟ لماذا يقفهم أهل الكنيسة عن الترحال بعدما توجهوا واعتزموا الرحيل؟ وفي ذلك ما فيه من سوء الطالع وشر النذير، ولكنهم لم يلبثوا في عجبهم طويلا فقد بلغ المجلي

5

من أولئك الشمامسة ساحة العير، واستطاع أن ينهى إليهم وهو يلهث من شدة الركض، أن مولاه ابن الحارث

6

أسقف نجران المعظم يأمرهم بالعودة إلى المضارب حتى يسافر معهم في الغد، وأنه يريد لقاء سلمان المنادي.

تذمر الركب لهذا الأمر على اختلاف من فيه أيما تذمر حتى المنادي حتى الحداة والسائقون، وغالبهم من نصارى نجران أتباع الأسقف نفسه وملتمسي بركته وفضله، ولكنهم لم يملكوا إلا أن يطيعوا كارهين، ويأخذوا بمقاود الجمال لينيخوها غاضبين، واستشعرت البعران سورة الغضب من أصوات قادتها، وشدة أخذهم بزمامها فعجت ذعرا، ولغبت استشفاعا، ثم بركت في النهاية طوعا للصوت والإشارة.

وكان الذين في الركب من تجار مكة ويهود صنعاء أشد حنقا وغضبا؛ لأنهم كانوا يحملون في القافلة أكداسا من بضاعة الأعياد، فكل يوم يقضونه انتظارا أو تلوما يذهب بالكثير مما أملوا من الكسب في تجارتهم، ولذلك عارضوا في الانتظار، وأمروا رجالهم بالمسير، ولكن الرجال أبوا أن يخذلوا أسقفهم الكريم، وأدرك العير أن لا بد لهم من الأناخة فشرعوا في ذلك وهم محنقون، ونفس أحد اليهود عن صدره وخاطب الشماس: أما كان مولاك الأسقف يعلم أن القافلة تسير اليوم! وأن الناس تاركون فراشهم في السحر! ليدركوا ساحة الركب ويتحملوا! لماذا لم يعلن العير برغبته هذه في أصيل الأمس أو عشيته، ويتركنا في مضاربنا ، ولا يكلفنا هذا العناء الكبير!

فلم يحر الشماس المخاطب جوابا، ولكن أحد الاثنين الآخرين تصدى من عنده بجواب لفقه في غير وعيه مما عنده من الأخبار التي كان يحرص أهل الكنيسة ألا تذاع إلا في أيام الصلاة العامة على لسان الأسقف وحده، ولذلك عاقبه الأسقف بعد يومه على ما قال؛ إذ خشي أن يتهمه اليهود بسوء. قال الشماس: وردت إلى مولانا رسالة من أسقف بني تغلب يدعوه للقدوم على عجل إلى ديار ربيعة؛ ليتذاكرا هناك فيما وقع بالشام من الأحداث.

فضحك اليهودي لهذا الجواب هازئا وسأله متهكما: خبرني بربك متى جاءت هذه الرسالة إلى مولاك الأسقف! ومتى جاء الرسول! أفي موهن الليل مع روح القدس! أم في السحر على جناح العقاب!

لم تخف لهجة التهكم على الشماس، ولكنه ما كان يستطيع أن يجابه اليهودي بمثلها، فقد كان اليهود حكام اليمن وولاة الشريعة فيها من قبل الأكاسرة، وكان مخاطبه لكثرة أسفاره معروفا في ديار نجران بما له من عريض الجاه في صنعاء. فصمت كما صمت الأول، وتدارى عن الجمع في جبانة، وسار عائدا إلى الكنيسة يتبعه صاحباه وسلمان، وقال أحد تجار مكة وهو ينزل عن راحلته غاضبا: أما والعزى وربها لأرفعن الأمر إلى بني عبد الدار

অজানা পৃষ্ঠা