الطبيب المجيد هو الذي يراجع تشخيصه للمرض إذا وجد أن الدواء لم يفلح، والعالم المجيد هو الذي يراجع النظرية العلمية إذا وجد أنها لا تفسر الظواهر التي يريد تفسيرها، وكذلك رجل التربية المجيد هو الذي يغير رأيه في قواعد التربية إذا وجد أن ظروف الحياة قد تغيرت؛ وقد تغيرت الظروف في أمريكا من حيث إن الفرق الرياضية أصبحت فرقا لتسلية الجمهور؛ فعلى هذا الأساس الجديد ينبغي أن نعيد إليها النظر. •••
تقع بين محاضرتي ساعة من فراغ، قضيتها في نادي الأساتذة أشرب فنجانا من القهوة، فلما كنت في طريقي إلى هناك، قابلت الدكتور «ف. ب» هذا العالم الجليل الشيخ الذي كان رئيسا لقسم الفلسفة ثم تقاعد، وهو يحضر لي محاضراتي بغير تخلف، قابلته في طريقي إلى نادي الأساتذة، فدعوته أن يحتسي معي فنجانا من القهوة ... وكان بين ما قاله لي ونحن جالسان في النادي: إننا نحن الأمريكيين نعيش تحت ضغط فكري لم نشهد له مثيلا؛ إن رجلا واحدا مثل ماكارثي بمحاكماته وتحقيقاته قد أحدث فينا جميعا نوعا من الرعب والفزع، فأصبح كل إنسان منا جبانا في تفكيره السياسي، فلا يجرؤ أحد مثلا أن ينطق بكلمة عن الشيوعية؛ ثم مضى الدكتور الفيلسوف يوجه النقد المر للحالة الفكرية التي تسود أمريكا، ووصفها بالتفاهة والسطحية، قال: إن نفسي لتموع كل صباح حين أقرأ الصحيفة اليومية، تموع نفسي مما أرى في الصحيفة من تفاهات وسخافات ... ثم أشار إلى صحيفة في يده، وكان في صدرها عنوان بالخط الكبير، وهو: «لنعد إلى الله، هكذا يقول أيزنهاور» (وهي عبارة وردت في خطبة ألقاها أيزنهاور أمس)، قال الدكتور: انظر مثلا إلى هذا العنوان «لنعد إلى الله، هكذا يقول أيزنهاور» وحللها تجد سخف العقل كامنا وراءها، فهل نعود إلى الله لأن أيزنهاور يقول لنا ذلك؟ هل ترجح كفة الإيمان بالله؛ لأن أيزنهاور قد آمن؟ أم ماذا يريد هذا الصحفي الذي نشر عنوانا ضخما كهذا يستوقف به الأنظار؟ بل ماذا يريد أيزنهاور نفسه بعبارة كهذه يسوقها في خطاب سياسي؟ أهو حاكم أم قسيس واعظ؟ أم أن الأمر كله تهريج في تهريج؟!
وقلت للدكتور «ف. ب» في مناسبة أخرى من سياق حديثنا: إنني أزداد إيمانا بأن المرأة أقوى من الرجل شخصية مهما بدا من الظواهر التي تدل على غير ذلك، وبرهاني هو : افرض أن رجلا وامرأة يحب أحدهما الآخر بقدر متساو، ثم اختلفا على أمر، أليس الأرجح جدا أن يذعن الرجل آخر الأمر للمرأة في رأيها؟ فقال الدكتور ضاحكا: حدث منذ قريب أن اختلفت مع زوجتي على لون السجادة التي نشتريها: هي تريدها خضراء، وأنا أريدها حمراء، واشتد الخلاف بيننا واحتد العناد رغم تفاهة الموضوع، فلما رأيت الأمر بيني وبينها يسير من سيئ إلى أسوأ؛ وافقتها على اللون الأخضر، وسميت تصرفي هذا عندئذ «توفيقا بين وجهتي النظر» مع أنه لا توفيق هناك، فهزيمتي صريحة ونصرها قاطع.
السبت 27 فبراير
يوم مشمس جميل، جلست ساعة الضحى مع شاب أمريكي في مقصف نادي الاتحاد، فأنبأني بأنهم افتقدوني ليلة أمس في الاجتماع الأسبوعي الذي ينعقد في منزل الدكتور «ف. ب»؛ فأسفت لذلك أسفا شديدا؛ لأني نسيت الموعد، فلم يكن أحب إلي من هذا الاجتماع بما يسوده من دفء العاطفة وارتفاع التفكير ... سألته: وماذا كان موضوع المناقشة ليلة أمس؟ فقال: قرأ علينا أستاذ الاجتماع بحثا في ضرر الموجة الماكارثية التي تطغى على البلاد الآن وتهدد حرية الرأي فيها تهديدا خطيرا، وهنا تحدثت مع الشاب - هو مدرس ويحضر في الوقت نفسه رسالة الدكتوراه - في مدى الحرية التي يجوز أن يسمح بها لسواد الناس في تبادل الآراء، وكنت متحفظا في رأيي لأنني ضيف على البلاد، فلا يجوز أن أقول ما عساه أن يعد نقدا خارجا، غير أني ذكرت له مقالة قرأتها في مجلة «بوست» لهذا الأسبوع، كتبها المحرر نفسه ليفتتح بها العدد، ورد فيها أن أستاذا في جامعة منسوتا قد ألقى بحثا علميا في الاقتصاد انتهى فيه إلى أن الأسعار يجب أن تحدد في بعض الحالات، فشم بعض أولي الأمر في هذا البحث رائحة الشيوعية، فقدموه إلى لجنة جامعية تحاكمه، لكن الجامعة انتهت من المحاكمة بإعلان براءة الأستاذ الباحث، معلنة بأنها تريد أن تجعل نفسها مركزا لحرية البحث العلمي، وبعد أن انتهى محرر المجلة من عرض الأمر على هذا النحو أدلى برأيه ورأي مجلته، وهو أن الجامعة قد خلطت الأمور وضلت سواء السبيل؛ فحرية الرأي - في نظر المحرر - حق مباح ندافع عنه، لكن لا إلى الحد الذي يجعلنا نعتنق مبادئ تنتهي آخر الأمر إلى هدم الحرية نفسها التي ندافع عنها؛ ولهذا فرأي المحرر هو أن الأستاذ كان ينبغي فصله من الجامعة جزاء ما أذاع من نتائج خطيرة على الحرية!
لا شك عندي أن هذا تعنت وتزمت، وقد كان آخر ما أتصوره عن أمريكا أن يقيد فيها الرأي العلمي إلى هذا الحد البعيد. •••
جاء إلى غرفتي ساعة العصر الدكتور «ك» وهو صاحب المنزل الذي أسكن فيه، وسألني إن كنت أحب أن أرافقه هو وزوجته في رحلة بالسيارة إلى مدينة لوستن - وهي تبعد عن مدينة بلمان ثلاثين ميلا - فرحبت بالدعوة شاكرا.
هذه أول مرة يحدثني فيها الدكتور «ك» منذ قدومي، مع أنني أسكن معه في منزل واحد! إنه شاذ بغير شك، وكنت قد بدأت أكرهه؛ لأنه لم يتعمد زيارتي طول هذه المدة، بل كنت ألاحظ أنه يتجنب لقائي إذا وجد أن المصادفات قد تؤدي إليه! ... هو خنزيري الملامح، يقفز في مشيته قفزا لا رشاقة فيه، وكنت حكمت عليه من هيئته بالغباء، لكني وجدته اليوم أثناء حديثي معه خلال رحلتنا بالسيارة من أحد الناس التفاتا إلى ثنايا الحديث، ودقة في المعلومات، ومنطقا في الرد والاعتراض.
جلسنا - الدكتور «ك» وزوجته وأنا - في الكرسي الأمامي من السيارة، والشمس لا تزال مشرقة والجو ما زال شفافا، والرؤية فسيحة الأفق؛ الأرض أمواج من تلال هي رءوس الجبل، والذي لم أكن أتخيله قبل أن أراه هو أن تكون هذه الأمواج الجبلية كلها مزروعة قمحا، ولم تألف عيني أن ترى القمح مزروعا على سفوح جبلية ليس فيها أدوات الري ولا قنوات الصرف؛ فالمنظر يختلف اختلافا بعيدا عن منظر حقول القمح عندنا في مصر.
تحدثنا في موضوعات عدة، منها أن سألني الدكتور «ك» عن رأيي في إنجلترا وسياستها، قائلا إنه شخصيا من المدافعين المتحمسين عن كل ما هو إنجليزي، فقلت له في انفعال شديد إن إنجلترا في سياستها الاستعمارية هادمة للمدنية، وأخذت أعرض الأمر كما أراه، لولا أن زوجته انحرفت بالحديث؛ ولا أدري أكانت متعمدة أم جاء ذلك عفوا، فسقط الموضوع وبدأنا غيره وغيره.
অজানা পৃষ্ঠা