مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
1 - في الطريق، وفي الجنوب
2 - في واشنطن
3 - في نيويورك
4 - عودة إلى الجنوب
5 - من الجنوب إلى الغرب
6 - في الغرب
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
1 - في الطريق، وفي الجنوب
2 - في واشنطن
3 - في نيويورك
4 - عودة إلى الجنوب
5 - من الجنوب إلى الغرب
6 - في الغرب
أيام في أمريكا
أيام في أمريكا
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة الطبعة الأولى
هذه أيام من عام 1953-1954م قضيتها في أمريكا أستاذا زائرا باثنتين من جامعاتها: إحداهما جامعة كارولاينا الجنوبية في الجنوب، والأخرى جامعة ولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي؛ إذ أقمت في كل منهما فصلا دراسيا، فأتيح لي بذلك أن أقطع البلاد من شاطئ المحيط الأطلسي شرقا إلى شاطئ المحيط الهادي غربا.
لكن أكثر اليوميات - بطبيعة الحال - قد كتبت في مدينتي: كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية حيث أقمت الفصل الأول من العام الجامعي؛ وبلمان بولاية واشنطن حيث قضيت الفصل الثاني؛ هذا فضلا عن زيارتي لواشنطن العاصمة، ونيويورك ونيو أورلينز ولوس أنجلس وسان فرانسيسكو وسياتل، وغيرها.
إن من أظلم الظلم أن تحكم على شعب بأسره حكما ما وأنت واثق من صدقه؛ ذلك لأن الناس أفراد يختلف كل فرد منهم عن سواه، وقد يتعذر جدا - بل يستحيل أحيانا - أن تدرك أوجه الشبه السارية في الجميع، والتي جعلت من مجموعة الأفراد أمة واحدة ذات طابع معين يميزها ... وإذا فخير ما تستطيع قوله وأنت مطمئن إلى صدق قولك، هو أن تصف خبرتك الشخصية مستندا إلى الأفراد الذين كانوا لك مصدر تلك الخبرة؛ فهؤلاء الأفراد فيما يقولونه لك وما يتصرفون به في وجودك، هم الأساس الذي يمكنك من تكوين فكرة يجوز لك في حذر أن تعممها على بقية أفراد الشعب الذين لم ترهم ولم تسمع عنهم.
في هذه اليوميات سجلت بعض خبرتي تسجيلا أمينا صادقا؛ فوصفت من صادفته وما صادفته من الأشخاص والحوادث، بالإضافة إلى ما أحسسته إزاء أولئك الأشخاص وهذه الحوادث، وأردت أن أشرك القارئ العربي في خبرتي؛ فنشرت هذه اليوميات، راجيا أن يجد فيها القارئ شيئا مما يود أن يقرأه عن الحياة في أمريكا، والحياة الفكرية بنوع خاص.
زكي نجيب محمود
مقدمة الطبعة الثانية
إنني إذ أتقدم للمرة الثانية إلى القراء بهذه «الأيام»، أقرر حقيقة قد غابت - على وضوحها - عن بعض الذين تفضلوا بنقد الكتاب في طبعته الأولى، وتلك هي أن في هذا الكتاب «انطباعات» انطبعت بها حاسة البصر أو حاسة السمع أثناء مقامي في الولايات المتحدة عام 1953-1954م أستاذا زائرا، كنت أثبتها يوما فيوما؛ وليس «الانطباع» مما يوصف بالخطأ، بمعنى أنه لو حدث لزائر آخر أن يرى غير الذي رأيت أو يسمع غير الذي سمعت؛ لكان كلانا مصيبا بمقدار ما أصاب في إثبات انطباعه على الورق؛ ليس الأمريكيون رجلا واحدا، بل هم مائة وستون مليونا أو يزيد، ولا يستطيع الزائر - بداهة - سوى أن يتحدث إلى عدد قليل جدا من هؤلاء، فكل واجبه - إذا أراد أن يكتب عن خبرته - ألا يجاوز حدود ما قد سمع منهم، ويجوز - بل يرجح - ألا يكون هؤلاء أنفسهم هم الذين يلتقي بهم ويتحدث إليهم الزائرون الآخرون، وإذا فلا تناقض في أن يسافر اثنان إلى بلد واحد، كل منهما يسمع شيئا غير الذي سمعه الآخر، أو يرى شيئا غير الذي رأى.
لقد حرصت جهدي عندما كتبت هذه اليوميات أن أكون أمينا في وصف خبراتي، ولست أدعي أنها الخبرات الوحيدة التي لا بد أن يصادفها كل كاتب آخر، وحسب قارئي أن يعلم أني صدقته الخبر في حدود خبرتي الخاصة، فأتحت له فرصة العيش معي أياما عشتها هناك.
إن لكل كاتب طابعا خاصا، ولعل طابعي الخاص يتميز بالنقد الذي قد يشتد أحيانا معتمدا على صدق نيتي وإخلاصي؛ ولا أظن أن قارئا يخطئ هذا الجانب مني إذا قرأ لي «جنة العبيط» و«شروق من الغرب» و«الثورة على الأبواب» و«قشور ولباب» - وكلها مجموعات من مقالات تنحو هذا المنحى على تباعد فترات نشرها؛ فإذا وجدني القارئ في هذه اليوميات التي أقدمها له الآن كثيرا ما أميل - عند مقارنة الأشياء بعضها ببعض - إلى ذكر أوجه النقص عندنا ، فليحمل هذا النقد بصدر رحب، وله بالطبع كل الحق في ألا يأخذ بما أخذت به من وجهات النظر ... إنني أقول ذلك لأن ناقدا فاضلا كان قد لامني على ما وجهته إلى الحياة المصرية من نقد هنا وهناك بمناسبة ما كنت أراه أو أسمعه أثناء زيارتي للولايات المتحدة؛ ولو أنصف في نقده لأوضح لي موضع الخطأ في رأيي، وليس أحب إلى نفسي من أن أرى ما يراه عن اقتناع كلما اختلفت بيننا الآراء؛ إن المصري إذ يكتب للمصري هو أخ يتحدث إلى أخيه، فقد يتفقان وقد يختلفان، لكن كلا منهما - على كلتا الحالين - يريد الخير للآخر.
أرجو أن يجد قارئ هذا الكتاب ما قد أردته له من فائدة ونفع.
زكي نجيب محمود
الجيزة، يوليو 1957م
الفصل الأول
في الطريق، وفي الجنوب
الأربعاء 16 سبتمبر 1953م (في الطائرة)
غادرت القاهرة ظهر اليوم، وجلست في الطائرة إلى جوار شاب في مقتبل العمر حسبته عراقيا، لكنه سرعان ما تبين أنه من نيكاراجوا، هو القنصل العام لبلده في شرق الأردن وإسرائيل، يتكلم العربية متعثرا ... وما كدنا نعلو في الجو فوق قطع السحاب الخفيف المبعثر فوق أرضية صفراء هي أرض الصحراء الغربية، حتى مرت بنا المضيفة باسمة توزع علينا قطع النعناع، وبعد أربعين دقيقة أعلن الميكروفون في الطائرة أننا الآن فوق مدينة الإسكندرية، فنظرت فإذا بالإسكندرية لا تزيد على خطوط رفيعة مرسومة بالقلم الرصاص على الورق، وهنا ذكرت من أعرفهم هناك من أهل وأصدقاء، وقلت لنفسي: إذا كانت المدينة الضخمة قد استحالت إلى هذه الخيوط الرقيقة، فبأي منظار يمكن أن أرى الناس؟ والإنسان في هذه الحالة أميل إلى التسرع بالحكم على نفسه بالتفاهة والضآلة؛ فقليل من الارتفاع في الجو يمحوه؛ فماذا يكون أمره عند الرائي من أفلاك أخرى وأكوان أخرى؟ لكن الخطأ هنا هو نسيانه أن الطائرة التي مكنته من الصعود هي من صنعه ووليدة فكره وطموحه وخياله الوثاب. إن أول سطر ينبغي أن يكتب في كتاب ثورتنا وأن يقرأ ألف مرة كل يوم، هو أن نقرر لأنفسنا عن عقيدة قوة الإنسان وجبروته، وأن نمحو من صفحات أذهاننا هذا الوهم الذي ما ينفك يعاودنا ويخيفنا، وهو أن الإنسان مخلوق تافه ضعيف.
غادرنا صفرة الرمال إلى زرقة الماء، فودعت بذلك وطني، وهبطنا في أثينا وفي روما وفي زيورخ وفي باريس وفي شانن بأيرلندة، ومنها عبرنا المحيط الأطلسي؛ ولهذا وقفت المضيفة تشرح لنا كيف تلبس معاطف النجاة إذا اضطرت الطائرة إلى الهبوط فوق الماء.
ركب الطائرة في باريس قسيس أمريكي وجلس إلى جانبي، طويل الجسم عريضه، حليق اللحية، لا يدل على أنه من رجال الدين شيء في مظهره سوى الصدار الأسود؛ فكان هذا أول أمريكي أتحدث إليه في رحلتي إلى أمريكا؛ إنني مقدم على هذه الرحلة معتزما أن أخبر الشعب الأمريكي عن كثب، لا أتأثر في حكمي إلا بما أراه وما أسمعه؛ ولما كان الشعب هو مجموعة أفراده، فمن الأفراد الذين سألتقي بهم وأحدثهم ستتكون فكرتي الخاصة عن الأمريكيين، وإذا فلأنصت جيدا إلى كل حديث، ولأقرأ جيدا كل ما أراه على الوجوه من تعبير؛ فهذا القسيس الأمريكي قد بدت منه علامات الطيبة القلبية منذ اللحظة الأولى، كان على أسرع استعداد أن يعين كلما اقتضى الأمر أن يقدم معونة إلي، ولما شكرته ذات مرة على قدح القهوة الذي تناوله من المضيفة وناولني إياه، اطرد بيننا الحديث، فسألته هل ذهبت إلى مصر؟ فقال: لا، إن أبعد ما وصلت إليه في أسفاري هو روما، لقد عبرت المحيط مرتين ... ولما عرف أني مصري سألني: ما حقيقة الموقف بينكم وبين الإنجليز؟ ثم سرعان ما تدارك قائلا: معذرة، فأظنكم على صلة بالفرنسيين لا بالإنجليز، فصححت له الخطأ وأفهمته أن المشكلة الرئيسية هي بيننا وبين الإنجليز، فسألني: إذا فأنتم خاضعون لبريطانيا، وأنتم لا تريدونها أن تحكمكم، أهذا هو الموقف؟ فابتسمت قائلا: ليس في الأمر خضوع ولا حكم، إننا دولة مستقلة حرة، والأمر كله قائم على وجود قوة عسكرية لهم على جزء من أرضنا هي منطقة قناة السويس، ونريد إخراج تلك القوة من هناك، فانتقل فجأة إلى سؤالي عن عدد الكاثوليك في مصر ... ومضينا في الحديث، فعجبت إذ رأيت بدايته الدالة على جهل شديد بمصر، قد انتهت إلى نهاية دالة على كثرة معرفة وسعة اطلاع، ولولا أنه مشغول العقل بالكاثوليكية إلى حد أعجزه عن التفكير في شيء إلا إذا مزجه بالكاثوليكية؛ لكان رجلا رفيع الثقافة.
قدم لي سيجارة فاعتذرت شاكرا؛ لأني لا أدخن، فقال: ولا أنا أدخن السجائر إلا في رحلة كهذه، لكني بالطبع أدخن السيجار. وعرف أني مشتغل بالفلسفة فسألني عن الوجودية من جهة، وعن الوضعية المنطقية من جهة أخرى، وطلب مني أن أشرح له وجهة نظري في علاقة هاتين الفلسفتين المعاصرتين بالكاثوليكية، فهو يريد أن يعلم إن كان هو قد أصاب الرأي حين رأى أن هاتين الفلسفتين خطر على الدين، فشرحت له رأيي في الوجودية وفي الوضعية المنطقية، لكني رفضت أن أقول شيئا في علاقتهما بالدين، تاركا له هذه الناحية من الموضوع يفيض فيها الحديث ما شاء؛ لأنها تشغله أكثر مما تشغلني، وتهمه أكثر مما تهمني.
وانتقل الحديث إلى الشيوعية، فراح يستنكرها في حماسة عجيبة؛ فقد ثار هنا ثورة انفعالية لا يتوقعها السامع من رجل ديني طابعه الهدوء، وقال - وكأنه يخطب جمهورا كبيرا أمامه مع أنه يتحدث إلى شخص واحد في طائرة تشق ظلام الليل على ماء المحيط: إنني أعلنتها مرارا في كنيستي، بأنني مستعد لجمع التبرع من أهل دائرتي الكنسية؛ لأعطي المال المتجمع لأي إنسان يحس في نفسه الرغبة في اعتناق الشيوعية، فيسافر إلى الروسيا على حساب كنيستي، وإذا استطاع الدخول فله الحق في اعتناق المذهب الشيوعي الذي تمناه لنفسه، أما إذا أوصدت دونه أبواب الروسيا وعاد بخفي حنين، ففيم إذا استمساكه بمذهب لا يريد أصحابه أن يفتحوا له أبوابهم لينضم إلى صفوفهم؟
أطفئت المصابيح داخل الطائرة، وراح المسافرون يصلحون من مقاعدهم ليناموا، وأسندت رأسي ونمت ثم صحوت بعد ساعتين، وشعرت ببرد خفيف فتدثرت ببطانية صغيرة موضوعة في أعلى مقعدي، ثم نمت مرة أخرى نحو ساعة ... الركاب نائمون أو هم يتخذون ظواهر النوم ... ونظرت إلى المحيط، فلم أر محيطا بالطبع؛ لأننا على ارتفاع شديد، لكني رأيت جوا مفضضا؛ فالظاهر أنها كانت ليلة مقمرة، وأن ضوء القمر كان منعكسا على السحاب من تحتنا فأحدث هذا اللون الفضي ... إنني الآن أشعر برئتي حين أتنفس، ولست أدري أهي نتيجة محتومة بسبب الارتفاع، أما أنها ظاهرة خاصة بي وحدي.
ظللت أنظر إلى الجو الفضي خلال الزجاج، وقلت في نفسي: ما أبعد الفرق بين إنسان وإنسان! قارن بينك الآن وأنت تعبر المحيط على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبر المحيط نفسه؛ لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكر وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك فيتبعونه! إن خيال رجل واحد وجرأته فتحت للناس عالما جديدا، وشقت لهم طريقا جديدا، وسرعان ما يختلط علينا الأمر فنظن ألا فرق بين من يبدع ومن يتبع! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا ندرك فرقا بين مبتكر الطائرة مثلا وبين من يركب الطائرة على نموذج أمامه! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا نرى المسافة الشاسعة بين عالم يبحث ويصل إلى النتائج الجديدة وينشر هذه النتائج، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ هذا المنشور ويدرسه ويفهمه، فنقول لأنفسنا: إن منهم علماء ومنا علماء، ولا فرق بين شعب وشعب ولا بين شرق وغرب! ... لكن الفرق يا صاحبي هو نفسه الذي يقع بيني وبين كولمب في عبور المحيط، عبره هو لأول مرة مغامرا مخاطرا متخيلا متعقلا، وعبرته بعده تابعا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.
الخميس 17 سبتمبر سنة 1953م
أخذت تباشير الصبح تنتشر حولنا بعد أن قطعنا في سواد الليل أكثر من خمس عشرة ساعة؛ لأننا نتجه غربا كما تتجه الشمس، فنحن والشمس نسير في اتجاه واحد كأنما نحن معها في سباق لا نريدها أن تلحق بنا، لكنها في سيرها أسرع من طائرتنا، فلحقت بنا بعد ظلام طويل، ونظرت عند إشراقها فإذا نحن سائرون فوق سحاب كثيف: منظر غاية في الروعة والجمال، فكأن ما تحتنا من سحاب جبال من رغاوي الصابون، أو أكداس من دخان أبيض.
بدأت الحديث مرة أخرى مع القسيس الذي يجلس إلى جواري، ولم نكد نتحدث حتى طرق الكاثوليكية من جديد يحدثني فيها، ويطلب مني في إلحاح أن أقابل القسيس الكاثوليكي في البلد الذي سأحل فيه، وهو كولمبيا من ولاية كارولاينا الجنوبية، وعاد مرة أخرى يستوثق مني الرأي في بعض نواحي الفلسفة المعاصرة من وجودية ووضعية منطقية؛ ليرى كيف يمكن للدين أن يتقي مواضع الخطر، وقال لي آخر الأمر: إنك لن تجد الأمريكيين كلهم من أمثالي، تحدثهم مثل هذا الحديث العالي فيفهمونك، فقد تقول لهم: «وضعية منطقية»، فيسألونك: كم طابقا تكون هذه العمارة؟ فأنبأته بأن زعماء هذه الحركة الفلسفية هم اليوم في أمريكا، ونحن إنما نتبع ولا نجيئهم في ذلك بجديد.
وصلنا مطار نيويورك بعد طيران دام ثلاثا وثلاثين ساعة، وكنت قد احتفظت في ساعتي بوقت القاهرة، فكانت الساعة عليها عندئذ الثامنة، فأرجعتها ست ساعات لتدل على وقت نيويورك، ووجدت سيدة تسأل عني جاءت لتستقبلني ووجدت معها قائمة بأسماء الغرباء الذين ينتظر وصولهم اليوم، أعطتها إياها وزارة الخارجية، وسرعان ما علمت أن السيدة تنتمي إلى جمعية تطوعية جعلت مهمتها استقبال الغرباء من أساتذة وطلاب؛ ليمهدوا لهم طريق الاستقرار في بلادهم حتى لا يضلوا السبيل كما يضل كل غريب ليس له هاد يهديه، وقد يظن السامع أن هذه هي الجمعية الوحيدة التي أخذت على نفسها هذه المهمة الإنسانية؛ لأنه في الحقيقة يكفي أن تفكر جماعة واحدة في التطوع لمثل هذا العمل، لكنني دهشت حين أعطتني السيدة قائمة بأربعة وثلاثين عنوانا لأربع وثلاثين جمعية تطوعية، كلها تألفت لهداية الزائرين الغرباء!
خرجت من مكان التفتيش الجمركي، ووقفت أنتظر السيارة العامة التي تنقل المسافرين من المطار إلى المدينة، وهنا جاءني الشرطي فحياني بقوله: لا شك أنك مغتبط لعودتك إلى أرض الوطن؛ فهذا شعور أحسست به أنا لما عدت إلى الوطن بعد غيبة. فقلت له: أنا مغتبط لوصولي، ولكني زائر وليست أمريكا بوطني. فراح الشرطي يحدثني حديثا يفيض ودا وطيبة قلب عما ينبغي أن يكون بين الناس من إخاء مهما اختلفت أوطانهم، وسأل متعجبا: لماذا تنشأ حرب بين قوم وقوم كالحرب الكورية مثلا؟ ألا يريد كل رجل أن يعيش بين أهله؟ وقال لي الشرطي - فيما قال - إنه إيطالي؛ فلم أفهم لأول وهلة ماذا يريد، ولو أنه بالطبع يقصد أنه من أصل إيطالي، لكني لم أخل عندئذ من دهشة أن يذكر الأمريكي أصله الأوروبي أول ما يذكره عن نفسه من حقائق، وجاءت السيارة فأعانني في حمل حقائبي وأوصى السائق بي خيرا، ودله على أقرب مكان للفندق الذي علم أني سأقيم فيه.
لقد تحدثت حتى الآن مع ثلاثة: القسيس في الطائرة، والسيدة المتطوعة في المطار، وهذا الشرطي، ولو كان هؤلاء عينة للشعب الذي جئت لزيارته، فهو إذا شعب ودود كريم طيب معين.
الجمعة 18 سبتمبر
صحوت مبكرا، نزلت لأرى شوارع نيويورك وهي في هدوء الصباح، ولبثت أطوف على مهل، شاخصا ببصري هنا، لامسا بأصابعي هنا، واقفا عند مفترق الطرق هناك! حتى إذا ما حان موعد العمل في المكاتب قصدت إلى مؤسسة جون وتني في المبنى الضخم بميدان روكفلر، وهي المؤسسة التي منحتني منحة سخية لأقيم في أمريكا عاما دراسيا، أحاضر في اثنتين من جامعاتها: في جامعة كارولاينا الجنوبية بكولمبيا خلال النصف الأول من العام، وفي كلية الدولة بولاية واشنطن في النصف الثاني من العام. استقبلتني الآنسة «ل» وهي فتاة في نحو الخامسة والعشرين من عمرها، أو قد تزيد قليلا، سمحة الوجه، جميلة الملامح، مهندمة في أناقة واحتشام، تبدو عليها علائم التهذيب والثقافة، استقبلتني بترحاب شديد، وأعطتني القسط الأول من منحتي المالية، ودعتني على الغداء مع مدير المؤسسة الدكتور «و» ... وفي الدقائق القليلة التي صحبتني فيها الآنسة «ل» لتعينني على صرف راتبي من مصرف في أسفل البناء، أنبأتني عن جون وتني صاحب المؤسسة ومانحي المنحة المالية أنه رجل فوق الأربعين بقليل، وقد كسب أمواله من سباق الخيل، حتى اقترن اسمه بالسباق في أرجاء البلاد كلها، فأراد أن يغير منحى حياته ليكسب لنفسه شهرة عن طريق آخر ، وبدأ عدة أعمال من أهمها إنتاج الطعوم المثلجة المعبأة، وهو الآن في هذا المجال التجاري قد بلغ أوج الشهرة ... تذكرت عندئذ أنني حين كنت أتحدث في الطائرة إلى جاري القسيس، وأنبأته أنني أستاذ زائر بمنحة من جون هيي وتني صاحب الملايين، سألني القسيس: أهو وتني رجل السباق؟ فقلت له: أي سباق؟ لا أظن ذلك؛ فهو رجل كل ما أعلم عنه أنه مشجع للعلم والعلماء.
تركت الآنسة «ل» لأعود إلى مكتب المؤسسة ساعة الغداء، وقبل أن أسير في شوارع المدينة جلست على مقعد قريب، ونشرت الخريطة أمامي لأرى أين أسير، وحددت لنفسي ثلاثة مواضع أزورها هذا الصباح: عمارة إمباير ستيت التي هي أعلى بناء في العالم، والمكتبة العامة وبناء جمعية الأمم ... الحق أنك لا تلبث في نيويورك أن تتعود ناطحات السحاب، كأنما أنت مقيم فيها منذ أول نشأتك! فهي كما عهدناها في الصور وعلى الشاشة حتى ليخيل إليك ألا جديد.
دخلت المكتبة العامة فإذا بها فوق كل خيال من الأناقة والفخامة والنظافة والذوق، وقد رأيت على بابها إعلانا عن معرض لمخطوطات إمرسن، فجعلته هدفي من الزيارة، ووقفت في غرفة المعرض أنظر إلى الصفحات المنشورة في صناديق الزجاج بخط إمرسن، وقرأت له بضعة خطابات وجدت خطه فيها غاية في الوضوح. إن القارئ ليعجب أن يقرأ للأديب العظيم مثل إمرسن خطابات خاصة كأنه رجل عادي له ما لسائر الناس من توافه وصغائر في حياته! ...
إنني أنظر إلى الناس في الطرق، فلا أجد ما توقعته من علامات السرعة والانشغال؛ فقد كنت قرأت لكاتب مصري زار نيويورك وكتب لنا عنها أنه كلما سأل أحدا في الطريق سؤالا امتنع عن الإجابة معتذرا أو بغير اعتذار؛ لأن الجميع في رأيه يسيرون وكأنهم يعدون عدوا، ليس لديهم الوقت الذي يقفون فيه ليجيبوا السائل عن سؤاله ... إنني لم أشهد شيئا من ذلك؛ فهم ناس كسائر الناس ذوي القلوب الطيبة، تسأل من شئت منهم فيقف لك محتملا لغتك المتعثرة، ليفهم قولك ثم يهديك بقدر ما في مستطاعه أن يهدي.
تناولت الغداء مع الدكتور «و» والآنسة «ل» من مؤسسة وتني، وكان حديثنا على مائدة الغداء يدور معظمه حول سؤال سألني إياه «و»، وهو: ما رأي المصريين في الأمريكيين؟ فقلت له صادقا: رأي المصريين عن الأمريكيين لسوء الحظ مأخوذ من السينما؛ فالأمريكي عندهم - كما هو عند العالم أجمع - رجل غني قليل الثقافة غريب النزوات؛ وأضفت إلى ذلك قولي: إن تقدير المدنية الأمريكية مختلف عليه؛ فمن الناس من يرفعها ومن الناس من يخفضها، فقال الدكتور «و»: التبعة في ذلك كله واقعة على من يستعمل الألفاظ بغير تحديد لمعانيها، فما معنى «مدنية أمريكية»؟ من هو «الأمريكي» أولا؟ وما هي «المدنية» ثانيا؟ أتظن أن الأمريكيين كلهم سواء؟ إنك ذاهب إلى الجنوب، وسترى طرازا من الناس ولونا من العيش ووجهة للنظر تختلف كثيرا عما تراه في نيويورك، وعما تراه في وسط البلاد وفي غربها، فمن هو «الأمريكي» من هؤلاء؟ ثم ماذا يقصد على وجه التحديد بقولهم «مدنية أمريكية»؟ ... ومضى «و» في حديثه على هذا النحو، فوجدته يتفق مع طريقتي في التفكير كل الاتفاق؛ لأنني من القائلين بوجوب تحديد هذه الألفاظ الغامضة التي تلقى في الحديث جزافا ...
قلت له: إن المتحدثين عن «المدنية الأمريكية» يقصدون على الأرجح مدنية تقوم على العلم دون الجانب الإنساني من عقيدة وفن وما إلى ذلك؛ فقالت الآنسة «ل»: هذا لسوء الحظ رأي شائع عنا في أنحاء العالم كله؛ ولذلك ترى أولي الأمر منا يبذلون اليوم جهود الجبابرة في زيادة الاهتمام بالإنسانيات في التربية والتعليم.
وسئلت عن رأي رجال العلم عندنا في الإنتاج العلمي الأمريكي، فقلت صادقا مرة أخرى: إن رجال العلم عندنا أميل إلى اتهام الإنتاج الأمريكي بالضحولة مع أنهم مخطئون؛ فقد قال لي يوما رجل من المشتغلين بعلم النفس في مصر عن علماء النفس الأمريكيين إنهم سطحيون، مع أنك لا تراه يقرأ إلا مراجع أمريكية! قالت الآنسة «ل»: وبماذا تعلل هذه التهمة إذا؟ قلت: لعلها مسألة نسبة؛ فالأمريكيون ينتجون أكثر من غيرهم، وبالطبع يستحيل أن يكون كل الإنتاج جيدا، فإذا فرضنا مثلا أن كل خمسة كتب بينها كتاب واحد جيد، فيكون الأثر على المتتبع لهذا الإنتاج هو أن القلة جيدة والكثرة رديئة، مع أن هذا القليل الجيد هو في ذاته أكثر مما ينتجه أي بلد آخر ... فأعجب الدكتور «و» بهذا التعليل وقال: مصداقا لما تقوله أضيف ما يأتي: الأمريكيون أغنى من سواهم؛ فالنتيجة هي أن يخرج منهم لزيارة البلاد الأخرى عدد كبير من أوساط الناس، فإذا فرضنا مثلا أن كل خمسة أشخاص يزورون البلاد الأجنبية بينهم شخص واحد ممتاز وأربعة من الأوساط الوسطى، فسيكون أثر ذلك على الشعوب الأخرى هو أن أقلية قليلة من الأمريكيين ممتازة، وأما كثرتهم الغالبة فدون مرتبة الامتياز في ثقافتها وأخلاقها، ولما كانت البلاد الأخرى - كإنجلترا مثلا - لا يستطيع الخروج منها إلا الممتاز، فستقول عنهم الشعوب الأخرى إنهم شعب ممتاز.
هكذا تحدثنا على مائدة الغداء، حتى إذا ما فرغنا علمت أن الآنسة «ل» قد أعدت لي زيارة لقسم الفلسفة بجامعة كولمبيا بنيويورك، وقالت: إني سأقابل هناك الأستاذ إرون إدمان الذي يريد أن يتحدث إلي؛ فسررت كل السرور أن تتاح لي فرصة لقاء رجل كنت أقرأ له وأنا في القاهرة، ولو أنني لا آخذ في الفلسفة مأخذه؛ وكان موعد اللقاء الساعة الثالثة. ركبت السيارة العامة وقصدت إلى الجامعة، وفي الساعة الثالثة تماما نقرت على باب غرفة الأستاذ، وجاء الأستاذ وتلقاني لقاء عجيبا؛ فقد كان يظن أنني طلبت لقاءه لأستفسر عن شيء معين، وكنت من ناحيتي أظن أنه طلب لقائي ليستفسر عن شيء معين، وهكذا بدأت الزيارة بسوء تفاهم عند الطرفين، ولم تكن زيارة موفقة، ولعل أهم ما دار فيها من حديث أنه سألني عن اتجاهي الفلسفي. فلما قلت له: إنني وضعي منطقي، قال: إنني لسوء الحظ مصاب بالعمى نحو الوضعية المنطقية فلا أرى فيها شيئا؛ فأنا مختص بعلم الجمال، وليت الأستاذ فلان كان هنا لتلتقي به؛ لأنه يتجه في الفلسفة وجهتك، وودعته وانصرفت.
الإثنين 21 سبتمبر
غادرت نيويورك بالطائرة قاصدا إلى كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية حيث أحاضر في الفلسفة مدة النصف الأول من العام ، ومررت في طريقي مرورا خاطفا بواشنطن حيث قابلت الدكتورة «إ» وتحدثت معها فيما أنا مكلف بعمله أثناء زيارتي، كما مررت مرورا سريعا بأصدقائي في مكتب البعثات والسفارة ... واستأنفت الطيران إلى كولمبيا فبلغتها عند الغروب، وكان يستقبلني في المطار العميد «ن» والدكتور «ش»، وهما من رجال الجامعة الأعلام، فما كان أشد دهشتي - بل حيرتي - حين رأيت هذين الأستاذين الجليلين يسبقانني إلى حمل حقائبي ووضعها في سيارة الأول، ثم صحباني إلى الفندق الذي نزلت فيه ... الحق أنني ساعتئذ تخيلت أستاذا أمريكيا يزور مصر كما أزور أنا اليوم أمريكا، ثم سألت نفسي: من من رجال الجامعة عندنا يفكر في استقباله في المطار كما استقبلني هذان السيدان، ويظل يرعاه حتى يطمئن على استقراره؟ ... لكننا نغمض الأعين عن هذه الأمثلة الإنسانية، ونصر على أن نمضي في صياحنا - لأن الأمر لا يعدو الصياح - بأن هؤلاء الناس يعيشون في مدنية مادية ليس فيها شيء من القيم الإنسانية، أما نحن فنترع وننعم بمدنية روحية!
الظاهر أن الفنادق هنا متشابهة التأثيث والإعداد، فغرفتي في هذا الفندق الذي نزلت فيه شديدة الشبه بالغرفة التي نزلت بها في نيويورك، وحسبي الآن من أوجه الشبه وضع الإنجيل على المكتب في كلتا الغرفتين، إنني لأرجو ألا تفلت مني أمثال هذه الأشياء الصغيرة الدالة على مغزى كبير؛ فها أنا ذا أرى الأدلة تتراكم على أنني إزاء شعب متدين، وقد كنت أظنه غير ذلك ... ترى ماذا يقول زائر أمريكي في مصر لو نزل في فندق سميراميس مثلا، فوجد القرآن موضوعا أمامه في كل غرفة؟
لم أكد أستقر في غرفتي دقائق حتى دق التلفون، والمتكلم هو الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة بالجامعة يهنئني بسلامة الوصول، ويقترح اللقاء إذا لم يكن عناء السفر يحول دون ذلك، فرحبت بزيارته ... الدكتور «ف» من الذين أكسبتهم الدراسة الفلسفية تنبها ذهنيا وصحوا فكريا تراهما في لمعة عينيه؛ فالدراسة - فيما شهدت من خبرة الحياة - إما أن تؤدي بصاحبها إلى هذا التنبه والصحو، وإما أن تميل بصاحبها نحو الفتور والذهول ... والدكتور «ف» من الصنف الأول، رحب بمقدمي وأخذني في سيارته إلى مكتبه بالجامعة، ومكتبه هناك هو نفسه مكتبته - كما هي الحال بالنسبة للأساتذة جميعا - فجدران المكتب الأربعة مغطاة برفوف الكتب؛ مكتبه هو مكان عمله ودراسته على السواء؛ لكل أستاذ مثل هذا المكتب الذي وضع فيه عدته من كتب وأوراق، فإذا قيل للأستاذ أن يتصل بطلابه كان للقول معنى؛ لأنه مستقر هناك، وللطالب الذي يريده أن يسعى إليه في مقره ذاك؛ فهل يمكن أن أرى ذلك وألا أقارنه بحالنا في القاهرة؟ أساتذة الفلسفة جميعا محشورون في غرفة واحدة لا تسع إلا منضدة واحدة! أين يجلس الأستاذ ليعمل؟ أين يجلس حتى لا يجد نفسه مضطرا إلى العودة مسرعا إلى منزله بعد إلقاء محاضراته؟ أين يجلس ليقال له بحق أن يتصل بطلابه؟ إننا نقول كلاما لا نعنيه.
تحدثت مع الدكتور «ف» في المحاضرات التي سألقيها عن الفلسفة الإسلامية، فوجدت أن الناس يرقبون هذه المحاضرات ليعلموا بها ما لم يكونوا يعلمون عن الإسلام وعن العرب وعن الشرق الأوسط بصفة عامة؛ كثير من الأساتذة رتبوا حضورهم هذه المحاضرات، بل كثير من أفراد الناس خارج الجامعة طلبوا الحضور. لقد أعلنت الجامعة قبل حضوري عن محاضراتي في الفكر العربي، فكان ذلك حافزا لكثيرين جدا من الناس أن يعدوا أنفسهم لها.
الثلاثاء 22 سبتمبر
خرجت مع الصباح الباكر، فوجدت مدينة كولمبيا على نمط واشنطن مع الفارق في اتساع الرقعة؛ فهي مبان وطيئة نظيفة، وشوارع غاية في الاتساع، وكل منزل من منازلها - ومنازلها خشبية مطلية باللون الأبيض - تحوط به الحدائق؛ فأمام المنزل حديقة وخلفه حديقة، وله حديقة في كل من جانبيه؛ لهذا تنظر - خصوصا إذا نظرت من رابية عالية - فترى المنازل البيضاء تطل من الخضرة إطلال الزهور البيضاء في بستان فسيح.
دق التلفون في غرفتي عصرا، وإذا بالمتكلم عربي يقول: الحمد لله على السلامة يا أستاذ، أنا فلسطيني هنا وأريد رؤيتكم؛ فنزلت فورا، وجدت شابين، هذا الفلسطيني يصحبه لبناني؛ أما الأول فممن شتتت الحوادث الأليمة أسرته في فلسطين، فجاء إلى هذه البلاد يسعى نحو الرزق والعلم في آن معا، إنه يعمل في الصيف ليكسب قوت العام ونفقات الدراسة خلال أشهر الشتاء والربيع، إنه رجل بكل معاني الرجولة الصلبة القوية؛ وأما زميله اللبناني فعلى كثير جدا من رعونة الصبيان مع أنه لا يصغر الفلسطيني عمرا، حياته ميسرة نسبيا، وقد علمه اليسر أن يتميع. على كل حال فرحت بلقائهما والحديث معهما ساعة من زمان؛ إن إخاء العربي للعربي أمر لا يشعر به الإنسان على شدته وقوته إلا في مطارح الغربة، فعندئذ يبدو في وضوح كيف أن العربي والعربي شقيقان، بالقياس إلى سائر الشعوب.
كنت في غرفتي في المساء أقرأ وأكتب، وإذا بي أسمع دقا شديدا على باب الغرفة المجاورة لغرفتي، وأسمع نداء عاليا، ثم تحول الدق إلى باب غرفتي، فقمت وفتحت الباب، وكنت إذ ذاك أرتدي ملابس النوم (البيجاما) وإذا بي إزاء ثلاثة رجال في حالة من المرح الشديد، ولعلهم أرادوا - مدفوعين بمرحهم هذا - أن يشركوا سواهم معهم؛ فلما فتحت الباب صاحوا: ها أنت ذا يا جو؛ وأخذوا يجذبونني من يدي جذبا لم أقو على مقاومته، فجعلت أرجوهم أن يتركوني لعملي، لكنهم يمضون في شدي قائلين: تعال هنا يا جو، حتى أخرجوني أمام غرفتي؛ ولما رأوا على وجهي علامات الانقباض - مع أنهم كانوا يتوقعون مني ضحكا ومرحا - تركوني قائلين بعضهم لبعض: الظاهر أن ليس له نصيب في حياة المرح ... عدت إلى غرفتي وأقفلتها، لكني لبثت مدة طويلة لا أستطيع استئناف ما كنت أكتبه.
الأربعاء 23 سبتمبر
اليوم مشرق جميل، كل شيء يبدو أمام عيني رائعا، وأحس قلبي ينبض نبضة النشوة والفرح؛ قمت مبكرا وأخذت أتطلع من وراء النافذة، وللنافذة غطاء من السلك وقاية من البعوض؛ كل شيء مشرق راقص، وفتحت الراديو لأسمع موسيقى فتضيف إلي نشوة هذا الصباح.
وألقيت اليوم أول محاضراتي عن الفلسفة العربية؛ جعلت المحاضرة تحليلا لخصائص الفكر العربي، إن كانت له خصائص تميزه عن فكر الغرب، وأحسست بنجاح وثقة في نفسي وفيما أقول ... وكان بين الحاضرين السيدة «ش» التي استرعت انتباهي منذ اللحظة الأولى بل قبل اللحظة الأولى؛ لأنها جاءتني قبل بدء المحاضرة تسألني عن المكان الذي سأحاضر فيه. عرفتني بنفسها تعريفا وافيا وطلبت مني أن أنطق لها باسمي لتنطقه صحيحا، وقالت: إنها هي وزوجها - وهو ضابط في مستشفى عسكري بسلاح الطيران - قد وضعا خطة حياتهما على أن يقيما بمصر حينا، وهما يريدان أن يعلما عن مصر كل ما يمكن العلم به؛ عليها علامات الذكاء، ولا بد أن أضيف إلى ذكائها جاذبية الأنوثة فيها؛ وكل شيء في ثيابها وحليها ينم عن ذوق جميل ... الظاهر أنه مهما كان الكاتب صريحا فلا بد أن تنقصه الصراحة؛ لأنني أشعر برغبة في أن أخفي شيئا من شعوري، وهو أنني اغتبطت في نفسي لما وفقت إليه من طلاقة لسان، وحضور بديهة في المحاضرة الأولى لأظفر بالرضى من هذه السيدة التي جعلت هدفها مصر.
طاف بي الدكتور ش - وهو رئيس الفلسفة وأستاذ لعلم النفس - على مدير الجامعة وعمدائها ومن كان من أساتذتها بنادي الأساتذة. وفي النادي جلسنا نحو ساعة هناك حيث شربنا القهوة وتحدث إلي الحاضرون وتحدثت إليهم، وكاد الحديث كله أن يكون عن الثورة المصرية ورجالها، وجعلت أشرح لهم بعض ما غمض عليهم من نواحيها.
الأحد 27 سبتمبر
ذهب أفراد الأسرة التي سكنت بمنزلها إلى الكنيسة، وبقيت وحدي، فجلست في الشرفة الخارجية أقرأ الجريدة المحلية الصباحية؛ ففي كولمبيا جريدتان أساسيتان: إحداهما تصدر في الصباح والأخرى في المساء، وجريدة الأحد ضخمة تبلغ حجم جريدة الأهرام نحو عشر مرات.
نظرة سريعة إلى هاتين الصحيفتين المحليتين كفيلة أن تدل على مدى اللون الإقليمي؛ فهي تعنى أولا بشئون الولاية - ولاية كارولاينا الجنوبية - وبعد ذلك تأتي شئون سائر الولايات وشئون العالم الخارجي.
كنت وأنا في مصر أضيق صدرا بالروح القبلية الشائعة في صحفنا حتى المهم منها، فتراها تخصص فراغا كبيرا لأخبار الأفراد: هذا سافر، وهذا تزوج، وذاك وافته منيته، وهؤلاء ارتقوا في مناصب الدولة ودرجاتها، وما إلى ذلك مما لم يكن ينبغي أن يشغل فراغا من صحيفة تعلو على أمثال هذه التوافه؛ فلما وجدت شيئا قريبا من هذا في الصحيفة المحلية هنا - وبالطبع ليس الأمر كذلك في صحيفة كبرى مثل نيويورك تايمز التي تصدر في نيويورك - أدركت أنه كلما ضاقت دائرة اهتمامات الناس في مجتمع ما؛ جاءت صحفهم ملونة بلون إقليمي محلي كأنها نشرات، أما إذا اتسع الأفق وارتفعت الثقافة؛ نشرت الصحف بالتالي شباكها حول العالم، وأهملت الصغائر من أخبار الأفراد.
فالناس هنا كما رأيتهم - من اللمحات السريعة التي أتيحت لي حتى الآن - يكادون يغلقون نوافذهم للعالم الخارجي، لا يعلمون عنه إلا القليل وأقل من القليل، بل لا يكادون يأبهون بما يجري في الولايات الأخرى البعيدة من الولايات المتحدة نفسها؛ وصحيفتاهم:
The State
الصباحية، و
Columbia Record
المسائية مرآة لهذا كله؛ فأهم للصحيفة وللناس أن تملأ صفحة بأسرها أو صفحات كاملة كل يوم بصور العرائس اللائي تمت خطبتهن أو تم زواجهن من أن تنشر أنباء الثورة المصرية مثلا على شيء - ولو قليل - من التفصيل.
جلست في شرفة الدار عصرا، فجاءت سيدة الدار وفي يدها طعام ملفوف في ورقة صفراء، وقفت تقول لي: إنها ذاهبة إلى الحديقة لتطعم الديدان؛ فنظرت إليها نظرة فيها دهشة وسؤال، فقالت: إني أطعم الديدان، في حديقتي مجموعة كبيرة منها أواليها بالطعام، إنني أعطف عليها، كنت منذ سنوات أقشعر منها وأخشاها؛ لأنها ستأكل جسدي بعد الموت، لكني الآن أعطف عليها؛ فأقل ما يقال فيها: إنها تنفع تربة الأرض للزراعة دون أن يلحقنا منها أذى، قليلة هي الأشياء التي تنفع ولا تؤذي؛ لهذا أذهب كل يوم إلى حديقتي وأطعم مجموعة كبيرة من الديدان هناك.
قلت لها: إنني أسمع مواء قطة لا ينقطع، يأتي إلى غرفتي من النافذة الخلفية، فهل في الحديقة قطة حبيسة؟ فقالت: لا، هذا طائر صوته يشبه المواء؛ إنني لا أطعم القطط ولا أحبها لسبب واحد وهو أنها تأكل العصافير، إن لي صديقا اسمه كذا يحب العصافير حبا جما؛ ولهذا ألف جمعية تعمل جهدها للتخلص من القطط صيانة للعصافير وحماية لها، لكن الجمعية جعلت مبدأها ألا تؤذي قطا، بل هي تجمع القطط في مكان ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وبهذا تعيش القطط وتعيش العصافير، وصديقي هذا يعطي دولارا (ريالا) لكل من أعطاه قطة يضمها إلى معسكر القطط.
الثلاثاء 29 سبتمبر
صاحب البيت قسيس متقاعد، كان واعظا في كوريا والصين؛ حيث قضى الشطر الأكبر من حياته، واسمه «م» ... ما أعجب هذا الرجل في شدة طيبته وتواضعه واستعداده الحقيقي للخدمة والمعونة! وقد ذكرني بالقسيس الذي التقيت به في الطائرة من باريس إلى نيويورك، فهل يجوز لي من هذين المثلين أن أعمم الحكم وأقول إن رجل الدين في المسيحية رجل دين حقا من حيث التواضع والتضحية بالنفس في سبيل غيره؟ هل يجوز لي أن أقول بناء على هذه الخبرة القليلة مع هذين الرجلين إن رجل الدين عندهم لا يعتقد في دينه فقط، بل يحياه ويتمثله؟ ... وهنا كدت أكتب: «وأما رجل الدين عندنا ...» لولا أنني اعترضت على نفسي قائلا: ليس عندنا «رجل دين» بالمعنى الدقيق لهذه العبارة؛ فكل مسلم رجل دين؛ بمعنى أن كل مسلم مسئول عن دينه أمام ربه ... وعلى كل حال أراني مدفوعا إلى كتابة هذه العبارة: «إن من يسمون عندنا برجال الدين قوم حفظوا قواعد الدين ودرسوها كما تدرس الرياضة أو الجغرافية، لكنهم قل أن يحيوها بحيث تتمثل حية في أشخاصهم.»
اتصل بي الدكتور «ش» رئيس قسم الفلسفة بالجامعة؛ لينبئني أنه سيرتب أربعة اجتماعات في منزله في أيام حددها لي، بحيث يدعو في كل اجتماع مجموعة من الأساتذة ليعرفوني وأعرفهم، فشكرته في حرارة وإخلاص على هذا الكرم الأصيل ... إن الدكتور «ش» مثل نادر للرجل المهذب المؤدب، إنني والله كلما رأيت رجلا كهذا كيف يقدم لي المعونة مضحيا بوقته وجهده؛ أعجب لنفسي أشد العجب أن يشيع عن القوم أنهم ماديون في نزعاتهم وفي حياتهم، وأننا - نحن المصريين - روحانيون! ليس الأمريكيون معنى مجردا في الهواء، بل هم ناس، فإذا أردت أن تقول عنهم شيئا فأمسك القول حتى ترى أفرادهم وتتحدث إليهم لترى بنفسك إن كان «الدولار» وحده هو دائما رائدهم في سلوكهم كما يشيع عنهم، أم أنهم مدفوعون إلى سلوكهم في كثير جدا من الأحيان بمعان إنسانية سامية نبيلة ... لماذا جاء الدكتور «ش» هذا مع العميد «ن» ليقابلاني في المطار؟ لماذا يتسابقان على حمل حقائبي؟ لماذا يرتب لي هذه الحفلات الأربع في منزله؟ لماذا يحمل إلي بنفسه الكرسي الثقيل من طابق في البناء إلى طابق حتى يعد لي مكانا مريحا؟ لماذا يدور بي في سيارته ساعات ليبحث لي عن سكن أستقر فيه؟ هذا أمريكي، فهل دفعه إلى هذا السلوك كله حب «الدولار»؟ أم دفعه قلب كبير وشعور نبيل؟ إنني في هذه اليوميات لن أكتب إلا خبرتي الشخصية المباشرة، وسأصم أذني بعد الآن حتى لا أسمع هذه الأحكام الجائرة التي يلقيها الناس جزافا على شعوب بأسرها.
لو سئلت عن الأمريكيين لأجيب في حدود خبرتي؛ لقلت بغير تردد: إنهم يمتازون بحسن العشرة وكرم الضيافة؛ فيستحيل أن أجلس في مطعم ثم يأتي من يشاركني في المائدة دون أن يحيي تحية طيبة وأن يبدأ الحديث، وإذا انقطع حبل الحديث بيننا فانقطاعه دائما يكون من ناحيتي لا من ناحيته.
الأربعاء 30 سبتمبر
كان الدكتور «ز» قد لاحظ لي - وأنا في القاهرة - قائلا: إن المشكلة الجنسية في أمريكا محلولة بالزواج المبكر، والظاهر أنه قد أصاب في ملاحظته؛ فالطالبات اللائي يحضرن لي محاضراتي كلهن متزوجات، وكثيرون جدا من الطلبة متزوجون؛ وملاحظاتي في هذا الباب تزداد اتساعا، فأزداد بذلك وثوقا أن الزواج هنا إنما يكون في سن مبكرة جدا، في العشرين أو نحوها، وأنك تكاد لا تعثر فوق هذه السن على رجل واحد أو امرأة واحدة غير متزوجة، وقد جاء ذلك الزواج المبكر بنتيجتين: أولاهما استقامة الأخلاق استقامة لا تطرأ ببال أحد خارج البلاد الأمريكية! ألا ما أظلم الناس في أنحاء العالم حين يحكمون على الأمريكيين بتحلل الأخلاق! لكنها السينما هي التي أوحت إلى الناس أن الحياة في أمريكا كلها مصورة في حياة الممثلين والممثلات على الشاشة البيضاء! ... الأخلاق في أمريكا أقرب إلى التزمت منها إلى التحلل، والسبب الأول في ذلك هو استمساكهم بالدين لدرجة لا يحلم بها إنسان من الشعوب الأخرى، ثم تفرع عن ذلك سبب ثان وهو الزواج المبكر واستتباب الأسرة.
وأما النتيجة الثانية للزواج المبكر فهي أن يتزوج الزوجان في سن متقاربة إن لم تكن متساوية، وذلك مقبول حين يكونان في العشرين والثلاثين، أما حين تتقدم بهما السن إلى الأربعين والخمسين، فالرجل يظل على شبابه على حين تهرم المرأة، فترى الزوجين عندئذ فيخيل إليك أنك إزاء رجل ووالدته لا رجل وزوجته، ومن هنا كثيرا ما ينشأ الطلاق في سن متأخرة؛ ولذا تسمع عن نسبة عالية في الطلاق بين الأمريكيين.
لم أكن أتصور أن تبلغ الإذاعة هنا هذه الدرجة كلها من السخف بسبب الإعلانات التجارية؛ فلست أبالغ إذا قلت: إنه بعد كل إذاعة تستغرق خمس دقائق يذاع إعلان تجاري؛ الإعلان يتخلل الأحاديث والغناء والموسيقى، فلا يمكن أن تفتح الراديو وتستمتع بإذاعة متصلة في شيء واحد مدة نصف ساعة مثلا؛ بل إن الذي يتولى البرنامج الإذاعي كثيرا ما يكون هو المحل التجاري الذي يعلن عن نفسه؛ فمثلا تعلن سيارات شفروليه عن نفسها في نصف ساعة، فتعد لذلك برنامجا إذاعيا، فيه أغان وفيه موسيقى، وبعد كل بضع دقائق من الأغاني أو الموسيقى يقطع المذيع مجرى الشيء المذاع ليقول شيئا عن سيارات شفروليه وهكذا، حتى الأخبار تتولى إذاعتها شركات تجارية لتنتهز فرصتها وتعلن عن نفسها خلال إذاعة الأخبار.
أضف إلى ذلك أن الإذاعة تصبغها صبغة محلية إقليمية؛ ففي كولمبيا وحدها أربع محطات إذاعية، كلها محطات تجارية، أعني أنها ملك أفراد أقاموها لتكون مصدر كسب، وبطبيعة الحال يكون الكسب من الإعلانات التجارية، وإذا فالبرامج الإذاعية قائمة على هذا الأساس؛ ولا بد أن تكون معظم الشركات المعلن عنها في كولمبيا أو ما يجاورها من بلاد.
وبصفة عامة ألاحظ أن النزعة الإقليمية قوية جدا في أمريكا؛ فأهل كارولاينا الجنوبية يتعصبون لها أولا باعتبارها هي الوطن المباشر، كالذي نسمع عنه أحيانا في مصر من تعصب أهل الصعيد لصعيدهم، وأهل الوجه البحري لبلادهم، أو من تعصب أهل المديرية الفلانية لمديريتهم.
الأحد 4 أكتوبر
كنت أقرأ جريدة الصباح في شرفة المنزل، وجاء الأب «م» (رب الدار التي أسكنها) تصحبه سيدة في نحو الثلاثين من عمرها؛ تبادلنا التضحية، وسألتني السيدة: من أي بلد أنت؟ فقلت: من مصر. دخلا المنزل، وبعد قليل عادت السيدة وحدها واستأذنت في الجلوس، وبدأت الحديث معتذرة إذا كانت قد قطعت علي قراءتي ... ولم نكد نبلغ من الحديث شوطا قصيرا حتى علمت أنها ابنة الأب «م» نفسه، وأنها مصابة بمرض عقلي؛ ولذا فهي تقيم في المستشفى إقامة شبه دائمة؛ إذ هي هناك منذ ثلاث سنوات؛ وأخذت المسكينة تشكو إلي من سجنها في المستشفى الكريه، قائلة: إنها لا تطلب سوى أن يقولوا لها في أمانة وإخلاص ما علتها، ثم سألتني: أتظنهم يجرون علي التجارب؟ ترى هل يبقونني في هذا السجن بقية عمري؟ ... إن حديثها عادي لا أثر فيه لانحراف عقلي، ولولا أنها أنبأتني نبأها لما ظننت بها مرضا، لو استثنيت عبارة واحدة قالتها فدلت بها على اضطراب عقلها، وذلك أني سألتها: أنت إذا ابنة الأب «م»؟ فقالت: يقولون ذلك، لكني أراني أقرب شبها بخالي، فلا يبعد أن أكون ابنته!
جاءت أمها عائدة من الكنيسة، فاحتضنتها في حرارة وقبلتها في حنان؛ فالذين يظنون في مصر أن حب الأمومة مقصور على المصريات يكفي أن يروا كيف استقبلت هذه الأم ابنتها.
قالت لي «ب. م» (وهو اسم فتاتنا المريضة): إنها ترى أحلاما مزعجة كل ليلة. قلت لها: وبماذا تحلمين؟ قالت: أحلام فظيعة، كثير منها عن الرجال ... قلت في نفسي: ما أتعس حال الإنسان بما فرض على نفسه من قيود جنسية تحتج عليها الطبيعة في مثل هذه المسكينة!
وجاءت ساعة العصر فأرادوا أن يعيدوا فتاتنا المريضة إلى مستشفاها وهي تضرع إليهم ألا يفعلوا؛ إنها تبكي وتقبل أقدامهم أن يبقوها بينهم وألا يعيدوها لتكون مجنونة من المجانين، والوالدان يديران وجهيهما بأعين باكية حتى لا يريا ضراعة ابنتهما؛ وأنا الغريب لم أحتمل المنظر فصعدت مسرعا إلى غرفتي ... ها هنا صراع بين عاطفة وعقل؛ إنني من أشد أنصار العقل على العاطفة، لكن ذلك في الكلام والكتابة، أما في سلوكي العملي فأضعف من أن أحتمل منظرا كهذا، وأقسم أني لو كنت ذا أمر لأبقيت فتاتي معي وليكن من سلوكها في داري ما يكون ... لكن الأب «م» استعان بابنه الشاب على ابنته الضارعة، فأخذ الأخ أخته في سيارته وانصرف بها إلى المستشفى.
جلس معي الأب «م» وزوجته في شرفة المنزل، وسرعان ما فتحا موضوع بنتهما «ب» فتحدثنا طويلا في أمرها، أنبآني أن مرضها شدة في الخيال حتى لتتوهم الأوهام وتحسبها حقائق ... سألت الوالدين: هل في الأمر مشكلة جنسية؟ فانطلقت الزوجة تؤكد أن ابنتها كانت متروكة حرة التصرف في أمر نفسها، ولم يكن لهما دخل في حياتها، فلم يعملا على كبت طبيعتها وغريزتها، وقالت: إن «ب» كانت تدرس في واشنطن، وكانت على أتم حرية في اتصالها بالأصدقاء الشبان، لكن الغريب في أمرها هو أنها حتى الخامسة والعشرين من عمرها - وهي الآن في الحادية والثلاثين - كان يتودد إليها الشبان فلا تلقي لهم بالا، وبعد أن أصابتها هذه المصيبة أخذت تهذي بالرجال! فقلت لها: الأمر واضح؛ فقد كانت مكبوتة بحكم ضواغط التربية لا بحكم أنكما ترقبانها أو تمنعانها، نشأت في جو ديني أوحى لها بالتزمت، ثم نادت طبيعتها فعجزت عن متابعة المستوى الخلقي الذي يطلبه المجتمع.
إن أمثال «ب. م» هذه من المصريات آلاف، بل عشرات الآلاف؛ إننا نظن أننا ما دمنا قد كممنا الأفواه فلا تنطق بالرغبة الطبيعية، وما دمنا قد حبسنا الأجساد فلا تنطلق مدفوعة بالغرائز، فقد حل الإشكال وانتهى الأمر؛ لكننا بغرائزنا المكبوتة مرضى لا نفكر تفكيرا سليما ولا ننتج إنتاجا قويما. ألا فليعلم من لا يعلم أن فقرنا العلمي والفني وأن قلقنا الاجتماعي كله راجع - ولو إلى درجة ما - إلى عدم تنظيم العلاقة بين الشبان والشابات؛ إن الله قد أراد لنا أن نكون مجتمعا ذا جنسين، فمن أراد له أن يكون غير ذلك فليحتج على الله، وليمسك عن كل أمل في إصلاح حقيقي يتناول المجتمع من أسسه وأصوله .
المنزل الذي أسكنه مجاور لمتحف الفنون، وقد رأيت المتحف مضاء عند عودتي من مشية قصيرة، فدخلته لأنظر ما به من معروضات فنية، وإذا بالمتحف حفلة افتتاح؛ فقد وقف عند المدخل صف طويل من الرجال والسيدات يستقبلون الزائرين، والبيانو يعزف أنغاما حالمة، وعلى مائدة طويلة أنواع من طعام وشراب ... والمعروض الذي يحتفلون بافتتاحه الليلة هو لفنان اسمه يوجين تومسن، ولوحاته تعرض في ولاية كارولاينا الجنوبية لأول مرة، وهو ليس من رجال المدرسة الحديثة في التصوير، بل هو أقرب جدا إلى الفن في صورته الكلاسيكية، وأعني بذلك أنه يرسم الأشياء والأشخاص كما تبدو لعينه، وليس غرضه من التصوير تأليفا بين الألوان كما هي الحال عند أصحاب المدرسة الحديثة.
لكن الدور العلوي من المتحف مليء بإنتاج الفنانين المحدثين من أهل الولاية نفسها؛ فها هنا تجد الاتجاهات الحديثة متمثلة كلها جنبا إلى جنب، فترى فنانا يتبع بيكاسو ومدرسته، وآخر يرسم على طريقة الانطباعيين، وثالثا يرسم على طريقة الفن المنقوط وهكذا ... إنه لا حق لي حتى الآن أن أحكم على الفن الأمريكي؛ لأنني لم أر منه إلا القليل، وفي عزمي أن أدرسه دراسة أوفى حين أزور المتاحف الكبرى في واشنطن ونيويورك وشيكاجو، لكني أقولها الآن متحفظا، وهي أن الأمريكيين لم ينشئوا لأنفسهم مدرسة فنية خاصة بهم، بل نقلوا المدارس الأوروبية وتابعوها، ثم ظهرت فردياتهم وشخصياتهم في حدود المدارس الأوروبية.
الجمعة 9 أكتوبر
قرأت قصة جيدة في مجلة «بوست» عنوانها «رجل بين فتاتين»، وخلاصة القصة التي يهمني تسجيلها، هي أن إحدى الفتاتين كانت لا تميل بطبعها إلى البقاء في البيت زوجة وأما لأطفال، وتريد إذا ما تزوجت أن يكون العمل ميدان نشاطها، وهي فوق ذلك لعوب تحب السهرات الأنيقة والمطاعم الفاخرة وما إلى ذلك، وأما الفتاة الأخرى فتعمل انتظارا للزواج، وتؤثر لنفسها إذا ما تزوجت أن تجعل من دارها مملكة لها؛ الفتاتان تعملان مع الفتى في مكتب واحد، والأولى تبادله الحب علنا، والثانية تحبه ولا تفصح عن حبها؛ وبعد تحليل رائع يشرح النفوس الثلاث، انتهى بنا الكاتب إلى موقف وقف فيه الفتى موقف الذي يختار، لكنه لم يلبث أن اختار لحياته الفتاة الثانية، فتاة البيت التي ترى عزتها وسعادتها في زوجها وأبنائها، ولا تزيغ بصرها الحفلات والسهرات والارتقاء في ميادين العمل الخارجي.
والمهم عندي هو أنه إذا كانت هذه القطعة الأدبية تصور الأمريكي في ميوله ونزعاته، كان الأمريكي أميل إلى زوجة لا تعمل؛ وإذا فلا يزال الرجل هو الرجل أينما كان، ولا يزال المثل الأعلى الذي يطمح إليه الزوج أن يكون هو عائل الأسرة ليكون سيدها.
السبت 10 أكتوبر
الأب «م» وزوجته يشرفان على نشاط اجتماعي في الكنيسة التي يتبعانها كل سبت في المساء؛ أعلم ذلك ولا أدري على وجه الدقة ما نوع هذا النشاط، وقد دعاني الأب «م» اليوم أن أصحبه إلى كنيسته، وهي الكنيسة البرزبتيريانية ففعلت ... ذهبت فإذا بي أرى ما لم أتوقعه في كنيسة؛ إذ رأيت ندوة ملحقة بالكنيسة، وعرفت أنها مكان لنشاط اجتماعي كل مساء، وأما مساء السبت فهو خاص بالجنود؛ ففي كولمبيا معسكر كبير للجنود وهم في مرحلة التدريب، فتوجه إليهم الدعوة أن يحضر منهم من يحضر إلى ندوة الكنيسة في هذا الموعد، وتدعى طائفة كبيرة من الفتيات ليكون الاجتماع طبيعيا مؤلفا من الجنسين؛ وما هو إلا أن دارت أقراص الحاكي بالموسيقى ودار معها الرقص! وفي الندوة استعداد للألعاب المختلفة كالبنج بونج والشطرنج؛ وكذلك أعدت مائدة كبيرة عليها القهوة والشاي والكوكاكولا وأنواع الشطائر والفطائر لمن يريد شرابا أو طعاما بغير ثمن.
وقال لي الأب «م» وهو يشرح لي أوجه نشاطهم في كنيستهم هذه: إن كثيرا من الكنائس الأخرى لا توافق على أن نقيم في الكنيسة رقصا، ولكن كنيستنا لا ترى أبدا ما يمنع أن يحيا الإنسان حياة مرحة ما دامت حياة شريفة.
الإثنين 12 أكتوبر
في المساء ألقيت في النادي الفلسفي محاضرة عن الوضعية المنطقية ... إنني أصبحت لا أستريح إلى الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة؛ لأن له ملاحظات أشك في أنها تنطوي على قصد طيب؛ فمثلا أشاع أنني لولا دراستي في إنجلترا لما أبديت الذي أبديته من قدرة، فما كان - في رأيه للناس - أن تخرج مصر دارسا مثلي؛ مما اضطرني يوما أن أعلن في محاضرة قلتها، أنني بخيري وشري صناعة مصرية، ذهبت إلى إنجلترا بعد أن بلغ سني الأربعين وبعد أن أخرجت ستة عشر كتابا ... وكان اليوم له تعليق أثار غيظي لكني كتمت الغيظ في نفسي وناقشته بأعصاب يبدو عليها الهدوء؛ وذلك أنه في المناقشة التي أعقبت محاضرتي في النادي الفلسفي، انتهز فرصة ذكري لأوجست كونت فقال: إن أوجست كونت لا يظن خيرا بالمدنية العربية كلها ... فأجبته بعد صمت قصير استجمعت فيه هدوئي: أنا لا أعرف أنه قال شيئا من ذلك، وسأفرض أنه قال فأحكم عليه في هذه النقطة بأنه قد بعد عن كل روح فلسفي صحيح، فليست المدنية كلمة ترسل إرسالا بغير حساب، المدنية دين وأدب وفن وحكومة وعلم ونظام عيش وغير ذلك، فكم قرأ أوجست كونت من الديانة الإسلامية ليحكم؟ وكم قرأ من الأدب العربي في أصوله ليحكم؟ وهل درس دقائق الفن العربي وتفصيلات الحكومة العربية ليحكم؟ أم قالها قولة من لم يدرس ولم يحلل؟ إن كان قد فعل ذلك فليس هو بالفيلسوف المسئول في قوله هذا ... وبالطبع كنت في ذلك بمثابة من يقول إياك أعني واسمعي يا جارة؛ فالدكتور «ف» إنما يحتمي بأوجست كونت، لكنه يريد أن يقول هو عن المدنية العربية هذا الحكم، ولو قاله عن دراسة لما كان ثمة ما يدعو إلى لوم، لكن أسباب الدراسة بالطبع لم تتهيأ له؛ لأنه - على الأقل - لا يعرف اللغة العربية ليقرأ أصول المدنية العربية.
إن من أظهر المعالم التي يلاحظها الإنسان في الأمريكيين مما يثير دهشته أول الأمر؛ نسبة الأمريكي نفسه لأصله الأوروبي؛ فكلما أخذت في التحدث إلى واحد منهم كان الأرجح أن يذكر لك في حديثه أنه إنجليزي أو إيطالي أو فرنسي ... إلخ. فلا غرابة أن تجد في صحافتهم اتجاها نحو تقوية «التأمرك»، وفي ذلك قرأت مقالا للكاتبة المعروفة لنا بشدة عطفها على الشرق الأوسط «دوروذي تومسن» تقول فيه: إنهم بحاجة إلى بث الدعاية لروح «التأمرك» هذه في نفوس الأمريكيين؛ فلو فرضنا مثلا أن حربا قامت في تشيكوسلوفاكيا - هكذا قالت الكاتبة - فليس من الإنجليز أو الفرنسيين من يحس أن حربا قامت في وطنه وبين بني جنسه، أما الأمريكيون فغير ذلك؛ لأن منهم من لا يزال إخوته وبنو عمومته هناك، فهو أمريكي بقوميته وجزء من شعوره، لكن الجزء الباقي من شعوره ملتفت إلى أهله الأولين، وكيف ينسى وهم لا يزالون معه في تراسل وتزاور؟
وقد جمعتني الصدفة على مائدة عشاء بسيدة إيطالية الأصل ورجل إيطالي الأصل كذلك؛ بعد أن عرف كل منهما الآخر راحا يتحدثان عن إيطاليا بما يدل على شدة حنينهما؛ قالت السيدة: إنها تزور إيطاليا في إجازاتها مرة كل سنتين، فقال إنه كذلك يفعل؛ الرجل صانع لثياب السيدات، وله مصنع به مائة عاملة، فسألته السيدة: كم إيطاليا في مصنعك؟ وهي تقصد بالطبع كم عاملا من أصل إيطالي؟ فقال: كلهم بالطبع إيطاليون؛ وفهمت من الحديث أن السيدة مشتركة في جمعية تجمع الإعانة للمشردين من أبناء إيطاليا، وأقامت الجمعية في جهة بإيطاليا بلدا جديدا يكون مجالا لتربية هؤلاء الأبناء ... هذان أمريكيان، لكن هل يعقل أن يخلو من كل عطف على إيطاليا إذا ما نشبت حرب مثلا بين إيطاليا وأمريكا؟
كل ذلك دعاني إلى التساؤل: هل تكون «أمريكا» أكثر من أرض بها مصالح أهلها، يحبونها بمقدار ما هي مصدر نفع لهم؟ بعبارة أخرى: هل أصبحت أمريكا «وطنا» لأبنائها بالمعنى الذي يفهم من كلمة «الوطن» في العالم القديم؟
السبت 17 أكتوبر
كم نتعجل أحكامنا على الشعوب حين نلقي القول جزافا بغير سند أو دليل! إن الحكم على رجل واحد هو - عند من يحاسب نفسه - أمر عسير، فما بالك بالحكم على شعب قوامه مائة وستون مليونا من الأنفس؟! فكثيرا ما سمعت من مصريين زاروا أمريكا قبل أن أزورها أن روابط القربى هنا ضعيفة، حتى ليكاد الوالد يهمل ولده والولد يتنكر لوالده؛ لكنني لم أشهد علامة واحدة تدل على ذلك، بل كل ما شهدته دليل ناهض على أن روابط الأسرة قوية متينة ... أقول هذا بمناسبة ما رأيته اليوم في جريدة الصباح؛ إذ رأيت صورة لوالد يجلس على مقعد في الطريق، والمقعد موضوع بحيث ينظر الرجل من نافذة بناء إلى جواره - والبناء هو مستشفى - فيرى ولده المريض وهو على سريره في المستشفى؛ وقالت الصحيفة: إن الرجل قد لبث - حتى صدور صحيفة هذا الصباح - يومين كاملين في جلسته تلك ناظرا إلى ابنه لا يتحول عنه، وسئل الوالد: ماذا يدعوك إلى هذا العناء كله؟ إنك قد تعرض نفسك للأذى بهذا الجلوس في العراء ليلا ونهارا، فبكى الرجل وقال: قال لي فلان (وهو ابنه) حين جيء به إلى هنا: «ابق معي يا أبي» فلا يسعني سوى البقاء إلى جانبه كما أرادني أن أفعل، وإذا كان مقامي إلى جواره في المستشفى متعذرا فأقرب نقطة إليه هي هذا المكان من الشارع بالقرب من نافذة غرفته؛ قيل له: لكنك بحاجة إلى النوم والراحة بعد يومين كاملين لبثت فيهما جالسا على هذا النحو المضني! فأجاب: ليس بي أقل رغبة في نوم ...
أهذه مشاعر أب يعيش في شعب لا يعبأ بالعواطف الأبوية؟
دعاني مستر «ه» إلى مصاحبته في رحلة إلى الريف لنقضي عطلة الأسبوع، وحدد لي موعدا في الساعة الواحدة أمام متحف الفنون. لم أكن قد رأيت هذا الرجل العجيب، إنما تم التعارف بالتلفون؛ فلما جاء الموعد رأيتني إزاء رجل في الخامسة والستين ممتلئا بالحيوية والنشاط، لا تمضي عليه دقيقة واحدة دون أن يضحك من كل قلبه؛ تظهر عليه البساطة الشديدة في حديثه وثيابه ونكاته، لكنك لا تلبث أن تنفذ ببصرك إلى قلبه فترى قلبا مليئا بالهموم، وقد ظن أن الضحكات المتوالية قادرات على إزالة همومه ... رحب بي ترحيبا كريما، ودخل بي إلى متحف الفنون من بابه الخلفي الخاص بموظفي المتحف، وصاح بأعلى صوت: أين هؤلاء البنات؟! فعجبت أول الأمر أن أراه يستبيح هذا الصياح في مكان كهذا؛ لأنني لم أكن أعلم على وجه الدقة مع أي رجل أنا الآن ... أجابه الدكتور «ك» (وهو مدير المتحف) من داخل المتحف صائحا بعبارة لم أتبينها؛ فعاد مستر «ه» إلى صياحه: لا، أنا لا أريدك أنت ولا أسعى إلى رؤيتك، فما لك من قيمة عندي، إنما أردت البنات! وكنا في هذه اللحظة قد بلغنا مكتب الدكتور «ك» مدير المتحف، فسلمنا، وعندئذ جاءت فتاة فصاح صديقنا «ه»: «أهلا»، وقال: ها هي ذي «م»؛ تعالي يا «م» فهذا هو ضيفنا الدكتور محمود جاءنا من مصر، سيصحبنا في رحلة اليوم ... و«م» هذه فتاة في الثالثة والعشرين، تحمل درجة في الفنون الجميلة، وتعمل في المتحف، وفنها هو زخرفة الخزف؛ وهي وسط في جمالها، مليئة الجسم نوعا، لو قيل لي إنها مصرية لصدقت؛ لأنها تشبه مصريات كثيرات في بشرتها وسواد عينيها؛ ودقائق قليلة جدا تكفيك أن تعلم كم بلغت «م» من قوة الشخصية والثقة بالنفس؛ فهي تنظر إلينا نحن الكهول بالنسبة لها، وتحدثنا كأنها تنظر وتتحدث إلى صغار! صوتها واضح، وتعبيرها واضح؛ لا يغرها أنها تعلم، ولا يخجلها أنها تجهل.
خرجنا من المتحف نحن الثلاثة: فتاتنا «م» ومستر «ه» وأنا، وركبنا سيارة «ه»، وبعد قليل وقفت بنا السيارة أمام منزل في الطريق، فنزلت «م» صامتة، وعادت ومعها سيدة عمرها بين الخمسين والستين، هي السيدة «ب»، فسلمنا وتعرفنا؛ وقد عرفت أنها مديرة المطبعة في الجامعة؛ فهي المسئولة عن كل ما تخرجه الجامعة من مطبوع ومنشور؛ والسيدة «ب» هي الزميلة الرابعة في رحلتنا اليوم.
لست أدري في الحقيقة ماذا أقول وماذا أدع من ألوف التفصيلات التي انطبعت في ذهني من هذه الرحلة؛ ولذلك فإني سأترك القلم يكتب ما يطفو على سطح الذاكرة من تفصيلات؛ وأول ما أبدأ به هو شخصية هذا الرجل العجيب مستر «ه» أمرح مخلوق على ظهر الأرض؛ يستحيل أن ترافقه دقيقة واحدة دون أن ينفض عنك الخجل ويدفعك إلى الضحك وإلى المرح دفعا؛ إنه لا ينقطع عن الصياح والزئاط كأنه الطفل الصغير يلعب على شاطئ البحر في الرمل والماء؛ وهو من أغنياء المنطقة، ويعتز بأسرته التي هبط منها؛ فهو وحده الآن يملك نحو ستين ألفا من الفدادين، ويدير عملا واسعا في كولمبيا؛ ثم هو فوق ذلك محام وعضو في مجلس شيوخ الولاية ومشهور في الناس.
جلست إلى جانبه في السيارة، وجلست السيدة «ب» والآنسة «م» في المقعد الخلفي، وهو ترتيب يخالف التقاليد؛ إذ كان ينبغي أن تجلس سيدة في المقعد الأمامي، لكنهم اتفقوا على ذلك لتتاح لي فرصة الرؤية الكاملة، والاستماع إلى ما يقوله مستر «ه» تعليقا على مشاهدات الطريق.
أشار إلى شجرة تحتها صخرة، وقال: إن لهذه الصخرة قصة محزنة؛ ففي الحرب الأولى فقدت أم ابنها وجاءها خبر موته؛ فلم تلبث أن مسها الجنون، وصور لها جنونها أن قد جاءها من ولدها خطاب يقول لها فيه إنه آت إليها في الطريق راكبا إحدى السيارات العامة؛ ولذلك فهي تنتظر قدوم تلك السيارة العامة التي تحمل ولدها؛ تنتظرها يوما بعد يوم، وقد ظلت خمسة عشر عاما لا تنقطع يوما واحدا عن المجيء إلى هذه الصخرة، والجلوس طول النهار حتى مغرب الشمس؛ معها قليل من طعام، وإبرة وخيط؛ وكلما مر بها إنسان في الطريق، قالت له: «إنني أنتظر ولدي، إنه قادم في سيارة عامة، كتب إلي يقول هذا ...» إنني أكتب هذه القصة دليلا على الأواصر العاطفية الشديدة التي تشد قلوب الأسرة الواحدة بعضها إلى بعض؛ فليس الأمريكيون كما يقول عنهم الناس قوما في صدورهم قلوب من حجر، يعبدون «الدولار» وحده ويسبحون بحمده!
في تاريخ هذه الولاية - ولاية كارولاينا الجنوبية - قائد مشهور اسمه ماريون، تراه مخلدا في التماثيل، ومذكورا في أسماء الشوارع، ويطلق اسمه على بحيرة كبيرة ... وقد مررنا على مزرعة كبيرة، فقال مستر «ه»: إنها مزرعة كانت لأسرة ماريون، ورثها الولد الأكبر حسب قانون الوراثة السائد عندنا؛ وكان القائد ماريون هو الولد الثاني في أسرته، فلم يرث شيئا، ولولا ذلك لما خرج للحرب واشتهر. ثم أخذ مستر «ه» يدافع عن ذلك النظام في الوراثة على أساس أنه من جهة يحافظ على ملك الأسرة فلا يتجزأ؛ ومن جهة ثانية يهيئ فرصة الظهور في الميادين الأخرى أمام الأبناء الآخرين؛ وكان موفقا في ضرب الأمثلة من أسرات كثيرة، ذاكرا أسماء رجال اشتهروا لأنهم كانوا الأبناء الثواني أو الثوالث، فخرجوا يسعون في الأرض عملا وإنتاجا وذيوع صوت ... لكن هذا النظام قد تغير الآن هنا، وأصبح الميراث قسمة متساوية بين جميع الأبناء.
الطريق كله - وقد قطعنا طريقا يقرب من المسافة بين القاهرة إلى الإسكندرية قاصدين إلى خزان على بحيرة اسمه خزان سانتي كوبر - الطريق كله خضرة وأشجار باسقة؛ ومررنا بحقول مزروعة قطنا وقصبا؛ فهذه ولاية تزرع قطنا وتنافس مصر في قطنها، لكن شتان بين قطن وقطن؛ فالنظرة السطحية تدلني - ولا أستطيع أن أنظر إلا هذه النظرة السطحية السريعة؛ لأنني قليل الخبرة بالزراعة - تدلني على أن قطنهم ظاهر الضعف بالنسبة إلى قطننا؛ فلست ترى حقل القطن وقد نضجت ثماره غزيرة المحصول غزارة القطن المصري، والأرض حمراء كأنها مغطاة بمسحوق الطوب الأحمر.
وصلنا بالسيارة إلى باب خشبي يعترض الطريق، مفتاحه مع مستر «ه»، وهو إذا ما انفتح دخل الداخل في غابة كثيفة الشجر؛ وطلب مستر «ه» من الآنسة «م» أن تفتح الباب وقد ناولها المفتاح؛ فهممت أنا أن أفعل ذلك لأوفر على الآنسة عناء النزول، فقال لي مستر «ه» ضاحكا مازحا: اسمع مني الرأي؛ فأنا أكبر منك وأخبر بالنساء، يخيل إلي أنك قليل الخبرة بهن؛ فها أنت ذا قد أحضرت معك صندوقا من الشكولاتة، وأخذت توزع على هاتين المرأتين من حلواك طول الطريق، ظانا أن الحلوى تكسب النساء، لكن كسب النساء له طريق واحد، وهو إذلالهن بالعمل، وأنا أحب تشغيل النساء بما أكلفهن من أعمال يؤدينها ... والتفت إلى «م» وقال في لهجة الجد المصطنع: «م» انزلي وافتحي الباب! ونزلت «م» وضحك الجميع.
دخلنا إلى طريق ضيق يشق الغابة الكثيفة، ووقفنا عند بيت في قلب الغابة كان على شرفته سيدة متقدمة في السن نوعا ما، اسمها «س»، وفتاة وفتى وطفل صغير؛ فتصور هذا الرجل المرح كيف دخل البيت صائحا مهللا، يمسك هذه ويقبل تلك ويرحب بهذا؛ جلسنا على الشرفة نضحك كلنا لكل لفظة يقولها «ه» ولكل حركة يتحركها ، وأتوا لنا بأكواب الشراب؛ وبينا نحن جلوس استعادوني النطق باسمي؛ فلفظة «محمود» صعبة جدا عليهم أن ينطقوها، فما هو إلا أن أخرج مستر «ه» من جيبه حزمة من قصاصات؛ واسمي مكتوب على كل قصاصة منها! وبعثرها بين الجالسين قائلا: هاكم! توقعت أن يسألني كثيرون أثناء الرحلة عن اسم الدكتور محمود، فطلبت من سكرتيرتي أن تدق اسمه على آلة الكتابة في عشرين أو ثلاثين صورة؛ فكلما سألني سائل عن اسمه أخرجت له واحدة من هذه القصاصات ... أضحكني هذا المنظر ... عرفت أن السيدة «س» هي صديقته، والفتاة هي ابنتها، والفتى هو زوج ابنتها، وهو فنان يشتغل في متحف كولمبيا مع الآنسة «م».
قال مستر «ه» هلموا بنا لعلنا ندرك ساعة من ضوء النهار نستحم فيها في البحيرة، والظاهر أنه خلق هذا العذر لنترك هذه الدار ونقصد إلى أكشاكه الخشبية على شاطئ البحيرة؛ حيث سنبيت الليل، لكن أصحاب الدار دعونا على العشاء، وطلبوا منا أن نذهب لنعود إليهم في الساعة السابعة.
ذهبنا إلى مكان منعزل على شاطئ البحيرة، فيه نحو ستة أكشاك خشبية، فيها كل ما يتصوره الإنسان من أسباب الراحة؛ لكن هذه الأشياء مهوشة الترتيب إلى درجة تضحك؛ فلو تعمد إنسان أن يضع الأثاث في خلط وهرجلة لما عرف كيف يبلغ هذه الدرجة منهما؛ لكنك تجد كل ما تريد: آلات التبريد وآلات التدفئة لا عدد لها، وأطباق وأوان وطعام إلخ ... إلخ؛ خصص كشكا للسيدتين، وآخر لي، وكان له هو كشك كبير أقرب إلى المنزل الصغير، فيه غرفة الطعام والمطبخ وشرفة للجلوس وغرفة للكتب. إن الزائر لا يملك سوى أن يضحك ضحكا متواصلا لما يراه في منزل مستر «ه» هناك؛ لأنه يجمع فيه أشياء عجيبة، يضعها على المناضد ويعلقها على الجدران؛ فلا بأس عنده مثلا من أن يضع قطعة من الحديد الصدئ، أو يعلق حذاء باليا على الجدار! ومن هذه الأشياء ترى، لا أقول مئات، بل ألوفا، كأنما منزله هذا دكان يبيع منوعات قديمة! وهو يضحك معك على نفسه، ويقول: إنه يجمع معظم هذه الأشياء من أكوام القمامة.
جاء وقت العشاء فذهبنا إلى منزل الأسرة الداعية، والمنزل من الداخل آية من آيات الفن وحسن الذوق في بساطة: هدوء وعزلة في قلب الغابة، كأنما أنت في محراب راهب عابد، والأضواء في غرفة الجلوس وغرفة الطعام خافتة توحي بالاسترسال في حلم جميل، وعلى مائدة الطعام وضعوا الشموع، وبدأنا طعامنا بالصلاة - كما هي العادة التي لم تشذ مرة واحدة على أية مائدة شهدتها - وكان معظم الحديث معي أولا عن الفلسفة واتجاهاتها، ثم عن الفن المصري القديم، يسألونني عنه في خبرة وفي دقة؛ لأن بيننا اثنين من دارسي الفن، وحسبوني ملما بدقائق الفن المصري ما دمت مصريا، وعلى كل حال فقد وفقني الله في إجابة معظم ما وجهوه إلي من أسئلة في هذا الباب.
عدنا بعد العشاء إلى أكشاكنا على شاطئ البحيرة، مارين بأقرب مدينة لنشتري طعاما للغد، مستر «ه» معروف للناس جميعا، يقابلونه بالترحاب والتكريم، قال لي صاحب الدكان الذي وقفنا فيه نشتري حاجاتنا: إن مستر «ه» هذا رجل عجيب، يحب صرف ماله على الناس، لا تراه في أي مكان أو في أي بلد إلا ومعه جماعة من ضيوف؛ إنه ثري كثير الكسب لكنه كثيرا ما يقول - وهو ينفذ ما يقوله: إن المال إنما كسب ليصرف. ولما تركنا الدكان قال لي مستر «ه»: هل رأيت هذا التاجر؟ إنه قاتل! قتل على الأقل خمسة أشخاص، ومع ذلك لم تثبت عليه جريمة، كان فقيرا معدما، وكسب من جرائمه مبلغا لا يقل عن نصف مليون دولار، وبدأ تجارته هذه واطرد نجاحه وأصبح ذا اسم في المجتمع ... ثم سكت مستر «ه» قليلا وقال: أليس هذا من سخرية القدر ومضحكاته ومحزناته معا؟
جلسنا العشية في شرفة مستر «ه»؛ الظلام ضارب من حولنا فلا نعرف البحيرة القريبة منا إلا من أصوات موجها، واستأنفنا الحديث الذي بدأناه في منزل السيدة «س» عن الفن، إلا أنه الآن حديث عن الفن المعاصر، وكان «ه» والسيدة «ب» يعارضان - في تهكم - ألوان الفن المعاصر، وانطلقت مدافعا في حرارة كأنما أنا واحد من هؤلاء الفنانين المعاصرين، وظلت الآنسة «م» صامتة لا تنطق إلا بالقليل حينا بعد حين ... لم أكن أدري أن حديثي في الفن قد غزا قلب «م» غزوا، وأصبحت تنظر إلي نظرة الإعجاب الشديد، وتتلمس من شفتي كل كلمة أقولها، وما أكثر ما يكون الحب عند هؤلاء الناس قائما على مثل هذا الإعجاب!
إنني كلما ازددت معرفة بمستر «ه» عرفت أنه عالم بأسره، عالم غريب، قال لي: كان لأبي مكتبة كبيرة وفيها كتب ذات قيمة أثرية عظيمة، ويكفي أن تعرف أن كتابا واحدا عرض لي فيه عشرة آلاف دولار، ومع ذلك رفضت بيعه، وأهديت المكتبة بأسرها إلى جامعة كارولاينا الجنوبية؛ وكذلك ترك أبي وجدي صورا فنية ذات قيمة عظيمة - أخذ يذكر بعضها بالاسم - فأهديتها إلى متحف الفن بكولمبيا، وهي هناك الآن تملأ أكثر من غرفة (ومن هنا أدركت سر دالته على المتحف وأهله) ... ثم أضاف قائلا: إنني رجل صريح مع نفسي؛ إنني لا أميل ميلا حقيقيا إلى الكتب أو الصور، فلماذا أبقيها في داري غير منتفع بها؟ لماذا لا أمتع بها أكبر عدد ممكن من الناس؟ كانت زوجتي تختلف معي في النزعة؛ فهي تميل إلى الأرستقراطية والظهور، وأما أنا فرجل بسيط، أريد أن أعيش كما تريدني طبيعتي أن أعيش، لا تكلف ولا تصنع.
أردنا ونحن جلوس في الشرفة أن نشرب القهوة، فكان لا بد أن يقوم بإعدادها أحدنا وأن يتعهد بغسل الأقداح آخر؛ فألححت في أن أشترك في هذا أو في ذاك، فقال مستر «ه» مازحا: بالله لا تتلف علينا النساء بأدبك، أنت وأنا رجلان، مهمتنا أن نجلس هنا في الشرفة نشرب الشراب وندخن السيجار، وأما هاتان فامرأتان تؤديان لنا واجب الخدمة في ولاء، أليس كذلك يا بنات؟ فتجيب السيدتان في ضحك: ألا شك في ذلك.
وسأل مستر «ه»: من ذا يقوم غدا بإعداد الإفطار؟ فعرضت كل من السيدتين أن تقوم بهذه المهمة، فينظر إلي مستر «ه» ضاحكا وهو يقول بمرحه المعهود : هل رأيت؟ اقعد مستريح البال ، أنت وأنا رجلان، نشرب وندخن السيجار، وهما تطهيان لنا وتغسلان الأطباق والأقداح، هيا يا بنات!
الأحد 18 أكتوبر
أقرب قرية إلى مكان أكواخنا الخشبية هي قرية بنوبولس، وباسمها يعرف المكان، والذاهب إلى الأكواخ على شاطئ البحيرة يمر بمكتب بريد ريفي قديم يقع على حافة الغابة التي نتخللها لنصل إلى البحيرة، فكلما مررنا بالسيارة أمام هذا المكتب في جولاتنا، أشار مستر «ه» إلى مكتب البريد ضاحكا ضحكا عاليا وقال: صندوق الخطابات هنا فتحته عمودية (العادة طبعا أن تكون فتحة الصندوق أفقية) هذه الحقيقة البسيطة يقولها مستر «ه» كلما مررنا هناك، وفي كل مرة يضحك ضحكا عاليا، لا يمل من التكرار، ولا ينقطع عن الضحك في كل مرة كأنه في كل مرة يكشف كشفا جديدا؛ وهذا كله دال على بساطة نفسه وعدم التعقد في نفسيته، والحق أني أصبحت الآن أميل إلى وصف الشعب الأمريكي كله بهذه الصفة، وهي انطلاقه انطلاقا حرا في التعبير عن نفسه (ذلك بالطبع إذ نصف جاز أن شعبا بصفة من الصفات)؛ الأمريكي ذو نفس شفافة أقرب إلى نفس الطفل في شفافيتها، ليس فيها القيود الداخلية التي تمنعه من القول والسلوك على نحو حر طليق يعبر عن فردية الفرد إلى أقصى حد مستطاع في مجتمع؛ لا غرابة أن يلبس رئيس جمهوريتهم قميصا مشجرا ملونا، ولا غرابة في أن يضحك مستر «ه» لما هو تافه في نظر المأزوم من الوجهة النفسية، الذي يلجم نفسه عن المرح والضحك إلى أن تهتز له الأرض وما عليها من أثقال!
أعدت لنا السيدتان «ب» و«م» طعام الإفطار، فلما جلسنا على المائدة طلب مني مستر «ه» أن أصلي صلاة الطعام على طريقتنا، والصلاة المقصودة دعاء بأن يديم الله نعماءه وبركاته؛ فتمتمت بالبسملة ... بدء الأكل بالدعاء أمر لا بد منه حتى عند مستر «ه» الذي يخيل إليك أن قد خلا قلبه من كل إيمان!
وأبدت الآنسة «م» رغبتها في سباحة وتجديف، فأسرعنا بسيارة مستر «ه» إلى منزل صغير في جوف الغابة ، يسكنه الحارس على أملاك مستر «ه» في هذه المنطقة؛ ليطلب إليه أن يجيء إلى البحيرة بقارب، وقال لنا مستر «ه» عن هذا الرجل إنه مكثار في العيال؛ فله في كل عام مولود جديد، تعالوا نسأل الرجل وزوجته كيف يستطيعان إنشاء مولود جديد في كل عام ... يقول ذلك مستر «ه» مرة بعد مرة، ضاحكا فرحا مرحا ... وما هو إلا أن جاء إلى شاطئ البحيرة هذا الحارس في سيارة نقل كبيرة تحمل القارب المطلوب، وجلست إلى جانبه زوجته وطفلان من أطفاله الكثيرين.
وفي الضحى ذهبنا إلى محطة توليد الكهرباء المقامة بين البحيرتين؛ مشروع جبار، فقد رفعوا مستوى الماء في إحدى البحيرتين بطرق صناعية؛ ليصب ماؤها في البحيرة الأخرى متدفقا مولدا الكهرباء ... أخذ المهندسون يشرحون لنا ما يستحيل على مثلي أن يفهمه، حتى لقد قالت السيدة «ب»: إني والله لأعجب أن يكون في الدنيا إنسان واحد يفهم عنهم هذه الأشياء التي يشرحونها!
الحق أني قد امتلأت بشعور حقيقي لا تكلف فيه، أنني واحد من فئة لا فائدة منها، وأعني أولئك الذين قضوا حياتهم في دراسات نظرية لا تشبع جائعا، ولا تكسو عاريا، ولا تتقدم بها الدنيا قيد أنملة أو تتأخر قيد أنملة. أنظر إلى هذه الأنابيب التي تلتوي على بعضها كأنها أمعاء حيوان ضخم، وإلى هذه المصابيح، وهذه المفاتيح، وهذا الصوت الذي يطن في جنبات المكان، وإني لأقول لنفسي إذ أرى وأسمع: أي مجنون في الدنيا يرى هذه الأشياء تصنع وتقام، يصنعها العقل البشري، ثم يختار لحياته أن تقضى في تحليلات لفظية وشطحات خيالية نظرية كما أقضي حياتي؟! كان المهندسون كلهم شبانا صغارا، ومع ذلك أنبأني مستر «ه» أن أقل راتب للواحد منهم هو ثلاثون دولارا في اليوم؛ أي نحو اثني عشر جنيها أو يزيد!
كان مستر «ه» موضع احترام الناس هناك؛ فهو رئيس المشروع، يعرف عنه كل شيء على الرغم من أنه محام درس القانون ولم يدرس هندسة؛ جاءه مهندس وعرفه بنفسه قائلا: ألا تذكرني يا مستر «ه»؟ أنا الذي جئتك في مكتبك بنيويورك عام كذا؛ لتوقع لي على إذن الصرف؛ صرف مليون ونصف من الدولارات لهذا المشروع؛ أتدري يا مستر «ه» ماذا كنت أقول لنفسي وأنت توقع الأوراق؟ كنت أقول: توقيع هذا الرجل الذي أمامي يساوي ملايين الدولارات، فهل يأتي يوم أرى فيه توقيعي بمثل هذه القيمة؟ وجعلت ذلك منذ ساعتئذ أملي ومرتجاي ... وأخذ مستر «ه» يحكي لنا كيف استغرق التوقيع يوما بأكمله من الصباح إلى المساء؛ إذ كان لا بد من توقيع كذا ألفا من الأوراق، ومن كل ورقة اثنتا عشرة نسخة، فكان يستخدم لذلك قلما كهربائيا، إذا أماله في يده مال معه اثنا عشر قلما أخرى بطريقة آلية، وإذا وقع على ورقة بالقلم الذي في يده، وقعت بقية الأقلام على بقية النسخ بصورة آلية.
خرجنا من محطة توليد الكهرباء، فقلت وأنا أزفر زفرة المتحسر: ما أتفه دراستي أمام هذه المنشئات العظيمة! فقالت لي السيدة «ب»: أنا لا أوافقك؛ فدراستنا إنسانية، وبغير مشاعر الإنسان لا تساوي هذه المنشئات شيئا، فلولا أن النساء قد أحببن الماس لصار الماس حجرا خسيسا.
كثيرون وقفوا بقواربهم يصطادون السمك قرب السد الذي يفصل البحيرتين؛ فالسمك كثير جدا هناك، تراه جماعات جماعات قرب سطح الماء؛ وقفنا ننظر، ولكن ما أبعد الفرق بين نظر ونظر! فرجل كمستر «ه» يرى حين ينظر، أما أنا فأنظر ولا أرى! فمثلا يهبط طائر أبيض يطير هابطا صاعدا، أما عند مستر «ه» فهو الطائر الفلاني، ينزل ليتلقط السمك الصغير ويطير به مسرعا، وأنظر إلى السمك يتلوى قريبا من سطح الماء، فلا يزيد هذا المنظر في عيني على ذلك، أما عند مستر «ه» فهو سمكة من النوع الفلاني قد التقمت سمكة من النوع الفلاني، ثم يضيف قائلا: إن السمكة الآكلة تعرف كيف تأكل فريستها؛ فهي تبدأ بالرأس لا بالذيل، حتى تقضم الرأس فتقضي على المقاومة، ولا تتعرض لضربات الذيل داخل حلقها.
عدنا إلى أكواخنا الخشبية في مكانها الهادئ على البحيرة، ورأيت في الطريق عددا كبيرا من السيارات التي تجر وراءها قوارب الصيد، فترى صاحب السيارة قد انطلق ووراءه قارب مركب على عجل كعجل السيارة نفسها، قاصدا إلى حيث يصيد السمك في عطلة الأسبوع. ولما لمحت سيارة تقودها فتاة وحدها، وتجر وراءها قاربا مشدودا إلى سيارتها، قلت لنفسي: ما شاء الله كان! فهي صاحبة سيارة أولا؛ وتعرف كيف تقودها ثانيا؛ وثالثا لها قارب؛ ورابعا تعرف كيف تشد القارب إلى السيارة؛ وخامسا تعرف على الأقل رياضة واحدة من سباحة أو سماكة أو تجديف؛ وسادسا هي فتاة وحدها فلا حارس ولا رقيب ... وعلقت على ذلك لنفسي قائلا: هذه هي المدنية الغربية متمثلة في فتاة.
قالت السيدة «ب» تعليقا على كثرة السيارات في الطريق: إن عدد السيارات يزداد ازديادا شديدا؛ فأجابها مستر «ه» بأن أمريكا رغم ذلك لا يزال أمامها في هذا المضمار طريق طويل حتى تنتج لكل فرد سيارة، فبينما الإنتاج الآن هو سيارة واحدة كل خمس ثوان؛ (أي 288 سيارة في اليوم) فإنها تنسل من السكان سبعة آلاف كل يوم.
هموا أن يسبحوا في البحيرة، ووزع علينا مستر «ه» أردية السباحة، فقلت: إني لا أسبح، وسأقف لكم على الشاطئ أنظر ... فانفجر مستر «ه» ضاحكا وراح يبلغ هذه النكتة الكبرى لزميلتينا «ب» و«م» كأنما هي أعجوبة من أعاجيب البشر!
لو استرسلت في تفصيلات الرحلة لما انتهيت من وصفها، حسبي ذلك منها.
وبدأنا طريق العودة عصرا، وبينا نحن عائدون انعرج بنا في الطريق مستر «ه» إلى جوف الغابة في موضع ما، فسألناه: إلى أين؟ قال: زرعت شجرة جوز هنا في التاريخ الفلاني، وأرعاها كلما مررت في هذا الطريق؛ ونزلنا عند الشجرة، فراح يقلمها هنا ويهذبها هناك، وقال: إن أحب شيء إلي أن أزرع شجرة في هذا الموضع، وأخرى في ذلك الموضع من المواضع التي أرتادها في رحلاتي، محاولا أن أحصل على أكبر جوز في الولاية؛ سألته السيدة «ب»: فيم هذا التقليم والتشذيب؟ لماذا قطعت كل هذه الفروع؟ فأجابها: لكي تركز الشجرة جهدها كله في تكبير الثمار بدل أن تنفق عصارتها في تغذية فروع لا فائدة منها؛ وكذلك نزلنا في موضع آخر يجاوره منزل وحيد على حافة الغابة، زرع به شجرة أخرى؛ فراح مستر «ه» يقلم الفروع وينادي سكان المنزل بأعلى صوت، فخرج الرجل وزوجته ورحبا بنا ... هنا كان بعض الجوز ساقطا على الأرض، فالتقطه مستر «ه» وهو يصيح في مرح ليس بعده مرح، كأنه الطفل الصغير في فرحته بلعبة جديدة، وأخذ يناول كلا منا جوزة أو جوزتين مما التقط، ويصيح: قولوا بصراحة أيها الأصدقاء، ما رأيكم في هذا الجوز العجيب؟ فقال قائل: ما ألذ! وقال آخر: ما أروع ... من ذا يلومني إذا أحسست عندئذ بالحسرة العميقة حين قارنت تربيتي بتربية رجل كهذا؟ أي نوع من البشر أنا؟ وأي نوع من النشأة نشأت؟ بماذا أزيد على البهيمة غذيت لتنمو ثم تموت إذا جاءها الأجل؟ إنه بغير هذا الشغف بالحياة فلا حياة؛ بل إنه بغير هذه الرغبة في استطلاع الطبيعة والقدرة النفسية على الدهشة والتعجب لكل ما تبديه الطبيعة من كائنات، فلا ثقافة؛ فليس المثقف مكتبة متنقلة خزنت في جمجمة الرأس، إنما المثقف رجل حي يقف من الدنيا وقفة المشترك في تطورها ونموها، والمستطلع لسرها وخبيئها.
الإثنين 19 أكتوبر
في صحيفة اليوم حادث له غرابته: ذهب طالب في الجامعة أمس ساعة الغروب إلى منزله، وضرب أمه حتى قتلها؛ ثم أخذ السيارة وذهب بأعصاب باردة هادئة إلى أبيه في مكان عمله، زاعما أنه إنما أراد أن يعود به إلى المنزل في السيارة كأنه الابن المشتاق؛ لكنه يضمر عزما أن يقتل أباه؛ وكان أبوه - بمصادفة عجيبة - مطلوبا في قسم البوليس لأداء الشهادة في حادث ما، فعرج الابن بأبيه على قسم البوليس، بل واستطاع الابن بأعصابه الحديدية أن يستخدم تلفون البوليس ليقول لأحد أصدقائه - الذي كان معه على موعد يذهبان فيه إلى السينما: إنه قد يتأخر قليلا عن موعده، لكنه ذاهب معه لا محالة فلينتظره، وأخيرا صحب الوالد ولده إلى الدار، والوالد لا يدري من الأمر شيئا؛ ودبر الولد أن يدخل بأبيه من الباب الخلفي حتى لا يمر بالغرفة الملقاة فيها جثة أمه القتيل؛ ولم يكد الوالد والولد يدخلان حتى انهال الولد على والده ضربا فأفقده النطق، ولم يستطع الإجهاز عليه؛ لأن الجيران أحسوا حركة فجاءوا يستطلعون الأمر فوجدوا ما وجدوا ... والعجيب أن قد سئل زملاء الطالب في الجامعة، فأجمعوا على أنه كان من أهدأ الطلاب خلقا وأطيبهم سلوكا! فكم في هذه الدنيا من مآس لا يعلم الدوافع إليها إلا الله وإلا علماء النفس إن أراد الله لعلم النفس أن يكون علما يركن إلى أحكامه ونتائجه.
دعاني مستر «ه» أن أذهب إلى لقائه مساء في فندق كولمبيا، ولم أدر لماذا ولا إلى أين نذهب، لكني أحببت هذا الرجل الذي يشيع في نفسي قبسا من مرحه كلما التقيت به، فاستقبلني في بهو الفندق بحفاوة، وراح كمألوف عهده يضحك ويصيح لا يأبه إن كان في الفندق ناس أو قطع من الحجارة! وكان في وسط البهو امرأة جالسة في نحو الأربعين من عمرها، لكنها على درجة عالية من الجمال؛ فأخذني ودنا منها وقال: إنني يا سيدتي لا أعرفك لكني مع ذلك أريد أن أقدم لك هذا الضيف من مصر؛ ثم قال لها: إني أرجح أنك قد جئت إلى كولمبيا في اجتماع القساوسة الذي ينعقد الليلة؛ لأني رأيتك في صحبة قسيس، فقالت: نعم، هذا القسيس هو زوجي جئت معه؛ فأجابها مازحا: لا شأن لي إن كان زوجك أو أخاك، إنما شأني هو أنك رائعة الجمال.
وما هي إلا أن صعدنا السلم إلى غرفة فسيحة صفت بها الموائد، فعرفت عندئذ أنه احتفال يقيمه ناد اجتماعي شبيه جدا بنادي الرواد عندنا في مصر، مهمة أعضائه: الخدمة الاجتماعية، والغاية من الاحتفال أن يقدم الأعضاء زوجاتهم حتى يعرف الجميع بعضهم بعضا، وصاحبي مستر «ه» مدعو ليكون خطيب الحفلة، فطلب من الداعين أن يعدوا لي مقعدا بجواره، وقدمني إلى أعضاء النادي ... وجاء دور أخينا مستر «ه» ليقول كلمته فهز القاعة هزا بالضحك؛ فهو ظريف الملاحظة في فكاهة مستملحة، أراد أن يقول للحاضرين كم تغيرت مدينة كولمبيا عن ذي قبل، فوضع هذا المعنى في أسلوب فكاهي يثير الضحك ؛ إذ قال: تغيرت الدنيا في هذا البلد تغيرا عجيبا أيها الإخوان؛ فقد كانت العادة أيام طفولتي أن يأكل الأطفال أجنحة الدجاج وأرجله، أما صدورها فللكبار، فلما كبرت فرحت لأنني كنت أرتقب العهد الذي أكون فيه من أكلة الصدور، لكن شاء لي الحظ الأنكد أن يذيع رجال الطب في الناس أن الأطفال يجب أن يعطوا صدور الدجاج ليتغذوا غذاء جيدا، وحسب الكبار أجنحة وأرجل؛ وإذا فقد ضاعت فرصتي في العهدين معا! ... تغيرت الدنيا يا إخواني، وإني لأدرك مدى التغير عن عهد طفولتي حين أقف على ناصية الطريق يوم ريح، فعندئذ أرى النساء مشغولات بإمساك الشعر على رءوسهن مخافة أن يختلط ويضيع تصفيفه، وللريح بعد ذلك أن ترفع عنهن الثياب ما شاءت فينكشف من أفخاذهن ما ينكشف، وأما في عهد طفولتي فقد كانت المرأة يوم الريح العاصف تمسك بثوبها بين ركبتيها اتقاء للعري، وليحدث لشعر رأسها بعد ذلك ما يحدث ... وهكذا وهكذا.
إن الإنسان ليكسب قلوب الناس بخفة روحه أكثر جدا مما يكسبها برجاحة عقله.
الأحد 25 أكتوبر
الساعة التاسعة صباحا جاءني مستر «ه» ومعه الدكتور «ت»، وهو في السبعين من عمره، كان أستاذا للأدب الإنجليزي بصفة عامة، ومختصا بأدب شيكسبير بصفة خاصة، في جامعات مختلفة، منها جامعة شيكاجو وجامعة تكساس وجامعة كارولاينا الشمالية؛ وله كتب كثيرة عن شيكسبير، أحدثها كتاب ظهر هذا العام، عنوانه: «مقالات لشيكسبير»، جمع فيه آراء شيكسبير في الموضوعات المختلفة؛ آراءه التي وردت في مسرحياته نثرا، فجعلها كأنها مقالات كتبها شيكسبير تحت عنوانات مختلفة ... إن كل شيء يذكر الدكتور «ت» بسطر أو أسطر من شيكسبير، ويخيل إليك أنه قد حفظ شيكسبير بأسره عن ظهر قلب.
انطلقت بنا السيارة نحو مدينة أوجستا بولاية جورجيا، وهي تبعد عن كولمبيا نحو مائة ميل؛ وكان أول حديثي مع الدكتور «ت» في السيارة عن هذه المدنية العلمية؛ إذ بدأ «ت» بقوله: إنني أمقت هذه المادية الصارخة، وأتمنى أن أعيش عاريا في جزيرة، وإني لأتعجب لماذا يتسابق الناس وراء الآلات الحديثة التي تهون الحياة؟ إنني لا أملك ولا أحب أن أملك معظم هذه الأدوات الحديثة؛ ليس لي مذياع مصور ولا أريد أن يكون لي.
قلت له: إني لا أوافقك؛ ورحت أدافع له عن هذا الذي يسمى مدنية مادية؛ لأنه في الحقيقة مدنية علمية، وليس «العلم» مادة بقدر ما هو تفكير؛ فالسيارة مثلا عقل مجسد، من الخطأ تسميتها «مادة»؛ لأن كل جزء فيها قد بلور تفكيرا عقليا، وماذا يكون التفكير إن لم يكن روحا؟!
فقال الدكتور «ت»: امض في حديثك؛ فإنما أردت بما قلته أن أبدأ حديثا لأسمعك ...
كم يحز في نفسي أن أرى كل يوم ألف دليل على مقدار جهل هؤلاء الناس بنا وبعقيدتنا الدينية! إنني أبعد ما أكون عن التعصب الديني الأعمى، لكني في الوقت نفسه أكره الظلم في الحكم الذي ينبني على جهل بالحقائق؛ فليقولوا في الإسلام ما شاءوا إلا أنه عبادة أصنام! ... فقد مررنا في الطريق بكنيسة، فكانت باعثا لمستر «ه» أن يسألني ما عقيدتي الدينية؟ وإلى أي كنيسة أنتمي؟ - وهو سؤال يستحيل ألا يوجه إليك كلما قابلت أحدا؛ فالكنيسة تملأ رءوسهم، وتشعب المذاهب يشغل بالهم - فقلت له: إني مسلم؛ فقال: لقد سمعتك تجيب بهذا الجواب مرات عدة، ولم أفهم ماذا تعني كلمة «مسلم»؟ أهي تتبعك للكنيسة الأرثوذكسية أم البروتستانتية أم ماذا؟ قلت له: لا شيء من هذا؛ فأنا مسلم، وقد جاء الإسلام بعد المسيحية بسبعة قرون، فهو تعديل لها من بعض الوجوه، وعلى كل حال فهما متشابهان في الأصول؛ لأن اليهودية والمسيحية والإسلام فروع ثلاثة من أرومة واحدة، هي العقيدة في إله خالق ...
فقال مستر «ه»: لم أسمع قط بكلمة «مسلم» هذه، أتكون «محمديا»؟ فقلت له: نعم إلا أني لا أحب أن تسمى عقيدتنا بالمحمدية كما تسمونها؛ لأن لها اسما هو «الإسلام» من «السلام» ... صحيح أن الديانات تنسب لأنبيائها؛ فالبوذية لبوذا، والمسيحية للمسيح، وقد تسأل لماذا لا تكون المحمدية لمحمد؟ لكني أحس في استعمالكم لكلمة «محمدية» معنى آخر، وهو أنها عقيدة أنشأها رجل ولم يوح بها من الله.
قال مستر «ه » - ووافقه الدكتور «ت»: لكن معذرة، أليست المحمدية تعبد شيئا غير الله؟ فقلت له: لو كان الإسلام قد جاء بشيء واحد، فهو تأكيده عبادة الله الواحد الذي لا يتعدد ولا يشاركه أحد.
يحفظ الدكتور «ت» كثير جدا من الأدب عن ظهر قلب، وقد ذكرنا «إمرسن» فقلت له: إني أخي في مصر يترجمه إلى العربية؛ فسألني: أهو يترجم المقالات أم الشعر أم كليهما؟ فقلت: المقالات؛ فراح يحدثني عن خصائص إمرسن حديثا فيه لفتات جميلة، ومما أعجبني من ملاحظاته عن أسلوب إمرسن أنه يكتب كتابة تهتز اهتزاز البندول؛ فهو يهبط ثم يعلو ثم يهبط، وذكر لذلك مثالا عبارة يقول فيها إمرسن: «إنني ضئيل كالجزر، إنني إله، إنني نبتة صغيرة على الجدار.» فهو يشعر بضآلته ثم بعظمته ثم بضآلته مرة أخرى، ويعلق الدكتور «ت» على ذلك بقوله: إن هذه الحركة البندولية في شعورنا مألوفة لكل واحد منا، كلنا يحسها في نفسه.
أخذ مستر «ه» يجول بنا في أراض زراعية فسيحة هي أرضه وأرض أسرته؛ إن أهل كارولاينا الجنوبية يعتزون بالأسرة وبالحسب شأن البلاد الزراعية العتيقة؛ فمستر «ه» فخور بآبائه وأجداده ومكانة أسرته واتساع ملكها؛ فهذه ثلاثة وستون ألفا من الفدادين، هي أرض جده لأبيه، وهذه خمسة وثلاثون ألفا هي أرض جده لأمه، وهذه قطعة مساحتها ثمانون فدانا في وسطها مبنى صغير أهداها من أرضه للنادي الزراعي ... ثم أخذنا إلى مقبرة كبيرة وسط الشجر الكثيف، هي مقبرة أسرته، قبورها كلها من المرمر، تتفاوت جدة وتاريخا، لكن وحدة الأسرة بادية فيها؛ فعلى كل قبر اسم من فيه: فلان «ه»، أو فلانة «ه»؛ وهكذا يتبعثر أفراد الأسرة في حيواتهم ويتفرقون ثم يعودون فيلتقون في مقبرة واحدة أسرة واحدة.
وكان مستر «ه» يعرج بنا في الطريق إلى جوف غابة هنا وقلب مزرعة هناك، مشيرا إلى بيوت منعزلة قائمة وحدها بغير جيران، فيقول هذا منزل ابن عمي فلان، أو فلان أو فلان؛ وحدث أحيانا أن رآه سكان هذه المنازل فخرجوا إليه مرحبين، لكننا لم ندخل من هذه الدور إلا دارا واحدة قال عنها إنها لابنة عمه فلانة، وهي تحتفظ بمجموعة قيمة من الصور الفنية النادرة أراد لنا أن نراها؛ فاستقبلتنا في هذه الدار سيدة نصف جميلة، لم يكن في الدار غيرها وغير ابن لها في نحو العاشرة من عمره جلس إلى مكتب صغير يذاكر دروسه؛ البيت قائم وحده في جوف غابة، لا جار له إلى مسافة بعيدة جدا، وهو يبلغ درجة الكمال نظافة وأناقة وحسن ذوق، أخذت السيدة تدخلنا غرف الدار واحدة بعد أخرى؛ لتطلعنا على الصور الفنية التي تقتنيها، وهي لأشهر الفنانين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، وكثير منها صور لأفراد أسرة «ه».
وكنت في الطريق قبل بلوغنا هذه الدار، قد سألت الدكتور «ت» ما معنى كلمة «يانكي» التي يوصف بها أهل الشمال؛ فبين أهل الشمال وأهل الجنوب حزازات إلى اليوم لا يدرك مداها إلا من زار أمريكا، فأهل الجنوب يمقتون أهل الشمال الذين هزموهم في حرب تحرير العبيد، وأهل الشمال لا يخلون من احتقار خفيف للجنوبيين، ولا تزال الفوارق بعيدة بين أهل الشمال وأهل الجنوب، خصوصا في مسألة الزنوج؛ فيريد الشماليون ألا تكون هناك تفرقة بين أبيض وأسود، ويصر الجنوبيون على أن ينشق المجتمع نصفين لا يختلطان ولا يمتزجان ولا يتماسان بأي وجه من الوجوه: البيض والسود ... على كل حال، سألت الدكتور «ت»: ما معنى «يانكي» التي تصفون بها أهل الشمال؟ فلم يعرف، ولما وصلنا إلى دار هذه السيدة، قال الدكتور «ت» للسيدة: أعندك قاموس أبحث فيه لهذا السيد عن معنى «يانكي» وأصلها؟ فأجاب الغلام الذي يذاكر دروسه قائلا: هي تحريف كلمة «إنجليزي» فلما هاجر الإنجليز لأول مرة إلى أمريكا حرف الهنود الأصليون كلمة «إنجليزي» وجعلوها «يانكي» ... وفتحنا القاموس فوجدنا هذا المعنى الذي قاله الغلام، وإلى جانبه احتمال آخر، وهو أن تكون مأخوذة من «يان كي» التي هي كلمة هولندية.
وانتهت بنا الرحلة إلى غايتها المقصودة، وهي الدار الصغيرة التي يسكنها قريب لمستر «ه» هو القاضي «ه» وعمره ستة وثمانون عاما، كان قاضيا وهو الآن يقضي شيخوخته وحيدا في هذه الدار.
دار القاضي «ه» في ضاحية مدينة أوجستا، وهي مدينة تساوي كولمبيا مرة ونصف مرة، يسكنها الأغنياء، ويقصد إليها المستشفون من داء الصدر لحسن جوها؛ لما اقتربنا من الغابة التي سننفذ خلالها إلى حيث دار القاضي «ه» قال لي مستر «ه»: إننا يا دكتور محمود قادمون على بيت ابن عمي القاضي «ه»، وهو رجل مسن متهدم ضعيف؛ ولذلك فلن نطيل المكث عنده، فإذا رأيتنا نسرع في الرجوع وإذا رأيته لا يعبأ بذلك، فاعلم أن السبب هو ضعف شيخوخته.
وصلنا إلى الدار الصغيرة القائمة وسط أشجار باسقة، وحولها فضاء صغير قطعت أشجاره ونشأت فيه بركة ماء تسبح عليها بجعتان؛ المنزل صغير جدا، غرفتان صغيرتان ومطبخ وحمام، في الغرفة الأولى مكتبة على جدرانها الأربع، وفي وسطها منضدة صغيرة متينة جديدة، قال عنها القاضي «ه» إنه صنعها من خشب أشجاره؛ وفي الغرفة الثانية سرير صغير ومنضدة محملة بأكداس المجلات، مجلات هذا الأسبوع أو هذا الشهر، ثم كتاب مفتوح عنوانه «الماء»؛ وأخذ يقص علينا القاضي «ه» خلاصة ما قرأه حتى الآن في هذا الكتاب، وهو خاص بمشكلة الماء في ولاية كارولاينا الجنوبية؛ فالزراعة فيها معتمدة على المطر، لكن قد يحدث أحيانا أن يمتنع المطر فتتعرض الزراعة للخطر، وهذه هي المشكلة التي يعالجها الكتاب.
وجاء إلى القاضي «ه» ونحن معه ضيف يحمل إليه زهورا من أنواع نادرة، فراح القاضي الكهل ينظر إليها واحدة واحدة كأنه يتفرس في لوحات فنية ويستطلع أسرارها، وانصرف الضيف والتفت إلينا القاضي بحديثه، فإذا حديثه سلسلة لا تنقطع من النكات والطرائف، وهو في ضحك مستمر غير أن شيخوخته لم تمكنه من الضحك العالي القوي كما يفعل قريبه الأصغر مستر «ه»؛ وقد كانوا حدثوني عنه أنه لا يشرب الخمر أبدا - على عكس قريبه مستر «ه» الذي لا يكاد يمسك عن الشراب لحظة؛ فزجاجة الخمر معه أنى ذهب - فما كدنا نستقر مع القاضي في داره الصغيرة حتى أخرج مستر «ه» زجاجة خمره، فكانت مثار نكات القاضي فترة طويلة.
وقد أدهشني أن أرى القاضي «ه» - مع الدكتور «ت» - يتلو أسطرا من شيكسبير في كل مناسبة؛ كان يبدأ هو الأسطر فيسايره فيها الدكتور «ت»، أو يبدأ الدكتور «ت» فيلاحقه القاضي، كأنما كانا يتسابقان أيهما يحفظ أكثر من زميله وأجود، وأيهما يغوص في بحر شيكسبير اللجي ليعود ومعه لؤلؤة تناسب الموقف والسياق.
أصر القاضي الكهل على شيخوخته أن يطوف معنا في أرضه وبين أشجاره؛ فأول خروجنا من داره كان يحمل قطعة من الخبز في يده، فقال إن البجعتين لن يلبثا أن يريا الخبز في يدي فيقبلا علي؛ لكن البجعتين لم تأبها، فراح القاضي يقول النكات على نفسه؛ ثم انتقلنا إلى بركة أخرى قال إنها مليئة بالسمك، وإنه قد عود السمك أن يطفو على الماء زرافات كلما ألقى إليه بفتات الخبز، لكنه جعل يلقي الفتات في الماء فلا يأبه له السمك، فاستأنف القاضي الفكه نكاته، فقد عصاه البجع والسمك لسبب لا يدريه.
وللقاضي في غابته حديقة زهور بها كثير من أشجار الكاميليا، قيل إنها أكبر زهور للكاميليا استطاع إنسان أن ينبتها في الولاية كلها؛ ولهذه الأشياء عندهم قيمة أي قيمة! وراح القاضي يحدثنا عن كل شجرة، بل عن كل زهرة كأن هذا الزهر بنوه وبناته؛ إنه لا يتحدث عن زهوره بالجملة، بل يتحدث عنها فردا فردا؛ لأنها أحياء في ذهنه ينميها ويربيها ويتعقبها بالعناية والملاحظة والرعاية كل يوم.
وقد كان يستحيل ألا يجيء ذكر مصر في الحديث؛ فسألني القاضي «ه» السؤال الذي يستحيل ألا يسأله كل إنسان هنا، كما يستحيل ألا يأخذني الغضب والانفعال كلما أجبته، فما استطعت مرة واحدة أن أجيب عنه وأنا هادئ الأعصاب، وهو: إنكم تطلبون من الإنجليز أن يتركوا قناة السويس، فهل إذا تركوها تستطيعون الدفاع عن أنفسكم؟ فأجيب دائما بقولي: لأن نستطيع أو لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا فإنما ذلك من شأننا وحدنا، وليس من حق مخلوق على ظهر الأرض أن يسألنا سؤالا كهذا؛ فضلا عن أننا إذا دافعنا عن أنفسنا فضد الإنجليز، وإذا خفنا على أرضنا فمن الإنجليز ، ولا يعقل أن نستريح لدفاع الإنجليز وهم عدونا الأول؛ الإنجليز عدو قائم فعلا، والروس عدو محتمل الوقوع، ومن البلاهة أن تستبقي عدوا حقيقيا اتقاء لعدو محتمل.
فقال القاضي «ه»: إنه يصارحني بشعوره، وهو أنه كلما قرأ عن رغبة المصريين في استرداد قناة السويس، كاد الدمع يطفر من عينيه؛ لأن الإنجليز قد بنوها بمالهم وحرسوها بمالهم، فكيف يجيء المصريون الآن فيقولون: نريد القناة؟ فلما أفهمته أن المال مالنا حتى وإن بقي بعضه دينا علينا، وأن الأرض أرضنا، وأن السواعد المصرية هي التي حفرت القناة في أرض مصرية، قال القاضي إما جادا أو متهكما: هذا كشف جديد لي في السياسة أن أعلم من هذا السيد أن القناة لم ينفق عليها الإنجليز.
وجاء في حديثهم ذكر التفرقة اللونية بين البيض والزنوج، وقد جعلت خطتي أن ألزم الصمت كلما ذكر هذا الموضوع؛ فهو موضوع حساس في ولايات الجنوب، بل هو شغلهم الشاغل ومصيبتهم الكبرى! إن البيض والزنوج يكادون يتساوون عددا في ولايات الجنوب؛ والتفرقة بين اللونين في هذه الولايات تفرقة تامة في كل شيء كأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان مهما امتدا! أحياء لسكنى البيض وأخرى لسكنى الزنوج، مدارس وجامعات للبيض وأخرى للزنوج، مطاعم للبيض وأخرى للزنوج، في السيارات العامة خصصت المقاعد الأمامية للبيض والخلفية للزنوج، بل للبيض باب في السيارة وللزنوج باب آخر، للبيض باب في محطة السكة الحديدية واستراحة خاصة، وللزنوج باب آخر واستراحة أخرى، للبيض عربات في القطار وللزنوج غيرها، إذا كان البيض والزنوج يعملون معا في مصنع مثلا، فللبيض صنابير ماء وللزنوج أخرى، وكارثة الكوارث في نظري أن يكون للبيض كنائس خاصة بهم وللزنوج كنائسهم، مع أن الجميع قد يكونون مسيحيين تابعين لمذهب واحد!
التفرقة اللونية بين السود والبيض في ولايات الجنوب هي مركب النقص الذي لا يجوز لغريب مثلي أن يمسه بحديثه؛ لأن البيض هناك - كأي ناس في أنحاء العالم - يعلمون أن مثل الإنسانية الأعلى هو ألا يكون فرق بين إنسان وإنسان، لكن العقيدة شيء وممارستها شيء آخر؛ فمن العسير جدا على نفوسهم أن يمتزجوا مع من كانوا حتى أمس القريب عبيدهم، اشتروهم بمالهم ليفلحوا لهم أرضهم، فلا يمكن بين يوم وليلة أن تقول للسيد إنك أنت وعبدك الذي اشتريته بمالك على قدم المساواة لا فرق بينك وبينه، إنهم يقولون: إن المساواة شيء والامتزاج شيء آخر؛ فللسود علينا أن لهم كل الفرص التي للبيض، لهم علينا أن يكون لهم من المدارس والمستشفيات وكل وسائل الحياة الحرة الكريمة ما للبيض سواء بسواء، لكن هل هذه المساواة في المنافع تقتضي حتما أن نمتزج معا ونعيش معا؟ لماذا تنشد سعادة السود ولا تبالي بسعادة البيض؟ فإن كان الزنوج يسعدهم أن يمتزجوا مع البيض، فالبيض يسعدهم ألا يمتزجوا مع الزنوج ... وهكذا وهكذا، وباختصار: إن هذه المشكلة عندهم هي الداء الذي ينغص عليهم العيش ولا يعرفون له دواء؛ فبالعقل يرون شيئا وبالشعور يريدون شيئا آخر، وسيظل الإنسان إلى أبد الدهر نهبا بين عقله من ناحية وشعوره من ناحية أخرى.
قلت إنهم - القاضي «ه» ومستر «ه» والدكتور «ت» - راحوا يتحدثون عن الزنوج، فلزمت الصمت كعادتي إذا ما دار الحديث عن الزنوج؛ لأنني بطبيعة الحال لا أوافق أن يقوم بين اللونين تفرقة كائنة ما كانت، وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن أكون ضيفا يلدغ مضيفه بالنقد، فضلا عن أنني أحاول أن أشعر بشعور هؤلاء وهؤلاء ... قال الدكتور «ت» بمناسبة ضجة في النقد الأدبي قامت حول كتاب أخرجه كاتب زنجي: إننا نحتفل لإنتاج الزنوج أكثر جدا مما نحتفل لمثله من إنتاج البيض، فلو برع لاعب زنجي في الكرة وبرع إلى جانبه لاعب أبيض، ظفر الزنجي بمعظم التمجيد، وكذلك قل في ميادين العلم والأدب والسياسة؛ ثم قال متهكما: وددت أن أكون زنجيا إن كان هذا هو حظ الزنوج! وردد النغمة نفسها مستر «ه» والقاضي «ه».
وجاء حديث الزنوج مرة أخرى ونحن في السيارة عائدون، فقال الدكتور «ت»: ليس الاختلاف بين البيض والزنوج مقصورا على البيئة والتربية، بل هناك اختلاف أصيل موروث؛ ولهذا فهما جنسان مختلفان في كل شيء ... حتى نوع الجرائم التي يرتكبها أفراد هذا الجنس أو ذاك تختلف؛ فالجريمة التي يرتكبها الزنجي تختلف في هدفها وفي وسيلتها عن الجريمة التي يرتكبها الأبيض؛ الزنجي يقتل مدفوعا بالغضب والغيظ، وأما الأبيض فقد يقتل لغير هذا، هو يدبر الجريمة قبل ارتكابها، على حين أن الزنجي يستثار لها فيندفع إلى ارتكابها فورا ... ومضى يقول: لما كنت أستاذا في جامعة شيكاجو كان البيض هناك يقترفون جرائم عجيبة، فمثلا حدث مرة أن أمسك بعضهم برجلين عنوة وخصوهما، لا لشيء سوى التفكه الأثيم، أما الزنجي فيستحيل أن يقترف جريمة كهذه؛ الأبيض قد يخطف الطفل من أبويه ويقتله ويطلب من أبويه فدية (كانت أمريكا عندئذ ترتج ارتجاجا لحادث خطف طفل من أبويه الثريين وقتله الخاطف وأخفى قتله، ثم طلب من أبويه ستمائة ألف دولار فدية، وأخذ الفدية، وبالطبع لم يعد والدا الطفل يسمعان شيئا)، وأما الزنجي فليست هذه جريمته، لكن حرك الزنجي يقتل ... وفي هذا لا بد من الاعتراف بأن الزنجي أشرف وأنبل وأشجع؛ إني أقول ذلك تقريرا للحق، مع أني لست من محبي الزنوج، ولا أحب أن يقال عني أبدا أنني أعطف على الزنوج؛ فإنني أعتقد أن وجود الزنوج في بلادنا هو نكبتنا الكبرى.
واستطرد الدكتور «ت» في حديثه عن الجرائم، فقال: إن آخر إحصاء قد دل على أن المجرمين الشباب معظمهم من المتعلمين، ثم سأل في حماسة: أليس ذلك لأن طريقة التربية عندنا خطأ في خطأ؟ إنني الآن أكتب كتابا في هذا، وأضرب ضربات قاسية من النقد لنظامنا التعليمي كله؛ إذ لم تعد الشخصية وتكوينها والأخلاق وبناؤها هي الهدف الهام في تعليمنا ...
وانتهزت فرصة حديثنا في المجلات الأدبية، فسألت الدكتور «ت»: أي المجلات الأمريكية في رأيك أعلاها ثقافة؟ فما كان من الدكتور «ت» إلا أن راح يندد بموقف الثقافة في أمريكا قائلا: إنه حتى أرقى مجلاتنا ثقافة قد أصبح يتودد إلى القراء الأوساط في ثقافتهم، فيستميلهم بقصص كلها قائم على الغرائز الجنسية ... وسألته عن أجور النشر في المجلات، فما كان أشد دهشتي حين علمت أن المقالة الواحدة أو القصة الواحدة في مجلة مثل «بوست» أو «لايف» أو «نيويوركر» قد يبلغ أجرها ثلاثة آلاف دولار؛ أي أكثر من ألف جنيه مصري! ... لكن إلى جانب ذلك عرفت أن الكثرة الغالبة من المجلات العلمية والأدبية التي تعلو بمستواها فيقل مدى توزيعها لا تعطي الكاتب شيئا، وحسبه فخرا أن المجلة قد نشرت له ما كتب!
الإثنين 26 أكتوبر
عقدت اليوم ظهرا في نادي الأساتذة جلسة لمناقشة السياسة الدولية مع زائر سياسي دعته الجامعة، وهو مستر «و. د» وهو عضو في البرلمان الإنجليزي من حزب المحافظين، ومراسل لجريدة الديلي تلجراف اللندنية، عمره حول الأربعين وهو متكلم من الطراز الأول، رجحت أن يجيء ذكر مصر فذهبت إلى الاجتماع مصمما أن أتدخل في المناقشة إذا دعا الأمر إلى التدخل.
جلس في وسط حلقة كبيرة من أساتذة الجامعة، وراح كل يسأل ما عن له من أسئلة في سياسة العالم فيجيب مستر «و. د» إجابة الخبير، وهو ممتلئ ثقة بنفسه، وحدث ما توقعت؛ إذ سأله سائل عن الموقف في قناة السويس، فقال مغيظا: إنه يستحيل علينا أن نسحب قواتنا من هناك بغير بديل نطمئن إليه؛ فنحن لا نثق بالمصريين، وهم قوم متعبون يصعب الاتفاق معهم على حل معقول ... فتدخلت قائلا: يا سيدي، لست من رجال السياسة، ولكني مصري أولا، ورجل من رجال المنطق ثانيا، وأحب أن أناقشك في ألفاظك التي استخدمتها ... وأولها كلمة «الثقة» في قولك: إنكم لا تثقون بالمصريين، ما معناها؟ إنني أفهم معناها لو كان المصريون قد أخذوا من أرضكم أرضا، وقيل لكم «اتركوهم في أرضكم» فتجيبون بالرفض قائلين إنكم لا تثقون بهم؛ أما أن تعتدي على أرض غيرك وتقول إنني سأظل هنا لأنني لا أثق بصاحب الأرض فقول يستحيل أن يقبله عقل سليم؛ لأنه قول ينفي عن الألفاظ معانيها المألوفة ... وأما أن المصريين «متعبون» فإني أؤكد لك أن المصريين إذا أسفوا على شيء فذاك أنهم لم يكونوا «متعبين» بالدرجة الكافية لإخراجكم من بلادهم.
قال مستر «و . د» أنا لا أعرف أين يكون الفرق بين أن تساعدنا الولايات المتحدة بقواتها، وبين أن نساعدكم نحن بقواتنا! فقلت له: إن الفرق هو كالفرق بين الأرض والسماء؛ فقد اخترتم أن تساعدكم الولايات المتحدة، وأما نحن فلم نختر مساعدتكم، وفي حرية الاختيار يكون الفرق بين الحر والعبد؛ فسكت ونظر إلى قدميه، وقال: نعم، أظن أن هذه نقطة جديرة بالنظر ... ولما انفض الاجتماع جاءني مستر «و. د» يصافحني قائلا: إنني لا أعتذر إليك، لكنني أحييك وأقول لك: إنني كنت أعرف أن مصريا موجودا بين الأساتذة، فلما سئلت عن مصر أردت أن أكون صريحا، فأقول في حضوره ما كنت أقوله في غيابه؛ وأكد لي أنه ربما وصل الفريقان إلى اتفاق عما قريب.
الخميس 29 أكتوبر
لماذا أتتبع أخبار الطفل المريض الذي جلس أبوه إلى جوار المستشفى ينظر إليه خلال النافذة؟ لماذا يشتد حزني هذا الصباح إذ قرأت أن الطفل قد مات ليلة أمس بعد أربعة عشر يوما أنفقها أبوه على كرسي فوق طوار الشارع لا يعبأ بجوع أو برد؟ ... هل يمكن أن يكون مثل هذا الوالد من شعب يعبد «الدولار»؟ ألا ما أظلم الناس في أحكامهم على الناس!
نعم، لبث الوالد المزارع في المدينة إلى جوار ابنه المريض، لا يعود إلى مزرعته بل لا يكاد ينتقل عن كرسيه الذي وضعه في العراء لينظر إلى ابنه؛ لأن ابنه طلب إليه ألا يتركه، وكان متعذرا على الوالد أن يدخل معه في غرفته، فجلس على الطوار ينظر إليه خلال النافذة لا يكاد يأكل أو ينام ... ولما نشر في الصحف نبأ هذا الوالد، جاءت إليه تبرعات كثيرة منوعة؛ فتبرع متبرع بمقعد طويل مريح يستلقي عليه الوالد، وتبرع مطعم بتقديم الوجبات للوالد مدة إقامته في المدينة، وتألفت جماعة تتناوب الجلوس مع الوالد للتسرية عنه، وتبرع آخر براديو ... إلخ إلخ. هذه نزعة إنسانية فيها شبه كبير بعواطفنا الشرقية الحادة، لكنها تزيد على عواطف الشرقيين بكونها تنتقل إلى المعونة العلمية ولا تكتفي بالتعبير اللفظي الذي لا يغني من برد أو جوع .
لكن يشاء الله أن أرى إلى جانب هذه العاطفة الإنسانية النبيلة عاطفة أخرى خسيسة دنيئة، تتجلى في حكم أصدره اليوم قاض على قاتل أبيض قتل زنجيا؛ حكم القاضي على القاتل (الأبيض) بالسجن سنتين؛ لأنه قتل ذلك الزنجي، ولست أريد أن أعلق على عدم التناسب بين العقوبة والجريمة؛ فقد لا يكون ذلك من شأن رجل لم يدرس القانون، ولم يدرس تفصيلات الموضوع، لكن الذي يدعو إلى العجب الشديد هو «حيثيات» الحكم كما نشرت في صحيفة اليوم؛ إذ جاء في الحيثيات ما تأتي ترجمته بالحرف الواحد:
إنني أحكم على فلان بالسجن سنتين ليتعلم درسا، وهو ألا يخالط الزنوج، لقد خلقنا الله مختلفين، فلماذا نسلك كما لو لم يكن بين الناس اختلاف؟ لقد كان فلان يستطيع أن يجد من أمثاله البيض من يقضي معهم وقت الفراغ والتنزه ...
ومعنى ذلك أن القاضي لا يعاقب المجرم القاتل على جريمته، بل يعاقبه على شيء آخر وهو أنه اختلط مع زنجي، فهذا عند القاضي أخطر من القتل! ترى بماذا كان يحكم هذا القاضي نفسه على زنجي قتل رجلا أبيض؟!
الجمعة 30 أكتوبر
ذهبت إلى نادي الأساتذة في الفترة التي تقع بين المحاضرتين، وأخرج الدكتور «ك» أستاذ تاريخ القانون من جيبه قصاصة، وقرأها للحاضرين، وإذا هي الحكم الذي أصدره القاضي على القاتل الأبيض الذي قتل زنجيا فحكم القاضي عليه بالسجن عامين، وقال في تبرير الحكم: إنه قد قضى بسجنه ليعلمه درسا ألا يختلط بعد ذلك بزنجي.
فدار الحديث بين الأساتذة حول التفرقة بين البيض والسود، وهو موضوع حساس يشغل الناس هنا كبيرهم وصغيرهم، ويستحيل أن يذكر هذا الموضوع أمامي إلا وأظل صامتا لا أنبس بحرف واحد ... وعرفت من حديث الأساتذة ما اشتد له عجبي؛ إذ عرفت أن من تقاليد الصحف المحلية هنا ألا تنشر صورة لرجل أسود أو امرأة سوداء، وألا تذكر زنجيا أو زنجية بلقب «السيد فلان» أو «السيدة فلانة».
قال الدكتور «ك» وهو ساخط على هذه التفرقة: إنني أذكر أن رجلا أبيض كان مخمورا فدخل على امرأة زنجية في دارها وقضى معها الليل، فلما افتضح أمره في الصباح، أطلق البوليس على التهمة «إخلالا بالأمن»، وحكم على الرجل بغرامة بضعة دولارات، أما إذا حدث العكس، فدخل رجل زنجي على امرأة بيضاء في دارها، فالجريمة عندهم يكون اسمها «اغتصابا جنسيا» ويكون الحكم فيها بالإعدام!
وقال الدكتور «ك» بعد ذلك: قولوا ما شئتم، أما أنا فتؤذيني هذه التفرقة في العدالة، ولا بد أن تسوى العدالة بين الجميع ... لكن بقية الأساتذة كانوا أميل إلى الاعتراف بالفوارق القائمة بين البيض والسود، وإن يكن معظمهم كان يخفف القول بزعمه أن الأمر مرهون بالزمن، وأن الحال يزداد صلاحا، والفوارق تزداد زوالا على مر السنين.
كان منتصف الساعة الثامنة مساء موعدي مع السيدة «ج» أرملة العالم الأثري الأستاذ الدكتور «ج» - وقد كان مديرا لمعهد الآثار الأمريكي، وأستاذا للدراسات القديمة في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب «الفئوس السحرية» - فقد دعتني كما دعت الأب «م» وزوجته ...
ضغطنا على جرس الباب الخارجي، فلاحظت أن صوت الجرس الذي أسمعه يدق داخل الدار ليس كسائر أجراس البيوت، بل هو أقرب إلى أجراس المدارس، وجاءت سيدة في الخامسة والثمانين من عمرها ففتحت لنا الباب، وهي السيدة «ج» التي تقوس ظهرها، وعيناها واسعتان عليهما شبه غشاء من ماء، ويداها مرتعشتان.
وأول ما يصادف الداخل إلى دارها أجراس معلقة على حائط البهو في هيئة عقود كبيرة، مائة جرس على الأقل أشكالا وألوانا؛ فهذا من نحاس وذلك من حديد، هذا أصفر وذلك أزرق؛ وقفت بنا عند هذه الأجراس وأخذت تقول: إنني أحب الأجراس، اشتريت هذا الجرس في روما، وكان هذا الجرس معلقا في لجام جمل عند أهرام الجيزة في مصر، وهذا الجرس كان هو جرس بيتنا أيام طفولتي، وهذا وهذا وذلك ... إنني أحب الأجراس! كنت في روما أعلق عقود الأجراس على فروع الشجر أمام شرفة منزلي، فكلما هب الهواء واهتزت الفروع سمعت رنين الأجراس أنغاما مختلفة جميلة؛ إنني أحب الأجراس ...
ودخلنا بعد ذلك غرفة الجلوس إلى يميننا؛ كل المقاعد خشبية غليظة متينة، وبها منضدة من خشب غليظ متين كذلك، فهذا المقعد كتلة خشبية وضعت على ثلاث قوائم تركت على صورة فروع الشجرة التي لم ينجرها قادوم أو مساحة، صنعته السيدة «ج» بيدها من أشجار حديقتها، وذلك المقعد قطعة من جذع شجرة لا قوائم لها وهكذا، وراحت السيدة تقص علينا تواريخ مقاعدها واحدا واحدا، أين صنعته وكيف صنعته، وتعلق تعليقات عاطفية نحو أثاثها كلما قصت علينا تلك التواريخ؛ فهي تحب هذه المنضدة، وهي تحنو على ذلك المقعد، وذلك الكرسي عزيز عندها.
وجدران الغرفة مليئة «بالمعلقات» صنوفا غريبة: أطباق ملونة وصور وتحف ومصابيح ... وخرجنا من غرفة الجلوس لندخل غرفة مقابلة لها هي المطبخ وفيه مائدة الطعام، وقفت السيدة «ج» وعلى كتفيها خمسة وثمانون عاما، وأمسكتني من ذراعي وقالت: في هذه الغرفة حياتي؛ فها هنا أعمل وها هنا أطعم وها هنا أقرأ وها هنا أعيش.
وتنظر حولك في هذا المطبخ فترى العجائب، حتى لا يسعك أحيانا إلا أن تضحك من كل قلبك؛ وابدأ من الباب: فقد كتبت السيدة «ج» على باب مطبخها - أعني على خشب الباب نفسه - وصفات لأكلات، ووقفت تشرح لي لماذا ملأت الباب بهذه الكتابة الفريدة في نوعها، فهي تقف أمام الفرن هكذا، وتلتفت بوجهها هكذا دون أن تتحرك، فترى كم من الدقيق تضع وكم من السكر أو البيض أو اللحم؟ فلماذا لا أوفر على نفسي عناء كتاب أفتحه كلما أردت الكشف عن شيء أثناء الطهي؟ ... وانظر إلى نافذة المطبخ تجد عند قمتها رفا رصت عليه عشرون زجاجة صغيرة مختلفة الشكل، وكلها ملئ بالزيت، فتسألها: هل هذه صنوف مختلفة من الزيت؟ فتقول: لا، كلها نوع واحد، إذا لماذا تضعين الزيت في هذا الصف الطويل من زجاجات صغيرة؟ فتجيب: لأني أحب شكلها هكذا صفا من زجاجات.
لم تكن السيدة «ج» في عيني حتى الآن سوى امرأة كهلة أقرب إلى البلاهة، وربما أصابها شيء من الخرف، لكن سرعان ما خاب ظني؛ فلم ألبث أن رأيت فيها امرأة من عجائب البشر:
هيا بنا نصعد إلى الطابق الأعلى؛ فتصيح بنا السيدة «ج»: احذروا السلم، كل منكم يعد خمس عشرة درجة حتى لا يعثر فيقع، صعدنا فوجدنا أنفسنا في ممر يفصل غرفتين: أما يمناهما فمكتب ومكتبة غاية في حسن الذوق وخصوبة المحتوى، جدران الغرفة الأربعة مغطاة من أسفلها إلى أعلاها بخزائن الكتب ورفوفها، والمكتب موضوع في وسط الغرفة في وضع مبتكر، وعليه كتب ومجلات تدل على أن يدا كانت تقلب فيها منذ دقائق، وأما يسراهما فغرفة للجلوس على جدرانها صور فنية رائعة؛ وقفنا ننظر في إعجاب، فلاحظت من الحديث أنها قد تكون من تصويرها هي، فأردت التأكد وسألت: تصوير من هذه؟ قالت السيدة: إنها لي، وهذه؟ وهذه؟ وتلك؟ ... إذا فالسيدة «ج» فنانة، وبدأت أنظر إليها هذه النظرة، فعرفت لماذا علقت عقود الأجراس عند مدخل دارها، ولماذا جعلت مقاعد غرفة الاستقبال في الطابق الأسفل من جذوع الشجر وفروعه، ولماذا رصت زجاجات الزيت صفا طويلا! إنها انحرافات فنانة لا تحيا بالمألوف المعروف، بل تريد أن يكون طابعها متميزا في كل جزء من حياتها، حتى في التوافه، وتلك هي فردية الفنان وشخصيته.
لكن السيدة «ج» لم تكن فنانة فحسب، فما هو إلا أن كشفت فيها عن جانب آخر؛ فهذا مجلد ضخم قوامه قصاصات من صحف ألصقت على نحو جميل فوق ورقات سوداء، هي مقالاتها التي أمدت بها الصحف والمجلات، ولم يكن أمامي فرصة لقراءة شيء منها، لكني اكتفيت بقراءة العنوانات، وهذه وحدها كافية للدلالة على أنك إزاء كاتبة تنشد في كتابتها - كما تنشد في تصويرها وفي أثاث بيتها - الطابع الفريد المميز.
بعد قليل من حديث، طفقت السيدة تقص علينا من ماضي حياتها: كانت قد تقدمت بي السن بغير زواج، وقلق علي أهلي، وكان زوج أختي يأتينا بضيف آنا بعد آن لعل الضيف أن يتحول إلى خاطب! فكنت أقابل هذه المحاولات بالمقاومة الشديدة والعناد الشديد، وذات يوم جاءنا بضيف، وركبت رأسي ألا أحضر استقباله؛ لأن لدي موعدا آخر لم أرد تفويته على نفسي، فرجاني زوج أختي أن أبقى معهم ساعة واحدة، ودخلت الغرفة - غرفة الضيوف - والعفاريت تملأ نفسي ورأسي، فإذا أنا أمام رجل، لا أقول إنه جميل، ولكني أقول إنه رجل! هذا هو «ر» هذا هو زوجي، كان «ر» عندئذ أستاذا للدراسات القديمة في جامعة نيويورك، فقلت في نفسي: هذا محال! محال أن يقبلني «ر» زوجة له، أين أنا منه؟ لقد بلغ الرجل قمة العلم، وأما أنا! أنا امرأة لا تعرف رأسها من قدمها، لكن ماذا أقول؟ لقد تمت المعجزة وتزوج مني «ر»، إنني في عجب، لم أنقطع طول حياتي معه عن العجب، ولا أذكره بعد موته إلا ويعود إلي العجب: كيف كنت زوجة ل «ر»؟ لكني كنت جميلة، إنكم الآن تقولون في أنفسكم: كاذبة؛ إنكم الآن تضحكون في أنفسكم، افعلوا ما شئتم مع أنفسكم، لكني كنت عندئذ جميلة ... ذهبت مع «ر» إلى نيويورك، وكنت قد أخلصت له قبل الزواج كل الإخلاص؛ إذ كاشفته بشعوري، فأطلعته على دهشتي من قبوله لي زوجة له وهو العالم وأنا الجاهلة، وقلت له: إني سأعطيك عاما كاملا تتردد فيه، إنني قد قطعت بقبولك زوجا لي، لكني أظلمك لو أصبحت زوجة لك ... غير أن «ر» أتم الزواج رغم هذا كله، تزوج مني «ر» وذهبت معه إلى نيويورك وسكنت معه بيتا جميلا، كان أول ما فعلته في البيت أن طليت بابه باللون القرمزي، طليته بيدي، فهل تعجبون إذا علمتم أن أصحاب المنازل كلها على طول الطريق سرعان ما قلدونا وطلوا أبوابهم باللون نفسه؟ الحق أنه كان لونا جميلا ... والله إني لفي عجب كيف تزوج مني «ر»! لكنه تزوج مني وكنت جميلة عندئذ ... كنت أنظر أمس إلى ولدي (لها ولد شاب عمره فوق الثلاثين وهو مهندس) وأتفرس فيه، فصاح قائلا: لماذا تنظرين إلي هكذا؟ فقلت له: إني لا أنظر إليك يا أحمق! أنا أنظر إلى أبيك في وجهك، إنني أحببت «ر» وسأحبه إلى أن ألتقي به بعد موتي، لو قيل لي إن «ر» سيلقاني بعد الموت حقا، لمت الليلة لألقاه، إنني ما زلت في عجب كيف تزوج مني «ر»!
وبعد أن مضت السيدة «ج» على هذا النحو تقص علينا قصة زواجها، نظرت إلي قائلة: سمعت أنك أعزب، اسمع نصيحتي، أنا لا أكذب، إنني أقولها لك قولة حق وصدق صادرة من هنا (وأشارت بيدها إلى قلبها) تزوج! تزوج غدا، بل تزوج الليلة، بل تزوج الآن! إنك إذا ما تزوجت شعرت بندم على كل سنة قضيتها بغير زوج، ستندم على كل يوم، على كل ساعة! آه، إنه إذا كان الزواج هو ما رأيته مع «ر» فهو النعيم بعينه، وجدت سعادتي مع «ر».
هنا قالت السيدة «م» عني إنني أظن أنني كهل قد فاتني سن الزواج، عمره ثمانية وأربعون ويظن أنه كهل! فقالت السيدة «ج»: ثمانية وأربعون هي السن التي تعرف فيها كيف تحب يا أبله! قلت لها: وكم يكون سنها هذه التي أتزوج منها يا سيدة «ج»؟ فقالت في صوت المتعجبة: كم يكون سنها؟! اسمعوا هذا الرجل! إنها هي المرأة التي تحبها ولا تسأل بعد ذلك كم سنها، ولكني أؤكد لك أنك ستحبها صغيرة، فلا تبال صغرها، ولا تبال إلا شيئا واحدا، وهو قلبك، أنصت إلى قلبك جيدا، إلى قلبك وحده. تزوج! وستندم على أنك لم تتزوج قبل الآن، ستندم على كل لحظة فاتتك بغير امرأة! قل لي بحق السماء: ماذا تريد من حياتك أمتع من امرأة تحبها وتعيشان معا تتحدثان تضحكان معا ثم ... ولا تنس أبدا هذا الذي سأقوله ... ثم تعتركان! نعم ما كان ألذ اعتراكي مع «ر»، عراك الزوج ممتع ممتع؛ أين أنت الآن يا «ر» لنعترك ونتشاتم ونملأ الدنيا صياحا! تلك هي جنة الفردوس بعينها!
وبعد حديث طال، قلنا: نقوم؛ فقالت السيدة «ج»: أتقومون ولم تروا صورة «ر»؟ وتركتنا ثم عادت ومعها صورة لزوجها الراحل.
الخميس 5 نوفمبر
خرجت تحت المطر إلى الغداء في المطعم القريب، ولم أجد مكانا على مائدة، والمكان الخالي الوحيد هو النضد العالي ذو المقاعد العالية غير ذوات الظهور، فجلست هناك وكنت عندئذ على مقربة ممن يعدون الطلبات، فأمعنت النظر في هذه السرعة الخاطفة التي يؤدي بها هؤلاء الناس أعمالهم: أمامي رجل يعد لحما مشويا في شطائر، فكأنما ذراعاه متصلتان بأسلاك كهربائية، لا يقف عن الحركة ثانية واحدة، ولا يتحرك حركة بغير فائدة؛ يقلب قطع اللحم على النار ثلاثا ثلاثا، ثم ينحني بسرعة البرق يقطع الخبز ثم يعود فيقلب قطع اللحم ثلاثا ثلاثا، ثم ينحرف يمينا يقطع الطماطم بالسكين في حركة لا تكاد تتبعها العين لسرعتها، وإلى جانب هذا كله يكلمه الزبون الذي يجلس بجواري فيرد عليه ويضحكان، والظاهر أنها كانت نكتة وردها، لكني لم أفهم لا النكتة ولا ردها ... وانظر إلى هؤلاء الفتيات المناولات، كلهن في ثياب بيضاء، وقتهن بالثانية أو بجزء من الثانية، يسمعن منك الطلب وهن ينزلقن مع الهواء، يكتبن ما يطلبه هذا الزبون وهذا وذلك دفعة واحدة ... تذهب المناولة لتعود وبخبطة واحدة على النضد تضع أربعة أكواب من الماء أمام أربعة من الزبائن، وبخبطة تالية على النضد تضع أربعة فناجين القهوة، وبحركة واحدة كأنها تبعثر حبا تقذف أمام الزبائن الأربعة على النضد بأربعة لفائف، كل لفيفة قوامها فوطة ملتفة على شوكة وسكين وملعقة ... فلا عجب أن يدخل هذا المطعم الصغير ساعة الغداء مئات ويخرجون في غير ضجة ولا إبطاء ... والمطاعم هنا كلها تقريبا على غرار واحد من التأثيث؛ فهي مؤثثة على هيئة مقصورات عربات القطار.
كنت قد ألفت هذا المطعم أول حضوري إلى هنا، أرتاده كل يوم، ثم انقطعت عنه حينا إلى سواه، ثم عدت إليه بعد ثلاثة أيام، فكان استقبال صاحبته لي ترحيبا حارا خجلت له، وسألتني أين كنت هذه المدة؟ فكان جوابي لجلجة صوتية في غير ألفاظ ... صاحبة المطعم على شيء من بدانة الجسم، لا تزيد عن الخامسة والثلاثين، أو قل إنها قاربت الأربعين، بشرتها غاية في الصفاء وردية اللون، فلا هي بالبيضاء الشاحبة، ولا هي بالممتقعة في احمرارها، وهي تتميز عن المناولات بلون ثوبها ... هذه السيدة البدينة تنسل بين الموائد كأنها النسيم، وبعين لماحة تكمل الموائد بما ينقصها، ثم تجري كأنها الريح إلى حيث تقبض النقود من الخارجين ...
الجمعة 6 نوفمبر
تحدث إلي طالب من طلبتي حديثا طويلا، فقال فيما قال إنه سيدرس القانون تحقيقا لرغبة أبيه، ولكنه في الواقع لا يميل أبدا إلى حياة تضعه على مكتب وأمامه أوراق وكتب، ثم قال: إنني مصمم منذ الآن على أن تكون لي مزرعة؛ إن لأبي مزرعة فسيحة، وأنا أحب العيش فيها، وأتشوق إلى عطلة الأسبوع لأقضيها في رحابها، أصيد الطير ... هل عندكم في مصر طير وصيد؟ قلت: قليل، وذلك في منطقة البحيرات الشمالية على الأغلب؛ فقال: إني أود أن آتيك بمجموعة من السمان الذي أصيده هذا الأسبوع، نظيفة معدة للطهي إذا كان لديك استعداد للطهي؛ فشكرته معتذرا لانعدام وسائل الطهي في سكني؛ قال لي عن أبيه إنه درس القانون واشتغل بالمحاماة حينا، ثم تركها وتفرغ لمزرعته، وقد كان أول الأمر يزرع القطن، ثم تبين له أن ربحه قليل، فقلب أرضه كلها مرعى للماشية؛ لأنها أكثر ربحا؛ وراح يشرح لي تفصيلات كثيرة عن تربية الماشية على وجه مريح.
ودهشت حين سألني هذا الطالب أسئلة نافذة رأيتها أكبر من سنه، ومنها هذا السؤال: هل المعونة المالية التي تغدقها الولايات المتحدة على العالم كمشروع النقطة الرابعة وما إليه، تثير الحب بقدر ما تثيره في النفوس من بغض وحسد؟ ... وعقب على ذلك برأيه، وهو أن تكف أمريكا عن هذه السياسة الخارجية؛ لأنها - في رأيه - تهريج كثير لا ينطوي إلا على لباب ضئيل.
مما قرأته اليوم وأسكرني بالمتعة الفنية، مقالة أدبية في مجلة بوست لهذا الأسبوع، عنوانها: «إذا فأنتما متخاصمان؟!» فيها تحليل من أبدع وأروع وأجمل وألذ ما يمكن أن يكتبه كاتب في الدنيا عن موقف الزوجين حين يتخاصمان، لا يكلم أحدهما الآخر، ومع ذلك يقضيان شئون الحياة من زيارات واستقبالات وغيرها من أوجه النشاط الاجتماعي ... يسأل الزوج صديق له: وكيف يا أخي تطيق العيش مع زوجتك بغير كلام طول هذه الأيام؟ فقال الزوج: ولم لا؟ ليس هناك أكثر إغاظة لخصمك من صمتك عنه، على شرط أن تفعل ذلك وأنت مالك لزمام أعصابك فلا غضب ولا انفعال؛ قال الصديق: لكن العبوس المستمر سيئول بك إلى حال أقرب إلى الغلظة البدائية؛ فأجاب الزوج: حذار أن نخلط بين حالتين: الخصومة من ناحية، والعبوس من ناحية أخرى؛ فالصمت عن الحديث لا يستتبع حتما حالة العبوس، أنا وزوجي لا يعبس أحدنا في وجه الآخر أثناء الخصومة التي ينقطع فيها كل منا عن التحدث إلى الآخر، وفي هذا يقع الفن كله ... هي قطعة أدبية ممتازة، وإني لأشعر بالحسرة كلما وقعت على أمثال هذه الآيات الأدبية المبتكرة؛ لأنني عندئذ أستعرض أدبنا وأدباءنا، فأسأل نفسي: هل يصنع هؤلاء - كبيرهم وصغيرهم على السواء - سوى أن يقرأ الواحد منهم كتابا أو جزءا من كتاب، قديما كان هذا الكتاب أو حديثا، ثم يعلق أو يلخص أو ينقد؟ ... لقد حرمنا الله نعمة الابتكار، وكان الله بالسر عليما.
كذلك قرأت في مجلة «لايف» مقالا مصورا له دلالته، مؤداه أنه قد حدث في مدينة شيكاجو أن سكنت أسرة زنجية في عمارة بقية سكانها بيض، كان هذا بالطبع يستحيل حدوثه في ولاية جنوبية مثل كارولاينا الجنوبية التي أقيم فيها؛ لأن ولايات الجنوب تمنع ذلك الاختلاط بقوة القانون، أما في الشمال فالقانون لا يمنع شيئا، غير أن القانون شيء، ومشاعر الناس شيء آخر؛ فالبيض الذين يسكنون العمارة قد أغاظتهم جرأة هذه الأسرة السوداء، فأخذوا يقذفون أفرادها بالطوب والطماطم كلما خرجوا من البناء أو دخلوا، وحطموا لهم زجاج نوافذهم؛ مما اضطر الأسرة الزنجية أن تسد نوافذها بألواح مسمرة من خشب ... وأقامت الحكومة حراسة قوية من الشرطة لتحمي هؤلاء السود من اعتداء البيض ...
إن مشكلة الزنوج في أمريكا نكبة نكب بها الأمريكيون وليس لهم منها خلاص؛ فألف عام لن تكفي للفوارق أن تزول زوالا تاما، ولقد مجدت في نفسي تلك الأسرة الزنجية التي صممت ألا تتحول مهما لاقت من إيذاء؛ فبمثل هذه الشجاعة، وبمثل هؤلاء الرواد تتقدم الإنسانية نحو الكمال.
الإثنين 16 نوفمبر
قرأت في مجلة «هاربرز» لشهر نوفمبر قصة للكاتب «ولمر هاملتن» عنوانها «صديق بالتراسل»، خلاصتها أن كاتبا في سن الخامسة والستين لم يتزوج، وقد اعتزل الناس في بيت ريفي صغير، لا عمل له إلا القراءة والتأليف، تزوره أخته آنا بعد آن، وقد جاءت له أخته بخادمة على شيء من الجمال وقليل من التعلم، وبعد أشهر طويلة عرف الكاتب عن خادمته أنها تراسل صديقا لم تره تراسلا منتظما مطردا؛ إذ قرأت ذات يوم إعلانا في مجلة تصدرها إحدى الكنائس يقول فيه صاحبه: «أشعر بوحشة ووحدة، وأريد أن تراسلني فتاة حتى تقل وحشتي؛ أنا مسيحي.» فشعرت الفتاة أنها في مثل وحدته ووحشته وأخذت تراسله، ولا تعلم إلا ما يرد في خطاباته من آراء، وهي آراء كانت تدل على أن الشاب مثقف مهذب ... وأخيرا أرسل الفتى إلى الفتاة يسألها إن كانت توافق على لقائه يوما في المدينة، فتأتي في قطار الصباح وتقضي معه بقية اليوم ثم تعود إلى ريفها في المساء، واتفقا على أن يكون ذلك في يوم محدد ... لم يكن يعرف الكاتب المخدوم شيئا من أمر الفتاة، لكنها طلبت أن يجيزها يوما وقصت عليه قصتها مع الفتى، وكيف بدأ التراسل بينهما إثر إعلان نصه كذا وكذا؛ فتعجب الكاتب من ذكر الفتى في إعلانه «أنه مسيحي» لماذا يقول ذلك؟ فتقول له أخته ألا غرابة في الأمر ما دام الإعلان منشورا في مجلة كنسية، لكن الكاتب أبصر بطبيعة البشر من أن يرى ذلك أمرا لا غرابة فيه.
أعدت الفتاة ثوبا بمعونة الأخت؛ فقد كان في رأي كل منهم - الكاتب وأخته والخادمة - أن اللقاء المنتظر قد يكون وسيلة زواج، ولو أن أحدا من الثلاثة لم يقل شيئا من هذا صراحة.
ذهبت الفتاة وعادت في المساء تحمل غما ثقيلا، ولم يجرؤ الكاتب أو أخته أن يفاتحها بالكلام لاضطراب نفسها، وذهبت إلى المطبخ، وهناك سرعان ما راحت تجهش بالبكاء ... ماذا في الأمر يا ترى؟ هل علمت أن الفتى متزوج فضاع أملها؟ هل قابلها ولم تعجبه فهرب منها؟
وبعد أيام كانت تقدم الشاي إلى مخدومها، وكانت الأخت قد سافرت، وتلكأت قليلا فعرف الكاتب أنها تريد قولا، فشجعها على القول، وعندئذ طفقت تقص عليه قصة اللقاء لتطلب منه المشورة ... ولم تكد تمضي الفتاة في وصف اللقاء حتى عرف الكاتب أن الفتى زنجي أسود! هو زنجي متعلم لا يجد فتاة يأنس إليها، وأحس بوحشة، وهنا يأتي لباب القصة وهدف التحليل، وهو أن هذا الزنجي كان يعلم أن الفتيات البيضاوات ينفرن منه؛ لأنهن يرين سواده قبل أن يرين علمه وثقافته، فلو استطاع أن يظهر تهذيبه وتثقيفه قبل أن يظهر سواده، فربما وجد البيضاء التي تحبه، ومن ثم الإعلان والتراسل أولا، ومن ثم ذكره في الإعلان أنه مسيحي، كأنما أراد أن يقول إني واحد من هؤلاء الناس، أدين بدينهم وأتثقف بثقافتهم، وليس بي من نقص إلا لون جلدتي ...
طبعا أخذ الفتاة هم حين رأت فتاها الزنجي ينتظر في المكان المحدد وفي الموعد المضروب، لم يكن يخطر ببالها أنه زنجي؛ فكان ارتباك وكان اضطراب، وقد سألها الفتى عندما همت بالعودة إن كانت ستمضي في مراسلته كما كانت تفعل؟ فأجابته في تردد: نعم، حينا بعد حين وبغير انتظام ... وهي الآن تطلب المشورة من مخدومها: هل هناك ضرر في العودة إلى التراسل مع ذلك الصديق بعد أن تبين أنه زنجي؟
تحليل الزنجي في موقفه ومشاعره، وتحليل الفتاة في موقفها ومشاعرها، وتحليل الكاتب في خواطره ... كل ذلك آية من آيات الفن، ورائعة من روائع الأدب؛ ولنلاحظ أن الكاتب لم يختر لتحليله الأدبي موضوعا غليظا مألوفا بحيث لا يستدعي براعة ولا بصرا نافذا، لكنه اختار موقفا فيه طرافة وفيه لطف، ويحتاج إلى دقة إدراك وبراعة تحليل ... هذه هي الكتابة، وهذا هو الأدب؛ فمن ذا يلومني إذا ما سألت نفسي ماذا يكتب أكبر أدبائنا في مصر؟ من ذا جعل تحليل النفس البشرية في مواقفها المختلفة موضوعه الأدبي؟ ... لا، أديبنا الكبير يقرأ كتابا أو جزءا من كتاب، ويلخص ما قرأ وينقده، فيصبح بذلك أديبا!
أديبنا الكبير يكتب عن مجانية التعليم أو عن الطب عند ابن سينا، فإذا هو عندنا الأديب العظيم!
وكذلك قرأت في المجلة نفسها قطعة أخرى لكاتبة أمريكية هي «كاترين آن بورتر»، وهي على ما أرى في طليعة رجال الأدب ونسائه في أمريكا ... القطعة وصف لناحية من العلاقات البشرية، ومكان الحوادث ظهر سفينة؛ فبين المسافرين طفلان توءمان: ولد وبنت، أقلقا الناس «بشقاوتهما»، فهما مثلا يريان رجلا وامرأة في مزاح فيهددانهما بالفضيحة إذا لم يعطياهما شيئا من المال ... هذان الطفلان كانا يوما في ركن خفي من السفينة يمزحان، وأدت بهما المعركة المازحة إلى وضع مريب، فيمر ضابط من ضباط السفينة، ويمسك كلا منهما بيد، ويجذبهما ليوقع عليهما العقاب، فمر بهما أمام رجل وامرأة جالسين وحدهما يتحدثان: الرجل طبيب لكنه مريض بقلبه وهو مسافر للراحة، والمرأة مسافرة عابرة جلست تتحدث إلى هذا الطبيب، لكنها فيما يظهر قد وضعت عينها عليه بغية الزواج ... سألت هذه المرأة الضابط البحري والطفلان في يده: ماذا صنع هذان الطفلان؟ فيجيب الضابط في شيء من التألم والتأفف: صنعا فظاعة لا أستطيع وصفها ... فتقول له المرأة: لا تبالغ يا أخي في هفوات الأطفال، فكلنا كان طفلا، وكلنا قد أتى في طفولته أمثال هذه الأشياء ... ويمضي الضابط ومعه الطفلان.
وهنا تبدأ المناقشة البديعة بين الطبيب والمرأة عما اقترفاه إبان الطفولة من هفوات جنسية، أما الطبيب فينكر في سذاجة أنه قد اقترف شيئا من هذا، لكن المرأة تتهكم على سذاجته هذه وتشجعه على أن يبوح بذكرياته، فتبدأ هي بقولها عن نفسها: إنني نشأت بين طائفة من أولاد أعمامي، وكانوا من «العفاريت» «الأشقياء»، فاتصلت بهم جميعا صلة جنسية وأنا لم أزل في الخامسة من عمري؛ ولست بنادمة على ذلك، ولو عادت طفولتي لعدت إلى ما فعلته. فيرد الطبيب قائلا: إنني لم أقترف من أمثال هذه الشنائع في طفولتي إلا قليلا، هما مرتان اثنتان في طفولتي كلها، فمرة وأنا في السادسة أغويت طفلة في مثل سني، ومرة أخرى وأنا في السن نفسها أغرتني بنت في التاسعة، وفيما عدا هاتين الحادثتين كانت طفولتي بريئة ... ويمضي الطبيب والمرأة في مناقشة تحليلية عن مدى الاتصال الجنسي بين الناس في الخفاء، لكن الطبيب كان دائما يمثل الرجل المغفل الذي لا يفتح عينه للحقائق ، وتمثل المرأة الشخص الذي فتح عينيه مبصرتين؛ سألته قائلة: ألم تخن زوجتك أبدا؟ فقال في حماسة: أبدا! فسألته ألأنك لا تريد خيانتها أم لأنك مريض بقلبك؟ فقال: لست أدري. قالت: ألم تشعر بالملل من عدم الخيانة؟ فقال: طبعا، ومن ذا الذي لا يشعر بذلك؟ وكذلك زوجتي لم تخني أبدا، لكنها بالطبع تشعر بالملل من هذه البراءة ...
وعلى كل حال، كان معظم التحليل منصبا على عدم براءة الأطفال؛ فقلت في نفسي: هذه خبرة ليس منا واحد لم يمر بها عدة مرات في طفولته، فأين هذه الخبرة على أقلام أدبائنا؟! لا يزال الأديب منا كالأبله يتحدث كما يتحدث رجل الشارع الأعمى عن «براءة الطفولة»؛ فأديبنا عاجز عن الملاحظة الصادقة والتحليل الصادق لمشاعر الناس ونفوسهم وخواطرهم.
الثلاثاء 17 نوفمبر
رفعت جماعة من أولياء أمور الطلبة الزنوج، في ولايات أربع من ولايات الجنوب التي تفرق بحكم قوانينها بين البيض والسود في المدارس، فتجعل لهؤلاء مدارس ولأولئك مدارس، بحيث لا يقبل أسود في مدرسة البيض، رفعت قضية إلى المحكمة العليا في واشنطن تطلب إلغاء الفصل اللوني في المدارس التي تنفق عليها الدولة، وهي التي تسمى ب «المدارس العامة»، فما دامت الدولة للجميع، فلا يجوز بعد ذلك أن يختص البيض بمدارس والسود بمدارس أخرى؛ وهم في قضيتهم يستندون إلى التشريع المسمى «التعديل الرابع عشر للدستور» الذي كان فيما مضى قد صدر ليقضي بإلغاء كل وضع من شأنه أن يخلق الشعور بالنقص بين الزنوج.
وخشية أن ينتهي الأمر بالمحكمة العليا إلى الحكم بامتزاج اللونين في مدارس الحكومة، استعدت ولايات الجنوب التي يستحيل عليها أن تقبل هذا الامتزاج، بتشريعات مضادة إذا ما وقعت الواقعة.
كذلك قرأت عن قضية رفعها زنجي إلى المحكمة العليا ضد شركة من شركات السكة الحديدية في الجنوب؛ لأنه أراد أن يأكل في عربة الأكل فمنع من ذلك حتى لا يأكل مع جماعة من البيض تحت سقف واحد ... لقد فهمت مما قرأته اليوم عن هذه القضية أنها رفعت لأول مرة عام 1942م، وهي حتى الآن بين أخذ ورد في محاكم الاستئناف؛ لأن المحكمة كانت حكمت عندئذ أن يسدل ستار على جزء من عربة الأكل بحيث يخصص ما وراء الستار للزنوج، وبهذا يأكلون إذا شاءوا دون أن يختلطوا بالبيض في عربة واحدة اختلاطا ظاهرا، لكن الزنجي الذي رفع القضية لم يقبل هذا الحكم واستأنف.
وبهذه المناسبة أقول: إنني قرأت منذ أيام أن وزير البحرية قد أعد قانونا يبيح للبيض والسود أن يختلطوا في ناد واحد؛ وذلك أنه في نادي رجال البحرية من ميناء شارلستن (بولاية كارولاينا الجنوبية) لم يكن السود يؤذن لهم بالدخول مع أنهم يعملون مع البيض في سلاح واحد وعلى سفن واحدة ... وقد خطب أيزنهاور خطبة يشيد فيها بشجاعة الوزير في هذا القرار، ويرحب بكل مجهود يقوم به أي رجل من رجال حكومته نحو إزالة الفوارق بين اللونين.
الحقيقة أن مسألة التفرقة اللونية هي هنا - في ولايات الجنوب بصفة خاصة - الدمل الحساس الذي لا يحتملون أن يمسه ماس، ويخيل إلي أن هذه المشكلة الكبرى هي التي تنغص عليهم حياتهم، ولولاها لكانت حياتهم جنة خالصة ونعيما صرفا ... لكن الزمن يمضي قدما، والزنوج يكسبون على مر الزمن، بفضل ما قد يظهر بينهم من شجعان حينا بعد حين، لا يرضون بالأوضاع القائمة؛ فيثيرون الضجة ويقيمون القضايا حتى يكسبون الحقوق واحدا بعد واحد.
في منتصف الساعة التاسعة مساء كان موعد محاضرة عن الفن الحديث، يلقيها في المتحف الدكتور واتسن، الناقد الفني المعروف في أمريكا، وهو يعمل في معهد الفنون ومتحفها بمدينة شيكاجو، وقد جاء إلى كولمبيا بدعوة من المتحف ليلقي محاضرات ثلاثا؛ هذه أولها.
ذهبت إلى المتحف في الموعد المحدد، وما إن جلست حتى جاءت الآنسة «م» وجلست إلى جانبي، فشكرتني على تذكرة الأوبرا التي أرسلتها إليها لاحتفال يوم السبت المقبل، وعرفتني بصديق لها مشغوف مثلها بالفن ومسائله.
بدأ الدكتور واتسن محاضرته التي دامت ساعتين كاملتين، وكانت مصحوبة بالفانوس السحري، فيعرض علينا صورا فنية ويعلق عليها، وفي رأيي أنه قد أجاد إجادة ليس بعدها زيادة لمستزيد، ولولا أن المقاعد خشبية تؤلم خصوصا وقد طالت المحاضرة إلى ساعتين، لقلت إنني قد ظفرت الليلة بمتعة أنا سعيد بها ... بدأ المحاضرة بحديث عام في الفن الحديث، وكيف أنه ملائم لروح العصر الحديث؛ ففي عصرنا الحديث آلة تصوير تستطيع أن تصور الطبيعة تصويرا أمينا، وإذا فلا بد أن يلتمس الفن سبيلا غير تصوير الطبيعة ... كان المصورون السالفون يصورون الطبيعة؛ لأنهم كانوا وحدهم أداة ذلك، أما الصورة الحديثة فليست تصويرا لشيء خارج الفنان، إنها موسيقى؛ فالموسيقى تنسق موجات الصوت السبعة، والتصوير ينسق موجات الضوء السبعة (كنت ذات يوم في حديثي مع الآنسة «م» قد دافعت لها عن الفن الحديث، فقلت لها هذه الفكرة عينها وبنص هذه الألفاظ، فأحسست بالزهو الليلة حين قال المحاضر ذلك وهي تجلس إلى جانبي)؛ إنك لا تسمع الموسيقى لتسأل: صوت أي شيء هذا؟ لأن الموسيقي لا يحاكي بموسيقاه صوتا في الطبيعة كما هو، وإنما يؤلف الصوت كما يشتهي فيكون التأليف جميلا، وكذلك مهمة المصور الحديث، إنه لا يريد أن يصور شيئا في الطبيعة كما هو، بل مهمته التأليف بين الألوان تأليفا يمليه ذوقه ومزاجه، وغايته هي أن يقدم للعين مزيجا لونيا جميلا.
إن الشرط لأي فن هو أن يكون مستقلا بذاته، فلا يجوز للتصوير مثلا أن يعتمد على الأدب في شرحه، ولا يجوز للأدب أن يعتمد على التصوير؛ ومن هنا كان الإنجليز مقصرين في ميدان التصوير؛ لأن مصوريهم يعتمدون في الغالب على شيء في الأدب يفسره، أما في سائر القارة الأوروبية - كفرنسا مثلا - فهنالك تجد قادة الفن بالمعنى الصحيح، هنالك ترى الصورة مستقلة بذاتها، تفهمها وحدها وليست هي بمستندة على شيء إلى جانبها يشرحها ويفسرها.
وجعل المحاضر يعرض على الحاضرين صورا من كل مذهب ومدرسة، قديمة وحديثة، ويشرح أين يكون موضوع جمالها، وكثيرا ما كان يربط الصورة بقطعة موسيقية من عصرها نفسه؛ ليبين أن التصوير والموسيقى في العصر الواحد يكونان ذاتي طابع واحد، وذلك بأن يدير أسطوانة فونوغرافية والصورة أمامنا ... وإني لأعترف أنني لم أكن أفهم أبدا كيف يمكن أن تكون هنالك علاقة بين الصورة التي أراها والموسيقى التي أسمعها، فذلك شيء بعيد عن ثقافتنا، إلا مرة واحدة كانت الموسيقى فيها هي موسيقى الوالتس، وأعرف كيف أميز أجزاءها الموسيقية ذات الضربات الثلاث؛ فقد لحظت من فوري علاقة الشبه بين الصورة والموسيقى، كلاهما مؤلف من وحدات كل وحدة فيها تفعيلات ثلاث إذا صح هذا التعبير؛ ثم عرض المحاضر صورة أخرى من الفن التكعيبي قائلا إنها هي الأخرى تلائم الدور الموسيقي الذي نسمعه؛ هنا لم أفهم لماذا، لولا أنه أشار بالعصا إلى التتابع اللوني في الصورة قائلا: أبيض أصفر أسود، أبيض أصفر أسود، فظهر كالشمس وجه الشبه بين النغم الموسيقي والتناغم اللوني، خصوصا حين أشار المحاضر فوق ذلك إلى أن الصورة مؤلفة من مثلثات، فوق تأليفها من ألوان ثلاثة.
خرجت بعد المحاضرة، وكنت من أول الخارجين، فدهشت إذ رأيت السيدة «أ. و» أستاذة تاريخ الفنون بالجامعة واقفة وحدها خارج بناء المتحف، مسندة ظهرها إلى عمود البهو تدخن سيجارتها، فسألتني رأيي في المحاضرة، فقلت لها ما أعتقده فيها، وهو أنها محاضرة ممتازة؛ فظنتني ساخرا، ولما عرفت أني جاد، انطلقت تهاجم المحاضرة بأبشع الشتائم؛ فهي في رأيها محاضرة تافهة، والمحاضر جاهل يقول عن فلان إنه أول من رسم بالتكعيب وهو ليس كذلك، وملاحظاته كلها جديرة بأطفال إلخ إلخ. قلت لها: ربما رأيت فيه هذه التفاهة؛ لأنها مادة اختصاصك، أما أنا فقد تمتعت واستفدت إلى أقصى حد أريده؛ فقالت: إني لا أصدق أن محاضرا ممتازا مثلك يقول هذا الرأي في محاضر كهذا، تعجبت جد العجب أن يختلف حكمها وحكمي إلى هذا الحد البعيد.
الأربعاء 18 نوفمبر
اليوم احتفال لجماعة غريبة تطلق على نفسها اسم «أصحاب المزار»
Shriners
تأتي من أطراف الولاية لتجتمع هنا في العاصمة - أعني في مدينة كولمبيا، وقد عرفت أنها جماعة تنتشر في سائر أنحاء الولايات المتحدة، وهي فرع من الماسونية، تهدف إلى الخدمات الاجتماعية الإنسانية كإنشاء المستشفيات الخيرية، لكنها تمزج نشاطها هذا بالمرح الشديد الذي قد يصل إلى عبث الصبيان، والذي يلفت النظر بصفة خاصة هو أن أعضاءها في مثل هذه الاحتفالات يلبسون أردية غريبة، منها أنهم يلبسون الطرابيش على رءوسهم، لكنها طرابيش ذات أزرار طويلة، وعليها زخارف براقة بألوان ذهبية أو فضية، و«أصحاب المزار» هؤلاء فريقان، لكل منهما اسم يميزه: «عمر» و«حجاز»! وليست هي جماعة قليلة العدد؛ فالمجتمعون اليوم في كولمبيا وحدها أربعة آلاف، فإذا كان هذا بعض أعضاء الجماعة من ولاية واحدة، فلك أن تضرب هذا العدد في ثمان وأربعين ولاية لتعلم كم عددها على وجه التقريب.
لا تفتأ السيدة «م» أن تصفني بالرهبنة، ولما عدت ظهر اليوم نبهتني إلى مقال في الصحيفة اليومية عنوانه «أنت كذلك تستطيع أن تكون راهبا - إذا وجدت صومعة»، والمقال لكاتبة تكتب كل يوم بانتظام في الصحيفة اليومية، وهي اليوم تعلق على كتاب أصدرته الكاتبة «هلن إرسكن» عنوانه: «خارج هذا العالم» كتبته عن أعلام الرهبان الذين تركوا هذه الدنيا واعتزلوا الحياة؛ وذلك لأنها هي نفسها تتمنى هذه العزلة لنفسها؛ فتقول الصحفية كاتبة التعليق: وأنا كذلك - كمؤلفة الكتاب - أتمنى أن أعتزل المجتمع ولو إلى حين؛ فتلك متعة لا أنعم بها حتى في الحلم، نعم أتمنى أن أنعم بعزلة لا يدق فيها التلفون وأنا في الحمام مغطاة الجسد برغاوي الصابون، ولا تأتيني خطابات تحيرني وتربكني، ولا تدق لي الساعة حينا بعد حين، ولا تكون ورائي المواعيد الدقيقة التي ترهف أعصابي بانتظارها ... لكن المشكلة الكبرى هي: أين عساك أن تجد المكان الذي تعتزل فيه هذا العالم الواسع؟ إن معظم المعتزلين إنما اعتزلوا العالم إما عن اضطهاد أو عن إهمال الناس لشأنهم، أو لأن الأيام قد حطمت لهم آمالهم، لكن حتى هؤلاء - حين التمسوا لأنفسهم صوامع في قلب الصحراء أو في جوف الجبل - لم يكن اعتزالهم حلا لإشكالهم؛ لأنهم أخذوا معهم آلامهم، وستظل معهم إلى أن يدركهم الموت ... فربما تكون طريقة غاندي في الصوم عن الكلام يوما في الأسبوع هي أفضل طريقة ممكنة للعزلة، وكذلك من طرق الاعتزال الممكنة اتخاذ الهوايات، كأن تفلح بستان بيتك أو ترعى الطيور أو تجمع طوابع البريد؛ لأنك وأنت مشغول بهوايتك إنما تكون بمثابة من يبني حول نفسه حائطا لا يتخلله صوت المجتمع.
ويشاء لي الله أن أقرأ هذا المقال وأنا في حالة حنين شديد إلى عزلة تامة، فقلت لنفسي لما فرغت من قراءتي للمقال: إنني أضيف إلى مؤلفة الكتاب وكاتبة المقال شخصا ثالثا يتمنى العزلة، ذلك هو شخصي، أتمنى العزلة من صميم نفسي، العزلة التي تقطع كل أسلاك الصلة بالعالم الذي حولي، فإذا كانت عزلة الصحراء أو جوف الجبل لا تكفي، فلتكن عزلة في حفرة القبر، هذه هي الرغبة الحقيقية التي يرن بها معدن طبيعتي، وكل ما عدا ذلك تمثيل خادع وتقليد للناس فيما ينشطون فيه ... لكن لأترك هذه النغمة الحزينة ولألتفت إلى تيار الحياة.
ذهبت إلى نادي الأساتذة بعد الغداء، فوجدت الدكتور واتسن الذي ألقى أمس محاضرة عن الفن الحديث، وجدته هناك يشرب القهوة مع لفيف من أساتذة الجامعة، وكانوا عندئذ يتحدثون في الأثاث وتطور الذوق فيه؛ فقال واتسن: كان يراعى في الأثاث القديم أن يكون جميلا، وأما الأثاث الحديث فيراعى فيه النفع والراحة حتى لو أدى ذلك إلى قبح، وعندئذ تذكرت رأي أولدس هكسلي في ذلك؛ إذ يقول إن الأثاث يسير مع الديمقراطية منتقلا من جمال المظهر بغض النظر عن الراحة، إلى الراحة بغض النظر عن جمال المظهر. ثم أضاف الدكتور واتسن قوله إن فلانا يبذل جهده الآن في أن يحتفظ في الأثاث بالراحة والنفع مع إضافة جمال المظهر ولو إلى حد محدود، وهو يعتقد أن فلانا هذا سيوفق إلى خلق اتجاه جديد في فن الأثاث.
وحضرت في المساء محاضرة أخرى للدكتور واتسن عن «الحدائق في أمريكا وأوروبا»، عرض فيها صورا لأشهر الحدائق مع التعليق المفيد للذين يهتمون بهذا الموضوع؛ فمما قاله مثلا أنه يحسن دائما أن يكون للزهور البيضاء نصف ما في الحديقة من الزهور، وعرض صورا لحدائق مختلفة روعي في بعضها أن ينتشر فيها الزهر الأبيض فكانت جميلة، ولم يراع في بعضها الآخر هذا المبدأ فبدت أقل جمالا ... وفي الحدائق العامة لا بد أن يتعاون فن النحت مع إنتاج الطبيعة، وعرض صورا لحدائق انتثرت فيها التماثيل فكانت رائعة، وأخرى افتقرت إلى التماثيل فكانت أقل جمالا، ولاحظ المحاضر أن حدائق أمريكا بوجه عام لم تدخل فن النحت فكانت أقل جمالا من نظائرها في أوروبا.
وكان مما عرضه صورة حديقة لأسرة متوسطة في جهة ما بأمريكا، كانت منها موضع عناية ورعاية وهواية بحيث تغير طلاء نوافذ المنزل وأبوابه عدة مرات في العام الواحد حتى يتناسب لونها مع لون الزهور التي تزدهر في الفصل المعين من فصول العام ... وما هذا المثل إلا واحد من أمثلة كثيرة ساقها ليدل بها على صدق مبدأ وضعه في محاضرته، وهو وجوب التناسب بين تنسيق الحدائق وفن البناء الذي يجاور تلك الحدائق، وراح يطلعنا على أشهر الحدائق العالمية التي روعي فيها الاتساق بين الحديقة والبناء، في طليعتها حديقة فرساي.
ومن جميل ما قاله: إن الناس يختلفون في أيهما يتبع الآخر: أننشئ الحديقة وفقا للبناء المجاور لها، أم ننشئ البناء وفقا للحديقة وتنسيقها وأزهارها؟ الفرنسيون يأخذون بالشق الأول، وعندهم أن الزهور هي التي تأتي في ختام القائمة لكي نختارها على أساس ما حولها؛ فهي كالقرط عند السيدات: تزدان السيدة بثيابها وتصفيف شعرها وبسائر حليها، وآخر ما تعمله هو أن تختار القرط الذي يناسب المجموعة بصفة عامة، وهكذا تأتي الأزهار في لونها ونوعها قرطا في أذن حسناء.
الخميس 19 نوفمبر
من أجمل الدعوات التي دعيتها حتى الآن، هذه الدعوة التي لبيتها؛ دعوة نادي السيدات الشابات لألقي فيهن كلمة عن المرأة المصرية وحالتها الاجتماعية؛ فهؤلاء السيدات الشابات قد أنشأن ناديهن منذ عامين، منسلخات به عن نادي السيدات المتقدمات في العمر لما رأين أن السيدات الكهلات يستأثرن بالنشاط كله، وقد جعل السيدات الشابات أربعين عاما حدا أقصى لعمر المرأة العضو ... ومن لطيف ما قالته لي السيدة «س» (وهي في السبعين من عمرها وعضو في نادي السيدات الكبريات ولا تنقطع فكاهتها) حين سألتها: وماذا تصنع السيدة من الشابات حتى تبلغ الأربعين؟ هل تستقيل لبلوغها أرذل العمر؟ ضحكت وقالت: لا يأخذنك الهم؛ فلن تبلغ منهن واحدة سن الأربعين، بل هناك ما هو أمر وأنكى؛ وذلك أن كثيرات من أعضاء نادينا قد انضممن إلى الشابات ليقلن بذلك للناس إنهن دون الأربعين، مع أنهن فوق الخمسين فيما أعلم علم اليقين!
كانت الدعوة في أجمل فنادق المدينة، استأجر الشابات مكانا هناك ليكون ناديهن، وهن من الطبقة العليا في المجتمع كما هو ظاهر من ثيابهن وحليهن وسلوكهن: فها أنا ذا أرى مجموعة قد تبلغ المائة من آيات الجمال الرائع، قد بدون في ثياب السهرة التي تخطف الأبصار فتنة وسحرا، وقد لبس كثيرات أنواعا من الأساور العريضة التي تشنشن منغومة كلما تحركت الأذرع، والأقراط في الآذان، كلها فن، وكلها عجب يسرق الألباب ... الاجتماع فواح بالعطور متلألئ بالزينة منغوم بالصوت الجميل، فيه كل ما يشبع البصر والشم والسمع والأنفس والعقول والألباب.
لما جاءتني اثنتان من هؤلاء تأخذانني بسيارة إحداهما إلى الفندق حيث الاجتماع، جلست إلى جانب صاحبة السيارة، وكان القمر ابن ليلتين أو ثلاث، فلم أدر كيف أفتح الحديث - قبل أن تتحرك السيارة - سوى أن سألت جارتي: كم عمر هذا القمر؟ فضحكت وقالت: لا أستطيع أن أراه من مكاني إلا إذا رأيته خلال فروع الشجر، ولا أريد أن أنظر إليه خلال فروع الشجر؛ لأنه يقال إن الواحدة لو رأت القمر خلال الشجر أصابها الحظ السيئ ... تلك بالطبع خرافة اعتقدت فيها هذه السيدة الفاتنة الجميلة التي شبهتها أول ما رأيتها بالفاتنة المصرية «خ»، فكلتاهما مترعة بالأنوثة في كل نبرة وفي كل لفتة، فلما رأيت السيدة «ف» معتقدة في خرافة القمر والشجر زادت أنوثة على أنوثة وفتنة فوق فتنة! اللهم إني لمفتتن بالمرأة التي تعتقد في الخرافة أكثر ألف مرة من فتنتي بامرأة تجلس إلى جانبي لتحدثني في الهندسة وعلم الفلك! إنني أشتهي المرأة حين لا يكون العلم الجاف جمد عقلها وجعلها كالصخرة الناشفة التي لا يرجى عندها قطرة ماء، أريد امرأة يكون في عقلها رخاوة كرخاوة جسمها، أريدها ضعيفة لكنها ذكية ...
في الجريدة اليومية التي أقرؤها محررة ترد على الرسائل التي ترد إليها من قرائها وقارئاتها، وكثيرا ما تكتفي المحررة بسؤال واحد لتجيب عليه في إطناب، وقد لفت نظري موضوع اليوم؛ لأنه متصل بالفكرة التي ذكرتها الآن عن المرأة التي تستهويني ... فالسؤال من طالبة في مدرسة ثانوية، أرسلت تسأل المحررة رأيها في الصفة التي تكون أكثر استهواء للشبان، فتقول: إن طريقة تربيتي مختلفة كل الاختلاف عن تربية زميلاتي؛ فقد عنى والدي أن يربياني بحيث أنشأ امرأة لا تتشبه بالرجال، فعلماني كيف أمشي وكيف أتكلم وكيف أتلفت، وكيف أجلس وكيف أستقبل وكيف أودع ... أما زميلاتي فيهزأن بي، ظانات بي التأخر والرجعية؛ فهذا العصر عندهن عصر لا ينبغي للمرأة فيه أن تختلف عن الرجل في شيء؛ فهن يصحن في الحديث ويصفرن ويدخن ويسترجلن في الحركة والكلام ... إن زميلاتي ينذرنني بأن سلوكي المتخلف عن عصره سيكون منفرا للشبان، وبذلك فلن تكون لي صداقة مع واحد منهم، وبالتالي لن يكون لي زواج ...
فأجابتها المحررة قائلة إن سلوكها هذا هو خير سلوك في اجتذاب الصديق والزوج، وأكدت لها من خبرتها الطويلة أن المرأة كلما بعدت عن التشبه بالرجال زادت للرجال استثارة واستمالة؛ لكنها تحذرها تحذيرا شديدا ألا تخطئ فتمزج ترفعها بالعجرفة، قائلة لها: اعلمي أنه ليس أقتل لغريزة الرجل إزاء المرأة من عجرفتها ...
وقرأت في مجلة كوليرز لهذا الأسبوع مقالة دهشت لها دهشة عميقة، كدت لا أصدق عيني فيما تريان على صفحات المجلة؛ ذلك أن المقالة عن طائفة من الناس في ولاية يوتا من ولايات الغرب يطلق عليها اسم «المورمون» تبيح للرجال منها أن يتزوج الرجل من زوجات عدة، و«المورمون» طائفة مسيحية لكنها تختلف عن سائر المذاهب المسيحية من بعض الوجوه؛ وعنوان المقالة التي قرأتها اليوم «لماذا أعاشر خمس زوجات» وهي حديث صحفي مأخوذ من رجل اسمه «إدسن جيسوب» يدين بعقيدة المورمون، ويتزوج من خمس نساء دفعة واحدة، وقد استتر هو وأسرته الضخمة في مكان خفي من ولاية أرزونا؛ لأن حكومة الولايات المتحدة لا تجيز تعدد الزوجات على أرضها مهما تكن عقيدة الزوج، فاكتشف رجال الحكومة مكمن هذا الرجل وقبض عليه وحوكم وحكم عليه بالسجن، لكن الرجل عندما وجه إليه الصحفي سؤاله كان قويا في إجابته مؤمنا بعقيدته، سأله الصحفي: هل يمكنك أن تحب زوجاتك الخمس؟ فقال: «لقد سمعت هذا السؤال مرارا كأنه لغز لا تستطيعون حله، وجوابي دائما على هذا السؤال هو الآتي: هل يمكن لرجل أن يحب خمسة من أبنائه دفعة واحدة؟ هل يمكن أن يحب خمسة من أصدقائه دفعة واحدة؟ هل يمكنه أن يحب خمسة من إخوته دفعة واحدة؟ أروني رجلا واحدا ممن يدعون أنهم يلتزمون بنظام الزوجة الواحدة، لا تكون له امرأة أخرى يبادلها الغرام وتبادله! ونحن المورمون لا نحب سرا، إننا لا نحب حبا يلفه العار، بل نحب جهرا وعلانية حبا يزدان بالشرف، ليس بيننا المرأة التي تحمل جنينها في خفاء من القانون ثم تضع حملها إجهاضا، فنساؤنا جميعا يحملن الأجنة من أزواج، ويلدنهم أطفالا ذوي نمو كامل.»
وذهبت في الساعة الثامنة إلى الجمعية التاريخية لأشرح التطور التاريخي للمسألة المصرية، وكان بين الحاضرين سيدة واحدة؛ إنني لأوشك أن أقول إن هذه ظاهرة في الحياة هنا؛ أعني عدم امتزاج الرجال بالنساء إلا على نطاق ضيق محدود، فلولا أنني أعلم أنني الآن في أمريكا حيث الاختلاط بين الجنسين تام، لقلت إن مشاهداتي الشخصية تدل على غير ذلك ... فالاجتماعات الأربعة التي عقدها لي الدكتور «ش» في داره عند أول قدومي لم يكن فيها امرأة واحدة، ولم تحضرها زوجته؛ والاجتماع الذي حضرته في منزل العميد «ن» لم يكن فيه امرأة واحدة ولم تحضره زوجته؛ ولم أر في نادي الأساتذة امرأة إلا مرة واحدة، وفي كل مطعم أرتاده لم أجد أبدا رجلا يجلس مع سيدة على منضدة واحدة إلا إذا جاءا إلى المطعم معا، فكثيرا ما يكون هنالك مقعد خال على منضدة تجلس إليها سيدة، فلا يجلسك صاحب المطعم على ذلك المقعد الخالي، ويطلب منك الانتظار حتى تخلو منضدة، أو يخلو مقعد على منضدة يجلس إليها رجل؛ كل النوادي التي دعيت إليها حتى الآن إما أن تكون للرجال دون النساء أو للنساء دون الرجال ... لست أدري إلى أي حد تكون هذه قاعدة في الحياة الأمريكية، لكن تلك هي مشاهدتي على كل حال.
الأحد 22 نوفمبر
المآسي البشرية تحدث كل يوم، لكن بعضها يلفت النظر لغرابته، أو لأنه أمس بالشعور؛ وقد حدثت مأساتان في نيويورك: الأولى تستوقف النظر بغرابتها؛ والثانية تسترعي الانتباه؛ لأنها تمس الشعور الإنساني في صميمه.
أما الأولى فهي: أن زوجة ضربت زوجها بالقادوم - وهو نائم - على رأسه حتى قتلته، أو حتى ظنت أنه قتل، وجذبت ابنها بسرعة إلى المطبخ، وفتحت صنابير الغاز لتختنق هي وابنها، ولكن حدث وهي في المطبخ مع ابنها أن سمعت زوجها يئن، فعادت إليه مسرعة وضربته بالكرسي على رأسه حتى مات، وعادت لا لتجد ابنها حيث تركته، بل لتجد أن ابنها قد فر صارخا إلى الجيران يطلب النجدة، وجاء الجيران ونادوا رجال الشرطة وقبضوا على المرأة، فقصت قصتها: وهي أن زوجها لم يدع الأسرة تستقر في مكان واحد شهرا على شهر؛ فهو ينتقل بهم من ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى، فحذرته من الانتقال مرة أخرى، حتى يجد ابنهما فرصة يضرب فيها بجذوره في الأرض، فيكون المعارف والأصدقاء؛ لأنه حتى الآن بغير صديق، لكن زوجها عاد أمس يقول لها: نحن راحلون إلى ولاية أورجون (في أقصى غرب الولايات المتحدة)؛ فقالت له: لسنا براحلين؛ فقال: بل سنرحل، وقد اتفقت فعلا على عملي الجديد ... قالت المرأة للشرطة: فانتظرت حتى نام وقتلته، وأنا الآن مستريحة الفؤاد؛ إذ لا انتقال للأسرة بعد اليوم!
وأما الحادثة الثانية فهي: أن رجلا متزوجا وله طفلة، يسكن مع أسرته في نيويورك، وقد فقد وظيفته ويحاول البحث عن أخرى منذ ستة أشهر ولكنه لم يوفق، واشتد خجله من زوجته، فأفهمها أنه قد وجد عملا، وظل يخرج في الصباح حيث لا يعود إلى داره إلا في موعد انصراف الناس عن أعمالهم، وفي هذه الأثناء يبحث عن عمل فلا يجد، وكان كل شهر يسحب من توفيره مبلغا يساوي ما يمكن أن يكون راتبه، فيعطيه إلى زوجته، بل كان أحيانا يعطيها زيادة على اعتبار أن راتبه قد زاد، لكن المدخر قد نفد، فكتب خطابا إلى زوجته يقص عليها فيه قصته، وترك الخطاب في البيت، وخرج إلى غير عودة؛ لأنه انتحر ... أليس عجيبا أن يخفق إنسان كل هذا الإخفاق في أمريكا المليئة بالعمل والنجاح؟! لكن هكذا الدنيا وهكذا الناس: يسر لبعض وعسر لبعض.
ومن أغرب ما قرأت اليوم من أنباء هذا النبأ الذي أثار دهشتي لما فيه من دلالة عميقة، وأعني النبأ القائل بأن «إنسان البلت داون» الذي كان معروضا في المتحف البريطاني بلندن، والذي كشفت عظامه في جنوبي إنجلترا واتخذت دليلا على الحلقة المفقودة بين القردة والإنسان في نظرية التطور، قد تبين أنه خدعة علمية كبرى! فقد اقترف العالم الذي أعلن كشفها غشا وتزويرا بأن تناول عظاما حديثة وطلاها وزور أجزاءها على نحو يوحي بأنها هي العظام القديمة المنشودة! إنني لفي عجب شديد أن يبلغ التزوير العلمي كل هذا الحد، ولماذا؟ ليقال عنه إنه خليق بالتمجيد؛ أليس هذا إمعانا وإسرافا في الرغبة في الشهرة حتى وإن قامت الشهرة على زيف وغش؟ ... لكن فيم العجب وأمثال هذا الزيف عندنا في مصر بالقناطير المقنطرة؛ فما أيسر على المصري أن ينقل غيره ويكتم خبر النقل ليشتهر بالعلم على حساب غيره ... ليست الشهرة الزائفة في المحيط العلمي أمرا غريبا في مصر، لكنها في الحق جد غريبة في بلد كإنجلترا؛ وقد مر أربعون عاما تقريبا والعظام معروضة في المتحف البريطاني بلندن، والعالم كله ينظر إليها على أنها الأساس العلمي المتين الذي يدعم النظرية التطورية، ويكتب المجد العلمي لمكتشفه ... هذا أقوى دليل على أنه لا علم بغير أخلاق.
الثلاثاء 24 نوفمبر
أذعت اليوم أولى إذاعاتي عن مصر وعن الإسلام، وسأذيع سلسلة منها هنا بغير أجر دعاية لوطني الذي يجهله الناس جهلا لا يطوف لنا ببال ... لكن طريقة الإذاعة لم تعجبني؛ فهي تجارية إلى درجة لا يطيقها عاقل؛ كنت لا أطيقها مستمعا وها أنا ذا اليوم أجربها من الداخل فلا أطيقها مذيعا؛ ذلك لأن إذاعتي مسمار تتعلق عليه طائفة من إعلانات تجارية! تسألك المذيعة سؤالا عن بلدك، فتحسب السؤال بريئا لوجه الله فتجيب، وإذا بها تستدرجك في مهارة عجيبة حتى تذكر لها في إجابتك شيئا تريده لتقول عنه إعلانا في يدها؛ مثال ذلك أن تسألك إن كنا نزرع الفاكهة في مصر والتفاح بوجه خاص، لينتهي بها الأمر أن تقرأ صفحة كاملة في يدها عن «تفاح بيرو» أين يباع وبأي ثمن يباع، وما ميزاته على سائر أنواع التفاح ... وهكذا، وبذلك لا أظنني قد تحدثت عن مصر أكثر من اثنتي عشرة دقيقة من نصف الساعة الذي سمح لي به، وبقية الزمن إعلانات قرأتها المذيعة في مناسبات خلقتها خلقا أثناء حديثها معي عن مصر.
الأربعاء 25 نوفمبر
قرأت تحليلا أدبيا لزوج عن زوجته، ولم يسعني إلا الضحك لشدة ما رأيت من شبه بين الزوجة الموصوفة - وهي أمريكية - والزوجات عندنا في مصر، كأنما الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان؛ ذلك أن الزوج يذكر عن زوجته فيما يذكره نقطتين: الأولى أنها تشتري من البائعين الذين يطوفون البيوت، معتقدة أرسخ العقيدة أنها ما دامت قد اشترت على الباب، فلا بد أن تكون الصفقة رابحة! وعبثا يحاول الزوج إقناعها أنها مخطئة أحيانا على الأقل؛ فالأطباق التي اشترتها بخمسة وستين سنتا للطبق تباع بثمن أرخص من هذا في الدكاكين، لكن هيهات أن يتغير اعتقادها ... والنقطة الثانية أنها كثيرا ما تبالغ في شراء الأشياء التي قد تستغني عنها الأسرة، فإذا ما ضاق الزوج ذرعا بهذا التصرف الأحمق، زعمت له أنها لم تدفع الثمن من حساب المصاريف، فلا حق له أن يضيق صدرا، بل دفعته من المال المتجمع في «الحصالة» ... ثم يشرح الزوج الكاتب قائلا: والمال المتجمع في «الحصالة» إن هو إلا قطع من النقود تسقطها زوجتي كل يوم في صندوق مثقوب من أحد جوانبه، وهي بذلك تتوهم - وتريد أن تقنعني بصدق وهمها - أن النقود لم تعد نقودي ولا هي من حساب المصاريف، ما دامت قد تجمعت في «الحصالة»! ... ولم يسعني سوى أن أضحك في مرح؛ لأنني تذكرت السيدة «ح» التي كأنما كتب الكاتب ليصفها، مع أنه أمريكي وهي مصرية! فالزوجات كلهن سواء.
لست أدري ما الذي حول مزاجي في القراءة هذا التحول العجيب فلم يعد يلذ لي إلا قراءة القصص، أقرؤها بشغف شديد، وإنما أعني بطبيعة الحال القصص التي يكتبها ذوو الأقلام المجيدة، والتي أجد فيها من تحليل الطبائع البشرية ما أستمتع به متعة فنية كبرى؛ لم أعد أستسيغ ولا أطيق المقالة «الحاف» التي تتكلم بلغة التعميم، خذ مثلا المقالة التي قرأتها الآن توا عن سيرفانتيز، فكيف يمكن أن تقاس المتعة التي أستمدها من قراءة هذه المقالة بالمتعة التي كنت أستمدها لو قرأت ولو جزءا يسيرا من سيرفانتيز؟
على كل حال؛ إن فكرة قوية تلعب في رأسي صباحا ومساء، وهي أن أهم بكتابة القصة؛ إنني أشعر بغيرة شديدة حين أقرأ قصة قصيرة أجاد كاتبها في التحليل؛ لماذا لا أكتب مثل هذا؟ هذه وحدها هي الكتابة، هذا وحده هو الأدب؛ والحياة مليئة بالموضوعات؛ فكل شخص ممن أعرفهم يمكن أن أستخرج من حياته مواقف تحليلية تضع الطبائع البشرية في ضوء الشمس؛ وكل يوم من حياتي بغير استثناء فيه مواقف يصح أن تذكر، كم موقف يمكن استخراجه - مثلا - من حياة «ح» و«ع» و«ه» و«س» ... إلخ إلخ؟! لقد قرأت اليوم قصتين قصيرتين بارعتين: الأولى تحلل فتى ريفيا في طباعه أراد أن يشتبك في علاقة غرامية مع فتاة مصقولة من فتيات المدن، وهو جاد وهي هازئة ... أليست حياتي الشخصية مليئة بمثل هذه الخبرات فيمن أعرف من الناس؟ فلماذا يقع الكاتب هنا على موقف كهذا فيجيد تحليله، ولا نقع نحن مع أنه كان في صميم حياتنا؟ ... والقصة الأخرى كاتبتها امرأة، هي قصة فتاة تسابق على حبها شابان: أحدهما محتال دجال والثاني مخلص صادق، ولم تفعل الكاتبة سوى أن عرضت صورتين للشابين: كيف يتصرفان إزاء الفتاة ... هذه هي الحياة نراها ونعيشها فلماذا لا نكتبها؟!
الخميس 29 نوفمبر
اليوم «عيد الشكر» وهو عيد أمريكي يغلب فيه أن يكون الديك الرومي محور الغداء، وأنا مدعو اليوم عند الكابتن «ش» وزوجته السيدة «ش» التي تحضر لدرجة الأستاذية في الفلسفة، وتحضر لي محاضرات الفلسفة الإسلامية، وهما يسكنان في «سمتر» في داخل مطار حربي هناك، وهي مدينة تبعد عن كولمبيا نحو خمسين ميلا.
جاءت السيدة «ش» وزوجها ليأخذاني بسيارتهما، وقد كانت السيدة كعادتها دائما معنية بلبسها وبقرطها، وهي اليوم تلبس عقدا من نوع القرط، وكلاهما من فضة مرصعة بما يشبه فصوص الماس ... حدثاني في الطريق عن حياتهما، فكلاهما تخرج في جامعة تكساس، كانا زميلين، غير أن السيدة قد سبقت زوجها في التخريج بعام، وكنت أقدر لهما من العمر ثلاثين عاما، لكني لما علمت اليوم أنها تخرجت منذ عامين، رجحت أن يكونا أصغر من ذلك بكثير، والوجوه كثيرا ما تخدع عند تقدير الأعمار.
دخلنا في قلب المطار الحربي حيث يسكنان؛ فهناك مجموعات من المنازل لرجال المطار، والكابتن «ش» وزوجته يسكنان منزلا ذا غرفتين هما غاية في الأناقة والبساطة وحسن الذوق، ويسكن بجوارهما شاب وزوجته وطفلتهما، الشاب هو الآخر كابتن في الطيران، غير أن اختصاصه هناك هو التنبؤات الجوية، ولم نكد نصل حتى جاء هذان الزوجان؛ فهما كذلك مدعوان معي على الغداء في منزل «س».
تركنا الزوجتين تعدان الطعام، وذهب ثلاثتنا للطواف بالمطار، وكان أول مكان زرناه هناك هو المكان الذي يعمل فيه الكابتن «ك» في التنبؤات الجوية: صفوف من الآلات شبيهة كلها بالآلات الكاتبة، تدق كما تدق الآلات الكاتبة، تدق وحدها بطريقة آلية، وتنظر في المكتوب فتجد أن الآلات ترصد حالة الجو في أنحاء الولايات المتحدة كلها في تلك اللحظة؛ فالحرارة الآن في نيويورك كذا، وفي ميشجان كذا ... إلخ، وكل آلة مختصة بشيء ترصده: هذه للحرارة وتلك للضغط الجوي وثالثة لاتجاه الريح، ومن هذه الورقات التي تخرجها الآلات ترسم الخرائط فورا، لتعرض على نحو يمكنك في نصف دقيقة أن تنبئ عن الجو في أي مكان من الولايات المتحدة كلها.
وأخذنا للكابتن «ك» بعد ذلك إلى حيث صفوف الطائرات رابضة، وأطلعني على الطائرات النفاثة والطائرات ذوات المحركات العادية، وطلبت منه أن يفرق لي تفرقة مختصرة واضحة بين النوعين من الطائرات ففعل، وعرفت منه في وضوح أن الطائرة النفاثة تخلخل الهواء وراءها، وهذه الخلخلة من تلقاء نفسها تدفع الطائرة إلى أمام.
عدنا إلى المنزل وجلسنا إلى مائدة الغداء، وقبل أن نبدأ الطعام شبكنا أيدينا وطأطأنا رءوسنا ريثما يدعو الكابتن «ش» دعاءه الديني، فقال عبارة خيل إلي أنه أعدها وحفظها لمناسبة وجودي: «أشكرك يا رب على ما أمامنا من طعام، وأدعوك يا رب أن تعطي من ليس عنده مثل ما عندنا من طعام وثياب ومأوى، أشكرك يا رب على أن جعلت لنا هذه البلاد وطنا، فنتمتع بما فيه من حرية رأي وديمقراطية، وأدعوك يا رب أن تهب البلاد التي لا تتمتع بمثل هذه الحرية مثل ما وهبتنا ...»
دار حديثنا بعد الغداء في السياسة، وكانت البداية أن سألتني السيدة «ش» إن كان المنتظر أن يعدم مصدق في إيران؟ قلت: لا أدري، لكنهم لو أعدموه فإني أحزن عليه؛ فقالت: وكذلك أنا، فإني أحزن عليه أشد الحزن؛ قال الكابتن «ك»: إن أكبر عيب في مصدق هو رأيه في أن تستقل إيران عن العالم، وليس هناك دولة في الدنيا تستطيع لنفسها هذا الاستقلال؛ فقلت: على شرط أن تختار كل دولة طريقة اتصالها بالدول الأخرى. وسرعان ما جذب الحديث قناة السويس، وطبعا أخذتني الحماسة واشتد بي الانفعال وأنا أتحدث عن مصر وإنجلترا، وما كان لي أن أفعل؛ لأننا في جلسة عائلية ضيقة لا يجوز فيها مثل هذا الانفعال.
غربت الشمس، واستعد كابتن «ش» وزوجته لإعادتي بالسيارة إلى كولمبيا، وقد سمعتهما يبديان رغبة أن يذهبا هناك إلى سينما، فدعوتهما لمشاهدة فلم مارتن لوثر الذي بدأ عرضه في المدينة منذ قريب ... لا زلت أعجب لشدة تعلق الناس هنا بعقيدتهم الدينية، فما كان أشد ارتياح كابتن «ش» وزوجته بالفيلم الذي رأيناه عن مارتن لوثر والبروتستانتية ، مذهبهما في الدين، فليس ارتياحهما ناشئا عن مشاهدة فيلم جميل أو قصة جيدة، بل ناشئ عن شعورهما الديني رغبة في انتصار المذهب الذي يدينان به ... ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن الكنيسة البروتستانتية تنشط في توزيع تذاكر مخفضة القيمة؛ ليشهد هذا الفيلم أكبر عدد ممكن، وقد جاءتني ثلاث تذاكر منها هي التي استخدمتها في دخولنا الليلة.
أخذت الكابتن «ش» وزوجته إلى مطعم ليشربا معي القهوة بعد خروجنا من السينما، وهو المطعم الذي اعتدت ارتياده، فلما قدمت لنا المناولة أقداح القهوة، سقطت قطرات منها في أحد الأطباق، وعرضت أن يكون هذا طبقي إكراما لضيفي، لكن المناولة أصرت أن تجيئني بفنجان آخر، قائلة: أنت ضيفنا جميعا، وضيوفك ضيوفنا، فليس الأمر مقصورا على أنه مطعم وزبائنه، بل هو أكثر من ذلك، هو علاقات إنسانية قبل كل شيء ... شكرتها، ولما انصرفت استأنفنا ما كنا فيه من حديث، وهو بعض مذكراتي التي أكتبها عن أمريكا، فسألني الكابتن «ش» ماذا أجد في يوم كهذا لأكتبه؟ فقلت له: كل ما رأيته عندك من ضيافة جدير بالتسجيل، ثم ألم تسمع ما قالته هذه المناولة الآن؟ إنه جدير بالتسجيل بالخط العريض؛ لأن هذه هي أمريكا الحقيقية التي لا يقرؤها الناس في الصحف!
الجمعة 27 نوفمبر
في صحيفة اليوم قصة عجيبة: اختفى رجل منذ اثنين وعشرين عاما، وكانت سنه إذ ذاك ثمانية وعشرين، وكان متزوجا وله ثلاثة أولاد، وبعد اختفائه بقليل اختفت سكرتيرته التي كان عمرها إذ ذاك اثنين وعشرين عاما، ولم يعثر أحد لهما على أثر طوال هذه المدة، حتى لقد اعتبرهما القانون «ميتين بحكم القانون» فتزوجت زوجة الرجل المختفي من رجل آخر، وكان للفتاة المختفية إرث يبلغ مقداره مليونا من الدولارات فتحول إلى أقرب أقربائها وهو ابن عمها، وكان للرجل في شركة التأمين خمسون ألفا من الدولارات فأخذته زوجته وأولاده على اعتبار أنه قد «مات بحكم القانون» ... حتى كان أمس، أعلن الرجل المختفي «وزوجته» - بعد أن اختفيا وتخفيا اثنين وعشرين عاما - أعلنا حقيقة أمرهما، وهي أنهما تحابا ولم يستطع أحدهما أن يستغني عن الآخر؛ فاتفقا على الفرار والاختفاء؛ ليعيشا معا في مأمن من المجتمع والقانون، ولم يكن معهما إذ ذاك إلا الثياب التي تغطي جسديهما، فغامرا ولقيا أصعب الصعاب، حتى استقر بهما الحال وتزوجا باسمين منتحلين، وأنسلا ستة من الأبناء والبنات، وتزوجت كبرى بناتهما وأنسلت لهما حفيدا، وثاني أولادهما الآن في الخدمة العسكرية ...
بماذا نحكم عليهما؟ لا شك أن سلوكهما يخالف القانون والشرع المسيحي، لكن ألم يعيشا معا سعيدين اثنين وعشرين عاما؟ ألا تكون إباحة الطلاق من جهة وإباحة تعدد الزوجات من جهة أخرى أمرا قد تكون له ضرورته في ظروف استثنائية كهذه؟ فلو كان مباحا للرجل أن يتزوج من اثنتين لهانت الصعاب ولتزوج من حبيبته إلى جانب زوجته الأولى إذا أرادت هذه البقاء معه ... الحق أني لا أدري بماذا أحكم عليهما؛ لأنني أمقت الطلاق وألعن تعدد الزوجات، لكن الحياة وظروفها والقلوب ومشاعرها أوسع جدا من كل قانون وتشريع.
أراد الصحفيون أن يوجهوا الأسئلة إلى الزوجة الثانية - وعمرها الآن أربعة وأربعون عاما - فأجابتهم جوابا واحدا: إني سعدت مع حبيبي اثنين وعشرين عاما، ولا أزال سعيدة معه، وسأظل سعيدة معه حتى أموت، ولمن شاء بعد ذلك أن يقول ما شاء.
السبت 28 نوفمبر
حدث هنا في مدينة كولمبيا حادث بسبب التفرقة اللونية؛ فهنا معسكر حربي فيه جنود من البيض ومن السود على السواء، وقد جاء بعض الجنود السود من ولايات أخرى لا يحرم قانونها اختلاط اللونين، فخرج اليوم أحد هؤلاء من معسكره إلى المدينة، فركب سيارة عامة، وجلس في النصف الأمامي المخصص للبيض وحدهم، محتجا بأنه لا يعترف بهذه التفرقة اللونية؛ فهو من ولاية كذا من ولايات الشمال التي لا تفرقة فيها بحكم القانون بين أبيض وأسود؛ لكن السيدة التي جلس إلى جانبها في السيارة طلبت منه أن يغادر مكانه إلى النصف الخلفي المخصص للسود، فرفض الجندي ذلك، فتدخل السائق وطلب منه الطلب نفسه لكنه رفض القبول، فنودي شرطي، وسرعان ما نادى الشرطي زملاءه بواسطة اللاسلكي في سيارته البوليسية ، فجاءت فرقة كبيرة ... في هذه الأثناء انضم إلى الجندي الأسود الثائر عدد كبير من زملائه الجنود السود، وانضم إليهم ضابط زنجي، ظن أنه - بحكم رتبته العالية - يستطيع أن يأمر البوليس بالانصراف فيطيعوا، لكن رجال البوليس قبضوا بالقوة على الثائرين الزنوج وعلى رأسهم الضابط، وحوكم الجميع فورا، فحكم عليهم بغرامات مختلفة، أعلاها الغرامة التي حكم بها على الضابط؛ إذ حكم عليه بغرامة قدرها مائتا دولار.
وأذاعت قيادة المعسكر في رجالها بيانا تقول فيه إنه على الرغم من أنه ليس في داخل المعسكر تفرقة لونية، إلا أن القيادة تنتظر من رجالها أن يحترموا قانون الولاية التي هم على أرضها إذا ما خرجوا عن حدود معسكرهم، فعندئذ ينبغي أن ينطبق عليهم ما ينطبق على أي مواطن آخر.
الأحد 29 نوفمبر
الجو رائع، لا يكون أروع منه جو في الدنيا بأسرها، فاستخسرت أن يضيع هذا الجو الجميل وأنا سجين غرفتي ... وقفت أمام المرأة الكبيرة، وقلت لصورتي فيها: أنت في أمريكا والجو رائع هذه الروعة كلها، فكيف تظل سجين غرفتك؟ فقالت لي صورتي: قبل أن تكيل اللوم، قل لي أين أذهب؟ فقلت: أخبط في الشوارع مشيا كما اتفق! فقالت صورتي: لكن الشوارع خالية، اليوم يوم الأحد؛ البيوت مقفلة على أصحابها، والدكاكين مغلقة على بضائعها ... ومع ذلك فاصبر قليلا، اصبر ساعة ونصف ساعة، وستخرج إلى الغداء، فامش بعد الغداء حتى تشبع قدميك مشيا، وأراهنك أنك ستعود بعد مشي لا يدوم أكثر من دقائق.
وماذا أصنع في هذه الساعة ونصف الساعة التي بقيت إلى موعد الغداء؟ أحضر محاضرات الغد؟ السم الزعاف أهون ... أقرأ؟ لقد قرأت أمس عشر ساعات متوالية، فرحمة بعينيك ... أكتب؟ إي والله هذا خير ما أصنع؛ ماذا تكتب؟ ... أكتب أي شيء، ما أول خاطر يأتيك؟ أول خاطر هو ... هو ... لا خواطر!
لا، فكر قليلا، واكتب في أول خاطر يرد إلى ذهنك على أي نحو يجري به قلمك، وماذا يكون أول خاطر سوى هذا الذي يعاودني ألف مرة، هو جناية الآباء على أبنائهم؛ إذ يخرجونهم إلى هذا العالم بعد أن يحطموهم، فيخرج الابن محطم النفس ليصير بدوره أبا ينسل البنين، فيحطم البنين بدوره ... من الذي يمسك لساني حين أريد الكلام؟ ومن الذي يقيد ذراعي حين أريد الحركة؟ ومن الذي يغل قدمي حين أريد السير؟ من فعل ذلك كله غير الذي رباني فأخرجني إلى العالم مغلول اللسان والذراع والقدم؟ إن نفسي لتقطر مرارة!
كنت أوجه هذا الحديث إلى صورتي في المرآة، فاستمعت إلي وفكرت، ثم قالت: أمسك القلم واكتب ما أمليه:
كان الفتى في سن الثامنة عشرة، وكانت الفتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وأمسك الفتى بالفتاة وضربها على رأسها ضربة أفقدتها وعيها، ثم بحبل رفيع خنقها، وأمسك بمقص يقص عنها ثيابها وهو في نشوة ... وهنالك أمسكوه مجرما، وحوكم وقضي عليه بالموت سفاكا خطيرا، فلم يلبث أن تلقى القاضي الذي أصدر هذا الحكم خطابا من فتاة في الخامسة والعشرين، هي طالبة في الدراسات العليا بإحدى الجامعات، تقول فيه: لقد أكل الدهر على القانون وشرب، تقدم العلم ولم يتقدم القانون ليساير الزمن! والقضاة جهلة قساة ... ما أكثر ما يكون المجرم فريسة تنوء تحت عبء ثقيل، هو العبء الذي ألقته على كتفيه الأيام والظروف! ... أنا أخت هذا الفتى الذي أعدمتموه، وسأقص عليك شيئا عن الظروف التي نشأت فيها مع أخي لتدرك إلى أي حد أنتم تظلمون! إن الإنسان لا يفقد صوابه ورشده بين عشية وضحاها، بل لا بد له من مقدمات طويلة تمتد على سنوات طوال؛ فإني لأذكر أخي وهو بعد طفل صغير يعاني من أبويه ما يعاني، كان يضحك فجأة أو يبكي فجأة، ولا يفهم الوالدان لذلك سببا، فيضربانه ضربا مؤلما، أو يغمسانه في حوض ملئ بالماء الساخن ليهدأ، ومضى وقت طويل قبل أن تشاء الظروف أن يفحصه طبيب فيجد أن جزءا من مخه تالف، هو الجزء الذي يستخدمه الإنسان في ضبط نوازعه الحيوانية ... إن طفلا كهذا كان لا بد أن يتعذر عليه الملاءمة بين نفسه وبين أسرته، حتى لو كانت أسرته سعيدة، فما بالك والأسرة التي نشأ فيها جهنم وجحيم؟ وسأسوق نفسي مثلا.
فلست كأخي مريضة ولا معتوهة، ولدت سليمة العقل، بل إني فوق المتوسط المألوف في ذكائي؛ إنني لا أريد الآن أن أتواضع، فليس هذا أوان التواضع الزائف، لكنني لقيت من أبوي ما لقيته من قسوة وجهل بطبائع الطفولة ما ملأني مرارة، وكنت أحاول أن أفر من هذا الجو المسموم بالقراءة وبصحبة الأصدقاء، وهو ملاذ لم يجد أخي المريض سبيلا إليه، كان في مدرسته أضحوكة الضاحكين من زملائه، وكان في البيت موضع سخط الوالدين الغاضبين دائما، المعتركين دائما ... كان أبي أو كانت أمي تضربه بكتبه على رأسه؛ لأنه ولد خائب يجلب على أبويه العار.
بلغت من عمري السادسة عشرة، وكنت كلما كبرت عاما من الزمن، ازددت ثورة نفسية وازددت مرارة وسخطا، حتى عجزت عجزا تاما أن أجر قدمي إلى المدرسة، وأذكر ذات مساء أن خلعت أمي عن جسدي الثياب وضربتني على ظهري بحزام من الجلد، وما كادت تتركني حتى هممت بالانتحار خلاصا من هذا العالم الوبيء، فلم أستطع ... أفتدري ماذا صنعت بعدئذ؟ تحولت منذ الصباح التالي عاهرة تعرض جسدها على كل من أراد أن يستمتع به من زملائي، لم آخذ من أحد مالا على متعته، ولا أقول إني كنت في ذلك أنشد المتعة الجسدية، فما أقل ما وجدتها حينئذ! وما أكثر ما شقيت! ولكني لم أزل عارضة جسدي كل يوم على من شاء ... وأسأل نفسي الآن: لماذا؟ وأجد الجواب حاضرا: لأجد كل يوم شخصا يظهر لي علامات الحب حتى ولو كان زائفا، كان ذلك مني ضربا من الانتقام من والدي.
حاجة الإنسان إلى عطف هي - يا سيدي القاضي - أشد وأقوى ما يدفع الإنسان في هذه الدنيا إلى سلوكه الذي يسلك.
وقضيت في انتقامي العاهر أعواما، ثم قابلت فيمن قابلت شابا عرفني، ولعله لمس قلبي وما يكنه من أخلاط المشاعر والدوافع، فطلب الزواج مني وقبلته زوجا، حيث نعيش الآن زوجين ... لا أظنني كنت أحبه عندئذ حب المرأة للرجل، لكني قبلته زوجا لأفر مما كنت فيه، ومنذ ذلك الحين مضيت في دراستي الجامعية، أزيح عن نفسي قليلا قليلا ما تركه أبواي من رواسب السم.
لقد حكمت على أخي بالموت - يا سيدي القاضي - وها أنا ذا قصصت عليك تاريخي لتعلم في أي بيئة نشأنا؛ إن أخي قد قتل فتاة في جسدها، فحكمت عليه بالموت، وأنا أسألك الآن: ماذا أنت صانع بوالدين تآمرا على قتل نفسين: نفسي ونفس أخي؟ أم أن قتل النفوس عندكم في القانون حلال مباح؟ ...
أملت علي صورتي في المرآة هذا كله، فسألتها: أنى لك هذا؟ فقالت: وما جدواك أن تعرف من أين؟ إن هذه القصة إن تكن من الحياة الواقعة فهي واقع، وإن تكن خيالا فهو خيال يشبه الواقع.
مضت ساعة وبقيت نصف ساعة على الغداء، سأكتب فيها شيئا قرأته الآن، هو خلاصة حديث أدلت به زوجة الكاتب المعروف «ول ديورانت» - الذي أدين له بشيء كثير - فقد ذكرت الزوجة في حديثها كيف كان لقاؤها مع زوجها لقاء أنتج الزواج؛ وهو حديث قالته الزوجة بمناسبة صدور جزء جديد من سلسلة المجلدات التي يخرجها «ول ديورانت» في «قصة الحضارة».
قالت «آريل» - زوجة ديورانت: نشأت في نيويورك وكرهت المدرسة التي كنت أرتادها، حتى لقد كنت أنحرف من نصف الطريق إلى المدرسة، وأذهب إلى حيث أقضي الوقت في اللعب، وكنت ألعب ذات يوم في الحديقة العامة، فجاءت امرأة ومعها مجموعة من أطفال، وقيل إنها مدرسة وهؤلاء تلاميذها، فلم أصدق؛ لأن العلاقة بينها وبينهم كانت علاقة أم بأبنائها، وأحببت أن أرافقهم فجلست معهم، ولما سئلت من أنا؟ قلت: إذا كانت هذه مدرسة فأنا من تلميذاتها ... وهكذا ظللت أياما أجلس بين تلميذات هذه المدرسة التجريبية التي أحببتها حتى ذهبت يوما غابت فيه المدرسة وجاء مكانها رجل هو هذا (وأشارت إلى زوجها ول ديورانت) وهو الذي أصبح زوجي، وكونت معه أسرة لم أر أسعد منها، كانت سنه عندئذ ثمانية وعشرين عاما، وكنت في الخامسة عشرة، كان الفرق بيننا كبيرا، لكن كلانا أحب الآخر، فليس مستحيلا أن تحب فتاة عمرها خمسة عشر عاما رجلا عمره ثمانية وعشرين؛ كان زوجي يقول إن أرسطو من رأيه أن المرأة تسبق الرجل في النضوج بخمس عشرة سنة، فإن كان ذلك كذلك، فقد كنت زميلة لزوجي في درجة النضوج، كنت طفلة في بعض نوازعي، فتعهدني بالتربية حتى أحببت كل ما يحبه هو ... إنني أعتقد أن زوجي من نوابغ القرن العشرين، ولم يكن يسيرا على أي امرأة أن تشارك مثل هذا الرجل حياته؛ لكن الحياة معه جديرة بالعيش!
مشيت بعد الغداء نصف ساعة أو نحوها، وكان الجو جميلا رائعا: شمس مشرقة، وسماء صافية وبرد خفيف يمكن من المشي، لكني عدت إلى غرفتي ثقيل القلب محزون الفؤاد، ولست أدري لهذا الغم سببا، فلماذا تكون الشمس مشرقة والنفس غائمة؟ إني أشعر بضيق شديد، أشعر بوحشة وعزلة؛ فتحت الراديو ساعتين كاملتين، وبرامج الإذاعة يوم الأحد هنا تكون عادة جيدة الاختيار، فسمعت لأشهر المغنين في برنامج يسمونه «الأصوات الذهبية» ويذيعونه كل أحد؛ كذلك سمعت قراءات أدبية ممتازة، ينطق بها أشهر الممثلين وأشهر القراء؛ فسمعت نجوى هاملت المشهور: «أبقاء أم فناء؟ تلك هي المشكلة» يقرؤها جون باريمور قراءة غاية في الجودة، ثم قراءة من الإنجيل عن جنة عدن يقرؤها تشارلس لوتن، من أبدع وأروع ما يمكن أن يسمعه إنسان في حياته، وكذلك سمعت قراءات من الشعر الإنجليزي يقرؤها قراء مجيدون.
كلها أشياء من طبيعتها أن تسري عن النفس، لكن الغم قائم لا يزول، أعددت لنفسي الشاي وشربت ثلاثة أقداح منه، وتحسنت حالي بعض الشيء، لكني قلق لا تستقر بي جلسة ولا رقدة ... لقد سمعت قصة الشجرة المحرمة منذ دقائق يقرؤها تشارلس لوتن من الإنجيل، فسمعت فيها أن آدم وحواء كانا عاريين ولم يكونا يشعران باستحياء من ذلك العري، كان ذلك قبل أكلهما من الشجرة المحرمة، شجرة المعرفة، معرفة الخير والشر، فلما أكلا منها كان أول ما أحساه خجلا من عريهما، فغطيا نفسيهما بورق الشجر، لكن العري لا يزال باديا، والخجل لا يزال قائما، وهنا ناداه ربه: يا آدم؛ فأجاب آدم من بعد واستحيا أن يقابل ربه عاريا؛ فقال له ربه: إذا كان قد أخذك الخجل من عريك، فلا بد أن تكون قد ميزت الخير من الشر، وإذا فلا بد أن تكون قد أكلت من الشجرة المحرمة، فلماذا عصيتني فيما أمرتك به ...؟
وإني الآن لأطبق هذه القصة على نفسي، وعلى القلق الذي ألم بي وغمني، فأقول: إنني كلما ازددت معرفة بنفسي ازددت يقينا بما يملؤها من عقد، وكلما أدركت أنها نفس مريضة ازددت قلقا بل ازددت خجلا، قلت لنفسي إنك لم تكن بهذا العجز كله فيما مضى، وأخذت أتذكر أيام طفولتي وشبابي، فلم أتذكر إلا جرأة على المجتمع ... والآن قد عرفت لماذا يزداد ارتباكي كلما كبرت، وكان العكس أحق أن يقع؛ فالسبب هو أني عرفت نفسي حين ألقت بها الظروف في أوساط مختلفة ... أتكون معرفة الإنسان لنفسه وتحليلها مصدرا لشقائه، كما كانت معرفة آدم للخير والشر بداية لعنائه؟!
الثلاثاء أول ديسمبر
قرأت في مجلة «لايف» موضوعا شائقا بالصور الجميلة عن الحيوانات البحرية كيف تعيش في جوف المحيط: كيف تعيش في ظلام القاع الذي لا ينفذ إليه شعاع من ضوء؟ كيف يفتك بعضها ببعض؟ كيف أعد كل نوع منها بطرائق التخفي وأساليب الهجوم والدفاع؟ ... كل ذلك معروض عرضا يجعله أقرب إلى القصص الممتع منه إلى الوصف الطبيعي الصادق.
ويكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا، ماذا صنعت المجلة لتجمع مادته، ثم أسأل نفسي: ماذا تفعل مجلة مصرية في الموضوع نفسه إذا أرادت أن تنشر عنه شيئا؟ أقول إنه يكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا في مجلاتهم ومجلاتنا لأدرك لب الفرق بين شعب وشعب؛ فمجلة «لايف» هي التي أرسلت المصورين، وهي التي جمعت المختصين بدراسة الحيوانات البحرية، ولبث عملاؤها ثلاثة أعوام في رحلات بحرية، يغوصون في قاع المحيط ويلاحظون ويصورون ويصفون ... فالمسألة كلها من أولها إلى آخرها من تدبير المجلة، تفكير وابتكار ومغامرات وعلم وكتابة وتأليف وتنسيق ... أما المجلة المصرية فماذا تصنع؟ تنقل عن مجلة «لايف» ما كتبته وصورته، ثم يقول لك الناقل بعد ذلك إنه أديب! خلط وجهل وادعاء ... ها هنا كل الفرق بيننا وبينهم؛ فليس الفرق المهم هو ثراءهم وفقرنا، بل هو ابتكارهم وعجزنا ... يستحيل أن نتقدم تقدما حقيقيا إلا إذا كان لنا ابتكار، إلا إذا بدأت الأفكار من عندنا أحيانا، أما أن يبتكروا هم الطيارة ونحن ننقلها ونقول إن لدينا مهندسين كمهندسيهم، وأن يبحث علماؤهم في الطب والفيزيقا والنفس وما إلى ذلك، فنحفظ ما كتبوا ثم نقول إن منا العلماء في الطب والفيزيقا والنفس؛ فإغماض لأعيننا عن سر التقدم وسر المدنية كلها، بل سر الإنسان وهو الابتكار؛ يعوزنا إدراك هذه الحقيقة في وضوح، وهي أن الفرق بعيد بعد ما بين الأرض والسماء، بين المبدع الخلاق المبتكر وبين من يسير بعد ذلك في الطريق، وقد شق وعبد بمغامرات المغامرين وتفكير المفكرين، الفرق بين هذا وذاك هو نفسه الفرق بيني في رحلتي إلى أمريكا وبين كولمبس حين ارتحل مخاطرا مغامرا مفكرا مدبرا.
الأربعاء 2 ديسمبر
ذهبت مع الدكتور «ف» إلى ناد هو عضو فيه: «نادي الكتاب الخالد»، وأعضاؤه جماعة تجتمع مرة كل أسبوعين، وهي تقرر في كل مرة كتابا من الكتب الخالدة العظيمة يقرؤه الأعضاء ثم يجتمعون للمناقشة فيه؛ وقد علمت منهم الليلة أن مثل هذه الجمعية موجود في كل أنحاء الولايات المتحدة؛ والكتاب الذي قرأه الأعضاء وناقشوه في هذه الجلسة كتاب للأديب الفيلسوف الروماني «لوسيان» ... وعند انصرافهم قرروا للجلسة الآتية كتابا لتوماس الأكويني.
ولما عدت إلى غرفتي في المساء، قرأت في مجلة «بوست» أولى مقالتين عن الرحلة التي قام بها بعض الرحالة محاولين بها الصعود إلى قمة جبل قره قورم في باكستان؛ وهي القمة التي تتلو قمة إفرست ارتفاعا ... وصف الرحلة دقيق مليء بالحياة والحركة، ولا يسعك وأنت تقرأ إلا أن تشارك الكاتبين (فقد اشترك في المقالة كاتبان من بين الرحالة أنفسهم) في الصعود وفي الصعاب التي لاقاها الرحالة، وفي الفرح الذي شعروا به كلما حققوا شيئا في رحلتهم.
ومرة أخرى أسأل نفسي: ما الفرق بين هذا الموضوع يكتب في مجلة أمريكية وبينه هو نفسه يكتب في مجلة مصرية؟ والجواب هو: إن الذي يكتب هنا هما كاتبان اشتركا فعلا في هذه الرحلة؛ فهما يكتبان خبرات خاصة، ويصفان جهدا خاصا نبض له قلباهما ... وأما إذا كتبته مجلة مصرية فلا حيلة لها سوى أن تلخص ما كتبته المجلة الأمريكية - وأقول «تلخص» ولا أقول، «تنقل»؛ لأن من يقوى على متابعة التفصيلات بين قرائنا يعدون على أصابع اليدين - والمصيبة الكبرى أن من يلخص عن المجلة الأمريكية سرعان ما يقول عن نفسه - وقد يقول عنه الناس - إنه أديب! ... وأعود فأقول يائسا ألا فائدة من هذه الحال ولو قضينا ألف ألف عام! فستظل المدنية مدنيتهم، والجهد جهدهم، والتفكير تفكيرهم، وأما نحن فسننقل من هذا كله لمحات عابرة، وكفى الله المؤمنين شر المغامرة والمخاطرة والجهد والتفكير!
الخميس 3 ديسمبر
عرفت مدى حبي لمصر حين رأيت كيف أخذتني النشوة عندما قرأت هذا الصباح لأول مرة نتيجة الانتخابات في السودان التي جاءت مشرفة باهرة؛ نشوة كأنما هبطت علي ثروة مفاجئة، فنبض قلبي وقمت عن مقعدي لأجلس مرة أخرى، ثم قمت لأجلس على الكنبة، ثم قمت فأعددت فنجانا من القهوة ... قلقت قلق المسرور الفرح ... وكتبت مجلة «تايم» في ذلك متهكمة ساخرة؛ إذ قالت في أول مقالها: «في الجنوب الاستوائي - وعلى الضفة اليسرى من النيل الأبيض - جلس ملك الشلوك تحت شجرة من أشجار المانجو مرتديا ثوبا أبيض، وماسحا بكفه على لحيته الخشنة، وجاء رعايا جلالته الأميون فقبلوا قدميه السوداوين، وسألوه: لمن نعطي أصواتنا؟ فأجاب الملك: اسألوا الرجل الأبيض.»
وكان هناك بريطاني في سراويله الكاكية القصيرة، واقفا على مقربة منهم في كوخ من الطين ذي سقف من القش؛ هذا الكوخ هو مركز الانتخاب، وتردد الناخبون الشلوك وهم يتقدمون نحوه، وراحوا يلعبون بأصابعهم في خرزات اللحم التي برزت من جباههم، والتي صبغوها بصبغة حمراء؛ وجعلوا ينظرون إلى صف من صفائح البنزين الفارغة - وهذه الصفائح هي صناديق الانتخاب ... وأخيرا وجه أحدهم سؤاله للرجل الأبيض: في أي الصفائح نضع هذه الورقة المسحورة؟ فأجابه الرجل الأبيض: لكم أن تختاروا ... فانطلق الشلوك يلقون بأوراق انتخابهم في الصفائح جزافا ...»
لو كان نصيب الإنجليز - والأمريكيين المتعصبين للإنجليز - هو هذه المرارة، ونصيبنا قلوب السودانيين، فلنا الكسب وعليهم الخسران.
اجتمع عدد كبير من أساتذة الجامعة في الغداء، وخطب فيهم بعد الغداء الدكتور فرانسز كوكر أستاذ النظريات السياسية في جامعة ييل، والذي دعوه أستاذا زائرا هنا ... وموضوع خطبته هو واجب الأستاذ الجامعي إزاء لجنة التحقيقات ... وهي لجنة يؤلفها الكونجرس للتحقيق مع المتهمين بالشيوعية، وبناء على الدستور الأمريكي يجوز للمسئول أمام أي لجنة للتحقيق ألا يجيب حتى لا تكون إجابته سببا في إدانته؛ فكثيرون ممن تناديهم لجنة التحقيق المذكورة يسكت عن الإجابة، والدكتور كوكر في كلمته اليوم يقول: إن واجب الأستاذ الجامعي أن يعين لجنة التحقيق على أداء عملها بأن يجيب عن أسئلتها ...
إنني في الحق لفي دهشة لا تنقضي من هذا الذعر الذي رأيته يملأ الناس هنا من الشيوعية! إنه يستحيل على أحد خارج الولايات المتحدة أن يتصور مدى فزعهم إلا إذا جاء هنا ليعيش بينهم حينا، فيقرأ الجرائد ويسمع الراديو ويتحدث إلى الناس، فعندئذ يلمس في قوة كم يعيش الناس في هلع وفزع من الشيوعية ... إنني الآن لا أستطيع أن أتصور أمريكيا واحدا - مهما بلغت جرأته - يستطيع أن يعتنق شيئا من المذهب الشيوعي في صراحة؛ فكيف إذا لا أسأل نفسي: ما الفرق بين هذا الجو الفكري وبين ما يقولونه عن الروسيا من إرغامها الناس على قبول مبدأ واحد، ثم تكم الأفواه عن نقد ذلك المبدأ والخروج عليه؟ ستظل الدنيا إلى أبد الآبدين في هذا الضلال العقلي، وهو أن تظن كل جماعة أن دينها خير دين، ومذهبها السياسي خير مذهب، وأصلها أشرف الأصول!
من الملاحظات التي تبرز لعين الرائي بروزا واضحا جهل الأمريكيين بالعالم الخارجي جهلا عجيبا، وقد عثرت اليوم في مجلة «تايم» على ما يؤيد هذا؛ إذ أجرى معهد الصحافة الدولي هنا بحثا علميا نشره هذا الأسبوع في 266 صفحة، وهو بحث خاص بكيفية تلقي الأمريكيين للأنباء الخارجية ومدى اهتمامهم بها، وقد تناول البحث 177 صحيفة يومية، وخمسا وأربعين شركة من شركات الأنباء، ومئات من المراسلين والمحررين ... إلخ؛ ونتيجة البحث هي أن القارئ الذي ينفق في قراءة صحيفته اليومية ثماني عشرة دقيقة في اليوم، يخصص من هذه المدة دقيقة للأنباء الخارجية؛ ولذلك يجهل القراء شئون الخارج جهلا شديدا؛ فأكثر من 56٪ لم يعرف من هو «سنجمان ري»، و40٪ لم يعرفوا من الذي خلف ستالين في روسيا، و27٪ فقط هم الذين عرفوا أي حزب يحكم الآن في بريطانيا ... ومن المصادفات أن من بين العنوانات الصحفية التي عرضت للبحث العنوان الآتي الذي نشر حين نشر بالخط العريض: «إسرائيل تدرس الاقتراحات التي قدمتها مصر»، فوجد أنه لم يقرأ هذا النبأ في الجريدة قارئ واحد!
ويقول التقرير إن الدراسة قد دلت على أن اهتمام القراء في أمريكا مقصور إلى حد كبير جدا على البيئة المحلية القريبة؛ فيعنى القارئ أكثر ما يعنى بشئون الولاية التي يعيش فيها، وحسبه ذلك في معظم الأحيان.
وهذا ما قلته مرارا للذين أتحدث إليهم هنا؛ إذ عبرت عن دهشتي من مدى النزعة الإقليمية بين الناس؛ ففي كولمبيا مثلا لا يكاد يقرأ قارئ واحد أي صحيفة غير الصحيفة المحلية التي تصدر في كولمبيا؛ فإذا حللت هذه الصحيفة وجدت تسعة أعشارها عن ولاية كارولاينا الجنوبية نفسها من تجارة ومشروعات وسياسة وتعليم وزواج ووفيات.
الجمعة 4 ديسمبر
المجلات الأدبية كلها تعلق في استفاضة على كاتبهم المسرحي «يوجين أونيل» بمناسبة موته منذ أيام؛ كان أكبر كاتب مسرحي عندهم، وهو الذي ظفر بجائزة نوبل عام 1936م، وله ثمان وأربعون مسرحية ... وقد أردت أن أحييه عند رحيله فقرأت له ثالوثه المسرحي «إلكترا».
كان أرسطو قد رأى أن يكون بطل المأساة ذا هيبة وجلال ومكانة عالية، ثم يهبط إلى هوة يتناسب سحقها مع الرفعة الأولى، وبهذا الانتقال من القمة إلى الحضيض تتألف المأساة في صميمها ... لكن هذا الرأي في المأساة لم يكن ليتفق مع فن يوجين أونيل؛ لأنه لا يتفق ووجهة النظر الأمريكية إلى أفراد الناس والحياة، فليس بين الأمريكيين من ينظر إليه الناس وأعناقهم مشرئبة؛ إذ ليس فيهم من يعلو على بقية الشعب علوا يجعله في رفعة ويجعلهم في حضيض؛ فالأمريكيون من أشد شعوب الأرض اعترافا بقيم الأفراد وبالمساواة بين الرءوس؛ فأعظم عظيم فيهم قد يخاطبه الناس بالجزء الأول من اسمه حتى لا يبقوا له على وقار خاص، وقد تنشر له الصحف صورا في حياته الخاصة، يأكل أو يلعب بحيث يبدو للناس على حقيقته بشرا، وإذا فيستحيل على مسرحي في أمريكا أن يجعل مأساته قائمة على سقوط العظيم كما أراد أرسطو وكما كانت السنة عند رجال المسرحية فيما مضى من زمن ... وقد قيل في إحدى مسرحيات «أونيل» إن الشخصيات تبدأ مجموعة من سكارى وتنتهي كما بدأت مجموعة من سكارى؛ أي إنه لا ارتفاع ولا هبوط.
فلئن كانت المأساة اليونانية قائمة على استبداد «القدر» بمصاير الناس، يتحكم فيهم نحسا وسعدا؛ ولئن كانت مأساة شيكسبير قائمة على الشخصية وتكوينها ومصارعة الإنسان لنفسه؛ إذ تتحكم إرادة الإنسان في مصيره، وإذا فالصراع الحقيقي للبطل هو بينه وبين إرادته؛ فقد كانت المأساة عند «يوجين أونيل» قائمة على التحليل النفسي والتكوين الفسيولوجي؛ لأن مصير الإنسان مرهون بما في جسمه من غدد وإفراز، وما في نفسه من عقد ودوافع ... وهكذا ترى بطل المأساة في أدب القرن العشرين كله ضحية الظروف ... كانت المأساة اليونانية والمأساة عند شيكسبير تجعل البطل يعاني الآلام ليكفر للآلهة أو للقدر عما فعل، أما المأساة في أدب القرن العشرين - وخصوصا على أيدي «يوجين أونيل» - فتجعل البطل يعاني من تكوينه النفساني والجثماني؛ فهو هو الذي يعذب نفسه ويتعذب.
يستحيل أن يكون الأديب إلا ناقدا لعصره ساخطا على أوضاعه، وهكذا كان «يوجين أونيل» بالنسبة لعصرنا بصفة عامة، وللأمريكيين بصفة خاصة ... عنده أن عصرنا هذا مصاب بمرض أطلق عليه «مرض العصر»، وظواهره في الحياة الأمريكية - من وجهة نظر أونيل - هي أن الحب قد غاض في القلوب لتحل محله الرغبة في التملك، وحنين الإنسان إلى الفئة التي ينتمي إليها - أسرة كانت أو أصدقاء أو أمة - قد زال واندثر في عصر الآلات الذي نعيش فيه، وذبل الإيمان في القلوب ... أو إن شئت فقل كما يقول «أونيل» إن الإله القديم قد مات، ولم يعد في السماء إله يقوم مقامه ويملأ فراغه؛ فإن كان الأمريكيون اليوم يعبدون شيئا، فذاك وثن اسمه «النجاح»؛ النجاح في التجارة وفي الصناعة وفي جمع المال.
هذا رأي أديبهم العظيم «يوجين أونيل» الذي مات منذ أيام، ولا أراه مطابقا كل المطابقة لما أصادفه عند الناس من حب وتدين إلى جانب إيمانهم بالنجاح الذي أشار إليه «أونيل»، لكن «أونيل» هو بالبداهة أصدق مني نظرا وأصوب رأيا، خصوصا فيما يتعلق بقومه.
السبت في 5 ديسمبر
افتتاحية مجلة هاربرز لهذا الشهر هي كلمة ألقاها مدير جامعة هارفارد - وهي من أهم الجامعات الأمريكية - وهو «ناثان بوزي» عين مديرا لهارفارد هذا العام، فأراد أن يلقي كلمة يستهل بها إدارته لهذه الجامعة الكبرى، فماذا قال؟
وجد أن مديرا سابقا لهذه الجامعة - هو «إليت» - كان قد ألقى سنة 1909م كلمة بمناسبة توليه هذا المنصب، فجعل عنوان كلمته إذ ذاك «ديانة المستقبل»، قال فيها: إن المبدأ الذي يعتزم إدارة الجامعة على أساسه هو أن يجعل العقيدة الدينية عند الناس هي الخدمة الاجتماعية، والانصراف إلى البحث العلمي في شتى نواحيه؛ فالدين الذي أراده «إليت» هو أن يذهب عامل جريح إلى جراح يضمد له جرحه بشاشة معقمة، وأن تغير الدولة طريقة العيش التي يعيشها الفقراء في مساكنهم القذرة وملابسهم الممزقة ... إلخ؛ هذا عنده هو الدين الذي لا دين سواه.
فجاء المدير الحالي لجامعة هارفارد، وألقى كلمة يعارض بها كلمة «إليت» فجعل عنوانها «ديانة الوقت الراهن»، قال فيها إن المبدأ الذي ينوي أن يدير الجامعة على أساسه هو توكيد الدين في النفوس والعناية بالكنيسة؛ فهو يعتقد أن هذا جانب لا بد منه إلى جانب المعرفة العلمية، وأن ما ينقصنا الآن ليس هو في العلم بمقدار ما هو في الدين.
فإذا كانت هذه هي نغمة الحديث على لسان مدير جامعة هارفارد، أفلا يكون صوابا أن نقول إن الاتجاه الديني طابع الأمريكيين؟
الإثنين 7 ديسمبر
اليوم بداية ما يسمونه «أسبوع الاهتمام بالدين»، وهو أسبوع تخصصه الجامعة كل عام لنشر الدعاية للدين بكافة الوسائل، التي أهمها دعوة فئة من كبار المتكلمين في الشئون الدينية ليقضوا الأسبوع كله في الجامعة يحاضرون ويناقشون؛ وقد حضرت اليوم كلمتين من هذا النوع: الأولى في الصباح ألقاها عضو في الكونجرس دعوه هنا ليلقي هذه الكلمة، فتحدث عما يمكن أن تؤديه الديانة المسيحية في مجال الإخاء الإنساني ... كلام كله فارغ؛ وإني لأزداد إيمانا بأن العالم كله لا يزال من هذه الناحية في دور الهمجية والخرافة الفكرية.
والكلمة الثانية كانت خاصة بالأساتذة وحدهم، ألقيت ساعة الغداء، وألقاها أحد المتخصصين في الدين، وقد جاء أيضا بدعوة من الجامعة ... تكلم في وجوب تكوين جمعيات دينية بين أساتذة الجامعات، مهمتها أولا أن تؤاخي بينهم، وثانيا أن يوجد الأساتذة - كل فيما يتخصص فيه - العلاقة بين ميادين أبحاثهم العلمية والديانة المسيحية! ما شاء الله كان! يعني يريد مولانا أن يجد عالم الطبيعة وعالم الكيمياء وعالم النبات ... إلخ العلاقة بين ما يقولونه من نتائج علمية وبين ما ورد في الإنجيل! إنني بعد الآن لن ألوم متعصبا دينيا في مصر إذا قال ما شاء في وجوب سيطرة الدين على العلم، ما دمت أرى هذا في أمريكا رائدة البحث العلمي في عصرنا!
وكذلك يقترح المحاضر ضرورة النظر في إدخال التعليم الديني في مناهج الجامعات، مهما تكن الكلية ونوع دراستها، طبا كانت أو هندسة أو فلسفة، ولا يكفي أن يكون للاهوت كلية مستقلة، وقد ذكر أنه في طول البلاد وعرضها حركة شديدة اليوم في هذا الاتجاه، وهي تسمى «جمعية الأساتذة المسيحيين في الجامعات».
الثلاثاء 8 ديسمبر
بدأت المحكمة العليا في واشنطن أمس النظر في القضية المرفوعة من أولياء الأمور الزنوج في بعض ولايات الجنوب، يطلبون الحكم بعدم دستورية الفصل اللوني في المدارس، بحيث لا يجوز أن يكون للبيض مدارس وللسود أخرى ... أما محامي الزنوج فيقول ببساطة واختصار إن هذا الإجراء مناقض للتعديل الرابع عشر للدستور، وهو تعديل يقضي بألا يكون هناك في أية ولاية من الولايات شيء من شأنه أن تكون هناك تفرقة؛ ويرد مقدما على محامي البيض؛ إذ يتوقع أن يلجأ هذا المحامي إلى العبارة المشهورة التي تسمعها هنا في كل مناسبة تثار فيها مسألة الفصل اللوني، وهي «انفصال مع المساواة»؛ أقول إن محامي الزنوج يرد مقدما على هذه العبارة قائلا إن مجرد الانفصال ينطوي على عدم المساواة.
ويأتي دور محامي البيض فيطيل في الكلام؛ فهو أولا يقول إن المحكمة العليا لا حق لها في النظر في هذه القضية، وإلا كان اعتداء على حقوق الولايات التشريعية؛ إذ لكل ولاية تشريعها الخاص، فلكل ولاية أن تشرع ما تشاء في تعليم أبنائها، على أن تحافظ طبعا على الخطوط الرئيسية لدستور البلاد؛ وهنا ينتقل إلى النقطة الثانية، وهي أن انفصال اللونين، كل لون في مدارسه الخاصة، لا اعتداء فيه على الدستور؛ لأن التعديل الرابع عشر يقضي بألا تكون هناك تفرقة لونية، ونحن لا نريد تفرقة، بل نريد مساواة مطلقة بيننا وبين الزنوج، لكن هل انفصال كل لون في مدارسه فيه شيء من عدم المساواة؟ إذا كان لكل طفل ما لزميله من حقوق التعليم، ولكل مدرس ما لزميله من حقوق مالية، فأين تكون التفرقة؟ إن هدف القانون إسعاد الناس، فهل تظنون أن مدرسة بها - مثلا - سبعة وأربعون طفلا أسود وثلاثة أطفال من البيض، أو العكس، تزيد من درجة تعليم الأطفال ما داموا قد امتزج أسودهم بأبيضهم؟ هل يزيد هذا من سعادتهم؟ كلا، بل سيشعر هؤلاء وأولئك بالحرج، وتكون النتيجة تضحية الاطمئنان النفسي من أجل لا شيء ...
وتقول الجريدة التي قرأت فيها تفصيلات الدفاع: «وختم المحامي الكهل - الذي بلغ الثمانين من عمره - دفاعه وهو على وشك البكاء، منذرا القضاة بشر النتائج إذا هم قضوا بإلغاء الفصل اللوني في المدارس.»
صدر اليوم حكم المحكمة في جماعة المورمون التي كانت تباشر تعدد الزوجات حسب عقيدتهم، والتي اعتزلت في ناحية قصية من ولاية أرزونا ... وقد حكم عليهم بمدد متفاوتة من السجن مع إيقاف التنفيذ؛ وقال القاضي في ذلك إنه لا يود أن ينفذ فيهم حكم السجن حتى لا يخلق منهم أبطالا ... كان المتهمون قد زعموا أن تعاليم الإنجيل ليس فيها ما يحرم تعدد الزوجات؛ فقال القاضي في صيغة الحكم إنه راجع نصوص الإنجيل - خصوصا الإصحاح السادس من سفر التكوين - فوجد فيه رفضا صريحا لتعدد الزوجات، «ففعلكم هذا مناف لكلام الله ... والرجل الذي يدفع فتاة صغيرة إلى زواج مشترك إنما يفرض عليها العبودية؛ فإن قال قائل إنها تتزوج بمحض اختيارها كان هذا القول لفظا أجوف بغير معنى.»
الخميس 10 ديسمبر
لست أشك في أن الأمريكيين يمتازون بروح من الفكاهة نادرة بين شعوب الأرض كلها؛ لأن فكاهتهم لها خصائص هي في نظري الخصائص التي تميز فكاهة الطفل؛ فهي مرح لا ينطوي على خبث كما أظن في فكاهة الفرنسيين ممثلة في رجل كفولتير؛ ولا تنطوي على عمق نظر في متناقضات السلوك الإنساني كما أظن في فكاهة الإنجليز ممثلة في أديب مثل «شوفت»؛ ولا تنطوي على مرارة و«غلب» كما أظن في فكاهة المصريين بصفة عامة ... يخيل إلي أن الأمريكي يتصيد الفرصة للضحك؛ لأنه منبسط النفس وذو طبيعة بسيطة؛ الأمريكي رجل شبع واكتسى وتزوج وأنجب الأطفال، مهما تكن سنه ومهما تكن ظروفه؛ ولذلك فهو قليل الانقباض والعبوس، فلم أر حتى الآن وجها واحدا عابسا؛ كنت أظن الأمريكي جادا في عمله؛ بمعنى أنه يتجهم إبان عمله ولا يدخل فيه المزاح، لكني وجدته يمزج المزاح بالعمل كلما أمكن ذلك.
وقد لفت نظري بهذه المناسبة إجابة جندي أمريكي كان قد وقع أسيرا في أيدي الشيوعيين في الحرب الكورية؛ وقد عاد أخيرا بين من عادوا؛ وهناك لجان تسألهم كيف كانوا يعاملون أثناء أسرهم؛ فقال هذا الجندي: إن أكثر ما ضقت له من هؤلاء الشيوعيين انعدام روح الفكاهة عندهم؛ فهم أبدا عابسون، أبدا متزمتون؛ وإني لأعتقد أن عاملا من العوامل التي تساعدنا نحن الأمريكيين على النصر والفوز هو أننا ننظر إلى الجانب المضحك من الأشياء والمواقف، فنضحك ونسري عن أنفسنا ... إني لا أفهم أبدا شخصا لا يضحك؛ فهؤلاء الذين لا يضحكون هم في نظري من الأموات .
إنني حين ألاحظ ملاحظة عن الأمريكيين مما يكون مخالفا لرأي الناس عنهم، ثم أجد هذه الملاحظة بعينها قد وردت على لسان زائر آخر، أشعر باطمئنان على صدق حكمي ... ألم ألاحظ مرارا أنني أرى اختلاط الرجال بالنساء في الحياة الاجتماعية هنا محدود، وفي نطاق ضيق وعلى كثير من التحفظ؟ قلت ذلك وأنا متردد؛ لأنه يناقض ما يقال عن الأمريكيين من اختلاط بين الجنسين لا يقف عند حد مشروع ... لكني وجدت اليوم أن كاتبة فرنسية قد أصدرت كتابا عن زيارتها لأمريكا، وهي «سيمون دي بوفوار»، والكتاب عنوانه «أمريكا يوما بعد يوم»، ومن ملاحظاتها «أن العلاقة بين الرجال والنساء عسيرة في أمريكا؛ فالرجال يوصدون دون أنفسهم أبواب نواديهم، وكذلك يفعل النساء في نواديهن، ويخيل إلي أن الإخفاق الجنسي مما يميز الأمريكي والأمريكية؛ فكانت النتيجة أن بردت العاطفة في نسائهم، وقلت الخبرة في رجالهم؛ ولهذا تراهم كثيرا ما يلجئون إلى الشراب وسيلة لتحطيم الحواجز والموانع النفسية التي تحول بين الجنسين ...»
الإثنين 14 ديسمبر
حضرت في المساء اجتماع الندوة الفلسفية في منزل الدكتور «ف»؛ حيث ألقى الدكتور «ب» أستاذ الأدب الألماني كلمة يلخص بها قصة للكاتب الأوروبي «هرمان هس»، وهو كاتب لا يزال حيا بلغ الآن عامه الثمانين، والقصة من جزأين في أصلها الألماني، وعنوانها في الترجمة الإنجليزية «ماجستر لودي» - والعنوان الأصلي معناه الحرفي هو «لعبة الخرز» ... وملخص القصة أن جماعة في دير يفكرون تفكيرا نظريا، وقد جعلوا موضوع بحثهم هو الأصول المشتركة بين الموسيقى والرياضة، ثم الأصول المشتركة بين العلوم كلها، كما جعلوا لغة البحث رموزا رياضية، لكنهم على شدة ما بلغوا من أعماق عميقة في أبحاثهم تلك، كانوا مقطوعي الصلة بالعالم الخارجي العملي الواقعي؛ وجاءهم ذات يوم رجل من هذا العالم، فكانت الهوة السحيقة التي تفصل وجهة نظره عن وجهات أنظارهم - أي تفصل بين أوضاع الحياة العملية عن التفكير النظري - مدعاة إلى رئيس الجماعة أن يخرج من ديره إلى العالم الصاخب، واختار لنفسه مهنة التعليم حرفة، فتولى بالتربية طفلا هو ابن الرجل الذي كان قد زار الدير ... وحدث يوما أن خرج الأستاذ وتلميذه الصغير حتى جاء إلى بحيرة مثلوجة، واستطاع الطفل الناشئ أن يعود فينجو؛ أما الأستاذ الذي تعمق الأبحاث النظرية إلى أغوارها فقد غرق ومات.
ودارت مناقشات طويلة عميقة بين الحاضرين حول الفكرة الرئيسية التي أدار عليها الكاتب قصته، وهي الموازنة بين البحث النظري والحياة العملية، أين يلتقيان وأين يفترقان؟
ويشاء الله ألا يتم هذا الاجتماع العلمي الثقافي الذي كان ينبغي أن يخلو من ترهات الإنسان وتفاهاته، بغير هفوة من أحد الحاضرين أثارت ثائرتي على الرغم من ضبطي لأعصابي وإمساكي لزمام نفسي؛ فلست أرى كيف أدى الحديث إلى الإسلام، وهنا سألني من الحاضرين سائل: أتعدون قصة ألف ليلة وليلة بما فيها من شهوات جنسية قصيدة الإسلام الكبرى؟ ... فجلست لحظة صامتا أنظر إليه وأقبض على زمام نفسي، وأستجمع أطراف تفكيري الذي أذهله مثل هذا السؤال من أستاذ جامعي المفروض فيه علو الثقافة واتساع المعرفة ورقة الذوق؛ ثم قلت:
الشهوة الجنسية في ألف ليلة وليلة - يا سيدي الأستاذ - هي أحلام الشباب المراهق في أي بلد من بلاد العالم؛ ألف ليلة وليلة مجموعة من القصص فيها تصوير للنفس الإنسانية في وجه من وجوهها، وقل فيها بعد ذلك ما شئت من نقد أدبي يرفعها أو يخفضها؛ لكن ما دخل الإسلام في ذلك؟
ولست أدري ماذا قال هذا الأستاذ مما أثار انفعالي، وجعلني أقول له: يجب أن تعلم أن الإسلام قد ظهر بعد المسيحية بسبعة قرون، وقد ظهر في نفس المكان الذي ظهرت فيه المسيحية - أعني الشرق الأوسط - وإذا فهو تحسين وتطور وتقدم وليس هو بالنكسة والتأخر.
وهنا تدخل الأستاذ - الذي قرأ البحث - ليعين زميله، فقال كلاما بدأه بقوله: «إن الثقافة الأوروبية مسيحية ...» فقاطعته قائلا: هذا خطأ؛ نعم هي عبارة تكررونها آلاف المرات، وخطؤها واضح؛ فالثقافة الأوروبية وثنية في صميمها وليست هي بالمسيحية في شيء؛ الثقافة الأوروبية الحاضرة قائمة على ثقافة النهضة، وهذه الأخيرة قد أقيمت من حيث الأدب والفن على اليونان، ثم أقيمت إلى جانب ذلك على العلم الذي هو قبل كل شيء اهتمام بالطبيعة لا بالإيمان الديني.
فقال: ألا يمكن القول إن المسيحية طابع التفكير الغربي؟ قلت له: خطأ أيضا؛ لأن المسيحية ليست إنتاجكم، بل هي إنتاج الشرق الأوسط انتقل إليكم، وعلى أحسن الفروض بعد ذلك، أخذتم الإنتاج وترجمتموه وقبلتموه، وحتى على هذا الفرض، فالكتاب إنما يدل على كاتبه لا على مترجمه أو قارئه؛ فنحن أهل الشرق الأوسط بمثابة من أنتج كتابا ثم أرسله إليكم ... ومع ذلك فليس الفرض صحيحا؛ لأنكم لم تقبلوا المسيحية في الواقع، بل تظاهرتم بقبولها، وما زلتم تتظاهرون بقبولها؛ فالمسيحية حب وسلام، وأوروبا من بين بقاع العالم كله أكثر أجزاء الأرض قتالا داخل حدودها وخارج حدودها على السواء ...
على أنني بعد ذلك كله أحب أن أنبهك إلى ما لم تكن عالما به، وهو أن الإسلام والمسيحية لا يختلفان إلا في نقطة جوهرية واحدة، هي التثليث المسيحي الذي جعله الإسلام توحيدا ...
وهكذا استطرد الكلام فترة طويلة، كان محدثي أهدأ مني، لكني كنت أقوى منه حجة وأسرع فكرا، وانتقل الحديث إلى فرويد والمسيحية، فتركته لهم وجلست صامتا حتى النهاية.
لست متعصبا في الدين، لكني بعد هذه الزيارة لأمريكا، وبعد ما سمعته من ملاحظات عن الإسلام تدل على أن هؤلاء الناس يظنون بالإسلام شر الظنون، فهو عندهم وثنية أو شر من الوثنية، وهو عندهم همجية وتأخر، أصبحت الآن أرى وجوب اتخاذ الوسائل كلها لنشر جوهر التعاليم الإسلامية مبسطة؛ ليفهم هؤلاء الناس أننا لسنا في الدين من التخريف بحيث يظنون.
الثلاثاء 15 ديسمبر
ذهبت إلى السينما وشاهدت فيلما جيدا حقا، فيه اللمسة الإنسانية غاية في القوة: فتاة يموت أبوها وهي بعد طالبة ولا يعولها أحد، فتشتغل بالتدريس في الريف، وكان أبعد ما يتصوره خيالها أن تتزوج من فلاح فقير، لكن حدث أن أحبها فلاح وأحبته، وعاشت معه فيما يشبه الفقر الشديد، وأنجبا طفلا ومات الوالد، وجاهدت الأم جهادا تمثلت فيه المثل الإنسانية العليا، حتى تخرج ولدها مهندسا للعمارة، وكانت الأم في شبابها مغرمة بالموسيقى؛ فهي تقدر الفنون ، وتقدر أن يعيش الإنسان بفن منها؛ ولذلك أفرحها أن يكون ابنها من رجال الفنون في كسب عيشه ...
لكن الفتى أراد الزواج، فتزوج من فتاة لا تفرق بين العمى والسما، ولا يهمها إلا أن يكسب الزوج مالا، وفن هندسة العمارة قد يكون بطيء الكسب، فدفعته دفعا أن يترك فنه ليكون سمسارا يصل ما بين مهندسي العمارة وبين من يريدون البناء، وكسب عن هذا الطريق ألوفا، لكنه لم يكسبها عن طريق فنه، فلما عرفت أمه ذلك؛ تحطم قلبها من أجل ولدها؛ فقال لها: كنت أظنك يا أماه تفرحين حين تعلمين أنني أكسب كذا ألفا من الريالات في الأسبوع الواحد؛ فأجابته أمه إجابة رائعة، هي التي جعلتني أثبت خلاصة القصة لأثبت تلك الإجابة، قالت له: الفرق يا بني بعيد بين من يقطع التذاكر في شباك الأوبرا وبين من يدخلون ليشاهدوا الأوبرا، مهما كسب الأول وخسر الآخرون فهو في خارج البناء وهم في داخله يشاهدون، وعملك في السمسرة مهما أكسبك الألوف، هو عندي بمثابة قاطع التذاكر، وكنت أحب أن تمارس فنك مهما كان كسبك من ورائه ضئيلا ...
فأحسست إحساسا غامضا أني قد قضيت شطرا طويلا من عمري قاطعا للتذاكر أعطيها لغيري فيدخلون ويشاهدون ... ولم أدرك تماما ما وجه الشبه بيني وبينه، لكنها على كل حال حكمة بالغة، فلأن يعيش الإنسان بفنه أو بعلمه - ولو كسب منه القليل - خير ألف مرة من أن يجعل من نفسه وسيطا لأصحاب الفنون والعلوم، مهما جاءته هذه الوساطة من مال وجاه.
الأربعاء 16 ديسمبر
كنت أحاضر في جمهورية أفلاطون، وذكرت ما ورد فيها عن الأطفال أن يكونوا أبناء الدولة، فاعترضت الآنسة «ج» وهي طالبة ذكية، قائلة: إن هذه التربية للأطفال مستحيلة؛ لأنها تخلي محيط الطفل من عاطفة الأمومة، ولا حياة لطفل بغير عاطفة، فقلت لها: الأمر يحتاج إلى تجربة ... فقالت: قد أجريت في ذلك بعض التجارب التي لها دلالتها، فقلت لها: أين قرأت عن هذه التجارب؟ فأجابت: في مقال سأبحث لك عنه.
وجاءتني اليوم بمجلة فيها تقرير عن تجربة قام بها عالم في اللغات، وهي أنه جمع بضعة أطفال من اللقطاء، وعهد بهم إلى مربيات طلب إليهن ألا يكلمنهم أبدا، بل يطعمنهم وهن صامتات، فمات الأطفال على مر الأيام، ولم تتم للعالم تجربته ... وعلى الرغم من أن التجربة ليست قائمة على موضوع عطف الأمومة بالذات، لكنها - كما قالت الآنسة «ج» - تجربة لها دلالتها وتستحق أن تذكر.
وقرأت اليوم قصة طويلة في مجلة «بوست» أعجبتني فكرتها، لكن حوادثها لم تمتعني؛ لأنها تفصيلات عن تربية الأغنام التي لا علم لي بها، وذلك أن حوادثها تدور في مرعى للغنم ... القصة عنوانها: «حمى العروس» وهي تحليل للشعور بالمقاومة التي تشعر بها العروس شعورا خفيا حين يتقدم إليها الخاطب ... ورثت فتاة عن أبيها مرعى كبيرا من الغنم، وكان أبوها قبل موته قد وضع خطة لزواج ابنته من شاب رباه ودربه على رعاية الغنم؛ ومات الوالد وجاءت الفتاة من جامعتها إلى حيث المرعى، فكان الشاب يعلم أنها في حكم خطيبته، حتى لقد أعد خاتم الخطبة انتظارا لقدومها، لكن الفتاة أرادت إثبات شخصيتها، فقالت له إنها ستتولى المرعى بنفسها مدة من الزمن، وإنها لم تقرر بعد الزواج منه؛ وأراد الشاب أن يرد عليها بما يقرر سلطانه عليها، فقالت له الفتاة في كبرياء: على رسلك يا هذا! أحسبتني غنمة من الغنم؟
ترك الشاب مرعاه، واستعانت الفتاة براع يرعى لها الغنم ويعلمها رعايته، وكان الراعي يعلم ما بين الشاب والفتاة من عناد، ويعلم كذلك بطبائع الإنسان والغنم على السواء؛ قال لها ذات يوم في خبث وهو يشير لها إلى غنمة تترك صغارها لتجري وراء كبشها: هذه طبيعة الغنم، وطبيعة الناس! فالمرأة طبيعتها أن تنسل إلى حضن الرجل ولا تستريح بالا إلا وهي تحت جناحه، إنها تفعل ذلك لكنها إذا قيل لها هذا الحق غضبت وثارت لكرامتها، كأنما تكره أن يذكرها أحد بطبيعتها ...
وثارت عاصفة هوجاء، وضاع كثير من غنم المرعى، وجاء من الجبل فهد مفترس، واشتدت الأزمة ووقعت الفتاة في حيص بيص لا تدري ماذا تصنع والكوارث آتية على مرعاها من كل ناحية ... وهنا جاء الشاب الخاطب مارا في طريقه مصادفة ودفعته النخوة أن ينقذ الأمور، وأحست الفتاة في وجوده أمنا وطمأنينة، فذابت بين ذراعيه وهي تقول: لك أن تشرف على المرعى كما كنت تشرف، وأن تدخلني في رحابك، وتضعني تحت سطوتك وسلطانك، واعتبرني منذ اليوم غنمة من الغنم!
قلت لنفسي: إن كاتب هذه القصة أمريكي، والفتاة التي يحللها أمريكية، وإذا فالأمريكي كالمصري، كأي إنسان في الدنيا، من طبيعته أن ينتشي لطاعة المرأة، والأمريكية كالمصرية، كأية امرأة في الدنيا، من طبيعتها أن تذل للرجل وتخضع، ولذلك كله حدود يمكن معرفتها بالإدراك السليم؛ فمجاوزتها طغيان والانتقاص منها غباء وحمق.
الجمعة 18 ديسمبر
رغب الطلبة اليوم في أن أحدثهم عن مصر بدل أن أحاضرهم في الدرس؛ فاليوم هو آخر الأيام قبل إجازة عيد الميلاد؛ فحدثتهم عن مدى الخطأ الذي يخطئونه في فكرتهم عنا، ومصدر الخطأ خيانة كتابهم ومخرجي الأفلام السينمائية؛ فهؤلاء جميعا يهمهم أن يصورونا في صورة غريبة أكثر مما يهمهم أن يصفوا الحق والواقع؛ فالفكرة العامة عند الأمريكيين هي أننا حفنة من العرب نغوص في الجهل والشهوة؛ قلت لهم: ها أنا ذا أمامكم، فهل رأيتموني أتكلم أو أفكر أو أسلك على صورة تدل على أنني إنسان أقل من متوسط الناس عندكم؟ فأنا هو مصر، لست في بلدي إلا واحدا من أوساط الناس، أنا في عالم الثقافة والتفكير في بلدي من غمار الأوساط؛ فقد يسأل سائل منكم عشرة آلاف مصري يختارهم عفوا من المثقفين في مصر: هل تعرفون فلانا؟ وسيجد إجابتهم: من فلان هذا؟ ...
الحق أني قد تركت فيهم أثرا أعتقد أنه لن يمحى من أذهانهم؛ قال لي أحدهم، وهو طالب حاصل على درجة الجامعة وعلى درجة الأستاذية ويحضر رسالته للدكتوراه، وهو غاية في النضوج العقلي: أقول لك مخلصا إنني قبل أن أراك لم أكن أتصور «العربي» إلا إنسانا أقرب إلى الهمجية في ثيابه الواسعة ولحيته الكثة وجهله المطبق، وأظن أن مجرد وجودك بيننا تحاضرنا وتتحدث إلينا قد بدد هذه الخرافة، لا أقول عندي وحدي بل في الجامعة كلها، كلهم يقولون عنك ذلك ... وقال طالب آخر: لا بد أن تفكروا في وسيلة تنشرون بها حقيقة شعبكم، إن رجلا مثلك يستطيع أن يوسع من صلاته في أمريكا وقتا ما، وذلك وحده عامل قوي في ذاته ...
كنت أتعشى الليلة في المطعم المألوف، وحدث ما لم يحدث إلا نادرا، وهو أن جلس زوجان معي على مائدة واحدة، هما صغيران، فلا أحسبهما يزيدان على العشرين، وعليهما علامات السذاجة، كأنما جاءا إلى كولمبيا من الريف؛ أوشك الشاب أن يبدأ طعامه، فرفع الشوكة والسكين، فابتسمت له الزوجة قائلة: ألا تنوي الصلاة يا عسل؟ فترك الشاب سكينه وشوكته وطأطأ الرأس، وطأطأت الزوجة رأسها، وتوجها بالدعاء إلى الله أن يبارك لهما في طعامهما، وأن يجعل لهما الرزق موصولا.
الفصل الثاني
في واشنطن
السبت 19 ديسمبر
قامت الطائرة التي تقلني إلى واشنطن لقضاء عطلة عيد الميلاد في منتصف الساعة الحادية عشرة صباحا؛ وكان يجلس أمامي في الطائرة زوجان صغيران في السن؛ فالزوج لا يزيد أبدا عن العشرين، ولا يمكن أن تزيد الزوجة عن الثامنة عشرة، ولم يكونا يستطيعان الصبر على عدم التقبيل فترة طويلة؛ وإني لأرجح أنهما عروسان في طريقهما إلى مكان يقضيان فيه شهر العسل ... كانا يميلان أحدهما على الآخر، فيتلاصق الخدان أو يتساند الرأسان، ثم يهوي الشاب على زوجته الطفلة تقبيلا في عنقها وذراعها وخدها وشفتها؛ وتنتظر هي قليلا ثم ترد له التقبيل تقبيلا مثله ... هكذا قطعا الطريق إلى واشنطن، فأخذتني والله حسرة شديدة على مصر؛ فهذه علامات لا أستهين بها في التدليل على ما في المجتمع من صحة نفسية؛ لماذا يا ربي لا يجوز هذا في مصر؟ أنا لا أريد أن يكون هذا بين العاشقين، بل أريده بين الزوجين ... من ذا الذي ابتلانا بهذه الصرامة الظاهرية التي حطمت أعصابنا وخربت عقولنا وأتلفت تفكيرنا، وجعلت عيشنا كله سلسلة من تحريمات؛ تحريم إثر تحريم؟
كانت الشمس غاية في الإشراق واللمعان، وكان الجو غاية في الصفاء، وغاية في البرودة إلا في الأماكن المغلقة طبعا؛ لأن كل مكان هنا فيه تدفئة ...
وأعود إلى الزوجين الشابين فألاحظ أنهما من ذوي المناظير، وكنت آسف لهما حين يدنوان بوجهيهما للتقبيل فيصطك منظار بمنظار؛ إن لبس المنظار يهدم جزءا كبيرا من حلاوة الغزل بالعين، وينقص من لذة التقبيل؛ وإني لأحسدكم يا من سلمت عيونكم فلا تلبسون المناظير، أحسدكم على أن أعينكم تتلاقى كما أراد لها الله أن تتلاقى بغير حواجز من زجاج.
وصلت إلى واشنطن في الساعة الواحدة، ولم أكد أقذف بحقيبتي في غرفتي بالفندق حتى خرجت كالنهم يريد أن يرى كل شيء في لحظة واحدة! ... نظرت إلى خريطة المدينة وصممت لنفسي طريقا أسير فيه؛ فأنا في المدن التي أزورها لا أركب بل أسير على قدمي ساعات وساعات لأرى كل شيء أستطيع رؤيته.
مررت بالبيت الأبيض لأنه مجاور للفندق، وعبرت الميدان الواسع ... فالسعة في الشوارع والميادين قد بلغت حدا يتحدى المشاة! ... عبرت الميدان الواسع الواقع أمام البيت الأبيض قاصدا إلى النصب التذكاري لواشنطن، وهو على شكل مسلة كبيرة عالية، تصعد إلى قمتها من داخلها بمصعد أو بسلم؛ وصعدت بالمصعد إلى قمة المسلة، وفي المصعد مذياع يدير شريطا مسجلا يستغرق الزمن الذي نقطع فيه المسافة إلى القمة، ويحكي للزائرين عن هذا النصب التذكاري بعض تفصيلات؛ ومن قمة المسلة أشرفت على واشنطن في هذا الجو الرائق المشرق ...
وقصدت بعد ذلك إلى متحف التاريخ الطبيعي الذي يبهر العين بناء ومحتوى، ولست أنوي كتابة تفصيلات ما رأيته هناك، وحسبي أن أذكر قاعة وقفت عند معروضاتها الفنية مسحورا مفتونا؛ قاعة كتب عليها اسم «هربرت وورد» وهو نحات (1863-1919م)، وفي هذه القاعة عرضت بعض التماثيل التي نحتها الفنان ليمثل بها بعض جوانب الحياة في القبائل البدائية؛ فسبحان من أنطق الحجر تحت إزميل هذا الفنان العجيب! تمثال «شيخ القبيلة» جالسا القرفصاء وحربته في يده، وتمثال «حاملة الحطب» لامرأة تحمل على كتفها حزمة من حطب، وتمثال «الهاربون» وهو رجل حمل طفليه وراح يعدو فزعا، وتمثال «الساحر»، وتمثال «الحزين» وهو رجل وقف مطأطئ الرأس مسندا إياه على زنديه، وتمثال «أفريقيا النائمة»: زنجية مستلقية في استرخاء، وتمثال «واضع الخطة»: رجل جلس القرفصاء، وراح يخطط الأرض بإصبعه ...
الأحد 20 ديسمبر
أخذت أتصفح في الصباح جريدة «واشنطن بوست»، وجدتها على نفس النظام والتقسيم الذي وجدت عليه الجرائد المحلية في كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية؛ فالجريدة ذات عشرة أجزاء، كل جزء منها يساوي حجم «الأهرام» عندنا حين تكون في أكبر حالاتها: قسم عام للحوادث السياسية، وقسم للسيدات، وآخر للألعاب، وآخر للفنون والآداب، وآخر للأطفال، وآخر للأسواق التجارية، وآخر لوسائل التسلية من إذاعة وسينما ومسرح ... إلخ إلخ.
وهذا موضوع يحسن عنده أن أذكر حقيقة عن المقالة الصحفية هنا كيف تتولى توزيعها شركات صحفية خاصة؛ وكنت قد قرأت عنها في مصر لكني لم أفهمها فهما جيدا إلا هنا ... فهنالك شركات تشتري من الكاتب الصحفي مقالته، فلا تكون العلاقة بين الكاتب والصحيفة علاقة مباشرة، بل يكون بينهما هذه الشركة تجمع مقالات الكتاب وتوزعها على الصحف في شتى أنحاء البلاد، وبهذا يتاح للمقالة الواحدة أن تنشر في وقت واحد في ثلاثين أو أربعين صحيفة في شتى الجهات؛ وهنالك تنظيم للتوزيع من شأنه ألا تنشر المقالة الواحدة في جريدتين تصدران في بلد واحد؛ وبهذا يمكن للجرائد المحلية أن تنشر مقالات أكبر الكتاب في نفس اليوم الذي تصدر فيه المقالة في صحف واشنطن ونيويورك؛ لأن ثمن المقالة بالنسبة للجريدة يكون عندئذ أقل جدا مما كانت تدفعه لو كتب لها الكاتب وحدها، وفي الوقت نفسه يكون أجر الكاتب عن المقالة الواحدة مبلغا جسيما؛ لأنه حين يبيعه لشركة النشر فإنما يبيعه لينشر في عشرات الصحف مرة واحدة.
هل يمكن قيام نظام كهذا في مصر؟ فيكتب الكاتب مقالة لتنشر في كل جرائد الأقاليم، وبهذا ترتفع جرائد الأقاليم من جهة، ويزداد إيراد الكاتب من جهة أخرى؟ ... إنك تسأل هذا السؤال فسرعان ما يأتيك الجوانب، وهو أن ذلك مستحيل عندنا الآن، لسبب بسيط وهو ألا قراءة ولا قراء؛ وبالتالي ليس هناك في الأقاليم صحف تذكر، وبضع جرائد قليلة تصدر في القاهرة كافية أن تغطي حاجات القطر كله! ... ربما نجح المشروع لو فكرنا فيه على أساس اتخاذ البلاد العربية كلها وحدة صحفية.
لا تكاد الآن تدخل دكانا أو مطعما أو بيتا إلا وجدت فيه زينة عيد الميلاد أشكالا وألوانا؛ وقد ذهبت عصرا مع الأستاذ «خ» إلى مطعم بعيد في مكان جميل هادئ منعزل لنشرب الشاي في ذلك الفردوس الأرضي! فكان المطعم مزدان النوافذ بكرات ملونة؛ مزدان الجدران والموائد بالألوان الفاقعة ... وذلك يثير سؤالا كبيرا عن الذوق الأمريكي في وجوه كثيرة، فلا شك في ميل الأمريكيين إلى الألوان الصارخة التي هي من علامات الذوق البدائي، أفيكون إذا لوجود الزنوج بينهم أثر في تشكيل أذواقهم؟ إنك ترى هذه الزخارف الزاعقة في ألوانها، وتسمع موسيقى الجاز التي هي في صميمها موسيقى زنجية، وتشهد الرقص الذي يرقصه كثيرون من الشبان الأمريكيين وهو قريب جدا من الرقص الزنجي، ثم تجد الألوان الصارخة في ثيابهم؛ فأربطة الرقبة فاقعة غريبة التلوين والرسوم، والجوارب تميل إلى الألوان العالية؛ فهي شديدة اللون الأحمر أو اللون الأزرق ... إلخ، وأقراط النساء فيها نزوع ملحوظ نحو الفن البدائي ... أفلا يجوز - كما قلت - أن يكون هذا كله نتيجة وجود الزنوج؟ قد يكون، وقد يكون ذلك نتيجة تفرعت عن مبدأ أعم وهو أن الأمريكيين شعب لا يضع على نفسه الضواغط النفسية، ولا يقيد نفسه بالحواجز بغير موجب ولا داع؛ هو شعب في نفسه انطلاق في التعبير، فإن كان من طبيعة النفس إذا تركت على سجيتها أن تحب هذه الألوان التي لا تزمت فيها، ففيم التحفظ والتكلف وردع الطبائع باللجم والشكائم؟!
الإثنين 21 ديسمبر
قصدت هذا الصباح إلى متحف الفن، فكان أول ما لقيت فيه بهوه الأوسط؛ وهناك وقفت مشدوها أمام هذه العظمة وهذا الجلال، لو كنت تركت لخيالي أن يصور لنفسه بهوا يبلغ من الجلال أقصاه، لما استطاع الخيال أن يتصور شيئا يذكر بالقياس إلى هذا الواقع الذي أراه الآن وألمسه: هذه العمد الرخامية السوداء، وهذه الأرض الرخامية السوداء، وهذه النافورة في الوسط وفي أعلاها تمثال صغير أسود، والماء منبثق يتلألأ بأضواء ملقاة عليه من مصادر لا تراها ...
وقفت لحظة أفكر لنفسي ماذا أرى من أجزاء المتحف؟ وكيف أرى؟ وسرعان ما صممت ألا أكون جشعا؛ لأن ذلك قد يقتضي أن أنظر بالعين إلى أشياء كثيرة دون أن أعي شيئا، والأفضل أن أتخير القليل، ثم أتقن النظر إلى ما أتخيره، وأخذت لنفسي فن القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ في أمريكا أولا، وفي إنجلترا ثانيا، وفي فرنسا ثالثا ... إذا كان المتحف ونظامه يتيح لي هذا التقسيم.
كان الفن الأمريكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر أميل إلى تصوير أشخاص، استرعى نظري من بينها صور رسمها «ستيوارت» ... ولاحظت مما رأيت من صور أن الفن الأمريكي قد أخذ في نهاية القرن يميل تدريجا نحو رسم الطبيعة بدل الأشخاص، كصورة «منظر أمريكي» للفنان «إنس»، وكالصور الكثيرة التي رسمها فنانهم العظيم «هومر» عن البحر وما يتصل به؛ ومن أجمل ما رأيته ل «هومر» صورة وقفت أمامها مدة طويلة من شدة إعجابي بها، وهي صورة بطتين طائرتين: إحداهما في وضع معتدل، والأخرى في وضع مقلوب.
نتاج الفن الأمريكي ليس مجموعا كله في مكان واحد من المتحف؛ فعليك أن تتعقبه بين مزيج من نتاج كثير مختلف الأصول، وأكثر ما تراه ممتزجا به هو نتاج الفن الإنجليزي؛ إذ ترى آيات من هذا الفن معروضة هناك، رسمها الفنانون «رينولدز» و«جينز بره» و«رومني» و«ريبرن» و«تيرنر» وغيرهم.
وطابع الفن الإنجليزي - كما هي الحال في الفن الأمريكي - في القرن التاسع عشر هو الصور الكبيرة لأشخاص من علية القوم حينئذ؛ وتعليل ذلك بالطبع هو أن القرن التاسع عشر كان عصر أرستقراطية تتركز اجتماعاتها في «الصالونات» لا في الطبيعة المكشوفة، والمنازل إبان تلك الفترة - أعني منازل الكبراء - كانت فسيحة الغرف عالية الجدران؛ ولما كان الفن دائما - أعني قبل عصرنا الحالي - خادما للطبقة الممتازة في المجتمع، فقد كان الشغل الشاغل لفناني ذلك العصر أن يصوروا أفراد تلك الطبقة لتوضع صورهم على جدران منازلهم؛ وإذا فقد كان حتما أن تكون الصور كبيرة متناسبة مع الغرف الفسيحة والجدران العالية ... لست أدعي أنني ذو ذوق ممتاز في التقدير الفني، لكنني على كل حال أثبت خبرتي، وهي أني قليل الإعجاب بالفن الذي يصور أشخاصا مهما يبلغ من الجودة والإتقان.
وانتقلت من مجموعة القرن التاسع عشر إلى مجموعة أخرى من الفن الحديث وما سبقه بقليل، فكان الانتقال مفاجئا والاختلاف بين المجموعتين بعيدا، وهنا أطلت الوقوف، وأمعنت النظر عند بعض الفنانين بغية أن أتشبع بخصائص الفن الجديد.
أطلت الوقوف جدا عند صور «بيكاسو» و«ماتيس» وكلاهما - كما هو معروف - من رواد الحركة الجديدة في التصوير، وحاولت أن أفهم وأن أقدر ما أراه ... والمفتاح في تقدير الفن الحديث هو ألا تسأل عن الصورة التي تنظر إليها: «صورة ماذا؟» خذ الصورة على أنها نهاية في ذاتها، هي صورة كما أن الشجرة شجرة، والنهر نهر، والقمر قمر؛ فليست الصورة تصور شيئا من وجهة النظر الحديثة في الفن، بل هي صورة بمعنى أنها تقدم للعين مزيجا متسقا متناغما من ألوان، فإن وجدت عينك في الصورة هذا الاتساق اللوني فهي جميلة، وإذا فالسؤال الرئيسي عن أي صورة حديثة هو: «هل يسرني أن أنظر إلى هذه الصورة؟» ... وإنه من لطيف ما يروى في هذا الصدد ما قاله «ماتيس» لسيدة وقفت تشهد صورة رسمها، والصورة لامرأة كما هو ظاهر، لكنها امرأة مرسومة على نحو بعيد عن واقع الحياة بعدا لا يستسيغه من لا يستسيغ الفن الحديث؛ فسألته السيدة متعجبة: كيف يمكن أن تقول إن هذه امرأة؟ فأجابها «ماتيس»: يا سيدتي ليست هذه امرأة، إنها صورة.
أقول إني أطلت الوقوف عند «بيكاسو» و«ماتيس»، وحاولت الفهم والتقدير أولا، فأعجبني كثير من نتاجهما؛ فلا يزال منطبعا في ذهني صورة لامرأة عارية الظهر تصفف شعرها، من رسم «ماتيس» وصورة «مأساة» من رسم «بيكاسو» ... لكن هناك صورا كنت أعجب عجبا لا ينقطع: ماذا فيها مما يجعلها فنا ممتازا؟ مثلا صورة «بيكاسو» لزوجته، وهي صورة يخيل إليك أن مبتدئا قد رسمها بالطباشير، وصورة «لبيكاسو» أيضا اسمها «عاشقان».
وكذلك أطلت الوقوف والدراسة عند جماعة «الانطباعيين» لدرجة أني بعدئذ أخذت أختبر نفسي، فأحكم على الصورة لأي فنان هي قبل أن أقرأ اسم فنانها، وكثيرا ما كنت أصيب الحكم؛ لأني ركزت انتباهي في الخصائص التي يتميز بها كل من هؤلاء «الانطباعيين»: «ديجا» و«رنوار» و«سيزان».
هدني التعب من كثرة المشي والوقوف؛ فقد كنت أستخسر الجلوس دقيقة واحدة حتى أستغل وقتي فلا يضيع ... لكن هدني التعب، وأحسست الألم في عظامي وعضلاتي حتى أوشكت أن أفقد القدرة على الحركة ... ودخلت مطعما للغداء، فجلست أمام النضد الكبير، وجلست على المقعد المجاور لي سيدة شديدة الجاذبية تستلفت النظر بهندامها وعطرها، وما كادت تأتي المناولة من خلف النضد لتسألها ماذا تريد حتى أسرع مناول وسمعته يهمس للمناولة أن تترك له هذه الزبونة يخدمها هو؛ فتركتها له وهي تبتسم ابتسامة الفاهمة؛ وجاء المناول وانحنى قليلا كأنما هو ينصت لما تطلبه الزبونة، والورقة والقلم في يده على هيئة من يكتب ما يملى عليه، لكن المرأة بدأت حديثها للمناول همسا، تقص له في اهتمام أمرا خاصا بينهما؛ وكان المناول يسمع في انتباه شديد ويدعي أنه يكتب «طلبات الزبونة» في الورقة التي بيده، ثم يذهب ليعود فيسمع جزءا آخر، وهكذا.
الثلاثاء 22 ديسمبر
جعلت غايتي اليوم زيارة «قاعة فلب التذكارية» وهي معرض للفن الفرنسي والأمريكي الحديث ... وقاعة فلب هذه منزل كبير جيد التأثيث - أعني أنه ليس في بنائه على هيئة المعارض - علقت على جدرانه في غرف الطابق الأرضي والطابق الأول صور لعدد كبير من الفنانين، لكل فنان غرفة على وجه التقريب، وكان مسلطا على كل صورة ضوءان: من أعلى ومن أسفل، وهذه الأضواء هي كل ما في البيت من إضاءة؛ ولذلك فالضوء خافت يتناسب مع ما فرش به المنزل من أثاث وسجاجيد، وتعاون كل شيء هناك على أن يجعل من «القاعة» دارا هي الفتنة كلها والسحر كله.
للفنان الفرنسي «موريس أوترلو» معرض يملأ غرفتين، وهي كلها صور رسمها بين عامي 1903م و1914م، وهي فترة تسمى في حياته بالفترة البيضاء؛ لأن اللون الأبيض غالب على الصور كلها، وكلها تقريبا رسوم لشوارع وكاتدرائيات في باريس ، وهو من رجال المدرسة الانطباعية في الفن؛ ولقد أعجبت أشد إعجاب بكل صورة من مجموعة صوره ... كنت أقف أمام كل صورة وأتخيلها قد علقت على هذا الجدار أو ذاك من منزلي بالقاهرة، فأتصور أنها تكسب البيت كله جمالا وروعة؛ فالمزيج اللوني في الصور غاية في الاتساق، وتشعر بالنغم اللوني شعورا قويا، مما يؤكد وجهة النظر الجديدة في فن التصوير، وهي أن تكون «موسيقى للعين».
انتقلت إلى غرفة بها مجموعة لفنان حديث هو «براك» يغلب على صوره اللون القاتم: الأسود أو الرمادي القاتم أو البني الغامق، وتلوينه يشبه أن يكون حائطا مطليا بالجير ... جلست على مقعد أمام إحدى صوره، فيها صورة منضدة معوجة القوائم متموجة الأجزاء في غير انتظام، ولا تدري ماذا على المنضدة؛ فعليها بقع لونية مختلفة، تتبين خلالها سكينتين ... إنني أشعر بدافع يدفعني أن أقوم لأقرأ اسم الصورة أسفلها، وهذا معناه أني لم أتشرب بعد بروح الفن الحديث؛ لأنني لو تشربت هذا الفن لما اهتممت أبدا ماذا يكون اسم الصورة، خشية أن أنخدع فأظن أن اسمها دال على ما تصوره، مع أنه لم يعد الفنان الحديث يصور بصورته شيئا خارج نفسه؛ الصورة الحديثة مزيج من ألوان يحدث نغما منظورا، ومن ثم فليس هناك ما يمنع الفنان أن يرسم المنضدة معوجة القوائم متموجة السطح؛ لأنه لا يصور منضدة، إنما يتخذ من المنضدة وما عليها تكأة يعتمد عليها في مزج الألوان كما توحي بذلك نفسه ومزاجه وذوقه الخاص.
وكذلك أعجبتني صورة ل «براك» فيها كرسي من كراسي الخيرزان مقعده خشبي، والكرسي منظور إليه من أعلى، وعلى قرصه الأحمر دورق وكوب، ويتدلى على المقعد ما يشبه الحبال المعقدة بعقد بيضاء، ويمتد على جانبها فرع من ورق الشجر الأخضر ... الصورة لا تمثل شيئا من الواقع، هذا بديهي ظاهر، وإذا فهي مزيج لوني، وعلى الرائي أن ينظر إليها من هذه الوجهة وحدها ... وسيجدها مزيجا لونيا بلغ الغاية من جمال التناسق والتناغم .
ودخلت غرفة رابعة فيها مجموعة لفنان حديث اسمه «بول كلي» فلم أستسغ منها صورة، على الرغم من رياضتي لنفسي على استساغتها، على أنه قد لفت نظري أسماء صوره؛ فصورة اسمها «الأغنية العربية»، وأخرى اسمها «ممثل المسرح الشرقي».
وغرفة خامسة دخلتها فرضيت عن نفسي حين وجدتني أنظر إلى أول صورة فيها وأقول: لا بد أن تكون هذه للفنان الأمريكي «هومر»، ثم أجدني قد أصبت، وإلى الصورة الثانية وأقول: وهذه تشبه فن «إنس» فأصيب الحكم مرة أخرى.
ودخلت غرفة سادسة فيها صورة ل «فان جوخ» و«رنوار» و«ديجا»، وها هنا أيضا لم أخطئ الحكم في صورة واحدة؛ فقد كنت أحكم على كل صورة قبل أن أقرأ اسم صاحبها، محاولا أن أستغل خبرتي ودراستي في تمييز الأعمال الفنية بخصائصها.
وعدت فنزلت إلى الطابق الأرضي حيث طفت ببعض غرفه، وهناك رأيت صورة «ديجا» المشهورة التي تصور تمشيط الشعر؛ ففيها ثلاث نساء في أوضاع مختلفة، أمسكت كل منهن بشعرها ومالت بجسدها فوقفت وقفة من تمشط شعرها؛ وصورة صغيرة أخرى ملأتني فتنة وإعجابا لفنان اسمه «سيورا» واسمها «كاسر الحجر»، وهي تصور عاملا أمسك بفأسه وانحنى يكسر بها الحجر، ليس في الصورة تفصيلات؛ فهي تكاد لا تزيد عن بقعة من اللون بغير أجزاء؛ ومع ذلك فالحياة والحركة فيها يراهما حتى من ليست له خبرة بالنقد الفني.
وجلست أستريح في هذا الجو الفاتن الساحر، كأنما يصعب على نفسي أن تخرج من هذه الدار التي أترعت بالفن بناء وأثاثا وجدرانا.
لم أكد أفرغ من الغداء حتى بدأت جولة كبيرة رأيت فيها مراكز الحكم والثقافة في واشنطن ... وأول دار زرتها هي دار المحفوظات؛ تدخلها من مدخل فخم تقوم فيه العمد الضخمة، فإذا أنت في بهو مستدير تعلوه قبة عالية، ومع دوران البهو يدور صف من صناديق الزجاج المضاءة، عرض فيها أهم الوثائق التاريخية في حياة الولايات المتحدة، صدرت بالوثيقة الكبرى وثيقة الاستقلال التي هي أساس الدستور، والتي تبدأ: «نحن الشعب ...» وعند المدخل داخل البهو صفان من أعلام، هي أعلام الولايات الثمانية والأربعين بحثت فيها عن علم كارولاينا الجنوبية كأني من أهلها، فرأيته بما عليه من نخلة تتخذها شعارا لها؛ وخرجنا من البهو الدائري إلى ممر طويل ينحني بانحناء البهو الذي تعلوه القبة، وفي هذا الممر فجوات في الحائط على الجانبين، مغطاة بألواح الزجاج ومضاءة، لكل ولاية منها فجوة تضع فيها أهم وثائقها الإقليمية.
وقصدت بعد ذلك إلى مبنى المحكمة العليا - وهنا ألاحظ أن القائمين بالحكم في الولايات المتحدة هيئات ثلاث: رئيس الجمهورية ورجاله، والكونجرس بمجلسيه للشيوخ والنواب، ثم المحكمة العليا - وبناء المحكمة العليا حديث أقيم سنة 1935م، وهو من المرمر الأبيض، وقيل إنه صنع من المرمر ليكون رمزا لصفاء القضاء ونقائه، وقد بنيت الدار على النمط اليوناني الروماني في فن العمارة، هذا النمط الذي يسحق نفسك سحقا، أو إن شئت فقل هو النمط الذي يسمو بنفسك سموا بفخامة عمده وبما في أجزاء البناء من تناغم واتساق؛ تصعد إليه بسلم عريض، وتجد عند المدخل تمثالين رائعين، حتى إذا ما دنوت من الباب وجدت عند أعلاه هذه العبارة:
مساواة في العدالة في ظل القانون ...
وادخل معي إلى هذه الصالة الفسيحة وكلها - كسائر البناء - من المرمر الأبيض الناصع؛ وانظر إلى كل شيء أمامك وعلى جانبيك وفوق رأسك؛ انظر إلى صفوف العمد المرمرية الجميلة، وإلى السقف وقد زخرف بمربعات حمراء، كل مربع منقوش نقشا بارزا بزهرة اللوتس، وإلى صفين من ثريات مضاءة ... انظر إلى هذا كله وقل: ما أجل الإنسان وما أعظمه!
وهنا تولانا أحد رجال المحكمة فطاف بنا في أرجائها ... والمحكمة العليا مؤلفة من تسعة قضاة، وهي لا تنظر إلا في القضايا التي يكون فيها احتكام لقواعد الدستور؛ ولذلك لا يأتي إليها جناة ولا شهود وليس فيها محلفون؛ كل ما فيها تسعة قضاة ومحامون.
ودخلنا قاعة المحكمة، هذه القاعة التي تضطرك إلى حبس أنفاسك في صدرك لروعتها التي تأخذ بالألباب! هي قاعة مستطيلة تتدلى على جوانبها كلها ستائر من القطيفة الحمراء السميكة؛ وفرشت أرض القاعة بالقطيفة الحمراء السميكة التي تغوص فيها القدم ، وصفت فيها المقاعد مكسوة بالقطيفة الحمراء؛ جلست هناك ونظرت أمامي إلى ما يشبه مصطبة المسرح، وضع عليها منضدة كبرى، وخلف المنضدة رصت مقاعد تسعة للقضاة التسعة؛ وأول ما تلاحظه فيها هو اختلاف تلك المقاعد شكلا وحجما ... لماذا؟ لأن لكل قاض عند تعيينه أن يجيء بالكرسي الذي يريحه؛ لهذا ترى مقعدا كبيرا وآخر صغيرا، ترى مقعدا عاليا وآخر وطيئا ... وقال لنا محدثنا هناك متفكها إن يابانيا زار واشنطن وعاد إلى بلاده يكتب ملاحظاته في سلسلة من مقالات، فقال عن هذه المقاعد إنهم في الولايات المتحدة يتيحون للأكفاء أن يختاروا كراسيهم، وليست الكراسي عندهم هي التي تختار الرجال؛ والكاتب بالطبع يلعب على كلمة «كراسي» التي تعني «وظائف» كما تعني «مقاعد».
ومقاعد القاعة كلها، والحاجز الذي يفصل المقاعد عن المنصة، صنعت جميعا من الخشب الماهوجني الجميل، والسقف مزخرف بمربعات حمراء برزت فيها نقوش وردية اللون تمثل زهور اللوتس.
وانتقلنا من قاعة المحكمة إلى قاعة المداولات، وهي قائمة صنعت جدرانها الداخلية من خشب لا تشبع من جمال منظره، ووضع في وسطها مربع من مناضد خضراء أحيطت بمقاعد جلدية ضخمة فخمة، وتدلى من سقف القاعة نجفتان بلوريتان كبيرتان جدا، وقد قيل لنا إن هذه الغرفة أصبحت تسمى «غرفة المداولات الدولية»؛ ففيها اجتمع مندوبو الأمم المتحدة لأول مرة حين أرادوا وضع دستور الأمم المتحدة عقب الحرب الماضية.
وذهبت بعد زيارتي للمحكمة العليا إلى الكابتول الذي يجتمع فيه مجلسا الشيوخ والنواب: والكابتول هو سرة واشنطن؛ أي أن المدينة صممت على أن تتلاقى طرقها عند مبنى الكابتول؛ وللكابتول جانبان: أحدهما للشيوخ، والآخر للنواب.
بدأت بزيارة جناح الشيوخ، عليك أن تصعد إليه سلما رخاميا عظيما، أمامه تمثال كبير ل «فرانكلن»، ثم تصعد أول جزء من السلم فترى صورة على الحائط؛ أعني رسما حائطيا، إلا أنه محاط بإطار فخم جميل، وهي تصور موقعة مع الإنجليز ... الجمال والروعة والفخامة والضخامة حولك من كل ناحية، فلا تدري أين تجيل البصر ...
دخلنا قاعة الشيوخ، وجلسنا في مقاعد الزائرين، وهي مغطاة كلها بالحرير الأحمر المزخرف، والمقاعد في شرفة تدور مع الجدران الأربعة، وتطل من حيث أنت إلى أسفل إلى أرض القاعة حيث يجلس الأعضاء؛ والأعضاء يجلسون على مكاتب منفصلة وليست مقاعدهم بالصفوف المتلاصقة المقاعد؛ وعدد الشيوخ ستة وتسعون شيخا، لكل ولاية من الولايات شيخان ينوبان عنها مهما اختلفت الولايات في عدد سكانها، وتنقسم القاعة قسمين بينهما ممشى؛ فالجزء اليمين للجمهوريين، والجزء اليسار للديمقراطيين، وفي المقدمة مقعدان: أحدهما لزعيم الأغلبية والآخر لزعيم الأقلية؛ ويجلس الأعضاء بترتيب أقدميتهم في العضوية، فيجلس الأحدث في الصفوف الخلفية ويجلس الأقدم في الصفوف الأمامية، وكلما قدم العهد بعضو وخلا له مكان أمامي تقدم إليه ... وعلى مقربة من السقف وبامتداد الجدران الأربعة وضع عشرون تمثالا نصفيا لأول عشرين ممن تولوا رئاسة هذا المجلس؛ ورئيس الشيوخ هو دائما نائب رئيس الجمهورية، وفي وسط السقف مصباح مربع الشكل في مسطح واحد مع السقف نفسه، وعليه نقش هو نفسه النقش الذي يمثل الخاتم الرسمي للدولة، فإذا أضيء المصباح ظهرت خطوطه ... وبين الشيوخ امرأة واحدة، وليس فيهم أحد من الزنوج.
قصدنا بعد ذلك إلى مجلس النواب في الجناح الآخر من مبنى الكابتول، وفي طريقنا بين المجلسين مررنا تحت قبة البناء، قبة الكابتول العالية ... قف هنا تحت القبة وانظر، إنني لم أر الدنيا كلها لكني لا أعرف كيف يمكن أن يكون في الدنيا بأسرها بناء يضارع هذا البناء في فخامته المعجزة؟! القبة عالية علوا لا يطوف ببال من لم يقف تحتها؛ جدرانها من الداخل زخرفت بلوحات زيتية كبيرة جدا تمثل سلسلة من مناظر تاريخ الولايات المتحدة: وصول كولمبس إلى الأرض الجديدة، وصول الحجاج المهاجرين لأول مرة من أوروبا إلى أمريكا، الحرب مع الإنجليز واستسلام الإنجليز ... إلخ؛ وكذلك ترى حول حافة القبة السفلى - عند بدء اتصالها بالقاعدة - نقوش بارزة تمثل أيضا مشاهد من تاريخ الولايات المتحدة ... لا يسع الرائي بالطبع سوى أن يتذكر قبة كنيسة القديس بطرس في روما، وقبة كنيسة القديس بولس في لندن، ولا أذكر أن إحدى هاتين تفوق قبة الكابتول فخامة وجمالا.
اجتزنا هذا البهو الذي تغطيه القبة الكبرى، ودخلنا من باب على جانبه تمثالان ضخمان من البرنز : أحدهما لواشنطن والآخر لجفرسن، ودخلنا في بهو آخر تعلوه قبة أخرى، لكنها طبعا أصغر من الأولى ... هذا البهو الدائري قد رص حول دائرته ستة وتسعون تمثالا كلها بالحجم الطبيعي، لكل ولاية من الثمانية والأربعين تمثالان اختارتهما الولاية من عظماء أبنائها؛ ولذلك سمي البهو ببهو التماثيل.
وبعدئذ صعدنا سلما رخاميا إلى حيث مجلس النواب، وكما هي الحال في السلم المؤدي إلى مجلس الشيوخ ترى أمامك وأنت صاعد صورة حائطية كبيرة، إلا أن الصورة هنا تمثل زحف الأمريكيين غربا زحفا ينهزم أمامه الهنود الأصليون من سكان البلاد، فترى في الصورة معركة دائرة على قمم جبال روكي، وهنالك على أعلى قمة منها وقف رائد ينظر إلى وادي كالفورنيا كأنما يبشر قومه بزحف جديد نحو الغرب ...
نحن الآن في قاعة مجلس النواب: قاعة مستطيلة في أعلاها وعلى مدار جدرانها شرفة للزائرين؛ ومقاعد النواب صفوف متلاصقة المقاعد، رصت في أنصاف دوائر، وتنشق نصفين يفصلهما ممشى، الجزء اليمين للجمهوريين واليسار للديمقراطيين؛ ومقعدان أماميان لرئيسي الأغلبية والأقلية؛ والنواب يبلغون - فيما أذكر - 435 نائبا ليس لهم ترتيب في طريقة الجلوس أماما وخلفا، ما دام العضو يجلس في النصف المخصص لحزبه؛ وليس بين الأعضاء إلا محايد واحد، وفيهم إحدى عشرة امرأة؛ وبين النواب زنجيان؛ وعلى مقربة من السقف وعلى طول الجدران الأربعة حفرت في الحوائط تماثيل على شكل الأنواط لكبار المفكرين في تاريخ البشر بصفة عامة ممن أنتجوا شيئا من باب القانون والتشريع ... وفي هذه القاعة يجتمع المجلسان حين يجتمعان معا، وفيها يخطب رئيس الجمهورية حين يلقي خطابه في الكونجرس.
خرجت من الكابتول وأنا في حالة تشبه الذهول من هذه العظمة كلها، ونظرت من الخارج إلى البناء في مجموعه، فرأيت هناك على قمته وعلى رأس القبة الكبرى تمثال امرأة تمثل الحرية، كأنما ارتفعت هكذا في السماء لتتعاقد مع الآلهة ألا يدخر الإنسان جهدا في سبيل حريته.
وعدنا الطريق بعد ذلك إلى حيث مكتبة الكونجرس، وهي مقابلة للكابتول، بنيت في أول القرن التاسع عشر (1803م) ... هي أكبر مكتبة في العالم، هكذا قال دليلنا - ولم يستثن حتى مكتبة المتحف البريطاني بلندن - ففيها عشرة ملايين من الكتب، ولها ملحق جديد خصصوه للأقسام الشرقية، ومنها القسم العربي.
تصعد إليها سلما عريضا إلى حيث مصطبة فسيحة تقوم عليها صفوف مع عمد رفيعة نهضت في واجهة البناء جليلة، ثم تدخل خلال باب من أبوابها الثلاثة الضخمة ... ليتني ادخرت كل ما في جعبتي من ألفاظ التفخيم والتضخيم والجمال والجلال والروعة لأقولها كلها في وصف وقفة تقفها في هذه المكتبة العجيبة! ماذا أقول؟ مهما قلت فلن أعين خيالا على أن يتصور الواقع؛ فلا بد من رؤية العين، وحتى إن رأت العين، فلن ترى إلا جزءا من ألف جزء مما في هذه المكتبة من روعة فنية.
تدخل أول ما تدخل في بهو فسيح، وتنظر إلى سقفه وإلى جدرانه فيذكرك بصالة بنك مصر في القاهرة من حيث الزخرف، وقد وضعت وسط هذه الصالة شجرة عيد ميلاد مضاءة بثريات الكهرباء، فأينما دخلت في واشنطن هذه الأيام ألفيت شجرة عيد الميلاد مزدانة مضيئة.
أصعد السلم الرخامي الجميل إلى بهو فيه معروضات في صناديق مغطاة بالزجاج، أهم ما فيها وأول ما تراه منها نسخة من إنجيل مطبوع، هي أول طبعة للإنجيل (سنة 1455م)، ويقابلها في صندوق آخر نسخة خطية مكتوبة في نحو الزمن نفسه، لكن الكتابة الخطية على صورة الطباعة حتى ليفوتك أنها مخطوطة إذا لم ينبئوك بهذا؛ وعمد هذا البهو تذكرك بقصر فرساي في جانب منه، ومن هذا البهو تدخل إلى شرفة دائرية تطل منها على حجرة المطالعة، وهي قاعة تعلوها قبة كبيرة وها هنا الوقفة التي لا يكفيها كل ما في لغات الأرض من ألفاظ تصف الجمال والجلال ...
اللهم إني آمنت بأن عظمة الأمم في عظمة فنونها؛ إن أمريكا بلاد جديدة ليس فيها ما في أوروبا من قصور وكاتدرائيات، لكن الأمريكيين بجديدهم الذي أقاموه وشيدوه قد أقاموا الدليل على أنهم - إلى جانب تفوقهم العلمي - في طليعة الطليعة من حيث فن العمارة في مختلف أشكاله.
الأربعاء 23 ديسمبر
كانت غايتي صباح اليوم أن أزور «متحف كور كوران للفن»، وهو معرض للفنانين الأمريكيين بصفة خاصة، بالإضافة إلى آثار كثيرين من رجال الفن في أوروبا ... ليس البناء ملفتا للنظر بفخامة أو جمال، وهو يقع خلف البيت الأبيض، به طابقان، خصص أولهما لرجال الفن في واشنطن نفسها؛ فهو معرض محلي صرف، يعرض في كل عام حصيلة الفن في منطقة واشنطن؛ وأما الطابق الثاني فهو معرض عام.
طفت بالطابق الأول مسرعا بعض الشيء؛ لأن نظرة سريعة تدلك على أن الفنانين جميعا بغير استثناء يرسمون لوحاتهم في جو المدرسة الحديثة، التي تراعي البناء اللوني في الصورة أكثر من أي شيء آخر.
ثم صعدت الطابق الأعلى، ولم أكد أفرغ من قاعة عرض فيها لوحات مستعارة من الفن الأوروبي، حتى تبينت أن الساعة قد جاوزت الحادية عشرة، فلا بد أن أسرع بالذهاب إلى الدكتورة «ز» حسب الموعد، ثم أعود إلى المعرض بعد المقابلة لأدرس محتواه على مهل.
قابلت «ز» ... ما أسرع ما تصبح المرأة العجوز شابة والمرأة الشابة عجوزا! إن الإنسان في هيئته يتغير ألف مرة في العام الواحد ... لقد كنت رأيت «ز» منذ ثلاثة أشهر فرأيتها إذ ذاك امرأة متقدمة في السن حتى لتكاد أن تخرج من عداد النساء؛ لكني رأيتها اليوم فدهشت للشباب الذي دب فيها، ولا أعلم إن كنت مصيبا في نظري إليها هذه المرة أو تلك ... كانت اليوم مرحة بدرجة ملحوظة؛ وأعتقد أن الوجه في حالة المرح يزيل عن ملامحه كثيرا جدا من آثار السنين، وفي حالة العبوس يضيف إلى السن سنا أخرى.
وعدت إلى معرض كور كوران لأستأنف دراستي على مهل؛ رأيت غرفة بأسرها تعرض صور الفنان الفرنسي «كورو»، وصوره كلها ذات طابع واحد، حتى ليخيل إلي الآن أني أميز صوره لو رأيتها؛ فالصورة عنده كتلة متداخلة الأجزاء من شجر لا تميز فيه فروعا ولا أوراقا، واللون الأخضر فيها دائما يميل نحو ظل خفيف من الاصفرار، ثم يغلب أن يضع شخوصا إنسانية صغيرة الحجم في وسط الصورة، ومن هذه الشخوص يتخذ اسم صورته، كصورة «ركوب القارب» وصورة «التهامس بالسر» وصورة «رقص الحور» ... وله بين الصور صورة تختلف عن البقية تصميما وإن لم تختلف عنها روحا، هي صورة «الغجرية تعزف على الماندولين».
لم أكد أنتقل مسرعا بعد ذلك من سائر الغرف التي عرض فيها الفن الأوروبي إلى اللوحات الأمريكية حتى أحسست بالنقلة المفاجئة من جو إلى جو؛ فها هنا - في أول غرفة دخلتها من غرف الفن الأمريكي - مجموعة من الصور معظمها مضيء باللون الفضي اللامع، وقد كان اللون السائد في اللوحات الأوروبية أميل إلى القتام.
على أن الفن الأمريكي ليس كله متشابها؛ لأنني أرى من فنانيهم كل مدرسة وكل مذهب، كأنما يساير الفن الأمريكي الفن الأوروبي خطوة في إثر خطوة؛ فالفن الأمريكي في القرن التاسع عشر يتجه اتجاهات الفن الأوروبي إذ ذاك: فرسم لأشخاص في النصف الأول من القرن، وتدرج بعد ذلك إلى رسم المناظر الطبيعية في النصف الثاني ... خذ مثلا صورة «أمازون وطفلاها» للفنان «لويتزة» (1816-1868م)، وصورة «الشاطئ عند باترسي» للفنان «وسلر» (1834-1903م)، وصورة «السيدة والكلب» للفنانة «كاسات»، وغيرها وغيرها ... لماذا لا تكون هذه أو تلك لفنان أوروبي؟
لست أرى حدودا قومية تفصل الفن الأمريكي وتميزه من سواه، يتأثر بنفس المؤثرات التي تؤثر في الفن الأوروبي، فتجد من رجال الفن الأمريكي في القرن التاسع عشر فريق الواقعيين وفريق الانطباعيين وفريق العاطفيين ... ولماذا نتوقع شيئا غير هذا ما دامت الأمة الأمريكية نفسها خليطا من أوروبيين؟ إنني لا أرى الأمة الأمريكية قد أحست بعد «بأمريكيتها» إحساسا قويا، فما بالك بإحساسهم في القرن التاسع عشر؟ إنني حتى اليوم أسمع الناس ينسبون أنفسهم إلى أصولهم الأوروبية في أول حديث لهم معك؛ كنت بالأمس مع السيدة «د» فكان أول ما قالته لي عند نفسها إنها أيرلندية.
ومن أكثر الصور التي وقفت عندها وقفة الإعجاب الشديد، صورة ل «إنس» واسمها «الخريف في مونتكلير» وصورة ل «ونزلو هومر» واسمها «ضياء على البحر»؛ ففي هذه الصورة ترى امرأة وقفت وحدها في إجلال على شاطئ البحر ويملأ جسم المرأة حيزا كبيرا من الصورة، حتى لترى البحر وراءها وكأنه «أرضية» فقط لإبراز شخصها، كأنما يريد الفنان أن يضع الإنسان بجماله وقوة إرادته وجلال شخصه إلى جانب الطبيعة بموجها وصخرها؛ لتكون الغلبة للإنسان! فمن ذا ينظر إلى هذه الصورة ويقول إن البحر أقوى أو إن صخور الشاطئ أصلب؟ ... إنه الإنسان صاحب القوة والسطوة والجمال.
وتنظر بعد ذلك إلى الفن الأمريكي في القرن العشرين، فتنتقل نقلة واضحة لا تخطئها عين الأعمى، وأنا أعد نفسي من عميان النقد الفني ولا ريب ... فهنا يغلب على الصورة أن تكون «صورة» لا «تصويرا»؛ إذ إن الألوان هنا لا تستخدم لتقلد الطبيعة في أزهارها وحقولها وغروب الشمس وشروقها، بل تستخدم لإحداث التناغم اللوني من ناحية، والتعبير عن مزاج الفنان من ناحية أخرى ... كيف كان يمكن أن نقول عن فنان يرسم صورة لرجل من الأغنياء والنبلاء ليتقاضى أجر رسمه إنه كان يعبر عن مزاجه في فنه؟ إن الفنان لم يكن يعبر عن شيء كثير من نفسه الخاصة اللهم إلا قدرته على التصوير، كأنه آلة كاميرا ... لكن ما هكذا الفنان في عصرنا الحاضر، الذي يمزج الألوان ليعبر عن مزاجه هو دون أي شيء آخر، مهما يكن محتاجا إلى مال: إنه يمزج الألوان بنفس الروح التي يلعب بها الطفل برمال الشاطئ.
فهذا مثلا «إفر جد» (1901م-...) في صورته «الجانب المشمس من الطريق» التي ترى فيها شارعا وفيه بضعة زنوج، وترى امرأة بيضاء واحدة وقفت على سلم دارها، ثم ترى تخطيطا كثيرا بالطباشير الأبيض على الأرض، وتبحث في الصورة عن «الجانب المشمس» فلا تراه؛ إذ لا شمس هناك ولا ظل، لكن أثر هذا الطباشير الأبيض، ووجود الفتاة البيضاء في ركن الصورة، يوحي إلى الرائي بهذا المعنى؛ معنى الضوء مجاورا للظلام؛ فمن ذا أراد الفنان أن يرضيه بصورته هذه؟ لا أحد، إنما أراد أن يمزج اللون ويبني أجزاء الصورة على نحو يسره هو ويمتعه قبل أن يسر ويمتع أحدا سواه.
ومن أعجب الصور التي رأيتها صورة ل «جيميسن» (1912م-...) اسمها «الأسرة»، رسمها على هيئة خليط متداخل من جلود الثعابين، لا تتبين فيها شيئا بذاته أبدا، حتى إذا ما بعدت عنها تبين لك في خفوت واختلاط صورة رجل نام على جنبه متكئا على ذراعه وهو عاري الجسد، وامرأة نامت في نفس الوضع تقريبا من الناحية المضادة، بحيث يكون رأس كل منهما في طرف من طرفي الصورة يمينا وشمالا، وعند تلاقي جسديهما في الجزء الأوسط صورة طفل.
وحملت في ذهني هذه الصورة، حتى انتقلت إلى غرفة أخرى ورأيت صورة أخرى لفنان آخر هو «مانجرافيت» (1896م-...) واسمها أيضا «أسرة» فيها سيدة شابة وعلى حجرها قطة وأمامها طفلتها، وظهر في جانب الصورة كتف الزوج من جانبه الخلفي ... فأي الفنانين يا ترى أعمق نظرا في حقيقة الأسرة؟ أهو «جيميسن» الذي رآها اتصالا عاريا بين رجل وامرأة ينتج طفلا؟ أم هو «مانجرافيت» الذي رآها «مجتمعا» صغيرا أساسه الإلف والحب والعشرة التي جمعت الإنسان بالإنسان، بل جمعت الحيوان (القطة) بالإنسان؟ وطبعا ظاهر في صورة «مانجرافيت» أنه يرى المرأة في الأسرة أعظم مكانة من الرجل؛ فليس للرجل في الصورة إلا كتفه ظهرت من خلفها.
حسبي هذا من زيارتي لمعرض كور كوران، غير أني أحب أن أذكر ذكرا عابرا ثلاث صور يستحيل علي ألا أذكرها لعمق أثرها في نفسي: صورة ل «جاربر» (1880م-...) اسمها «الغرفة الجنوبية» فيها ركن من غرفة، ونافذة دخلت منها أشعة الشمس، وشاب يجلس على كرسي، وفتاة وقفت تقرأ خطابا ... والله إني لأوشك أن أقول إن هذه الصورة هي أجمل ما رأيت في الوجود بكافة ما فيه من طبيعة وفن؛ وصورة ل «بيرشتاد» (1830-1902م) عنوانها «نهاية ثور» فيها قتال بين فارس وثور؛ ثم صورة ثالثة ل «ماير» (1827-1899م) واسمها «الفراغ والعمل» فيها سيد ثري اتكأ بكتفه في استرخاء وكبرياء على جانب باب الإسطبل، وإلى جانبه كلبه، وعامل يجثو ليضع حدوة لجواده.
الخلاصة التي أحب أن أوجز بها رأيي المتواضع، هي أن الفن الأمريكي يسير جنبا إلى جنب مع مدارس الفن في أوروبا، وأكاد أقول إنه يساير الفن الفرنسي أكثر من مسايرته للفن الإنجليزي؛ ولست أدري على وجه الدقة بماذا نجيب إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال: كيف يعبر الفن عن الحياة الاجتماعية في الوقت الحاضر؟ سوى أن نقول بصفة عامة إن تحرر الأفراد وزيادة استقلالهم الفردي في الحياة الجديدة، وعدم تبعية الفقير للغني على نحو ما كان تابعا له فيما مضى، كل ذلك يظهر أثره في الفن الحديث على صورتين: فأولا أصبح الفنان لا يرعى إلا مزاجه الشخصي حين يمزج الألوان بعضها ببعض، وحين يختار موضوعه، فلا عبرة عنده لغني أو أمير؛ وثانيا أصبح صميم الحياة الشعبية مصدرا لكثير جدا من موضوعات الفن، ومن أوضح الأمثلة على ذلك: صورة «بعد الغداء» بريشة «موريس ستيرن»، وصورة «اثنان وأربعون طفلا» بريشة «بلوز»، وصورة «غرفة الانتظار في محطة السكة الحديدية» للفنان «سوبر» ... وبعبارة واحدة مختصرة أقول: إن الفن الأمريكي - مع الفن الأوروبي - يسير نحو التعبير الذاتي والبعد عن الموضوعية، والنقل عن الطبيعة الخارجية.
الخميس 24 ديسمبر
السماء أصفى من البلور، والشمس ناصعة الضياء، والبرد ألواح من الثلج تسد عليك الفضاء الشفاف ...
جلست ساعة الضحى في بهو الفندق أقرأ، فقرأت تعليقا على كتاب للأطفال عنوانه «الريح في الصفصاف» ومؤلفه «كنث جراهام» سكرتير بنك إنجلترا، وفي هذا التعليق نقف من مقدمة المؤلف لكتابه، وهي مقدمة تحتوي على لمحات عجيبة، ولفتات تدعو إلى الإعجاب من حيث تحليلها لوجهة نظر الأطفال إلى آبائهم وأولي أمرهم من الكبار؛ فهؤلاء الكبار هم في نظر الأطفال مصابون بالجنون والعته، تعوزهم أبسط قواعد المنطق السليم، والأطفال يتعجبون إذ يرون مقاليد الأمور قد ألقيت في أيدي هؤلاء الكبار المرضى بفقر الدم، البطاء في حركتهم ونشاطهم، المغلولين إلى مقاعدهم، السجناء في بيوتهم، الذين استبدت بهم عاداتهم التي يكررونها في غفلة تكرارا مطردا ممولا، ولطالما يعجب الأطفال بأي عقل في الدنيا يفضل الكبار جلوسهم في منازلهم مع أن أمامهم متع الحياة وملاذها، كتسلق الأشجار والخوض في برك الماء؟ وإذا كانوا قد فقدوا صوابهم فيما يختص بأنفسهم، فليتركوا الأطفال وشأنهم يغوصون في هذه المتع والملاذ.
يقول الكاتب إن دنيا الحيوان أقرب إلى فهم الطفل من هؤلاء الكبار؛ فالطفل يرى في تصرف الفأر مثلا سلوكا أكثر قبولا عند العقل السليم من تصرف أبيه وأمه؛ ولذلك يمتعه أن يرقب الحيوان وأن يحاكيه، ولا يمتعه أن يرقب والديه وأصدقاءهما من الكبار.
ويجعل الكاتب في هذا الكتاب شخصيتين تدور حولهما الحوادث والأحاديث هما: «السيد الفأر» و«السيد الضفدع»، وهو يعتقد أن هذين الحيوانين من أحكم مخلوقات الله تصرفا في حياتهما؛ فهما كالإنسان قبل سقوطه من الجنة، لا تفلت منهما فرصة للتمتع بالحياة إلا انتهزاها.
ومدار شخصية الطفل - وكذلك الفأر - أن يجمع بين المغامرة والمأوى الآمن، كالذي يحب أن يجول في الغابة المجهولة الثنايا، على شرط أن يظل قادرا على العودة إلى الطريق المؤدية إلى منزله، وكذلك الفأر يحب لنفسه المأوى الآمن في جحره، فيخرج إلى مغامراته ثم يعود.
قرأت ذلك كله، وأعجبني فيه صدق التحليل، وعجبت بدوري لماذا يلقى بزمام الأطفال في أيدي الكبار؟ للأطفال طبائع غير طبائع الكبار؛ وليس من العدل أن تسحق طبيعة أخرى.
الجمعة 25 ديسمبر
اليوم عيد الميلاد ...
جلست في بهو الفندق أقرأ جرائد الصباح على مهل؛ فالمدينة خالية الشوارع، ولا خروج أثناء النهار؛ وبعد قراءة الصحف جلست أتفرس الوجوه وأقرأ أفكار الناس وعواطفهم من ظواهرهم.
الظاهر أني أب بالطبع؛ فإني لا أتأثر لشيء أقرؤه بمقدار ما أتأثر إلى درجة تقرب من البكاء إذا ما قرأت عن طفل أصيب، خصوصا إذا وقعت الإصابة في ظروف غريبة؛ فقد قرأت اليوم عن صبي في الثانية عشرة من عمره، كان أمس يساعد جدته في ترتيب شجرة عيد الميلاد بما يوضع في ثنايا فروعها من هدايا، وكانت أمه في جولة شرائية ... وبعد أن فرغ الصبي من ذلك، ذهب مع زميل له إلى شاطئ النهر حيث أشجار الصنوبر، فأراد أن يقطع من إحدى الشجرات فرعا يأخذه إلى المنزل ليجعل منه شجرة ميلاد أخرى، واقتضاه ذلك أن يصعد على حاجز حجري على حافة النهر، وكان الحاجز مغطى بالنبات الزلق، فانزلق الصبي إلى الماء المثلوج إلى غير عودة ... عادت جدته وأمه إلى البيت تحملان جثة الفقيد في وقفة العيد، ونظرتا إلى هداياه الموضوعة تحت شجرة عيد الميلاد، فلما تصورت هذه الهدايا هناك تنتظر إلى الأبد من لم تمتد له يد بعد الآن لأخذها، دمعت عيناي.
وقرأت مقالا غاية في الجودة وسمو العاطفة لكاتبة اسمها «دكي تشابل» معظمه عن أهل الشرق الأوسط والهند وما هم فيه من فقر فظيع، ورغم أني حساس جدا لما أقرؤه عن الشرق الأوسط، إلا أنني لم أشعر للكاتبة إلا بالتقدير والإعجاب؛ لأنها شحنت أسطرها بالعطف والعاطفة والدراية والفهم، فكان من بين ما قالته إن فكرة الجمال النسوي تختلف باختلاف وفرة الطعام؛ فحسان هوليوود نحيفات لدرجة المرض؛ لأن الأمريكيات يحيط بهن الطعام الموفور، وجمال المرأة هو في أن تمتنع؛ وأما نجوم السينما في أوروبا الجائعة - هكذا قالت - فتراهن مليئات الأجسام بدرجة يمجها الذوق الأمريكي؛ وذلك لأن الطعام قليل هناك، فلا يتصور الناس كيف يمكن لإنسان في هذه القلة أن يمتنع عن طعام ... وقل ذلك أيضا في الشرق وأهله، فالجميلة هي البدينة، والناس هناك لا يكادون يفهمونك إذا قلت لهم إني أقلل من السمن؛ فهذا كلام غير مفهوم في بلاد كل الأمل عند أهلها هو أن يجدوا الطعام.
وأحسن ما في هذا المقال - بل هو صلب المقال من أوله إلى آخره - هو أن الكاتبة تبذل جهدها في إقناع بني قومها أن الفقر هو القاعدة الغالبة في بلاد العالم أجمع، وأن ثراء الأمريكيين هو الشذوذ وهو معجزة التاريخ، فليس في الأمر ما يبعث على التقزز إذا علمت أن الناس يسكنون بيوتا من طين، فهكذا الدنيا بأسرها، وليس في الأمر ما يبعث على التقزز إذا علمت أن الناس مرضى؛ لأن القاعدة السائدة في معظم بلاد العالم هو ألا طبيب ولا دواء، وليس في الأمر ما يدعو إلى التقزز إذا علمت أن الناس معظمهم جياع؛ لأن القاعدة الغالبة في أرجاء العالم كله هي أن يأكل الناس الطعام الذي ينتجونه بأيديهم، فإذا حدث بسبب الظروف الجوية أن شح الطعام وقل كان الجوع نتيجة حتمية؛ ليس الناس في سائر أنحاء الأرض كالأمريكيين يشترون طعامهم من الدكاكين، وليس هناك في سائر أنحاء العالم هذه المشكلة اليومية التي تصادف الأمريكي كل صباح: ماذا نأكل اليوم؟ ففي أمريكا من الكثرة ما يجعل أمام الناس مجالا للاختيار.
لم يسعني هنا سوى أن أتذكر فلاحنا المصري وطعامه؛ إنه لا يفكر ماذا يأكل في الغداء؛ لأن طعامه في الغداء معروف.
الفصل الثالث
في نيويورك
السبت 26 ديسمبر
غادرت واشنطن بالقطار إلى نيويورك فبلغتها بعد أربع ساعات وربع ساعة ... الانتقال من كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية إلى واشنطن، ثم من واشنطن إلى نيويورك، كالانتقال من منزل إلى مكتب، ثم من مكتب إلى دكان ... نيويورك بمثابة دكان كبير زاخر بالمعروضات، نشيط بما فيه من حركة بيع وشراء، تحب أن تستعرض أجزاءه، لكنك لا تحب أن تقضي الليل فيه ... نيويورك مدينة فريدة في نوعها بما فيها من ناطحات السحاب، إنها مدينة لا تكاد عينك تقع فيها على شيء قديم، كأنها شيدت منذ أعوام قلائل ولم يمض عليها في الحياة إلا زمن قصير؛ لهذا لا تحس فيها بجلال التاريخ ... تتحرك فيها من شارع إلى شارع فيكون انتقالك من مكان إلى مكان، لكنك لا تنتقل من زمن إلى زمن، كما تفعل لو انتقلت في القاهرة - مثلا - من مصر القديمة إلى مصر الجديدة أو من الحي الحسيني إلى الزمالك.
الشوارع في نيويورك بين هذه الناطحات تبدو ضيقة، أو لست أدري لماذا تضيق الصدر ولا تشرحه؛ فالأرجح أن يشعر الإنسان - وهو سائر بين هذه العمالقة المعمارية - بأنه تافه ضئيل بدل أن يحس أنه عظيم جبار أقام هذه العمائر العالية ... لا عجب أن يكون هذا هو الشعور الدفين في نفس الأمريكي الفرد؛ فهو على اعتزازه بفرديته وشخصيته يخشى على نفسه أن يهصر ويعصر ويطحن ويكسر أمام جبروت الأعمال الكبيرة والمباني الكبيرة ... ذلك ظاهر من فرحة الناس التي لا تنقطع برؤية الأفلام السينمائية الكاريكاتورية الرمزية التي تجعل الفأر الضئيل في خطر من القط الكبير المفترس، لكن الفأر ينجو بنفسه دائما! فرحة الناس بهذا المعنى - وهو مكرر في آلاف الأفلام - تعكس ما هو دفين في نفوسهم من الخوف أن يفتك الجبار بالتافه، مهما يكن نوع الجبروت ونوع التفاهة ... والجبروت في نيويورك هو جبروت الناطحات، والتافه هو الفرد يمشي في الشوارع بين هذه الشوامخ.
العمارة في نيويورك رائدها المنفعة لا الجمال، ولو أن المنفعة والجمال قد تلاقيا فليس في ظاهر البناء زخرف ولا نقش ولا بروز ولا انحناء، إنما هي خطوط مستقيمة عالية تضم بينها ثقوبا هي النوافذ، كل نافذة منها في غرفة ... قارن ناطحة السحاب في عصرنا بالكاتدرائية في القرون الوسطى تدرك ما أعنيه بقولي إن الغرض المقصود من عمارة الناطحات هو المنفعة، على حين كان الغرض المقصود من فن العمارة فيما مضى هو الجمال.
الأحد 27 ديسمبر
جعلت اليوم مقصورا على زيارة متحف الفن الحديث ... وهو بناء أقيم هو نفسه على أساس من فن البناء الحديث! فتراه بسيطا غاية البساطة: الجدران والسقوف كلها بيضاء ساذجة البياض، فلا زخرفة ولا نقش، والغرف يفتح بعضها على بعض من غير أبواب خشبية، والأرض بلاط منقوط بغير غطاء، والمقاعد كنبات بسيطة في أواسط الغرف.
طلعت بالمصعد إلى الدور الثالث لأبدأ من أعلى فنازلا، فوجدت جزءا كبيرا من الطابق الأعلى مخصصا لفنان واحد هو «ليجيه»، وهو فنان حديث، تواريخ صوره تقع في الثلث الأول من هذا القرن على نحو التقريب، وله طريقة في الرسم واحدة متميزة متكررة في كل صوره على كثرتها، ولا تراها عند فنان سواه، وهي أن يرسم الصورة في خطوط وأقواس يملؤها ببقع من اللون، ويصل الأجزاء بعضها ببعض على نحو يجعل الصورة في النهاية - إن كانت صورة إنسان مثلا - تبدو كأنها إنسان آلي، لكن الصورة مع ذلك تكون تركيبة لونية تستوقف النظر، تنظر إليها فتتمنى - مثلا - أن تكون لك سجادة بهذا التلوين وهذا التكوين.
أقول هذا لأن هذه الفكرة طافت بذهني وأنا أتفرج على رسوم «ليجيه » وهي: لماذا يضحك الناس من هذا الفن الحديث مع أنهم أدخلوه في أذواقهم مرغمين أو مختارين؟ أدخلوه في أذواقهم على نطاق أوسع جدا مما يظنون ... انظر إلى السجاد الذي نسميه في مصر بالسجاد الإفرنجي، ما رسومه؟ أليست تكعيبات وأشكالا لا غاية منها سوى أن تتناغم ألوانها؟ ثم انظر إلى كثير جدا من الإعلانات؛ أعني الإعلانات الجيدة الرسم الملفتة للنظر، أليست قائمة في معظم الحالات على أسس الفن الحديث من أن المصور يهمل التفصيلات ويعنى بوقع الرسم على عين الرائي وفكره ونفسه؟ ثم انظر إلى كثير جدا من الأثاث، كيف يتخذ أحيانا أشكال الدوائر والخطوط على نحو هو بذاته اتجاه الفن الحديث، وانظر إلى ملابس السيدات وكيف تكون زخرفتها في حالات كثيرة على أساس من ذوق الفنان الحديث وهكذا وهكذا ... روح الفن الحديث قد تغلغلت في صميم حياتنا، ومع ذلك أسمع الناس من حولي في هذا المتحف، فلا أسمع إلا السخرية من الاتجاهات الحديثة، كأنها ليست في ثيابهم وفي أثاثهم وفي بنائهم وفي زخارفهم على اختلافها.
وسأذكر من صور «ليجيه» ثلاثا، ولو أنها ليست أحسن من سائر صوره، فكلها كما قلت روح واحدة ... له صورة كبيرة اسمها «لاعبو الورق»، وأخرى اسمها «الزفاف»، وثالثة «ثلاث سيدات ساعة الإفطار» ... ولو سألنا: لماذا يركب «ليجيه» أجزاء الصورة على هذا النحو الآلي؛ لما أخطأنا الجواب إن قلنا: لأنه يصور المدنية الآلية التي نعيش فيها.
نزلت من الطابق الأعلى إلى الطابق الأوسط على سلم رخامي أسود جميل بغير زخرفة ولا زركشة، ووقفت وسط السلم لأنظر إلى صورة لبيكاسو علقت هناك، هي «فتاة أمام المرآة» ... بالطبع لا تنتظر أن ترى فتاة واضحة الأجزاء والمعالم أمام مرآة واضحة الشكل والحدود، بل لا تنتظر أن ترى الصورة في المرآة شبيهة كل الشبه بالفتاة، وإلا لما كان بيكاسو من رواد الفن الحديث، إنما هي بناء لوني قائم على شكل تقريبي لفتاة مكررة مرتين بمزيجين مختلفين من اللون، بحيث يكون في النهاية نغم لوني، وهذا هو أساس الفن الحديث كله.
دخلت الطابق الأوسط فوجدته زاخرا بصور الفن الحديث على اختلاف مدارسه؛ كنت اليوم نهما جشعا، فكدت أدرس كل صورة بقدر ما وهبني الله من قدرة على الدراسة؛ وعلى كل حال فالمهم في استعراض الآيات الفنية هو أن أنظر إلى القطعة الفنية لأحس نشوة قوية أو ضعيفة، فليس المهم في التمتع بالفنون أن يتفلسف الرائي أو المستمع ... أقول إني كنت نهما جشعا، فقضيت في هذا الطابق من البناء أربع ساعات كاملة ... دخلت أول غرفة على يميني، فكانت أول صورة هي «مراكب الصيد» ل «سيورا» الفنان الفرنسي؛ هي فاتحة في لونها هادئة في نغمها، إنها ليست ملونة بالفرجون، بل هي نقط تتزاحم أو تتباعد لتعطي اللون المطلوب، ومن ثم تسمى هذه المدرسة بمدرسة الفن المنقوط، فإذا لاحظنا أن «الصناعة» جزء أساسي في تقدير القطعة الفنية، وأن الصناعة في هذه الصورة قد بلغت الغاية في الإتقان؛ عرفنا ارتفاع قدر هذه الصورة، و«سيورا» من الانطباعيين الذين يتركون حدود الأشياء في رسومهم مبهمة؛ لأن أثر المرئي في الذهن يستحيل أن يكون إلا مبهما هكذا.
وانتقلت إلى الصورة التي بعدها؛ ولا داعي لقراءة اسم صاحبها، فقد بلغت الآن من المعرفة ما يدلني على أنه «فان جوخ» الهولاندي الذي أصبحت الآن لا أخطئ له صورة؛ فأنا أعرفه على الأقل بألوانه التي تميل إلى الاصفرار دائما، مهما يكن موضوعه ... وانتقلت إلى الصورة التي بعدها، وهي لفنان بلجيكي اسمه «إنسور» لم أكن قد رأيت له صورا قبل ذلك، الصورة تمثل بضعة أشخاص على هيئة الأمساخ؛ فالوجوه بشعة أقرب إلى وجوه الحيوان، لكن لا، فوجوه الحيوان لها جمالها: وجه الحصان مثلا ووجه الكلب ووجه القط، هذه وجوه جميلة، أما الوجوه التي في الصورة فأمساخ مرذولة، واللون الغالب على الصورة هو الأحمر الناري ... ما هذا؟ هؤلاء ناس لا كالناس الذين تراهم في الطريق، بل هم الناس كما يراهم هذا الفنان؛ فالإنسانية في رأيه هي بهذه البشاعة، واللون الناري يتركك في جو يوحي إليك بالجحيم، وما الجحيم إلا هذه الحياة التي هؤلاء الناس هم أحياؤها ... إذا كنا نبيح لكاتب مثل «جوناثان سوفت» أن يصور الإنسانية في صورة بشعة (في كتابه رحلات جلفر) شاءتها له كراهيته للبشر ، فلماذا لا يكون للمصور هذا الحق نفسه؟ ليس الفنان آلة تصوير، لكنه فنان يتأثر ويعطيك الأثر.
وتتلوها صورة لرجل من أتباع مدرسة بيكاسو هو «جوجان»، في الصورة ثلاثة صفوف من أشياء؛ ففي الجزء الأعلى ثلاث قطط، كل قطة تشرب اللبن من وعاء أمامها، وفي الجزء الأوسط ثلاث كئوس، وفي الجزء الأسفل ثلاث مجموعات من الفاكهة ... وقد يسأل من لم يألف الفن الحديث: ما هذا الكشكول العجيب؟ قطط وكئوس وفاكهة في صورة واحدة؟! والجواب هو أن الصورة فيها من هذه الأجزاء زخرف جميل، وقد يعود السائل فيعترض قائلا: لكن ما هكذا تكون القطط في الواقع ولا الكئوس ولا الفاكهة! فلماذا يرسم المصور هذه الأشياء على غير حقائقها الواقعة؟ والجواب دائما هو: ليس الفنان آلة تصوير تحاكي الواقع في أمانة، بل مهمته أن يقدم للعين نغما لونيا كما يقدم الموسيقي للأذن نغما صوتيا.
وأول نظرة للصورة التي بعدها كانت كافية لأقول من فوري هذا «سيزان»: مجموعة من الفاكهة، سيزان لا يرسم التفاحة - مثلا - لكي يقلد برسمه تفاحة الطبيعة، بل يرسم التفاحة ليجعلها مدارا لبنائه اللوني، المهم عنده - كأي فنان حديث - إبراز خصائص اللون.
وانتقلت إلى غرفة أخرى، فكانت أول صورة من رسم «إنسور» الذي تحدثت عن «أمساخه البشرية» منذ قليل؛ هذه الصورة الثانية اسمها «القديس أنطوان» هي غاية في الجمال، وترى سماءها مليئة بالبقع اللونية، فإذا ما أمعنت النظر في هذه البقع وجدتها شخوصا مختلفات، والعجيب هو أن الفنان يستعمل في هذه الصورة أيضا اللون الأحمر، وهو نفس اللون الذي استعمله في رسمه للأمساخ البشرية، ترى هل يقصد إلى القول بأن مادة الشر هي نفسها مادة الخير، والذي يجعل الخير خيرا والشر شرا ليس هو اختلاف العنصر بقدر ما هو اختلاف النسبة؟ فالطعام خير لكنه كذلك قد يكون شرا، والمرأة والشراب ... حتى القراءة قد تنقلب شرا إذا ملأت رأس القارئ بالضلال ... لا أدري إن كان تفسيري هذا مقبولا، لكني أسارع فأسأل: مقبول ممن؟ إن في ميدان التأويلات الفنية لمتسعا للجميع.
وهاتان صورتان ، كل منهما صورة نافذة تطل على الخارج، إحداهما من رسم «ماتيس» والأخرى من رسم «دران» وكلاهما من رجال الفن الحديث ...
وانتقلت إلى الغرفة التي تليها، فبدل أن أنظر إلى الصور بترتيبها على الحائط، جذبتني صورة هناك في الوسط، فذهبت نحوها فورا: فيها ثلاثة شخوص، رسموا بجرات غليظة من الفرجون، وهي للفنان «روولت» واسمها القضاة الثلاثة، ومرة أخرى أقول إن من لم يعطف بعد على الفن الحديث سيسخر من هذه الشخوص التي ظهرت أمامه في الصورة، وسيسأل قائلا: هل هذه صور لرجال؟ والجواب هو ما أجاب به «ماتيس» على المرأة التي سألته مرة عن إحدى صوره: هل هذه امرأة؟ فقال: يا سيدتي، هذه صورة وليست بامرأة ... انظر إلى هؤلاء القضاة الثلاثة وسل نفسك أي شعور يدور في نفسك؟ هل من شك في أنك إذ تنظر إلى بشاعة هذه الوجوه تحس بصداها في دخيلة نفسك شعورا بالتقزز والنفور؟ وإذا فلا بد أن يكون الفنان لأمر ما قد استبشع العدالة في هذه الدنيا، فاستفز الناظر إلى الصورة وحفزه إلى مشاركته هذا المقت وهذا النفور مما يسمونه على هذه الأرض عدالة وقضاة، ولكي يزيد الفنان من كآبة الأثر الذي تتركه الصورة في نفس رائيها؛ أحاط شخوص القضاة بخط من اللون الأسود الحالك.
وعدت إلى «بيكاسو» من جديد: غرفتان أو ثلاثة مليئة بمختلف الصور من رسم «بيكاسو» ... كم صورة رسمها بيكاسو؟ كم مائة، بل كم ألف صورة رسمها بيكاسو؟! في كل متحف صور لهذا الفنان؛ ولهذا طاف بذهني هذا الخاطر وهو: هل يستطيع الشخص العادي من الناس - هل أستطع أنا مثلا أن أخلق أكثر من عشرين أو ثلاثين شكلا دون أن أكرر نفسي؟ إذا فجانب هام من نبوغ هؤلاء الناس هو هذه الخصوبة في الخيال ... انظر كم خليطا لونيا خلقه بيكاسو، وكل خليط منها جميل! وإذا أنا أثبت هنا كل ما دار في نفسي من خواطر حين استعرضت صور بيكاسو؛ لاستطرد الحديث، فيكفي أن أسجل اسمين أو ثلاثة لتذكرني بما وقع مني موقع الإعجاب الشديد من صور هذا الفنان: «الموسيقيون الثلاثة»، و«صيد السمك في ضوء القمر»، و«آنسات أفنيون».
وهنالك بضع صور لفنان روسي هو «تشاجال» لها طابعها المميز عن الصور جميعا؛ هو رسام يحلم على لوحته! انظر إلى هذه الصورة التي يسميها «عيد الميلاد» وفيها امرأة ممسكة بطاقة من الزهر، وراحت تجري في غرفتها في سبيل إعداد العدة لحفلة المساء، وصورة زوجها معلقة في الهواء من خلفها، بادئة من التقاء الشفاه، أعني أن شفتي الزوج على شفتي زوجته، ثم امتد جسمه طائرا في الهواء وراءها كأنه «تلفيعة» تلفعت بها فطارت في الهواء وراءها وهي مسرعة في السير! أيكون معنى الصورة أن الزوجة تحمل معها قبلة زوجها أينما سارت؟ إن الرجل أحيانا يقبل امرأة ويظل طعم القبلة عالقا على شفتيه مدة طويلة، وإذا فيجوز أن تكون الصورة تعبيرا عن هذا المعنى ... وتستطيع أن تفسر الصورة تفسيرا آخر، فتقول إنها امرأة اكتسحت زوجها اكتساحا؛ فهو بالنسبة إلى شخصيتها كالزائدة أو «كشرابة الخرج» - كما يقولون - فهي وحدها الشخصية التي تسيطر داخل دارها، وما زوجها إلا تكملة؛ فهو يقبل ويحب لتنشأ الأسرة التي هي عمادها النشيط الفعال ... واضح جدا أن هذه صورة من الأسلوب الذي يسمونه في الفن بما فوق الواقع «السير ريالست»؛ لأنه ليس في واقع الأشياء شيء كهذا؛ ليس هنالك في دنيا الواقع امرأة تحمل زوجها على هذا النحو وتسير به عالقا وراءها في الهواء، لكننا إذا لم نكن قد رأينا هذا الشكل بحذافيره، فقد شعرنا هذا الشعور، سواء كان التفسير الأول صحيحا أو التفسير الثاني؛ وما الفن إلا تصوير لمشاعر الإنسان أولا وقبل كل شيء.
وروسي آخر اسمه «كاندنسكي» (مات 1944م) له صورتان متجاورتان وليس فيهما إلا مزيج لوني، لم يحاول حتى أن يجعل مدار ألوانه شيئا يختاره بين الأشياء التي يراها كمقعد أو منضدة، بل ترى الصورة عنده وكأنها ألوان سكبت، مما يدل أقوى دلالة على أن الصورة في الفن الحديث هي نغم لوني لا تصوير، ويزيد ذلك وضوحا أن ترى الفنان قد كتب على صورتيه اسميهما هكذا: «إنشاء لوني رقم 1» و«إنشاء لوني رقم 2» على نحو ما تسمى المقطوعات الموسيقية التي ليست سوى تأليفات صوتية ... وقد تسأل نفسك وأنت تنظر إلى صورتي «كاندنسكي»: لكن ما العاطفة التي يريد هذا المصور أن يصورها أو أن يثيرها في نفس الرائي؟ أليس الفن تصويرا للعواطف؟ والجواب هو شبيه بما نجيب به في الموسيقى، فإنه يقال إن القطعة الموسيقية لو أحدثت في السامع عاطفة محددة معلومة كانت موسيقى من النوع الساذج؛ لأنها تكون واضحة الغرض، مع أنه لا يجوز للقطعة الفنية أيا كان نوعها أن تكون واضحة الغرض، وإلا كانت درسا لا فنا؛ أما الموسيقى الراقية الرفيعة فهي التي تخلق «جوا عاطفيا» معينا، دون أن تحدد العاطفة تحديدا قاطعا، إنها مثلا لا تثير «الكراهية» بشكل محدد، بل تثير «جو القلق» ... وهكذا قل في صورتي «كاندنسكي» وأمثالهما؛ فالمزيج اللوني الفني يثير ارتياحا أو نفورا أو ما شاكل ذلك ... الفن الحديث موسيقى للعين لا تصوير للأشياء.
وأريد أن أختم حديثي عن متحف الفن الحديث بما رأيته في غرفة وضعوا لها عنوانا هو «فن المستقبل»، والصور المعروضة هنا هي لفنان إيطالي اسمه «بالا»، فله صورة عنوانها «السيارة المسرعة»، وأخرى عنوانها «المدينة تنهض»، وفيها رموز واضحة لنهضة صناعية كأنما هذا الفنان الإيطالي قد سئم أن تكون إيطاليا بلد الجمال الذي يزوره السائحون، كأن إيطاليا بأسرها تحفة في متحف؛ وهو يريد أن يكون المستقبل في بلده انقلابا صناعيا ... ما أحوجنا في مصر إلى هذا الفن «المستقبلي» ينفض عنا غبار القدم!
أما بعد، فأين الفن الأمريكي في هذا كله؟! إنه قليل جدا، ومعظم هذا القليل في الفن هو من نوع «ما فوق الواقع» (السير ريالست)؛ فهنالك الفنان «تانجاي» بصورته «نحو الشمال في بطء»، وهي صورة مما فوق الواقع صور فيها مركبا في بحر هادئ، وصورة أخرى غاية في الجمال عنوانها «أماه! أبي جريح» وقفت أمامها مدة طويلة أحاول أن أرى أين تكون الأم أو الأب الجريح؟ فلم أجد من ذلك شيئا، وحسبي أنها جميلة، وهنالك أيضا ترى فنانا أمريكيا آخر هو «ماكس إرنست» بصورتيه: «نابليون في التيه» و«امرأة ورجل كهل وزهرة».
الإثنين 28 ديسمبر
زرت اليوم متحف المتروبولتان بنيويورك، وهو بناء فخم ضخم؛ فهو ليس بناء من نوع متحف الفن الحديث في بساطته ... أول ما يصادفك داخل المتحف بهو عظيم تعلوه قبة البناء الرئيسية، فانحرفت إلى اليمين لأبدأ زيارتي بالقسم المصري، وهو يشغل عشر غرف متتابعة.
لم أكد أجاوز الغرفة الأولى إلى ما بعدها - والغرفة الأولى خاصة بما قبل التاريخ - حتى مرت مجموعة كبيرة من الطالبات، كل منهن تحمل لنفسها مقعدا، ومعهن مدرسة جاءت معهن - على الأرجح - لتحاضرهن في موضوع يتصل بما في المتحف من آثار ... فأحدث الفتيات ضجة حين مررن بالغرفة التي كنت بها، حتى إذا ما غادرنها نظرت إلي سيدة في نحو الثلاثين من عمرها، أميل إلى الجمال وعلى ملامحها علامات الثقافة، وفي عينيها بريق جذاب، وقالت: ما رأيك في جماعة من الناس تمر في متحف الفرض فيه أن يكون هادئا صامتا ساكنا، فيحدثن مثل هذا الضجيج؟ فقلت لها وقد لمحت في عينها لمعة تشجع على التفكه في الحديث: لولا أنك امرأة لقلت لك ماذا تتوقعين من مجموعة من نساء إلا صخبا وضجة؟ فقالت: قلها ولا تبال، فإني أقولها معك ... وبعد لحظة نظرت خلالها إلى معروض قالت: أنا مفتونة بالفن المصري، انظر إلى هذا الانسياب في نحت التمثال! وكانت تشير إلى تمثال من الخشب واقف إلى جانب تمثال «الكاتب الجالس»، فقلت لها: وربما ازددت رفقا بالفن المصري حين تعلمين أن من تحدثينه الآن مصري!
اهتم كل منا بالآخر؛ اهتمت بي لمصريتي، واهتممت بها لدرايتها بالفنون؛ فقد تعارفنا فعرفت عنها أنها من أهل نيويورك، تخرجت في جامعتها، وحصلت على درجة جامعية في الموسيقى أساسا وفي الفنون إطلاقا، وهي تدرس في ولاية جورجيا (في أقصى الجنوب)، وأغرب ما علمته منها أنها تدرس في كلية للزنوج هناك؛ ذلك لأني لم أكن أعرف أن البيض قد يقبلون العمل في مدارس السود، وإذا كانت هذه السيدة لا تدعي ما ليس حقها، فهي تقول إنها اختارت عامدة أن تدرس عامين في مدرسة للزنوج؛ لأنها تعطف عليهم وتقف إلى جانبهم في مشكلتهم مع البيض، وأرادت أن تضع نفسها في المسرح الذي تدور عليه المشكلة في صميمها؛ وأعني به ولايات الجنوب، لترى بعينها الحقائق عن كثب ... راحت تشرح لي كيف أن الموقف أصعب جدا من ناحية الزنوج منه من ناحية البيض؛ لأن الأبيض ما عليه إلا أن يغير رأيه عن الأسود فتنتهي المشكلة بالنسبة إليه؛ أما الأسود فهو يغلي من الغل والكراهية لانعزال البيض عنه تكبرا، مع أنه في الوقت ذاته لا يرضى أن يندمج البيض في السود، ويريد لنفسه العزلة! سألتها: ولماذا يريد السود أن يظلوا في عزلتهم اللونية؟ فقالت: لأنهم يخشون منافسة البيض؛ فافرض مثلا أن كلية من كليات الزنوج فتحت أبوابها للمدرسين جميعا أبيضهم وأسودهم على السواء، وافرض أن البيض أقبلوا على التدريس فيها، فسيكون الموقف دائما هو أن بين البيض من هم أكفأ وأعلى في الدرجات العلمية، وبذلك يملئون الوظائف ويسدون الطريق أمام الزنوج ... ثم قالت: إن الزنوج لا يقبلون على العمل إقبالنا نحن البيض عليه ...
ومن أغرب ما سمعته منها ولم أكن أعلمه، أن تلاميذها يعرفون عنها داخل الكلية أنها شديدة العطف على الزنوج وتحبهم وتشجعهم، ومع ذلك كله فبمجرد ما تخرج من أبواب الكلية، يمتنع تلاميذها عن التحدث إليها في الطريق، وحتى إن شجعت طالبا رأته في الطريق بأن تبدأ هي بالحديث، خاف الطالب وراح يتلفت حوله قبل أن يتحدث إليها؛ خشية أن يكون هناك شرطي على مقربة منه؛ لأن الشرطي يقبض على الزنجي بحكم القانون إذا رآه يتحدث في الطريق مع بيضاء!
اسم هذه السيدة «أ. و» جاءت إلى نيويورك لتقضي مع أهلها عطلة عيد الميلاد، وهي واسعة الدراية بالفنون إلى درجة تستلفت النظر، مشينا معا في حجرات القسم المصري، فكانت لها تعليقات أفادتني في الفهم فائدة عظيمة، كان أول ما رأيناه معا في الغرفة التي كنا بها أوان فخارية بينها «زير » على حامل من الحديد، شديد الشبه جدا بما يستعمل حتى اليوم في الريف المصري، فقالت: هذا شبيه ببعض الآثار الفخارية في المكسيك، والذي حرت في أمره هو: لماذا يصنعون هذه الآنية الفخارية بغير قاع مسطوح ترتكز عليه فوق الأرض؟ لماذا يجعلون لها هذا القاع المكور بحيث يحتاج في رفعه عن الأرض إلى حامل من حديد؟ فقلت لها: هذه الآنية الفخارية لا تزال مستعملة في ريفنا المصري لتبريد الماء، والفكرة هي أن جدار الآنية ليس مصمتا، بل هو ذو مسام يرشح منها الماء ويسيل على الجوانب، وإذا فلا بد أن ترفع الآنية عن الأرض ليتجمع الماء السائل في الطرف الأسفل ويتبلور في نقطة ماء تسقط في إناء موضوع تحت الزير.
وانتقلنا إلى الغرفة المجاورة، فكانت هناك لوحات حجرية عليها رسوم حمراء لأشخاص في أوضاع مختلفة؛ وهنا دار بينها وبيني حديث مفيد ممتع في فن التصوير عند المصريين القدماء؛ وذلك أني نظرت إلى الصورة وقلت في شيء من المجازفة - خشية أن يكون قولا دالا على جهل معيب: إنني أرى في هذا الرسم المصري القديم بعض أصول الفن عند «ماتيس». ثم سألت قائلا: فلماذا يعد هذا الفن بدائيا بينما يعد فن «ماتيس» آخر طراز في الحداثة؟ فقالت: فن «ماتيس» قائم بالطبع إلى حد كبير على الفن الأفريقي (هكذا)، ولكن من ذا الذي قال إن هذا الفن الأفريقي بدائي؟ وراحت تشرح لي ما أفادني، وهو أن الرسم المصري قائم على أساس حقيقة المرئي كما هو في الواقع، لا على صورته في عين الرائي؛ فهم يرسمون الرجل - مثلا - بصدره كله، ويلفتون الرأس إلى أحد الجانبين، وفي الوقت نفسه يرسمون العين كاملة على الصدغ الظاهر، مع أنهم لو رسموها كما يراها الرائي تحتم أن يرسموا نصفها لاختفاء نصفها الآخر ما دام الوجه ملتفتا إلى جانب ... المصور المصري القديم لا يأبه لما تراه عينه من الشيء المرسوم، بل يرسم ما يعلم أنه حقيقة الشيء في الواقع، يندر جدا أن يرسموا الشخصية من جانبه؛ لأن ذلك يضيق الصدر في الصورة، وكذلك يندر جدا أن يرسموا الوجه ناظرا إلى أمام مع الصدر؛ لأن ذلك لا يعطي للأنف كامل هيئته، وكذلك القدمان يرسمهما الرسام دائما كاملتين مهما كان وضع الشخص المرسوم ... أخذت السيدة تشرح لي كيف أن المصري في رسمه للأشياء على هذا الأساس لم يكن جاهلا بقواعد المنظور في الرسم؛ فهو يبدي دقة كبيرة في رسم التفصيلات مما يدل على قدرته وبراعته، بحيث يستحيل بعد ذلك أن نقول: إنه إذا رسم العين كاملة - مثلا - مع أن الوجه ملتفت إلى جانب ولا يظهر العين كاملة كان ذلك جهلا منه بالرسم وقواعده! لكن الأمر أمر «مبدأ» فني يصدرون عنه؛ فقد أرادوا - كما أراد «ماتيس» في عصرنا الحاضر - ألا يتقيد الفنان بقواعد المنظور، على اعتبار أن الصورة الفنية ليست صورة فوتوغرافية تنقل الشيء كما يرى ... ولحسن الحظ كان أمامنا صورة أخرى معلقة إلى جانب الصورة التي كانت موضوع الحديث، في هذه الصورة الثانية شخص ممسك في يده بعدد من الطير، يمسكها من أرجلها فتتدلى رءوسها إلى أسفل صفا على هيئة مروحة أو على هيئة الزهرة، والرجل في الصورة متمنطق في وسطه بالثوب المصري التقليدي، لكن الرسام أظهر في الصورة خطوط فخذيه، مع أن فخذيه يغطيهما الثوب فلا يظهران للرائي، فقالت السيدة لي: انظر إلى هذه الصورة مثلا، فلو كان الفنان متقيدا بقواعد المنظور؛ لأخفى خطوط الفخذين لاستتار الفخذين وراء الثوب، ولا يمكن أن نقول إن ذلك جهل منه في التصوير؛ لأننا إذا نظرنا إلى مجموعة الطير في الصورة، وجدنا الفنان قد راعى فيها قواعد المنظور التي حسبناه يجهلها، فجعل الطائر الأعلى يخفي الطائر الذي خلفه وهكذا ... لماذا؟ لأن هدف الفن المصري هو إظهار «القالب» أو «التكوين» أو «الفورمة»؛ فهو يظهر فخذي الرجل بغض النظر عن الثوب؛ لأنه يريد إظهار «تكوينهما»، أما في حالة الطير فلم ير حاجة إلى إهمال قواعد المنظور؛ لأن «التكوين» أو «الفورمة» قد تحققت له في رءوس الطير التي تدلت على هيئة الزهرة ... والخلاصة أن أساس التصوير المصري هو إظهار «التكوين»، بحيث يستبيح الفنان لنفسه مجاوزة قواعد رسم المنظور إذا ما تعارضت مع إبراز «التكوين»، أما إذا لم يكن ثم تعارض بين المنظور و«التكوين» راعى قواعد المنظور.
واستطردت السيدة في شرحها فقالت: إن المصريين في تماثيلهم لا يلجئون إلى تغيير شيء من المرئي؛ لأنهم في النحت ليسوا بحاجة إلى تغييره؛ إذ تتلاقى قواعد المرئي مع حقيقة الشيء في الواقع، لكن التصوير هو الذي أحدث هذه المشكلة في عصور التاريخ الفني كلها؛ لأن المادة المرسوم عليها ذات بعدين، على حين أن الشيء المرسوم ذو ثلاثة أبعاد، فكيف نتصرف إزاء البعد الثالث؟ أما المصريون واليونان معا، ومعهم الفنان الحديث على أيدي «بيكاسو» و«ماتيس» وغيرهما، فيهملون البعد الثالث ليكونوا أمناء في استخدام المادة التي يرسمون عليها، وبذلك ظهرت رسومهم مسطحة لا محاولة فيها لإبراز البعد الثالث؛ وأما الفن الأوروبي منذ عصر النهضة إلى القرن العشرين، فهو وحده دون سائر عصور التصوير كلها في كل مكان وفي كل زمان، هو وحده الذي خرج على التقليد الفني، وحاول أن يلجأ إلى «التظليل» في الصورة ليظهر البعد الثالث، وكان ذلك خطأ فنيا عظيما، ومجهود المدرسة الحديثة في الفن أن تزيل هذا الخطأ وتعود إلى الطريق الصواب؛ فإذا كنا نريد إظهار الشيء بأبعاده الثلاثة فعلينا بالنحت، أما أن تكون لوحة التصوير مسطحة ذات بعدين، ثم نحاول أن نبرز على سطحها بعدا ثالثا، فخروج على ممكنات المادة التي يعالجها الفنان.
إنه بغض النظر عن هذه اللمحات القوية التي استفدتها من هذه السيدة في فهم الفن المصري وتقديره، فوالله لقد وقفت مبهوتا أمام المعروضات المصرية؛ إنه لا جديد فيما أرى؛ فقد ألفت أعيننا هذه الأشياء، لكن لا تنظر النظرة العابرة؛ وقف أمام شيء واحد، وادرس تفصيلاته لتدهش وتعجب ... لقد كنت أمس في متحف الفن الحديث، ورأيت تماثيل نحتها قادة هذا الفن في عصرنا، وإني لأقول إذ أقارن بين ما أراه الآن وما رأيته أمس: شتان ما بين الثرى والثريا! ... طاف ذلك بخاطري، لكني لم أقله لزميلتي خشية أن أكون كالطفل الذي يباهي، حتى وقفت هذه السيدة من تلقاء نفسها أمام تمثال جميل وقالت: لو خيرت بين هذا التمثال وحده وبين متحف الفن الحديث كله بما فيه من أرضه إلى سمائه، لاخترت هذا التمثال، يا له من إعجاز في الفن!
وانظر إلى الحلي المعروضة نظرة مدقق، وقل لي أين الفرق بين هذه الأقراط الكبيرة المستديرة التي أراها الآن، وبين ما أراه في أرقى معروضات الطريق الخامس في نيويورك؟! وانظر إلى الأواني الدقيقة الرقيقة ذات «التكوين» البديع الرشيق الرائع ... إن كل آنية منها كأنها فتاة من باريس تعلمت كيف تقف وكيف تتلفت في رشاقة ودلال.
وقفت مع زميلتي الفنانة أمام رأس نفرتيتي (وهي بالطبع نسخة من الأصل المحفوظ في برلين)، وراحت الزميلة تبدي إعجابها الشديد، قائلة إن أستاذها الذي علمها الفنون كان قد درس في برلين، وكان يقول لهم إنه من شديد إعجابه برأس نفرتيتي أحب نفرتيتي حبا جنسيا كما يحب الرجل المرأة يشتهيها ... ثم قالت: وأنا لا ألومه على حبه ذاك، انظر إلى هاتين الشفتين! إن الشفاه في تماثيلكم كلها من أبدع الشفاه في البشر جميعا ... فقلت لها: لولا أن شفتي نفرتيتي تبديان قليلا من شهوة، فقالت: نعم، هذا صحيح، لكنها شهوة في تحفظ الحياء، وفي هذا سر جمالها.
ودعتني الزميلة الفنانة لنلتقي بعدئذ على عشاء ... ورحت أستعرض وحدي بقية المتحف، لكن هل يمكن أن أستعرض كل هذا العالم الزاخر في جزء من يوم؟ فهذه آثار اليونان، وتلك آثار العصور الوسطى، وأخرى آثار العصر الأول في أمريكا وهكذا وهكذا، كلها معروض في أبهاء فسيحة قوية البناء جميلة التنسيق ذات هيبة وجلال.
وحسبتني قد كدت أفرغ من المتحف، لكني وقعت فجأة على جناح بأسره خصص للفن الأمريكي في التصوير ... فيئست من التتبع والتعقب والدراسة، أقول إني يئست من أن أحيط بأكثر من النزر اليسير من العلم بالفن الأمريكي، فجلست على كنبة هناك لأستريح؛ فقد كان التعب هدني هدا.
وعدت في المساء فالتقيت بالزميلة الفنانة، وحضرنا معا ملهاة سينمائية جميلة عنوانها «جنة القبطان»، ثم تعشينا في مطعم صيني، وهناك على مائدة العشاء دار بيننا حديث ثقافي طويل بلغنا به أعلى ما يمكن لمثلنا أن يبلغه من ارتفاع، وكان الموضوع هو هذا: هل يستطيع الفنان أن يقيد نفسه بقوانين المجتمع وأوضاعه؟
أما أنا فقد أخذت بوجهة النظر القائلة بأنه يستحيل على فنان أصيل أن يخضع لأي قانون غير ما يشرعه لنفسه من نظام، ومن ثم اتهامه عادة بالشذوذ أو بالجنون؛ فالفنان العظيم هو أولا وقبل كل شيء إنسان ذو خيال قوي يحطم قيود الزمان والمكان، فلا هو يرتبط بعصره، ولا هو يتقيد بتقاليد بلده وقومه، فإذا تخيل الفنان طريقة للعيش ولم يعش وفق خياله كان فنانا ناقص التكوين أو ضعيف العقيدة.
وأما زميلتي الفنانة فقد دافعت بقوة وبراعة وسعة اطلاع عن الفكرة القائلة إن الفنان العظيم لا بد له كسائر الناس من قيود، وضربت لذلك أمثلة كثيرة من الموسيقيين بصفة خاصة، ثم أمثلة أخرى من رجال الأدب؛ فملتن مثلا رجل متدين عميق الإيمان، ولم يمنع استسلامه للعقيدة الدينية من أن يكون شاعرا عظيما، لا بل إنه كان شاعرا عظيما بسبب عقيدته الدينية ... ثم قالت: إنهم صغار الفنانين هم الذين يتظاهرون بالخروج على كثير من الأوضاع والقواعد ليكملوا بهذا الشذوذ نقصا في شخصياتهم؛ وهنا أخذت تسوق أمثلة كثيرة من أدب «توماس مان» خصوصا قصته «موت في البندقية»؛ لأنها قصة عن فنان أعزب أبى أن يتزوج، وأخيرا طفحت به غريزته فمالت به إلى شذوذ حتى أحب غلاما في باريس.
ثم تحدثنا عن الفن الأمريكي وهل له خصائص تميزه من الفن الأوروبي، فوافقتني على أن الفن الأمريكي يساير المدارس الأوروبية خطوة خطوة ... لكن حديثي معها قد أظهرني على سعة اطلاع عجيبة؛ لأنها تعرف الشيء بتفصيلاته، ولا يكفيها المعلومات العامة كما هي الحال مع معظم مثقفينا في مصر؛ فلو قالت مثلا: إن الفن الفرنسي يتميز بكذا وكذا، راحت تسوق الأمثلة الجزئية من لوحات معينة وهكذا.
وسألتني عن رأيي في نيويورك، وكانت شوارع نيويورك عندئذ تتلألأ بأنوارها، خصوصا وأن زينة عيد الميلاد لا تزال قائمة بروعتها وفنها وجمالها على واجهات المباني الكبرى، فقلت لها: إن من يدرك الفرق بين الكلمتين الإنجليزيتين:
House
و
Home (وأقترح ترجمتها إلى العربية بكلمتي: «منزل» و«مسكن» على التوالي، على اعتبار أن الأول دار للنزول بغض النظر عن سكينة النفس أو عدم سكينتها، وأن الثاني دار تتوافر فيها سكينة النفس وطمأنينتها) يدرك الفرق بين نيويورك وسائر البلاد التي رأيتها؛ فنيويورك «منزل» جميل جدا رائع جدا، نظيف جدا، مصقول جدا، لكن كل شيء فيه يوحي بأن الإقامة هنا موقوتة مرهونة بظروف، وليست هي بالإقامة الدائمة التي تضرب فيها الأسرة بجذورها أجيالا متعاقبة.
إنني أستطيع أن أقول إن نيويورك - بل إن الولايات المتحدة كلها - قد ركزت روائع حياتها في ثلاثة شوارع، هي شوارع «برودواي» للسينمات والمسارح، و«الطريق الخامس» لكبريات المحلات التجارية، و«بارك آفينو» (أو «طريق البستان» إن شئت ترجمة عربية لهذا الاسم) لفنادق ومساكن الطبقة العليا ... ولكل شارع من هذه الثلاثة خصائصه، وأعتقد أن من يدرس بدقة هذه الشوارع الثلاثة فقد درس جانبا مهما من الحياة الأمريكية والذوق الأمريكي حين يبلغ أقصى مداه ... وليس لمثلي أن يقول شيئا عن «طريق البستان»؛ لأنه لن يتاح لي أن أدخل منزلا فيه أو فندقا من فنادقه، وليس الشارع هو ظاهر مبانيه، بل هو ما تحتويه تلك المباني ... لكني أقول عن شارع «برودواي» إنه لا يزيد على شوارع المسارح في المدن الأخرى إلا في الدرجة لا في النوع؛ فلافتات السينما كبيرة تعشي البصر بأضوائها الوهاجة، وحتى المتاجر والمطاعم في برودواي تساير هذا البريق المتوهج، والناس في هذا الشارع في زحام لا ينقطع، وأعقاب التذاكر تملأ الأرصفة ... وأما «الطريق الخامس» فهو مختلف عن أمثاله في النوع، فلا تستطيع مثلا أن تكبر بالخيال شارعا في مصر ثم تقول إن هذا هو «الطريق الخامس » بنيويورك؛ فليس هو بالمختلف عن ضريبه في القاهرة في أنه أوسع وأن عماراته أعلى ومحلاته التجارية أكبر ... لا، بل هنالك فرق في النوع أيضا، هنالك فرق في الروح، في الذوق البديع البادي في معروضات النوافذ التجارية، وفي جودة الأصناف المعروضة وغلاء أسعارها ... حتى الناس الذين تراهم سائرين في هذا الشارع ساعة الضحى هم - كما يخيل إلي - من صنف مختلف؛ إذ ترى كثيرات من سيدات بمعاطف الفراء يفحن بالعطور ... هن مختلفات عمن ترى في برودواي؛ لأنك ترى في برودواي أخلاطا من الناس.
الانتقال من شارع إلى شارع في نيويورك هو انتقال في المكان لا في الزمن ... ليس في نيويورك غزارة زمنية، ليس فيها رواسب الأيام والقرون، الانتقال بين الشوارع الثلاثة التي ذكرتها: طريق «البستان» و«الطريق الخامس» و«برودواي» - التي تمثل كما قلت جانبا هاما من نواحي الحياة الأمريكية - هو انتقال يدل في امتدادات الزمن على يوم واحد؛ فللطريق الخامس ساعات الضحى، ولبرودواي الساعات الأولى من المساء، ولطريق البستان الحفلات الساهرة التي تقضي ما بقي من الليل وراء ستر من الجدران.
الثلاثاء 29 ديسمبر
ذهبت عصر اليوم إلى متحف «وتني» للفنون، وهو متحف للفنانين المحدثين من الأمريكيين، وكنت في هذه الزيارة على موعد مع زميلتي الفنانة «إ» وصديق لها اسمه «ه» هو وزوجته، وكلهم من المشتغلين بالفن إنتاجا وتدريسا، أخذ كل منا يتفرج وحده، لكني سرعان ما التقيت بزميلتي الفنانة عند صورة عجبت والله كيف يمكن أن يكون فيها أي شيء من الفن لتعرض في معرض كهذا! فهي لا تزيد أبدا عن «شخبطة» يخطها طفل على ورق كما اتفق! وحتى المزيج اللوني لا جمال فيه؛ فالأرضية سوداء وخليط الخطوط عليها بيضاء؛ فقلت لزميلتي «إ»: ما رأيك في هذه الصورة؟ فقالت: هي من أبدع معروضات المتحف! قلت لها: أتوسل إليك أن تبصريني بمواضع الجمال فيها؛ فلا لون ولا حسن تقسيم ولا شكل، فما جمالها؟! فقالت في استخفاف: آه! جمال! أنت إذا تبحث في الصورة الفنية عن جمال؟! إذا فبينك وبين أن تفهم الفن الحديث مراحل ومراحل؛ فأقل ما ينبغي أن تعرفه هو ألا شأن للفن بالجمال! كون الفن يعرض جمالا هذه فكرة ذهبت وذهب زمانها، إلا إذا أردت أن تنبذ الفن الحديث وتتنكر له كله من تصوير ونحت وموسيقى! قلت لها: هذا شيء عجيب! ماذا إذا تريدين من الفن أن يعرضه إذا لم يعرض جمالا؟ فقالت: أريد شيئا واحدا، هو حرية التعبير، لا أكثر ولا أقل؛ فهذه الصورة التي تسألني عنها فيها حرية التعبير، انظر إلى البساطة التامة في الخطوط والدوائر ... قلت لها: لكن الطفل حين يخطط على الورق كما اتفق يفعل ذلك ببساطة وحرية! فقالت: عندئذ يكون عمل الطفل فنا وإن لم يكن ذا جمال!
هنا انقلب تصوري للأمر رأسا على عقب؛ فقد كنت حتى الآن مستريحا إلى مبدأ أتفرج به على الصور وأقدرها على أساسه، وهو أن أرى جمالا في البناء اللوني للصورة، وفي البناء التخطيطي، وها هي ذي زميلتي الفنانة «إ» تقول: لا، ليس هذا بالأساس الصالح ... أنا لا أقول إن «إ» قد أصابت حتما كل الصواب فيما قالت، لكنها على الأقل قد أفسحت عندي مجالا جديدا للشك والتفكير؛ فأقبح المخلوقات قد يكون موضوعا لصورة فنية أو لتمثال، دون أن يقال إنه ليس فنا بسبب قبحه؛ وإذا فالجمال والفن قد لا يلتقيان أبدا.
خرجنا من المتحف، وصحبنا الفنان الشاب «ه» إلى المبنى الجديد من جامعة نيويورك، وكنا عندئذ على مقربة منه؛ فنحن الآن في حي الجامعة الذي هو شديد الشبه بالحي اللاتيني في باريس ... أطلعنا «ه» في المبنى الجديد للجامعة على رسم حائطي رسمه على أعلى حائط المدخل ويمتد ما امتد الحائط، فعندئذ عرفت أنه - على حداثة سنه البادية - فنان معترف به ما دامت الجامعة قد وكلت إليه أن يزخرف بناءها الجديد بزخرف تشيع فيه روح الفن الحديث.
أخذت «إ» تبدي لصديقها الفنان بعض ملاحظاتها، وكان يتقبل قولها بصدر واسع رحب، وقد ورد في حديثهما تعليق عني؛ إذ قالت لصديقها: لا يزال الدكتور محمود ممن ينظرون إلى الصورة ويسألون: أين الجمال؟ فضحك الفنان الشاب ضحكة العطف على هذا الذي لم يدخل بعد دنيا الفن الحديث! فقلت له كأنما أعتذر عن فضيحة كبرى: اعتبرني في مرحلة التطهير التي وردت في جحيم دانتي؛ تلك المرحلة التي يجتازها المنتقل من الجحيم إلى الجنة.
الأربعاء 30 ديسمبر
دخلت كنيسة القديس باترك في «الطريق الخامس»؛ إن الروعة لتصادف الداخل حتى لتنحبس منه الأنفاس ويهتز القلب ... النوافذ الملونة غاية في الجمال، والعمد القوطية والأضرحة المرمية البديعة! على كل عمود في الممشى الرئيسي علق إكليل من الصنوبر مزخرفا بشريط حريري أحمر ليرمز إلى شجرة عيد الميلاد، وفي المربع المسور وسط الكنيسة طاقات وطاقات من الزهر الأحمر الجميل، وهنالك في محراب الكنيسة مسرح أقيم من طين على هيئة البيت المتواضع حيث ولد المسيح؛ فيه شخوص تمثل ساعة مولده، وعلى طول المماشي صفوف من الشمع الموقد، كل شمعة في كوب من الصيني ... مئات الناس يدخلون ويخرجون؛ فنيويورك في أزحم أيامها في العام كله بسبب عيد الميلاد ...
جلست هناك على مقعد أنظر: هذه امرأة وطفلاها، ركعت هي وركع معها طفلاها في خشوع أمام أحد الأضرحة المرمية؛ إنني لا أعرف ماذا يدور في رأس المرأة، لكنني أتصور في وضوح نوع الشعور الملغز الغامض الذي يدور في نفس هذين الطفلين، والذي هو أقرب إلى الخوف منه إلى التقديس ... كيف يمكن بعد هذا لمثل هذين الطفلين أن يقبلا أو يتسامحا في أية عقيدة أخرى؟ إذا كان قد بدءا يركعان منذ الآن أمام ضريح من الحجر!
وهذه فتاة راكعة وهي في كامل زخرفها وزينتها من تظليل للجفون إلى تلوين للأظافر، وإنه ليبدو على وجهها أنها جاءت تستغفر زلة أو زلات؛ وهذه امرأة عجوز وقفت في خشوع تضيء الشموع التي انطفأت، وهي بذلك تعبد الله ... هذا رجل غاية في الوقار وحسن الهندام، ركع أمام مقعده وأخرج من جيبه إنجيلا صغيرا وراح يقرأ لنفسه ... على كل حال، يستحيل لآدمي أن يجلس ها هنا، في هذا الجو الفني من عمارة ونوافذ وتماثيل وأضرحة وأنغام للأرغن خافتة تتردد أصداؤها ، دون أن يخشع لمن هو أكبر منه، دون أن يشعر بأنه صغير؛ صغير على الأقل بالنسبة لهذه العمد الرفيعة وهذه القباب العالية ... إنه إذا كانت العقيدة الدينية أكذوبة ضرورية، فيحسن أن تساق الأكذوبة في فن جميل.
خرجت من الكنيسة وقصدت إلى «طريق البستان» ومشيت فيه الهوينا، أنظر إلى الحديقة التي امتدت في وسطه - وهو فيما أظن الشارع الوحيد في نيويورك الذي تمتد في وسطه حديقة - وأنظر إلى أشجار عيد الميلاد العالية المزخرفة التي غرست في وسطه صفا يمتد بامتداده ... وصلت في سيري إلى فندق «والدورف آستوريا» المشهور، فدخلت وجلست في بهوه لأستريح أولا، ولأرى الناس يدخلون ويخرجون ... سجاد وزينة وفخامة وضخامة! قلت في نفسي: أفي هذه الأبهة كلها كان مندوبو مصر دائما ينزلون على حساب الفلاح الذي يأكل الخبز الخشن مغموسا في المش، وهو سعيد لو وجد منهما ما يكفيه؟ إي والله، كانوا ينزلون هنا يخبون خبا في هذا العز الذي كان ينبغي أن يترك لأبناء أمة فلاحها يأكل ويكتسي ويسكن إلى بيت!
حضرت الليلة رواية تمثيلية غنائية في مسرح «زيجفلد» اسمها «قسمت» قائمة على الجو الساحر في ألف ليلة وليلة، وهي رواية من فصلين: كل فصل منها ذو سبعة مناظر؛ أما الفصل الأول فمناظره تتدرج من ساعة الفجر إلى سوق في الضحى إلى مناظر في حديقة قصر الوزير؛ وأما الفصل الثاني فتتدرج مناظره من الغروب إلى الفجر، أغلبه «حريم» ورقص وما يظن أنه حياة الوزراء والخلفاء في الإسلام ... المناظر كلها من الفتنة بحيث تنقلك إلى جو من الأحلام؛ إنني إذ أقول ذلك أخشى أن تحمل ألفاظي على المبالغة اللفظية التي لا تعني شيئا من واقع، ولا أدري ماذا أقول لأصف هذا الفن الذي أخرج المناظر واحدا في إثر آخر إخراجا يسلبك عقلك ووعيك ويتركك سابحا في حلم ...
لكن هل كان يمكن لهذا الجمال كله وهذه الفتنة كلها أن تغرقني في حلم لا أصحو منه حينا بعد حين محزون الفؤاد، مغموم النفس، ضيق الصدر؟! فكم مرة ذكر القرآن في سخرية ، وكم مرة ذكر الإسلام في ازدراء، وكم مرة ذكر محمد في استخفاف وتحقير؟ ... كيف جعلوا الوزير المسلم لا يتصرف إلا أن يكون في تصرفه كالأبله المجنون؟ وكيف جعلوا الخليفة لا يتكلم إلا كما يتكلم المجاذيب بغير عقل؟ ... كنت في وسط هذا الجمال كله من مناظر وغناء وموسيقى، ووسط هذا السحر كله من أضواء وظلال تتعاقب وتتغير في لطف وحسن ذوق ورفعة فن إلى درجة لم أكن أتصورها في الإخراج المسرحي؛ كنت وسط هذا كله يعاودني الألم الممض مما أرى وما أسمع، فأتصور نفسي وقد وقفت وسط المسرح صائحا: حرام عليكم أن تنظروا إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى محمد هذا النظر بغير دراسة ولا قراءة؛ أمن أجل الإخراج الفني البديع تفتكون بأنفس ملايين من البشر؟! ... وتذكرت عندئذ ما رأيته في واشنطن: مسجد لم يكمل بناؤه لامتناع الدول العربية أن تمده بالعون، وله طابق تحت سطح الأرض، وفي هذا الطابق مركز للثقافة الإسلامية، فيه رجل واحد أو رجلان للدعوة للإسلام في أمريكا!
كم ألف ألف خطبة، وكم ألف ألف مقالة، وكم ألف ألف رجل نحتاجه ليزيل من أذهان الأمريكيين أثر هذه الرواية الواحدة؟! لقد خرج الناس من المسرح مأسورين مبهورين مفتونين، وتلكأت في السير بين جموعهم لأسمع تعليقاتهم، فلم أسمع إلا إعجابا وعجبا من هذا الفن كيف بلغ كل هذا المدى ... وبالطبع في قلب هذا الفن كله لباب سيظل عالقا بأذهانهم لن يزول عنها إلا مع آخر أنفاسهم، وهو أن الإسلام هو هذا الذي استخلصوه مما رأوه وما سمعوه: هو حماقة عقل، وشهوة للمرأة لا تنقضي ولا تنقطع ... فذلك هو شغل الوزير الشاغل وشغل الخليفة الشاغل، بل ذلك هو القرآن وهو محمد ... والمسلمون يصلون في حركات هستيرية تثير الضحك، والعبادة كلها يشار إليها بما يبعث على الاستخفاف.
وما زلت أفكر في الأمر مهموما، حتى جعلت من نفسي رجلين: رجل يعزي رجلا، فقال الأول للثاني: إذا كانت هذه الحياة التي يسخرون منها لا تعجبهم، فلماذا يتخذون منها معينا لا ينفد ولفنهم؟ فهم ما ينفكون يستمدون من حياة ألف ليلة وليلة النفائس تلو النفائس للسينما وللمسرح؛ إنها حياة لها سحرها رغم أنوفهم، ولولا ما فيها من سحرها لما أحبوها وعرضوها على هذا النحو البديع ... ماذا يغضبك؟ ليت حقيقة حياتنا كانت كل هذا الحرير وكل هذه البدور والحور وكل هذا الشعر والخيال.
الخميس 31 ديسمبر
ذهبت في الصباح إلى ما يسمى «بالمناسك» في الطرف الشمالي من نيويورك، وهو بناء فيه مجموعة أجزاء من أديرة قديمة من أديرة العصور الوسطى، نقلت أحجارها من أماكنها الأصلية في أوروبا، وأعيد بناؤها هنا على ما كانت عليه في إبانها، وأغلب هذه المناسك يرجع إلى الفترة الواقعة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر؛ أي قبل أن يسمع العالم بشيء اسمه أمريكا.
لأول مرة في نيويورك - بل لأول مرة في الولايات المتحدة - أجد نفسي في مكان ينقلني قرونا إلى الوراء؛ فالنقلة الزمنية هنا بعيدة المدى، تقفزها قفزا بمجرد دخولك هذه المناسك التي قام بناؤها على نحو شبيه بالحصن، فوق قمة صخرية مرتفعة تطل على نهر هدسن؛ تدخل فترى نفسك في غرف ذوات جدران حجرية سميكة، ترن فيها أصداء الصوت؛ وتنتقل من غرفة إلى غرفة إلى معبد إلى محراب إلى حديقة مربعة صغيرة مكشوفة يحيط بها ممر ذو عمد فوقها أقواس قوطية ... نسقت الغرف والأبهاء بآثار قليلة لكنها تفوح بجلال التاريخ والزمن؛ فهي بأسرها من بقايا العهود الدينية في العصور الوسطى، هذا مذبح كان في كنيسة كذا بإيطاليا، وذلك تمثال لمريم العذراء مع وليدها المسيح كان في كنيسة كذا بفرنسا، وهذه الشخوص تمثل تدشين الملك الفلاني على يدي البابا، وهكذا ... المكان كله متحف من نوع فريد في بابه، لحسن اختيار موقعه، ولأنه دليل على القدرة والإرادة والذوق، وأي إرادة هذه التي تنقل أبنية بأسرها من قارة إلى قارة؟ الأمريكيون يحسون نقصهم في عراقة الزمن؛ لأنهم بلد جديد ناشئ، فراحوا «يشترون» بأموالهم قدم الزمن وجلال التاريخ وروعة الفن ... إنني لا أبالغ إذا قلت إن هذه المناسك هي أفضل ما يزوره الزائر في نيويورك، من حيث غزارة الشعور الذي يكتسبه هذا الزائر وهو واقف هنا أو جالس هناك أو سائر بين أجزائه.
خرجت من المناسك مصمما على أن أقطع نيويورك - أعني مانهاتن - من شمالها إلى جنوبها؛ إذ قررت أن أزور تمثال الحرية وهو في أقصى الجنوب، فركبت قطار ما تحت الأرض ابتغاء السرعة، فلما خرجت على وجه الأرض عند البحر حيث ميناء نيويورك وجدت الجو عاصفا شديد الريح والبرد، يتساقط الثلج خفيفا بحيث لا يتراكم على الأرض؛ لأنه يذوب فور وصوله.
ركبت «المعدية» البخارية إلى جزيرة «بدلو» التي ينهض عليها التمثال، وهي جزيرة صغيرة ليس عليها إلا التمثال ولواحقه ... إنه تمثال بلغ من الضخامة حدا يستحيل تصوره إلا إذا رأته العين ومارست القدمان صعوده؛ فيكفي أن أقول إنك تصعد بمصعد عدة طوابق هي القاعدة، ثم تصعد بعد ذلك سلما حلزونيا داخل التمثال نفسه، عدد درجاته 186 درجة ... فلما بلغنا القمة التي هي تجويف رأس التمثال من داخله، عددت الواقفين في ذلك التجويف وحده فوجدتهم سبعة وعشرين! وفي تجويف الرأس نوافذ من زجاج لتطل منها على ناطحات مانهاتن؛ لا ينبغي أن نطيل الوقوف هناك؛ لأن سيل الصاعدين يتزايد، ولا بد أن نخلي المكان فنبدأ بالنزول ليقف من جاءوا بعدنا؛ الصعود والنزول على هذا السلم الحلزوني فيه كثير من العسر؛ ولذلك تراهم قد أعدوا ثلاثة مخارج في وسط الطريق لمن لا يستطيعون المضي في الصعود، وكان كثيرون يأخذهم التعب فيهربون من هذه المنافذ، لكني مضيت إلى القمة مع من استطاعوا ... وأعجب ما عجبت له أني رأيت هناك أما تحمل رضيعا على ذراعيها، فلا أدري كيف استطاعت الصعود به، وكيف ستستطيع النزول؛ لأنني وجدت من الضروري أن أستخدم كلتا يدي لأطمئن إلى ثبات قدمي على درجات السلم الضيقة الزلقة ... في تجويف الرأس وعند إحدى نوافذ الزجاج وقف حبيبان ولهانان، كل حركة وكل لفظة وكل نظرة وكل لفتة منهما كانت صارخة بالحب الشديد؛ وقف العاشق الولهان محوطا حبيبته بذراعيه، ومال برأسه إلى أسفل كي يجعله في مستوى رأسها، كأنه يريد أن ينظر بعينيها لا بعينيه، يعز عليه ألا يرى ما تراه هي بالضبط والدقة، وأظنه ود لو استطاع أن يدخل معها في إهاب واحد، وبعد أن نظروا إلى البحر وإلى نيويورك وما يجاورهما ملء عيونهما، قبلها وبدءا ينزلان السلم؛ إنه لم يرد أن تفلت منه هذه الوقفة النادرة دون أن يخلدها في حياته الشعورية بقبلة.
تمثال الحرية - كما هو معروف - هدية أهداها الشعب الفرنسي إلى الشعب الأمريكي، وقد أقيم في مكانه عام 1886م، وقوامه امرأة تمثل الحرية عند مدخل القارة الجديدة، حطمت عن يدها قيدا تراه ملقى عند قدميها، ورفعت بيمناها شعلة الحرية، وخطت بإحدى قدميها خطوة إلى أمام، وحملت في يسراها قرصا كبيرا كتب عليه «4 يوليو 1776م» (وهو اليوم الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة استقلالها).
وفي المساء ذهبت إلى دار الأوبرا حيث شاهدت رواية «فلادرماوس» - ومعناها الوطواط - ولقد بلغت قاعة الدار حد الكمال من الروعة والفخامة؛ فقد كسيت الأرض كلها بالقطيفة الحمراء الجميلة ... وظهرت في الفصل الأوسط من فصول الأوبرا راقصة عجيبة هي «ماركوفا» التي قيل لي عنها إنها أبرع راقصات العالم ... وإن براعة رقصها لم تكن تحتاج مني إلى شدة فهم في الفنون، فتستطيع كل عين أن ترى خفة هذه الراقصة العجيبة في رقصها، كأنها ريشة في مهب النسيم؛ إنها حقيقة جسم بغير ثقل ولا كثافة، إنها هواء طائر ... سبحانك ربي! ما هذا؟ أليس هناك قانون للجاذبية يتحكم في جسم هذه الراقصة كما يتحكم في سائر الأجسام؟!
وخرجت من دار الأوبرا قبيل منتصف الليل، وعدت في طريقي إلى الفندق، مصمما أن أتلكأ حتى ينتصف الليل وأنا في «برودواي» لأرى ماذا يحدث أول قدوم العام الجديد ... ولم ألبث أن رأيت نفسي في كتلة بشرية مصمتة لا أتحرك فيها بإرادتي، إنما هي التي تدفعني هنا أو هناك ... وبعد أن كافحت كفاحا مرا لأخرج من الزحام الذي خيل إلي أنه يمتد إلى ما لا نهاية، وصلت إلى حاشية الزحام ... تسعة وتسعون من كل مائة في هذه الزحمة رجال، وكانوا كلما رأوا في الجموع الحاشدة امرأة تزاحموا عليها ليظفروا منها بقبلة العام الجديد، على أن أهم ظاهرة رأيتها، بل الظاهرة التي لا ظاهرة سواها، هي الزمارات؛ فكل رجل في فمه زمارة يزمر بها، حتى أنتج ذلك الأمر خليطا صوتيا عاليا مزعجا، وكان بائعو الزمارات على أرصفة الشوارع يبيعون للناس في سيل لا ينقطع ... لكي أعطي صورة رقمية دقيقة، أقول إني لم أر في هذه الألوان المتزاحمة من قبل امرأة إلا ثلاثة؛ وانتصف الليل فلم تطفأ الأنوار كما توقعت، ولم يحدث التقبيل على النطاق الواسع الذي يحدث في لندن عند كنيسة القديس بولس إذا ما دقت ساعة الكنيسة الثانية عشرة ليدخل الناس في سنة جديدة.
إن من يأتي إلى أمريكا ثم يعود حاملا معه رأيا غير أن الأمريكيين من أشد الناس تحفظا في أخلاقهم وتزمتا في العلاقة بين الرجل والمرأة، فهو كذاب يصر على أن يقول ما لم تر عيناه، جاء إلى أمريكا وملء رأسه إشاعة، وعاد دون أن يأذن لملاحظته الشخصية أن تصحح إشاعة خاطئة.
الفصل الرابع
عودة إلى الجنوب
الأحد 3 يناير
الشمس غاربة والجو رائع والسماء صافية؛ فأخذتني الآنسة «أ. ر» التي تعد عدتها للذهاب إلى مصر عاما دراسيا؛ حيث طفنا بسيارتها حول كولمبيا لنرى الطبيعة وهي في أروع حالاتها: غابة نشقها بالسيارة لنبلغ بحيرة ساعة الغروب، والغروب في كولمبيا جميل دائما؛ فهو قرمزي اللون على نحو نادر؛ ثم مررنا على بستان للزهور - هو الآن خال من زهوره لبرد الشتاء - ونزلنا ودخلنا البستان وصاحت الآنسة منادية، فخرج من بيت صغير هناك رجل كهل لكنه متورد الوجه، وصحته جيدة ونشاطه موفور، وهو مالك البستان يشرف فيه على إنبات زهور الكاميليا، وضع على كل شجرة ورقة كتب عليها ما يدله على حقيقة تلك الشجرة وتاريخها وما إلى ذلك ... الطريقة التي أبدت بها الآنسة «أ. ر» اهتمامها بالزهور، والتي يبدي بها الناس اهتمامهم بها تثير العجب حقا؛ فاهتمامهم خاص لا عام؛ أي أن الأمر ليس عندهم أمر «زهور» بصفة عامة - وهذه هي أعلى درجة يبلغها مصري يدعي أنه محب للطبيعة - بل اهتمامهم بزهرة معينة في ظروف معينة بالكاميليا مثلا أو بالأزاليا، كيف تكون في الشتاء، وكيف يحول البرد أحمرها إلى لون قرمزي وهكذا وهكذا، حتى ليكادوا يعطون كل زهرة اسما بمفردها، على نحو ما نطلق على كل طفل اسما خاصا إمعانا في التخصيص والتفرد؛ والحق أنه لا اهتمام بغير هذا التخصيص في العاطفة التي تربط بين الشخص وبين من يهتم به أو ما يهتم به، لا عجب أن ترى هنا في كولمبيا وحدها نحو مائة ناد للزهور، كل ناد يتخصص في شيء يحبه أعضاؤه ... والذي يهتم بزهرة معينة كالكاميليا مثلا، يغلب أن يكون على اتصال بمن يهتمون مثل اهتمامه حتى لو كانوا على بعد أميال منه، وتراه يعرف الفروق الدقيقة بين هذه الزهرة في حديقته وبينها في حديقة فلان في البلد الفلاني ... فلقد قلت لهذا الرجل الذي استقبلنا في بستانه وطاف بنا بين أشجاره: إنني رأيت زهورا رائعة كبيرة الحجم من زهور الكاميليا في بستان رجل اسمه القاضي «ه» في مدينة أوجستا، فوجدته يعرفه ويعرف بستانه، وراح يذكر أدق الفروق بين الكاميليا عنده وبينها عند القاضي «ه».
الإثنين 4 يناير
لبيت في المساء دعوة الدكتور «ب» الطبيب، وكنت واحدا من كثيرين مدعوين، لكني كنت موضع اهتمام خاص لمصريتي ... قالت لي زوجة الطبيب متفكهة إنني المصري الثاني الذي صادفته في حياتها، أما الأولى فكليوباتره! ... سئلت في هذا الجمع أسئلة عن مصر دالة على جهل السائلين بها جهلا غير مألوف: فهل مصر تقع في المنطقة الأفريقية التي بها ذباب تسي تسي؟ ...
جلست معي الآنسة «م» ابنة الطبيب، وهي في نحو الأربعين من عمرها، وتعمل في وظيفة حكومية في بولتيمور، كانت مثلا قويا واضحا لضرورة اتساق أجزاء الثياب والزينة مع الشخصية؛ فقد كانت تلبس قرطا كبيرا يملأ نصف صدغها، وبه أجزاء تتدلى منه لتشنشن مع حركة الوجه شنشنة توحي بأنوثة لابسته؛ لكن الآنسة «م» مسترجلة الوجه ناشفة النظرات، عريضة الصوت حادة اللفتات؛ وإذا فقد كان هذا القرط في أذنها صارخا يقول بأعلى صوت: ليس هذا مكاني. وكذلك كانت تلبس فستانا للسهرة لم يصنع إلا لسيدة فيها رخاوة الأنوثة ورقتها؛ فهو نشاز على رجل أو من تشبه الرجل، وكان خيرا لهذه الآنسة المسترجلة أن تلبس ثوبا بسيطا وتتحلى بحلي صغير الأجزاء بسيط كذلك.
ثم جاءت بعدها آنسة أخرى تحدثني، هي الآنسة «ن»، راحت تحدثني عن شغفها بتربية الماشية وقد كانت منذ طفولتها تحب رعاية الماشية وهي - كما تقول - محبة للحيوان حبا غير مألوف في أوساط الناس؛ فهي تحب البقر والخيل والكلاب والقطط، وهي تجيد ركوب الخيل وفخورة بكلابها، وعندها قطتان، وقد رغبت بشدة في أن أزور معها مرعى أخيها.
كلتا الآنستين «م» و«ن» واسعة المعرفة بالعالم الخارجي؛ لأنهما سافرتا إلى الخارج عدة مرات؛ ذهبت الآنسة «ن» إلى معظم البلاد الأوروبية كما ذهبت إلى اليابان؛ وكذلك سافرت «م» ابنة الطبيب إلى أوروبا مرات كثيرة، كانت في كل مرة تقضي إجازتها مشيا على قدميها ومتاعها على ظهرها.
نظرت إلى الغرفة التي كنا بها، فوجدتها لا تستلفت النظر بأي شيء غريب فيها، لكني سألت نفسي: هل يمكن أن تجد غرفة كهذه في بيت مصري؟ وكان الجواب: هذا محال؛ لأن ذوق التأثيث مختلف عندنا؛ فعندنا يكون تصنيف الأثاث بين غرف المنزل تصنيفا حاد الفواصل فلا اختلاط في الأمر؛ غرفة الجلوس هي غرفة للجلوس في كل أثاثها، وكذلك غرفة الأكل وغرفة النوم وغرفة المكتب ... لكن انظر إلى هذه الغرفة مثلا، تجد رفوف المكتب على جدرانها، وتجد بها الراديو (الراديو عندنا حسب قواعد تصنيف الأثاث لا يكون في غرفة استقبال الضيوف)، وتجد الكراسي مختلفة أشد اختلاف وكذلك المناضد؛ أما عندنا فالأثاث يشترى طاقما طاقما ... فما معنى ذلك؟ معناه الواضح هو أن هؤلاء الناس يجعلون الأثاث ينمو مع الزمن قطعة قطعة؛ إذ ليس من المعقول أن يشتري صاحب البيت هذه الكراسي المختلفة وهذه المناضد المتباينة كلها في يوم واحد! أما نحن «فنجهز» المنزل عند الزواج تجهيزا كاملا، ثم يتدهور الأثاث مع الزمن.
ومعناه كذلك أن الناس هنا يحتكمون إلى أذواقهم فيما يشترون، ويراعون المكان وما يناسبه؛ وأما نحن «فالجهاز» في واد والمكان الذي يوضع فيه في واد آخر؛ وقد يحدث أن يشترى «الجهاز» قبل أن يعرف أين يوضع ... ولم أذكر شيئا عن التحف الفنية من صور وقطع صغيرة تملأ أرجاء الغرفة؛ الفن والذوق جزء لا يتجزأ من أثاث البيت، وليس هو - كما هي الحال عندنا - شيئا ثانويا يفكر فيه بعد أن يكتمل في الجهاز كذا طاقما من أدوات الشاي وكذا مفرشا للسرير وكذا حشية ووسادة! لماذا لا ننقص المفارش مفرشين لنشتري تحفة؟ لا على أن التحفة «مظهر» بل على أنها بنفس الضرورة التي نشتري بها الكراسي والأطباق؛ لأن المكان الذي نعده بيت لا دكان ... هل رأيت في الدنيا - ما عدا مصر - شيئا اسمه غرفة الضيوف؟ تقفل ولا تفتح إلى حين يأتي الزائرون؟ لماذا ندفع أجرا شهريا لغرفة لا نجلس فيها كل يوم؟
إن المقارنة بين غرفة واحدة هنا ونظيرها في مصر كفيلة أن تظهر الفرق بين حياتين وعقلين ووجهتين للنظر ... إن في هذه الغرفة التي كنا بها دفئا عاطفيا ينم عن الحياة، مصدره كثرة ما فيها مما يعبر عن شخصيات أهلها، بمعنى أنك لن تجد في معرض للأثاث - مثلا - غرفة بهذا التنظيم وهذه المحتويات؛ أما «غرفة الجلوس» عندنا في مصر فلا فرق بين أن يكون طاقمها في المنزل أو في دكان الأثاث، نشتريها من الدكان هكذا، ثم لا نضيف إليها ولا ننقص منها؛ ليس فيها أثر لأهل الدار؛ أعني أنها خالية من علامات الحياة، فلا فرق بين أن يكون في البيت سكان أو لا يكون؛ إنها غرفة بغير تاريخ، لم تتراكم على محتوياتها آثار الزمن إلا بمعنى واحد، وهو أنها جديدة أو بالية؛ إنها غرفة لم تنم مع حياة الأسرة، إنها لم تزد عنها في بدايتها ولم تتطور ولم تتغير، سوى أنها بعد أن كانت تلمع لجدتها انطفأت لمعتها مع القدم؛ إن الغرفة عندنا جزء من «منزل» وليست جزءا من «مسكن» (وأنا أريد أن تعبر هاتان اللفظتان عن الكلمتين الإنجليزيتين:
house
و
home )؛ فهو «منزل» للجسم ينزل فيه، لكنه ليس «مسكنا» تسكن إليه النفس وتهدأ وتطمئن وتستريح.
إذا قلنا إن التفكير الإنساني إزاء العالم نوعان: نوع يفترض أن العالم قد بدأ كاملا ولا جديد فيه إلا أن تتحرك أجزاؤه من مكان إلى مكان؛ ونوع آخر تطوري يفترض أن العالم ينمو ويزداد ويكبر ويحمل في ثناياه آثار الزمن والخبرة والذكريات؛ فإن الغرفة المصرية دالة على عقلية من النوع الأول، والغرفة التي كنا بها مساء اليوم دالة على عقلية من النوع الثاني؛ غرفتنا كعقلنا راكد جامد كقطعة الحديد البارد، وغرفتهم كعقلهم متغير متطور حي؛ غرفتنا صنعتها أدوات النجار فإن دلت على صناعة فهي لا تدل على فن، وأما غرفتهم فقد صنعتها أمزجة تختار وأذواق تنتقي، فلا عجب أن يروي المضيف إلى ضيفه عن أثاثه قطعة قطعة، أين ظفر بها، وما العلاقة في اللون أو في الذوق أو في الشكل بينها وبين القطع الأخرى؛ وأما نحن فلا نستطيع أن نقول عن أثاث بيتنا تاريخا، كل ما نستطيعه هو أن نقول إننا اشتريناه من الدكان الفلاني؛ تأثيث المنازل عندنا أشبه بتأثيث العيادات أو الفنادق أو مكاتب الحكومة، المهم فيه أن يكون هناك كذا مقعدا وكذا منضدة وكذا سريرا وكذا من مفارش وفوط، ونباهي عند «تجهيز» العروس أننا لم ننس من لوازم البيت شيئا ... وكم يحدث عندنا أن يشترى الأثاث دون أن يراه من سيستعملونه؛ إذ قد يسافر والد العروس مثلا إلى دمياط ليشتري «الأخشاب» ... إي والله، جهازنا «أخشاب» يرص بعضها إلى بعض، وتدخل العروس ويأتي الزائرون المباركون، فيفرجونهم على «المعرض»، يفرجونهم على الدكان الجديد الذي افتتحوه ...
ولكن لماذا نعجب والأمر كله مرتبط بعضه ببعض؛ فالزواج نفسه عندنا لا حب فيه؛ إن الزوج لم يختر كما لم تختر الزوجة، المهم في الزواج أن يكون في البيت رجل وامرأة، فإذا كان الرجل ذا دخل معين أو وظيفة معينة، انتهى الإشكال كله، كذلك ينتهي الإشكال بالنسبة إلى الزوجة إذا كانت ابنة فلان وشكلها كيت وكيت ... يقولون: ممن تزوجت فلانة؟ والجواب: من دكتور! يعني أن أي دكتور فيه الكفاية؛ وكذلك يقولون: ممن تزوج فلان؟ والجواب: من بنت فلان! يعني أن المهم هو أبوها وظروفه؛ فهل ينتج عن ذلك إلا منزل يؤثث على أساس الاستغلال وبغير ذوق ولا حياة؟ أقول الاستغلال؛ لأن العريس يريد لنفسه أكبر كمية ممكنة من السلع، فذلك نفسه هو أساس اختياره لزوجته ذاتها ... ليس الزواج عندنا ازدواجا بين قلب وقلب أو اتحادا بين عقل وعقل، بل مزاوجة بين مجموعتين من الظروف.
وأعود إلى غرفة جلوسنا وغرفة جلوسهم، فأقول إن الفرق بينهما هو الفرق الكبير العميق الواسع العريض بين عقل وذوق يبتكران وعقل وذوق يقلدان؛ كل غرفة هنا تحمل طابع أصحابها، فلا تستطيع أن تتنبأ بطريقة تأثيث البيت قبل أن تراه، وأما عندنا فيمكنك أن تحكم على البيت غرفة غرفة كيف أثث؛ لأننا لا نختار بأذواق شخصية، ونترك معظم الاختيار للنجار الذي صنع «الطاقم»، والنجار بدوره ناقل ينسخ ما هو مرسوم في النموذج.
الخميس 7 يناير
كنت في دار الإذاعة اليوم، سألتني المذيعة في حوارها معي حوارا مذاعا: أين قضيت إجازة عيد الميلاد؟ فلما قلت لها إني قضيتها في واشنطن ونيويورك، طلبت مني أن أحدثها - وأحدث المستمعين معها - عما استرعى نظري من خصائص في هذين البلدين الكبيرين.
فقلت: إني أستطيع أن ألخص الخصائص الأمريكية كما شاهدتها في كلمة واحدة هي «الانطلاق»، الانطلاق الذي لا يعرف الحدود بل الذي يتحدى كل الحدود، الانطلاق في كل شيء؛ فإذا كانت الشوارع في بلاد العالم قد حددها العرف باتساع معين، فالشوارع هنا تضرب هذا الاتساع في ثلاثة أمثال أو أربعة؛ وإذا كانت المباني في بلاد العالم قد حددها العرف بارتفاع معين، فالمباني هنا تضرب هذا الارتفاع في عشرة أمثال أو عشرين ... وهذا الانطلاق النفسي من قيود العرف المألوف قد وجد سبيله كذلك في بريق الألوان؛ فالألوان أينما سرت كانت تستوقف النظر، بل كانت تخطف البصر: بريق الأقراط في آذان السيدات، وبريق أربطة الأعناق على صدور الرجال، والجوارب في سيقانهم بألوانها الزاعقة، وبريق الزينات التي علقت في كل مكان بمناسبة عيد الميلاد، وكادت كل سيدة أن تضع على صدرها طاقة من ورد صناعي مزخرف فيه كرات ملونة بألوان صارخة، ثم متاحف الفن، إذا ما دخلت غرفة بها لوحات من الفن الأمريكي كان الأرجح أن أرى ألوانا غاية في السطوع واللمعان ... إذا شئتم فسموا هذا الانطلاق حرية في التعبير عن النفس، حرية لا تكتم نفسها بالضوابط المصطنعة من غير داع؛ يضحك الأمريكي من كل قلبه، فليس هو كالإنجليزي يضحك من رأسه ضحكا مكبوتا؛ ويعبر الأمريكي عن نفسه تعبيرا واضحا في لغة واضحة من غير لف أو دوران.
سألتني المذيعة فيما سألت: لا بد للإنسان في حياته من نسق في الحياة يجري على مبادئه وسننه، هكذا يقولون، فما معنى ذلك؟
قلت لها: هذا الكلام مشكوك في صحته؛ فلا ينبغي أن يكون لأي إنسان نظام معين إلا إذا أراد أن يجعل من نفسه آلة صماء؛ وهنا تجب التفرقة بين حياة الإنسان العلمية وحياته العادية التي تبلغ مداها في الحياة الفنية ... نعم، إنه في الحياة العلمية يجب أن يكون منطقيا صارم المنطق، وبذلك يبني نظاما مسلسل الخطوات؛ أما الحياة العادية فلا بد أن تكون حرة؛ لأن الحياة لدنية تلقائية، ومعنى ذلك أنها حرة فيما تأتي به اللحظة القادمة؛ الحياة لا تعرف النظام الصارم؛ فشجرة الورد لا تحدد نفسها إلا في حدود عريضة، وهي أن تنتج وردا، أما كم وردة تنتج وكم فرعا وكم يكون ارتفاعها، فذلك كله فيه كثير من المفاجأة؛ الحياة في حريتها هذه كالنهر المتدفق، إذا قسنا ماءه وسرعته فذلك على سبيل التقريب، وهناك دائما مجال للاختلاف نحو الأكثر أو الأقل ... الإنسان رغبات، وكل ما يطلب من نظام وتنظيم الرغبات ألا تهدم صاحبها، وبعد ذلك لا بد أن يترك للإنسان حرية التعبير عن هذه الرغبات تعبيرا يقوى حينا ويضعف حينا، ويشذ حينا ويستوي حينا؛ إن في هذا الفرق بين الدول الدكتاتورية والدول الديمقراطية؛ فالدول الدكتاتورية تريد أن تجمد الحياة في «نظام »؛ وأما الديمقراطية فتترك المجال واسعا للاختلاف والتغير، لو كانت الحياة خاضعة لنسق منظم لكانت كلعبة الأطفال التي ترص فيها مكعبات الخشب ليكون منها منزل، فإذا ما رصت المكعبات مرة واحدة تم كل شيء إلى الأبد، ولم يعد مجال لتجديد أو خلق وابتكار.
السبت 9 يناير
من أخبار الفن هذا الأسبوع خبر فيه دلائل كثيرة على الخلق الأمريكي، ومؤداه أن أمريكيا ثريا اشترى ديرا قديما في إسبانيا، بناه الملك ألفونسو السابع عام 1141م في قرية ساكرامنيا، وفك بناء الدير حجرا حجرا (به خمسة وثلاثون ألفا من الأحجار)، وشحنت الأحجار إلى الولايات المتحدة حيث أقيم من جديد عند مدينة ميامي على شاطئ فلوردا، تلك المدينة المشهورة التي يؤمها ألوف إبان فصل الشتاء، وسيتم افتتاح الدير هذا الأسبوع، وسيكون دخوله بأجر قيمته دولاران للشخص الواحد.
أقول إن هذا النبأ دليل على أشياء كثيرة من الخلق الأمريكي: ففيه جرأة التفكير وغرابته، وفيه انتباه إلى الآثار الفنية مع عين تنظر إلى الجانب المادي من الموضوع، وفيه رغبتهم الشديدة في جعل أمريكا تحمل من الآثار الدالة على تقادم الزمن ومر التاريخ؛ لتكون أمريكا ذات آثار تاريخية كسائر البلاد! ... إنني وأنا على سطح عمارة «إمباير ستيت» في نيويورك - وهي أعلى عمارة في العالم بها 102 طابق - ورد على خاطري الفرق بين الأمريكيين والأوروبيين في الأعمال الهندسية؛ فحين أرادت فرنسا - مثلا - أن تقيم دليلا على المهارة الهندسية، أقامت برج إيفل الذي يدل على القدرة لكنه لا يفيد، وأما الأمريكيون حين أرادوا إظهار القدرة الهندسية فقد أقاموا هذه العمارة الجبارة لتفيد وتدر المال.
الأحد 10 يناير
الليلة موعد الكلمة التي سألقيها في جماعة «التوحيديين» عن مبادئ الإسلام؛ و«التوحيديون» جماعة مسيحية تنكر بنوة المسيح لله، وهم قليلون نسبيا في أمريكا بالقياس إلى أتباع المذاهب المسيحية الأخرى، لكنهم مرتقون في ثقافتهم بصفة عامة.
إنني فخور بنفسي فخرا أحسه الآن في دورة الدم وفي التنفس! إنني مليء بالزهو؛ لأنني في محاضرة اليوم عن مبادئ الإسلام قد بلغت - فيما أعتقد - أكمل ما يتمناه متكلم لنفسه في بسط وجهة نظره، وقد بدأت كلمتي بشيء من التحدي، قائلا إنني يا سادة ربيت في ظل الإسلام ونشأت في أحضانه وعلى مبادئه؛ لذلك فربما أكون قد عميت عن نقائصه، وسأشرح لكم الليلة مبادئه، وإني لأعترف لكم بالفضل ما حييت لو تفضلتم بعد كلمتي ففتحتم عيني على النقائص التي ربما عميت عنها، فإن لم تجدوا كان لزاما عليكم - لا أقول أن تدينوا بدين غير دينكم - بل أن تكفوا عن الاستخفاف بديانة يصعب عليكم أن توجهوا إليها النقد والتجريح.
وبعد ذلك فصلت الحديث في المبدأ الأول للإسلام، وهو التوحيد الذي جاء الإسلام به محققا لاستمرار الديانتين السابقتين الكبريين، وهما اليهودية والمسيحية، لكنه صحح أخطاءهما؛ أعني أخطاء الناس في تأويلهما؛ أما اليهودية فالإسلام مثلها يريد أن يكون الله واحدا وحدانية مطلقة غير مشروطة بأي شرط، لكن الإسلام لم يجعل الله - كما جعله اليهود - إقليميا محليا خاصا بشعب معين مختار دون سائر الناس؛ إذ يريد الإسلام أن يكون الله للبشر كافة بغير تفريق.
وكانت المسيحية قد حققت هذا التعميم الإنساني للدين، لكنها من جهة أخرى عددت الله في تثليث، فجاء الإسلام يأخذ بما أخذت به من تعميم بغير تمييز، لكنه وحد الله ولم يثلث.
وبعد إفاضة القول في التوحيد الذي يميز الإسلام، شرحت في اختصار سائر مبادئ الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، مبينا قدر استطاعتي ما ينطوي عليه كل مبدأ من فلسفة وراءه.
وبدأت المناقشة، وهي التي ملأتني زهوا بنفسي؛ فقد هوجمت بأسئلة من كل أرجاء القاعة، فوهبني الله قدرة على الرد السريع لكل سؤال ردا مفحما، حتى لقد قال لي أحد الموجودين إنه يعجب لماذا لم أشتغل بالمحاماة لأكسب ملايين الدولارات؛ لأنه - هكذا قال لي - لم ير في حياته رجلا بهذه السرعة في الإدلاء بالحجة التي تدفع الخصم دفعا.
سئلت عن الإسلام أسئلة شتى: الإسلام والحب، الإسلام والحرب، الإسلام والمرأة ... إلخ إلخ، وكنت دائما موفقا، وكال لي الحاضرون إعجابا وتقديرا، وجاءتني السيدة «ب» - وهي من أكثر الناس أرستقراطية وترفعا - ولبثت تبدي لي من الإعجاب ما ملأني زهوا، كما جاءت السيدة «س» تبدي إعجابها هي الأخرى، قائلة إن طريقتي في رد الاعتراضات التي وجهت كانت معجزة؛ فقلت لها: يا سيدتي ليس في الأمر إعجاز، إنما المسألة كلها هي أن الناس لا يعرفون الإسلام وأنا أعرفه؛ الناس يحكمون على الإسلام دون أن يقرءوا عنه حرفا واحدا ...
رأيي هو أن المسلمين لو أرادوا لدينهم دعاية في البلاد المسيحية، ولا أقصد تبشيرا يثني الناس عن عقائدهم؛ لأن العقائد عندي كلها سواء فيما تؤديه للقلب من إشباع عاطفي، بل أقصد الدعاية التي تجعل الأمم المسيحية تدرك مجرد إدراك أن الإسلام دين في مستوى المسيحية واليهودية، ويزيد عليهما أنه جاء بعدهما فأدرك ما لم يدركاه من سلامة توحيد مع اتساع أفق ليسوي بين البشر أجمعين؛ فأكمل خطة هي أن يبرز متكلمونا أوجه الشبه بينه وبين تينك العقيدتين لا أوجه الاختلاف ... والحقيقة أنها ديانات ثلاث كالأفرع من شجرة واحدة، كلها سامي وكلها يدين بإله هو هو نفسه في العقائد الثلاثة ... فهل يأتي يوم يتآخى فيه البشر بقلوبهم كما أراد لهم الله أن يتآخوا؟
الإثنين 11 يناير
مطر متصل مع جو دافئ؛ جاءني طالب في مكتبي بالجامعة، وهو ممن يحضرون لي محاضرات الفلسفة اليونانية، وهو معيد بالجامعة في قسم الرياضة ... وطلب مني أن يحدثني حديثا خاصا فيما يشغل باله من شكوك دينية؛ جلس والقلم الرصاص على ظهر أذنه كما هي حاله دائما، والسيجارة في فمه.
قال: أنا لا أومن بالمسيحية؛ فقلت له: وماذا تريدني أن أصنع لك في هذا؟ قال: إما أن تؤيدني في شكي هذا، أو أن تهديني فلسفيا إلى الطريقة التي يمكن بها أن أقتنع وأومن بهذا الكلام الفارغ الذي يقولونه في الكنائس ... فأخرجت له قطعة من الورق، ورسمت خطا يقسم الورقة قسمين، وكتبت له في قسم منهما كلمة «وجدان»، وفي القسم الآخر كتبت كلمة «منطق»، وقلت له: اسمع، الكلام الذي يقوله الناس قسمان: قسم يخضع للمنطق وهذا تجوز فيه المناقشة؛ وقسم يخضع للوجدان والمشاعر والذوق وهذا لا تجوز فيه المناقشة، فإذا قرأت عن المسيحية وسمعت عنها فتأثر قلبك واهتزت مشاعرك فاعتقد فيها، وأما إذا فعلت ولم تتأثر فلا تعتقد، وليس لمخلوق عليك من سلطان؛ لأنك قد سمعت ما يقولونه فلم تتأثر، إذا فقد انتهى الإشكال.
قال: لكن لموقفي هذا نتائج كثيرة؛ قلت: ماذا؟ فقال: إني خاطب، والناس هنا متزمتون في الدين، فأول زيارة زرتها لأسرة خطيبتي في الريف، واجتمع أهلها معي على عشاء، دار الحديث كله تقريبا على حسرتهم العميقة؛ لأن واحدة من أسرتهم البروتستانتية ستتزوج من شاب كاثوليكي، واعتبروا فتاتهم هذه في حكم من ماتت ... فلما خلوت إلى خطيبتي قلت لها: اسمعي، إني لا أومن بالمسيحية كلها من أولها إلى آخرها، فانظري في أمرك وقرري؛ ومنذ ذلك اليوم ونحن في جدل كل يوم، خصوصا ما نريده لأطفالنا حين يكون لنا أطفال؛ فأنا مصمم على أن يكون الاتفاق صريحا منذ الآن ألا ينشأ أطفالي على خرافات دينية فارغة، بل يتركون حتى يشبوا، ولهم أن يختاروا لأنفسهم بعد ذلك ما شاءوا؛ وأما هي فمصممة على أن نكون مسيحيين قبل كل شيء.
قلت له: إذا استمر الخلاف بينكما على هذا النحو، فهل يؤدي إلى فسخ الخطبة؟ فقال: لا، لا أظن ذلك؛ لأننا نحب أحدنا الآخر، لكني لا أريد التساهل في هذه الأمور منذ الآن؛ إنها امرأة ككل النساء تريدني أن أصحبها إلى الكنيسة وأنا لا أحب ذلك؛ فالمرأة لا تحب أن تذهب إلى الكنيسة وحدها، وهي تقول لي: واجبك أن ترافقني إلى الكنيسة يوم الأحد لأستمد منك القوة، فأجيبها بقولي: كيف أمدك بما ليس عندي؟ إنني غير معتقد، فكيف أبث فيك العقيدة؟ ... وقد أردت التفريج عن كربها مرة، فذهبت معها إلى الكنيسة، فما ازددت إلا نفورا؛ لماذا أذهب لأسمع رجلا يتكلم دون أن تكون لي فرصة مناقشته فيما يقول؟ ما معنى أن يتكلم هو وأنا أسمع؟! فقلت لخطيبتي بعد خروجنا: هذه أول مرة وآخر مرة في حياتي أدخل الكنيسة فيها بصحبتك.
السبت 16 يناير
إن كل ما أقرؤه هنا عن مصر يحز قلبي حزا، وإني لأتمنى للمصريين أن يغتربوا واحدا واحدا، ليقرءوا عن مصر في غربتهم فتحز نفوسهم، ثم يعودون لعلهم يصنعون شيئا في سبيل الثورة على أنفسهم ثورة لا تبقي من القديم شيئا ولا تذر ... فقد قرأت كتابا عنوانه «حيث يلتقي النهر بالشارع الرئيسي» لكاتب اسمه «هودنج كارتر»؛ وهو كتاب أقرب جدا إلى مذكرات، وفيها ذكرياته أيام أن كان في مصر إبان الحرب؛ كتب ذكرياته عن مصر تحت عنوان «تلفون الهرم 5664»، ووصف وصفا تفصيليا ليلة دعاهم فيها أعرابي اسمه ... وقد كتب على بطاقته التي أرسلها إلى المدعوين أنه يبيع الجمال ويؤجرها للركوب أو للإخراج السينمائي ... كان المدعوون خمسة عشر، معظمهم ضباط أمريكيون وفيهم بولنديان ونيوزيلندي ... انتظرتهم الجياد عند الهرم وركبوا نحو خمسة أميال في الصحراء إلى حيث خيام الشيخ ... دخلوا الخيمة الأولى حيث ينتظرهم الوسكي في كثرة أذهلت الأمريكي! وراح الكاتب يصف السجاد الفاخر الذي فرشت به الخيمة، ثم انتقلوا إلى خيمة مجاورة حيث مائدة العشاء؛ وهنا أخذ يصف الأصناف قائلا إن المائدة كانت تحمل ثلاثين صنفا على الأقل؛ ففي وسط المائدة خروف محمر بأكمله، تحف به صفوف من الدجاج والسمك واللحم المشوي، وأكوام من الفاكهة، وأطباق لا عدد لها من كذا وكذا ... وبينما هم يستعدون للرحيل بعد العشاء مرت فرقة من البوليس الإنجليزي رئيسها جاويش، وهنا يصف الأمريكي كيف أهان الجاويش الإنجليزي الشيخ ... وطلب منه رخصته التي تبيح له أن يقيم الحفل - وكما يقول الكاتب - «كأنما الأرض ليست وطنا للشيخ ... وآبائه وأجداده قبل أن يسمع الجاويش وآباؤه وأجداده شيئا اسمه مصر!» ... يقول الكاتب: كرهنا من الجاويش أن يعامل مضيفنا في حضورنا هذه المعاملة المهينة، فأسر النيوزيلندي الذي كان معنا في أذن الجاويش شيئا، فانصرف ... ويمضي الكاتب قائلا: إن القوات الأمريكية أقامت بعد ذلك حفلا للعشاء دعي إليه الضيوف أنواعا وأشكالا وألوانا، وكنا على علم سابق بهذا الحفل، فوعدنا الشيخ ... أننا سنرسل إليه الدعوة إلى العشاء ليلتئذ، وقبل الرجل مسرورا، لكن - لسبب لا أعلمه - رفضت السلطات الأمريكية توجيه الدعوة إلى الشيخ ... مع أننا أبلغنا أولي الأمر كم كان الرجل كريما في دعوته لخمسة عشر ضابطا منا ... ثم يختم الكاتب هذا الجزء من ذكرياته في مصر قائلا: «لما قرأت بعد ذلك بثمانية أعوام عن حرق القاهرة، حرق الأماكن التي طالما ارتدناها، والتي ظن الغربيون أنها ملكهم المقدس، حرق فندق شبرد ونادي تيرف وبنك باركليز وجروبي - ذلك المكان العظيم فيما يقدمه من مثلجات - وسائر الأماكن التي يمتلكها الأجنبي الذي ذهب إلى مصر لينتفع ثم يشمخ بأنفه، لا ليفيد البلد الحزين وينقذه؛ لما قرأت عن التخريب الأهوج الذي حدث، تذكرت الشحاذين الذين ألقى بهم التيفوس صرعى في مواخير القاهرة، وتذكرت جاويشا إنجليزيا على ظهر جواده، وتذكرت صحراء جرداء لا تنتج قمحا، وتذكرت ثلاثين صنفا من الطعام في خيمة مفروشة بفاخر السجاد، وتذكرت دعوة (للشيخ ...) رفض إرسالها أولو الأمر، فلم أكن بعد هذا كله بحاجة إلى سياسي يحلل لي أسباب الجنون الذي أحرق القاهرة.»
الفصل الخامس
من الجنوب إلى الغرب
نيوأورلينز: الإثنين 25 يناير
وصلت صباح اليوم إلى نيوأورلينز، وهي مدينة ذات طابع خاص تختلف به عن سائر مدن الولايات المتحدة جميعا، وطابعها ذاك إنما يستمد معظمه من وجود الحي الفرنسي بها؛ فقد كانت تابعة للفرنسيين قبل أن تشتريها الولايات المتحدة من فرنسا في أول القرن التاسع عشر، فبقيت بها إلى اليوم روح المدن الفرنسية مما جعلها مختلفة متميزة، بل جعلها مقصدا لألوف الزائرين، حتى ليقال إنها المقصد الثاني للزائرين في الولايات المتحدة كلها، لا يفوقها في عدد الزائرين إلا نيويورك.
لم أكد أصل المدينة حتى أسرعت إلى الحي الفرنسي لأنفق في ربوعه أكبر وقت ممكن من مدتي القصيرة التي سأقضيها في هذا البلد، فسأقضي به يوما واحدا بغير ليلته ... واجهات المباني في هذا الحي تبرز منها الشرفات، ويصطف على طولها أعمدة خشبية، وتزخرف حوافيها إطارات من خشب، وهي أشياء لا وجود لها في أمريكا بأسرها؛ لأن البيت الأمريكي المألوف الشائع مصنوع من خشب على هيئة ما نسميه بالفلات في ضواحي القاهرة ... وكذلك تختلف نيوأورلينز عن سائر المدن الأمريكية بضيق شوارعها؛ فهي في ذلك كله مدينة أوروبية قديمة.
سرت في الشارع الرئيسي في هذا الحي الفرنسي - وهو شارع رويال - فرأيت على جانبيه الدكاكين السياحية؛ فليس ما يباع هنا سوى التحف والتماثيل والصور وقطع الأثاث القديم وهكذا، حتى المكتبات في هذا الشارع مهتمة بالكتب القديمة.
ومدينة نيوأورلينز بصفة عامة تفوح برائحة المواني الكبرى؛ فهي ليست نظيفة، وتشم فيها رائحة البحر المنعشة، يخترقها نهر مسسبي عند مصبه في خليج المكسيك، ومع ذلك فهي بعيدة عن الخليج نفسه بما يساوي ساعة ونصف ساعة بالسيارة؛ ونهر المسسبي عريض جدا عند مصبه، ويشبه أن يكون جزءا من البحر؛ والميناء مليئة بالبواخر الكبيرة، وقد علمت أنها الميناء الثانية في أمريكا كلها، تفوقها ميناء نيويورك وحدها، ووقوعها عند مصب المسسبي هو الذي أضفى عليها أهميتها؛ لأن المسسبي طريق رئيسي يصل البحر بداخل القارة إلى مسافة بعيدة.
بعد أن جلت وحدي جولة واسعة في أنحاء نيوأورلينز استنفدت ساعات الصباح كلها حتى وقت الغداء، تغديت ثم اتصلت فورا بالتلفون بالسيد «ف» الذي أعطاني عنوانه الدكتور «ب» وزوجته في كولمبيا، وأوصياني أن أتصل به؛ لأنه خير من يطلعني على خفايا نيوأورلينز وروحها المتميز، كما أنهما أرسلا خطابا إلى صديقهما هذا ينبئانه بموعد قدومي.
دعاني إلى منزله، ومنزله في الحي الفرنسي، فذهبت ... ضغطت على جرس الباب الخارجي - وعلى الباب صف طويل من الأجراس كتب أمام كل منها اسم ساكن من السكان - فجاءني رد الجرس صوتا يشبه صوت التلفون، فرجحت أن تكون هذه علامة تدلني على أن الباب الخارجي قد انفتح، فدفعت الباب ودخلت إلى حديقته الضيقة المرصوفة بالبلاط الكبير القديم، وسرعان ما خرج السيد «ف» يستقبلني، وسرعان ما عرفت أنه هو مالك البيت، وأنه قد قسمه شقات للإيجار، وسكن هو في الطابق الأرضي من البناء.
كانت المنازل في الحي الفرنسي قد آلت إلى ما يشبه الخراب؛ فصدر أمر من حكومة الولاية - ولاية لويزيانا - منذ عشرين عاما يحرم هدم المنازل الفرنسية الطراز؛ احتفاظا بهذا الطابع التاريخي للمدينة، الذي يجعل منها مدينة تختلف عن سائر المدن، فتجعلها بالتالي مقصدا للزائرين ... ومنذ صدر ذلك القانون، أخذ الحي الفرنسي في الانتقال من طور إلى طور؛ إذ تنبأ له ذوو البصيرة النافذة أنه سرعان ما يكون المكان الممتاز من أحياء المدينة كلها، وأقبل أصحاب الأموال يشترون بيوته ويجددونها بحيث يحتفظون لها بطرازها الفرنسي في كل شيء، وهو الآن حي الطبقة الممتازة بمالها أو بثقافتها.
ومضيفي السيد «ف» من هؤلاء الذين استغلوا أموالهم في تجديد منازل الحي الفرنسي؛ وإذا فالبناء فرنسي الطابع، أحاطه بحديقة صغيرة، نباتها كله أخضر، فليس فيها زهرة واحدة ذات لون آخر، واحتفظ على أرض الحديقة بالبلاط القديم، وبنى سور البيت من الطوب الأحمر الذي كان في البناء قبل تجديده، وأبقى في الأبواب والحواجز الحديدية نفس الأجزاء الحديدية التي كانت في البناء منذ العهد الفرنسي (كانت نيوأورلينز مدينة إسبانية قبل أن تكون فرنسية، ثم انتقلت من فرنسا إلى الولايات المتحدة عن طريق الشراء سنة 1803م)، وأنبأني السيد «ف» أنه جعل نبات حديقته أخضر كله؛ لأن الشمس لا تطل على الفناء المزروع إلا فترة قصيرة بحيث لا يمكن إنبات الزهور؛ وقد وضع هناك مجموعتين من مقاعد حول منضدتين، وطلاها جميعا باللون الأبيض، فجاء هذا البياض إلى جانب اخضرار النبات بالأثر المطلوب، وأصبح المنظر غاية في الروعة.
وبعد ذلك أدخلني شقته في الطابق الأرضي، فإذا هي غرفة واحدة ألحق في أحد أركانها دورة للمياه، وفي ركن آخر مطبخا لا يسع أكثر من شخص واحد واقف على قدميه؛ وفي الغرفة بعد ذلك كل ما يتطلبه الإنسان من سرير ومكتب ومنضدة وصوان ومكتبة.
وبعد قليل خرجنا معا لنطوف بالحي الفرنسي ... إن السيد «ف» هذا يعرف تاريخ كل عمود وكل نافذة وكل باب في الحي الفرنسي؛ فقد وقف بي عند عدة منازل مجددة ليشرح لي كيف كانت وكيف أصبحت، والقاعدة العامة في هذه المباني ألا ترى من خارج البيت إلا واجهة ذات شرفة، فإذا دخلت وجدت في الداخل فناء به حديقة جميلة؛ واللون الأخضر الغامق هو الغالب على جميع الحدائق المنزلية.
السيد «ف» من أهل الجنوب، أصله من ولاية ألاباما - التي تقع بين ولايتي جورجيا ولويزيانا - ولذلك تراه يتحمس للجنوب كأهل الجنوب جميعا ... قال لي في موضوع الكراهية الدفينة بين أهل الجنوب وأهل الشمال: إن سببها هو أن الشمال حين انتصر في الحرب الأهلية مع الجنوب اتخذ إزاء الجنوب موقف الظافر المنتصر، وضم الجنوب إليه كما يضم البلد الذي غزاه غزاة من الخارج، لا كما يضم جزء من البلاد إلى سائر الأجزاء، مع أن الجنوب كان أغنى من الشمال، وهو الآن ناهض نهضة سريعة، وله أمل كبير أنه سيستعيد تفوقه على الشمال.
مررنا ببناء كبير - هو الآن مدرسة - فقص علي السيد «ف» عن هذا البناء قصة لطيفة؛ فقد كان ديرا، وحدث أن كان الفرنسيون وهم ينشئون مستعمرتهم هنا أكثر رجالا من نسائهم؛ فأرسلوا إلى حكومتهم في فرنسا يطلبون النساء ليتزوج منهم رجال المستعمرة؛ حتى لا يندثر الفرنسيون هنا، فأرسلت الحكومة الفرنسية عددا من البنات استطاعت جمعهن وإغراءهن بالسفر، وأمدت كل واحدة منهن بثياب العرس، وأرسلتهن إلى نيوأورلينز، فلما جئن هنا نزلن في هذا الدير تحت حراسة الراهبات حتى يتم لقاؤهن مع الرجال، ويتم اختيار الأزواج للزوجات ... سمعت ذلك من السيد «ف» فقلت له: ما أجدر هذا بأديب يتناوله لينشئ على أساسه قصة جيدة!
نيوأورلينز مليئة بالشخصيات الأدبية الهامة في الأدب الأمريكي؛ فقد مررنا على المنزل الشتوي للسيدة كيز وهي من طليعة أدباء القصة في أمريكا، وفي هذه المدينة عاش أديب الأمريكيين الأكبر «فوكنر» الذي نال جائزة نوبل في الأدب منذ حين قريب، وفيها يعيش الآن «تنسي وليمز» صاحب كتاب «مركبة للترام اسمها دزاير» الذي أخرجته السينما منذ قريب، وكانت له ضجة كبرى لما أحدثه من ابتكار في الإخراج والتمثيل؛ وحوادث القصة تدور في هذه المدينة: مدينة نيوأورلينز.
سرنا معا إلى ميدان رئيسي اسمه ميدان جاكسن، تملأ فضاءه حديقة مربعة؛ وللميدان ضلعان متقابلان، ينهض على كل منهما بناء واحد ضخم بني بالطوب الأحمر، وصاحبة البنائين عند أول إنشائهما هي البارونة بونتالبا الإسبانية؛ فقد أقيم البناءان في عهد الإسبان، وهما أقدم بناءين في أمريكا بأسرها من المباني ذوات «الشقق» الإيجارية، وضلع ثالث من أضلاع الميدان به كاتدرائية جميلة البناء بسيطة، يجاورها عن يمين ويسار بناء ضخم قديم، وكان كلا البناءين مقرا للحكومة الإسبانية أيام أن كانت هذه الأرض مستعمرة إسبانية ... وأما الضلع الرابع من الميدان فجانب مكشوف على نهر المسسبي، غير أن النهر نفسه لا يظهر من الميدان، وعليك أن تخترق خطوط السكة الحديدية وتدور حول مخازن المحطة لتجد نفسك واقفا في الميناء الكبير على هذا النهر العريض الفسيح.
رأيت في ميدان جاكسن - على رصيف الحديقة الوسطى - رسامين فنانين عرضوا رسومهم مسندة على جانب الحديقة ومسطوحة على الأرض، مما يذكرك بزملائهم على ضفة السين بباريس ... رأيت ثلاثة منهم يرسمون «الزبائن»، جلست سيدة أمام أحدهم وسيدة أخرى أمام آخر، ورجل أمام ثالث ... الفن مذل حين يهوي إلى الشوارع، فما أشبه الفنان - وقد جلس أمامه الزبون على الطوار - بحلاقي الأرصفة في بعض ربوع القاهرة! الفن مذل حين يوشك أن يتخذ وسيلة للسؤال: حين يعزف الموسيقي أمام المقاهي طلبا للعيش، أو يغني المغني في مثل هذه الظروف أو يرسم المصور ... كرامة الفن في أن يكون التقاؤه بكسب العيش التقاء عارضا.
ويطل على الميدان مقهى على النظام الفرنسي - أو المصري أحيانا - قديم قدم العهد الفرنسي، واحتفظ به حتى الآن ليزيد المدينة طابعا، وهو مفتوح نهارا وليلا لا يغلق أبوابه ساعة واحدة ... جلسنا هناك أنا والسيد «ف» وشربنا القهوة مرة بعد مرة.
هنا ونحن جالسان على ذلك المقهى بدأ حديث ممتع بيني وبين السيد «ف»، سأثبت من تفصيلاته ما استطعت تذكره؛ لأنه بغير شك صورة لأمريكي قد يكون ممثلا في وجهة نظره وفي روحه وفي مزاجه لكثير من الأمريكيين.
قص علي طرفا من تاريخ حياته؛ فقد اشترك في الحربين (ولو أنه يبدو أصغر من ذلك بكثير)، وهو متخرج في إحدى جامعات الشمال حيث تخصص في فن العمارة، وبدأ حياته معدما لا يملك مليما واحدا، لكنه ادخر وادخر، وحرص على ماله، حتى أصبح له الآن هذا البيت الذي رأيته وقيمته مائة ألف من الدولارات، وله منه دخل يضمن له العيش المريح حتى لو لم يعمل شيئا مربحا بعد ذلك.
أخذ يوجه النقد الشديد للأمريكيين بصفة عامة في بعثرتهم لأموالهم قائلا في انفعال شديد: إنه لا بد من التفرقة بين «الاستثمار» و«الإنفاق»؛ ففي مستطاع الإنسان أن يعود نفسه على إنفاق ماله في مقتنيات تغل المال بدورها، فلا يضيع المال هباء؛ فلا ينبغي - في رأيه - أن ينفق مال إلا فيما يعود بمال.
ليس لهذا السيد «ف» سيارة، وهو الذي يطبخ لنفسه طعامه، وينظف لنفسه مسكنه بالرغم من ثرائه هذا، ويدهش لهؤلاء الذين يزودون بيوتهم بالثلاجات والأفران والغسالات الكهربائية، بل يزودونها بآلة غسل الأطباق، مع أنهم يشترون هذه الأشياء كلها بالتقسيط، وإذا فالأمريكي المتوسط مطالب بأقساط شهرية جسيمة قد لا يحتملها من أجل أن تكون له هذه الأدوات؛ فبالله عليك - هكذا وجه إلي السيد «ف» الحديث - أي عقل في الدنيا يجيز لأسرة مكونة من زوجين بغير أطفال أن تكون لديها غسالة كهربائية للأطباق؟
وهنا انتقل بحديثه إلى الرئيس روزفلت، وكيف أنه أنزل الخراب على أمريكا؛ لأنه كان رجلا يميل إلى الاشتراكية؛ فلكي يغري الناس بالتصويت له، أخذ يعدهم ويتورط في وعوده بأن الحكومة ستعمل كذا وكذا، حتى عود الناس تدريجا على أن العبء إنما يقع على الحكومة لا على الأفراد، مع أن الحياة الصحيحة - في رأيه - هو أن يكون كل إنسان نفسه كما فعل هو.
وانتقل الحديث إلى الزواج، قال إنه كان متزوجا، أما الآن فلو عرض عليه الزواج من أغنى وأجمل امرأة في الدنيا لرفض ... قال: إنني الآن حر كالهواء، أقرأ إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل إذا أردت، أسافر حين أريد وأقيم حيث أريد ... إن مديرا لجامعة من أكبر وأهم جامعاتنا قد ألقى خطبة منذ قريب في الطلبة الخريجين، فقال لهم في صراحة غريبة إن ستين من كل مائة شخص - رجالا ونساء - لا يصلح بطبيعته للزواج؛ ولذلك لا ينبغي لهؤلاء أن يورطوا أنفسهم في النظام الزوجي ... ويمضي السيد «ف» فيقول: إنني توقعت أن تقوم الجرائد بضجة كبرى ردا على هذا الحديث الخطير من مدير جامعة مهمة، لكني عجبت إذ قابلته الصحف كلها بالصمت، وربما كان ذلك لأنها لم تدرك مدى النتائج المترتبة على قوله هذا، فمما يترتب عليه من نتائج - وهي نتيجة كانت بالطبع في ذهن المدير الجامعي وهو يلقي خطابه - أن هؤلاء الستين في كل مائة، الذين لا يصلحون للحياة الزوجية، لا بد بطبيعة الحال ألا يهملوا غرائزهم الجنسية، وإذا فلا مندوحة من قيام علاقات جنسية غير مشروعة من وراء ستار ...
قال لي السيد «ف» بعد حين: تعال معي أطلعك على نموذج من الأماكن التي تستخدم للجلوس في الصيف، والتي تقوم عندنا مقام المشارب التي قلت لي عنها إنها موجودة في باريس وفي القاهرة ... وأخذني إلى بناء تدخل فيه إلى حديقة فنائه؛ الحديقة جميلة، وكلها نبات أخضر؛ أعني أن ليس بها زهر مختلف اللون إلا صفا واحدا من زهور كبيرة حمراء ... وكان إلى جانبنا جماعة من الشباب يضحكون ويضحكون في صوت عال ومرح ظاهر؛ فقلت للسيد «ف»: هذه جماعة من الغرباء ويستحيل أن يكونوا من أهل هذا البلد؛ فقال: لا ريب في هذا ... قلت: إني عرفت ذلك من الضحك الذي يضحكونه والصخب الذي يصخبونه؛ فقال: أما أنا فقد عرفته من نوع الشراب الذي يشربونه، فهم يشربون ما لا يشربه أهل نيوأورلينز.
وتحدثنا بعد ذلك حديثا طويلا طليا عن الخلق الأمريكي، كان السيد «ف» في معظم الأحيان يتكلم وأنا أسمع، فوجدته يقول أشياء تتفق حرفا بحرف مع مشاهداتي؛ فقد حدثني عن مسارعة الأمريكي إلى نسبة نفسه إلى أصله الأوروبي، فيقول مثلا إنه إنجليزي أو ألماني أو إسباني ... إلخ، والسيد «ف» يتهم بذلك أهل الشمال وحدهم، مع أني لاحظت المشاهدة نفسها في الجنوب كذلك؛ وهو يعتقد أن أهل الجنوب أعرق حسبا وأعمق تأمركا من أهل الشمال؛ ففي الشمال أسرات كثيرة جدا لم يمض عليها في أمريكا أكثر من جيل واحد أو جيلين، فلا عجب أن يظل أصلهم الأوروبي عالقا في أذهانهم.
ومما لذ لي سماعه من السيد «ف» تحليله التفصيلي لعلاقة الأمريكيين بالإنجليز من حيث المشاعر الحقيقية؛ فقد زعم لي أنهم يمقتون الإنجليز مقتا شديدا، كما أن الإنجليز يكرهونهم، على الرغم من كل هذا الرياء والنفاق، ويقول: لا عجب؛ فنحن نمقتهم لأنهم يستخفون بنا، ويظنون بنا السذاجة والتفاهة والحداثة؛ وهم يكرهوننا لأننا أول من بدأ لهم طريق التدهور؛ فالثورة الأمريكية هي الفصل الأول من انحلال الإمبراطورية البريطانية؛ إن البريطانيين - في رأي السيد «ف» - يتصفون بالبلادة والكسل؛ جاءت إلى أمريكا أثناء الحرب سيدة إنجليزية، ورأت عندنا أكداسا من البصل، فأشفقت على نفسها وعلى أمتها وبكت، قائلة إن البصل هنا مكدس كأنه أكوام من الحصى والتراب، ونحن في إنجلترا لا نكاد نجد بصلة واحدة ... لكن أحدا من الحاضرين لم يعطف عليها رغم بكائها، فلماذا لا يزرعون ما شاءوا من البصل وغير البصل في أرضهم التي يتركونها بغير زرع؟ لقد كنت في الجزء الأوسط من إنجلترا إبان الحرب ورأيت فدادين الأرض بعد فدادينها متروكة بغير زراعة؛ ذلك لأن الإنجليز يريدون من الشعوب الأخرى أن تمدهم بالطعام كما تمدهم بأدوات الحرب؛ إنهم لا يريدون أن يعملوا، بل هم ينتظرون من غيرهم أن يعمل من أجلهم؛ نحن مختلفون عن الإنجليز اختلافا أساسيا جوهريا؛ فهم يجعلون الأهمية الاجتماعية لصاحب الحسب والأصل؛ ونحن نجعل الأهمية لصاحب العمل والإنتاج؛ المهمون في تاريخنا وفي مجتمعنا هم روكفلر وروتشيلد وأضرابهما من الرجال، لا اللورد فلان ولا الإيرل علان؛ فالأساس مختلف عندنا عنه عندهم؛ إنه لو زارتنا ملكة الإنجليز - مثلا - فيستحيل أن تجد أمريكيا واحدا ينحني لها؛ لأننا لا نحني ظهورنا لأحد كائنا من كان، بل قد نجد الأمريكي الأصيل البسيط يرحب بها مبتسما قائلا: أهلا يا ملوكة! كيف الحال؟
واستطرد السيد «ف» يقول: قد تدهش لما سأقوله لك الآن لكنه صحيح؛ فنحن أقرب إلى الألمان في روحنا منا إلى الإنجليز؛ ففي أيام الحرب، وعلى الرغم من الحرب بيننا وبين الألمان، كان الأمريكي لا يشعر في ألمانيا أنه غريب بقدر ما يشعر بالغربة في إنجلترا؛ لأن البيت العادي في ألمانيا والحياة العادية فيها هي نفسها الحياة التي تعودها الأمريكي في بلاده؛ فالشوارع عريضة ونظيفة، وفي كل بيت ثلاجة كهربائية وغسالة ... إلخ، فلما ذهب جنودنا إلى ألمانيا وجدوا هذه الأشياء في البيت الألماني، فوجدوا الصورة التي ألفوها في بيوتهم؛ وكذلك وأهم من ذلك، وجدوا استعدادا عند الألماني أن يعمل، وهذا هو فهم الأمريكي للحياة؛ أما في إنجلترا فلم نجد عندهم طعاما ولا وجدنا في بيوتهم شيئا من المعدات الحديثة، ولا رأينا الطرق وتخطيط المدن على الطراز الحديث، ثم ما هو أهم من ذلك كله، وجدناهم شعبا يريد أن يستريح على حساب عملنا نحن وعمل غيرنا من الشعوب ... إني أحب لك أن تقرأ كتابا قيما في هذا الموضوع لكاتب اسمه
James Truslo Adams
وعنوانه «الأمريكي»؛ ففيه يحلل هذا الكاتب ما بيننا وبين الألمان من قرابة نفسية وروحية، وكيف نبعد عن الإنجليز ونختلف عنهم ... كان لي صديق بكباشي في الجيش الأمريكي أيام الحرب، أرسل إلي خطابا وهو لم يزل محاربا في ألمانيا، فلم يتردد حتى في تلك الظروف أن يمجد لي الألمان بكل قلبه؛ فهم بمجرد هزيمتهم انصرفوا فورا إلى الأرض يزرعونها وإلى الحياة ينشئونها، قل لي بربك: لماذا كان الإنجليز بغير طعام ولم يزرعوا أرضهم؟ كنت تعبر بحر المانش آتيا من إنجلترا إلى فرنسا، فترى الناس يزرعون ويملئون أسواقهم بالطعام، ثم تعود فتعبر البحر إلى إنجلترا فلا ترى إلا قلة في الخيرات وكثرة في الصلف والكبرياء!
وانتقل السيد «ف» إلى الحديث عن الفكر الأمريكي الخاص بهم من أدب وفلسفة، فقال: إنهم ليسوا مجرد أتباع مقلدين؛ فأين في آداب العالم شبيه ب «إدجر ألن بو» أو ب «إمرسن» ... إن الذي خلق منا شعبا هو أعظم شعب شهده التاريخ، هو أننا صفوة من عدة شعوب، فكأنما خرجت من هذا المزيج عجينة فيها أحسن ما في الأجزاء كلها؛ هذا إلى أننا بدأنا تاريخنا من نقطة البداية، فلم يكن وراءنا تقاليد بالية تعوقنا وتعطل سيرنا، وليس بيننا تفاخر بالأسر مما يكون من شأنه أن يعرقل مساواة الفرص أمام الجميع.
عدنا إلى منزل السيد «ف» ليغير ثيابه استعدادا للعشاء الذي تفضل فدعاني إليه، وهناك أطلعني على كتاب لم يكن يعلم أني قرأته، هو كتاب «ثورة الجماهير» للكاتب «أورتيجا إي جاست» ... قال: إن غاية هذا الكتاب هي أن يبين كيف نما وعي طبقات الشعب بنفسها؛ فقلت له: إن في ذلك رائحة ماركسية؛ فقال: وهل كل ما قاله ماركس خطأ؟ لقد أعجبني من روزفلت مرة أنه قال في إحدى خطبه - وكنا لا نزال عندئذ في قتال مع إيطاليا: إن موسوليني بطل حقيقي وإيطالي عظيم لكن إلى حد معين من مجرى حياته، غير أنه جاوز ذلك الحد فبدأ الخطأ ... ومضى السيد «ف» في كلامه فقال: إنك تستطيع أن تقول شيئا كهذا عن ماركس وأضرابه ممن يأتي خطؤهم من تجاوز الحدود.
كان حديثي مع السيد «ف» على مائدة العشاء يدور حول بعض الأدباء الأمريكيين المحدثين والمعاصرين، خصوصا من استمدوا إلهامهم من «نيوأورلينز»؛ فكان ممن ذكرهم «مرغريت متشل» كاتبة «ذهب مع الريح»، قال: إننا جميعا هنا كنا نعرف القصة - يقصد الحوادث الحقيقية التي بنيت عليها القصة - ونعرف المناظر، ومعظمها في مدينة أتلانتا (بولاية جورجيا) ... دهشت حقا حين رأيت الحماسة والانفعال الذي يتكلم بهما السيد «ف» كيف أن رجال السينما قد صفعوا الجنوب صفعة قوية على وجهه حين لم يقع اختيارهم على ممثلة من أهل الجنوب لتقوم بالدور الرئيس في «ذهب مع الريح»، فما دامت القصة كلها والكاتبة وكل شيء ينتمي إلى الجنوب، فلماذا لا تقوم بالدور الرئيسي ممثلة من الجنوب؟ ألأن الجنوب لم يخرج ممثلات من أبرع الممثلات؟ ألم يخرج الجنوب فلانة وفلانة وفلانة وهن جميعا من الصف الأول بين ممثلات العالم براعة وقدرة؟ لكن أهاننا القائمون بصناعة السينما، ولكي يستروا هذه الإهانة الكبرى جاءوا بممثلة أجنبية، فلا هي من الجنوب ولا هي من الشمال (هي فيفيان لي الإنجليزية) ... هذا فضلا عن خديعتهم للكاتبة مرغريت متشل حين أعطوها خمسة وسبعين ألفا من الدولارات، ولما كانت المسكينة لا يهمها المال أبدا ولا تفكر فيه لم تناقشهم الحساب، وأخذت ما أعطوها إياه، مع أن هذا الفيلم السينمائي كان ينبغي ألا يقل أجر كاتبه عن مليون دولار ... هنا أبديت دهشتي من ضخامة المبلغ قائلا: مليون دولار؟! فقال: معلوم! لم لا؟ نعم مليون دولار، إن «تنسي وليمز» قد أخذ ربع مليون في كتابه «مركبة الترام المسماة دزاير» ... ألا تعلم أن «ذهب مع الريح» هو أعظم فيلم أخرجته هوليوود في حياتها الفنية جميعا؟
وانتقل السيد «ف» بحديثه إلى نقد الأمريكيين في جهلهم بالعالم الخارجي، فقال: إن تعليمنا ناقص؛ فالأمريكي يوشك ألا يعرف عن العالم الخارجي شيئا، وكل أمريكي يتوهم أن ما في أمريكا من أشياء إنما هي منقطعة النظير في العالم، تراهم في جهل وسذاجة يفخرون بضخامة دليل التلفون في مدينة نيويورك، مع أنني لما ذهبت إلى باريس وجدت دليل التلفون هناك ضعف هذا الحجم ... الأمريكي يفخر فخر الأطفال بضخامة الحجم، فتراه يقول إن ارتفاع العمارة عندنا هو كذا طابقا، واتساع الشوارع كذا مترا، وننتج من السيارات كذا ألفا ... وهكذا.
هنا رددت عليه مدافعا عن العقل الأمريكي - وجزء من الدافع أن أرضيه - فكان ينصت إلى ثنائي على الأمريكيين في نبوغهم وقدرتهم، وعلى فمه ابتسامة الفرح وفي عينيه لمعة الزهو.
مشينا قليلا بعد العشاء في شارع كانال الذي هو أوسع شارع تجاري في أمريكا بأسرها، وبالطبع يكون أكبر شارع في نيوأورلينز، فوجدته في إضاءة الليل يكاد يتقد اتقادا من الوهج، وهو في هذا الوهج شبيه بشارع برودواي في نيويورك ... إنني لا أحب هذا الوهج الشديد في الإضاءة، وكان يعجبني «الشارع الرئيسي» في كولمبيا من ولاية كارولاينا الجنوبية؛ فلست أدري كيف كانت تمتزج ألوان الضوء فيه من أحمر وأبيض وأزرق امتزاجا جميلا؟!
الثلاثاء 26 ديسمبر
قام بنا القطار الذاهب إلى «لوس إنجلس» (وهوليوود هي إحدى ضواحيها) على الساحل الغربي ليلة أمس عند منتصفها، فنمت في غريفتي بالقطار فور قيامه؛ لأني كنت متعبا من عناء النهار، مع أني كنت أود أن أرى الكوبري الطويل الذي يعبر عليه القطار نهر مسسبي إلى ضفته الغربية؛ إذ يبلغ طوله أربعة أميال ونصف ميل ... فلما صحوت في الصباح كنا قد خرجنا من ولاية لويزيانا إلى ولاية تكساس؛ كان المنظر ساعات الصبح والضحى حقولا زراعية ومراع، فولاية لويزيانا وجزء من ولاية تكساس هما أشهر بقاع أمريكا في زراعة القصب وصناعة السكر، ومن ثم أطلق اسم «وعاء السكر» على ملعب الكرة المشهور في الجنوب، الذي يقصد إليه في مباريات الشتاء ألوف الألوف من شتى أنحاء البلاد ... وكذلك ترى حقول القطن والأرز، حتى إذا ما انتصف النهار دخلنا تدريجا في منطقة صحراوية ليست هي بالرمال الصفراء، بل هي أرض على شيء من الصلابة، تغطيها شجيرات صغيرة متناثرة رمادية اللون جافة ... في هذا المنظر الصحراوي لبثنا ساعات بعد ساعات كلها في ولاية تكساس، حتى إذا ما غربت الشمس بدأت الأرض تتموج قليلا، وإذا فهي بدايات جبال روكي.
الأربعاء 27 ديسمبر
لا بد أن نكون قد قطعنا ولاية «المكسيك الجديدة» أثناء الليل؛ لأنني إذ أصبحت وعندما كنت أفطر في مطعم القطار وقفنا عند هذه المدينة العظيمة، مدينة فينكس وهي في ولاية أرزونا ... الأرض منبسطة سهلا، فلا تل فيها ولا شبه تل، وإذا فلا بد أن نكون الآن على سطح الهضبة، وهو حقول مزروعة، أو مراع للماشية التي ترى حظائرها بين حين وحين غاية في حسن النظام والتنسيق، فتعلم أن رعاية الماشية هنا لا بد أن تكون موردا ضخما من موارد الثروة.
وقبيل الظهر بقليل وصل القطار عند مدينة «يوما» التي تقع عند حدود ولايتي أرزونا وكالفورنيا، تقع على نهر كلورادو، تعبر النهر فتخرج من أرزونا وتدخل في كالفورنيا ... لكن مدينة «يوما» تثير الخواطر وتثير التفكير، فعندها يقف القطار عشر دقائق، وينبهك خادم العربة إلى ذلك، فتنزل إلى الرصيف إذا شئت ...
نزلت إلى رصيف محطة «يوما» فوجدت على مسافات متقاربة نساء جالسات على الأرض، هن من البقية الباقية من الهنود الحمر، السكان الأصليين، وكل منهن قد رصت أمامها قليلا من العقود وما شابهها، هن نظيفات جدا، تبدو عليهن الوداعة، لا ينظرن إلى أحد، فكل منهن قد أحنت رأسها نحو الأرض، لا تنظر حتى لمن يشتري من بضاعتها شيئا؛ فقد رأيت سيدة تشتري من إحداهن عقدا، لم تسألها عن الثمن بل أخذت العقد وناولتها نقودا، فمدت الهندية يدها وأخذت النقود وعيناها لا تزالان تنظران إلى الأرض! كل ما هنالك أنها هزت رأسها بالقبول.
الهنود الحمر - السكان الأصليون للبلاد - يقيمون الآن في محابس منتشرة على طول الولايات المتحدة وعرضها، فقد حصروا مجموعات مجموعات، وسمح لكل مجموعة محصورة في محبسها أن تزرع أرضها هناك وتستغل ما فيها من موارد الثروة بقدر مستطاعها، لكن هؤلاء الهنود (وهم في أمريكا يسمون بكلمة «الهنود» وحدها) لا يعدون من المواطنين؛ فليس لهم مثلا حق التصويت والانتخاب.
وبالقرب من مدينة «يوما» هذه التي وقف عندها القطار حينا، محبس من هذه المحابس الهندية ... والخاطر المقلق الذي ملأ رأسي عندئذ هو هذا: إنه منذ مائتي عام أو نحوها كان هؤلاء الهنود هم أصحاب البلاد، لم تكن هناك أمريكا التي نعرفها الآن! في مائتي عام أو نحوها خلقت هذه الأمة العظيمة خلقا من العدم؛ في هذه الفترة الوجيزة جدا ملئت هذه القارة الواسعة تعميرا واستثمارا ومدنية وحضارة، ملئت علما وفنا وسياسة، إنها غزت العالم غزوا ... أتقول إنه لم يكن من العدل لهؤلاء الدخلاء أن يغتصبوا البلاد من أهلها، وهذه هي نتيجة الاغتصاب؟! هل نحكم على الحركات التاريخية بنتائجها أم بمبادئها؟ هذه أمة عظيمة خلقت، ولا تدعي أنها تستند إلى ماض، اللهم إلا ماضيها الديني؛ نعم فقد جاءت ومعها مسيحيتها، بل جاءت بسبب مسيحيتها ... فهل بعد ذلك نقول: إن النهوض لا يكون إلا بالاستناد إلى تراث الأقدمين؟ هذا كلام يصلح للإنشاء في كراسات التلاميذ، أما من يريد أن يكون جادا في تفكيره، فسيجد الواقع صارخا ببطلانه؛ أم نقول: إن الثقافة الأوروبية هي نفسها ماضي أمريكا الثقافي؟ على كل حال، فحتى على هذا الفرض، فليس هناك ماض قومي، إنما هو ماض إنساني.
إنه يستحيل أن تمر هذه الخواطر على رجل من الشرق الأدنى دون أن يتذكر العرب وإسرائيل، فمن يدري كيف ينحرف مجرى التاريخ؟! لكن ليحذر العرب! ليفتحوا أعينهم إلى الحقائق ولا يدسوا رءوسهم في الرمال؛ فليس مستحيلا في منطق التاريخ أن يكون الإسرائيليون النازحون إلى الشرق الأوسط بمثابة من نزح إلى أمريكا أول مرة! ليس مستحيلا في منطق التاريخ أن يكون العرب بمثابة الهنود الحمر، يتضاءلون ثم ينتهي مصيرهم إلى محابس ينحصرون فيها، ثم إلى انقراض؛ فالحياة لمن هو أكثر علما وفاعلية ونشاطا، وليس وراء هذه الحقيقة حقيقة أعلى.
بعد مدينة «يوما» دخلنا مدينة كالفورنيا، وسرنا عدة ساعات لا نرى إلا صحراء كصحرائنا في مصر: رمال وكثبان؛ وبعد حين وحين ترى مجموعة من النخيل؛ وقد علمت أن في هذه الصحراء الرملية تقوم الشركات السينمائية بتمثيل الأدوار التي تحتاج إلى صحراء وإلى عرب ... وإني أكتب هذه السطور - بل هذا السطر بالذات - في اللحظة التي وقف فيها القطار عند محطة «بام سبرنجز» (أي عيون النخيل) وهي مشتى مشهور؛ وقد بدت في الأفق الغربي البعيد جبال عالية، تغطي قمم بعضها ثلوج بيضاء، تبدو غريبة في هذا الجو الدافئ داخل القطار، وأمام هذه الشمس الساطعة خارجه ... فلعلها أن تكون الحافة الغربية من جبال روكي، بل لعلها أن تكون على وجه التخصيص قمة سان برنار دينو التي هي في هذا المكان من جبال روكي، وتغطيها الثلوج صيفا وشتاء.
نزلت في محطة «لوس أنجلس»؛ للمحطة فناء على الطراز الأندلسي الإسلامي، فأثر الإسبان - على ما يبدو - لا يزال قويا في هذا المكان؛ إذ كان في أيدي الإسبانيين قبل أن يئول إلى الولايات المتحدة ... فالضاحية التي وقفنا بها قبيل وقوفنا عند المحطة الرئيسية اسمها «الهامبرا»، وهي الكلمة الإفرنجية لكلمتنا العربية «الحمراء»؛ والمدينة نفسها اسمها: «لوس أنجلس»، وهي العبارة الإسبانية التي معناها «الملائكة» ... ردهة المحطة وغرفة الانتظار بها قد بلغتا من العظمة والفخامة حدا يجعل ألفاظ التفخيم تافهة بغير معنى.
لم أكد أقذف بحقيبتي في الفندق الذي نزلت فيه لأقضي هذه الليلة في لوس أنجلس، حتى خرجت كالنهم إلى الشوارع أطوف مسرعا ببعضها، وكانت الساعة عندئذ الخامسة بتوقيت الساحل الغربي (وهي تكون الآن الثامنة مساء في كولمبيا على الساحل الشرقي، وفي مصر الثالثة بعد منتصف الليل).
وأهم ما استوقف نظري العابر في هذه المشية السريعة، هذا العدد الضخم من الواقفين على جوانب الشوارع من رجال ونساء، وقفوا وظهورهم مسندة إلى جدران المحلات التجارية، ينظرون متفرسين في المارة، وعليهم جميعا علامات التعطل وأمارات الملل والضجر، وانتهى بي الطواف إلى متنزه صغير فيه تمثال لبيتهوفن، وفي ركن من المتنزه ازدحم الناس جماعات جماعات، ووقف في كل جماعة خطيب كأنها «هايد بارك» أخرى.
إنني لا أشك في أن عددا كبيرا من المزدحمين في هذا الميدان يكنون في صدورهم استعدادا للجريمة؛ فذلك باد في ملامحهم: ترى الواحد منهم وقد أمال قبعته على جبهته ونظر بعينه إلى أعلى من تحت إطار القبعة، ووضع سيجارة مهملة في فمه المعوج قليلا إلى أحد جانبيه يبدو الاستهتار، بل اليأس على كثيرين منهم؛ فالظاهر أن كثيرين من هؤلاء قد جاءوا إلى «لوس أنجلس» يبحثون عن عمل ... فلم أخل من خوف خفيف وأنا أقتحم هذا الزحام ... كان هناك جماعة احتدت المناقشة بين أعضائها، فوقفت بينهم أسمع، وكان المتكلم حين وقفت زنجيا، كان يتكلم إلى ثلاثة آخرين: زنجي آخر ورجل وامرأة أبيضان، فقال الزنجي بحرارة وانفعال إن الله إذا أراد له ألا ينتحر فليبعث إليه بشيء من الخبز، أما أنه لا يرسل خبزا ثم لا يسمح بالانتحار فاستبداد منه ... فرد عليه الزنجي الآخر داعيا إياه إلى صدق الإيمان بالله، وإلى النظر إلى الأمور من جانبها المضيء، قائلا له: إنك كمن يبحث في هذا العالم عن ثقوب يضع فيها عنقه، ولكن اعلم جيدا أن من يضع عنقه في ثقب من هذه الثقوب اختنق وقضى ... هنا تكلمت المرأة البيضاء بحرارة تؤيد الزنجي الأول في يأسه، وعاد الزنجي الأول إلى استئناف حديثه موجها الكلام إلي، وممسكا بذراعي بيده، فضغطت بذراعي على محفظة نقودي، وما كاد يترك ذراعي حتى انصرفت.
الخميس 28 يناير
اشتركت منذ الصباح في رحلة إلى هوليوود التي هي ضاحية قريبة من ضواحي لوس أنجلس ... مرت السيارة الكبيرة على الفنادق تلتقط الزائرين المشتركين في الرحلة، حتى إذا ما تكامل العدد سارت بنا نحو غايتنا، والميكروفون أمام سائق السيارة ينبئ الركاب بما أراد أن ينبئهم به عن الطريق ومعالمه؛ قال عن منظر مررنا به إن مخرجي السينما كثيرا ما يستخدمون هذا المكان حين يريدون مناظر الرفييرا لأنه شبيه بها ... وهكذا أخذ يعلق لنا عن كل ما نراه على جانبي الطريق حتى وصلنا إلى هوليوود.
ظننت أني سأجد هوليوود مكانا صاخبا بالملاهي وبالنجوم الحسان، وإذا أنا في منطقة أهدأ ما تكون المناطق، فلا مارة في الطريق ولا ملاهي ولا مقاهي ولا حسان ولا شبه الحسان! إنني لا أرى شيئا إلا مباني وطيئة امتدت على جوانب شوارع فسيحة، والصمت شامل والهدوء كامل، كأنني بين حي هادئ رحل آهلوه إلى مشتى أو مصيف وأغلقوا أبواب ديارهم.
كان سائق السيارة يسمي الأماكن التي نمر بها: هذا ستوديو والت دزني، وهذا ستوديو كولمبيا، وهذا منزل «بب هوب» وهكذا.
ولما وصلنا إلى ستوديو يونيفرسال دخلنا إليه بالسيارة لنطوف في أرجائه؛ فهو أيضا مكان هادئ كأنما هو مكان مهجور، وكل ما رأيناه هناك «مناظر» معدة للإخراج السينمائي ... الحق أني لم أكن أتخيل أن الخداع السينمائي يبلغ هذا الحد البعيد: فهذه بحيرة صغيرة جدا شبيهة بالبحيرة التي تحف بجزيرة الشاي في حديقة الحيوان بالقاهرة، وإلى جانبها مجموعة من الغاب المزروع ونخلة أو نخلتان، وهنا تؤخذ مناظر أواسط أفريقيا! ... وترى ركنا آخر على سفح جبل كل ما فيه ثلاثة منازل أو أربعة، هي منازل صغيرة جدا، بل قل هي نماذج للمنازل، ثم يقال لك هذا هو المنظر الذي مثلت فيه رواية كذا! ... ترى فنطاسا فيقال لك إن في هذا الفنطاس تمثل مناظر ما تحت الماء من غواصات وغيرها! ... ترى عربة قطار صغيرة جدا وقاطرة صغيرة جدا كذلك، وإذا بهذه «اللعبة» هي القطار الذي يستخدمونه إذا أرادوا قطارا؛ في ركن من أركان الاستوديو أكداس من ألواح الخشب كأنها بقايا بيت مهدم، هذه الألواح الخشبية التي يقيمونها لتكون الشوارع والمدن! ... ترى هناك بيتا صغيرا من الطوب الأحمر، هو الكنيسة التي يمثلون فيها حفلات الزواج؛ إذا أرادوا ثلجا متساقطا أسقطوا في الهواء رقائق الخبز المقدد بعد طلائه لونا أبيض فتتطاير الرقائق خفيفة في الهواء كما يتطاير ثلج الشتاء ... كل شيء غاية في البساطة، وإني لأدهش دهشة لا حد لها كيف يمكن تأليف المناظر العظيمة التي يؤلفونها في الأفلام السينمائية من هذه البسائط الساذجة؛ فالظاهر أن الخداع السينمائي أكثر مما كنت أظن بألف ألف مرة.
خرجنا من الاستوديو وقصدنا ما يسمونه «وعاء هوليوود» وهو منخفض على هيئة الوعاء، تعقد فيه الحفلات الموسيقية الكبرى حيث تستخدم جدران «الوعاء» لجلوس المستمعين على مقاعد تتدرج مع تدرج الجدران.
عدت إلى مدينة «لوس أنجلس» أجول في أرجائها؛ فدخلت المكتبة العمومية، وبناؤها شديد الشبه بنادي الأطباء في القاهرة، يجد الداخل على يساره غرفة للمجلات امتلأت مقاعدها بالقارئين، وعلى يمينه غرفة للصحف اليومية امتلأت مقاعدها كذلك، ثم تدخل إلى بهو أوسط، فترى جدرانه مغطاة برفوف عليها أحدث الكتب صدورا، وكل مجموعة من رفوف وضعت إلى جانبها مقاعد تمكن من الاطلاع السريع على هذه الكتب الجديدة؛ وبعدئذ دخلت غرفة فسيحة خصصت للمؤلفات التي كتبت باللغات الأجنبية (أي غير الإنجليزية) فتتبعت كل ما أذكره وما لا أذكره من لغات الأرض، لكني لم أجد بينها كتابا واحدا باللغة العربية كأننا لسنا من هذا العالم الذي نعيش فيه ... وهكذا جعلت أنتقل في المكتبة من غرفة إلى غرفة لأجدها مليئة بالقارئين، ولأجد اليسر كل اليسر في القراءة؛ فالكتب كلها على رفوف مكشوفة، وللقارئ أن يستعرضها كيف شاء، وأن يأخذ منها ما شاء، ثم يجلس بما اختار من كتب حيث شاء في القاعة، ويقرأ ملء شهوته، ويترك الكتب حيث هي على المنضدة، حتى تمر العاملة تدفع أمامها عربة صغيرة، لتلتقط الكتب المتروكة وتردها إلى أماكنها. «لوس أنجلس» بما فيها ضاحية هوليوود مدينة غير طبيعية، فيها أشياء كثيرة تدل على أن أهلها مجتمع مصطنع؛ أعني أنهم مجموعة من سكان لا يجمعهم روح الانتماء إلى مدينة واحدة، هم جماعة تأتي إلى المدينة باحثة عن عمل أو منجزة لعمل، ثم تمضي عنها، وليسوا هم كأهل كولمبيا (بولاية كارولاينا الجنوبية) مثلا يضربون في المكان بجذور عميقة، حيث يسكنون بيوت آبائهم وأجدادهم؛ في كولمبيا مجتمع طبيعي؛ ولذلك تحس فيه حرارة الحياة، وأما هنا في لوس أنجلس فالمدينة أشبه بالاستوديو السينمائي الذي شهدته في هوليوود، تقوم فيه المدن المصطنعة قياما سريعا بغية أداء غرض معين، والأمر كله من أوله إلى آخره «تمثيل» ... لكن «لوس أنجلس» مع ذلك مدينة عامرة بما فيها من ازدحام الناس ونشاط العمل.
الجمعة 29 يناير
وصل بي القطار في الصباح الباكر إلى محطة سان فرانسسكو، وفي دخول القطار إلى حظيرة المحطة لمحت ماء المحيط الهادي لمحة سريعة، ورأيت مركبا كبيرا، فكانت هذه أول نظرة ألقيها على المحيط الهادئ، وكانت السماء غبشاء بسحاب الصبح وضبابه ... محطة سان فرانسسكو لا جمال فيها، وهي شبيهة بمحطة بادنتن في لندن، وهناك مشيت في غمرة المسافرين إلى حيث ذهب تيارهم، فانتهيت معهم إلى غرفة انتظار قبيحة المنظر، مقاعدها خشبية مطلية باللون الأزرق، ومن هناك ركبنا معدية بخارية كبيرة عبرت بنا الخليج إلى حيث مدينة سان فرانسسكو ... وهو الخليج الذي يصل طرفيه كوبري أوكلاند المشهور؛ لأنه أطول كوبري في العالم، طوله ثمانية أميال وربع الميل؛ وكانت المعدية تسير بنا عبر الخليج بحذاء الكوبري، وكانت مياه الخليج عندئذ هادئة جدا، فكأنها لوح مصقول من زجاج أزرق، فهل كان ذلك لأن الخليج مستور بالجبال؟ أم لأنها ساعة الصبح الباكر حين يهدأ البحر؟ أم لأن المحيط «هادئ» بطبعه دائما؟
أول ما فعلته فور وصولي إلى الفندق الذي نزلت فيه - فندق سان فرانسز - أن جلست في البهو أدرس خريطة البلد؛ لأصمم لنفسي طريقة السير؛ فطريقتي دائما هي السير على الأقدام فيما استطعت أن أطوف به من أجزاء المدينة التي أزورها.
كان أول مكان قصدت إليه في سان فرانسسكو بقعة يتلاقى عندها شارعان كبيران: شارع «فان نس» وشارع «ماك ألستر»، فها هنا مجموعة من الأبنية العامة، فأولا هناك ما يسمونه «بناء الحكومة» وهو يشغل ضلعا بأسره من ميدان مربع تتوسطه حديقة جميلة في وسطها نافورة بديعة حط على حافاتها وحول جدرانها عشرات من الحمام ومن طيور الماء البيضاء؛ وقفت وسط الحديقة ونظرت مبهورا إلى واجهة «دار الحكومة» فرأيت بناء فخما تعلو وسطه قبة عالية كبيرة كقبة الكابتول في واشنطن، ومدخله مكون من عدة أبواب حديدية تمتد فوقها شرفة، والأبواب والشرفة مذهبة الأطراف على نحو جميل ... دخلت البناء ووقفت تحت قبته الرفيعة في البهو المصقول الرائع الذي قام في كل من أركانه الأربعة نجفة كبيرة على حامل، والنجفة وحاملها مذهبان بما يتناسب مع زركشة القبة من الداخل، كما يتناسب مع أبواب المدخل.
عدت فعبرت الميدان إلى الجانب المقابل لدار الحكومة، فهناك بناء المكتبة العامة؛ تدخل فيلاقيك بهو، وترى أمامك في صدر البهو سلما عريضا مسطوح الدرجات تعلوه أعمدة، وسقف السلم مقوس مزخرف ببروز في حجر البناء نفسه ... اصعد هذا السلم مسحورا مبهورا لتجد أمامك غرفة البطاقات (الفيش): هي قاعة فسيحة نظيفة مصقولة لامعة ساطعة هادئة منظمة، تتدلى من سقفها نجفة كبيرة جدا من البلور؛ ومن غرفة البطاقات تدخل غرفة المطالعة، وهي بدورها قاعة طويلة لا يقل طولها عن خمسين مترا، رصت جدرانها برفوف الكتب، وجلس على مقاعدها قراء متناثرون هنا وهناك، فما نزال في ساعة مبكرة من الضحى؛ والإضاءة في غرفة المطالعة مصدرها ثلاثة أشرطة تمتد بامتداد القاعة: ضوء هادئ وذوق هادئ ... البناء كله مصمم على أساس الذوق الهادئ؛ فالجدران لونها لون الحجر الجيري بغير طلاء، والبلاط بني اللون في اصفرار، إنه مصقول مصقول مصقول، كل جزء في الأرض مرآة من الحجر ...
هناك وقفت متذكرا غرفة البطاقات في مكتبة باب الخلق بالقاهرة؛ حيث جلس الموظفون أمام مناضد تكدست عليها أوراق قذرة؛ وحيث أحاط بالجدران صواوين قذرة، وملأ الأدراج بطاقات قذرة ... وقد يقول قائل: على رسلك يا أخي، إننا شعب فقير، فلا تقارن بين أمريكا ومصر؛ وأنا أجيب قائلا: ما شأن الفقر بالحاجز الخشبي الأدكن القذر القبيح الذي أقاموه في غرفة البطاقات هناك ليحجز جزءا من القاعة خاصا بالسيدات، حتى أصبح المكان كله كومة من قبح الذوق وقلة الثقافة وقذارة الطباع وتأخر التفكير؟! إن هذه الأماكن العامة هي غرفة الاستقبال بالنسبة إلى الشعب كله؛ أعني أنها من البلد بمثابة غرفة الاستقبال في المنزل، هي أنظف ما فيه، وأجمل ما فيه، هي العنوان هي الذوق العام، هي الأمة كلها عند الزائر الغريب؛ لأن الزائر لا يدخل البيوت وإنما يزور الأماكن العامة.
خرجت من المكتبة وعدت فعبرت الميدان راجعا إلى دار الحكومة، فاخترقت بناءها لأخرج في الشارع من الناحية الأخرى، وهناك تجد عند خروجك بناءين توءمين حديثين بينهما حديقة لها بوابة واسعة مذهبة تتناسب مع الزخرفة الذهبية التي تزخرف دار الحكومة المقابلة لها ... وأحد هذين البناءين التوءمين دار الأوبرا، والآخر يسمى «بناء المجاهدين»، وكلا البناءين قد أقيما لتخليد ذكرى شهداء الحرب، وفي «بناء المجاهدين» اجتمع مندوبو الدول عقب الحرب العالمية الثانية؛ حيث أعدوا الوثيقة التي على أساسها أنشئت منظمة الأمم المتحدة.
وبعدئذ سرت حتى بلغت «متنزه البوابة الذهبية»، وظننت مخدوعا أنني سرعان ما أعبر هذا المتنزه سائرا على قدمي لأبلغ حافة المحيط، فمن ذا أدراني أن «متنزه البوابة الذهبية» تبلغ مساحته أكثر من ألف فدان، وأنه يمتد طولا ثلاثة أميال ونصف ميل؟
في المتنزه متحف لنباتات المناطق الحارة ومتحف للأسماك ومتحف للتاريخ الطبيعي ومتحف للآثار والفنون وحديقة يابانية للشاي، وقد كنت أريد أن أطوف بهذه الأماكن كلها ... لكني مشيت ومشيت ومشيت ولم أبلغ شيئا، حتى لقد ظننت أني ربما كنت أدور في مماشي المتنزه فلا أتقدم، وأردت أن أسأل أول من ألاقيه من مارة ... لا أحد في الطريق يمشي لأسأله، كل ما تراه عقد متصل الخرزات من سيارات تنساب في المماشي ... وأخيرا هذا رجل هناك بين الشجر يتنزه، فقصدت إليه أسأله، فوجدته أصم لا يسمع، فكتبت له السؤال على الورق، فراح يحدق بعينه التي كاد يلصقها بالورق، ثم اعتذر عن عدم إمكان رؤية المكتوب، وهو في اعتذاره لم ينطق، بل أشار بيده إشارات دالة على ما يريد، وإذا فهو كذلك أبكم ... أصم وأعمى وأبكم، هذا هو الرجل الوحيد الذي صادفته ماشيا في الحديقة يتنزه.
استعنت الله واستأنفت السير، وما لي وما يؤدي إليه السير؟ إنني أخترق جنة على الأرض؛ فهذا المتنزه لا بد أن يكون وحيد نوعه في العالم! لقد كانت هذه البقعة من الأرض حتى سنة 1870م كثبانا رملية صحراوية جرداء، وبفضل رجل واحد أقاموا له تمثالا في وسط المتنزه هو «جون مكلارن» أنبتت هذه الجنة على الأرض؛ انظر إلى مدى ما يستطيع رجل واحد أن ينشئه! ويقال إن في الحديقة أكثر من أربعة آلاف نوع من أنواع النبات، جيء بها من كل أنحاء العالم.
وأخيرا وصلت إلى مكان المتاحف من هذا المتنزه الفسيح، أولها «دي ينج» للآثار والفنون، طفته مسرعا، وهو متحف على كثير من الطرافة؛ فمثلا تجد غرفة كل ما فيها من معروض هو أن سقفها منقول من كنيسة بإسبانيا، وغرفة أخرى نافذتها منقولة من كنيسة بأوروبا، وثالثة جدرانها هي نفسها جدران غرفة فرنسية من العصر الفلاني؛ وفي المتحف غرفة مصرية فيها بعض الأواني الأثرية، وفيها مومياء وجدت في الفيوم، وهي من عهد البطالسة وأهداها إلى المتحف «دي ينج» الذي سمي المتحف باسمه.
ورأيت في طريقي إلى متحف الأسماك تماثيل هنا وهناك لرجال الموسيقى والأدب: تمثال لبيتهوفن، وتمثال ل «فردي» (صاحب أوبرا عايدة)، وتمثال جميل ل «سير فانتيز» (مؤلف دون كيشوت) أقيم على كومة من الحجر، وركع أمامه فارسان لعلهما يصوران دون كيشوت وسانكو بانزا ...
ثم دخلت الحديقة اليابانية لأستريح وأشرب الشاي؛ فقد صممت خطتي منذ بداية الصباح أن أجعل هذه الجلسة راحة بين جهادين ... الحديقة يابانية في نباتها، ويابانية في تماثيلها، وفي الأعمدة المنتثرة في أرجائها، وفي الكباري المقامة على قنواتها، وفي تمثال كبير لبوذا أقيم فيها ... وأخيرا دخلت «كشك» الشاي، وهو كشك أمامه فضاء مربع صغير، تعلوه مظلة يابانية، رصت تحتها مناضد حمراء السطوح سوداء القوائم، وحولها مقاعد كأنها مناضد صغيرة بنفس التقسيم والتلوين، وتجيئك من الكشك فتاة يابانية بشاي على الطريقة اليابانية.
السبت 30 يناير
ذهبت إلى الحي الصيني بسان فرانسسكو ... هو حي بأسره: اللافتات مكتوبة بالكتابة الصينية (وتحتها ما يساويها بالإنجليزية) حتى الكنيسة هناك، وجمعية الشبان المسيحيين كتب اسمها بالصيني، ومعظم المباني صينية الطراز، أو قل إن معظمها قد طلي بألوان ورسوم يبديها على هيئة الطراز الصيني في البناء؛ وأهم شارع هناك - شارع جرانت - تراه عامرا بالمطاعم والدكاكين الصينية ... تركت الحي الصيني مصمما أن أعود إليه لجمال وقعه في نفسي.
الحقيقة أن سان فرانسسكو بصفة عامة هي الآن معشوقتي بين بلاد العالم التي رأيتها، وإنه ليخيل إلي أنها أخف بلاد الأرض دما وأحلاها طعما ... ليس إعجازها في ضخامة مبانيها؛ لأن مبانيها ليست ضخمة، ولا في كبر حجمها واتساع رقعتها، لكنها مدينة ذات طابع جذاب، ولا أدري أين على وجه الدقة موضع الجاذبية منها؟ أهو شوارعها الصاعدة الهابطة مع سفوح الجبل؟ أهو موقعها على شاطئ المحيط؟ أهو هذه المطاعم الكثيرة والمراقص الكثيرة والفنادق الكثيرة، وكلها بالإجماع حسن الذوق؟ أهو في كثرة زائريها، وللزائرين روح مرحة يشيعونها في الشوارع والدكاكين والفنادق؟ أم هو في هذه الأشياء كلها مجتمعة؟ السعيد السعيد من أراد له الله أن يقيم في سان فرانسسكو.
تركت الحي الصيني مؤقتا، ذلك الحي الذي خلع على سان فرانسسكو ما يوهم بالقدم، وبالتالي خلع عليها مسحة من جلال الزمن، فتميزت بذلك من سائر بلدان الولايات المتحدة التي طابعها الأول هو الحداثة ...
وقصدت إلى كوبري سان فرانسسكو الجبار - كوبري أوكلاند - ظانا أنني مستطيع أن أسير عليه لأستمتع بلمسه، وهو كوبري يكاد يبلغ طوله ما يساوي المسافة بين وسط القاهرة وهرم الجيزة، يرتكز في وسطه على صخرة، واعتماده بعد ذلك على التوازن وارتكاز نصفيه أحدهما على الآخر ... وبعد أن سرت تجاهه نحو ساعة ، التمست طريقي مهتديا بالخريطة حينا وبالسؤال حينا، وجدت ألا مكان به للمشاة! ... وبينما كنت أتحدث - وأنا في طريقي إلى الكوبري - مع رجل استفسرته الطريق، جاء رجل أسود وخاطب محدثي قائلا : اسمح لي بكلمة واحدة ... فقاطعه الأبيض قائلا: لا مال ... عاد الأسود يقول: اسمح لي بكلمة واحدة ... فقاطعه الأبيض قائلا: لا مال ... فانصرف الزنجي، ومشيت أحدث الأبيض فقال لي هذا: مساكين هؤلاء الزنوج؛ إنهم مرضى، هذه هي العلة الأساسية لتدهورهم، قد تسمع من كثيرين قولهم بأن الزنوج لا يصلحون للعمل، وأنهم بغير كفاية، وما إلى ذلك، لكن لا، هم مرضى لا أكثر ولا أقل، ولو عولجوا لصلح أمرهم.
صممت أن أذهب إلى طرف المدينة الشمالي، إلى حيث شاطئ المحيط، وركبت سيارة عامة إلى هناك ... «الكورنيش» عند نقطة نزولي من السيارة العامة شبيه جدا «بالكورنيش» في الإسكندرية عند سيدي بشر، لكن الشارع ضعف شارع الإسكندرية اتساعا؛ هناك «لونابارك» ودكاكين ومطاعم ومحلات للهدايا ولعب الأطفال ... المكان بصفة عامة لا يليق بجمال سان فرانسسكو ... وعلى شارع المحيط آنا بعد آن ترى منظارا مقربا مثبتا على قائمة، فتضع فيه قطعة من النقد إذا شئت أن تستخدمه لرؤية المحيط عند أبعاد لا يأتي إليك بها نظرك المجرد.
كنت في نشوة أن أراني سائرا إلى جانب المحيط الهادي، وتمنيت عندئذ أن أتذكر القصيدة الإنجليزية «عند أول نظرة إلى المحيط الهادي» ... جزء كبير من شارع المحيط يحف به حائط الجبل صخرا خشنا لا أظنه يصلح للصعود، على جزئه الأعلى خضرة وشجر، وترى في حضن الحائط الجبلي طواحين هوائية ... وبعد مشية قصيرة وصلت إلى «بيت الصخرة» الذي يقال إنه معروف في العالم كله بجودة طعامه وحسن موقعه ... دخلته، ومن المصادفات السعيدة أن دخل في اللحظة نفسها عروسان بثياب العرس، ومعهما مجموعة من الأصدقاء تحمل طاقات من الزهر الجميل، فاستبشرت بذلك.
على مقربة من «بيت الصخرة» وفي وسط ماء المحيط صخرتان كبيرتان تعرفان باسم «صخرتا سباع البحر»؛ لأنهما تموجان بما عليهما من سباع البحر ... وأمام «بيت الصخرة» في الشارع تمثال كبير لبوذا، لكنه بوذا بثياب الحرب! ولا أفهم لهذا معنى إلا أن يكون المقصود أن هذه هي البوذية التي جاء بها الصينيون إلى هذه البلاد، بوذية كفاح أو شيء كهذا ... وكذلك يقوم على جانب التمثال عمود طويل جدا يمثل الفن الهندي القديم (أعني فن الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين)، وهو عبارة عن أمساخ ركب أحدها فوق الآخر حتى يتكون من سلسلتها عمود طويل.
وزرت الميناء حيث عشرات السفن أحجاما مختلفة، وأردت أن أعود من الميناء إلى وسط المدينة بالترام؛ ففي سان فرانسسكو ترام «أثري» يحتفظون به ليكون معلما من معالم المدينة، وهو الترام الذي يطلق عليه «عربات الحبل»؛ لأنه يشد بحبل معدني ضخم ممتد تحت الأرض تسمع كركرته تحت القضبان، الحبل يتحرك تحت الأرض بقوة الكهرباء، ويكفي لسائق الترام أن يزيح مفتاحا قابضا لتمس العربة ذلك الحبل المتحرك، فيسير مع حركته.
ركبت هذا الترام في شارع صاعد فكنت كأنني في عربة من عربات «اللونابارك»، والشارع صاعد إلى قمة تسمى «تل نب»، وأصل التسمية أنه على هذه القمة كان يسكن أثرى الأثرياء الذين أنشئوا الخطوط الحديدية في أمريكا، ولما كانوا يسكنون القصور الفخمة هناك، أطلق الناس على هذه البقعة اسم «نابب» (التي هي كلمة كانت تطلق على أمراء الهند)، ثم اختصرت الكلمة مع الزمن فأصبحت «نب»، ولا يزال التل معروفا بهذا الاسم، على الرغم من نزوح الأثرياء عنه.
عدت إلى الفندق عصرا لأستريح، وطلبت مفتاح غرفتي رقم 561، فبحث الرجل عنه ولم يجده، فلما أكدت له أني تركته عنده في الصباح أعطاني مفتاحا احتياطيا، وطلعت إلى غرفتي - أو على الأصح ما ظننتها غرفتي - رقم 561، ودخلت فوجدت الأثاث مختلفا في وضعه وترتيبه عن أثاث غرفتي كما تركتها، ثم لم أجد من أمتعتي شيئا، ففزعت وأسرعت إلى الخادمة أسألها عن أشيائي في غرفة 561؛ فقالت: إن 561 غرفة سافر صاحبها اليوم وهي خالية، فهرولت جازعا إلى المصعد، ونزلت إلى الإدارة، لكني فجأة رأيت أن أتأكد أن هذا هو رقم غرفتي، فوجدت بعد البحث أني أخطأت الرقم ، وأن غرفتي هي 1061، فأخذت المفتاح الصحيح وطلعت لأجد غرفتي وأشيائي سالمة كاملة ... فافرض - وهو فرض كان قريب الوقوع - أنني دخلت الغرفة 561 بالمفتاح الاحتياطي الذي أخذته، فوجدتها مسكونة بأصحابها، فمن يصدقني عندئذ أنني أخطأت رقم غرفتي؟ إن الحياة الواقعة فيها من المصادفات ما قد يظنه الواحد منا مستحيل الوقوع، ثم ترانا نأخذ في التحليل والتعليل، وكثيرا ما يكون الواقع أبسط جدا من الظنون.
خرجت قبيل الغروب قاصدا إلى ما يسمونه بالقمتين التوءمين، وهما جبلان متجاوران متشابهان، تغطيهما البيوت إلا عند القمتين اللتين تركتا خضراوين بما عليهما من شجر ... صعدت الجبل بالسيارة العامة في طريق يدور صاعدا حول السفح الصاعد، وعدت بالسيارة نفسها؛ فقد اكتفيت أن أنظر منها إلى سان فرانسسكو في ضوء الغروب العنبري اللون: منظر تنحبس له الأنفاس في الصدور؛ السفوح كلها مغطاة بالمنازل التي يغلب عليها اللون الأبيض؛ إن المنازل تموج مع موج الجبال ارتفاعا وانخفاضا ... ها هنا إلى جانبي - وأنا على مقربة من القمة العالية - منازل صغيرة جدا، وفي هذا المكان المرتفع، ومن هذا المنزل الصغير المنعزل خرجت سيدة تحمل طاقة من الزهر لفتها بقرطاس من الورق ... أقسم بالله أني عندئذ ما تمنيت في الدنيا إلا أن أسكن منزلا من هذه المنازل سكنى الإقامة الدائمة، مهما يكن عيشي بعد ذلك من الشظف؛ لقد قال الخيام: إن أعز ما في دنياه هو ظل شجرة منعزلة في الفلاة، ليس معه فيه إلا رغيف ودن خمر وامرأة، وأنا أعدل قليلا في أمنية الخيام: فأعز ما في الحياة عندي هو أن أعيش في بيت صغير كهذا، على هامش مدينة جميلة كهذه، ويكفيني بعد ذلك رغيف، ولست بحاجة إلى دن الخمر الذي اشتهاه الخيام، بل لست بحاجة إلى المرأة التي تمناها، إلا أن تكون امرأة أحبها، فما عادت كل امرأة تصلح للزمالة في مثل هذه الحياة البسيطة التي أرجوها لنفسي.
وقصدت بعد القمتين التوءمين إلى «برج كويت» على قمة تسمى «تل التلغراف» ... وقصة هذه القمة والبرج الذي يقوم عليها هي أنه في أول نشأة المدينة - أعني عند أول انضمامها إلى الولايات المتحدة - كان على هذا الجبل مكان لمراقبة السفن الداخلة في الخليج، وحدث ذات يوم أن أقبلت على المدينة قافلة من السفن تحمل نزلاء جددا، فأسرع المراقبون من فوق قمة الجبل إلى تبليغ أهل المدينة، فتنبه هؤلاء وصدوا الخطر الداهم، ومن ثم سمي المرتفع بتل التلغراف، ثم جاءت بعد ذلك سيدة ثرية اسمها «كويت» وأقامت هذا البرج العالي فوق هذه القمة، فسمي البرج باسمها ... وفي البرج مصعد كهربائي يصعد إلى قمته حيث يمكن للرائي أن يشرف على سان فرانسسكو بأسرها؛ لكني لما وصلت إلى مكان البرج كان الليل قد أقبل، فلم أصعد إلى قمته؛ لأن المصعد كان قد انتهت ساعات عمله، واكتفيت بوقفتي على قاعدة البرج حيث أطللت على سان فرانسسكو، فكانت بأضوائها بهجة أي بهجة، ورأيت من مرتفعي ذاك الجسرين العظيمين: كوبري أوكلاند يمتد على جانبيه عقدان طويلان من مصابيح؛ وفي الناحية الأخرى من المدينة رأيت كوبري البوابة الذهبية ... إن هذين الجسرين لمن الأعمال الهندسية التي تشهد بجبروت الإنسان في هذا الكون.
وعدت إلى الفندق مارا في طريقي بميدان بور تسموث، وله أهمية تاريخية وأهمية أدبية، فأما أهميته التاريخية فهي أنه أول مكان نصب فيه العلم الأمريكي عند استيلاء الولايات المتحدة على سان فرانسسكو سنة 1846م على يدي رجل يدعى مونتجومري؛ وأما أهميته الأدبية فهي أن روبرت لويس ستيفنسن - مؤلف جزيرة الكنز - كان كثيرا ما يقيم هناك؛ ولذلك أقاموا له تمثالا في الميدان (وبهذه المناسبة أذكر أن الصخرة التي تتوسط كوبري أوكلاند فيرتكز عليها جانبا الكوبري في توازن وتساند، تسمى جزيرة الكنز) ... وكذلك أوحت سان فرانسسكو إلى أديب أمريكي عظيم بكثير من أدبه، وأعني به «مارك توين».
سأخلف سان فرانسسكو صباح الغد وفي القلب حسرة؛ إنها مدينة تحب، هي كالمرأة الجذابة في غير عهر، كالمرأة حيث تضحك فتملأ المكان مرحا دون أن تقهقه في تسفل مرذول، كان يخيل إلي دائما وأنا سائر في طرقاتها ذات الأضواء البهيجة أن أهلها في عيد؛ إذ لا يمكن أن تكون هذه هي الحياة الرتيبة الكئيبة التي ألفها الناس في سائر أنحاء الدنيا خلال ساعات العمل والكفاح، ومع ذلك فهي المدينة الثانية - بعد نيويورك - من الوجهة المالية في أمريكا كلها، بها حي مركزه شارع مونتجومري ويسمى - على سبيل المجاز - شارع وول، ليقابل بذلك نظيره شارع وول في نيويورك، هذا مركز المال على الساحل الشرقي، وذلك مركز المال على الساحل الغربي.
الأحد 31 يناير
تركت الفندق في سان فرانسسكو في الصباح الباكر؛ لأن القطار يغادرها قبل الساعة الثامنة، وبيني وبين المحطة مسافة طويلة فيها عبور للخليج ... كان القطار الذي جئت به من لوس أنجلس إلى سان فرانسسكو يدعى «البومة»، ولعل هذه التسمية راجعة إلى أنه يقطع الطريق في ظلمة الليل؛ إذ يغادر لوس أنجلس ساعة الغروب ويصل إلى سان فرانسسكو ساعة الشروق، أما القطار الذي سأسافر به اليوم من سان فرانسسكو قاصدا إلى مدينة سياتل فاسمه «شاستا في ضوء النهار»، و«شاستا» اسم بحيرة في الطريق، وكذلك اسم سلسلة جبلية من أعلى الجبال في روكي، و«ضوء النهار» جزء من الاسم مقصود؛ لأن عربات القطار قد صممت على أساس أن يرى المسافر كل ما تمكن رؤيته من الطريق الجبلي الذي سنمر فيه.
وصلت إلى مكاني من القطار، وهو في العربة الأخيرة التي تسمى «الصالون»، والعربة كلها عبارة عن شرفة من زجاج لاتساع نوافذها، وليس بها مقصورات ولا حواجز، كل ما فيها صفان من المقاعد ذوات الأذرعة، تدور على محاور في قواعدها، فبأقل جهد يستطيع الجالس أن يدور بكرسيه ليتجه به إلى أي وجهة شاء؛ حتى يرى المنظر كله من يمين وشمال وأمام ووراء.
غادرنا سان فرانسسكو حين كان ضباب الصبح الكثيف يحول دون الرؤية؛ لكن ما هي إلا أن طلعت الشمس رويدا وانجاب الضباب، وتمتعنا بنهار مشرق كالبلور الصافي، فكانت فرصة نادرة مكنتني من رؤية الطريق الجبلي الذي كنت أتوق إلى رؤيته.
في هذا القطار وسائل كثيرة للراحة والمتعة، فعدا «الصالون» الفخم الذي كنا نجلس فيه، كانت هناك طبعا عربة المطعم، ثم عربة للشراب، ثم عربة ثالثة يسمونها المقصف حيث تشرب القهوة وتؤكل الوجبات الخفيفة لمن أرادها ... هذا القطار هو «أمريكا» من نواح كثيرة، من حيث العلم والراحة في الحياة والفخامة والغنى.
ظللنا مسافة طويلة بعد مغادرتنا لسان فرانسسكو ومياه الخليج عن يسارنا وحافة الجبل عن يميننا؛ وبعد قليل كنا ننساب في أرض زراعية إلى مدى البصر، لا أثر فيها للجبال ولا ما يشبه الجبال؛ فالمنظر شبيه بما يراه المسافر في الدلتا المصرية، ألسنا في جبال روكي؟ أين هي جبال روكي؟!
فلما قضينا أربع ساعات أو خمسا تغير المنظر، وبدأنا نزحف في وسط الجبال إلى نهاية الرحلة ... الجبال أول الأمر يغطي قممها قليل من بياض الثلج كأنه جير متناثر، وبقية السفوح تغطيها أشجار الصنوبر ... اقتربنا من بحيرة شاستا، والجبال تطوقها من كل أقطرها، من أمام وخلف ويمين وشمال، وكلها أخضر بما عليها من شجر يغطي السفوح كلها من القمة إلى الوادي؛ نفذنا خلال الجبل في نفق معتم طويل، وخرجنا منه لنعبر بحيرة شاستا على كوبري قيل إنه أعلى كوبري في العالم؛ إذ يزيد ارتفاعه على ستمائة قدم ... المنظر ونحن على الكوبري عبر البحيرة ومن حولها الجبال من كل ناحية - بعضها مثلوج القمم - منظر سويسري صرف، وانتهينا من البحيرة لننفذ خلال جبل آخر من نفق يخترقه، ولم نخرج من النفق إلا لندخل نفقا ثانيا فثالثا.
هذه هي جبال روكي كما كنت أتمنى أن أراها؛ فالقطار يزحف عليها زحفا ويخترق بعضها اختراقا، كل الفرق بين ما تخيلته وما رأيته هو أنني كنت أتخيل جبال روكي صلعاء الصخور، فوجدتها مغطاة بالشجر في معظم أجزائها.
القطار لا يستقيم له الطريق خمس دقائق كاملة؛ فهو يتلوى كالثعبان، ينثني ثم يعتدل لينثني من الناحية الأخرى؛ الانثناء قد يبلغ أحيانا من الحدة أن يتقابل طرفا القطار، فتكون القاطرة مقابلة للعربة الأخيرة التي هي عربة الصالون التي أجلس فيها، خصوصا في موضع عند منبع نهر ساكرامنتو ... كنا على فترات متقاربة نقطع نهرا ضيقا سريع الجريان هو نهر ساكرامنتو، يعبره القطار من يمينه إلى يساره ثم من يساره إلى يمينه.
إنني في نشوة مما أرى، فكم مرة رأيت هذا المنظر وأشباهه في السينما وفي الصور، لكنه لم يحرك النفس جزءا من ألف ألف جزء مما تحركها الطبيعة الحية، ذلك هو الفرق بين الطبيعة الحية الطازجة والطبيعة المحفوظة في العلب، ولأنحرف قليلا عن وصف رحلتي لأقول إن هذا هو بعينه الفرق بين ثقافتنا وثقافتهم، وعقليتنا وعقليتهم؛ هم يفكرون «على الطبيعة» - كما يقول المهندسون - ونحن نفكر تفكيرا «مجففا»، ومن ثم كانت الأصالة عندهم والتقليد عندنا؛ ثقافتنا طبيعة محفوظة في علب تعفنت من طول ما حفظت، وثقافتهم تساير الطبيعة وتواجهها فتتجدد معها في كل ربيع.
هناك في جوف الوادي بيت قائم وحده؛ إنني لأستغني عن كل ما لدي من حبي لوطني واعتمادي على وظيفتي وما أملك من مال قليل بل من ثياب وأثاث، لأعيش في هذا البيت المعتزل؛ أنا صادق في هذه الرغبة، فإذا مررت بمدينة كبيرة لا يطوف ببالي أمنية كهذه، لكنها أمنية تطوف كلما رأيت بيتا قائما في الخلاء وحده بعيدا عن كل آهل ومأهول.
تصور روح الكشف التي دفعت نفرا قليلا من الناس إلى ارتياد هذا الجزء الغربي الجبلي من القارة الأمريكية، ولم تكن بهم حاجة إلى مال؛ فقد كانوا ذوي ميسرة في أوطانهم من الساحل الشرقي، لكنه الكشف وروح المغامرة ... لهذا أتوقع أن أجد اختلافا كبيرا في أخلاق الناس هنا في الغرب عنها في شرق الولايات وجنوبها ... أهل الغرب لا يزال يطلق عليهم حتى الآن اسم «رواد الحدود»؛ لأنهم ارتادوا هذه الأصقاع، فكان عليهم أن يقاتلوا الهنود الأصليين من سكان البلاد، كما كان عليهم أن يذللوا هذه الطبيعة المستعصية إلا على ذوي الإرادة الحديدية القوية.
إنه لا عجب في أن يكون من أقوى ما يطبع الروح الأمريكي روح المغامرة، فكيف بدءوا حياتهم؟ ألم تكن بدايتهم هجرة من أوروبا فرارا من الاضطهاد الديني وحرصا على حريتهم؟ جاءوا إلى هذه الأرض الجديدة لينشئوا لأنفسهم حياة جديدة في بلد جديد كانوا يجهلونه، وكان عليهم أن يرتادوه وأن يمهدوه ... بدأت المغامرة في الخلق الأمريكي منذ البذور الأولى، أتمها هذا النفر من رواد الحدود الذين زحفوا من شرق البلاد إلى غربها، وفي أقل من مائة عام صنعوا هذا كله.
وأعود فأقول ما أبعد الفرق بين الرائد الكاشف وبين من يمشي بعد ذلك في الطريق الممهدة! إن الإنسان ليقاتل الطبيعة أول الأمر حتى إذا ما أذعنت له عاد بدوره فأذعن لها وسكن إليها سكون العابد في محرابه، فذلك البيت الصغير المعتزل هناك في جوف الوادي لا يكون إلا لعابد خشع للطبيعة وهي متشحة بكل هذا الجلال.
القطار ما يزال ينثني ويعتدل ثم ينثني؛ إنه يدور حول السفح في شبه دائرة كأنه لعبة الطفل.
الثلج يزداد كثافة كلما سرنا نحو الشمال، كان المنظر بادئ ذي بدء أكثره خضرة وأقله بياض، فأصبح الآن أكثره بياض وأقله خضرة.
أمامي الآن جبل يختلف عن كل ما مررنا به من جبال؛ لأنه جبل عاري الصخور مدبب القمم، في أعلاه قمم ثلاث كل منها مربع الشكل مدبب الأطراف، إنه يشبه أن يكون قلعة من قلاع العصور الوسطى ... سألت إن كان لهذا الجبل اسم، فقيل لي إن اسمه «جبل القلعة» ... القطار الآن ينثني أحد انثناءة له في الطريق حتى ليكاد ينطبق على بعضه نصفين، وتسمى هذه الانحناءة «بالقنطرة»، وهي عند منبع نهر ساكرامنتو، وليس ببعيد أن تكون «القنطرة» كلمة مأخوذة من مثيلتها في اللغة العربية، جاءت إلى هنا على ألسنة الإسبان.
يسير القطار مع نهر ساكرامنتو عند منبعه في انعراجاته وانثناءاته؛ إذ لا يسعه غير هذا؛ فالنهر عند منبعه مجرى ضيق في واد عميق، تحف به جدران الجبل من ناحيتيه، فليس أمام القطار إلا بطن الوادي عند مجرى النهر ...
زادت كثافة الثلج حتى لترى أطراف الأشجار العليا بارزة من أكداس الثلج كرءوس الحراب، وبقيتها غريق في الثلج، كما يحدث لأعواد الذرة في مصر حين يدركها فيضان النيل، فيغرقها الماء إلى شواشيها ... عجيب منظر الثلج يملأ الدنيا عاليها ووطيئها رغم إشراق الشمس بكل هذا الصفاء والوهج؛ إنني لا أكاد أصدق أن الدنيا خارج القطار باردة كل هذا البرد الذي يملأ الأرض والجبال ثلجا؛ إن بيني وبين الثلج المتراكم لوح من زجاج، أرى الثلج خلال زجاج النافذة وأنا في مكاني الدافئ، ألا إنه لبرهان أقوى برهان على أن رؤيتك للشيء لا علاقة لها بإحساسك بذلك الشيء، فهكذا الغنى والفقر والصحة والمرض؛ الغني يرى الفقير ويعلم أنه موجود، ويعلن أنه شاعر بشعوره حاس بإحساسه، مع أن ذلك ضرب من المحال، إلا أن يوهب الإنسان عبقرية لا حد لها في مشاركة الناس مشاعرهم وإحساسهم، وإلا فهل يمكن لي الآن في مكاني هذا الدافئ أن أرتعش من البرد لمجرد أنني أرى الثلج خارج زجاج النافذة؟ هذا مستحيل، مهما حدقت النظر في الثلج الذي لا يبعد عني إلا بوصات قليلة.
القطار يغطس في الأنفاق المظلمة ثم يطفو ثم يغطس ويطفو، كأنه الطائر على سطح البحر يطير ثم يهبط لينغمس في الماء لحظة ثم يعود إلى الظهور ليطير ... على شفة بارزة من سفح الجبل امتد طريق السيارات، تراها جارية واحدة بعد واحدة تلمع في ضوء الشمس ... ليس في أمريكا كلها مكان مهجور مهما بدا في الظاهر أنه كذلك.
القطار ما ينفك في انثنائه ودورانه؛ إنني لا أحب لونه الأحمر لأنه شبيه بلون قطارات البضائع في مصر، ولولا هذا لقلت إن الإنسان حين يحلم برحلة في قطار تبلغ حد الكمال الذي ليس بعده كمال، فلا يمكن أن يطير به خيال الأحلام إلى ما هو أبلغ من هذا وأروع وأبدع ... كيف يمكن في الدنيا أن تكون الرحلة بالقطار أجمل من هذه الرحلة: هذا الصالون ذو المقاعد الدوارة وجدران الزجاج، وعربة المطعم وعربة الشراب وعربة المقصف وجزء من عربة للمكتبة، ثم المناظر التي نخوض فيها خوضا منذ ساعة الظهر حتى أظلم الليل! ثم هذه الشمس الساطعة التي جعلت الهواء شفافا لامعا كأنه كتلة من البلور، وهذا الثلج وهذا الشجر الغارق في أكداس الثلج ... إن تصور ما هو أروع من ذلك مستحيل على الخيال، إلا أن يكون خيالا يشبه خيال هؤلاء الذين خلقوا هذه الأشياء من عدم: فالجبال كشفوها وشقوها ومهدوها، والقطار صمموه وأعدوه وأجروه باسم العلم والعقل المفكر منسابا في أمن وثقة وطمأنينة نفس وراحة جسم.
لا يزال الثلج يزداد انتشارا وكثافة كلما سرنا نحو الشمال، كان المنظر عند أول دخولنا جبال روكي - عند مدينة «ردنج» الزراعية - أخضر صرفا، ثم أصبح أخضر مبقعا بأبيض كأنه جير، وهو الآن أبيض مبقع بنقط خضراء هي رءوس الشجر الغارق في أطباق الثلج الكثيف.
الظاهر أننا قد هبطنا الآن بعد ارتفاع؛ لأننا دخلنا فجوة كالصحن الكبير، تخلو من الثلج أو تكاد؛ فها هنا قل الشجر وزادت الصخور الكالحة الجرداء، فجوة الصحن الكبير تحتنا هناك عميقة بعيدة، وقد تكونت على فوهتها أشرطة من سحاب أبيض كأنها مجاري الماء ... إن هذه الفجوة الكبيرة من الأرض المنخفضة وعليها هذا السحاب شبيهة بوعاء كبير يغلي به ماء، ثم انكشف عن الوعاء غطاؤه فجأة فتكورت فوقه لفائف صاعدة من البخار المتكاثف، وبطانة الصورة عند الأفق الخلفي هي سلسلة الجبال التي خلفناها وراءنا بثلوجها على القمم والسفوح.
لا نزال ساعة العصر، وقد غفوت ربع ساعة صحوت بعدها لأجد الثلج غزيرا والضباب كثيفا تتعذر معه رؤية شيء ... لا بد أن نكون قد دخلنا - في هذا المتحف الطبيعي الكبير - إلى غرفة أخرى بعد أن خرجنا من غرفة كانت قليلة الشجر معدومة الثلج ... لكن الوقت لم يطل حتى انجاب هذا الضباب وظهر الخبئ؛ وهو مسطح من الماء المتجمد، هو سطح بحيرة كلاماث؛ وهو مسطح سرنا خلاله ساعة أو نحوها كله لوح واحد من الثلج كأنه أرض أعدت للانزلاق، ويحيط بهذا المسطح الثلجي جبال من كل النواحي، غطاها الثلج (ألا يكفي اللغة العربية فقرا ألا نعرف كيف نميز فيها بين هذين النوعين من الثلوج
Snow
و
ice ، فالبحيرة سطحها لوح من
ice ، والجبال من حولها يغطيها
snow ، لكن كله عند العرب «ثلج»).
وأعود فأقول إنني لا أتصور كيف يمكن أن تكون الدنيا خارج القطار بهذا البرد كله، إن عربات هذا القطار ليست فقط مدفأة تدفئة صناعية، بل أعدت على نحو يجعلها تحتفظ بدرجة واحدة من أول الرحلة إلى آخرها؛ فآلة التدفئة في القطار تزيد من درجة التدفئة أو تقلل كلما نقصت درجة الحرارة الخارجية أو زادت ... ومما هو جدير بالذكر أيضا أن زجاج النوافذ في هذا القطار معدة بحيث يستحيل أن يتراكم عليها ضباب لكي تكون الرؤية واضحة دائما.
جاء الليل ولم يعد ما نراه، وبدأ الملل يدب في نفسي بسرعة لأن الرحلة طويلة، وقد كانت المناظر الطبيعية أثناء النهار تلهيني عن طول الطريق، أما وقد أقبل الليل بسواده، فلم يعد إلا أن أنصرف بنظري إلى الداخل، إلى داخل نفسي، فأتتبع الملل وهو يزداد ... وصلنا بورتلاند في منتصف الثانية عشرة مساء، بعد أن قضينا في القطار ست عشرة ساعة، فانتقلت إلى القطار الآخر الذي سيقلني إلى «سياتل»، بحيث يصل إليها في ساعة مبكرة من صبح الغد، وكان لي بهذا القطار الثاني «غريفة»، فلم أكد أنتقل إليه حتى أنزلت سريري في غريفتي ونمت نوما عميقا.
الإثنين أول فبراير
وصلت مدينة «سياتل» في الصبح المبكر، وظللت بها النهار بطوله؛ إذ غادرتها في التاسعة مساء إلى «سبوكان» التي أصلها صبيحة الغد.
لما وصلت إلى «سياتل» ودخلت غرفة الانتظار بالمحطة، كانت الدنيا أشبه ما تكون بساعات الفجر، فضباب معتم ومصابيح موقدة ... أين أذهب في هذه الساعة المبكرة؟ جلست في غرفة الانتظار أكتب مذكراتي، وما كادت أضواء الصبح تشيع في الفضاء حتى خرجت أسعى في المدينة طائفا، وكان أول ما استوقف نظري لافتة كبيرة تضيء مصابيحها وتنطفئ، فإذا أضاءت أبانت بضوئها ما يدل على الوقت وعلى درجة الحرارة، وكان المكتوب عندئذ الساعة 8,50 ودرجة الحرارة 42 (فهرنهايت، وهي تساوي 5 مئوية).
أخذت خريطة المدينة من إحدى محطات البنزين، ووقع نظري صدفة على مبنى المكتبة العامة، فدخلتها ونشرت الخريطة على منضدة في قاعة المطالعة لأدبر لنفسي طريق السير أثناء النهار، ثم خرجت مستعينا بالله على مشي متصل طول النهار.
سياتل! من ذا يسمع في مصر عن سياتل إلا المختصون في الجغرافيا؟ ومع ذلك تعال فانظر كيف تقف الأنفاس لما ترى! مدينة واسعة شاسعة نظيفة ليس بها بناء واحد لا يدل على العظمة والثراء، الثروة الثروة الثروة! هذا هو ما تنطق لك به سياتل: عشرات الألوف من الناس تسير مسرعة في الطريق؛ فهنا لأول مرة في أمريكا أرى ما يقولون عنه من أن الناس في هذه البلاد يسرعون الحركة ويشغل العمل رءوسهم وخواطرهم ... عشرات الألوف من الناس ليس فيهم واحد أو واحدة على ثيابه أو ثيابها آثار البلى أو ما يشبهه، حتى نيويورك لم تكن كذلك، واشنطن لم تكن كذلك ... قف دقيقة هنا، على هذه الناصية، وانظر: عشرات الألوف من الناس تسير مسرعة، لا تسمع إلا وقع أحذيتهم على الأرض؛ معاطف، قفازات، قبعات؛ معاطف، قبعات، تلفيعات من الصوف حول الأعناق؛ معاطف، قبعات، مظلات في الأيدي؛ معاطف، قبعات، أقراط جميلة في الآذان ... أريد أن أرى معطفا واحدا، قبعة واحدة، قفازا واحدا، تلفيعة واحدة، عليها آثار البلى؛ أريد أن أرى من هذه الألوف شخصا واحدا مشعثا ممزق الثياب ... لا بد أن تكون الثروة هنا بالهيل والهيلمان.
مشيت ثلاث ساعات أو نحوها من شارع إلى شارع أنظر وأتعجب؛ الفنادق الفاخرة من الطراز الأول لا يكاد يحصرها عدد؛ المحلات التجارية العظيمة من الطراز الأول ليس لها حصر؛ كل شارع من هذه الشوارع التي تعد بالمئات لا تعرف كيف يمكن أن يكون أكثر من ذلك دلالة على الغنى.
ركبت سيارة عامة قاصدا إلى الجامعة - جامعة واشنطن - فمررت في طريقي ببحيرة الاتحاد؛ هي بحيرة تنحدر شواطئها، وتقوم المنازل على هذه الشطآن المنحدرة ... لبثت في السيارة ساعة، ذهبت كلها في ركن صغير من أركان البلد، ومن هذا تعلم كم تمتد سياتل.
نسبة الجمال هنا مرتفعة إلى درجة نادرة، فضم الجمال إلى الغنى في هذا البلد العجيب! أنا لا أعرف من الناحية الإحصائية كم يكون ثراؤها، لكني أكون أعمى البصر والبصيرة إذا لم تكفني نظرة واحدة هنا لأقول إن هذا البلد غارق إلى ذقنه في الذهب ! وليس عندي شك - بعد أن تفرست في الوجوه ما تفرست - أن أهلها يختلفون عن الناس في البلاد الأخرى، هنا الجد باد كالشمس الواضحة: سرعة المشي في الشوارع، وانعدام التلكع والتسكع والتلكؤ ؛ إنك لا ترى من يقف مسندا ظهره إلى الحائط ناظرا إلى المارة كما ترى في «لوس أنجلس»، ولا تجد من يبدو عليه أنه قد جاء للتنزه والتمتع كما تجد في «نيوأورلينز» أو «سان فرانسسكو» ... هنا عمل عمل، هنا جد جد جد، هنا ثروة ثروة ثروة ... وهنا جمال فاتن في النساء؛ هذه هي «سياتل».
الفصل السادس
في الغرب
الأربعاء 3 فبراير (من مدينة بلمان بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة؛ حيث أقمت أستاذا زائرا بجامعتها فترة الربيع.)
دعاني الدكتور «د. و» إلى حفلة مسائية في داره، كما دعا كثيرين من أساتذة الجامعة ليعرف بعضنا بعضا، ولو حللت هذا الاجتماع وحده وقارنته بنظيره في مدينة كولمبيا (ولاية كارولاينا الجنوبية)؛ لتبين الفارق البعيد بين أهل الجنوب وأهل الغرب، إنهما روحان مختلفان كل الاختلاف ... إنني أقارن النظير بنظيره؛ فقد كان الدكتور «ش» في كولمبيا قد جمع أربعة اجتماعات في داره، ودعا في كل اجتماع منها عددا من الأساتذة ليعرفوني وأعرفهم، وإذا فلنقارن اجتماع الليلة بتلك الاجتماعات لنتبين الفروق:
أولا:
المدعوون هنا الليلة جميعا كانوا مصحوبين بزوجاتهم، أما الدكتور «ش» في كولمبيا فلم يدع الزوجات، بل أكثر من هذا، وهو أن زوجته عندما كانت سمعت أول نقرة على الباب، وعرفت أن القادم هو من المدعوين، أسرعت إلى داخل الدار كأنها امرأة في حريم شرقي، مع أنها كانت موظفة إلى عهد قريب في الجامعة نفسها، وعلى علم تام بالأساتذة المدعوين، وإذا فهناك في الجنوب تزمت وطول تفكير وتدبير في مسألة اجتماع النساء بالرجال في الدعوات والحفلات، متى يكون ومتى لا يكون.
ثانيا:
قدم لنا الليلة أنواع الشراب المختلفة ليطلب من شاء ما شاء منها، وأما في كولمبيا، في الدعوات التي أقامها الدكتور «ش» في منزله، فلم يقدم إلا القهوة فقط، كأنما تقديم الشراب يزيل الكلفة وهم هناك لا يريدون إزالة الكلفة بسرعة ... هذا الفارق عندي هو من أهم الفوارق؛ فإن الكلفة والتكلف والمجاملة والتصنع لم تزل بيني وبين رجال الجامعة في كولمبيا حتى تركتها؛ لم يحدث أبدا أني اندمجت مع أحد منهم، كما اندمجت هنا في بلمان مع أعضاء قسم الفلسفة منذ الدقيقة الأولى؛ فالناس هنا في الغرب يتصرفون التصرف الذي لا تكلف فيه.
ثالثا:
كان الحديث تلقائيا حرا في اجتماع الليلة؛ وأما في اجتماعات كولمبيا فقد كان الحديث يدور دورانا مدبرا حول أسئلة عن مصر؛ ذلك لأنهم لم يريدوا هناك أن يجعلوها جلسة صداقة وود؛ فمثلا كان يستحيل عليهم أن يتبادلوا النكات ما دمت غريبا بينهم، مع أن اجتماع الليلة لم يخل من النكات المرحة، مثال ذلك: قال أحدهم إن في جامعة سماها تمثالين لأسدين على سلم المدخل، وكانوا يقولون وهم في تلك الجامعة إن هذين الأسدين يزأران لو مرت بينهما فتاة عذراء (يعني أنه لا عذراء بين الفتيات) ... فقال أستاذ آخر: هذا شبيه بما كنا نقوله كذلك في جامعتنا؛ فهناك تمثال لرجل جالس، وكنا نقول إن التمثال ينهض واقفا لو مرت به فتاة عذراء ... هذه نكات كانت تقال في اجتماع الليلة مع وجود الزوجات، بل كان الزوجات يشتركن في التعليق والضحك.
رابعا:
طبعا دار حديث طويل عن الشرق الأوسط بمناسبة وجودي، فيكفي أن تسمع الأسئلة الدقيقة المستنيرة التي كانوا يسألونها، والتي تدل على أنهم ليسوا في عماء وجهالة كالتي رأيتها في كولمبيا بالنسبة للعالم الخارجي، لتعلم الفرق البعيد بين إقليم وإقليم، بين الجنوب من ناحية والغرب من ناحية أخرى ... يسألونك هنا مثلا عن حركة الإخوان المسلمين، وعن حركة الدروز في سوريا، وعن قوة الشيشكلي أو ضعفه، وعن عزم الباكستان أن تكون دولة دينية، أعني دولة ثيوقراطية، وعن مصر هل تنوي أن تفعل ذلك في دستورها الجديد؟ وآثار ذلك إذا كانت له آثار؛ وإذا ورد ذكر الإسلام، فمنهم من كان يعلق تعليق الفاهم فيقول أحدهم مثلا: إن الفرق بين المسيحية والإسلام هو فرق في المسيح لا في الله؛ فالديانتان إلههما واحد بعينه، لكن المسلمين يفهمون المسيح فهما يختلف عن فهم المسيحيين ... وهكذا وهكذا، فما أبعد هذا الجو المستنير عن مثيله في كولمبيا حين كان الناس يسألونني أسئلة كلها سذاجة وقلة اهتمام بأمور الدنيا الخارجية.
الخميس 4 فبراير
ذهبت بعد الغداء مع الدكتورة سنثيا شستر - أستاذة الفلسفة - إلى مكان تسجيل الطلبة للنصف الثاني من العام الدراسي، فوجدته منظرا يكاد يبعث على الضحك؛ ففي الملعب الكبير المسقوف مدت مناضد على شكل حدوة الحصان، وجلس ممثلو الأقسام المختلفة في الجامعة، وكتب أمام كل منهم لافتة باسم القسم، مثلا «فلسفة» أو «طبيعة» أو «لغة إنجليزية» ... إلخ، ويأتي الطالب فيسأل ممثل القسم الجالس: ماذا أستطيع أن أتلقى عندكم من أشواط دراسية؟ فيوضح له ممثل القسم أنواع الدراسات التي عنده ... والذي أضحكني هو أن المنظر كان أشبه بمنظر الدلالين الذين ينادون على بضاعة يريدون بيعها؛ فممثلو الأقسام حريصون كل الحرص على أن يلتحق الطلبة بأقسامهم؛ ولذلك هم يعرضون ما عندهم بشكل فيه إغراء للطالب ... ويسأل الطلبة أحيانا أسئلة تضحك، فمثلا جاء طالب إلى ممثلة قسم الفلسفة الدكتورة شستر، وكنت واقفا إلى جوارها، فسألها: ماذا في القسم من دراسات تصلح لي؟ فقالت له: كذا وكذا وفلسفة إسلامية؛ فسأل في دهشة: فلسفة إسلامية؟! ما هذه وما عساها أن تكون؟ (يلاحظ أن الفلسفة الإسلامية أضيفت إلى الدراسات هذا النصف الثاني من العام بمناسبة وجودي فقط وستزول بعد سفري) فقالت له الدكتورة شستر: هي دراسات عن الإسلام، ومن المفيد لنا أن نعرف عن ثقافات العالم المختلفة ... إلخ إلخ؛ فسألها الطالب: وما موعد هذه المحاضرات؟ فقالت له: أيام الإثنين والأربعاء والجمعة من الساعة الواحدة والثلث؛ فصفر الطالب وقال: واحدة وثلث! إني أكون عندئذ أنزلق على الجليد، لا، هذا لا ينفعني، ماذا عندكم غير هذا؟! وهكذا وهكذا، والطالب لا يعجبه شيء في قسم الفلسفة فيستعرض أقساما أخرى ليرى ماذا يروق له لينتقيه ... وترى الأساتذة في قلق أضحكني، فمثلا إذا كانت هناك مادة لم يتقدم إليها أحد ، وجدت ممثل القسم مشغول البال، يبحث جادا عن طلبة لها، ويوصي زملاءه في الأقسام الأخرى أن ينصحوا الطلبة بالتقدم إلى هذه المادة المهجورة وهكذا.
الجمعة 5 فبراير
دعانا الدكتور «د. و» وزوجته إلى مشاهدة رواية تمثيلية ... المسرح غرفة من فندق، وهو شيء لم أشهد له مثيلا، ولو أنه يقال إنه نوع من المسارح انتشر في الولايات المتحدة وخصوصا الولايات الغربية، ويسمونه «مسرح الحلبة»، وذلك أن تصف المقاعد صفوفا على جوانب ثلاثة من جوانب الغرفة، ويترك الجانب الرابع مؤديا إلى الأبواب التي يدخل منها الممثلون ويخرجون، والمسرح هو وسط الغرفة، فإذا انتهى فصل أطفئت الأنوار كلها لحظة قصيرة ثم أضيئت على الفصل الثاني.
أحسست بغرابة في أن يكون التمثيل قائما بين صفوف الجالسين، ولكني كذلك أحسست عمق الأثر وصدقه؛ لأنك سرعان ما تنسى أنك إزاء مسرح وتمثيل؛ لانعدام الوسائل المصطنعة؛ فالأمر في حقيقته لا يزيد ولا يقل عما لو كنت جالسا في بهو فندق وأمامك الناس يتكلمون، هم في حالهم وأنت في حالك، لكنك تسمع ما يقولون وترى ما يصنعون لقربهم منك؛ وإذا فهذا النوع الغريب من المسرح التمثيلي تنقصه ما في المسرح المألوف من جو مسرحي خاص، لكنه في مقابل ذلك يزيد عن المسرح المألوف في عمق الأثر وصدقه.
الرواية التي شهدناها رواية مشهورة، عنوانها «ولدت بالأمس» وخلاصتها أن فتاة لعوبا مغرية كانت جاهلة ساذجة، فاستغلها ثري يجمع ثراءه بالغش مستعينا في ذلك برشوة عضو في الكونجرس، وعن للثري أن يعلم غانيته هذه حتى تصلح للمجتمع الذي يتحرك فيه؛ فجاءها بمعلم خاص ظل يعلمها حتى جاوزت الحد المطلوب إلى حد جعلها تفهم حقائق الأمور وتثور عليه وتفضحه ... ويقال إن للرواية أساسا حقيقيا في عهد الحكومة الماضية؛ إذ استطاع رجل أن يثرى ثراء ضخما برشوته لأصحاب النفوذ ... وحدث أن أحبت الفتاة معلمها وأحبها المعلم فتزوجا، وإذا فهي قائمة على نفس الأساس الذي تقوم عليه رواية «بجماليون» لبرناردشو؛ وعلى كل حال فالموضوع قديم قدم اليونان: حب الفنان لفنه؛ ففي أسطورة بجماليون الأصلية أحب النحات تمثاله الذي نحته، وبعدئذ راح رجال الأدب يستمدون من الأسطورة تخريجات أخرى، من أشهرها أن يكون الفنان معلما وأن يكون الأثر الفني متعلمة، وأن يقع الحب بين الفنان وأثره؛ أي بين المعلم وتلميذته.
والممثلون والممثلات في مسرحية الليلة كلهم من الهواة، ولعل هذا أعجب ما في الأمر كله؛ لأن تمثيلهم قد بلغ حدا من الجودة يستحيل أن يبلغه إلا ممثلون وممثلات من الطراز الأول؛ وليس يخامرني شك في أن الفتاة التي مثلت دور الغانية سيكون لها في عالم التمثيل شأن كبير؛ وقد سألت فعلمت أنها تعمل بائعة في نادي الاتحاد - اتحاد الطلبة - وهي في الوقت نفسه طالبة.
ذهبنا بعد مشاهدة التمثيل إلى منزل الدكتور «د. و»، وظللنا نتحدث إلى قرب الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؛ إنني كل يوم أزداد إيمانا بالفارق البعيد بين الغرب والجنوب في وجهات النظر؛ فقد تحدثنا الليلة في مشكلة الزنوج، فوجدتهم يستبشعون الفصل اللوني السائد في ولايات الجنوب.
وسألني الدكتور «د. و» هل توقعون في مصر يمين الولاء؟ قلت له: ولاء لمن؟ قال: لبلادكم؛ قلت: ولاء المصري لمصر متضمن في كونه مصريا؛ فقال متهكما على ما هو سائد في أمريكا اليوم: نعم، وكان ولاء الأمريكي لأمريكا متضمنا في كونه أمريكيا، ثم تبدلت الحال معنا وأصبح الأمريكي في حاجة إلى أن يوقع يمينا بالولاء لبلاده.
السبت 6 فبراير
قرأت في مجلة «العالم الأمريكي» مقالين كل منهما غاية في الامتياز، وكل منهما غاية في جرأة التفكير ... أما أحدهما ففكرة جريئة فيما تعودت ألا أسمع عنه في ولايات الجنوب شيئا إلا دلائل الخوف والجزع، هو مسألة «الولاء للوطن» التي حدثني عنها أمس الدكتور «د. و»؛ فكل أستاذ جامعي في هذه البلاد (وقد يكون كل موظف حكومي على الإطلاق) يوقع وثيقة ولاء لبلاده، يتعهد في الوثيقة أنه لم يكن في يوم من الأيام ولا هو الآن ولا ينوي أن يكون في المستقبل منتميا إلى أي نشاط شيوعي، وبغير هذا «الولاء» لا يجوز أن يظل في منصبه.
أول المقالين الجريئين اللذين قرأتهما اليوم هو في هذا الموضوع، وعنوانه «الولاء والحرية»، يقول فيه كاتبه - وهو أستاذ في جامعة هارفارد: إن هذا «الولاء» حبس للحرية الفردية، وقد قام الدستور الأمريكي - بل المجتمع الأمريكي بأسره - بادئ ذي بدء على حرية الفرد، وكل شيء بعد ذلك إنما يستمد وجوده من تلك الحرية الفردية، ولن تكون للأفراد حرية إذا سيقوا جميعا في مجرى فكري واحد تنطمس فيه أوجه الاختلاف بين الأفراد، وإلا فما الفرق بيننا وبين روسيا الشيوعية في ذلك؟
نعم، إني أعيد هنا ما لاحظته فيما مضى، وهو أن الأمريكيين في جزع وفزع ورعب وخوف من الشيوعية، ويستحيل على الأجنبي أن يحس إحساسهم هذا إلا إذا جاء ليعيش بينهم حينا، ويرى كيف يتكلمون في هذا الموضوع همسا، يتكلمون وهم يتلفتون يمينا ويسارا خشية أن يسمعهم سامع دخيل ... قد لا يكون معنى ذلك أنهم راغبون في شيوعية، لكن معناه أنهم ساخطون على هذه الحركة العنيفة التي يقوم بها ماكارثي في البلاد كلها درءا للشيوعية، مما اقتضاه أن يطغى على حرية الأفراد وكل حرية عزيزة على الأمريكي، ولا يرضى بغيرها بديلا.
وأما ثانية المقالتين، فكانت هجمة عنيفة على الذوق الفني في أمريكا؛ إذ يزعم الكاتب أن الفن لا يجري في عروق الأمريكيين، بل هم يضيفونه إلى حياتهم إضافة الزائدة.
دعيت إلى القهوة عصرا في منزل الدكتور بتر مع السيد «ش» وزوجته الدكتورة الفيلسوفة «س. ش» ... والدكتور بتر كان رئيسا لقسم الفلسفة فيما مضى، وهو الآن متقاعد، يبلغ من السن حول الخامسة والسبعين، وكذلك زوجته تبلغ ما يقرب من هذه السن.
منزل الدكتور بتر أمنية يتمناها أي إنسان في الدنيا له شيء من الثقافة وحسن الذوق؛ رأيت منه بهوا وغرفة المكتب وهي التي جلسنا فيها ... البهو فسيح نوعا ما ومؤثث في بساطة وجمال ليس بعدهما زيادة لمستزيد؛ وأما غرفة المكتب فصغيرة بطنت جدرانها بالخشب، وفي هذه البطانة الخشبية ذاتها رفوف تدور مع جدران الغرفة الأربعة، ملئت كلها بالكتب، وأربعة مقاعد أو خمسة مختلفة الشكل واللون والحجم اختلاف التباين الجميل؛ وقد أوقدت نار المدفأة وأضيئت المصابيح الخافتة ذات المظلات المنقوشة في هدوء ورقة.
قالت الدكتورة «س. ش» إن هذا المنزل في رأي كثيرين من الناس هو «المسكن» الوحيد في مدينة بلمان؛ أما بقية البيوت «فمنازل» (إنني أستعمل كلمة «مسكن» لتقابل لفظة
home
ولفظة «منزل» لتقابل لفظة
house ) ... وهنا وجدت أنا الفرصة سانحة لأعبر عن شديد إعجابي بجمال الذوق في كل شيء حولي، وبالروح الدافئة النابضة التي تشيع في كل جزء من أجزاء المكان، ثم سألت: ما الذي يجعل «المنزل» «مسكنا»؟ فأجابتني السيدة بتر (صاحبة الدار) قائلة: أظن أن أهم عامل هو أن يكون المنزل قديما في بنائه وفي أثاثه ... وهنا هبط علي ما يشبه الوحي، وعرفت لماذا تخلو منازلنا المصرية من الروح، عرفت لماذا تتصف منازلنا بهذه البرودة التي تقشعر لها الأجسام؛ ذلك لأنها - على عكس ما قالت السيدة بتر - قد فرشت بالجديد اللامع البراق! إنني كلما رأيت «مسكنا» من هذه «المساكن» الدافئة بروحها، انتقل خيالي فجأة إلى «منزلي» بالقاهرة، وأحسست البرودة تسري في مفاصلي وعظامي، أحسست بالبرودة تسري على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز.
السيدة بتر - مثل زوجها - غزيرة الثقافة جدا، فلا هم لهذين الزوجين الكهلين سوى القراءة وخدمة الدار! إي والله، فلا خادم عند هذين الكهلين ولا خادمة، تراهما يسعيان في أنحاء دارهما يعدان للضيوف ما يعدانه، وينظفان ويغسلان ويمسحان ثم ... يقرءان! ومن لطيف ما قالته السيدة بتر أنها تعلمت من خبرة الحياة أن بعض الرجال يؤذيهم أن تأمرهم امرأة، فإذا أرادت امرأة من رجل أن يؤدي عملا فعليها أولا أن تستوثق من أن الرجل ليس من أولئك الذين لا يحبون الائتمار بأمر أنثى ... وهنا علق السيد «ش» بأنه رجل من أولئك، مع أنه المثل الوحيد الذي شهدته في حياتي لرجل يقيم في المنزل بلا عمل إلا أن يعد الطعام وينظف الدار، على حين تقوم زوجته الدكتورة «س. ش» بكسب الرزق لهما معا!
وبعد أن فرغنا من زيارة الدكتور بتر وزوجته، انتقلنا - السيد «ش» وزوجته وأنا - إلى دار هذين حيث دعواني على العشاء ... لهما قط يعزانه إعزازا يدعو إلى العجب، وقد أجلسته الدكتورة «س» على حجرها، وراحت تربت له بكفها، وتقص علي قصة القط العزيز ... أخذته صغيرا ولما شب وعرف لذائذ الحياة الليلية أخذ يموء ويصرخ لنطلق سراحه بالليل، فأشفقنا عليه وفتحنا له الباب وذهب إلى ما لست أدري أين، والظاهر أنه في الليلة الأولى قد غرق في المتعة طيلة الليل فلم يعد إلينا إلا مع الصبح، وعاد متعبا ورقد على الأرض منهوكا يغط في نعاسه طول النهار، وما هو إلا أن ظهرت عليه بعد حين كل الدلائل الدالة على «عقدة أوديب» - أي الدالة على حبه لأمه حب الذكر للأنثى - فقد حاول مرات عدة أن يتصل بأمه، لكن أمه استعصت عليه وكانت تفلت منه هاربة إلى حيث لا يستطيع اللحاق بها، ولم يلبث أن دارت معارك دامية بينه وبين أبيه، كان يعود بعدها دائما مهزوما يقطر الدم من جراحه ... (وهنا تنظر الدكتورة الفيلسوفة إلى قطها مخاطبة إياه قائلة: كان ينبغي أن تتعلم بالخبرة بعد معركة أومعركتين) ...
هنا سألت الدكتورة الفيلسوفة إن كانت حقا ترى أن «عقدة أوديب» لها أثرها في الآدميين (وبالطبع لم أفهم حديثها عن القط إلا على سبيل المزاح) فهل تدل مشاهدة الحياة اليومية على أن الرجل يشتهي المرأة التي هي على طراز أمه؟ أم هي نظريات لا تتفق والواقع الملحوظ؟ فقالت الدكتورة «س»: إن العجيب في هذه النظرية هو أنها تتأيد بالإيجاب والنفي معا، فإذا كان الرجل يشتهي الأنثى على غرار أمه كانت النظرية صادقة، وإذا هو اشتهى الأنثى من طراز مختلف كانت النظرية صادقة أيضا؛ لأنه في هذه الحالة يشعر بتحريم شديد نحو أمه ونحو سائر من يشبهها من نساء، إلى حد يفقده الرغبة في طرازها، وما التحريم الشديد إلا دليل على وجود الرغبة الشديدة في أول الأمر، رغبة لم يقتلعها من نفسه إلا تحريم شديد ... ولذلك نرى بعض الناس تشتد شهوتهم للغرباء عن جنسهم، بمعنى أن تتقرر رغبة الرجل لامرأة من وطن غير وطنه، إمعانا منه في البعد عن طراز أمه، وكذلك قد تشتد شهوة الرجل إلى امرأة تختلف عنه لونا، ومن ذلك ما يقال عن جورج واشنطن أن في أوراقه الخاصة ما يدل على أنه في الوقت الذي لم يستطع فيه الاقتراب من امرأة بيضاء - مع شدة إعجابه بكثير منهن - أشبع شهوته الجنسية في نساء سوداوات.
الأحد 14 فبراير
جاءتني في الصباح السيدة «ج» لتأخذني إلى «مدرسة الأحد - ففي الكنائس أيام الآحاد يجتمع الأطفال في أعمار مختلفة ليتلقوا دروسا، ويسمون هذا النظام في الكنيسة «بمدرسة الأحد» - فهي متطوعة للتدريس في كنيستها أيام الآحاد، وأرادت أن تعرضني على أطفالها نموذجا لرجل جاء من أرض الإنجيل أو ما يجاورها ... الأطفال في فرقتها تقع أعمارهم في التاسعة أو العاشرة، وكان هناك أربعة من رجال وسيدات - عدا السيدة «ج» - كلهم منوط بهم الإشراف على هذه الفرقة الدراسية ... الغاية في جمع الأطفال هذا في الكنيسة هي تعويدهم ارتياد الكنيسة منذ الصغر؛ ولما كانت الصلاة أمرا قد يتعذر أداؤه وفهمه وتقديره على هذه الأعمار الصغيرة، رأيتهم يجمعون الأطفال في فصول دراسية ملحقة ببناء الكنيسة ذاتها، بل رأيت كنائس ملحقا بها أبهاء للعب الأطفال الذين هم دون سن الدراسة، فترى هناك الكرات والعرائس والعجلات وما إلى ذلك، ومجموعة الصغار يلعبون ويصيحون.
وقفت السيدة «ج» أمام مجموعة أطفالها - وكانوا حول الثلاثين طفلا، ويجلسون على تخوت مدرسية - وأعلنتهم أن زائرا معهم اليوم، جاءهم من مصر القريبة من الإنجيل، وأن هذا الزائر سيحدثهم عن بعض ما رآه بنفسه في البلاد المقدسة.
وعندئذ بدأ مدرس يعرض الصور بالفانوس السحري عن القدس وتل أبيب ويافا وغيرها من بلاد فلسطين، وكنت كلما طاف برأسي شيء خاص بإحدى هذه الصور مما قد يلذ للأطفال أن يعلموه تحدثت عنه ... ومن الصور التي عرضت صورة أسماها «البوابة الذهبية»، وقال لهم مدرسهم إن هذه البوابة مغلقة، أغلقها المسلمون، وهم يقولون إن الوادي الذي ينتهي إلى هذه البوابة مشدود فيه سلك رفيع، وسيمشي الناس على هذا السلك يوم القيامة، وعندئذ ستنفتح البوابة لمن يستطيع الوصول ... فأثارت هذه القصة اهتمام الأطفال، وأخذوا يسألونه: أين هو السلك؟ هل مشى على السلك أحد؟ من الذي أغلق البوابة؟ وكيف ستفتح البوابة حين تفتح؟ وما سمك السلك على وجه الدقة؟ ... إلخ إلخ. فلما أزهقوا المدرس بأسئلتهم وهو في كل رد يرد به على سؤال يقول لهم: هذه عقيدة المسلمين وعلينا أن نحترم عقائد الناس؛ أقول: إنهم حين أزهقوا المدرس بأسئلتهم قال لهم: مهما يكن من أمر هذه القصة فنحن باعتبارنا مسيحيين لا شأن لنا بها، وكل ما يجوز لنا أن نقوله إزاءها هو أنها عقيدة المسلمين، وأننا نحترم عقائد الناس، لكننا لا نلتزم بها.
فلما انتهى من عرض صوره قال لهم: ربما تفضل زائرنا الآن بالتحدث إليكم؛ فقمت وقلت لهم: ما دامت قصة السلك قد أثارت اهتمامكم فأحب أن أقول لكم إن السير على سلك رفيع أو ما يشبه السلك الرفيع، يراد به الرمز إلى العمل الصالح؛ وانفتاح البوابة لمن يستطيع الوصول رمز لدخول الجنة جزاء العمل الصالح؛ فالعمل الصالح كثيرا ما يكون عسيرا صعبا؛ لأن الإنسان يقاوم به شهواته ورغباته؛ ولذلك شبهوا أداءه بالمشي على سلك رفيع ... فوقفت السيدة «ج» وقالت: إذا فهذا شبيه جدا بما قاله المسيح وورد في الإنجيل، وهو أن الطريق إلى الجنة ضيق، وأما الطريق إلى جهنم فواسع عريض.
وأخذ الأطفال بعد ذلك يمطرونني بأسئلة عن مصر: عن الهرم وأبي الهول والجمال والصحراء والجيزة، وأرواق البردي ومقابر القدماء ... إلخ.
ثم جاءني مدرس يلح علي في أن أصعد معه إلى الطابق الأعلى لأتحدث إلى تلاميذه، وهم أعمار تتراوح بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة، وقد علمت أن هؤلاء الأيفاع يعدون لمهمة التبشير ... لفت نظري في هذا المدرس أنه رث الثياب إلى درجة لم أرها على أمريكي آخر، فحذاؤه ممزق فعلا، وبدلته بالية، ووجهه يدل على إهمال وفقر، ولغة كلامه لا تدل على أن صاحبها قد ظفر بشيء من التثقيف.
صعدت إلى فرقته وقوامها ستة أولاد وأربع بنات؛ أما البنات فقد جلسن هادئات في ركن من الغرفة، وأما الأولاد فعجب من العجب هم شرذمة من المجرمين! كل واحد منهم بغير استثناء جلس جلسة فيها كثير جدا من الشذوذ والتحدي، فوقفت أمامهم أبتسم، فأي نبات يا ترى سيخرج من هذه البذور؟ أهو النبات الصالح الذي يعدونه للتبشير بالمسيحية بما فيها من سماحة وحب؟ إنهم فريق من الأطفال المشردين الذين بدءوا حياتهم بالجريمة، وإن كانت خبرتي الطويلة بالتلاميذ قد علمتني شيئا، فلا شك عندي في أن هؤلاء الأولاد الستة جميعا ستنتهي حياتهم بالجريمة كما بدأت ... ومع ذلك فشتان بين أسئلتهم التافهة وأسئلة الأطفال الصغار في الطابق الأسفل.
ولما فرغت من هؤلاء وأردت الخروج جاءتني فتاتان من الفتيات الأربع اللائي كن في هذه الفرقة وسألنني سؤالا عجيبا - وكان مدرسهن واقفا معي - وهو: إذا كان آدم وحواء قد أنسلا ولدين هما قابيل وهابيل، ثم قتل قابيل هابيل، فمن أين أتى قابيل بزوجة يتزوجها ليستمر النسل ويتكاثر البشر؟ ... فضحكت وقلت لهم: إني لست حجة ولا شبه حجة فيما ورد في الإنجيل من قصص، فربما يكون هذا الذي أشرتما إليه نقصا في تكوين القصة، ولكني أرجح أن هذه الأسماء: «قابيل» و«هابيل» ... رموز لقبائل بأسرها لا أسماء لأفراد، وقتل قابيل لهابيل معناه فتك قبيلة بقبيلة، وإذا فبقاء قابيل هو بقاء قبيلة بأسرها فيها الرجال والنساء يتزاوجون ويتناسلون ... فبهذا التفسير ننقذ القصة التي وردت في كتابكم وكتابنا.
الثلاثاء 16 فبراير
دعاني السيد «ه. ه» وزوجته أن أقضي معهما المساء، فذهبت إليهما في صحبة السيد «ش»؛ فتحت السيدة «ب. ه» الباب ورحبت، وكان زوجها واقفا على مقربة منها مرحبا، كلاهما في سن الخامسة والثلاثين أو ما يقرب منها؛ أما السيدة «ب» فمن أجمل وأروع نساء الدنيا أجمعين، هي أميل إلى الطول، مليئة الجسم إلى حد الكمال، لها بشرة شفافة رائقة، ووجه باش سمح، ثم هي كثيرة الضحك في خفة دم ونشوة روح.
جلسنا نتحدث، وما هي إلا أن قدمت لنا «ب» ما صنعته من قهوة وشاي وكعك ... بدأ حديثنا بالهنود الأصليين وما بقي منهم في المحابس التي تحصرهم هنا وهناك، وذلك بمناسبة ذكرنا لبعض البلاد التي تحمل أسماء هندية؛ فالكثرة العظمى من البلدان والأنهار والجبال لا تزال تحمل الأسماء الهندية القديمة؛ فسألتهم: أين آثار هؤلاء الهنود الأصليين؟ فكان السؤال غريبا عليهم، وقالت السيدة «ب» إنه من العجب أن هذا السؤال لم يطرأ لها من قبل، وأجمعوا على أنه ليس للهنود الأصليين من أثر؛ فسألت قائلا: وكيف يمكن عقلا أن يترك نظراؤهم في المكسيك آثار مدنية لا بأس بها، والهنود في هذه البلاد لا يتركون شيئا؟ فعللت السيدة «ب» هذه الظاهرة بكثرة الخيرات في أرض الولايات المتحدة، مما صرف سكان البلاد الأصليين عن كل أوجه النشاط، كما هي الحال - مثلا - في القبائل البدائية في أفريقيا الوسطى.
وانتقل الحديث إلى المقارنة بين الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإنجليزي بمناسبة ما قلته لهم مما كنت أقرؤه لتوي قبيل زيارتهم من أن الفرنسيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة خالطوا الهنود الحمر وتزوجوا منهم في أول الأمر، ثم وقفت هذه الحركة حين تمت السيادة للإنجليز ... وجعلت أحدثهم في استفاضة عن الاستعمار الإنجليزي وكيف أنه أنكب ما نكب به تاريخ البشر، فوجدتهم متشككين في صواب هذا الحكم، وكان الحديث عندئذ بيني وبين السيدة «ب»، فقلت لها: خذي أي قبيلة بدائية مما خضع للإنجليز مائة عام أو مائتين، ثم اختاري أي مقياس للتقدم تشائين، اختاري المستوى الاقتصادي أو الثقافي أو ما يحلو لك أن تختاري، وطبقي مقياسك هذا على هؤلاء الناس؛ لتعلمي أنهم اليوم كما كانوا عند أول استيلاء الإنجليز عليهم عريا وجهلا وفقرا وهمجية، فماذا صنع لهم الإنجليز إذا؟ ... ولم أدع الفرصة تمضي حتى شرحت لهم كذلك فظائع الفرنسيين في بلاد المغرب؛ ليعلموا كيف يمنع حماة الحرية الإنسانية دخول الصحف العربية والكتب في بلاد المغرب، بل كيف منعت فرنسا إعانة القمح التي أرسلتها مصر إلى مراكش منذ بضع سنين حين اجتاحتها مجاعة؛ لأن الفرنسيين يفضلون أن يموت المراكشيون جهلا وجوعا على أن يشعروا بأواصر القربى بينهم وبين سائر البلاد العربية.
وانتقل الحديث بعد ذلك إلى نقد التربية والتعليم في أمريكا، وكان السيد «ش» من أقسى الناقدين، زاعما أن المستوى الجامعي في أمريكا أدنى منه بكثير في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وهي بلاد عاش فيها سنوات طويلة جدا من عمره ... وقد ذكروا جميعا أن حكومة الولايات المتحدة قلقة من الضعف العلمي بين الطلاب؛ فهنالك سطحية علمية بين المتعلمين لا شك فيها ... ثم عاد السيد «ش» إلى الحديث، وقارن الأمريكيين بالألمان وعمقهم في البحث قائلا: إن الألمان لا يزالون يحافظون على النظرية التي سادت العصور الوسطى - وهي النظرية الصحيحة في رأيه - من أن واجب رجال العلم أن يبحثوا للعلم في ذاته، بغض النظر عن جانبه التطبيقي، أما هنا في أمريكا فقد ألهاهم التطبيق وسرعته عن التعمق في البحث النظري لذاته.
فاعترضته قائلا: وكيف يمكن التطبيق بغير سابق علم نظري؟ لكننا لم نوف هذا الاعتراض حقه من الحديث؛ ثم سألت قائلا: بماذا نعلل نزوع الألمان إلى التعمق العلمي؟ فأجابني السيد «ش» بقوله: إنها في الحقيقة نزعة إلى التصوف؛ فلماذا يزهد الحكيم الهندي عندكم (السيد «ش» يعلم جيدا أني مصري ولست بهندي، لكن الشرق كله كثيرا ما يختلط في الأذهان بعضه مع بعض) فينصرف عن شواغل الدنيا إلى جمع الحكمة لذاتها؟
ولعل أعلى قمة ارتفع إليها حديثنا كانت حين انتقلنا إلى الأدب الأمريكي، وهل له مميزات خاصة به؛ وقد سألني هذا السؤال السيد «ه. ه» بمناسبة قولي لهم إن الفن الأمريكي لا يتميز عن الفن الأوروبي، فهو امتداد لمدارسه واتجاهاته؛ فقلت: إني في الحقيقة لم أقرأ من الأدب الأمريكي إلا مجموعة من قصص قصار، بالإضافة إلى التعليقات النقدية التي تنشر عن الكتب الجديدة، وأستطيع أن أقول في حدود هذا العلم الضئيل إن الأدب الأمريكي له مميزاته، التي من أهمها أن يدور التحليل حول أشخاص عاديين في ظروف عادية من الحياة، وسرعان ما انتقل الحديث إلى المسرحية؛ لأنني ذكرت شيئا مما قرأته عن مسرحيات يوجين أونيل، وهنا دارت المناقشة الجيدة بين السيد «ش» في ناحية، وبيني أنا والسيد «ه. ه» وزوجته «ب» في ناحية أخرى؛ فنحن نقول إن المأساة قد أصبح لها معنى جديد يختلف عن معناها على يدي شيكسبير، وهو أن يكون البطل رجلا عاديا أو امرأة عادية، ولم تعد هناك ضرورة إلى أن يكون البطل ذا مكانة عالية في المجتمع؛ نتيجة للديمقراطية السائدة التي سوت بين الأشخاص في القيم إلى حد كبير، حتى إن اختلفوا في المناصب والثروة ... لكن السيد «ش» أجاد الدفاع عن وجهة نظره إجادة منقطعة النظير قائلا: إننا لم نعد نكتب المأساة على نحو ما كتبها شيكسبير عجزا منا لا بسبب تغير الظروف الاجتماعية؛ إنه يستحيل على المأساة أن يتم معناها الأدبي إلا إذا كان البطل «نبيلا» ثم هوى: فليست المسألة مسألة اختلاف في معنى الكلمة بحيث نقول إن كلمة «مأساة» كان معناها كذا أيام شيكسبير، وأصبح معناها كذا في أيامنا؛ بل لب المسألة هو أن في الفطرة الإنسانية نزوعا غريزيا نحو «النبل» تعجب به ثم تأسى له حين يهوي؛ إنني إذا قرأت مأساة عن رجل مثلي فكل ما يحدث هو أن أعطف عليه وأشاركه الشعور بالحزن، لكن الوجدان الأساسي في المأساة هو سقطة الرفيع - وليس ذلك مجرد عطف على ما أصابه ومشاركته في حزنه - بل هو ميل في الطبيعة الإنسانية نحو أن ترتفع وأن تأسى إذا هوت ... إننا نحن المسيحيين قدسنا المسيح؛ لأنه أشبع بقصته ميلا فطريا فينا، وهو رغبة التكفير عن الخطيئة، وكذلك بطل المأساة يشبع فينا ميلا فطريا على هذه الصورة عينها ... لقد أجاد شيكسبير تصوير فولستاف - مثلا - كما أجاد تصوير هنري الرابع في مسرحية واحدة، فلماذا لم يجعل فولستاف بطل الرواية؟ كان هذا مستحيلا عليه؛ لأنه ينقض فكرة المأساة في صميمها؛ فمصير فولستاف مهما ساء لا يشبع فينا ما يشبعه مصير هنري الرابع، كأنما المتفرج على الرواية يقول لنفسه: أنا مثل فولستاف؛ فليس مصيره بما يهمني، لكن أين أنا من هنري الرابع؟ فلأتعقبه بنظري إلى حيث هو في ارتفاعه، حتى إذا ما هوى كان لهويه حسرة تختلف في طبيعتها عن مشاركة فولستاف في أساه إذا تأسى لسوء أصابه.
فقال السيد «ه. ه»: خذ مثلا رواية «من هنا إلى الأبد»، فالبطل في هذه الرواية جندي بسيط، وأصابه ما أصابه من عنت، فترى المتفرج يحزن لمصابه أشد الحزن؛ لأن ذلك الجندي رياضي ونحن شعب يمجد الرياضة؛ وإذا فمعنى العظمة قد تغير في أنظارنا، نتألم للرياضي يصيبه السوء أكثر مما نتألم لملك يهوي عن عرشه ... فوافقته أنا بقوة؛ لأنني شاهدت الرواية وأدركت فيها هذا المعنى؛ أما السيد «ش» فقال إنه لم يشهدها؛ ولذلك يحسن بنا أن نبحث عن مثل آخر.
ثم أضفت أنا نقطة نظرية إلى الموضوع، فقلت: إن التحليل النفسي منذ فرويد قد ساعدنا على كشف الخبيء من النفس البشرية، فكنا بمثابة من هتك الستر عمن كانوا موضع رفعة، وبهذا يسقط جانب هام من مقومات المأساة عند شيكسبير، حين عرفنا أن الرفيع في ظاهره قد يكون مدفوعا في حياته بأحط الدوافع ... لكن أحدا لم يعلق على هذا الرأي، وانتقلنا بالحديث إلى مصر في ثورتها الحاضرة.
الأحد 21 فبراير
أزحت الستار عن النافذة فرأيت سحابا من فوقه سحاب، وفوق السحاب سحاب ... ظللت في غرفتي حتى جاءني الدكتور «ه. و» ظهرا ليستصحبني إلى داره في سيارته حيث دعاني إلى الغداء مع أسرته، وقد كانت جاءتني الدعوة عن طريق زوجته التي تحضر لي محاضراتي في الفلسفة الإسلامية.
وجاء مع الدكتور «ه. و» ابنه الصغير، في نحو التاسعة من عمره، أعجبني طلاقته في الحديث وجرأته؛ قال لي حين ركبت معهما السيارة إن مدرستي بالقرب من منزلك، وأنا أقطع الطريق بين منزلنا والمدرسة مشيا؛ فسألته وكم من الزمن يستغرق منك هذا الطريق؟ فقال: خمس عشرة دقيقة لو كنت ماشيا، وخمس دقائق لو كنت جاريا، وأكثر من خمس عشرة لو قابلني في الطريق أحد أصدقائي واستوقفني ليتحدث إلي في شيء! ... فلم يسعني إلا أن أضحك لهذه الإجابة العجيبة يجيب بها هذا الطفل الصغير.
قال لي الدكتور «ه. و» - مشيرا إلى ولده هذا - عندما وصلنا إلى داره واستقبلتنا زوجته: عندنا ثلاثة أطفال، هذا أوسطهم؛ وأصغرهم مريض في الفراش؛ وأما أكبرهم فمشغول الآن في بيع الجرائد، وعشمي أن يوفق إلى الحضور في موعد يتيح له أن يراك ... هذا الولد الأكبر الذي يبيع الجرائد عمره اثنا عشر عاما، هو تلميذ في مدرسة ابتدائية، لكنه يستغل فراغه في توزيع الجرائد، فإذا لاحظنا أنه ابن أستاذ - بل رئيس لقسم بأسره من أكبر أقسام الجامعة - لمسنا فارقا من أهم الفوارق وأعمقها بين هذا الشعب العامل النشيط وبين أي شعب آخر.
كان مدعوا معي مدرس في الجامعة شاب وزوجته، وكان أهم ما تحدثنا فيه بعد الغداء الروح الفنية بين الأمريكيين بالقياس إلى شعوب أخرى كأهل الصين واليابان، وقد كان الدكتور «ه. و» يدرس في الصين لبضع سنوات ومعرفته بالشرق الأقصى واسعة عميقة دقيقة.
فذكرت لهم فيما ذكرت من ملاحظاتي أن الأمريكيين لم ينشئوا فنا خاصا بهم، وأنهم تابعون للاتجاهات الفنية الأوروبية، بل اجترأت - بعد طلب المعذرة من السامعين - أن أكون صريحا، فقلت إن الفن لا يتغلغل عميقا في حياة الأمريكي؛ فالأمريكيون - بصفة عامة - يضيفون الفن إلى حياتهم إضافة من خارج دون أن تمس منهم القلب والصميم، فترى الرجل منهم وقد أثرى وجمع الملايين، دون أن يعيش حياة فيها التفات جاد إلى الفن، تراه يشتري بكذا مليونا من الدولارات صورا أو تماثيل يهديها إلى هذا المتحف أو ذاك، كأنما يكفر بهذا عن خطيئة إهماله الطويل للفن في حياته العادية اليومية، وضربت مثلا آخر يوضح هذا الاتجاه، وهو إقامة «المناسك» في شمال مانهاتن في نيويورك؛ إذ جاءوا بجدرانها وسقوفها وسائر أجزائها من مواضع مختلفة بأوروبا وأقاموها على أرضهم ليكون لهم كما للبلاد القديمة أثر قديم! وكذلك ذكرت نبأ الدير القديم الذي اشتراه ثري أمريكي من إسبانيا ونقله حديثا جدا إلى فلوريدا بعد أن فكت أجزاؤه حجرا حجرا ونقلت وأعيد بناؤها، ثم جعلت متحفا يدخل إليه الزائرون بأجر معلوم ليستعيد الثري ماله وزيادة ... وسألت الحاضرين قائلا: هل وجود هذين البناءين على أرض أمريكية يدل على روح فني في أمريكا؟! إنهما أضيفا إليها من الخارج، ولم تنبع من نفوسهم الداخلية تعبيرا عن خوالجهم ومشاعرهم، وهكذا الفن في أمريكا يشترى أكثر مما يكون جزءا من الحياة؛ إنه لا يستساغ شفطة شفطة مع أيام الحياة وساعاتها، بل يجتلب اجتلابا بالجملة كأنه سلعة من السلع التي تباع في أسواق الجملة.
ذكرت في هذه المناسبة مقالا قرأته عنوانه «أمريكا والفن» لكاتب أمريكي ناقد اسمه «لويس كروننبرجر» يقول فيه إن الأمريكيين ليسوا شعبا فنيا كأهل الصين واليابان وفرنسا؛ وذلك لأن الأمريكي منبسط وليس هو بالمنطوي على نفسه؛ فانبساطه النفسي يخرجه من حدود نفسه، ومن ثم يكون رجل أعمال ولا يكون فنانا، يكون مخترعا للآلات لكنه لا يكون راسما للصور ولا ناحتا للتماثيل، فذلك أمر طبيعي ما دام الأمريكي يرى أمامه قارة واسعة تنتظر من يكشف كنوزها ويستغل مكنونها، وإذا فهو مشغول بالمغامرة والكشف في خارج نفسه، وليس هناك ما يدعوه إلى الانطواء على دخيلة نفسه ... إن الفن لا يوجد إلا حيث تقل الموارد الطبيعية، فعندئذ «يتفنن» الإنسان في القليل الذي عنده؛ خذ مثلا المرأة الفرنسية، فهي أقدر نساء الدنيا اختيارا للزينة والثياب؛ وذلك لأن الطبيعة قد سلبتها جمال الفتيات الطبيعي الذي تراه مثلا عند الإنجليزيات والأمريكيات، فراحت «تتفنن» في القليل الذي عندها ... عند الأمريكيين وفرة طبيعية، فليسوا هم بحاجة إلى أن يستعيضوا عن الطبيعة فنا، وعن المادة الحقيقية صورة، وعن الموضوع الحي خيالا ووهما.
فوافق الحاضرون على ضحولة الحياة الفنية في أمريكا، وأخذ الأستاذ الداعي وزوجته يشرحان لنا كيف يكون الفن جزءا من حياة الصيني أو الياباني، ومما يدل على هذا الاندماج التام بين الحياة والفن أنهم يكتبون كتاباتهم العادية بفرجون الفنان، فإذا اشتريت من الدكان شيئا، وكتب لك البائع «فاتورة» بما اشتريت، كتبها بفرجون وبنوع من المداد يستحيل إزالته وتكاد تكون القاعدة أن يخط الكاتب خطوطه بالفرجون دون أن يخطئ في خط واحد ... إن الصيني إذا رسم فلا يأخذ ألوانه وعدته ليجلس بها أمام ما يريد تصويره، بل تراه يجلس وحده في المنظر الذي يريد تصويره، يجلس هناك ناظرا متأملا أياما بل أسابيع، حتى إذا امتلأ بموضوعه، رسم الصورة في بضع دقائق، فتراه يجلس على الأرض في غرفته، ويخطط بالفرجون، فإذا الصورة هناك ، صورة الطبيعة التي شربها شربا، لا كما هي في الواقع المحس، بل كما امتزجت في نفسه.
وجاء ذكر الفن العربي، فقال لي الشاب مدرس التاريخ: إنني زرت إسبانيا ولفت نظري في الآثار الفنية العربية هناك أن ليس بينها رسوم تصور الحياة؛ أعني أنني لم أر على الجدران أو السقوف رسما لطائر أو حيوان، وكل ما رأيته هناك من الطبيعة المرسومة النجوم وما إليها، فبماذا تعلل ذلك؟ فقلت: أولا كان الدين يحرم إخراج الأحياء في نحت أو تصوير، وثانيا - وهو الأهم - لم يكن العرب بأصحاب ذوق فني إلا في شعرهم، كانوا صناعا ولم يكونوا بفنانين، يستخدمهم السلطان أو الغني ليبنوا له المسجد أو المنزل ويزخرفوه له، فلم يكن عند الفنان شيء خاص يضطرب في نفسه ويريد التعبير عنه، كان الفنان «يصنع» كأي صائغ أو نجار ... نعم، كانت صناعته على درجة كبيرة جدا من المهارة، لكنها صناعة على كل حال، تتم في الخارج ولا ترن بأصداء النفس الداخلية.
الجمعة 26 فبراير
قرأت في مجلة «أتلانتك» لشهر مارس مقالا جيدا جدا في موضوعه، كتبه «هارولد ستوك» الذي كان مديرا لجامعتي نيو هامبشير ولويزيانا، وهو الآن عميد لكلية الخريجين في جامعة واشنطن بمدينة سياتل؛ والموضوع هو موقف الجامعات إزاء الطلبة الذين يشتركون في الألعاب الرياضية اشتراكا يصرفهم عن المحاضرات العلمية.
وقبل أن ألخص هذا المقال الممتاز من حيث طرافة الفكرة لا بد أن أذكر ما يستحيل أن يعرفه من لم يأت إلى هذه البلاد، وهو مدى اهتمام الناس بالمباريات الرياضية؛ سيقول القائل: لكن أليست هذه هي الحال في إنجلترا مثلا؟ فأجيب قائلا: لا وألف مرة لا؛ فقد كتبت في يومية سابقة، يوم أن قامت مباريات الكرة بين جامعة كارولاينا الجنوبية في كولمبيا وبين كلية كلمسن في نفس الولاية، كيف وجدت الناس يومئذ في المطاعم والدكاكين والشوارع يتحدثون عن المباراة ونتيجتها كأنهم يتحدثون عن أخبار حرب قائمة، أو كما يتحدث المصريون في القرى عن أسعار القطن وقت حصاد القطن ...
ففي هذه البلاد ملاعب عامة يجتمع فيها المتبارون من الجامعات، وأهم هذه الملاعب يقع في ولايات الجنوب؛ وذلك لدفئها في الشتاء، فبذلك تجتذب ألوان الناس من أنحاء أمريكا كلها ليقضوا عطلة فيها متعة الجو الدافئ ومتعة التفرج على المباريات؛ ومن أهم هذه الملاعب أربعة: وعاء الورد، ووعاء السكر، ووعاء القطن، ووعاء البرتقال. وإنما يطلقون على الملعب «وعاء»؛ لأنه يشبه الوعاء في تكوينه؛ فله قاع هو أرض اللعب، وجدران منحدرة حول القاع هي التي ترص على جنباتها صفوف المقاعد؛ ثم يصفون «الوعاء» بأهم محصول في منطقته، ومن ثم يصفون الملاعب بقولهم «وعاء القطن» و«وعاء البرتقال» ... إلخ. ومما يعين على تقدير أهمية المباريات الرياضية بين الجامعات أن مدرب الفرقة يتقاضى عادة أكبر راتب في الجامعة كلها، قد يساوي في راتبه مدير الجامعة وقد يفوقه أحيانا؛ ذلك لأن الجامعة تعلق أهمية كبرى على كسبها للمباريات؛ لما فيها من كسب مالي وذيوع للشهرة؛ ولذلك ترى الجامعات تتنافس منافسة حامية على اجتذاب الرياضيين المعروفين إليها حتى لقد يصل الأمر إلى رشوة هؤلاء اللاعبين بالمال.
كتب هذا الكاتب مقالته الجريئة في تفكيرها؛ ليرد بها على ألسنة النقد التي لا تفتر في كل جامعة بين الأساتذة والطلاب جميعا، معبرة عن القلق الشديد الذي يساورهم: لماذا يعامل اللاعبون في الجامعة معاملة فيها محاباة؟ لماذا تتساهل الجامعة معهم عند تقدير مستوياتهم العلمية؟ وهكذا ... فقال هذا الكاتب ما خلاصته: إننا يجب أولا أن نضع أمامنا مقدمة أولية نبني عليها تفكيرنا، وهذه المقدمة هي أن اللاعبين الرياضيين في الجامعة قد تغير وضعهم عن ذي قبل، فبدل أن كانت المباريات المدرسية مقصودا بها تربية الطلاب ورفاهيتهم، أصبحت اليوم وسيلة لتسلية الجمهور، كأي فرقة مسرحية ... الجمهور الأمريكي الآن يدفع ملايين الدولارات ليتفرج على المباريات بين الجامعات، وأصبحت هذه الملايين جزءا رئيسيا في الإنفاق على التعليم، ثم أصبح من واجبات الجامعة الاجتماعية أن تقدم للجمهور هذه التسلية، وإذا فالنتيجة هي أن نفرق في أذهاننا تفرقة تامة بين اللاعبين الرياضيين في الجامعة وبين سائر الطلبة؛ أعني أن اللاعبين الرياضيين لا يعدون طلابا وإن كانوا يعدون من أبناء الجامعة التي ينتسبون إليها؛ فليس كل من ينتمي إلى الجامعة طالبا، فهناك الأستاذ وهناك الإداري وهناك من يقوم بأبحاث علمية دون أن يكون في هيئة التدريس ولا في جماعة الطلبة، وهنالك الرياضي الذي يلعب باسم الجامعة ليشهد الجمهور اللعب فتكسب الجامعة مالا من جهة، وتهيئ للجمهور تسلية يحبها من جهة أخرى.
إن موقف الجامعة من الرياضيين يختلف فعلا عن موقفها من الطلبة الآخرين، فلماذا نحاول جعل الفريقين نوعا واحدا؟ تقبل الجامعة الطالب العادي لتعلمه ما لم يكن يعلم، لكنها تقبل الرياضي لأنه بالفعل يعلم ما يعلمه من مهارة في اللعب؛ الطالب العادي يتعلم في الجامعة شيئا سيفيده ويفيد المجتمع بعد تخرجه لا أثناء وجوده طالبا في الجامعة، أما الرياضي فيمارس شيئا ينفع المجتمع أثناء وجوده في الجامعة لا بعد تخرجه، بل قد يبطل النفع بعد التخرج؛ وظيفة الجامعة هي أن تخدم الطلبة العاديين، أما الرياضيون فهم الذين يخدمون الجامعة التي ينتسبون إليها، فنتيجة هذه الفوارق كلها هي أن الطلبة العاديين نوع، والرياضيين نوع آخر، تراعي في النوع الأول مبادئ التربية، وتراعي في النوع الثاني مبادئ الأعمال في سوق التجارة؛ إن الألعاب الرياضية مورد كسب كبير لمعاهد التعليم، فقد كسبت معاهد التعليم هذا العام (1953-1954م) من المباريات مائة مليون من الدولارات؛ إن الجمهور لا يعلم، وربما هو لا يريد أن يعلم من الذي عين مديرا للجامعة في بلده، لكنه يهتم كل اهتمام لمن يعين مدربا للفرقة الرياضية؛ الفرقة الرياضية في الجامعة كأي فرقة مسرحية مثلا، تلعب للناس فتكسب الشركة التي تلعب الفرقة باسمها، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا تعقد الجامعات الأمريكية أكبر مبارياتها في ملاعب الجنوب في فصل الشتاء؟ أليس معنى ذلك أنها تضع عينها على المشاتي التي يقصدها الناس فتلعب لهم هناك في مشاتيهم لتستدر منهم مالا؟ إذا فهي تنظر إلى الأمر نظرة مدير الملهى حين يتعقب المتفرجين في مصايفهم أو مشاتيهم؛ فخطأ كبير أن نطالب القائمين بهذه «الملاهي» الرياضية باسم الجامعة بتحقيق شروط هي نفسها الشروط التي نطالب بها الطلبة العاديين.
فإذا كان رجال التربية قد حيرهم التوفيق بين مقتضيات التربية وبين حياة الرياضيين من طلاب الجامعات؛ فذلك لاضطرابهم في التفكير وغموضهم في تحديد الأغراض، أما إذا وضحوا الأمر لأنفسهم على هذا الوجه زال الإشكال؛ فالتربية ومبادئها للطلبة العاديين، والمطلوب مبادئ أخرى لنوع آخر من الناس هم اللاعبون الرياضيون؛ إنهم يظنون أنه ما دام اللاعبون قد أتوا مع سائر الطلاب من المدارس الثانوية، ودخلوا معهم جامعة واحدة، وهم يتساوون مع هؤلاء في السن، فلا بد إذا أن يكون الجميع صنفا واحدا خاضعا لشروط بعينها؛ لكن لا، فبين النوعين فرق في العمل الذي يؤدى وفي الغاية المقصودة، إن كان المطلوب من الطلبة العاديين أداء امتحانات والحصول على درجات ... إلخ؛ فالرياضيون لم يأتوا إلى الجامعة طلبا للعلم كسواهم، إنهم ليسوا بحاجة إلى علم بل إلى تدريب ... لماذا يقلقنا المستقبل العلمي لشاب دخل الجامعة ليلعب الكرة؟ قبلته الجامعة على هذا الأسس، وهو التحق بالجامعة على هذا الأساس، فالجامعة والطالب متفقان معا على الهدف، فما مبرر القلق على تحصيله العلمي؟ فلنتذرع بالشجاعة في تفكيرنا، ونعترف بأن الجامعة قد قبلت اللاعب الجيد لأنه لاعب جيد لا لأنه طالب جيد، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون معاملته بغير قلق أو تردد.
ولو أراد لاعب رياضي أن يكون طالبا علميا إلى جانب ذلك فلا مانع طبعا، لكننا عندئذ نحمله تبعة ذلك، سنطلب منه ما نطلبه من اللاعبين، فإذا وجد أن التدريب المطلوب يستحيل أن يساير المحاضرة والمذاكرة، فعليه أن يختار: إما لاعب أو طالب، وقد يقول قائل: ماذا تريد؟ أتريد أن نقبل هؤلاء اللاعبين بغير شرط؟ والجواب هو: الشروط لقبولهم يضعها مدربو الألعاب ومنظمو المباريات، ولا شأن لهيئة التدريس بها.
الطبيب المجيد هو الذي يراجع تشخيصه للمرض إذا وجد أن الدواء لم يفلح، والعالم المجيد هو الذي يراجع النظرية العلمية إذا وجد أنها لا تفسر الظواهر التي يريد تفسيرها، وكذلك رجل التربية المجيد هو الذي يغير رأيه في قواعد التربية إذا وجد أن ظروف الحياة قد تغيرت؛ وقد تغيرت الظروف في أمريكا من حيث إن الفرق الرياضية أصبحت فرقا لتسلية الجمهور؛ فعلى هذا الأساس الجديد ينبغي أن نعيد إليها النظر. •••
تقع بين محاضرتي ساعة من فراغ، قضيتها في نادي الأساتذة أشرب فنجانا من القهوة، فلما كنت في طريقي إلى هناك، قابلت الدكتور «ف. ب» هذا العالم الجليل الشيخ الذي كان رئيسا لقسم الفلسفة ثم تقاعد، وهو يحضر لي محاضراتي بغير تخلف، قابلته في طريقي إلى نادي الأساتذة، فدعوته أن يحتسي معي فنجانا من القهوة ... وكان بين ما قاله لي ونحن جالسان في النادي: إننا نحن الأمريكيين نعيش تحت ضغط فكري لم نشهد له مثيلا؛ إن رجلا واحدا مثل ماكارثي بمحاكماته وتحقيقاته قد أحدث فينا جميعا نوعا من الرعب والفزع، فأصبح كل إنسان منا جبانا في تفكيره السياسي، فلا يجرؤ أحد مثلا أن ينطق بكلمة عن الشيوعية؛ ثم مضى الدكتور الفيلسوف يوجه النقد المر للحالة الفكرية التي تسود أمريكا، ووصفها بالتفاهة والسطحية، قال: إن نفسي لتموع كل صباح حين أقرأ الصحيفة اليومية، تموع نفسي مما أرى في الصحيفة من تفاهات وسخافات ... ثم أشار إلى صحيفة في يده، وكان في صدرها عنوان بالخط الكبير، وهو: «لنعد إلى الله، هكذا يقول أيزنهاور» (وهي عبارة وردت في خطبة ألقاها أيزنهاور أمس)، قال الدكتور: انظر مثلا إلى هذا العنوان «لنعد إلى الله، هكذا يقول أيزنهاور» وحللها تجد سخف العقل كامنا وراءها، فهل نعود إلى الله لأن أيزنهاور يقول لنا ذلك؟ هل ترجح كفة الإيمان بالله؛ لأن أيزنهاور قد آمن؟ أم ماذا يريد هذا الصحفي الذي نشر عنوانا ضخما كهذا يستوقف به الأنظار؟ بل ماذا يريد أيزنهاور نفسه بعبارة كهذه يسوقها في خطاب سياسي؟ أهو حاكم أم قسيس واعظ؟ أم أن الأمر كله تهريج في تهريج؟!
وقلت للدكتور «ف. ب» في مناسبة أخرى من سياق حديثنا: إنني أزداد إيمانا بأن المرأة أقوى من الرجل شخصية مهما بدا من الظواهر التي تدل على غير ذلك، وبرهاني هو : افرض أن رجلا وامرأة يحب أحدهما الآخر بقدر متساو، ثم اختلفا على أمر، أليس الأرجح جدا أن يذعن الرجل آخر الأمر للمرأة في رأيها؟ فقال الدكتور ضاحكا: حدث منذ قريب أن اختلفت مع زوجتي على لون السجادة التي نشتريها: هي تريدها خضراء، وأنا أريدها حمراء، واشتد الخلاف بيننا واحتد العناد رغم تفاهة الموضوع، فلما رأيت الأمر بيني وبينها يسير من سيئ إلى أسوأ؛ وافقتها على اللون الأخضر، وسميت تصرفي هذا عندئذ «توفيقا بين وجهتي النظر» مع أنه لا توفيق هناك، فهزيمتي صريحة ونصرها قاطع.
السبت 27 فبراير
يوم مشمس جميل، جلست ساعة الضحى مع شاب أمريكي في مقصف نادي الاتحاد، فأنبأني بأنهم افتقدوني ليلة أمس في الاجتماع الأسبوعي الذي ينعقد في منزل الدكتور «ف. ب»؛ فأسفت لذلك أسفا شديدا؛ لأني نسيت الموعد، فلم يكن أحب إلي من هذا الاجتماع بما يسوده من دفء العاطفة وارتفاع التفكير ... سألته: وماذا كان موضوع المناقشة ليلة أمس؟ فقال: قرأ علينا أستاذ الاجتماع بحثا في ضرر الموجة الماكارثية التي تطغى على البلاد الآن وتهدد حرية الرأي فيها تهديدا خطيرا، وهنا تحدثت مع الشاب - هو مدرس ويحضر في الوقت نفسه رسالة الدكتوراه - في مدى الحرية التي يجوز أن يسمح بها لسواد الناس في تبادل الآراء، وكنت متحفظا في رأيي لأنني ضيف على البلاد، فلا يجوز أن أقول ما عساه أن يعد نقدا خارجا، غير أني ذكرت له مقالة قرأتها في مجلة «بوست» لهذا الأسبوع، كتبها المحرر نفسه ليفتتح بها العدد، ورد فيها أن أستاذا في جامعة منسوتا قد ألقى بحثا علميا في الاقتصاد انتهى فيه إلى أن الأسعار يجب أن تحدد في بعض الحالات، فشم بعض أولي الأمر في هذا البحث رائحة الشيوعية، فقدموه إلى لجنة جامعية تحاكمه، لكن الجامعة انتهت من المحاكمة بإعلان براءة الأستاذ الباحث، معلنة بأنها تريد أن تجعل نفسها مركزا لحرية البحث العلمي، وبعد أن انتهى محرر المجلة من عرض الأمر على هذا النحو أدلى برأيه ورأي مجلته، وهو أن الجامعة قد خلطت الأمور وضلت سواء السبيل؛ فحرية الرأي - في نظر المحرر - حق مباح ندافع عنه، لكن لا إلى الحد الذي يجعلنا نعتنق مبادئ تنتهي آخر الأمر إلى هدم الحرية نفسها التي ندافع عنها؛ ولهذا فرأي المحرر هو أن الأستاذ كان ينبغي فصله من الجامعة جزاء ما أذاع من نتائج خطيرة على الحرية!
لا شك عندي أن هذا تعنت وتزمت، وقد كان آخر ما أتصوره عن أمريكا أن يقيد فيها الرأي العلمي إلى هذا الحد البعيد. •••
جاء إلى غرفتي ساعة العصر الدكتور «ك» وهو صاحب المنزل الذي أسكن فيه، وسألني إن كنت أحب أن أرافقه هو وزوجته في رحلة بالسيارة إلى مدينة لوستن - وهي تبعد عن مدينة بلمان ثلاثين ميلا - فرحبت بالدعوة شاكرا.
هذه أول مرة يحدثني فيها الدكتور «ك» منذ قدومي، مع أنني أسكن معه في منزل واحد! إنه شاذ بغير شك، وكنت قد بدأت أكرهه؛ لأنه لم يتعمد زيارتي طول هذه المدة، بل كنت ألاحظ أنه يتجنب لقائي إذا وجد أن المصادفات قد تؤدي إليه! ... هو خنزيري الملامح، يقفز في مشيته قفزا لا رشاقة فيه، وكنت حكمت عليه من هيئته بالغباء، لكني وجدته اليوم أثناء حديثي معه خلال رحلتنا بالسيارة من أحد الناس التفاتا إلى ثنايا الحديث، ودقة في المعلومات، ومنطقا في الرد والاعتراض.
جلسنا - الدكتور «ك» وزوجته وأنا - في الكرسي الأمامي من السيارة، والشمس لا تزال مشرقة والجو ما زال شفافا، والرؤية فسيحة الأفق؛ الأرض أمواج من تلال هي رءوس الجبل، والذي لم أكن أتخيله قبل أن أراه هو أن تكون هذه الأمواج الجبلية كلها مزروعة قمحا، ولم تألف عيني أن ترى القمح مزروعا على سفوح جبلية ليس فيها أدوات الري ولا قنوات الصرف؛ فالمنظر يختلف اختلافا بعيدا عن منظر حقول القمح عندنا في مصر.
تحدثنا في موضوعات عدة، منها أن سألني الدكتور «ك» عن رأيي في إنجلترا وسياستها، قائلا إنه شخصيا من المدافعين المتحمسين عن كل ما هو إنجليزي، فقلت له في انفعال شديد إن إنجلترا في سياستها الاستعمارية هادمة للمدنية، وأخذت أعرض الأمر كما أراه، لولا أن زوجته انحرفت بالحديث؛ ولا أدري أكانت متعمدة أم جاء ذلك عفوا، فسقط الموضوع وبدأنا غيره وغيره.
انتهزت فرصة إدراكي لدقة هذا الرجل في معلوماته، وسألته عن أمر كنت أحب أن أزداد به علما، وهو: إذا كان الأمريكيون خليطا من مهاجرين أوروبيين، فما الذي جعل المهاجرين الفرنسيين والهولنديين والإسبان يتكلمون الإنجليزية، بحيث أصبحت الإنجليزية هي لغة الأمريكيين قاطبة؟ فقال: جاء الأمر تدريجا، فمر على ثلاث درجات: خطوة كان كل قبيل يتكلم لغته الأصلية؛ وخطوة ثانية كان الأطفال يتعلمون فيها الإنجليزية في المدارس ويتكلمون اللغة الأصلية في المنازل، وإنما يتعلمون الإنجليزية في المدارس لكثرة المهاجرين الإنجليز كثرة عددية بالنسبة لسائر المهاجرين؛ وخطوة ثالثة أصبحت الإنجليزية فيها هي لغة المدارس والمنازل في آن معا ... على أن هناك بعض جماعات ظلت إلى زمن قريب جدا تتكلم اللغة الأصلية، وقال: سأشير لك الآن في طريقنا إلى بلد سنمر عليه اسمه «يونين تاون»، سكانه من المهاجرين الألمان، ظلوا يتكلمون الألمانية إلى أن كنت أنا طالبا في المدرسة الثانوية، والناس في ولاية نيومكسكو إلى الآن يتكلمون الإسبانية في كثير من المواضع، بل إن قانون ولاية نيومكسكو يجعل الإسبانية لغة رسمية إلى جانب الإنجليزية، كذلك في ولاية لويزيانا لا يزال كثيرون هناك يتكلمون الفرنسية وخصوصا الكهول.
أشرفنا فجأة على حافة واد عميق جدا واسع، يلتقي فيه نهران: نهر «سنيك» (الثعبان) ونهر كلير ووتر (الماء الصافي)، فترى من الارتفاع الذي كنا عليه التقاء النهرين، كما ترى مدينة «لوستن» في قاع الوادي؛ الفرق بين المرتفع الذي كنا عليه وجوف المنخفض الذي سنهبط إليه ألفا قدم، والانتقال في المنظر مفاجئ حتى ليدهش الرائي الذي لا يتوقع أن يرى ما رآه؛ والنزول من القمة إلى الوادي يكون على طريق هو معجزة في تعبيد الطريق: طريق يدور مع السفح في دوائر وانثناءات، هابطا تدريجيا مع دورانه وانثناءاته حتى تصل إلى بطن الوادي، وعندئذ تدرك انتقالا مفاجئا في درجة الحرارة؛ ففي الوادي دفء شديد بالنسبة إلى القمة التي هبطنا منها.
ودرنا بالسيارة في أنحاء البلد؛ كانت «لوستن» غريبة في عيني حتى لقد أحسست أني انتقلت إلى عالم آخر لا إلى بلد قريب، ولعل هذا الشعور مصدره طريقة النزول إليه منزلقين على طريق يذهب ويجيء في حضن الجبل، ووقوعه في جوف إناء من الأرض فسيح القاع جدرانه جبال محيطة بقاعه ... مدينة لوستن قريبة جدا من أحد محابس الهنود الأصليين؛ فالهنود الأصليون محصورون في محابس منتثرة هنا وهناك في أرجاء الولايات المتحدة، وليس معنى انحصارهم في محابسهم أنهم محرم عليهم الخروج والسفر، بل معناه أن الحكومة قد اختصت كل مجموعة من مجموعات الهنود الأصليين بمساحة من الأرض يستغلونها دون أن يلتزموا بالضريبة، ولا يجوز لأحد من البيض أن ينافسهم في أرضهم تلك ولا ما يقع فيها من أنهار وأشجار وغيرها؛ وفي مقابل هذه الحقوق يضيع على الهنود حقهم في التصويت، أو بعبارة أخرى: يضيع عليهم حقهم في أن يكونوا مواطنين؛ غير أن لكل هندي - كما أفهمني الدكتور «ك» في هذه الرحلة - الحق في التنازل عن امتيازاته تلك إذا أراد أن يكون مواطنا له ما للأمريكيين وعليه ما عليهم، والكثرة الساحقة منهم يؤثرون امتيازاتهم على أن ينخرطوا في سلك المواطنين.
رأيت ونحن ندور بالسيارة في أنحاء البلد أفرادا من الهنود يسيرون في الطرقات، لكني رأيتهم بالثياب العادية المألوفة نساء كانوا أو رجالا، وكنت أظن أن الهنود الأصليين لا يرتدون إلا الملابس التي أراهم فيها حين أراهم في السينما مثلا، فسألت الدكتور «ك»: أين الريش الذي يتميزون به على رءوسهم كما ألفناهم في الصور؟ فضحك وقال: إنهم لا يلبسون ثيابهم الوطنية الأصلية إلا في مناسبات، وهم عادة لا يلبسونها إلا إذا تقاضوا أجرا لقاء ذلك، كأن يلبسوها مثلا لمخرج سينمائي أو نحو ذلك، وإذا فهي مورد كسب لا أكثر ولا أقل.
وعدنا فصعدنا بالطريق المنثني إلى القمة التي هبطنا منها، وسرنا في مرتفعنا شطر مقرنا «بلمان»؛ وفي طريق عودتنا فتح الدكتور «ك» موضوع الإنجليز واستعمارهم مرة أخرى، فحدثت بيني وبينه طوال الطريق مناقشة بدت فيها سرعة البديهة بالنسبة لكلينا؛ فالدكتور «ك» - على غبائه البادي في ملامح وجهه وطريقة مشيته - عسير في مناقشته، غير أني أعتقد أنني كنت أقوى منه حجة، لا بسبب ضعفه في المناقشة، بل بسبب ضعف القضية التي يدافع عنها، وقضيته هي أن الإنجليز قد بلغوا في استعمارهم حد الكمال، ومن أضعف جوانب مناقشته المثل الآتي، أسوقه لأدل به على مدى التحيز في نظرة الإنسان مهما كان عالما كالدكتور «ك».
قال: سأترك الآن قناة السويس؛ لأن عاطفتك متصلة بها ولا تصح فيها المناقشة، وأنتقل إلى جبل طارق، فهل ينكر أحد أن إنجلترا قد صانت هذه النقطة الهامة لصالح العالم كله؟
قلت: أنا لا أحب الكلمات العائمة المبهمة، فما معنى «العالم» في هذا السياق؟ أيشمل «العالم» الصين والروسيا مثلا؟
قال: لا، بل الولايات المتحدة.
قلت: كأن تعريف العالم عندك هو بلدك الذي تعيش فيه؟
قال: وما الضرر في أن أنظر إلى الموضوع من وجهة نظري؟ ألا يجوز أن تكون هي أيضا وجهة نظر «العالم»؟
قلت: إنك تذكر كلمة «العالم» مرة أخرى، هل تظن أن الإسباني ينظر بنفس هذا المنظار؟
قال: لا، استثن الإسبان، تجد غرب أوروبا كله يرى الرأي نفسه.
قلت: ولماذا تجعل غرب أوروبا والولايات المتحدة هما «العالم»؟
وانتقل بنا الحديث إلى الهند، فقال: إن هنودا ممن كانوا يسخطون على الإنجليز وهم يحكمونهم، يعترفون الآن أن الفضل في تقدم الهند راجع إلى الإنجليز.
فقلت له: لست هنديا لكني لا أوافق على رأي هؤلاء الهنود؛ لأنه يكفي أن تذهب إنجلترا إلى الهند وهي وحدة تاريخية جغرافية، وتخرج منها وهي شعبان يتقاتلان: الهند وباكستان؛ فقد أبرزت إنجلترا ما بينهما من خلاف ديني، وأغرقت ما بينهما من نقط اتفاق لا تعد ولا تحصى.
قال: لكن هل من شك في أنهم تركوا هناك القانون الإنجليزي؟
قلت: كأن المدنية عندك مرهونة بالقانون الإنجليزي، وإذا فالولايات المتحدة نفسها بهذا المقياس ليست متمدينة ولا فرنسا متمدينة كذلك؟
وهنا وصلنا إلى المنزل، فشكرت لهما هذه الرحلة التي كانت في الحق ممتعة من حيث مناظر الطريق، لكنني لا أستخف دمهما، وخصوصا الدكتور «ك» وقد حد هذا بالطبع من متعة الرحلة.
الأحد 28 فبراير
مر علي في الصباح الدكتور «ج» ليأخذني إلى الكنيسة المنهجية التي دعيت أن أقول فيها للمجتمعين «موعظة» الأحد، وكانت «موعظتي» هي شرح مبادئ الإسلام! وطريقتي دائما في كل الأماكن التي شرحت فيها مبادئ الإسلام أن أبين بوضوح أن اليهودية والمسيحية والإسلام كلها فروع من جذع واحد؛ حتى لا يخلط السامعون - كما هم يخلطون - بين الإسلام والديانات الهمجية، ظانين ألا ديانة جديرة بالاحترام إلا المسيحية أولا واليهودية ثانيا؛ وبعد أن أشرح كيف تتشابه هذه الديانات السامية الثلاثة، أبين كيف أن الإسلام إنما جاء يسد النقص الذي في الديانتين الأخريين، من حيث أنه جعل الدين عاما لا خاصا كما هو عند اليهود، ثم جعل الله واحدا لا ثلاثة كما هو عند المسيحيين.
ودارت مناقشة بعد الفراغ من كلمتي، فسألتني سيدة في نحو الأربعين من عمرها، سمحة الوجه وعليها بساطة الطهر ونقاؤه (وقد علمت بعد خروجنا من الكنيسة أنها فقدت زوجها منذ خمس سنوات، ولها خمسة أطفال، وهي مدرسة لمادة التدبير المنزلي في أحد أقسام الجامعة لتعول هذه الأسرة الكبيرة) سألتني قائلة: إذا كان الإسلام قريبا كل هذا القرب من المسيحية كما شرحت لنا، فكيف تعلل هذا التفاوت البعيد بين الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية؟ فقلت لها: إنني يا سيدتي رجل فلسفة بصفة عامة، ورجل منطق بصفة خاصة، ومدقق في معاني الألفاظ بصفة أخص، فماذا تعنين بعبارة «ثقافة مسيحية»؟ الثقافة مركب من علم وفن وموسيقى وأسلوب عيش وطريقة بناء للبيوت وارتداء لملابس ... إلخ إلخ، فهل تريدين أن تصفي كل هذا المركب المعقد بكونه مسيحيا؟ ثم ماذا يكون المعنى بعد ذلك؟ أما إذا أردت أن تقولي إن هناك اختلافا في المركب الثقافي بين البلاد التي أضيفت إليها العقيدة المسيحية والبلاد التي أضيفت إليها العقيدة الإسلامية، أجبتك بأنه خلاف لا دخل للمسيحية أو للإسلام فيه، فلو بدلنا الموقف وأعطيناكم الإسلام وأخذنا المسيحية؛ لظلت خيوط المركب الثقافي في الجانبين على ما هي عليه تقريبا؛ أنا لا أقول ألا أثر للدين في تشكيل وجهة النظر، بل أقول إن المسيحية والإسلام في هذا سواء، فلا اختلاف في النتيجة بين أن يشرب المجتمع جرعة من مسيحية أو جرعة من إسلام، ما دام كل منهما في أساسه دينا يعتقد في إله ذي صفات متفق عليها بين العقيدتين.
قالت: لكننا نلاحظ أن المسيحية دفعت الشعوب المسيحية إلى رفع مستوى معيشتها، على حين أن الإسلام لم يفعل ذلك في شعوبه؛ فقلت لها: أي شعوب مسيحية تقصدين هذه التي دفعتها العقيدة المسيحية إلى رفع مستوى معيشتها؟ أتكونين مسيحية أكثر من المسيح ذاته؟ والمسيح لم يأبه بمستواه الاقتصادي! إنه لم يفكر في أن تكون له ثلاجة كهربائية وسخان كهربائي وسيارة! أم المثل العليا المسيحية كما تمثلت في الرهبان والزهاد والأديرة والصوامع؟ وهؤلاء بالطبع هم المسيحية في أصفى وأنقى صورها؟ فهل كانت العقيدة دافعة لهم أن يرفعوا مستوى معاشهم؟ وأنت طبعا تقصدين برفع مستوى المعيشة هذه البحبوحة المادية من مال ومتاع، إنني لأكاد أقول إنك تزدادين مسيحية كلما نزلت بمستوى معيشتك! تزدادين مسيحية كلما خشنت ثيابك وهزل مسكنك وقل طعامك كما وكيفا، تزدادين مسيحية كلما قاومت رغبات الجسد - هكذا قال قادة المسيحية من رسل وفلاسفة - وما إشباع رغبات الجسد إلا ما تسمينه أنت رفعا لمستوى المعيشة ... إن مستوى المعيشة في أمريكا قد ارتفع لعوامل في أرضها من معادن ونبات وحيوان، لا لأن أهل أمريكا مسيحيون.
إذا يا سيدتي فلا الإسلام أفقر أهله ولا المسيحية أغنت أصحابها، بل العكس أولى؛ فالمسيحية إن دعت إلى شيء من ذلك فهي تدعو إلى الزهد والرهبانية، والإسلام إن دعا إلى شيء من هذا القبيل فهو يدعو ألا رهبانية، وأن الدنيا جديرة أن ينظر إليها الإنسان كأنما هو سيعيش فيها أبدا.
قالت: وماذا تقول في أثر الإسلام في معاملة المرأة من حيث الحجاب وما إلى ذلك؟ أليس ذلك ثقافة إسلامية؟
فقلت: لا، هذه ثقافة اجتماعية، كان الأمر كذلك قبل الإسلام، وكان يكون كذلك بغير الإسلام؛ إنك لو رأيت مسيحيا يأكل بالشوكة والسكين فلا تقولين إن المسيحية دعته إلى ذلك، بل تقولين إنه أسلوب عيش اجتماعي يأتي عليه أي دين فلا يغيره ... وعلى كل حال فاعلمي أن ليس في أصول الإسلام سطر واحد يقضي حتما بحجاب المرأة، وأن زوجة النبي قد خرجت معه للقتال، فليس الإسلام مسئولا عن أصول اجتماعية لم يقرها بل عمل على زوالها.
فاعترضت سيدة أخرى، راجعة بالحديث إلى نقطة رفع المستوى المعاشي بسبب العقيدة، قالت: لكنك أفهمتنا أن الزكاة من أصول الإسلام، وهي إعطاء نسبة معينة للفقير، فإذا لم يكن الدين عاملا على رفع المستوى الاقتصادي، فلماذا نعطي الفقير إذا؟
فقلت لها: إن أقل ما أجيب به هنا هو - على رأي أرسطو - ألا أخلاق بغير حد أدنى من ظروف مادية؛ فلكي يصلي المتدين فلا بد له من أنفاس يرددها في الصلاة، وهذه لا تكون بغير طعام ولا شراب، فهذا الحد الأدنى هو الذي نراعيه حين نحث على طعام المسكين.
وانتهى الاجتماع وكان لكلمتي ومناقشتي وقع عميق جدا في نفوس السامعين رأيته في نظرات الدهشة، وفي تحية الإعجاب التي حيوني بها وأنا منصرف.
الجمعة 19 مارس
كنا في منزل الدكتور «ف. ب» عصر اليوم، في الاجتماع الأسبوعي الذي يعقده في داره كل أسبوع؛ ومتكلمة الاجتماع اليوم هي الدكتورة «س. ش» وموضوعها «العقيدة المسيحية»؛ وذلك ليحدث شيء من التقابل والتوازن مع كلمتي التي ألقيتها في الاجتماع نفسه يوم الجمعة الماضية عن مبادئ الإسلام ... دار الدكتور «ف. ب» كعهدي بها قد بلغت حد الكمال من حيث الروح التي تشيع فيها أثاثا وكتبا وسقوفا وجدرانا، كل شيء فيه فواح بالعاطفة الإنسانية في أسمى معانيها وفي شتى نواحيها؛ فيه دفء القلب إلى جانب الفكر والدراسة، فإذا نسيت تجاربي كلها فلن أنسى السيدة «ب» وقد أحنت الأيام ظهرها تجلس على كرسيها كأنه العرش، وأمامها أدوات القهوة والشاي، ونتقاطر إليها هذا يطلب قهوة، وذلك يطلب شايا، والدكتور الكهل العالم المتواضع «ف . ب» يدور على الحاضرين بوعاء الفطائر التي خبزها هو اليوم بيديه!
كانت الدكتورة الفيلسوفة «س. ش» غاية في جرأة التفكير في كلمتها عن المسيحية؛ فبدأت بقولها إن المسيحية ديانة تعدد لا ديانة توحيد، وهي لا تعني فقط تثليث المسيحية، بل أضافت إلى ذلك كيف يتحدث المسيحيون عن قديسيهم؛ فهذا قديس خاص برعاية الزرع، وآخر بالملاحة وهكذا، ثم أخذت تشرح أساس الأخلاق المسيحية كما كانت في العصور الوسطى - وهي أنقى عصورها - وهو الزهد والتواضع وحب الإنسان لأخيه، وسألت قائلة: هل هذا هو ما يتخلق به المسيحيون فعلا؟ وهنا راحت تذكر نتائج المسيحية على الحضارة الإنسانية، فبدأت بقولها إنها كانت سببا في الحروب أكثر منها سببا في السلام، وأخذت تذكر الحروب والشناعات التي حدثت في أوروبا باسم الدين، ثم انتقلت إلى أثرها على العلوم فقالت إنها كانت نكبة على التقدم العلمي، وراحت تذكر أمثلة تفصيلية للاضطهاد في دائرة العلم والعلماء، ثم شرحت فكرة ذكرها فرويد في أحد مؤلفاته، وهي أن ثلاثة أرباع القوى العقلية عند الناس قد ضاعت بسبب الدين؛ ذلك أن الطفل يندفع إلى السؤال عن شيئين في طفولته، وهما: الله والجنس، فيصده الدين عن المضي في كليهما مضيا صريحا؛ فلا هو يبيح حرية السؤال عن الله بصراحة، ولا هو يبيح له حرية السؤال عن العلاقة الجنسية وأعضائها، وبهذا تنطمس الرغبة الطبيعية عند الطفل في السؤال والبحث، ويتعلم منذ طفولته - بسبب التضييق الديني - أن ينخرط مع الناس في خرافاتهم؛ واستطردت الدكتورة في ذكر رأي فرويد من أن الدين قد سبب للناس من الشقاء بقدر ما سبب لهم من السعادة ألف مرة؛ لأنه كان سببا في الكبت الجنسي وما يترتب عليه من آثار عميقة تحطم الشخصية وتلويها ... لكن الدكتورة المتحدثة عادت فذكرت للدين بعض فضائله، ومنها أن الكنيسة قد أتاحت للإنسان فرصة انضمامه إلى جماعة تتعاطف ولو إلى حين، فيكسبه ذلك شعورا بالطمأنينة، ثم كانت العقيدة الدينية حافزة أحيانا على البحث العلمي، بدليل ما ذكره نيوتن في كتابه «أصول الطبيعة» من أنه إنما أدى بحثه هذا ليكشف به عن خصائص الله، ثم كان للعقيدة الدينية أثر في الفنون تراه في كاتدرائيات العصور الوسطى وتصويرها ونحتها ... ثم عادت الدكتورة إلى هجومها مرة أخرى، قائلة وهي تختم كلمتها: إن المسيحية قد علمت الناس النفاق، بأن جعلتهم يعتقدون أنهم ذوو أخلاق معينة، مع أن حياتهم العملية هي أبعد ما تكون عن هذه المبادئ، ولو عاش المسيح اليوم في أمريكا لحكم عليه بالسجن متهما بعشرين تهمة؛ لأن أخلاقه ستكون متضادة مع القانون الأمريكي في كثير من نواحيه؛ والكنيسة المسيحية فوق هذا كله تمنع تطور الأخلاق؛ لأننا إذا اعتقدنا أن هناك مبادئ خلقية معينة لا تتغير، أنكرنا بالتالي ما يقتضيه تطور المجتمع من تطور خلقي، وكذلك الكنيسة عقبة في سبيل الديمقراطية الحقيقية، وضربت مثلا لما تعنيه ما يجري في الانتخابات الأمريكية من أن المرشح الفلاني لا أمل له في الدائرة الفلانية لأنه كاثوليكي وأهل الدائرة بروتستانت، أو لأنه بروتستانتي وأهل الدائرة من الكاثوليك وهكذا؛ وإذا فالمواطن الأمريكي متأثر في أداء واجبه الانتخابي بأشياء لا علاقة لها بكونه مواطنا أمريكيا، وذلك بسبب عقيدته الدينية.
كنت أتوقع بعد كلمة الدكتورة «س. ش» أن أسمع مناقشة حامية، لكن الذي أدهشني هو أن كل من تكلم بعد ذلك من الحاضرين، إنما تكلم ليضيف إلى مساوئ العقيدة الدينية سيئة جديدة، ومن أحسن من تكلموا شاب اتهم الديانات بأنها تجعل من الناس مرضى في نفوسهم؛ لأنها تصيبهم بالعلل العصبية بما تخلق فيهم من عقد نفسية بالخطيئة، فتراهم يمتنعون عن العيش عيشا سعيدا بما غرس فيهم الدين من تحريمات لا مبرر لها. •••
كانت الليلة موعد الحفلة الراقصة الكبرى التي أقامها طالبات السنة الثالثة من الجامعة بشتى أقسامها لانتخاب ملكة الجمال فيهن، وبالبداهة من ينتخب هم الطلاب الذكور، وقد تمت عملية الانتخاب أمس ، لتعلن النتيجة في هذه الحفلة التي تقام الليلة، إنها حفلة مشهورة بين حفلات العام كله بأنها لا تقتصر على الجامعة بل تشمل ألوفا جاءوا من أنحاء الولاية كلها، وأنا أستعمل «ألوفا» لأعنيها ؛ فقد قدروا أن من جاء إلى الحفلة الليلة عشرة آلاف راقص وراقصة.
كان لمن شاء أن يشتري تذكرة للفرجة دون الرقص، على أن يجلس في شرفة الصالة الفسيحة، فاشتريت تذكرة وجلست في الشرفة أنظر من أعلى إلى هذه الألوف المتزاحمة من فتيات وفتيان في أبهى حلة يرقصون ... منظر نادر الوجود في الدنيا بأسرها؛ الفتيات كلهن بغير استثناء قد لبسن فساتين السهرة أشكالا وألوانا، والكثرة العظمى من تلك الفساتين تكشف عن نصف الظهر بالكتفين وجزء كبير من الصدر، وفي ضوء المكان الخافت ظهرت هذه الأعالي العارية من ظهور وأعناق وصدور وأذرعة كأنها شهد وورد! بل لا أدري ماذا أقول، فما الشهد وما الورد حتى نقارن به هذه الأجساد البشرية الجميلة الشفافة التي تتدفق شبابا وحياة وفتنة وروعة؟! وكان معظم الطلاب قد ارتدوا حلل السهرة أيضا ... حين كانت تعزف الموسيقى أنغاما ناعمة خافتة، كنت أسمع حفيف الفساتين يضيف إلى الموسيقى نغما آخر هو في ذاته أجمل من الموسيقى، لكن الأدوار الموسيقية العالية كانت تغرق ذلك الحفيف، وتستبدل به فتنة أخرى، هي حركة الرقص السريعة التي تذكرك - إن كنت قد نسيت - أنك من هذه الشرفة إنما تطل على شباب في عز الشباب! ... كان «نيتشه» عليل البدن قصير النظر، وقد وقف ذات يوم إلى جانب الطريق حين مرت أمامه فرقة من الجيش الألماني تدق الأرض دقا بأقدامها القوية، فتحسر على نفسه وعلى بدنه العليل الهزيل، الذي لا يستطيع أن يمشي مثل هذه المشية الفتية العنيفة، وعندئذ تمنى للإنسان ألا يكون إلا هكذا قويا، ومن ثم نبتت في رأسه فكرة فلسفته كلها؛ وأعني بها فكرة «الإنسان الأعلى» ... وقد تذكرت ذلك وأنا أنظر من شرفتي إلى هذه المئات من الشباب الجميل يتلاصق حبا، وتنظر العيون إلى العيون غراما، تذكرت وتحسرت أنني لست واحدا من هؤلاء، ثم تمنيت للدنيا كلها ألا تكون إلا هكذا شباب وجمال وحب؛ قارن هذه المجموعة بأية مجموعة أخرى في أي وجه آخر من أوجه الحياة: عمال في مصنع مع عاملات، طلبة في جامعة مع طالبات، متفرجون في مسرح مع متفرجات، شارون في متجر كبير مع شاريات ... فلن تجد ما هو أروع في هذه الجماعات كلها من هذه المجموعة: مجموعة الراقصين والراقصات في هذه الثياب وفي هذا الشباب ... إن الذي قال إن الدنيا قد خلقت للعمل قد كذب، أو خلقت للدراسة قد كذب، إنما خلقت الدنيا للحب، الحب في إبانه، على شرط أن يكون المحبون من أصحاب الجمال وصاحباته.
وقفت الموسيقى، وصاح صائح مع ضربات طبلة دوت في المكان: «ملكة السنة الثالثة لهذا العام ...» أنصتت الآذان لتسمع من ذا يعلن عنها «ملكة» ... ثم أكمل الصائح صيحته ناطقا بالاسم، هي «مارثا» فدوى المكان بتصفيق حاد كادت ترتج له الجدران، طبل يدوي وزمارات تزمر في انفعال؛ الجو كله قد امتلأ بالفرح كأن نبيا جديدا قد أرسلته السماء ليهدي الناس فوق الأرض!
وعجبت أنا حينا كيف لم تنتخب «سوزان»؟ أنا لا أعرفها فليست من طالباتي، لكن رأيت إعلاناتها في الأسبوعين الأخيرين تسد الفضاء، تعترضك في الطريق وعلى الجدران وفي فصول الدراسة وعلى موائد المقصف والمطعم، وفي المذياع تسير به السيارات تشق به سكون مدينة بلمان الهادئة: «صاحب الوجدان ينتخب سوزان»، وغير ذلك من العبارات التي أجادت صياغتها لتجيء مجموعة منغومة، جاعلة من اسمها «سوزان» مرة و«سوزي» مرة أخرى و«سو» مرة ثالثة ... فمن ذا قد تحجر قلبه بعد هذا كله ولم ينتخب «سوزان»؟ إذا فلأرقب لأرى كيف تكون «مارثا» الظافرة بعرش الجمال ...
ها هم الراقصون والراقصات قد أفسحوا طريقا، وفجأة رأيت عربة العرش مارقة من وسط الزحام، لست أدري من أين جاءت؛ عربة زخرفوها بستائر من قماش مرصع باللوامع وزينوها بالزهور، وجلست «مارثا» على حافتها الخلفية عالية ظاهرة، وجلس أمامها أربع وصيفات ممن كن ينافسنها أمس في عرش الجمال، وكان يدفع العربة من الخلف شابان بثياب السهرة السوداء؛ البنات الخمسة كلهن بثياب السهرة البيضاء؛ الكل يصفق لمارثا وهي مارة في الطريق الذي أفسحوه لعربتها التي سارت بغير صوت كأنها صنعت من الهواء! دارت العربة حول القاعة حتى ذهبت إلى حيث فرقة الموسيقى، وهنا أخذ المذيع يذيع اسمها من جديد، ثم وضع على رأسها تاجا جميلا من الزهر الأبيض ثم ناولها أشياء مختلفات، الواحد تلو الآخر؛ هذه كأس وهذا ما لست أدري ماذا، ودقت الطبلة دقات اهتزت لها القلوب، وعلا صوت الموسيقى، وبدأت العربة في دورة جديدة حول القاعة، هذه المرة كانت الملكة قد تم تتويجها، «مارثا» في هذا الجمال النادر هي الليلة ربة الجمال؛ ضع هذا الجمال الإلهي في ثوب غاية في الرونق، ثم ضع على هذا كله تاجا جميلا من الزهر الأبيض، وأجلس أمامها أربع فتيات هن فتنة لكنهن دونها؛ لأنهن جلسن عند قدميها، وهن اللائي كن منذ يوم واحد يسابقنها وينافسنها في الجمال، رأيت هذه المرة «سوزان» بين الوصيفات، رأيتها بكل إعلاناتها وصخبها قد جلست الآن ساكنة عند قدمي «مارثا» خضوعا لجمالها وخشوعا.
وانتهت الدورة وعاد الرقص إلى مجراه، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الليل، فخرجت وتركت هذه الدنيا الزاخرة الحافلة بالشباب وبالجمال وبالفن الذي تبدى في الشباب وفي الرقص وفي الموسيقى والغناء، وستظل الحفلة قائمة إلى الثانية بعد منتصف الليل، خرجت وشاء الله أن يبدأ المغني أغنية وأنا في طريقي إلى الباب، بدأت بهذه العبارة: «أنى لي امرأة تقبلني، امرأة تضمني إليها ضما لصيقا، ثم تسرق قلبي وتمضي!»
الجمعة 7 مايو
كنت في نادي الأساتذة صباحا أجلس مع أستاذين كانا يتحدثان عن سقوط «ديان بيان فو» (في الهند الصينية)؛ وانتهى الحديث إلى ذكر «أخلاق الحرب» والاختلاف في فهمها بين الشرقيين والغربيين، فقال أحدهما - وهو شاب: إن أخلاق الحرب تختلف في نظر أهل الشرق الأقصى عنها في نظر الغربيين (ولعله صب حديثه على الشرق الأقصى لوجودي، وإلا لجعل حديثه عاما على الشرق أقصاه وأدناه معا)؛ فالشرقيون - في رأيه - لا يفهمون أبدا ما معنى أن يكون عليهم واجب نحو أسرى الحرب، قال: إنني عندما كنت هناك تحدثت إلى كثيرين منهم فوجدتهم جميعا يعتقدون بأن الحرب قتل، فلماذا يشغلون أنفسهم بعبء الأسرى طعاما وثيابا ورعاية، مع أنهم من الأعداء؟ فأجاب زميله قائلا: نعم، إن الشرقيين لا يفرقون بين الجندي باعتباره إنسانا والجندي باعتباره عضوا في جيش محارب، وإنه إذا ما كان في موقف يزيل عنه العضوية في الجيش المحارب ويجعله إنسانا صرفا وجب عندئذ تغيير النظرة إليه ... فعاد الأستاذ الشاب إلى الحديث فقال: إن أخلاق المدنية الغربية المسيحية هي أنه إذا قابلك قاطع طريق مسلح ورفعت له ذراعيك استسلاما امتنع عن قتلك، فإن كان هذا هكذا، فالحصن الذي يستسلم أو الطائرة التي ترسل إشارة إلى أرض العدو بأنها ستهبط عجزا واستسلاما، وجب الامتناع عن إيقاع الأذى بجنود الحصن أو ملاحي الطائرة؛ إنني لما كنت أتحدث في ذلك إلى أهل الشرق الأقصى، وجدتهم يجيبونني بالقنبلة الذرية التي ألقاها الأمريكيون فوق هوريشيما، ويذكرون لي كيف فتكت تلك القنبلة بمئات الألوف دفعة واحدة، وهم يذكرون ذلك ليدلوا على أننا نحن الغربيين كذلك نقتل الناس غير المحاربين ما دمنا في قتال، وهم لا يدركون أنه بدل أن نرسل جنديا يحارب جنديا، فقد اكتفينا بإرسال جندي ليحارب مدينة بأسرها؛ وذلك لأنهم لا يزالون يتصورون أن الحرب هي نزال بين جندي وجندي ... وهنا توجه الأستاذ الشاب إلي يطلب رأيي في هذا كله - ولم يكن لي رغبة ساعتئذ في الحديث - فقلت له: إن مسألة «أخلاق الحرب» بأسرها مسألة اعتبارية، فلم ينزل وحي من السماء يقول إنه ينبغي أن تكون للحرب أخلاق هي كذا وكذا، وما دام الأمر كذلك فقولوا أنتم ما شئتم ولأهل الشرق الأقصى أن يقولوا ما يشاءون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنت تتحدث كأنما الأمر من ناحية الغربيين كله براءة وشهامة، واتخذت هوريشيما علامة على عدم فهم الشرقيين لروح القتال الحديث، وفي موقفك تناقض صريح؛ لأنه إن كان الغرب يساير روح القتال الحديث في أن يرسل جنديا واحدا كما تقول ليهلك مدينة بأسرها، فيها المحاربون وغير المحاربين، إذا فالغرب باتجاهه هذا قد ناقض «أخلاق الحرب» التي تزعم أنها من مبادئه، ولم يصبح فرق بينكم وبين أهل الشرق الأقصى في فهمهم للقتال بأنه قتل ... وانتهى الحديث فجأة لبدء موعد الدروس.
الجمعة 21 مايو
بعد الظهر بقليل بدأنا الرحلة إلى مصيف رجال الجامعة، وأصفه بهذه الصفة لأنه مكان منقطع في غابة بعيدة، ليس فيه إلا كابينات للأساتذة، بدأنا الرحلة، والراحلون هم: الدكتور «و» وزوجته وطفلاهما، وشاب هندي يحضر للدكتوراه في الكيمياء الزراعية وأنا؛ والجهة المقصودة هي «بريست ليك» (أي بحيرة القسيس، وسميت كذلك لأن قسيسا معروفا عاش هناك معتزلا وذاع اسمه وصوته، فنسبت إليه البحيرة والنهر الذي يخترقها)، وبحيرة القسيس هذه تقع في الطرف الشمالي من ولاية أيداهو الملاصقة لولاية واشنطن، والبحيرة قريبة جدا من حدود كندا.
وصلنا البحيرة بعد خمس ساعات في السيارة أو يزيد، وهناك عند نقطة التقائنا بالبحيرة تركنا السيارة لنركب زورقا بخاريا يملكه أيضا الدكتور «و»، ونقلنا إلى الزورق معظم ما حملناه معنا من طعام، وقد حملنا مقدارا كبيرا يكفينا أربعة أيام في ذلك المكان النائي المنعزل، وأبحرنا في الزورق البخاري شمالا نحو ساعة كاملة، قطعناها في أجمل مكان شهدته عيني؛ فالبحيرة ضيقة طويلة، طولها ثلاثون ميلا، ولا يزيد عرضها فيما أظن عن ميل واحد، وتحفها من جميع جهاتها جبال مشجورة بكثيف الصنوبر الفارع، والقمم لم تزل معممة بثلوجها ... إني لأعجز عجزا تاما عن وصف هذا الجمال الطبيعي الذي لا يطوف بأحلام حالم ... ماذا أقول؟ يستحيل أن يوجد في الدنيا مكان يدنو من هذا المكان جمالا، وإني لأقارنه بمنطقة البحيرات في شمالي إنجلترا فأجده يفوقها؛ لأن الجبال هنا تغطيها أشجار الصنوبر الكثيفة، أما هناك فالجبال إما عارية أو تغطيها خضرة خفيفة ...
في هذه الجنة لبثنا أربعة أيام كنت فيها كالحالم ... وعدنا يوم الثلاثاء 25 مايو والمطر هاطل والبحيرة هائجة مائجة والسماء ملتفة بالضباب؛ إن الجبال عند رحيلنا قد اتخذت صورة أخرى غير الصورة التي استقبلتنا بها حين كان الجو رائقا صافيا؛ الجبال عند رحيلنا كانت كأنها من ظلال، لا أرى منها إلا سوادها، فلا خضرة الأشجار بادية، ولا أبيض الثلج عند القمم ظاهر.
الأربعاء 26 مايو
المطر نازل طيلة النهار ، ثم تحول إلى ثلج مدة ساعتين أو ثلاث من ساعات الظهر؛ عجيب أن ينزل الثلج في آخر مايو! جلست طول الصباح في نادي الأساتذة أقرأ مقالا ممتعا في مجلة نيويوركر الصادرة يوم 15 مايو، نبهتني إليه السيدة «ت» التي تحضر لي محاضراتي في الفلسفة الإسلامية ... هو مقال يقارن فيه الكاتب الأصل العبري للإنجيل بترجماته إلى اللغات الأوروبية، قائلا: إن للغة العبرية خصائص يستحيل ترجمتها إلى الإنجليزية مثلا، مع أنها خصائص دالة وهامة في تلوين اللغة تلوينا معبرا. وراح يحلل هذه الخصائص، وإذا بي ألاحظ انطباقها على اللغة العربية، وهي لفتات من الكاتب قوية جدا عميقة جدا، ولا بد أن أقرأ المقال مرة أخرى قراءة أدق ... وأهم ما اهتممت له في المقال هو الفكرة التي عرضها الكاتب في علاقة اللغة وفكرة الناس عن الزمن؛ فليس في العبرية لحظة حاضرة، كل ما فيها ماض أو مستقبل؛ فلما قرأت ذلك أدركت من فوري أن ذلك أيضا في اللغة العربية، ليس هناك «فعل» يدل على اللحظة الحاضرة؛ لأنه حتى الفعل المضارع عندنا لا يشير إلى اللحظة الحاضرة بمقدار ما يشير إلى فعل لم يتم بعد؛ فالمتحدث بالعربية لا يضع نفسه في لحظته الحاضرة ثم ينسب الحوادث الماضية والمستقبلة بالنسبة إلى تلك اللحظة، كما نرى في اللغة الإنجليزية مثلا حين نستخدم «الفعل المضارع الكامل» أو «الفعل الماضي الكامل» ... على أن هذه ملاحظات سريعة لا تدل على شيء مفيد إلا إذا فكرت في الموضوع تفكيرا مفصلا شاملا، فأرجو أن أتمكن من دراسته يوما ما.
بعد أن فرغت من محاضرتي في الفلسفة الإسلامية اليوم، دعاني أعضاء الفرقة التي أحاضرها - بما فيها من طلبة ومستمعين - إلى حفلة صغيرة أعدوها توديعا بمناسبة انتهاء الفصل الدراسي؛ وهناك قام الدكتور «ه» أستاذ الأدب الإنجليزي - وقد حضر لي جميع محاضراتي بغير استثناء - فألقى كلمة تقدير اهتزت لها نفسي، ثم قدم لي هدية كتاب «محاورات ألفرد نورث وايتهد» الذي صدر هذا الأسبوع، وقد وقع الحاضرون على غلافه من الداخل، بعد أن كتب نيابة عنهم الدكتور «ه» عبارة على الغلاف سأعتز بها ما حييت ... إنني والله كلما تذكرت ما لقيته في هذه البلاد من تقدير يكاد الدمع يسح من عيني؛ فقد عشت في وطني ما عشت، وجاهدت فيه ما جاهدت، ولم أجد إلا بخسا واستصغارا واستخفافا، حتى لقد فقدت الثقة في نفسي، وقد جئت إلى أمريكا فأعاد الناس إلي ما فقدته في أرض الوطن.
الأحد 30 مايو
أراد لي الله أن أرى الجنة قبل أن أغادر مدينة بلمان، رأيتها مرة في «بريست ليك» ورأيتها اليوم مرة أخرى في صورة أخرى؛ إذ قضيت اليوم كله في مكان يسمونه سويسرة الولايات المتحدة؛ حيث تنهض جبال يطلقون عليها اسم «الألب الصغيرة»، وهو مكان يقع في ولاية أورجون التي تجاور ولاية واشنطن من جهة الجنوب، ويبعد عنها ما تبعد الإسكندرية عن القاهرة.
فقد مر علي الأستاذ منو جرينوفلد بسيارته الساعة الخامسة صباحا، فسرنا مارين أولا بمدينة «لوستن» التي كنت قد زرتها مرة وكتبت عنها، وأغرب ظواهرها أنك ترى نفسك فجأة قد أقبلت على حافة منخفض عميق واسع يهوي عن سطح المرتفع الذي أنت فيه ألفي قدم؛ وفي هذا المنخفض تقع مدينة «لوستن»، تنظر إليها من أعلى فكأنك تنظر إلى مدينة في قاع بعيد؛ وطريق السيارات الهابط إلى هذا القاع يلف على سفح الجبل في ثنيات تروح وتجيء في حضن الجبل.
تركنا لوستن - وكنا لا نزال في ساعة مبكرة من الصباح - ولبثنا نسير على أرض هي موجات ضخمة مغطاة بالخضرة التي لا شجر فيها؛ والخضرة هنا في معظم الحالات قمح في طريق النمو؛ فهذا الإقليم - كما قيل لي مرارا - يعد أغنى بقاع أمريكا في محصول القمح.
وبعد مسير قليل صعدنا جبلا على نفس الصورة التي هبطنا بها إلى لوستن؛ أعني أننا صعدنا في طريق يلتوي وينثني على سفح الجبل ، ليصعد الصاعد متدرجا حتى بلغنا القمة؛ والقمة هضبة مسطحة تنسيك أنك في منطقة جبلية؛ على هذه الهضبة المسطحة المستوية التي تمتد ما امتد البصر، والتي زرعت كلها قمحا، سرنا نحو ساعة، وصلنا بعدها إلى جنة الله على الأرض، ولبثنا في هذه الجنة سائرين في السيارة نحو ساعتين، حتى بلغنا المكان المقصود، وهو بحيرة «والوا» ومن حولها جبال الألب الصغيرة.
في هذه الجنة الأرضية مررنا على ما يسمى «متنزه فيلد» وهي حديقة بستانيها هو الله! لم تنسقها يد البشر، ومع ذلك يستحيل أن تقبل عليها ولا ينفتح فوك من دهشة وتقول كما قلت أنا - دون سابق علم: إن هذا المكان فيه علامات التنسيق والتشذيب كأنه حديقة مصنوعة، لا جزء من الطبيعة المرسلة، وعندئذ تعلم - كما علمت أنا من زميلي - أنه فعلا يسمى «متنزه فيلد»؛ لأنه كالمتنزه الذي أتقن تنسيقا وتشذيبا وتهذيبا ... وتدخل في مماشي هذه الحديقة الإلهية فترى الحكومة قد أضافت إلى الطبيعة إعدادا ينفع المتنزهين؛ إذ أعدت مكانا للطبخ ومكانا للأكل وأمكنة للنوم وهكذا.
استأنفنا طريقنا في هذه الجنة الفيحاء؛ فطريق السيارة ممهد على السفح عند وسط الجبل، فعن يسارنا ينهض حائط الجبل إلى قمته، وهو مغطى كله بأشجار الصنوبر الضخمة العاتية؛ وعن يميننا مباشرة واد عميق، وعبر الوادي أمواج من الأرض الخضراء، لكن الخضرة هنا ليست قمحا بل حشائش، وظهور الموج يلاحق بعضها بعضا تبدو كأنها ظهور الخيل نظر إليها من الخلف وهي تعدو زرافات، ولولا أن تشبيه الأرض الخضراء بالمخمل قد ابتذل حتى فقد معناه؛ لقلت إن المنظر عبر الوادي شبيه جدا بمساحة واسعة من المخمل الذي كأنما يغطي تحته أشياء ذات أطراف وزوايا؛ لأن المخمل ينثني هنا ويلتوي هناك، وعند انثنائه والتوائه يتغير لون الخضرة كما يتغير لون المخمل تماما حين ينثني ويلتوي ... هذا الوادي الذي لم يخلق الله أجمل منه في الدنيا يسمى وادي جراند روند ... ها هو ذا طريق السيارات يهبط بنا إلى جوف الوادي، يهبط بنا درجة درجة على السفح، حتى بلغنا القاع لنبدأ في الصعود من جديد درجة درجة على السفح المقابل من الناحية الأخرى، وصعدنا إلى سطح هضبة مستو، لكن الهضبة هنا مغطاة كلها بالشجر، وقد شق طريق السيارات بين كتلة الشجر خطا مستقيما يمتد أميالا، فتسير وعن يمينك ويسارك جداران من الشجر؛ وفجأة ينتهي جدار الشجر الذي على يسارنا، ونرى لوحة تنبه المسافر إلى بقعة جميلة ينبغي الوقوف عندها فوقفنا.
هي نقطة بارزة تطل منها على «وادي يوسف» فمن يوسف هذا؟ هو زعيم من زعماء الهنود الحمر، حارب الأمريكيين حربا يشهدون له فيها بالبراعة التي انقطع نظيرها في تاريخ الحروب، من حيث قدرته على الانسحاب السريع ثم الالتفاف السريع، ثم التفكير في مائة خدعة وخدعة يوقع بها عدوه في حصار مفاجئ لا يتوقعه.
عدنا فاستأنفنا الطريق بين جداري أشجار الصنوبر على هذا المنبسط الأرضي العالي، ويسمونه «متنزه والوا»، حتى إذا ما خرجنا من هذه الغابة انبسطت أمامنا أمواج وطيئة من الأرض الخضراء، بما عليها من قمح ... وبدت في الأفق البعيد جبال الألب الصغيرة التي ترتفع في بعض أجزائها اثني عشر ألفا من الأقدام؛ لكن ساء حظنا فكانت القمم العالية ملتفة بالسحاب، فلم نر فيها إلا أسافلها الخضراء بشجر الصنوبر ... كان السحاب أحيانا يشف في بعض الفتحات الصغيرة، فيكشف عن بقع مضيئة من القمم العالية الناصعة بثلجها الأبيض.
سرنا متجهين نحو الألب الصغيرة، حتى بلغنا مدينة «إنتر برايز» وهي على ارتفاع خمسة آلاف قدم، وصلناها في الساعة العاشرة صباحا؛ أي بعد خمس ساعات بالسيارة؛ نزلنا بها وشربنا قهوة ثم عدنا نسير عددا قليلا من الأميال مارين بمدينة صغيرة اسمها «يوسف»، وأخيرا بلغنا بحيرة «والوا» التي تحيط بها جبال الألب الصغيرة ... ها هنا جنة الله التي وعد المؤمنين! ليس جمال المنطقة هنا من نوع الجمال الذي شهدته في «بريست ليك» على الرغم من أن التكوين واحد: بحيرة حولها جبال مشجورة بالصنوبر، ولكن «بريست ليك» جمالها في حوشيتها وعزلتها، وأما هنا فمقصد كثير من الزائرين؛ ولذلك تجد الطرق ممهدة معبدة، وتجد مطعما ودكانا يبيع الصور التذكارية، وتجد الحكومة قد أعدت مكانا للطهي ومكانا للأكل وهكذا.
تركنا السيارة عند حافة الغابة، وتخللنا نحو مسقط ماء مشهور؛ بين حين وحين يصادفك في قلب الغابة «كابينة» يسكنها مصطاف، ليست الكابينات متلاصقة بل ليست متقاربة، إنما تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة بعيدة، ترى الكابينة قد أحاط بها الشجر، بل تراها هي نفسها خضراء كأنها نابتة من الأرض كالشجر الذي حولها، فتحسبها عشا للعصافير ... أأقول «تحسبها» ...؟ بل هي عش للعصافير، فانظر من ذا خرج من هذه الكابينة عند مرورنا ... فتاتان رائعتان هما عصفورتان!
الأرض داخل الغابة طرية بما عليها من بلل؛ الدنيا كلها من حولنا مبللة ببقايا الندى أو بأوائل المطر ... سرنا محاذين نهيرا متدفقا سريع الجريان جدا، رائق الماء كأنه البلور، ظهرت الصخور على قاعه كأنها تحت لوح من زجاج ... وبعد ميل أو ميل ونصف قطعناها في صعود تدريجي داخل الغابة، وصلنا مسقط الماء؛ فهذا النهير يسقط ماؤه في الفضاء نحو ستين قدما خارجا لا تدري من أين؛ لأن السحاب الذي يلف قمة الجبل يخفي أجزاءه العليا كلها، فلا تستطيع أن تتعقب النهير إلى منبعه بالنظر، فيفجؤك ماؤه متدفقا من بين الصخور والسحاب، هابطا في الهواء ستين قدما، محدثا بذلك صوتا يملأ السمع.
وعدنا إلى بلمان ساعة الغروب، فكأنه آدم نزل من الجنة إلى الأرض.
অজানা পৃষ্ঠা