نيوأورلينز مليئة بالشخصيات الأدبية الهامة في الأدب الأمريكي؛ فقد مررنا على المنزل الشتوي للسيدة كيز وهي من طليعة أدباء القصة في أمريكا، وفي هذه المدينة عاش أديب الأمريكيين الأكبر «فوكنر» الذي نال جائزة نوبل في الأدب منذ حين قريب، وفيها يعيش الآن «تنسي وليمز» صاحب كتاب «مركبة للترام اسمها دزاير» الذي أخرجته السينما منذ قريب، وكانت له ضجة كبرى لما أحدثه من ابتكار في الإخراج والتمثيل؛ وحوادث القصة تدور في هذه المدينة: مدينة نيوأورلينز.
سرنا معا إلى ميدان رئيسي اسمه ميدان جاكسن، تملأ فضاءه حديقة مربعة؛ وللميدان ضلعان متقابلان، ينهض على كل منهما بناء واحد ضخم بني بالطوب الأحمر، وصاحبة البنائين عند أول إنشائهما هي البارونة بونتالبا الإسبانية؛ فقد أقيم البناءان في عهد الإسبان، وهما أقدم بناءين في أمريكا بأسرها من المباني ذوات «الشقق» الإيجارية، وضلع ثالث من أضلاع الميدان به كاتدرائية جميلة البناء بسيطة، يجاورها عن يمين ويسار بناء ضخم قديم، وكان كلا البناءين مقرا للحكومة الإسبانية أيام أن كانت هذه الأرض مستعمرة إسبانية ... وأما الضلع الرابع من الميدان فجانب مكشوف على نهر المسسبي، غير أن النهر نفسه لا يظهر من الميدان، وعليك أن تخترق خطوط السكة الحديدية وتدور حول مخازن المحطة لتجد نفسك واقفا في الميناء الكبير على هذا النهر العريض الفسيح.
رأيت في ميدان جاكسن - على رصيف الحديقة الوسطى - رسامين فنانين عرضوا رسومهم مسندة على جانب الحديقة ومسطوحة على الأرض، مما يذكرك بزملائهم على ضفة السين بباريس ... رأيت ثلاثة منهم يرسمون «الزبائن»، جلست سيدة أمام أحدهم وسيدة أخرى أمام آخر، ورجل أمام ثالث ... الفن مذل حين يهوي إلى الشوارع، فما أشبه الفنان - وقد جلس أمامه الزبون على الطوار - بحلاقي الأرصفة في بعض ربوع القاهرة! الفن مذل حين يوشك أن يتخذ وسيلة للسؤال: حين يعزف الموسيقي أمام المقاهي طلبا للعيش، أو يغني المغني في مثل هذه الظروف أو يرسم المصور ... كرامة الفن في أن يكون التقاؤه بكسب العيش التقاء عارضا.
ويطل على الميدان مقهى على النظام الفرنسي - أو المصري أحيانا - قديم قدم العهد الفرنسي، واحتفظ به حتى الآن ليزيد المدينة طابعا، وهو مفتوح نهارا وليلا لا يغلق أبوابه ساعة واحدة ... جلسنا هناك أنا والسيد «ف» وشربنا القهوة مرة بعد مرة.
هنا ونحن جالسان على ذلك المقهى بدأ حديث ممتع بيني وبين السيد «ف»، سأثبت من تفصيلاته ما استطعت تذكره؛ لأنه بغير شك صورة لأمريكي قد يكون ممثلا في وجهة نظره وفي روحه وفي مزاجه لكثير من الأمريكيين.
قص علي طرفا من تاريخ حياته؛ فقد اشترك في الحربين (ولو أنه يبدو أصغر من ذلك بكثير)، وهو متخرج في إحدى جامعات الشمال حيث تخصص في فن العمارة، وبدأ حياته معدما لا يملك مليما واحدا، لكنه ادخر وادخر، وحرص على ماله، حتى أصبح له الآن هذا البيت الذي رأيته وقيمته مائة ألف من الدولارات، وله منه دخل يضمن له العيش المريح حتى لو لم يعمل شيئا مربحا بعد ذلك.
أخذ يوجه النقد الشديد للأمريكيين بصفة عامة في بعثرتهم لأموالهم قائلا في انفعال شديد: إنه لا بد من التفرقة بين «الاستثمار» و«الإنفاق»؛ ففي مستطاع الإنسان أن يعود نفسه على إنفاق ماله في مقتنيات تغل المال بدورها، فلا يضيع المال هباء؛ فلا ينبغي - في رأيه - أن ينفق مال إلا فيما يعود بمال.
ليس لهذا السيد «ف» سيارة، وهو الذي يطبخ لنفسه طعامه، وينظف لنفسه مسكنه بالرغم من ثرائه هذا، ويدهش لهؤلاء الذين يزودون بيوتهم بالثلاجات والأفران والغسالات الكهربائية، بل يزودونها بآلة غسل الأطباق، مع أنهم يشترون هذه الأشياء كلها بالتقسيط، وإذا فالأمريكي المتوسط مطالب بأقساط شهرية جسيمة قد لا يحتملها من أجل أن تكون له هذه الأدوات؛ فبالله عليك - هكذا وجه إلي السيد «ف» الحديث - أي عقل في الدنيا يجيز لأسرة مكونة من زوجين بغير أطفال أن تكون لديها غسالة كهربائية للأطباق؟
وهنا انتقل بحديثه إلى الرئيس روزفلت، وكيف أنه أنزل الخراب على أمريكا؛ لأنه كان رجلا يميل إلى الاشتراكية؛ فلكي يغري الناس بالتصويت له، أخذ يعدهم ويتورط في وعوده بأن الحكومة ستعمل كذا وكذا، حتى عود الناس تدريجا على أن العبء إنما يقع على الحكومة لا على الأفراد، مع أن الحياة الصحيحة - في رأيه - هو أن يكون كل إنسان نفسه كما فعل هو.
وانتقل الحديث إلى الزواج، قال إنه كان متزوجا، أما الآن فلو عرض عليه الزواج من أغنى وأجمل امرأة في الدنيا لرفض ... قال: إنني الآن حر كالهواء، أقرأ إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل إذا أردت، أسافر حين أريد وأقيم حيث أريد ... إن مديرا لجامعة من أكبر وأهم جامعاتنا قد ألقى خطبة منذ قريب في الطلبة الخريجين، فقال لهم في صراحة غريبة إن ستين من كل مائة شخص - رجالا ونساء - لا يصلح بطبيعته للزواج؛ ولذلك لا ينبغي لهؤلاء أن يورطوا أنفسهم في النظام الزوجي ... ويمضي السيد «ف» فيقول: إنني توقعت أن تقوم الجرائد بضجة كبرى ردا على هذا الحديث الخطير من مدير جامعة مهمة، لكني عجبت إذ قابلته الصحف كلها بالصمت، وربما كان ذلك لأنها لم تدرك مدى النتائج المترتبة على قوله هذا، فمما يترتب عليه من نتائج - وهي نتيجة كانت بالطبع في ذهن المدير الجامعي وهو يلقي خطابه - أن هؤلاء الستين في كل مائة، الذين لا يصلحون للحياة الزوجية، لا بد بطبيعة الحال ألا يهملوا غرائزهم الجنسية، وإذا فلا مندوحة من قيام علاقات جنسية غير مشروعة من وراء ستار ...
অজানা পৃষ্ঠা