قال: أنا لا أومن بالمسيحية؛ فقلت له: وماذا تريدني أن أصنع لك في هذا؟ قال: إما أن تؤيدني في شكي هذا، أو أن تهديني فلسفيا إلى الطريقة التي يمكن بها أن أقتنع وأومن بهذا الكلام الفارغ الذي يقولونه في الكنائس ... فأخرجت له قطعة من الورق، ورسمت خطا يقسم الورقة قسمين، وكتبت له في قسم منهما كلمة «وجدان»، وفي القسم الآخر كتبت كلمة «منطق»، وقلت له: اسمع، الكلام الذي يقوله الناس قسمان: قسم يخضع للمنطق وهذا تجوز فيه المناقشة؛ وقسم يخضع للوجدان والمشاعر والذوق وهذا لا تجوز فيه المناقشة، فإذا قرأت عن المسيحية وسمعت عنها فتأثر قلبك واهتزت مشاعرك فاعتقد فيها، وأما إذا فعلت ولم تتأثر فلا تعتقد، وليس لمخلوق عليك من سلطان؛ لأنك قد سمعت ما يقولونه فلم تتأثر، إذا فقد انتهى الإشكال.
قال: لكن لموقفي هذا نتائج كثيرة؛ قلت: ماذا؟ فقال: إني خاطب، والناس هنا متزمتون في الدين، فأول زيارة زرتها لأسرة خطيبتي في الريف، واجتمع أهلها معي على عشاء، دار الحديث كله تقريبا على حسرتهم العميقة؛ لأن واحدة من أسرتهم البروتستانتية ستتزوج من شاب كاثوليكي، واعتبروا فتاتهم هذه في حكم من ماتت ... فلما خلوت إلى خطيبتي قلت لها: اسمعي، إني لا أومن بالمسيحية كلها من أولها إلى آخرها، فانظري في أمرك وقرري؛ ومنذ ذلك اليوم ونحن في جدل كل يوم، خصوصا ما نريده لأطفالنا حين يكون لنا أطفال؛ فأنا مصمم على أن يكون الاتفاق صريحا منذ الآن ألا ينشأ أطفالي على خرافات دينية فارغة، بل يتركون حتى يشبوا، ولهم أن يختاروا لأنفسهم بعد ذلك ما شاءوا؛ وأما هي فمصممة على أن نكون مسيحيين قبل كل شيء.
قلت له: إذا استمر الخلاف بينكما على هذا النحو، فهل يؤدي إلى فسخ الخطبة؟ فقال: لا، لا أظن ذلك؛ لأننا نحب أحدنا الآخر، لكني لا أريد التساهل في هذه الأمور منذ الآن؛ إنها امرأة ككل النساء تريدني أن أصحبها إلى الكنيسة وأنا لا أحب ذلك؛ فالمرأة لا تحب أن تذهب إلى الكنيسة وحدها، وهي تقول لي: واجبك أن ترافقني إلى الكنيسة يوم الأحد لأستمد منك القوة، فأجيبها بقولي: كيف أمدك بما ليس عندي؟ إنني غير معتقد، فكيف أبث فيك العقيدة؟ ... وقد أردت التفريج عن كربها مرة، فذهبت معها إلى الكنيسة، فما ازددت إلا نفورا؛ لماذا أذهب لأسمع رجلا يتكلم دون أن تكون لي فرصة مناقشته فيما يقول؟ ما معنى أن يتكلم هو وأنا أسمع؟! فقلت لخطيبتي بعد خروجنا: هذه أول مرة وآخر مرة في حياتي أدخل الكنيسة فيها بصحبتك.
السبت 16 يناير
إن كل ما أقرؤه هنا عن مصر يحز قلبي حزا، وإني لأتمنى للمصريين أن يغتربوا واحدا واحدا، ليقرءوا عن مصر في غربتهم فتحز نفوسهم، ثم يعودون لعلهم يصنعون شيئا في سبيل الثورة على أنفسهم ثورة لا تبقي من القديم شيئا ولا تذر ... فقد قرأت كتابا عنوانه «حيث يلتقي النهر بالشارع الرئيسي» لكاتب اسمه «هودنج كارتر»؛ وهو كتاب أقرب جدا إلى مذكرات، وفيها ذكرياته أيام أن كان في مصر إبان الحرب؛ كتب ذكرياته عن مصر تحت عنوان «تلفون الهرم 5664»، ووصف وصفا تفصيليا ليلة دعاهم فيها أعرابي اسمه ... وقد كتب على بطاقته التي أرسلها إلى المدعوين أنه يبيع الجمال ويؤجرها للركوب أو للإخراج السينمائي ... كان المدعوون خمسة عشر، معظمهم ضباط أمريكيون وفيهم بولنديان ونيوزيلندي ... انتظرتهم الجياد عند الهرم وركبوا نحو خمسة أميال في الصحراء إلى حيث خيام الشيخ ... دخلوا الخيمة الأولى حيث ينتظرهم الوسكي في كثرة أذهلت الأمريكي! وراح الكاتب يصف السجاد الفاخر الذي فرشت به الخيمة، ثم انتقلوا إلى خيمة مجاورة حيث مائدة العشاء؛ وهنا أخذ يصف الأصناف قائلا إن المائدة كانت تحمل ثلاثين صنفا على الأقل؛ ففي وسط المائدة خروف محمر بأكمله، تحف به صفوف من الدجاج والسمك واللحم المشوي، وأكوام من الفاكهة، وأطباق لا عدد لها من كذا وكذا ... وبينما هم يستعدون للرحيل بعد العشاء مرت فرقة من البوليس الإنجليزي رئيسها جاويش، وهنا يصف الأمريكي كيف أهان الجاويش الإنجليزي الشيخ ... وطلب منه رخصته التي تبيح له أن يقيم الحفل - وكما يقول الكاتب - «كأنما الأرض ليست وطنا للشيخ ... وآبائه وأجداده قبل أن يسمع الجاويش وآباؤه وأجداده شيئا اسمه مصر!» ... يقول الكاتب: كرهنا من الجاويش أن يعامل مضيفنا في حضورنا هذه المعاملة المهينة، فأسر النيوزيلندي الذي كان معنا في أذن الجاويش شيئا، فانصرف ... ويمضي الكاتب قائلا: إن القوات الأمريكية أقامت بعد ذلك حفلا للعشاء دعي إليه الضيوف أنواعا وأشكالا وألوانا، وكنا على علم سابق بهذا الحفل، فوعدنا الشيخ ... أننا سنرسل إليه الدعوة إلى العشاء ليلتئذ، وقبل الرجل مسرورا، لكن - لسبب لا أعلمه - رفضت السلطات الأمريكية توجيه الدعوة إلى الشيخ ... مع أننا أبلغنا أولي الأمر كم كان الرجل كريما في دعوته لخمسة عشر ضابطا منا ... ثم يختم الكاتب هذا الجزء من ذكرياته في مصر قائلا: «لما قرأت بعد ذلك بثمانية أعوام عن حرق القاهرة، حرق الأماكن التي طالما ارتدناها، والتي ظن الغربيون أنها ملكهم المقدس، حرق فندق شبرد ونادي تيرف وبنك باركليز وجروبي - ذلك المكان العظيم فيما يقدمه من مثلجات - وسائر الأماكن التي يمتلكها الأجنبي الذي ذهب إلى مصر لينتفع ثم يشمخ بأنفه، لا ليفيد البلد الحزين وينقذه؛ لما قرأت عن التخريب الأهوج الذي حدث، تذكرت الشحاذين الذين ألقى بهم التيفوس صرعى في مواخير القاهرة، وتذكرت جاويشا إنجليزيا على ظهر جواده، وتذكرت صحراء جرداء لا تنتج قمحا، وتذكرت ثلاثين صنفا من الطعام في خيمة مفروشة بفاخر السجاد، وتذكرت دعوة (للشيخ ...) رفض إرسالها أولو الأمر، فلم أكن بعد هذا كله بحاجة إلى سياسي يحلل لي أسباب الجنون الذي أحرق القاهرة.»
الفصل الخامس
من الجنوب إلى الغرب
نيوأورلينز: الإثنين 25 يناير
وصلت صباح اليوم إلى نيوأورلينز، وهي مدينة ذات طابع خاص تختلف به عن سائر مدن الولايات المتحدة جميعا، وطابعها ذاك إنما يستمد معظمه من وجود الحي الفرنسي بها؛ فقد كانت تابعة للفرنسيين قبل أن تشتريها الولايات المتحدة من فرنسا في أول القرن التاسع عشر، فبقيت بها إلى اليوم روح المدن الفرنسية مما جعلها مختلفة متميزة، بل جعلها مقصدا لألوف الزائرين، حتى ليقال إنها المقصد الثاني للزائرين في الولايات المتحدة كلها، لا يفوقها في عدد الزائرين إلا نيويورك.
لم أكد أصل المدينة حتى أسرعت إلى الحي الفرنسي لأنفق في ربوعه أكبر وقت ممكن من مدتي القصيرة التي سأقضيها في هذا البلد، فسأقضي به يوما واحدا بغير ليلته ... واجهات المباني في هذا الحي تبرز منها الشرفات، ويصطف على طولها أعمدة خشبية، وتزخرف حوافيها إطارات من خشب، وهي أشياء لا وجود لها في أمريكا بأسرها؛ لأن البيت الأمريكي المألوف الشائع مصنوع من خشب على هيئة ما نسميه بالفلات في ضواحي القاهرة ... وكذلك تختلف نيوأورلينز عن سائر المدن الأمريكية بضيق شوارعها؛ فهي في ذلك كله مدينة أوروبية قديمة.
অজানা পৃষ্ঠা