ثم جاءت بعدها آنسة أخرى تحدثني، هي الآنسة «ن»، راحت تحدثني عن شغفها بتربية الماشية وقد كانت منذ طفولتها تحب رعاية الماشية وهي - كما تقول - محبة للحيوان حبا غير مألوف في أوساط الناس؛ فهي تحب البقر والخيل والكلاب والقطط، وهي تجيد ركوب الخيل وفخورة بكلابها، وعندها قطتان، وقد رغبت بشدة في أن أزور معها مرعى أخيها.
كلتا الآنستين «م» و«ن» واسعة المعرفة بالعالم الخارجي؛ لأنهما سافرتا إلى الخارج عدة مرات؛ ذهبت الآنسة «ن» إلى معظم البلاد الأوروبية كما ذهبت إلى اليابان؛ وكذلك سافرت «م» ابنة الطبيب إلى أوروبا مرات كثيرة، كانت في كل مرة تقضي إجازتها مشيا على قدميها ومتاعها على ظهرها.
نظرت إلى الغرفة التي كنا بها، فوجدتها لا تستلفت النظر بأي شيء غريب فيها، لكني سألت نفسي: هل يمكن أن تجد غرفة كهذه في بيت مصري؟ وكان الجواب: هذا محال؛ لأن ذوق التأثيث مختلف عندنا؛ فعندنا يكون تصنيف الأثاث بين غرف المنزل تصنيفا حاد الفواصل فلا اختلاط في الأمر؛ غرفة الجلوس هي غرفة للجلوس في كل أثاثها، وكذلك غرفة الأكل وغرفة النوم وغرفة المكتب ... لكن انظر إلى هذه الغرفة مثلا، تجد رفوف المكتب على جدرانها، وتجد بها الراديو (الراديو عندنا حسب قواعد تصنيف الأثاث لا يكون في غرفة استقبال الضيوف)، وتجد الكراسي مختلفة أشد اختلاف وكذلك المناضد؛ أما عندنا فالأثاث يشترى طاقما طاقما ... فما معنى ذلك؟ معناه الواضح هو أن هؤلاء الناس يجعلون الأثاث ينمو مع الزمن قطعة قطعة؛ إذ ليس من المعقول أن يشتري صاحب البيت هذه الكراسي المختلفة وهذه المناضد المتباينة كلها في يوم واحد! أما نحن «فنجهز» المنزل عند الزواج تجهيزا كاملا، ثم يتدهور الأثاث مع الزمن.
ومعناه كذلك أن الناس هنا يحتكمون إلى أذواقهم فيما يشترون، ويراعون المكان وما يناسبه؛ وأما نحن «فالجهاز» في واد والمكان الذي يوضع فيه في واد آخر؛ وقد يحدث أن يشترى «الجهاز» قبل أن يعرف أين يوضع ... ولم أذكر شيئا عن التحف الفنية من صور وقطع صغيرة تملأ أرجاء الغرفة؛ الفن والذوق جزء لا يتجزأ من أثاث البيت، وليس هو - كما هي الحال عندنا - شيئا ثانويا يفكر فيه بعد أن يكتمل في الجهاز كذا طاقما من أدوات الشاي وكذا مفرشا للسرير وكذا حشية ووسادة! لماذا لا ننقص المفارش مفرشين لنشتري تحفة؟ لا على أن التحفة «مظهر» بل على أنها بنفس الضرورة التي نشتري بها الكراسي والأطباق؛ لأن المكان الذي نعده بيت لا دكان ... هل رأيت في الدنيا - ما عدا مصر - شيئا اسمه غرفة الضيوف؟ تقفل ولا تفتح إلى حين يأتي الزائرون؟ لماذا ندفع أجرا شهريا لغرفة لا نجلس فيها كل يوم؟
إن المقارنة بين غرفة واحدة هنا ونظيرها في مصر كفيلة أن تظهر الفرق بين حياتين وعقلين ووجهتين للنظر ... إن في هذه الغرفة التي كنا بها دفئا عاطفيا ينم عن الحياة، مصدره كثرة ما فيها مما يعبر عن شخصيات أهلها، بمعنى أنك لن تجد في معرض للأثاث - مثلا - غرفة بهذا التنظيم وهذه المحتويات؛ أما «غرفة الجلوس» عندنا في مصر فلا فرق بين أن يكون طاقمها في المنزل أو في دكان الأثاث، نشتريها من الدكان هكذا، ثم لا نضيف إليها ولا ننقص منها؛ ليس فيها أثر لأهل الدار؛ أعني أنها خالية من علامات الحياة، فلا فرق بين أن يكون في البيت سكان أو لا يكون؛ إنها غرفة بغير تاريخ، لم تتراكم على محتوياتها آثار الزمن إلا بمعنى واحد، وهو أنها جديدة أو بالية؛ إنها غرفة لم تنم مع حياة الأسرة، إنها لم تزد عنها في بدايتها ولم تتطور ولم تتغير، سوى أنها بعد أن كانت تلمع لجدتها انطفأت لمعتها مع القدم؛ إن الغرفة عندنا جزء من «منزل» وليست جزءا من «مسكن» (وأنا أريد أن تعبر هاتان اللفظتان عن الكلمتين الإنجليزيتين:
house
و
home )؛ فهو «منزل» للجسم ينزل فيه، لكنه ليس «مسكنا» تسكن إليه النفس وتهدأ وتطمئن وتستريح.
إذا قلنا إن التفكير الإنساني إزاء العالم نوعان: نوع يفترض أن العالم قد بدأ كاملا ولا جديد فيه إلا أن تتحرك أجزاؤه من مكان إلى مكان؛ ونوع آخر تطوري يفترض أن العالم ينمو ويزداد ويكبر ويحمل في ثناياه آثار الزمن والخبرة والذكريات؛ فإن الغرفة المصرية دالة على عقلية من النوع الأول، والغرفة التي كنا بها مساء اليوم دالة على عقلية من النوع الثاني؛ غرفتنا كعقلنا راكد جامد كقطعة الحديد البارد، وغرفتهم كعقلهم متغير متطور حي؛ غرفتنا صنعتها أدوات النجار فإن دلت على صناعة فهي لا تدل على فن، وأما غرفتهم فقد صنعتها أمزجة تختار وأذواق تنتقي، فلا عجب أن يروي المضيف إلى ضيفه عن أثاثه قطعة قطعة، أين ظفر بها، وما العلاقة في اللون أو في الذوق أو في الشكل بينها وبين القطع الأخرى؛ وأما نحن فلا نستطيع أن نقول عن أثاث بيتنا تاريخا، كل ما نستطيعه هو أن نقول إننا اشتريناه من الدكان الفلاني؛ تأثيث المنازل عندنا أشبه بتأثيث العيادات أو الفنادق أو مكاتب الحكومة، المهم فيه أن يكون هناك كذا مقعدا وكذا منضدة وكذا سريرا وكذا من مفارش وفوط، ونباهي عند «تجهيز» العروس أننا لم ننس من لوازم البيت شيئا ... وكم يحدث عندنا أن يشترى الأثاث دون أن يراه من سيستعملونه؛ إذ قد يسافر والد العروس مثلا إلى دمياط ليشتري «الأخشاب» ... إي والله، جهازنا «أخشاب» يرص بعضها إلى بعض، وتدخل العروس ويأتي الزائرون المباركون، فيفرجونهم على «المعرض»، يفرجونهم على الدكان الجديد الذي افتتحوه ...
ولكن لماذا نعجب والأمر كله مرتبط بعضه ببعض؛ فالزواج نفسه عندنا لا حب فيه؛ إن الزوج لم يختر كما لم تختر الزوجة، المهم في الزواج أن يكون في البيت رجل وامرأة، فإذا كان الرجل ذا دخل معين أو وظيفة معينة، انتهى الإشكال كله، كذلك ينتهي الإشكال بالنسبة إلى الزوجة إذا كانت ابنة فلان وشكلها كيت وكيت ... يقولون: ممن تزوجت فلانة؟ والجواب: من دكتور! يعني أن أي دكتور فيه الكفاية؛ وكذلك يقولون: ممن تزوج فلان؟ والجواب: من بنت فلان! يعني أن المهم هو أبوها وظروفه؛ فهل ينتج عن ذلك إلا منزل يؤثث على أساس الاستغلال وبغير ذوق ولا حياة؟ أقول الاستغلال؛ لأن العريس يريد لنفسه أكبر كمية ممكنة من السلع، فذلك نفسه هو أساس اختياره لزوجته ذاتها ... ليس الزواج عندنا ازدواجا بين قلب وقلب أو اتحادا بين عقل وعقل، بل مزاوجة بين مجموعتين من الظروف.
অজানা পৃষ্ঠা