اهتم كل منا بالآخر؛ اهتمت بي لمصريتي، واهتممت بها لدرايتها بالفنون؛ فقد تعارفنا فعرفت عنها أنها من أهل نيويورك، تخرجت في جامعتها، وحصلت على درجة جامعية في الموسيقى أساسا وفي الفنون إطلاقا، وهي تدرس في ولاية جورجيا (في أقصى الجنوب)، وأغرب ما علمته منها أنها تدرس في كلية للزنوج هناك؛ ذلك لأني لم أكن أعرف أن البيض قد يقبلون العمل في مدارس السود، وإذا كانت هذه السيدة لا تدعي ما ليس حقها، فهي تقول إنها اختارت عامدة أن تدرس عامين في مدرسة للزنوج؛ لأنها تعطف عليهم وتقف إلى جانبهم في مشكلتهم مع البيض، وأرادت أن تضع نفسها في المسرح الذي تدور عليه المشكلة في صميمها؛ وأعني به ولايات الجنوب، لترى بعينها الحقائق عن كثب ... راحت تشرح لي كيف أن الموقف أصعب جدا من ناحية الزنوج منه من ناحية البيض؛ لأن الأبيض ما عليه إلا أن يغير رأيه عن الأسود فتنتهي المشكلة بالنسبة إليه؛ أما الأسود فهو يغلي من الغل والكراهية لانعزال البيض عنه تكبرا، مع أنه في الوقت ذاته لا يرضى أن يندمج البيض في السود، ويريد لنفسه العزلة! سألتها: ولماذا يريد السود أن يظلوا في عزلتهم اللونية؟ فقالت: لأنهم يخشون منافسة البيض؛ فافرض مثلا أن كلية من كليات الزنوج فتحت أبوابها للمدرسين جميعا أبيضهم وأسودهم على السواء، وافرض أن البيض أقبلوا على التدريس فيها، فسيكون الموقف دائما هو أن بين البيض من هم أكفأ وأعلى في الدرجات العلمية، وبذلك يملئون الوظائف ويسدون الطريق أمام الزنوج ... ثم قالت: إن الزنوج لا يقبلون على العمل إقبالنا نحن البيض عليه ...
ومن أغرب ما سمعته منها ولم أكن أعلمه، أن تلاميذها يعرفون عنها داخل الكلية أنها شديدة العطف على الزنوج وتحبهم وتشجعهم، ومع ذلك كله فبمجرد ما تخرج من أبواب الكلية، يمتنع تلاميذها عن التحدث إليها في الطريق، وحتى إن شجعت طالبا رأته في الطريق بأن تبدأ هي بالحديث، خاف الطالب وراح يتلفت حوله قبل أن يتحدث إليها؛ خشية أن يكون هناك شرطي على مقربة منه؛ لأن الشرطي يقبض على الزنجي بحكم القانون إذا رآه يتحدث في الطريق مع بيضاء!
اسم هذه السيدة «أ. و» جاءت إلى نيويورك لتقضي مع أهلها عطلة عيد الميلاد، وهي واسعة الدراية بالفنون إلى درجة تستلفت النظر، مشينا معا في حجرات القسم المصري، فكانت لها تعليقات أفادتني في الفهم فائدة عظيمة، كان أول ما رأيناه معا في الغرفة التي كنا بها أوان فخارية بينها «زير » على حامل من الحديد، شديد الشبه جدا بما يستعمل حتى اليوم في الريف المصري، فقالت: هذا شبيه ببعض الآثار الفخارية في المكسيك، والذي حرت في أمره هو: لماذا يصنعون هذه الآنية الفخارية بغير قاع مسطوح ترتكز عليه فوق الأرض؟ لماذا يجعلون لها هذا القاع المكور بحيث يحتاج في رفعه عن الأرض إلى حامل من حديد؟ فقلت لها: هذه الآنية الفخارية لا تزال مستعملة في ريفنا المصري لتبريد الماء، والفكرة هي أن جدار الآنية ليس مصمتا، بل هو ذو مسام يرشح منها الماء ويسيل على الجوانب، وإذا فلا بد أن ترفع الآنية عن الأرض ليتجمع الماء السائل في الطرف الأسفل ويتبلور في نقطة ماء تسقط في إناء موضوع تحت الزير.
وانتقلنا إلى الغرفة المجاورة، فكانت هناك لوحات حجرية عليها رسوم حمراء لأشخاص في أوضاع مختلفة؛ وهنا دار بينها وبيني حديث مفيد ممتع في فن التصوير عند المصريين القدماء؛ وذلك أني نظرت إلى الصورة وقلت في شيء من المجازفة - خشية أن يكون قولا دالا على جهل معيب: إنني أرى في هذا الرسم المصري القديم بعض أصول الفن عند «ماتيس». ثم سألت قائلا: فلماذا يعد هذا الفن بدائيا بينما يعد فن «ماتيس» آخر طراز في الحداثة؟ فقالت: فن «ماتيس» قائم بالطبع إلى حد كبير على الفن الأفريقي (هكذا)، ولكن من ذا الذي قال إن هذا الفن الأفريقي بدائي؟ وراحت تشرح لي ما أفادني، وهو أن الرسم المصري قائم على أساس حقيقة المرئي كما هو في الواقع، لا على صورته في عين الرائي؛ فهم يرسمون الرجل - مثلا - بصدره كله، ويلفتون الرأس إلى أحد الجانبين، وفي الوقت نفسه يرسمون العين كاملة على الصدغ الظاهر، مع أنهم لو رسموها كما يراها الرائي تحتم أن يرسموا نصفها لاختفاء نصفها الآخر ما دام الوجه ملتفتا إلى جانب ... المصور المصري القديم لا يأبه لما تراه عينه من الشيء المرسوم، بل يرسم ما يعلم أنه حقيقة الشيء في الواقع، يندر جدا أن يرسموا الشخصية من جانبه؛ لأن ذلك يضيق الصدر في الصورة، وكذلك يندر جدا أن يرسموا الوجه ناظرا إلى أمام مع الصدر؛ لأن ذلك لا يعطي للأنف كامل هيئته، وكذلك القدمان يرسمهما الرسام دائما كاملتين مهما كان وضع الشخص المرسوم ... أخذت السيدة تشرح لي كيف أن المصري في رسمه للأشياء على هذا الأساس لم يكن جاهلا بقواعد المنظور في الرسم؛ فهو يبدي دقة كبيرة في رسم التفصيلات مما يدل على قدرته وبراعته، بحيث يستحيل بعد ذلك أن نقول: إنه إذا رسم العين كاملة - مثلا - مع أن الوجه ملتفت إلى جانب ولا يظهر العين كاملة كان ذلك جهلا منه بالرسم وقواعده! لكن الأمر أمر «مبدأ» فني يصدرون عنه؛ فقد أرادوا - كما أراد «ماتيس» في عصرنا الحاضر - ألا يتقيد الفنان بقواعد المنظور، على اعتبار أن الصورة الفنية ليست صورة فوتوغرافية تنقل الشيء كما يرى ... ولحسن الحظ كان أمامنا صورة أخرى معلقة إلى جانب الصورة التي كانت موضوع الحديث، في هذه الصورة الثانية شخص ممسك في يده بعدد من الطير، يمسكها من أرجلها فتتدلى رءوسها إلى أسفل صفا على هيئة مروحة أو على هيئة الزهرة، والرجل في الصورة متمنطق في وسطه بالثوب المصري التقليدي، لكن الرسام أظهر في الصورة خطوط فخذيه، مع أن فخذيه يغطيهما الثوب فلا يظهران للرائي، فقالت السيدة لي: انظر إلى هذه الصورة مثلا، فلو كان الفنان متقيدا بقواعد المنظور؛ لأخفى خطوط الفخذين لاستتار الفخذين وراء الثوب، ولا يمكن أن نقول إن ذلك جهل منه في التصوير؛ لأننا إذا نظرنا إلى مجموعة الطير في الصورة، وجدنا الفنان قد راعى فيها قواعد المنظور التي حسبناه يجهلها، فجعل الطائر الأعلى يخفي الطائر الذي خلفه وهكذا ... لماذا؟ لأن هدف الفن المصري هو إظهار «القالب» أو «التكوين» أو «الفورمة»؛ فهو يظهر فخذي الرجل بغض النظر عن الثوب؛ لأنه يريد إظهار «تكوينهما»، أما في حالة الطير فلم ير حاجة إلى إهمال قواعد المنظور؛ لأن «التكوين» أو «الفورمة» قد تحققت له في رءوس الطير التي تدلت على هيئة الزهرة ... والخلاصة أن أساس التصوير المصري هو إظهار «التكوين»، بحيث يستبيح الفنان لنفسه مجاوزة قواعد رسم المنظور إذا ما تعارضت مع إبراز «التكوين»، أما إذا لم يكن ثم تعارض بين المنظور و«التكوين» راعى قواعد المنظور.
واستطردت السيدة في شرحها فقالت: إن المصريين في تماثيلهم لا يلجئون إلى تغيير شيء من المرئي؛ لأنهم في النحت ليسوا بحاجة إلى تغييره؛ إذ تتلاقى قواعد المرئي مع حقيقة الشيء في الواقع، لكن التصوير هو الذي أحدث هذه المشكلة في عصور التاريخ الفني كلها؛ لأن المادة المرسوم عليها ذات بعدين، على حين أن الشيء المرسوم ذو ثلاثة أبعاد، فكيف نتصرف إزاء البعد الثالث؟ أما المصريون واليونان معا، ومعهم الفنان الحديث على أيدي «بيكاسو» و«ماتيس» وغيرهما، فيهملون البعد الثالث ليكونوا أمناء في استخدام المادة التي يرسمون عليها، وبذلك ظهرت رسومهم مسطحة لا محاولة فيها لإبراز البعد الثالث؛ وأما الفن الأوروبي منذ عصر النهضة إلى القرن العشرين، فهو وحده دون سائر عصور التصوير كلها في كل مكان وفي كل زمان، هو وحده الذي خرج على التقليد الفني، وحاول أن يلجأ إلى «التظليل» في الصورة ليظهر البعد الثالث، وكان ذلك خطأ فنيا عظيما، ومجهود المدرسة الحديثة في الفن أن تزيل هذا الخطأ وتعود إلى الطريق الصواب؛ فإذا كنا نريد إظهار الشيء بأبعاده الثلاثة فعلينا بالنحت، أما أن تكون لوحة التصوير مسطحة ذات بعدين، ثم نحاول أن نبرز على سطحها بعدا ثالثا، فخروج على ممكنات المادة التي يعالجها الفنان.
إنه بغض النظر عن هذه اللمحات القوية التي استفدتها من هذه السيدة في فهم الفن المصري وتقديره، فوالله لقد وقفت مبهوتا أمام المعروضات المصرية؛ إنه لا جديد فيما أرى؛ فقد ألفت أعيننا هذه الأشياء، لكن لا تنظر النظرة العابرة؛ وقف أمام شيء واحد، وادرس تفصيلاته لتدهش وتعجب ... لقد كنت أمس في متحف الفن الحديث، ورأيت تماثيل نحتها قادة هذا الفن في عصرنا، وإني لأقول إذ أقارن بين ما أراه الآن وما رأيته أمس: شتان ما بين الثرى والثريا! ... طاف ذلك بخاطري، لكني لم أقله لزميلتي خشية أن أكون كالطفل الذي يباهي، حتى وقفت هذه السيدة من تلقاء نفسها أمام تمثال جميل وقالت: لو خيرت بين هذا التمثال وحده وبين متحف الفن الحديث كله بما فيه من أرضه إلى سمائه، لاخترت هذا التمثال، يا له من إعجاز في الفن!
وانظر إلى الحلي المعروضة نظرة مدقق، وقل لي أين الفرق بين هذه الأقراط الكبيرة المستديرة التي أراها الآن، وبين ما أراه في أرقى معروضات الطريق الخامس في نيويورك؟! وانظر إلى الأواني الدقيقة الرقيقة ذات «التكوين» البديع الرشيق الرائع ... إن كل آنية منها كأنها فتاة من باريس تعلمت كيف تقف وكيف تتلفت في رشاقة ودلال.
وقفت مع زميلتي الفنانة أمام رأس نفرتيتي (وهي بالطبع نسخة من الأصل المحفوظ في برلين)، وراحت الزميلة تبدي إعجابها الشديد، قائلة إن أستاذها الذي علمها الفنون كان قد درس في برلين، وكان يقول لهم إنه من شديد إعجابه برأس نفرتيتي أحب نفرتيتي حبا جنسيا كما يحب الرجل المرأة يشتهيها ... ثم قالت: وأنا لا ألومه على حبه ذاك، انظر إلى هاتين الشفتين! إن الشفاه في تماثيلكم كلها من أبدع الشفاه في البشر جميعا ... فقلت لها: لولا أن شفتي نفرتيتي تبديان قليلا من شهوة، فقالت: نعم، هذا صحيح، لكنها شهوة في تحفظ الحياء، وفي هذا سر جمالها.
ودعتني الزميلة الفنانة لنلتقي بعدئذ على عشاء ... ورحت أستعرض وحدي بقية المتحف، لكن هل يمكن أن أستعرض كل هذا العالم الزاخر في جزء من يوم؟ فهذه آثار اليونان، وتلك آثار العصور الوسطى، وأخرى آثار العصر الأول في أمريكا وهكذا وهكذا، كلها معروض في أبهاء فسيحة قوية البناء جميلة التنسيق ذات هيبة وجلال.
وحسبتني قد كدت أفرغ من المتحف، لكني وقعت فجأة على جناح بأسره خصص للفن الأمريكي في التصوير ... فيئست من التتبع والتعقب والدراسة، أقول إني يئست من أن أحيط بأكثر من النزر اليسير من العلم بالفن الأمريكي، فجلست على كنبة هناك لأستريح؛ فقد كان التعب هدني هدا.
অজানা পৃষ্ঠা