كانت الدعوة في أجمل فنادق المدينة، استأجر الشابات مكانا هناك ليكون ناديهن، وهن من الطبقة العليا في المجتمع كما هو ظاهر من ثيابهن وحليهن وسلوكهن: فها أنا ذا أرى مجموعة قد تبلغ المائة من آيات الجمال الرائع، قد بدون في ثياب السهرة التي تخطف الأبصار فتنة وسحرا، وقد لبس كثيرات أنواعا من الأساور العريضة التي تشنشن منغومة كلما تحركت الأذرع، والأقراط في الآذان، كلها فن، وكلها عجب يسرق الألباب ... الاجتماع فواح بالعطور متلألئ بالزينة منغوم بالصوت الجميل، فيه كل ما يشبع البصر والشم والسمع والأنفس والعقول والألباب.
لما جاءتني اثنتان من هؤلاء تأخذانني بسيارة إحداهما إلى الفندق حيث الاجتماع، جلست إلى جانب صاحبة السيارة، وكان القمر ابن ليلتين أو ثلاث، فلم أدر كيف أفتح الحديث - قبل أن تتحرك السيارة - سوى أن سألت جارتي: كم عمر هذا القمر؟ فضحكت وقالت: لا أستطيع أن أراه من مكاني إلا إذا رأيته خلال فروع الشجر، ولا أريد أن أنظر إليه خلال فروع الشجر؛ لأنه يقال إن الواحدة لو رأت القمر خلال الشجر أصابها الحظ السيئ ... تلك بالطبع خرافة اعتقدت فيها هذه السيدة الفاتنة الجميلة التي شبهتها أول ما رأيتها بالفاتنة المصرية «خ»، فكلتاهما مترعة بالأنوثة في كل نبرة وفي كل لفتة، فلما رأيت السيدة «ف» معتقدة في خرافة القمر والشجر زادت أنوثة على أنوثة وفتنة فوق فتنة! اللهم إني لمفتتن بالمرأة التي تعتقد في الخرافة أكثر ألف مرة من فتنتي بامرأة تجلس إلى جانبي لتحدثني في الهندسة وعلم الفلك! إنني أشتهي المرأة حين لا يكون العلم الجاف جمد عقلها وجعلها كالصخرة الناشفة التي لا يرجى عندها قطرة ماء، أريد امرأة يكون في عقلها رخاوة كرخاوة جسمها، أريدها ضعيفة لكنها ذكية ...
في الجريدة اليومية التي أقرؤها محررة ترد على الرسائل التي ترد إليها من قرائها وقارئاتها، وكثيرا ما تكتفي المحررة بسؤال واحد لتجيب عليه في إطناب، وقد لفت نظري موضوع اليوم؛ لأنه متصل بالفكرة التي ذكرتها الآن عن المرأة التي تستهويني ... فالسؤال من طالبة في مدرسة ثانوية، أرسلت تسأل المحررة رأيها في الصفة التي تكون أكثر استهواء للشبان، فتقول: إن طريقة تربيتي مختلفة كل الاختلاف عن تربية زميلاتي؛ فقد عنى والدي أن يربياني بحيث أنشأ امرأة لا تتشبه بالرجال، فعلماني كيف أمشي وكيف أتكلم وكيف أتلفت، وكيف أجلس وكيف أستقبل وكيف أودع ... أما زميلاتي فيهزأن بي، ظانات بي التأخر والرجعية؛ فهذا العصر عندهن عصر لا ينبغي للمرأة فيه أن تختلف عن الرجل في شيء؛ فهن يصحن في الحديث ويصفرن ويدخن ويسترجلن في الحركة والكلام ... إن زميلاتي ينذرنني بأن سلوكي المتخلف عن عصره سيكون منفرا للشبان، وبذلك فلن تكون لي صداقة مع واحد منهم، وبالتالي لن يكون لي زواج ...
فأجابتها المحررة قائلة إن سلوكها هذا هو خير سلوك في اجتذاب الصديق والزوج، وأكدت لها من خبرتها الطويلة أن المرأة كلما بعدت عن التشبه بالرجال زادت للرجال استثارة واستمالة؛ لكنها تحذرها تحذيرا شديدا ألا تخطئ فتمزج ترفعها بالعجرفة، قائلة لها: اعلمي أنه ليس أقتل لغريزة الرجل إزاء المرأة من عجرفتها ...
وقرأت في مجلة كوليرز لهذا الأسبوع مقالة دهشت لها دهشة عميقة، كدت لا أصدق عيني فيما تريان على صفحات المجلة؛ ذلك أن المقالة عن طائفة من الناس في ولاية يوتا من ولايات الغرب يطلق عليها اسم «المورمون» تبيح للرجال منها أن يتزوج الرجل من زوجات عدة، و«المورمون» طائفة مسيحية لكنها تختلف عن سائر المذاهب المسيحية من بعض الوجوه؛ وعنوان المقالة التي قرأتها اليوم «لماذا أعاشر خمس زوجات» وهي حديث صحفي مأخوذ من رجل اسمه «إدسن جيسوب» يدين بعقيدة المورمون، ويتزوج من خمس نساء دفعة واحدة، وقد استتر هو وأسرته الضخمة في مكان خفي من ولاية أرزونا؛ لأن حكومة الولايات المتحدة لا تجيز تعدد الزوجات على أرضها مهما تكن عقيدة الزوج، فاكتشف رجال الحكومة مكمن هذا الرجل وقبض عليه وحوكم وحكم عليه بالسجن، لكن الرجل عندما وجه إليه الصحفي سؤاله كان قويا في إجابته مؤمنا بعقيدته، سأله الصحفي: هل يمكنك أن تحب زوجاتك الخمس؟ فقال: «لقد سمعت هذا السؤال مرارا كأنه لغز لا تستطيعون حله، وجوابي دائما على هذا السؤال هو الآتي: هل يمكن لرجل أن يحب خمسة من أبنائه دفعة واحدة؟ هل يمكن أن يحب خمسة من أصدقائه دفعة واحدة؟ هل يمكنه أن يحب خمسة من إخوته دفعة واحدة؟ أروني رجلا واحدا ممن يدعون أنهم يلتزمون بنظام الزوجة الواحدة، لا تكون له امرأة أخرى يبادلها الغرام وتبادله! ونحن المورمون لا نحب سرا، إننا لا نحب حبا يلفه العار، بل نحب جهرا وعلانية حبا يزدان بالشرف، ليس بيننا المرأة التي تحمل جنينها في خفاء من القانون ثم تضع حملها إجهاضا، فنساؤنا جميعا يحملن الأجنة من أزواج، ويلدنهم أطفالا ذوي نمو كامل.»
وذهبت في الساعة الثامنة إلى الجمعية التاريخية لأشرح التطور التاريخي للمسألة المصرية، وكان بين الحاضرين سيدة واحدة؛ إنني لأوشك أن أقول إن هذه ظاهرة في الحياة هنا؛ أعني عدم امتزاج الرجال بالنساء إلا على نطاق ضيق محدود، فلولا أنني أعلم أنني الآن في أمريكا حيث الاختلاط بين الجنسين تام، لقلت إن مشاهداتي الشخصية تدل على غير ذلك ... فالاجتماعات الأربعة التي عقدها لي الدكتور «ش» في داره عند أول قدومي لم يكن فيها امرأة واحدة، ولم تحضرها زوجته؛ والاجتماع الذي حضرته في منزل العميد «ن» لم يكن فيه امرأة واحدة ولم تحضره زوجته؛ ولم أر في نادي الأساتذة امرأة إلا مرة واحدة، وفي كل مطعم أرتاده لم أجد أبدا رجلا يجلس مع سيدة على منضدة واحدة إلا إذا جاءا إلى المطعم معا، فكثيرا ما يكون هنالك مقعد خال على منضدة تجلس إليها سيدة، فلا يجلسك صاحب المطعم على ذلك المقعد الخالي، ويطلب منك الانتظار حتى تخلو منضدة، أو يخلو مقعد على منضدة يجلس إليها رجل؛ كل النوادي التي دعيت إليها حتى الآن إما أن تكون للرجال دون النساء أو للنساء دون الرجال ... لست أدري إلى أي حد تكون هذه قاعدة في الحياة الأمريكية، لكن تلك هي مشاهدتي على كل حال.
الأحد 22 نوفمبر
المآسي البشرية تحدث كل يوم، لكن بعضها يلفت النظر لغرابته، أو لأنه أمس بالشعور؛ وقد حدثت مأساتان في نيويورك: الأولى تستوقف النظر بغرابتها؛ والثانية تسترعي الانتباه؛ لأنها تمس الشعور الإنساني في صميمه.
أما الأولى فهي: أن زوجة ضربت زوجها بالقادوم - وهو نائم - على رأسه حتى قتلته، أو حتى ظنت أنه قتل، وجذبت ابنها بسرعة إلى المطبخ، وفتحت صنابير الغاز لتختنق هي وابنها، ولكن حدث وهي في المطبخ مع ابنها أن سمعت زوجها يئن، فعادت إليه مسرعة وضربته بالكرسي على رأسه حتى مات، وعادت لا لتجد ابنها حيث تركته، بل لتجد أن ابنها قد فر صارخا إلى الجيران يطلب النجدة، وجاء الجيران ونادوا رجال الشرطة وقبضوا على المرأة، فقصت قصتها: وهي أن زوجها لم يدع الأسرة تستقر في مكان واحد شهرا على شهر؛ فهو ينتقل بهم من ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى، فحذرته من الانتقال مرة أخرى، حتى يجد ابنهما فرصة يضرب فيها بجذوره في الأرض، فيكون المعارف والأصدقاء؛ لأنه حتى الآن بغير صديق، لكن زوجها عاد أمس يقول لها: نحن راحلون إلى ولاية أورجون (في أقصى غرب الولايات المتحدة)؛ فقالت له: لسنا براحلين؛ فقال: بل سنرحل، وقد اتفقت فعلا على عملي الجديد ... قالت المرأة للشرطة: فانتظرت حتى نام وقتلته، وأنا الآن مستريحة الفؤاد؛ إذ لا انتقال للأسرة بعد اليوم!
وأما الحادثة الثانية فهي: أن رجلا متزوجا وله طفلة، يسكن مع أسرته في نيويورك، وقد فقد وظيفته ويحاول البحث عن أخرى منذ ستة أشهر ولكنه لم يوفق، واشتد خجله من زوجته، فأفهمها أنه قد وجد عملا، وظل يخرج في الصباح حيث لا يعود إلى داره إلا في موعد انصراف الناس عن أعمالهم، وفي هذه الأثناء يبحث عن عمل فلا يجد، وكان كل شهر يسحب من توفيره مبلغا يساوي ما يمكن أن يكون راتبه، فيعطيه إلى زوجته، بل كان أحيانا يعطيها زيادة على اعتبار أن راتبه قد زاد، لكن المدخر قد نفد، فكتب خطابا إلى زوجته يقص عليها فيه قصته، وترك الخطاب في البيت، وخرج إلى غير عودة؛ لأنه انتحر ... أليس عجيبا أن يخفق إنسان كل هذا الإخفاق في أمريكا المليئة بالعمل والنجاح؟! لكن هكذا الدنيا وهكذا الناس: يسر لبعض وعسر لبعض.
অজানা পৃষ্ঠা