هيا بنا نصعد إلى الطابق الأعلى؛ فتصيح بنا السيدة «ج»: احذروا السلم، كل منكم يعد خمس عشرة درجة حتى لا يعثر فيقع، صعدنا فوجدنا أنفسنا في ممر يفصل غرفتين: أما يمناهما فمكتب ومكتبة غاية في حسن الذوق وخصوبة المحتوى، جدران الغرفة الأربعة مغطاة من أسفلها إلى أعلاها بخزائن الكتب ورفوفها، والمكتب موضوع في وسط الغرفة في وضع مبتكر، وعليه كتب ومجلات تدل على أن يدا كانت تقلب فيها منذ دقائق، وأما يسراهما فغرفة للجلوس على جدرانها صور فنية رائعة؛ وقفنا ننظر في إعجاب، فلاحظت من الحديث أنها قد تكون من تصويرها هي، فأردت التأكد وسألت: تصوير من هذه؟ قالت السيدة: إنها لي، وهذه؟ وهذه؟ وتلك؟ ... إذا فالسيدة «ج» فنانة، وبدأت أنظر إليها هذه النظرة، فعرفت لماذا علقت عقود الأجراس عند مدخل دارها، ولماذا جعلت مقاعد غرفة الاستقبال في الطابق الأسفل من جذوع الشجر وفروعه، ولماذا رصت زجاجات الزيت صفا طويلا! إنها انحرافات فنانة لا تحيا بالمألوف المعروف، بل تريد أن يكون طابعها متميزا في كل جزء من حياتها، حتى في التوافه، وتلك هي فردية الفنان وشخصيته.
لكن السيدة «ج» لم تكن فنانة فحسب، فما هو إلا أن كشفت فيها عن جانب آخر؛ فهذا مجلد ضخم قوامه قصاصات من صحف ألصقت على نحو جميل فوق ورقات سوداء، هي مقالاتها التي أمدت بها الصحف والمجلات، ولم يكن أمامي فرصة لقراءة شيء منها، لكني اكتفيت بقراءة العنوانات، وهذه وحدها كافية للدلالة على أنك إزاء كاتبة تنشد في كتابتها - كما تنشد في تصويرها وفي أثاث بيتها - الطابع الفريد المميز.
بعد قليل من حديث، طفقت السيدة تقص علينا من ماضي حياتها: كانت قد تقدمت بي السن بغير زواج، وقلق علي أهلي، وكان زوج أختي يأتينا بضيف آنا بعد آن لعل الضيف أن يتحول إلى خاطب! فكنت أقابل هذه المحاولات بالمقاومة الشديدة والعناد الشديد، وذات يوم جاءنا بضيف، وركبت رأسي ألا أحضر استقباله؛ لأن لدي موعدا آخر لم أرد تفويته على نفسي، فرجاني زوج أختي أن أبقى معهم ساعة واحدة، ودخلت الغرفة - غرفة الضيوف - والعفاريت تملأ نفسي ورأسي، فإذا أنا أمام رجل، لا أقول إنه جميل، ولكني أقول إنه رجل! هذا هو «ر» هذا هو زوجي، كان «ر» عندئذ أستاذا للدراسات القديمة في جامعة نيويورك، فقلت في نفسي: هذا محال! محال أن يقبلني «ر» زوجة له، أين أنا منه؟ لقد بلغ الرجل قمة العلم، وأما أنا! أنا امرأة لا تعرف رأسها من قدمها، لكن ماذا أقول؟ لقد تمت المعجزة وتزوج مني «ر»، إنني في عجب، لم أنقطع طول حياتي معه عن العجب، ولا أذكره بعد موته إلا ويعود إلي العجب: كيف كنت زوجة ل «ر»؟ لكني كنت جميلة، إنكم الآن تقولون في أنفسكم: كاذبة؛ إنكم الآن تضحكون في أنفسكم، افعلوا ما شئتم مع أنفسكم، لكني كنت عندئذ جميلة ... ذهبت مع «ر» إلى نيويورك، وكنت قد أخلصت له قبل الزواج كل الإخلاص؛ إذ كاشفته بشعوري، فأطلعته على دهشتي من قبوله لي زوجة له وهو العالم وأنا الجاهلة، وقلت له: إني سأعطيك عاما كاملا تتردد فيه، إنني قد قطعت بقبولك زوجا لي، لكني أظلمك لو أصبحت زوجة لك ... غير أن «ر» أتم الزواج رغم هذا كله، تزوج مني «ر» وذهبت معه إلى نيويورك وسكنت معه بيتا جميلا، كان أول ما فعلته في البيت أن طليت بابه باللون القرمزي، طليته بيدي، فهل تعجبون إذا علمتم أن أصحاب المنازل كلها على طول الطريق سرعان ما قلدونا وطلوا أبوابهم باللون نفسه؟ الحق أنه كان لونا جميلا ... والله إني لفي عجب كيف تزوج مني «ر»! لكنه تزوج مني وكنت جميلة عندئذ ... كنت أنظر أمس إلى ولدي (لها ولد شاب عمره فوق الثلاثين وهو مهندس) وأتفرس فيه، فصاح قائلا: لماذا تنظرين إلي هكذا؟ فقلت له: إني لا أنظر إليك يا أحمق! أنا أنظر إلى أبيك في وجهك، إنني أحببت «ر» وسأحبه إلى أن ألتقي به بعد موتي، لو قيل لي إن «ر» سيلقاني بعد الموت حقا، لمت الليلة لألقاه، إنني ما زلت في عجب كيف تزوج مني «ر»!
وبعد أن مضت السيدة «ج» على هذا النحو تقص علينا قصة زواجها، نظرت إلي قائلة: سمعت أنك أعزب، اسمع نصيحتي، أنا لا أكذب، إنني أقولها لك قولة حق وصدق صادرة من هنا (وأشارت بيدها إلى قلبها) تزوج! تزوج غدا، بل تزوج الليلة، بل تزوج الآن! إنك إذا ما تزوجت شعرت بندم على كل سنة قضيتها بغير زوج، ستندم على كل يوم، على كل ساعة! آه، إنه إذا كان الزواج هو ما رأيته مع «ر» فهو النعيم بعينه، وجدت سعادتي مع «ر».
هنا قالت السيدة «م» عني إنني أظن أنني كهل قد فاتني سن الزواج، عمره ثمانية وأربعون ويظن أنه كهل! فقالت السيدة «ج»: ثمانية وأربعون هي السن التي تعرف فيها كيف تحب يا أبله! قلت لها: وكم يكون سنها هذه التي أتزوج منها يا سيدة «ج»؟ فقالت في صوت المتعجبة: كم يكون سنها؟! اسمعوا هذا الرجل! إنها هي المرأة التي تحبها ولا تسأل بعد ذلك كم سنها، ولكني أؤكد لك أنك ستحبها صغيرة، فلا تبال صغرها، ولا تبال إلا شيئا واحدا، وهو قلبك، أنصت إلى قلبك جيدا، إلى قلبك وحده. تزوج! وستندم على أنك لم تتزوج قبل الآن، ستندم على كل لحظة فاتتك بغير امرأة! قل لي بحق السماء: ماذا تريد من حياتك أمتع من امرأة تحبها وتعيشان معا تتحدثان تضحكان معا ثم ... ولا تنس أبدا هذا الذي سأقوله ... ثم تعتركان! نعم ما كان ألذ اعتراكي مع «ر»، عراك الزوج ممتع ممتع؛ أين أنت الآن يا «ر» لنعترك ونتشاتم ونملأ الدنيا صياحا! تلك هي جنة الفردوس بعينها!
وبعد حديث طال، قلنا: نقوم؛ فقالت السيدة «ج»: أتقومون ولم تروا صورة «ر»؟ وتركتنا ثم عادت ومعها صورة لزوجها الراحل.
الخميس 5 نوفمبر
خرجت تحت المطر إلى الغداء في المطعم القريب، ولم أجد مكانا على مائدة، والمكان الخالي الوحيد هو النضد العالي ذو المقاعد العالية غير ذوات الظهور، فجلست هناك وكنت عندئذ على مقربة ممن يعدون الطلبات، فأمعنت النظر في هذه السرعة الخاطفة التي يؤدي بها هؤلاء الناس أعمالهم: أمامي رجل يعد لحما مشويا في شطائر، فكأنما ذراعاه متصلتان بأسلاك كهربائية، لا يقف عن الحركة ثانية واحدة، ولا يتحرك حركة بغير فائدة؛ يقلب قطع اللحم على النار ثلاثا ثلاثا، ثم ينحني بسرعة البرق يقطع الخبز ثم يعود فيقلب قطع اللحم ثلاثا ثلاثا، ثم ينحرف يمينا يقطع الطماطم بالسكين في حركة لا تكاد تتبعها العين لسرعتها، وإلى جانب هذا كله يكلمه الزبون الذي يجلس بجواري فيرد عليه ويضحكان، والظاهر أنها كانت نكتة وردها، لكني لم أفهم لا النكتة ولا ردها ... وانظر إلى هؤلاء الفتيات المناولات، كلهن في ثياب بيضاء، وقتهن بالثانية أو بجزء من الثانية، يسمعن منك الطلب وهن ينزلقن مع الهواء، يكتبن ما يطلبه هذا الزبون وهذا وذلك دفعة واحدة ... تذهب المناولة لتعود وبخبطة واحدة على النضد تضع أربعة أكواب من الماء أمام أربعة من الزبائن، وبخبطة تالية على النضد تضع أربعة فناجين القهوة، وبحركة واحدة كأنها تبعثر حبا تقذف أمام الزبائن الأربعة على النضد بأربعة لفائف، كل لفيفة قوامها فوطة ملتفة على شوكة وسكين وملعقة ... فلا عجب أن يدخل هذا المطعم الصغير ساعة الغداء مئات ويخرجون في غير ضجة ولا إبطاء ... والمطاعم هنا كلها تقريبا على غرار واحد من التأثيث؛ فهي مؤثثة على هيئة مقصورات عربات القطار.
كنت قد ألفت هذا المطعم أول حضوري إلى هنا، أرتاده كل يوم، ثم انقطعت عنه حينا إلى سواه، ثم عدت إليه بعد ثلاثة أيام، فكان استقبال صاحبته لي ترحيبا حارا خجلت له، وسألتني أين كنت هذه المدة؟ فكان جوابي لجلجة صوتية في غير ألفاظ ... صاحبة المطعم على شيء من بدانة الجسم، لا تزيد عن الخامسة والثلاثين، أو قل إنها قاربت الأربعين، بشرتها غاية في الصفاء وردية اللون، فلا هي بالبيضاء الشاحبة، ولا هي بالممتقعة في احمرارها، وهي تتميز عن المناولات بلون ثوبها ... هذه السيدة البدينة تنسل بين الموائد كأنها النسيم، وبعين لماحة تكمل الموائد بما ينقصها، ثم تجري كأنها الريح إلى حيث تقبض النقود من الخارجين ...
الجمعة 6 نوفمبر
অজানা পৃষ্ঠা