فلم يغض همام من بصره تحت النظرات المتقدة التي تنصب عليه وقال بثبات: اعلم أنني لا أخافك. - هل وعدك البلطجي الأكبر بالحماية؟ - إن الغضب يجعل منك شيئا حقيرا تعافه النفس.
وفجأة لطمه قدري على وجهه. لم تدهمه اللطمة فردها بأشد منها وهو يقول: لا تتماد في جنونك.
وانحنى قدري بسرعة فالتقط حجرا وقذف به أخاه بكل ما أوتي من قوة. وبادر همام؛ ليتفادى الحجر ولكنه أصاب جبينه. ندت عنه آهة وجمد في موقفه والغضب يشتعل في عينيه. وإذا بالغضب يختفي منهما فجأة كأنه شعلة ردمت بتراب كثيف. وإذا بفراغ قاتم يحل فيهما. فبدت العينان وكأنهما تنظران إلى الداخل. وترنح ثم انكفأ على وجهه.
وتبدل قدري حالا بعد حال، فزايله الغضب، وتركه حديدا باردا بعد انصهار، وركبه الخوف. ترقب بلهفة أن ينهض المنكفئ أو أن يتحرك ولكنه لم يرحم لهفته. وانحنى فوقه، ومد إليه يده يهزه في رفق ولكنه لم يستجب. وسواه على ظهره؛ ليخلص أنفه وفاه من الرمال؛ فاستلقى الآخر محملق العينين ولا حراك به. وركع قدري إلى جانبه، وراح يهزه، ويدلك صدره ويديه، وينظر بفزع إلى الدم المتدفق بغزارة من جرحه. وناداه برجاء فلم يجب. وبدا صمته كثيفا عميقا، كأنه جزء لا يتجزأ من كيان، كجموده الذي بدا غريبا عن الحي والجماد معا؛ لا إحساس ولا انفعال ولا اهتمام بشيء، كأنما ألقي إلى الأرض من مكان مجهول فلم يمت إليها بسبب. عرف قدري الموت بفطرته فراح يشد شعر رأسه في يأس، ونظر فيما حوله خائفا، ولكن لم يكن هناك من حي إلا الأغنام والحشرات، وجميعها انصرفت عنه دون اكتراث، سينتشر الليل ويستحكم الظلام.
وقام بعزم، فجاء بعصاه، واتجه إلى موضع بين الصخرة الكبيرة وبين الجبل، وراح يحفر الأرض ويرفع التراب بيديه، ويواصل العمل بعناد، وهو يتصبب عرقا وترتجف منه الأوصال. وهرع نحو أخيه، هزه وناداه للمرة الأخيرة دون أن يتوقع جوابا. وقبض على أسفل ساقيه وجره حتى أودعه الحفر، وألقى عليه نظرة وهو يتنهد، وتردد مليا، ثم أهال عليه التراب. ووقف يجفف عرق وجهه بكم جلبابه. وكلما رأى بقعة دم في الرمال غطاها بالتراب. وارتمى على الأرض من شدة الإعياء. وشعر بقوته تتخلى عنه، وبرغبة في البكاء، ولكن الدموع استعصت عليه. وقال: «غلبني الموت!» لم يدعه ولم يقصده ولكنه يجيء كما يحلو له. ولو أنه انقلب تيسا لغاب في الأغنام، أو ذرة من رمال لاختفى في الأرض. ما دمت لا أستطيع أن أرد الحياة فلا يجوز أن أدعي القوة أبدا. وهيهات أن تمحى تلك النظرة من رأسي أبدا! إن الذي دفنته لم يكن من الأحياء ولا من الجماد، ولكنه من صنع يدي!
20
عاد قدري إلى الدار يسوق الأغنام، ولم تكن عربة أدهم بموقفها. وجاءه صوت أمه من الداخل وهي تتساءل: لماذا تأخرتما عن موعدكما؟
فدفع الأغنام إلى الممشى المفضي إلى حظيرتها وهو يقول: غلبني النوم، ألم يحضر همام؟
رفعت أميمة صوتها؛ ليعلو على أصوات الطفلين قائلة: كلا، ألم يكن معك؟
فازدرد ريقا جافا وقال: غادرني منذ الظهر دون أن يخبرني أين هو ذاهب، فظننته رجع إلى هنا.
অজানা পৃষ্ঠা