وقال وهو يضحك موجها خطابه إلى من في الحجرة بوجه عام: «لست أشك في أنني قد سلقت هذا الوغد بألسنة حداد ، وفي الحق أنه جدير بهذا، لقد جاء يحمل إلي أدوات المائدة لتكون نماذج للإنتاج بالجملة، ولكنها كلها بشعة المنظر، بدائية الصنع، شبيهة بالفئوس، لا تصلح حتى للمتوحشين من الآدميين، إن من واجبنا أيها الرفاق أن نمحو من الأذهان تلك الفكرة القائلة بأن أي شيء يصلح لشعب السوفيت، إنا نريد الكيف كما نريد الكم، والآن فلأنظر ما جاء بكم كلكم إلى هذا المكان؟»
وتنقل الوزير من زائر إلى زائر وإلى جانبه سمشكين، وكان إذا سمع مطالب واحد منهم أحاله إلى أحد مساعديه، أو طلب إليه أن يعود لمقابلته في يوم معين، ورأيت أن أورزنكدز قد زاد بدانة عما كان حين رأيته في المرة السابقة، وزاد الشيب في شعره الكث وشاربه المتهدل، ولكن ملامحه الضخمة ذات البشاشة الطبيعية غير المتكلفة، كانت لا تزال تبعث الثقة في نفس من يراه.
ولما وصل إلي ناولته ما معي من الرسائل، فألقى نظرة سريعة على واحدة منها ثم نظر إلي وقد أبرقت أسارير وجهه وقال: «كيف حالك يا صديقي القديم؟ نعم، إني أذكرك جيدا يا رفيق كرافتشنكو، وأرجو أن تكون ناجحا في دراستك، ويسرني أن أتحدث إليك، وليكن هذا في الساعة العاشرة مساء، اعتن بهذا الرفيق يا سمشكين، وهيئ له جميع أسباب الراحة.»
ولما عاد الوزير إلى مكتبه جاءني سمشكين وضغط بيده على ذراعي ليهنئني على ما نلت من حظوة، لقد أظهر لي أورزنكدز دلائل الرضا والمودة، وجاء أمين سره يسلك معي مسلك رئيسه، ونظر إلي من في الحجرة بشيء من الحسد على ما نلت من رضا، وما من شك في أنهم قالوا في أنفسهم: «أهذا الذي لم يزل في شرخ الشباب يحظى بابتسامة العظماء؟»
وركبت عربة زرقاء كبيرة أقلتني إلى «فندق العاصمة» وقدمت إلى من فيها ورقة من الوزير، فأخذني من فوري إلى غرفة كبيرة في الطابق الأعلى، وأحسست في خبيئة نفسي بالعظمة التي عادت علي لقربي من ذوي السلطان، وبما يخلعه علي هذا القرب من نفوذ.
وذهبت في المساء إلى مطعم الفندق، وهو حجرة ضخمة عالية الجدران مزينة بأصص النباتات الاستوائية الضخمة، ورأيتها مزدحمة وفيها جوقة جاز تعزف بعض الألحان، وفي وسطها ما يشبه أن يكون بركة سمك وعلى شواطئها الممردة رجال ونساء، يرقص كل اثنين منهم على نغمات الموسيقى، وقد ازدحمت بهم هذه الشواطئ فكانوا كأنهم كتلة واحدة من البشر يموج بهم المكان موجا.
ولم يكن في مقدوري أن أوائم بين نفسي وبين هذا المنظر الجديد إلا بعد عدة دقائق، وساءلت نفسي: «هل يمكن أن يكون هذا المكان قطعة من اتحاد السوفيت حقا؟ أو هل قادتني قدماي خطأ إلى ملهى أرى فيه مناظر تعرض على الشاشة البيضاء؟» وأبصرت من وراء نخلة في أصيص صحاف الطعام والراقصين والراقصات، وشاهدت في أماكن متفرقة رجالا في قمصان نصفية روسية، ولكن سائر من في المطعم كانوا يرتدون الثياب الأوروبية بما فيها أربطة الرقاب، أما النساء فكان بعضهن يرتدين جلابيب قصيرة لم أرها قط إلا على أغلفة الكتب، وكان عدد الأجانب كثيرا، ومنهم طائفة ترتدي ملابس العشاء والقمصان البيضاء المنشاة، وشاهدت من خلال إحدى البواكي في نهاية المطعم مكان الشراب، وفيه عدد من الفتيات الحسان يقدمن المشروبات إلى عدد من الرجال الواقفين على كراسي عالية تدل ملامحهم على أنهم من غير الروس.
وما كدت أستقر في المكان حتى طاف بمخيلتي منظر ثكنات نيقوبول، وتذكرت قول أحد نزلائها: «مرحبا بك إلى مسكننا أيها الرفيق، أتريد جرذانا أم بقا؟» ولكنى أبعدت هذه الفكرة من مخيلتي وقلت لنفسي: إن هذه موسكو، ولن يمضي إلا قليل من الوقت حتى أكون في «حديث» مع واحد من الستة الزعماء الذين يتصرفون في مصاير البلاد.
وقبل أن يحل الموعد المحدد بزمن طويل كنت مرة أخرى في حجرة الاستقبال الملاصقة لمكتب الوزير، وقبل الساعة العاشرة بقليل، اقترب مني سمشكين، وقال لي: «ربما اضطررت إلى الانتظار بعض الوقت ؛ لأن الرفيق بوخارين مع الوزير.»
الرفيق بوخارين! ودق قلبي دقة عنيفة، وكأني في هذه الساعة في حضرة لينين نفسه، إذ لم يكن بين أسماء العظماء في الثورة من هو أعظم من بوخارين إلا لينين وتروتسكي، ولقد درست كتابه المسمى «أبجدية الشيوعية»
অজানা পৃষ্ঠা