1 - فرار في دجى الليل
2 - طفولة روسية
3 - المجد والجوع
4 - الشباب في الجيش الأحمر
5 - قطع الصلة بالماضي
6 - طالب في خاركوف
7 - انتصار الآلات
8 - الرعب في القرية
9 - حصاد في جحيم
10 - أول ما رأيت من حركة التطهير
11 - سر إلينا
12 - مهندس في نيقوبول
13 - السرعة السرعة!
14 - التطهير الأعظم
15 - بداية محنتي
16 - بحث عن العدالة
17 - تعذيب بعد منتصف الليل
18 - العمال أحرارهم وعبيدهم
19 - بينما يدون التاريخ
20 - أكذوبة سيبيريا
21 - والقتال ناشب في أوروبا
22 - حرب لم تكن في الحسبان
23 - الذعر في موسكو
24 - الكرملن في أيام الحرب
25 - حقيقتان
26 - التأهب للسفر
27 - رعايا ستالين في الخارج
28 - الفرار من الظلم
حاشية
1 - فرار في دجى الليل
2 - طفولة روسية
3 - المجد والجوع
4 - الشباب في الجيش الأحمر
5 - قطع الصلة بالماضي
6 - طالب في خاركوف
7 - انتصار الآلات
8 - الرعب في القرية
9 - حصاد في جحيم
10 - أول ما رأيت من حركة التطهير
11 - سر إلينا
12 - مهندس في نيقوبول
13 - السرعة السرعة!
14 - التطهير الأعظم
15 - بداية محنتي
16 - بحث عن العدالة
17 - تعذيب بعد منتصف الليل
18 - العمال أحرارهم وعبيدهم
19 - بينما يدون التاريخ
20 - أكذوبة سيبيريا
21 - والقتال ناشب في أوروبا
22 - حرب لم تكن في الحسبان
23 - الذعر في موسكو
24 - الكرملن في أيام الحرب
25 - حقيقتان
26 - التأهب للسفر
27 - رعايا ستالين في الخارج
28 - الفرار من الظلم
حاشية
آثرت الحرية
آثرت الحرية
تأليف
فيكتور كرافتشنكو
ترجمة
زكي نجيب محمود
محمد بدران
الفصل الأول
فرار في دجى الليل
لقد كانت كل دقيقة قضيتها في السيارة من الحجرة المستأجرة إلى «محطة الاتحاد» في ليلة الأحد تبدو مفعمة بالأخطار، وبما لا أعرف مما تخبئه لي الأقدار، فلقد خيل إلي أن الشوارع نفسها والمباني المظلمة تعاديني وتتوعدني، وكنت قد قطعت هذا الطريق نفسه عشرات المرات في السبعة الشهور التي أقمتها بعاصمة الولايات المتحدة، قطعته وأنا جذل مرتاح النفس لا أكاد ألحظ ما يحيط بي فيه، أما في هذه المرة فقد كان كل شيء عكس ما تعودته؛ لأني كنت فيها هاربا.
وكانت الأسرة الأمريكية التي أقيم معها في واشنجتن تكرم الرجل الغريب المقيم بين ظهرانيها، وتعامله معاملة الصديق، فإذا مرضت أهمها أمري، وعنيت بي عناية غير متكلفة، وسرعان ما تطورت تلك العلاقة التي لم تكن في بداية أمرها إلا علاقة مالية محضة؛ فأصبحت علاقة إنسانية تربط قلوبنا، وكل ما كان لاختلاف لغتينا من أثر في هذه العلاقة أن أضاف إليها قليلا من الحماسة، وأحسست أن أولئك الأمريكيين الطيبين حين يشفقون على روسي بعيد عن وطنه إنما يعبرون عن شكرهم لجميع الروس، إلى حلفائهم البواسل الذين كانوا وقتئذ يصدون جحافل الألمان المغيرين في جبهة طولها ألف ميل، وكان أولئك الأمريكيون يعزون إلي أنا نفسي الفضل في كل نصر تناله الجيوش السوفيتية.
وكنت قبل فراري قد أديت أجر مسكني مدة أسبوع مقدما، ولكني مع هذا غادرت المنزل في الليلة الموعودة دون أن أودع من فيه بكلمة، وكل ما قلته لهم أني آذن لهم بتأجير حجرتي إذا اضطرتني ظروف رحلتي إلى البقاء في خارج المدينة إلى ما بعد يوم الثلاثاء؛ وذلك أني كنت أريد أن يبقى أصحاب المنزل على غير علم بمكان وجودي وبعزمي على ألا أعود إليهم إذا ما جاءهم رجال بعثة المشتريات السوفيتية يسألونهم عني.
وبقيت بضعة أيام في مكاتب تلك البعثة أتظاهر بأني أشكو الصداع واضطراب الصحة بوجه عام، وأشرت في صباح يوم فراري إشارة عابرة إلى عدد قليل من الزملاء أن من الخير لي «أن أبقى في المنزل طلبا للراحة»، وأني قد لا أجيء إليهم في يوم الإثنين؛ وقصدي من هذا أن أعمل جاهدا على أن أكسب يوما قبل أن يكشف أمر غيابي.
وبعد أن قبضت مرتبي عن شهر مارس أصررت على أن أسوي مستندات نفقات رحلتي الأخيرة إلى بلدة لنكستر من أعمال بنسلفانيا ورحلتي السابقة إلى تشكاجو، وتبين لي أن نحو ثلاثين ريالا لا تزال باقية لي من ذلك الحساب، وكنت أبغي من هذا ألا أترك ما يبرر اتهامي بأن المخالفات المالية هي سبب فراري، وعمدت فضلا عن هذا إلى ترتيب أوراقي جميعها على خير وجه حتى يستطيع من يخلفني أن يبدأ العمل من حيث تركته.
وما من شك في أن بعض أعضاء البعثة من رجال ونساء قد عاد إلى أذهانهم بعد فراري وبعد أن نشرت أنباء هذا الفرار جرائد واشنجتن ونيويورك في صفحاتها الأولى، أن حالهم قبل أن أفارقهم كان يمتاز بشيء من الحماسة والحرارة، وأن ضغط يدي وأنا أسلم عليهم وأقول «مع السلامة» كان أكثر من المعتاد. وما من شك كذلك في أنهم أدركوا أني كنت أودعهم الوداع الأخير في صمت وسكون، ذلك أن أحدا منهم لن يجرؤ بعد الآن على لقائي حتى ولو كان هذا اللقاء هنا في أمريكا بلاد الحرية. لقد تقاربنا أنا وبعض هؤلاء المواطنين في خلال الأشهر التي قضيناها في العمل معا، وفهم كل منا صاحبه وإن لم يتحدث إليه كثيرا، ولو أنني استطعت أن أفارقهم علنا وأظهر لهم عواطفي على الطريقة الروسية، لخف عني دون ريب بعض العبء الذي ينوء به الآن كاهلي.
وكانت ليلة الفرار ليلة ليلاء، خفيت نجومها، وبدا لي أن محطة السكة الحديدية ملأى بالإنذار والوعيد، فماذا يكون من أمري لو أنني التقيت بزميل لي فنبه من يجب تنبيههم؟ وما من شك في أن حقيبتي الملابس اللتين كانتا معي، وهذه الرحلة التي لم يصرح لي بها، ستثيران الريبة في نفسه من فوره، وماذا يحدث إذا كان الرفيق سيروف أو القائد رودنكو قد عرف خططي، وكأن الأقدار أرادت أن تحقق هذه المخاوف، فوقعت عيناي فجأة على إنسان يلبس حلة من حلل الجيش الأحمر، وما كدت أراها حتى جمد الدم في عروقي من شدة الرعب، فجذبت قبعتي حتى غطيت بها عيني، وخبأت رأسي بطوق معطفي أكثر من ذي قبل، وتسللت بجوار الجدار وظهري متجه على الدوام نحو مواطني.
واتخذت مكاني في القطار في عربة من التي يركب فيها عامة الشعب؛ وذلك لأن موظفي السوفيت كانوا يسافرون على الدوام في عربات بلمان الفاخرة، وكان في هذا ما يقيني إلى حد ما خطر لقاء أحد ممن يعرفونني، وفي هذه العربة المعتمة المزدحمة الساكنة استسلمت وحدي لأفكاري.
وكنت أدرك من زمن طويل أن هذه الساعة الحاسمة آتية لا ريب فيها؛ لذلك هيأت أسباب فراري من عدة شهور، وأخذت أترقبه وأنظر إليه على أنه خلاص لي مما كانت تعانيه نفسي من ضلالات النفاق والغيظ والاضطراب التي ألحت عليها سنين طوالا، وقدرت أن هذا الفرار سيكون وسيلتي التي أكفر بها عن تلك الآثام المروعة التي ارتكبتها مع زملائي من الطبقة الحاكمة في بلادي، والتي يؤنبني عليها ضميري.
أما الآن وقد أصبح هذا الفرار حقيقة واقعة فلم يكن فيه شيء من الحبور أو الابتهاج الذي يصحب الحرية في أول عهد المرء بها، بل شعرت من حولي بفراغ مؤلم ترددت فيه أصداء المخاوف وتبكيت الضمير بأصوات عالية، خيل إلي معها أن الجنود والبحارة المغفين في العربة الملأى بالدخان قد سمعوها بلا ريب.
وقلت في نفسي: إنني أجتث حياتي من أصولها اجتثاثا لا يبقي على شيء منها، وقد يكون اجتثاثا أبديا، وإنني من تلك الليلة أجعل من نفسي إنسانا شريدا لا وطن يؤويه ولا أسرة تضمه ولا أصدقاء يركن إليهم، وإنني لن أرى بعد هذه الليلة وجوه الأقارب والأصدقاء، وأمسك بأيديهم أو أسمع أصواتهم، وهم الذين لحمهم من لحمي وعظامهم من عظامي، كأن هؤلاء جميعا قد فارقوا الحياة، ومن أجل هذا فارقني شيء في دخيلة نفسي عظيم القيمة لي، وأيقنت أن سأحس في حياتي أبد الدهر بذلك الفراغ، ذلك الفراغ الرهيب، وذلك الموت الزؤام.
أما موقفي من البلاد التي ولدت فيها فسيكون موقف الرجل الطريد المنبوذ من حكومتها، وسيصدر النظام السياسي الذي قضيت فيه حياة كلها كدح وولاء حكما علي من تلقاء نفسه بالإعدام، ولن يفتأ عماله السريون ينغصون علي حياتي ويقتفون أثري أينما كنت، ويتتبعون خطواتي، ويراقبونني من تحت نوافذ حجراتي، وسيقضون على حياتي إذا أمرهم سادتهم بالقضاء عليها. أما هؤلاء الأمريكيون الذين أرجو أن ألقي بينهم عصا التسيار فهل يكون في وسعهم أن يدركوا ما في انشقاق شيوعي روسي على الدكتاتورية الروسية من معان وأخطار؟ ألا ما أطيب قلوب هؤلاء الأمريكيين!
وفي بلادي نفسها سيكون أصدقائي وزملائي في العمل، بله الذين يحبونني ويعطفون علي، سيكون هؤلاء جميعا موضع الشبهات وغرضا للمثالب والاتهامات، وإذا شاءوا أن يظلوا أحياء من بعدي كان عليهم أن يمحوا ذكراي من صدورهم، وإذا أرادوا أن ينجوا بأنفسهم من العذاب فعليهم أن ينكروني ويتبرءوا مني، كما كنت أتظاهر في أيامي الخالية بأني أنكرت من جروا على أنفسهم انتقام الدولة السوفيتية وتبرأت منهم.
ترى هل أنا على حق من الوجهة الأدبية في أن أعرض إلى الخطر حياة أولئك الرهائن الأبرياء في الروسيا إذا كان في هذه التضحية إراحة لضميري ووفاء ما علي من دين يقتضيه مني الحق كما أراه أنا؟ لقد كانت هذه أقسى مشكلة واجهتني، وماذا كان يرى في عملي هذا جدي التقي فيودور بنتليفتش ذلك الرجل الصالح الذي قضى حياته في طاعة الله وخدمة القيصر لو أنه كان وقتئذ حيا يرزق؟ وماذا كان يقول عني أبي ذلك الثائر الروسي المتعصب لآرائه لو أنه بقي على قيد الحياة بعد العامين اللذين قضاهما في ظل الاحتلال الألماني الوحشي؟
لقد كان لي في هذه الأفكار المتلاحقة شيء من التعزية على الأقل. إن جدي لم يكن يدرك قط سبب وقوف ابنه ووالدي أندراي في وجه القيصر وتقاليد الأجيال الطويلة، ولكن أندراي كان قوي الإيمان بعقيدته الجديدة الغريبة، وكان لا يتردد في الذهاب إلى السجن في سبيلها، ومن أجل ذلك كان جدي يختم ما يكيله له من عبارات اللوم بأن يدعو له بخير. أما أبي فكان يحب زوجته وأبناءه، ومع ذلك فإنه لم يتردد قط في أن يعرضنا جميعا للجوع والدموع ليخدم بذلك القضية التي كان يدافع عنها، ولم أكن أشك مطلقا في أنه هو كان يفهم موقفي ويرتضيه لو أنه طال به الأجل.
وكان من أسباب عزائي - وإن يكن عزاء شديد الوقع على نفسي - أن أفكر أن أخي قنسطنطين الذي كان طول حياته بالقرب مني قد مات، قد قتل وهو يدفع عن بلادنا الغزاة النازيين، وهو ضابط في جبهة القوقاز، وإذن فهل يصب رجالنا الرسميون جام غضبهم على عجوز مسكينة لا سند لها ولا معين قد خرجت توا من أحد معسكرات الاعتقال الألمانية، يصبون عليها جام غضبهم لأنها والدتي؟ أو هل يثأرون لأنفسهم مني في شخص المرأة التي ظلت زوجة لي ثلاث سنين لم تعرف في خلالها شيئا عن شكوكي السياسية ولا عن فراري؟
كانت هذه الأفكار لا تزال تتردد في خاطري، وكان وقعها مؤلما لنفسي، ولكن صداها ضعف بعض الشيء وإن لم يخفت كله حين وقف بي القطار في نيويورك في الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد، ورأيت الضابط الروسي السالف الذكر مرة أخرى على طوار المحطة يحمل في يده حقيبة ملابس، ولا يعرف شيئا عن وجودي في ذلك المكان، غير أني تباطأت في سيري؛ لأطيل ما بيني وبينه من بعد.
واتخذت لنفسي اسما إيطاليا تسميت به حين نزلت في فندق حقير في أحد أطراف المدينة، من ذلك النوع الذي تؤدي فيه أجر حجرتك مقدما، وكأن هذه الحجرة قد أعدت خصيصى لمن يريد الانتحار، فقد كانت ضيقة، مقبضة الرائحة، وأغلقت بابها علي وأخذت أكتب في ضوء مصباحها الكهربائي الضئيل بيانا نشرت بعض الصحف الأمريكية بعض ما جاء فيه بعد يومين من ذلك الوقت.
ولو أن إنسانا شهد مسلكي الخفي في تلك الأيام العصيبة، وعرف ما قضيته من الليالي ساهدا مؤرقا، واطلع على فراري خفية من واشنجتن، واختفائي في نيويورك؛ لظن أني ارتكبت جريمة شنعاء، وأني أعمل على تضليل رجال الشرطة، ولكنني في واقع الأمر لم أسرق ولم أقتل، وكل ما فعلته أني اعتزمت التخلي عن عملي بوصفي مبعوثا اقتصاديا لحكومتي.
وما من شك في أن الأمريكيين على بكرة أبيهم لا يوجد بينهم من يعرف أن ليس بين الجرائم التي يرتكبها أحد أبناء الدولة الدكتاتورية جريمة أعظم شناعة وأوخم عاقبة من الفرار؛ ذلك أن هذا العمل هو الكفر بالدولة إلههم الدنيوي، وهو لا يؤدي إلى اعتبار «المجرم» خارجا على وطنه مهدر الدم وكفى، بل إنه يحرم عليه تبادل الرسائل مع أحبابه من أهل بلده ويجلله العار أينما حل، وإذا جرؤ مواطن سوفيتي على مقابلته أو إظهار العطف عليه كان في ذلك انتحاره السياسي، بل قد يكون فيه انتحاره الجسمي.
ولم يكن العمل الذي أقدمت عليه من الخطى التي يخطوها روسي سوفيتي، وخاصة إذا كان شيوعيا قديم العهد بالشيوعية وذا مركز ممتاز في صفوف البيروقراطية، وهو مستهتر أو مندفع بمؤثرات وقتية. لقد كان هذا عملا نبتت أصوله في أعماق عقله من زمن بعيد، ثم ترعرعت ولم يكن في الإمكان اجتثاثها، وليست أسباب العمل الذي أقدمت عليه مما يطفو على السطح، بل هي مما يجب البحث عنه في الأعماق البعيدة، وفي طيات حياتي كلها.
وتحدثت إلى عدد من الأصدقاء في يوم الإثنين الثالث من شهر أبريل سنة 1944م، وفي مساء ذلك اليوم نفسه نشر خبر فراري في الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تيمس، وكان نشر الخبر في هذا الوقت من الأهمية بمكان، بل لعله كان السبب في نجاتي من الموت، فلو أن حراسي السوفيت علموا بفراري قبل أن يعرفه عامة الشعب لاتهمتني السفارة الروسية في واشنجتن لدى وزارة الخارجية الأمريكية بأني جاسوس ألماني، ولطلبت إليها أن تقبض علي فورا لأنقل إلى اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، أما وقد كشفت الحقائق أمام الشعب الأمريكي وأخذ هذا الشعب يرقب فصول الرواية، فإن السفارة السوفيتية أصبحت عاجزة كل العجز عن عمل شيء، أو عاجزة عنه وقتا ما على الأقل.
ونشرت التيمس الخبر بالعنوان التالي: «موظف سوفيتي في هذه البلاد يعتزل عمله»، أما الخبر نفسه فقد بدأ على النحو الآتي:
بالأمس أعلن فكتور أ. كرافتشنكو أحد موظفي بعثة المشتريات الروسية في واشنجتن استقالته من عمله، ووضع نفسه «تحت حماية الرأي العام الأمريكي»، بعد أن اتهم الحكومة السوفيتية في هذه الاستقالة بأنها فيما تعلنه من رغبة في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى إنما تجري على سياسة نفاق «ذات وجهين»، واتهم حكم ستالين بالعجز عن توفير الحريات السياسية والمدنية للشعب الروسي.
ويحمل مستر كرافتشنكو جواز سفر كتب فيه أنه «ممثل الحكومة السوفيتية» ... وهو ضابط في الجيش الأحمر، وكان قبل أن يرسل إلى الولايات المتحدة في شهر أغسطس الماضي مديرا لعدد من دور الصناعة الكبيرة في موسكو، ومن قبل هذا كان رئيسا لقسم الذخائر الملحق بمجلس وزراء الجمهورية الروسية الاشتراكية السوفيتية المتحدة، وهي أكبر الجمهوريات المنضمة إلى اتحاد الجمهوريات السوفيتية، وكان إلى وقت فراره عضوا في الحزب الشيوعي الروسي منذ عام 1929م، وشغل عدة مناصب هامة تحت الحكم السوفيتي.
ورفض مستر كرافتشنكو لأسباب وطنية أن يرد على الأسئلة الخاصة بمسلك الحكومة السوفيتية في الشئون العسكرية، أو أن يكشف عن شيء من التفاصيل المتعلقة بالأمور الاقتصادية، وبخاصة ما يتصل منها بتطبيق قانون الإعارة والتأجير على يد بعثة المشتريات السوفيتية، أو في بلاد الروسيا نفسها.
وتلت هذا النبأ فقرات من البيان الطويل الذي ظللت أكدح في إعداده طوال يوم الأحد. لقد حوى هذا البيان عصارة نفسي، ولكن شيئا من قوته لم يظهر من خلال المداد البارد الذي كتبه به الطابع؛ ذلك أن أبناء البلاد الحرة قلما يجدون في تجاربهم ما يحملهم على تصديق مشاعري ومسلكي، وهم لا يرون في أية مأساة مهما بلغت من الشناعة إلا أنها أمر شاذ خارج على المألوف.
وحاولت في هذا البيان أن أشرح للشعب الأمريكي، ولرفاقي في بلدي ولأصدقائي في بعثة واشنجتن، الأسباب التي دفعتني إلى أن أخطو هذه الخطوة الرهيبة، ولكني كنت كلما أمعنت في الكتابة، ومحوت ما كتبت، ثم أعدت كتابته من جديد، بدا لي العمل ميئوسا منه؛ ذلك أني لم أجد في لغة من اللغات التي يتكلمها البشر ألفاظا ألخص بها حياتي كلها.
ولم يكن عزمي على قطع صلاتي بالحكم السوفيتي - وهو يبلغ مبلغ إعلان الحرب إلى هذا الحكم وإلى كل دولة بوليسية - أمرا عارضا نشأ عفو الساعة، بل كانت أصوله متغلغلة في كل أطوار حياتي وأفكاري وتجاربي؛ وهو بهذا المعنى لم يكن قرارا اتخذته، ولا عملا من أعمال الإرادة، بقدر ما كان نتيجة منطقية وغاية محتومة، أدت إليها عملية طويلة متصلة الحلقات.
وإذا أردت أن أشرحها شرحا وافيا وجب علي أن أعود إلى الأيام الماضية، أيام الحماسة والغيرة على العدالة التي كانت تتأجج بين جوانحي منذ طفولتي على ضفاف الدنيبر، وإلى أيام الهيام بالحرية الذي كان يملأ قلبي وأنا غلام، حين كانت الثورة والحروب الأهلية تتأجج نيرانها في مدن أوكرانيا وسهوبها، وإلى حماسة الشباب الشيوعي، ثم إلى حياة العضو العامل في الحزب الشيوعي، وإلى الشكوك والإخفاق المتكرر، والمحاولات اليائسة التي توالت عاما بعد عام، والتي كانت تسند عقيدة منهارة مزعزعة بما تبثه في نفوس معتنقيها من أوهام خداعة قوية.
وقصارى القول أني إذا أردت أن أشرح هذا كله وجب علي أن أقص قصة حياتي من أولها إلى آخرها، وحياة الروسيا من حيث صلتها بحياتي نفسها.
الفصل الثاني
طفولة روسية
لقد كانت الثورة الروسية التي شبت نارها في عام 1905م أكثر من تجربة شخصية لأبناء أندراي فيودوروفتش كرافتشنكو الثلاثة، وكنت أنا ثاني أولئك الأبناء، إذ كنت أصغر من قنسطنطين وأكبر من يوجين. لقد كانت هذه الثورة بالنسبة إليهم حقيقة ذات معنى خاص عميق، تحيط بها في نظرهم هالة روائية لم تقلل الهزيمة من سناها، بل بدت لهم هذه الهزيمة نفسها شامخة متلألئة، وقد انطوت هذه الثورة على حوادث أوفت على الغاية في البسالة والرهبة والمثل العليا والتضحية، تعد هي المعيار الذي تقاس به هذه القيم فيما تلاها من عهود.
نعم، إنها كانت ثورة ضيقة النطاق، لم تقتصر على مدينة إيكترنوسلاف فحسب بل اقتصرت فضلا عن هذا على الاجتماعات والوقائع الحربية والاغتيالات التي كانت لأبي يد فيها، وأشرقت في سماء روسيا لأول مرة في عام 1905م أسماء عظيمة قدر لها أن تكون ذات أثر خالد في التاريخ؛ ولكن التاريخ وحده لم يكن ليضارع قط ما نعلمه نحن علم اليقين، وهو أن الزعيم الحق والبطل الذي قاد هذه الثورة هو والدنا الشديد البأس، البهي الطلعة، النحيف الجسم، المفتول العضلات، ذو الشعر الأسود الملتوي، والعينين الزرقاوين البراقتين.
والحق أن خيالنا هذا العزيز علينا كان ينطوي على شيء من الحقيقة، فقد كان النذير الأول للثورة إضراب عام بدأ بإضراب عمال السكك الحديدية، وظل هو المحور الذي يدور حوله الإضراب العام كله، وكان أبي، وهو موظف في مصانع السكك الحديدية في إيكترنوسلاف، عضوا في لجنة الإضراب، وظل يعمل وسط هذا الكفاح الميئوس منه، وجوزي بعد فشله على حماسته شر الجزاء.
وكثيرا ما سمعنا في عهد شبابنا تفاصيل هذه الثورة، حتى أضحت وكأنها قد نسج منها برد حياتنا لحمته وسداه، فلم نكن نعرف حوادثها فحسب، بل كنا نعرف فوق ذلك أسباب هذه الحوادث؛ ولذلك لم أكن في حاجة إلى أن ألقن كره الأوتوقراطية وحب الحرية والعدالة والمساواة، بل كنت أعد هذا الكره من الأمور الطبيعية البسيطة، كما يعد رفاقي في اللعب تعظيم ذوي الحلل الرسمية والسلطان.
وظلت أحداث ثورة 1905م التي قصها علي أبي وأصدقاؤه، والتي قوت أثرها في نفسي اتصالاتي بأمثالها من الحوادث فيما بعد، ظلت أحداث هذه الثورة منقوشة في عقلي، حتى لأستطيع الآن أن أحس حوافر خيل فرسان القوزاق، وكأنها قصف الرعد، تطأ أهل بلدتنا رجالا ونساء، وليس صوت مما سمعته في طفولتي أوضح من صلصلة السيوف الرهيبة، وإني لأتصور الآن أني واقف خلف المتاريس المقامة من عربات النقل المقلوبة، والأثاث المكدس في الطرقات والحجارة المقتلعة منها، وأخشاب الطرق الحديدية، وأرى بعين الخيال رفاقي يخرون صرعى من حولي وهم يئنون ويتوجعون، وجنود القوزاق يمرون بجثثهم كالموج المتلاطم، يصبون علينا جام غضهم وسخطهم، وأتصور نفسي في تيه الشوارع والأزقة الملتوية في حي العمال، يطاردني فرسان الجراكسة ورجال الشرطة في ظلام ليالي الشتاء.
ثم يخيم على المنظر سكون رهيب كسكون القبور، وتبدو جثث الموتى من حولي بمنظرها البشع الرهيب، والناس من حولي، ومناقع الدم تتسع فوق الثلج، كما كانت تتسع بقع الحبر على الورق الخشن الموضوع على مكتبي في المدرسة.
ولو أن أبي قد قبض عليه في تلك الليلة من ليالي شهر أكتوبر لشنق مع من شنق من زملائه أعضاء لجنة الإضراب كما يشنق العصاة المتمردون، لكنه فر، ولم تطاوعه نفسه على أن يفر من غير أن يلقي آخر نظرة على زوجته وعلى قنسطنطين وعلى بابشكا (جدتي لأمي) وكانت تقيم معنا دائما، ومن أجل ذلك تسلل في منتصف الليل وسط شوارع فرعية جانبية، مختفيا وسط الظلال الكثيفة، من بيت إلى بيت، حتى أقبل على منزلنا رقم 8 في شارع كانتناي بالقرب من طريق بشكين الكبير.
فلما وصله هاله ما رأى، وكاد يذهب الروع بلبه، فقد أبصر أنوار المنزل كلها مضاءة، وكان في وسعه أن يسمع ما فيه من حركة قائمة على قدم وساق، ولم يبق لديه شك في أن رجال الشرطة قد دهموا المنزل وأخذوا يفتشونه، ومع هذا فلم يكن في وسعه أن يعود أدراجه مهما يتعرض له من خطر، دون أن يلقي نظرة أخيرة على منزله وعلى أسرته اللذين قد لا يراهما قط بعد ذلك الوقت، فأخذ يتسلل خفية حتى وصل إلى النافذة، ورفع نفسه في حذر شديد وأطل منها إلى داخل الدار.
ثم أدرك أنه كان مخطئا في ظنه، وفتحت جدتي الباب حين سمعت طرقه الخفيف عليه، وأشارت إليه أن يظل صامتا، وأراد أن يذهب إلى حجرة النوم ولكنها أوقفته وقالت له: «إن تانيا نائم.» ثم تبسمت وقالت: «لقد رزقت ولدا آخر.» وذهبت هي نفسها إلى حجرة النوم ثم عادت من فورها وعلى ذراعيها حزمة صغيرة وضعتها بين ذراعيه.
وكانت هذه ليلة مولدي، ليلة الموت خلف المتاريس، ودوي البنادق وصلصلة السيوف الدامية، وصراخ الألم في الطرقات الرثة الملتوية.
وأخذت أصرخ فجأة صراخا عاليا أيقظ أمي من نومها، وقال أبي في حنو: «استمعوا إلى هذا الثائر!» وظل بعدئذ يسميني في ساعات حنانه وعطفه باسم الثائر، وبعد أن جاوزت سن الشباب وشغلتني أحداث الثورة الظافرة كان ينطق أحيانا بهذا الاسم التهكمي ويلوي به شدقيه التواء كان أشد وقعا علي مما يظن.
وقضيت بين أبي وأمي تلك الساعات الأولى من حياتي قبل أن يودع أبي زوجته، وليس في وسع إنسان كائنا من كان أن يقنعني بقوة المنطق وحده أنني لم أسمع ما نطق به وقتئذ من ألفاظ المعزة والحنان، أو أنني لم أره يطبع القبلات على يديها من أولهما إلى آخرهما، أو أنني لم أشهد بعيني أبي وجه الأم الشابة المصفر الجميل بين كومة الوسائد الناصعة البياض.
وكان أبي في أثناء التسع السنين الأولى من حياتي غريبا في بيتنا لا يغشاه إلا حينا بعد حين؛ ذلك أن فترات حريته لم تكن تطول حتى تجعله بيننا أبا عاديا مألوفا كما كان غيره من آباء سائر الأطفال في شارعنا، وكانت زياراته لنا في أثناء هربه تثير مشاعرنا إلى أقصى حد، وكنت أنا أنظر إلى هذه الزيارات كأنها جزء من دورة الفلك، مثلها في ذلك كمثل بيض عيد الفصح الملون، أو أشجار عيد الميلاد.
وصورت لنفسي صورة له من الإشارات العابرة والأقوال القصيرة، ومن عبارات العطف التي كنت أسمعها من أمي ومن بابشكا، ومما كان ينتابنا من روع مفاجئ وخوف على سلامته، ومن الهمسات المتفرقة التي كان ينطق بها رفاقه الثوار، وكثيرا ما كان بيتنا مأوى للرجال المطاردين، وللطلاب ذوي الوجوه الزاهدة المتقشفة والحلل الرسمية، والرجال ذوي اللحى الكثة القادمين من ذلك العالم الغريب المجهول المروع الذي يدعونه سيبيريا، وقد أصبح الزوار الذين يمرون بنا سراعا وما يروونه من قصص عن فرارهم من السجون، وعن الموظفين المرتشين، وكلمات السر وثياب التخفي، أصبحوا هم وقصصهم هذه جزءا من الصورة التي رسمتها لأبي في خيالي.
وكان قنسطنطين الذي يكبرني بثمانية عشر شهرا يأتيني بكل ما يعرفه من الأخبار مهما كانت صغيرة.
وكان يقول لي أحيانا وهو يتصنع الكبرياء: «يجب أن تذكر يا فيتيا أن بابا ليس لصا أو قاتلا بل هو رجل سياسي.»
فكنت أجيبه وأنا لا أفهم معنى ما يقول: «نعم، يا كوتيا.»
وثمة ليلة من ليالي عيد الميلاد - ثالث عيد ميلاد شهدته على هذه الأرض - لا تبرح ذكراها ماثلة في مخيلتي بكل ما حوته من تفاصيل، فهي صفحة من كتاب حياتي كثيرا ما أرجع إليها وأنا حزين، ولكنه نوع من الحزن اللذيذ.
فقد أيقظتنا بابشكا من نوم عميق بعد يوم من أيام العطلة، ولا أزال أرى بعين الخيال لعبنا الجديدة منثورة على أرض الحجرة العارية.
وقالت لنا وهي تنتحب: «تعاليا أيتها اليمامتان الصغيرتان وودعا أباكما المسكين.»
ثم أمسكت أنا بإحدى يدي جدتنا وأمسك قنسطنطين بالأخرى، ونحن بملابس النوم الطويلة لم نصح تماما من نومنا، وقد أخذت منا الحيرة كل مأخذ، وسارت بنا إلى حجرة الاستقبال، وعيناي لا تقويان على النظر إلى الضوء وإلى الجمع المحتشد فيها، وكان بين هذا الجمع أحد أصدقاء الأسرة، أما الباقون فكانوا غرباء في حلل رسمية.
وكانت الشموع لا تزال موقدة فوق شجرة عيد الميلاد، ولكن أمي أخذت تبكي في غير صوت وهي تضع الملابس في حقيبة، ثم تأخذ بابشكا بيدينا وتقودنا إلى حيث كان المصباح المقدس في الركن الذي كانت به صورة المسيح، فنخر معها راكعين، وتخافت هي بالصلاة ثم تسجد على الأرض، ويأتي رجل أعرف أنه أبي فيرفعني ويضمني إلى صدره بقوة، ويقبلني أكثر من مرة، ولكنه في هذه الليلة يبدو في نظري غريبا، فيخيل إلي أن وجهه عار قد أزيلت منه لحيته وشارباه التي تعودت أن أراها، ثم يرفع كوتيا من ذراعيه ويقبله، ثم تقودنا جدتنا إلى خارج الحجرة.
وأرى عند الباب - ولسبب لا أعلمه يبقى هذا الجزء من الصورة ماثلا أمامي أكثر من أي جزء آخر منها - شرطيا ضخما ملتحيا ذا أشرطة كثيرة على حلته يصرخ في غير حياء وتنحدر الدموع الكبيرة فوق شاربيه المرتجفين.
وعرفت فيما بعد أن أبي كان مختفيا، وأنه اعتزم أن يزور أسرته في ليلة عيد الميلاد، وكان رجال الشرطة يعرفون من تجاربهم الخاصة أن الفارين يعرضون أنفسهم في بعض الأحيان لخطر القبض عليهم باجتماعهم بأحبابهم في مثل هذه الأعياد الهامة، فانقضوا على بيتنا، ثم أخذوا يفتشون الدار، وأتاحوا للثائر ساعة من الزمان يحزم فيها متاعه قبل أن يرحلوا به.
وهناك صفحة أخرى في سجل طفولتي الخاص كثيرا ما أقلبها:
يقبل علينا ذات مساء ونحن جلوس حول مائدة العشاء طالب علم طويل القامة بهي الطلعة، وتملأ له أمي قدح شاي من الغلاية الكبيرة البراقة، وأدرك أنا من ارتجاف يدها واهتزاز قدح الشاي أن الشاب يحدثها عن شيء ذي بال.
فهو يقول لها إن كل شيء قد أعد للفرار من السجن في تلك الليلة، وإن أندراي فيودوروفتش سيكون في منزله قبل منتصف الليل إذا لم تحدث عراقيل ليست في الحسبان، ولكنه لن يقيم في المنزل أكثر من بضع دقائق، وإن من واجب والدتي أن تعد له بعض الأشياء اللازمة لرحلته، وإنه قد أعد له مخبأ في إيكترنوسلاف، وجهز له ما يحتاجه من أوراق تحقيق الشخصية.
وقد أسفنا كل الأسف لأنا ألقينا كلنا على فراش النوم قبل أن نعرف خاتمة هذه القصة المثيرة.
وأكثرت أمي هي وبابشكا من البكاء في اليوم الثاني، وأخذت كلتاهما تعزي الأخرى، ثم تعودان إلى البكاء، وجاء طالب العلم الطويل أكثر من مرة وهو ممتقع الوجه، مفعم القلب بالحزن، يحمل لهما آخر الأنباء.
وتبين أن المؤامرة المدبرة للفرار من سجن إيكترنوسلاف قد باءت بفشل ذريع، وكان سبب فشلها من غير شك أن كان بين مثيري الفتنة جاسوس، وأدى الاضطراب إلى قتل عدد من الحراس وكثير من المسجونين، وسرعان ما غلب المتمردون على أمرهم وإن كانوا قد استطاعوا أن يحصلوا على عدد قليل من الخناجر والمسدسات، هربت إليهم خلال الأسابيع الطويلة التي قضوها في إعداد عدتهم، وقد خلدت المذبحة التي وقعت في تلك الليلة هي وهزيمة المسجونين السياسيين في تاريخ الثورات الروسية.
ويبدو أن أبي جلد حتى كاد يقضى عليه، وقد ظل طول حياته يفخر بآثار الجراح التي أصابته في هذا الحادث، وأخذ إلى مستشفى السجن، وأكبر الظن أنه سيحاكم هو وعدد من زعماء الثورة إذا بقي على قيد الحياة، وقد يحكم عليه بالأشغال الشاقة في سيبيريا، وربما حكم عليه في هذه المرة بالإعدام.
وجاء الطالب مرة أخرى بعد عدة أشهر من ذلك الوقت، وجاءت معه في هذه المرة فتاة ممشوقة القد بارعة الجمال، وسرعان ما أخذت أمي وهي مضطربة مهتاجة تلفنا في معطفينا وتقول لنا: «إذا ظللتما صامتين وفعلتما ما تؤمران به فإنكما ستريان أباكما.»
ووقفت خارج بابنا عربتان، ركب الطالب والفتاة في إحداهما، وركبنا نحن كلنا في الأخرى، وتقدمت عربة الطالب، وسارت عربتنا من ورائها وعلى مسافة منها لا تترك مجالا للريبة في أمرها، واجتزنا على هذه الحال طريق بشكين الواسع، وسرعان ما كنا في قلب المدينة على مرأى من السجن القديم الكئيب، وتقف العربة لحظة أمام أحد أبراجه الأمامية، وكانت هذه هي الإشارة المتفق عليها، ثم تواصل سيرها، وحين تصل عربتنا إلى هذا المكان نفسه ينزل السائق ويعبث بجل الفرس.
وتبرق عينا والدتي وتلتهبان من شدة الاهتياج وتهمس في آذاننا: «ها هو ذا أبوكما، وتشير إلى نافذة في البرج، وأحاول جهدي أن أرى شيئا، ولكني لا أبصر إلا شبحا أسود خلف إحدى النوافذ ذات القضبان الحديدية يلوح بمنديل، وكان رأس الرجل الذي يشير إلينا حليقا براقا، وتنحدر الدموع على وجنتي والدتي ويصيح كوتيا قائلا: «بابا! بابا!» ثم يصعد السائق إلى مكانه ويضرب جواده بسوطه، فيعدو الجواد، وتنظر أمي إلى ورائها، وتلوح بيديها ما دام في وسعها أن ترى البرج.
ونجد الطالب والفتاة في انتظارنا عند مكان متفق عليه في البستان، ويقبل الطالب يد والدتي، ويحملنا بين ذراعيه القويتين، ويملأ جيوبنا بالحلوى، وكذلك تحنو علينا الفتاة الجميلة حنوا شديدا، وهكذا كان اليوم كله يوما خالدا، بما حواه من أحزان وخطر واهتياج، وكثيرا ما أفكر في ذلك اليوم حين أنفرد بنفسي، وتنتابني المخاوف فأشعر باطمئنان وهدوء لسبب لا أعرفه.
وكثيرا ما قالت بابشكا وهي تشير إلى المصباح القائم في ركن الصورة المقدسة وترسم على جسمها علامة الصليب: إن معجزة من المعجزات هي التي أنجت أبي من الشنق أو النفي إلى سيبيريا؛ ذلك أن المسجونين الذين ينتظرون حكم الإعدام كانوا يوضعون في ذلك البرج بالذات، ولا يؤذن لهم باستقبال الزوار، ولكن الحكم خفف على أبي لسبب لا نعلمه إلى الحبس مدة غير طويلة.
وكنت وقتئذ أصغر من أن أفكر كيف تستطيع أسرة كرافتشنكو أن تعيش، ورب الأسرة الذي يكسب لها أقواتها في داخل السجن، وخاصة بعد أن زادت شخصا بعد مولد أخي يوجين ، والواقع أن بعض رفاق أبي في القضية الوطنية كانوا يمدوننا ببعض العون، كما أن عددا قليلا من العمال في مصانع السكك الحديد كانوا يأتوننا ببعض الهدايا، وكانت تصل إلينا في بعض الأحيان هدايا من الدجاج والبط والفاكهة والخضر من ألكسندروفسك حيث يسكن جداي لأبي، ولم أر شيئا غير عادي في أن والدتي كانت تعمل على الدوام في خياطة الملابس لغيرها من الناس، حتى في الأوقات التي كانت فيها ملابسنا نحن في حاجة إلى الإصلاح.
وحدث ذات ليلة - وأنا بين الخامسة والسادسة من عمري - أن أرقت ولم أستطع النوم، فتسللت خفية على أطراف أصابع قدمي إلى باب حجرتي وفتحته في حذر شديد، فأبصرت أمي مكبة على الخياطة في ضوء مصباح الكيروسين، وكلما فكرت في أمي الآن بعد طول السنين عادت إلي أحيانا صورتها كما رأيتها في تلك الليلة، يغشاها الضوء بشعرها البراق ووجهها الحزين.
فسألتها: «لم لا تأوين إلى فراشك يا ممشكا؟»
فقالت وهي تبتسم: «لم أتعب بعد من العمل، ولكن لم لم تنم أنت؟ لا بأس تعال إلي يا ولدي؛ لأني أريد أن أتحدث إليك.»
وقطعت الخبز بأسنانها، وألقت بعملها إلى جانبها، وأجلستني في حجرها.
وقالت لي: «إنك ولد طيب ماهر، ولا شك عندي في أنك ستفهم ما أقول، إن لم يكن الآن ففي المستقبل حين تكبر، فاستمع إلي! ليس من السهل أن تطعم كل هذه الأفواه مهما طال عملي بالليل، هذا إلى أن أباك ترسل إليه أشياء من حين إلى حين.
وسيكون الأمر أسهل قليلا يا فيتيا حين تذهب للإقامة مع جدك فيودور بنتليفتش في مدينة ألكسندروفسك، فهو وجدتك الأخرى وعمتك شورا يحبونك حبا جما، وستذهب من عندهم إلى المدرسة، ونذهب نحن كثيرا لزيارتك، وستأتي إلينا غدا عمتك شورا لتأخذك معها، والآن اذهب إلى فراشك.»
وأبعدتني عن حجرها بغلظة، ولكني عرفت وقتئذ أنها تبكي.
وكانت ألكسندروفسك - التي سموها زبرزهي بعد الثورة - بلدة نظيفة هادئة من بلاد الريف، تجري الحياة فيها مطمئنة، وكأنها ستجري مطمئنة أبد الدهر، بين نهر الدنيبر المتسع الصافي الماء والغابات الكثيفة القريبة منها، وكانت حياة هذه البلدة لا تزال وثيقة الصلة بالتربة الأوكرانية وإن أقيمت فيها بضعة مصانع من الآجر والقرميد، وبضعة مصاهر للمعادن، وقليل من الأعمال الصناعية الأخرى في بدايتها، وكان في معظم بيوتها حدائق تنتج الخضر للأسواق، وبساتين كثيرة منزرعة، وكانت كل ذراع منها، كالمكان الذي أصبح الآن مركز حياتي الجديدة، تعج بالدجاج والبط والإوز والخنازير.
وبدا هذا المكان في عيني غلام نشط في السادسة من عمره، قضى حياته السابقة في مدينة إيكترنوسلاف الكبيرة، بدا هذا المكان مثيرا لعواطفه طوال إقامته فيه، وكان عطر التوابل يفوح شذاه من حوانيت البذور، وكان أي عطر منها كفيلا بأن ينسيني حنيني إلى مسقط رأسي، وكنت أقضي بعض الوقت أرقب الشرر يتطاير من حوانيت الحدادين، أو أشاهد الرجال والنساء يكدحون حول قمائن الآجر التي ينبعث منها الدخان.
وكان الشارع الرئيسي في البلدة يموج في أيام الأسواق بعربات النقل التي يمتلكها الزراع، وبالرجال يرتدون ملابس ملونة أو جلود الضأن، وبالنساء في أثواب فضفاضة كالتي تلبسها الدمى في بلدنا، وأبناء القرويين الحفاة ينظرون إلينا نحن أبناء الحضر على استحياء، وكانت تقوم على أطراف ألكسندروفسك ضياع الخضر الواسعة التي يمتلكها البلغاريون، ومن وراء هذه الضياع تمتد الأدغال التي ينشر فيها الغجر عربات نقلهم الزاهية المزخرفة، وينصبون فيها خيامهم، ويوقدون فيها نيران معسكراتهم في الليالي الطوال.
ولم يكن أهل ألكسندروفسك من ذوي الثراء الواسع أو الفقر المدقع، وإن يكن فيها أسر قليلة تعيش بالتسول وأسر قليلة أخرى موسرة كأسرة شتشيكتهين التي كانت تقيم في قصر كسي بالقرميد الأحمر، وكان في المدينة داران للخيالة تفخر بهما على كثير من المدن، وكان شيوخ الزراع إذا رأوا الأشباح تقفز على الشاشة لأول مرة يرسمون الصليب على صدورهم ليتقوا أذى هذه الشياطين، وأقبلت على البلدة من كيف أو أودسا في الخمس السنين التي أقمتها فيها فرقة من الممثلين لتقضي فيها أسبوعا تمثل فيه بعض المسرحيات، ولكن أكثر من كنت أشاهدهم فيها هم المشعوذون واللاعبون على الحبال وغيرهم من ذوي الملامح الأجنبية، ومعهم الدببة اللاعبة، وكثيرا ما كان هؤلاء يجتذبون الجماهير إلى البستان.
وكان آل كرافتشنكو يعيشون عيشة بسيطة ولكنها خالية من الضنك من معاش وسط يكمله أجر بيتين من بيوتهم الثلاثة الصغيرة، وكانت هذه الأسرة تتألف من جدي فيودور بنتليفتش وجدتي نتاليا مكسمفنا، ومن شورا التي أنجباها في شيخوختهما، وكانت الأسرة تحصل فوق هذا على قليل من المال في كل شهر نظير ما تمد به الجيران من الماء؛ ذلك أن أولئك الجيران كانوا يلقون من آن إلى آن قطعة من النقود الصغيرة في ثقب صندوق حديدي نظير أخذهم الماء من الفناء الخلفي لمنزلنا.
وكان جدي يحتفظ بمفتاح الصندوق، ولكن عمتي شورا حذقت بطول المران طريقة إخراج النقود الصغيرة منه لتؤدي بها ما لم يحسب حسابه من النفقات، دون أن يعلم بذلك والدها رغم شدته وحرصه، وسرعان ما شاركها في هذا السر ابن أخيها القادم من إيكترنوسلاف، وأحس بما تقترفه عمته من إثم، ولكن إحساسه هذا لم يكن من القوة بحيث يحول بينه وبين قسطه من الغنيمة، وكنت أتقاضى منها ثلاث كوبكات
1
كل أسبوع نظير معاونتي إياها في مسح البلاط، وهو قدر يكفي ثمن تذكرة لدار الخيالة ولشراء قطعة من الحلوى، وكانت تحبوني بقدر آخر من النقود في كل أسبوع نظير ابتعادي عنها إذا زارها خطيبها.
وكان بستاننا الضيق الرقعة وحديقتنا يمداننا بالخضر الطرية والمجففة، وبالفاكهة والبطيخ طوال العام، وبطائفة أخرى من المربيات الفتانة المختلفة الأنواع التي كانت بابشكا تفخر بها عن جدارة، وإن أنس لا أنس فصل عمل المربيات، فأنا أذكر على الدوام الأواني النحاسية تفيض على جانبها عصارة الفاكهة، وعبير السكر المغلي، والليالي العجيبة التي كنا نظل نجمع فيها الكرز حتى تتخضب أيدينا بالحمرة الداكنة.
وكان فيودور بنتليفتش في نحو الثمانين من عمره حين جئته لأقيم معه، وكان رجلا متوسط القامة قوي البنية عريض المنكبين معجبا بنفسه، ذا لحية صافية البياض وبطن كبير، وقد اشترك في الحرب التركية الروسية التي دارت رحاها في عام 1878م بقيادة شبليف، وظل بعدئذ في الخدمة عدة سنين تقاعد بعدها وهو برتبة ضابط صف، أما نتاليا مكسمفنا فكانت تصغر زوجها باثني عشر عاما، وكانت سيدة عجوزا وديعة أنيقة البزة، ذات عينين صافيتين براقتين، حلوة الفكاهة، إذا نطقت بفكاهاتها تركت جدي في حيرة من أمره، وكانت تعاملنا جميعا، ومن بيننا زوجها نفسه، كأننا أطفال في حاجة إلى التدليل والتهدئة.
وكان يسر فيودور بنتليفتش في ليالي الشتاء الطويلة، ونحن نستمع إلى طقطقة الكتل الخشبية في الأتون الضخم المطلي بالجير الأبيض، ونشهد لهيبها يخرج من بابه المفتوح، ويرسم صورا عجيبة على الأرض، كان يسر فيودور بنتليفتش أن يقص علينا قصص الأتراك والأكراد والوقائع الحربية والهجمات المفاجئة، وكان إذا حضر المجلس أصحاب له طاعنون في السن ينطلق يحدثهم عن أعمال الجرأة التي كان «الأب الصغير»
2
نفسه في سان بطرسبرج البعيدة ينزل من عليائه فيلحظها بعنايته، وكانت هذه الأعمال المجيدة تزداد غرابة كلما أعيدت قصتها.
وكانت بابشكا تقول في تهكم وازدراء: «ألا ما أعجب هذه الأعمال! ما أعجب ركوب الخيل وفتل الشوارب وإطلاق النار على الأتراك! كأن هذه أعمال تحتاج إلى شيء من العقل.»
وكان فيودور بنتليفتش في أيام المواسم والآحاد يرتدي حلته الرسمية، وهي حلة زرقاء اللون براقة، ذات أزرار نحاسية لامعة، وإطار أبيض حول طرفي سراويل الركوب الواسعة النازلة في حذاءيه المرتفعين، وكان من عادته أن يمسح حذاءيه هذين حتى يصبحا كالمرآتين، ويصف الأوسمة والصلبان على صدره، وينشر لحيته من فوقها كما ينشر العلم، فإذا ما جمل نفسه على هذا النحو أمسك بيدي الصغيرة في كفه الجاسية وسار بي إلى الكنيسة، ولم يكن في ألكسندروفسك كلها غلام أكثر مني إعجابا بنفسه، وكان يخيل إلي أن من حقه على أهل ذلك البلد - وهم أقل منه شأنا - أن يخلعوا قبعاتهم تعظيما له ويسألوه عن صحة بابشكا.
ولم يكن فخر الجد بحفيده أقل من فخر الحفيد نفسه بجده، وإن لم تكن القيود الشديدة التي فرضها على نفسه مما يجيز له أن يبالغ في إظهار هذه العواطف، فلم يكن ينطق بأكثر من قوله: «إنه ولد أبيه أندراي.» يقولها عرضا ولكنه عرض مقصود متصنع، ولم يكن خافيا على أحد أن أندراي ولد جدي البكر كان نزيل السجن، أو بعبارة أدق: كان حليف السجن، ولكن جيراننا لم يكونوا يذكرون هذا الأمر قط في حضرة جدي، وكان هو يرى أن هذه إحدى البلايا التي يمتحن بها الله عباده المتقين، وكان فيودور بنتليفتش يحب ولده أندراي، بل كان يعجب به إعجابا، وكل ما في الأمر أنه لم يكن يستطيع التوفيق بين حكمة أبي «والدم الزكي» الذي يجري في عروقه، وبين سخطه على القيصر، وكان يعزو هذا بطريقة غامضة إلى دراسة الكتب، وإلى انحطاط الروح الحربية في الروسيا انحطاطا يحزنه ويأسف له.
وكان يسره أن يقول على الدوام: «لقد كنت طوال حياتي جنديا شجاعا، وسأقضي حياتي كلها وأنا جندي شجاع، أؤدي واجبي وأعبد ربي ولا أشكو شيئا، وماذا يريد أندراي؟ ألا لعنة الله علي إن كنت أعرف!»
وكانت جدتي وشورا تعرفان أن هذا القول يؤلمني؛ ولذلك كانتا تعملان على إسكاته، وتقولان له: إن أندراي رجل متعلم، يعرف العالم على حقيقته، ولا يقتصر علمه على الأتراك والأكراد.
وكان فيودور بنتليفتش يقول وهو مكتئب حزين: «قد يكون هذا صحيحا، قد يكون هذا صحيحا.» ثم يضيف إلى قوله هذا تلك العبارة التي يبغي بها مجاملتي: «نعم، إن أندراي نزيل السجن، ولكنه لم يسجن لأنه سرق أو قتل، إنه سجين سياسي، وما أعظم الفرق بين هذا وذينك.»
وكنت أتلقى من والدتي رسائل تحتوى على الدوام نتفا من الأخبار عن أبي، وكانت عمتي شورا تقرأ هذه الرسائل بصوت عال قبل أن أعرف أنا القراءة، وكان يحدث أحيانا أن ينسى فيودور بنتليفتش نفسه، فيفوه بألفاظ شديدة قاسية طعنا على ابنه العنيد، وحدث في إحدى هذه المرات أن ثرت ثورة عنيفة صرخت في أثنائها صرخة قوية، وعضضت وأنا في سورة الغضب يد جدي ولكنه لم يضربني بالسوط كما كنت أتوقع، بل أخذ يهدئ من روعي، ويضمني بحنان إلى صدره، ويقول إنه يسره أن أدافع عن أبي و«إن هذا دمي يجري في عروقك، فنحن آل كرافتشنكو قوم أوفياء.»
وكنت بين الفينة والفينة أقضي عطلة آخر الأسبوع عند صديق من أصدقاء أبي، وهو رجل يعمل في صناعة المعادن كنت أدعوه عمي متيا، وكأني وأنا في بيته كنت أقضي الوقت مع أبي نفسه، بل إنه يفضله بما يبعثه من المتعة والحماسة وجودي مع ثلاث بنات صغيرات حسان خبيثات، وقد كبرن كلهن وأصبحن من أجمل النساء وأحبهن إلي، وكانت صلاتي بهن في مستقبل أيامي لا تقل عن صلاتي بأقاربي من دمي ولحمي.
وكان العم متيا يتحدث عن الحرية والعدالة، وعن ميلاد عالم جديد، كما كان يتحدث أبي عنها، وكثيرا ما كان يقرأ علينا موضوعات من مؤلفات هرزل وجوركي وتولستوي من صحائف ثنيت أطرافها، يقرؤها على مهل وبصوت ينم عن الإيمان والتقوى، شبيه بصوت جدي وهو يقرأ الكتاب المقدس، لكن أكثر ما كنت أحبه هو أن يوقظني عمي متيا قبل الفجر لنذهب سويا إلى الصيد، فكنا نقضي اليوم في الغابات في جهد متواصل ثم نعود وأنا أحمل على كتفي بندقيته وكيسا مملوءة بالأرانب والدجاج البري وأفاخر بها كأني أنا الذي صدتها.
أما جدي فكان يحب صيد السمك، فكان نهر الدنيبر بيته الثاني، يقضي فيه كثيرا من وقته، وبينا كان قارب الصيد يطفو فوق ماء النهر الهادئ، وبينا كنا نترقب ابتلاع السمك للشص، كان هو يعيد على سمعي قصصه المحبوبة عن الأتراك الذين قتلوا بالألوف، وعن الروس وبخاصة الأوكرانيين والقوزاق الذين كانوا يعودون على الدوام بجر الحقائب بالأسلاب، محلاة صدورهم بأوسمة الشرف، وكانت قصصه تزداد حماسة وإثارة لشعوري؛ لأن زوجته لم تكن إلى جانبه تكبح بفكاهتها جماح خياله.
فإذا علت الشمس في كبد السماء شددنا القارب إلى أيكة من الأشجار على شاطئ النهر وخلعنا ملابسنا وأخذنا نسبح في الماء نضربه بأيدينا وأرجلنا، ووجوهنا تطفح بالبشر، ولا نكاد نذكر أن بيني وبين جدي ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن، فإذا حل بنا التعب وعضنا الجوع، عدنا إلى البيت ممتلئين نشاطا وقوة، نحمل صيد اليوم، فتأخذ جدتي نتاليا مكسمفنا بعضه لتقليه في فناء الدار، وكان ذلك الصيد يكفينا ويكفي بعض الأصدقاء الأعزاء، وتبقى منه بقية لليوم الثاني تطهيها جدتي وتصنع منها ذلك الصنف الذي انفردت هي بطهيه دون سائر النساء.
وكنا نحن آل كرافتشنكو نعيش في ألكسندروفسك معيشة شبه عسكرية لا يخفف من حدتها إلا رقة بابشكا المدنية، ولم يكن العمل الذي يقوم به زوجها مجرد ضرورة تحتمها الظروف، بل كان فوق هذا واجبا تأمره نفسه بأدائه، ولا يفترق في شيء عن أداء الصلاة وإضاءة المصباح طول الليل تحت الصورة المقدسة، والتصدق على السائلين. وكنا نأوي إلى فراشنا مبكرين، ونستيقظ وشروق الشمس؛ لنعمل في الحديقة وفي البستان ومع الماشية، وحتى في أيام الدراسة لم أكن أعفى من هذه الأعمال، فقد كان يطلب إلي أن أقوم بنصيبي منها قبل الفطور، وأما الدروس فلم تكن القواعد التي رسمها جدي تعدها عملا حقا مهما بذلت فيها من جهد، وكان يدربني على الاغتسال والاستحمام بالماء البارد في الهواء الطلق مهما تكن حالة الجو، كما يجب أن «يفعل الرجال والجنود»، ويعلمني أن أتحمل الألم دون شكوى أو تذمر، كما عودني من صغري ألا أتأثر بالحر أو البرد.
وكانت المرة الوحيدة التي عاقبني فيها جدي حين ذهبت وحدي في السابعة أو الثامنة من عمري إلى حلاق يقص لي ضفائر شعري، وكانت كوبيكات شورا هي التي أمكنتني من أن أثبت رجولتي بهذه الطريقة قبل أن يحل أوانها، وعدت إلى المنزل والعطور القوية تفوح من رأسي، وألقى علي جدي نظرة استشاط على أثرها غضبا، وكان العقاب الذي حل بي مناسبا لما ارتكبت من جرم، فقد جاء جدي بمقص من مقصات الضأن، وأخذ يفسد به ما صنعه الحلاق، على مرأى من جيرتي ورفاقي، ثم جاء بعدئذ بالماء والصابون وغسل بهما قحف رأسي المشوه ليمحو منه الروائح الخليقة بالبنات.
واتخذت لنفسي في المدرسة عدة أصدقاء ظلت صداقتي لكثيرين منهم قائمة إلى أيام كهولتي، وهو أمر يدعو إلى الدهشة في بلادنا وفي أيامنا هذه، وكانت أوقات الدراسة طويلة يعقبها في معظم الأيام واجبات نؤديها في منازلنا، وكانت العقوبات البدنية التي توقع علينا لتأخرنا وعدم التفاتنا للدرس من الأمور العادية، وكانت تعد من العناصر الضرورية التي لا غنى عنها في تربية الأولاد.
وكنت لحسن الحظ سريع الحفظ، ولم يكن يضايقني إلا دروس الدين التي يلقيها علينا الأب مكسيم العجوز ويتمتم بها من بين لحيته، كان يطلب إلينا أن نحفظ عن ظهر قلب أدعية طويلة لا نفقه لها معنى باللغة السلافونية القديمة، فإذا عجزنا عن أن نعيدها، وهو ما كان يحدث لنا كلنا تقريبا، عوقبنا على هذا عقابا صارما، وكان الذي يحدث وقتئذ أن يأتي كوزيا تلميذ الأب مكسيم المقرب إليه، والذي شوهت آثار الجدري وجهه، بعصا أعدها لهذا الغرض، ثم يركع المجرمون صفا ويأخذ كوزيا يجلدهم بالعصا على أعجازهم، والقسيس في هذه الأثناء يعد الضربات، وما من شك في أن الأب مكسيم كان يرى في هذا إصلاحا لأرواحنا، وإن لم نفد منه أقل فائدة في تعليم اللغة السلافونية، وكان الذي يحدث على الدوام بطبيعة الحال أن نكمن لكوزيا في الطريق بعد خروجنا من المدرسة ونكيل له الصاع صاعين، وكان هذا أيضا جزءا لا يتجزأ من منهج تعليمنا.
وكان ثمة هدف آخر نوجه إليه ضروب قسوتنا وهو الشاب شتشيكتهين ابن أغنى إنسان في البلدة ووارثه، ولم يكن نك هذا يأتي إلى المدرسة كما نأتي إليها نحن مشيا على الأقدام مسافات طويلة، بل كان يأتي إليها مستقلا عربة جميلة يحرسه الخدم، وكان يرتدي سترة من المخمل وطوقا مكويا منشى، وحذاءين ذوي أزرار براقة، وكان يسره فضلا عن هذا أن يصلصل بالنقود في جيبه، وكنا نحن نرى أن هذه جرائم لا يصح أن ينجو مقترفها من العقاب، على أنه كان يسعه أحيانا أن يرشونا بالنقود والحلوى فنتركه وشأنه، ولكني لا أنكر أننا كثيرا ما كنا نقبل منه الرشوة ثم نضربه على عمله ضربا شديدا.
وكنا على الرغم من شدة نظام المدرسة نلعب الهوكي ونرتكب الكثير من عبث الطفولة، وأذكر أني أنا ورفيقا لي اعتزمنا أن نغير على مزرعة للخضر في طرف المدينة، أذكر هذه الغارة أكثر مما أذكر أية مأساة حقة أصابتني في مستقبل حياتي، ولم نكد نملأ جيوبنا بالخيار الصغير ونتذوق البطيخ الحلو حتى داهمنا البلغاري الضخم، ولكنه لم يضربنا بل استعاض عن الضرب بمحاضرة ألقاها علينا عن ضرر السرقة، ثم أمرنا أن نخلع سروالينا، وأعطى كلا منا حفنة من الخيار، وأخلى سبيلنا وتركنا نعود من حيث جئنا من غير سروالين.
وانتظرنا عدة ساعات حتى جن الليل، فلما أظلمت الدنيا عدنا إلى بيتينا على هذه الحالة غير المشرفة بطرق ملتوية حتى لا يلتقي بنا أحد، وظل ما لحقنا من العار بسبب هذا العمل يلازمنا وقتا طويلا، وكان ما لقيناه من الألم بسبب السخرية التي أثارتها هذه الحادثة في المدينة أشد من كل ما كان يحدث لنا لو أن الرجل ألهب جلدنا بالعصي أو السياط.
وليس في وسعي أن أذكر الآن ما كنا نجلبه من البؤس والشقاء على المتكبرين المتغطرسين من المدرسين دون أن تصتك ركبتاي ويرتجف سائر جسمي من هول ما كنا نعمل، ولكن أفريشيف مدرس اللغة الروسية البائس الرقيق الحال ذا المنظارين، كان ينجو من عنتنا وعبثنا، ويكاد هذا الرجل أن يكون نموذجا متقدما لرجال الفكر الروس، فكان يتصف بالشدة والنزعة الشعرية والثرثرة وبعض المسكنة، وكانت عيناه غائرتين تبدو فيهما سمات التعصب، وكانت دروسه في الأدب الروسي تثير مشاعرنا جميعا، لا يستثنى منا الأولاد الصغار، وقد علمت بعد سنين من ذلك الوقت في أثناء زيارة لزبرزهي أن أفريشيف قتل في أثناء الثورة.
وكان صغار الأولاد من أبناء الأسر الكريمة ينهون عن الاختلاط بالغجر، ولكني كنت رغم هذا كثير الاختلاط بهم، فقد اتخذت لي صديقا منهم، وهو صبي يدعى سيدمان، وكانت نتيجة هذه الصداقة أن أصبحت وكأني من أفراد تلك العشيرة، وحدث مرة ونحن ننزلق على ماء نهر الدنيبر المتجمد أن هوى الجليد فجأة تحت قدمي، فما كان من سيدمان إلا أن غاص في الماء الثلجي وانتشلني، وقوى هذا الحادث ما كان بيننا من صداقة.
وكثيرا ما كنت أغادر البيت وأذهب إلى معسكر الغجر لأعذار أنتحلها، وكنت في هذه الزيارات أجلس إلى جوار نارهم، أصطليها معهم، وأصغي إلى قصصهم الشعبي، وأرقب أساليب أولئك القوم الأوداء الذين لا تفارقهم البهجة والمرح، وأنا مسرور بوجودي بينهم مفتتن بأساليبهم، وكانت نساء الغجر ينبئنني بمستقبلي نظير كوبك أو كوبكين أنقدهن إياهما، كن على الدوام يتنبأن لي بأني سأصبح رجلا سريا جميل المحيا ذائع الصيت، وأن حياتي ستكون حياة منعمة في جنان الخلد المرصعة بالجواهر، تجري فيها أنهار من عسل مصفى، وتشاركني فيها غادة حسناء شقراء اللون حينا، وسمراء حينا آخر.
وكان عرس هام سيحتفل به في معسكر الغجر في وقت قريب، وأخذوا يستعدون له في معسكرهم قبل يوم الزفاف بعدة أسابيع، وألح علي سيدمان أن أشهده، وصادف ذلك هوى في نفسي، فقد كنت شديد الحرص على حضوره، ولكن كيف السبيل إلى مغادرة المنزل في ليلة العرس؟ ولما أعيتني الحيل أفضيت بالسر إلى جدي، فغضب في أول الأمر، ولما أن نبأته كيف أنقذ سيدمان حياتي سمت دواعي النجدة والمروءة فوق الترفع العنصري، فلم يكتف بالإذن لي بالذهاب، بل رضي أن يرافقني بنفسه.
وارتدى جدي حلته الرسمية في هذه المناسبة، ومشط لحيته حتى جعلها أوسع مما كانت عادة، وجاء معه ببضع هدايا جعلته ضيفا مكرما في الحفل، وزاد ذلك من قدري في أعين الغجر، وكانوا كلهم صغارهم وكبارهم قد ارتدوا أبهى حللهم وازينوا بكل ما لديهم من حلى براقة، وأخذوا يعزفون على آلات الطرب من كمان وقيثارة حتى ذهب من الليل أكثره، وكان لهذا الحفل أعظم الأثر في نفسي، وجعلني طوال حياتي المقبلة أرثي لمن حرموا لذة الاستمتاع بحياة الغجر.
واندلعت نيران الحرب العالمية الأولى وأنا أجتاز السنة التاسعة من عمري، وأصبحت الحياة فجأة ثائرة مضطربة، كلها جنود وخطب ودموع ومجد، وأحسست كأن الوجود كله قد استحال إلى يوم عيد أبدي لا ينصرم، ونسي معلمونا دروسهم وأخذوا بدلا منها يشيدون بذكر الوطنية، أخذوا كلهم يشيدون بذكرها عدا أفريشيف، وقادنا الأب مكسيم إلى الصلاة؛ لندعو الله دعاء حارا أن ينصرنا على الأعداء، وأخذت النساء يبكين ويضربن أكفهن حين رأين الأبناء والأزواج يؤخذون إلى ميدان القتال.
وبكت بابشكا أيضا مشاركة لهؤلاء النسوة في عواطفهن، أما جدي فكأنه خلق خلقا جديدا، فقد أصبح جسمه أكثر مما كان اعتدالا، وأضحت أوامره لأسرته أكثر انطباقا على قواعد الجندية، وكان يرتدي حلته الموجهة
3
الزرقاء-البيضاء في كل يوم تقريبا، وكان يخيل إليه أن كل أسبوع يمر ولا تقوم فيه مظاهرة لتأييد الحرب أسبوع ضائع، وكان من أقواله المأثورة: «وا أسفاه! لو أن القائد اسكبليف لم يمت لألقى على الألمان درسا لا ينسونه أبدا، إن الأتراك أنفسهم لم يستطيعوا أن يصمدوا له!»
وطرق الباب طارق في يوم من أيام شهر أغسطس سنة 1914م على أثر عودتي أنا وجدي من رحلة لصيد السمك؛ وذهبت بابشكا لتفتح الباب وسمعناها نحن تصيح صيحة مضطربة تكاد الدموع تخنقها: «أندروشا! انظروا أيها الأطفال، ها هو ذا أندروشا نفسه!»
أجل، لقد كان أبي حقا، وكان أنيق الملبس، ولما أن خلع قبعته السوداء رأيت شعره مرجلا إلى الوراء على الطراز الحديث، وقد سوى لحيته فأصبحت كلحية الطبيب لا لحية الصانع، وكانت أقل سوادا من شعر رأسه، وبدا لي أنه أقصر قامة وأقل بهجة من الصورة التي احتفظت له بها في ذاكرتي، ولكنه كان إلى هذا أسهل منالا مني وأقرب إلى الآباء مما كان قبل، وسرني ذلك كل السرور، وأخذني أولا بيديه، وأمسكني على قيد ذراع منه، وأحدق بصره في وجهي وهو عابس، ولعله بذلك كان يختبرني، ولعلي نجحت في الاختبار، فلقد رفعني بيديه وأخذ يعانقني ويشهد العالم كله على أن ولده كان يشب قوي الجسم وسيم الوجه، وكان من حوله ينظرون إلينا والغبطة بادية على وجوههم كأني كنت من صنع أيديهم.
وكان سبب مجيئه أن القيصر أصدر عفوا عمن ارتكبوا جرائم سياسية من أنواع معينة ، وكان من بينهم أبي لحسن الحظ؛ فلما أطلق سراحه جاء ليرى أبويه وولده، واغتبط فيودور بنتليفتش وتاه عجبا بهذه الزيارة؛ وكانت غبطته حقيقية لا تصنع فيها، ولكنا لم نكد نجلس لتناول العشاء حتى عاد غضبه القديم على ولده الذي سبب للأسرة كثيرا من العناء، وطغى هذا الغضب على كل ما عداه.
وشرب جدي كوبا من الماء البارد، ورسم إشارة الصليب على صدره ثم بدأ يتناول الطعام، وكان هذا إيذانا لنا جميعا بأن نمد ملاعقنا إلى طبق السمك، وأخذنا نتحدث، واستطاع جدي أن يمسك لسانه برهة قصيرة يصغي فيها إلى أنباء الأسرة التي كان يلقيها أفرادها بالتناوب، ثم انطلق أخيرا يتحدث ويصارحنا برأيه فقال: «بالله قل لي يا أندراي، ما الداعي إلى هذا السخف كله؟ ولم تظل نزيل السجون كالمجرمين؟ أي شيء تريد؟ ألا تشعر بأن عليك واجبا لزوجك وأبنائك؟»
وأصغى أبي إلى هذا القول وهو صابر، ثم تجهم وجهه وأبرقت عيناه، ونفذت ألفاظه إلى قلبي، وزادها قوة على قوتها ما كان يصحبها من جد وحماسة، قال: «سأحدثك عما أريده يا أبي، وأرجو أن تفهم قولي؛ لأني أعرف فيك أصالة الرأي وأقدرها، إني أريد أن يعيش الناس أحرارا سعداء، وأريد أن يعيش الناس جميعا كما يجب أن يعيش الآدميون، وأريد أن أقضي على الاستبداد السياسي والاستعباد الاقتصادي، وثق يا أبي أني أتألم أشد الألم لما يقاسيه أبنائي الأعزاء، ولكن هذه الآلام التي يقاسيها جيل واحد ستجعل الأجيال المقبلة أعظم سعادة وأكثر مدنية من هذا الجيل.
لست أشك في أنك يا أبت ستفهم قولي هذا؛ لأنك رجل قوي الإيمان، توقد الشموع تكريما للشهداء والقديسين، فهل كان هؤلاء يسمحون لأزواجهم وأبنائهم أن يؤثروا فيهم، فيشتروا الضلالة بالهدى والرذيلة بالفضيلة؟ إن روسيا بلادنا المحبوبة تعيش في ظلام حالك، يستغل أبناؤها ويعمهون في ظلمات الجهالة، ولكن في وسعها أن تخرج من الظلمات إلى النور، ولا يكون فيها سادة وعبيد.»
وكان يتجه بحديثه إلى أبيه، ولكني كنت أحس أن ألفاظه موجهة إلي، فيقشعر لها بدني كما كان يقشعر لصوت القس في وقت الصلاة .
وختم أبي حديثه بأن قال وهو يحدق بعينيه في وجهي: «أما أبنائي فإنا نعمل لسعادتهم وسعادة جميع الأطفال في هذه البلاد ونسفك دماءنا لنحقق لهم هذه السعادة.»
وفكر جدي طويلا ثم قال: «ليس فيما تقوله شيء تلام عليه، ولكن فيه كثيرا مما يحيرني، لقد ظللت طول حياتي أخدم القيصر، كما كان يخدمه أبي وجدي من قبلي، ولكنك يا أندراي تختلف عني وعنهم، إنك تنظر إلى الأمور بغير العين التي ننظر نحن بها إليها، وكأنك تنظر إليها من تحتها، فليسامحك الله يا ولدي إن كنت مخطئا، أما وأنت تعتقد مخلصا في عدالة قضيتك فلتعمل بما يمليه عليك إيمانك، وسأبذل أنا كل ما أوتيت من جهد لأعول أبناءك ما دمت حيا.»
وظلت ألفاظ أبي زمنا طويلا تتردد أصداؤها في عقلي قبل أن أستغرق في نومي تلك الليلة.
وخرجنا في صباح اليوم الثاني في مظاهرة وطنية، اصطفت فيها الجماهير وصدحت الموسيقى، وخرج القساوسة في ملابسهم الفضفاضة يباركون الشعب، وأخذ الباعة الجائلون يبيعون المثلجات والشراب المحلى والفطائر المحشوة باللحوم؛ ولكن أبي ما لبث أن أمسك بيدي وقادني إلى دكة في بستان، جلسنا عليها نأكل المثلجات ونتجاذب أطراف الحديث.
وقال لي: «ها نحن أولاء يا ولدي نلتقي مرة أخرى، فهل تذكر يوم جئت أنت وأمك وقنسطنطين إلى السجن، فأشرت إليكم بيدي من برج الموت؟»
وأخذ يحدثني عن الحياة في السجن، وخيل إلي من وصفه إياها أنها حياة عظيمة فيها العذاب، ولكن الألفة والزمالة والتضحية في سبيل المبدأ العظيم تبدله وتخرج به عن طبيعته. «وأريد منك يا بني أن تذكر هذه الأشياء وألا تنساها ما حييت، لا تنس قط حقيقة أمرك، وكن على الدوام مخلصا صادق الدفاع عن الحرية؛ ذلك أن الحياة بلا حرية هي الفناء بعينه، ومهما يكن من أمري فإن عليك أن تواصل الدرس والعمل والكفاح بكل ما تستطيع من وسائل في سبيل المثل الأعلى، فإما أن نكون خنازير نضع أنوفنا في الوحل، وإما أن نكون آدميين نرفع رءوسنا إلى السماء، فإذا كنا آدميين فليس في مقدورنا أن نكون عبيدا أذلاء، وإذا سقطت أنا ورفاقي في ميدان الجهاد فسيحل محلنا فيه أبناؤنا من بعدنا.»
وسافر في تلك الليلة نفسها إلى إيكترنوسلاف بعد أن أهدى إلي بعض الهدايا، ووعدني أن أقضي عيد الميلاد في بيتنا.
وخيل إلي في الأشهر التي أعقبت هذا اللقاء أن الأيام تمضي على مهل، فقد كنت شديد الرغبة في أن أرى أبوي وأخوي، وكتبت إلي والدتي رسائل تفيض بهجة وانشراحا، ومما قالته فيها أنها لم تكن في هذه الأيام تواصل العمل في خياطة الملابس للناس بعد أن عاد أبي إلى العمل، وأنها تقضى وقتها في الكتابة، وأن أحوالنا كلها سارة ممتعة تنسيني أيامنا الماضية، وأن بيتنا قد تبدل حتى لا أكاد أعرفه.
وزادت عواطفنا اهتياجا كلما قرب موعد العطلة والزيارة المرتقبة، وأخذت جدتي تكد في عمل المربيات والفطائر، وذبح الخنزير الكبير الذي كان يسمن لهذا الغرض خاصة، وشغل كل من في الدار أسابيع عدة في سلق اللحم، وتدخين الأفخاذ، وفرم اللحم والخضر وخلطها بالأفاويه وحشوها في الأمعاء، ثم أقبل اليوم العظيم وكدس آل كرافتشنكو ومعهم حقائب ملابسهم وسائر أمتعتهم في عربة أقلتهم إلى محطة السكة الحديدية، وركبت القطار أنا وعمتي شورا، وأخذ من بقي من أفراد الأسرة يلوحون إلينا بأيديهم وهم على الإفريز، وقد غلبتهم عواطفهم فانحدرت الدموع من أعينهم كأننا نغادر البلاد إلى أمريكا.
ولما وصل القطار إلى إيكترنوسلاف وجدنا الأسرة كلها في انتظارنا، وكان استقبالنا مليئا بالقبلات والدموع والصياح؛ وقبل أن نصل إلى منزلنا زال ما كان بيني وبين أخوي من وحشة، فأخذنا كلنا نتحدث دفعة واحدة ونتحدث عن كل شيء، وظلت أمي طوال الوقت تحدق في وجهي وتردد قولها: «ما أحسن منظرك يا فيتيا! إنك رجل صغير بحق! صحة ونضارة!»
واستحال عشاء عيد الميلاد في تلك الليلة إلى صفحة من سجل أيام الطفولة لا تنمحي صورتها من ذاكرتي، ففي هذه الليلة علت شجرة عيد الميلاد حتى مست السقف وتلألأت كما تتلألأ المنارة الخضراء والذهبية في الكنيسة، وتكدس الطعام والشراب على المائدة، واشترك الأطفال في شرب الأنخاب فشربوها نبيذا حلوا من أقداح زجاجية صغيرة زاهية الألوان.
ورفعت جدتي لأمي - وهي أكبر أفراد الأسرة - القدح الأول وهي تقول: «الحمد لله الذي أنعم علينا بأن نلتقي هنا جميعا أحياء وأصحاء، وأتمنى لكم جميعا يا أبنائي الأعزاء خير ما تتمنونه لأنفسكم.»
ثم قام أبي، وكان كمألوف عادته وقورا بهي الطلعة، ورفع كأسه وقال: «أرجو أن نشرب نخب جميع الذين يجلسون في هذه الليلة بين جدران السجون، وأن ندعو الله أن يحقق ما آمل وما يأملون من حياة خير من هذه الحياة وأسعد منها!»
وهمست بابشكا قائلة: «إن هذا لا يكون في حضرة الأطفال يا أندراي، ولكنها مع ذلك شربت كما شرب غيرها من الحاضرين.»
وقضينا ساعات طوالا ونحن ملتفون حول شجرة عيد الميلاد، نغني الأغاني الشعبية الروسية والأوكرانية مصحوبة بأناشيد ثورية كنشيد المارسييز ونشيد: «لقد سقطتم صرعى أيها الضحايا»، وكان من الشواهد الدالة على ما أصبحت فيه الأسرة من رخاء، حاك جديد ذو بوق ضخم، وأخذ الأطفال يرقصون على نغماته العالية، وغلب النعاس يوجين في أثناء هذا المرح والشراب فأغفى بينما كان أبي يلقي قصيدة في الإشادة بالتضحية والمجد، وبينما كنت أنا الآخر أسخر من سني بوجين السبع وأفخر عليه بسني التسع أخذ الكرى بمعاقد أجفاني واستغرقت أنا أيضا في النوم.
وعدت بعدئذ إلى ألكسندروفسك وعشت فيها ثمانية عشر شهرا أخرى، حتى انقضى عام 1916م الدراسي، وهو الذي انتهى به منهج دراستي الأولية.
وكان إتمامي هذا المنهج حادثا مهما في حياتي، وإن كان الاحتفال به مملا والخطب التي ألقيت فيه ثقيلة، وكان أول مراسم الاحتفال في هذا اليوم العظيم هو حلق شعري بإذن من أسرتي، وأثار شعري الملتوي ما في الحلاق من ذوق فني فلم أقم من بين يديه إلا بعد أن ازين رأسي أجمل زينة كانت هي إيذانا بدخولي في مرحلة الرجولة، ثم أهدى إلي جدي حلة الطلبة الرسمية ذات السروال الطويل، وتحقق بها حلم طالما تمنيته، وكان يسرني أن أسير في الحادية عشرة من عمري وأن أكون موضع عناية الأسرة جميعها.
وكان فيودور بنتليفتش في حلته الرسمية تحلي صدره والأوسمة البراقة محط الأنظار في حفل التخرج الذي أقيم ظهر ذلك اليوم، فلقد وجهت إليه الأنظار أكثر مما وجهت إلى والد شتشيكتهين نفسه. وارتدت جدتي مئزرها الحريري الأسود الوحيد، وأخذت تخطر في هالة من عطر اللاوند والكافور. وشهدت الحفل عمتي شورا بطبيعة الحال كما شهده عمي متيا.
وكانت مفاجأة أخرى مثيرة تنتظرني في البيت في ذلك المساء؛ ذلك أن عمي بطرس شقيق والدي الأصغر عاد في تلك الليلة بإجازة رسمية من ميدان القتال على غير انتظار، وكان عمي هذا يختلف عن والدي أشد الاختلاف، فقد كان رجلا خلا قلبه من الهموم، محبا للحياة حريصا عليها، حلو الفكاهة كثير المزاح، ولم يحدث بينه وبين والدي شيء من ذلك الاحتكاك الذي أفسد العلاقة بين فيودور بنتليفتش وولده أندراي، وأحسست إحساسا غامضا يشوبه قليل من الغيرة أن بطرس هذا أحب الناس إلى أهل الدار.
ولما أنبئ عمي بطرس بالدرجات التي حصلت عليها في الامتحان النهائي توسل إلي وهو يضحك - ولكنه كان في ضحكه جادا غير هازل - ألا أتخذ والدي المجاهد مثلا لي أحتذيه، بل أن أتخذه هو مثلي الأعلى.
ونادى بأعلى صوته: «تبا لهذه الأعمال، دع العالم يا فيتيا ينجه غيرك مما فيه، وحسبك أن تنجي أنت نفسك، وأقولها لك قالة صريحة: إنك لا تحيا إلا حياة واحدة يجب عليك أن تستمتع بها.»
وأذن لي في الليلة التي اعتزمت العودة فيها إلى بلدي أن أذهب إلى معسكر الغجر لأودع فيه أصدقائي الكثيرين، وحملت لهم معي بعض الهدايا منها لفة من التبغ لوالد سيدمان، وقصبة تدخين لسيدمان نفسه، وأشرطة زاهية لأخواته، وكان فراقي لهم لا يقل عن فراقي لأسرتي، وعدت في صباح اليوم الثاني إلى مسقط رأسي، وبعد بضعة أشهر من ذلك الوقت دخلت المدرسة العليا، واجتمعت أسرتنا في ذلك الوقت لأول مرة، وكان يوجين وقتئذ تلميذا في المدرسة الأولية، أما قنسطنطين فكان في السنة الثانية من المدرسة الثانوية، وخيل إلينا أن حياتنا أصبحت في آخر الأمر حياة سوية منتظمة، فها هو ذا أبي يكسب في الشهر مبلغا يتراوح بين ثمانين ومائة وعشرين من الروبلات، وهو دخل طيب لعامل مثله، وها هما ولداه قد اجتازا جزءا غير قليل من مراحل التعليم.
وكانت أمي أسعد حالا وأبهى طلعة مما شهدتها من قبل، أما أبي - وهو بطبعه رجل عبوس بعض الشيء - فقد كان وجهه الهادئ يخفي تحته مظاهر القلق؛ ذلك أنه كان أكثر منا جميعا إدراكا للسحب القاتمة المتلبدة في سماء الروسيا والتي تنذرها بعاصفة هوجاء.
الفصل الثالث
المجد والجوع
تصرم شتاء 1916م وهو ينذر بانهيار القيصرية الروسية، وكان الإحساس بالكارثة الوشيكة الوقوع يسري في كياننا كله.
ذلك أن أمور الحرب كانت تجري على غير ما نشتهي، وازداد سخط الشعب وأصبح أكثر جهرة وأشد إلحاحا، ولم يعد من الأسرار الخفية أن الجنود يفرون من ميدان القتال جماعات، وأن نظام الجيش آخذ في الانهيار، وحتى في إيكترنوسلاف نفسها امتلأ الجو بالشائعات الرهيبة عن راهب مشئوم فاسد السيرة يدعى رسبوتين، وعن الفساد الخلقي في دوائر عليا، وعن الشغب والاضطرابات طلبا للطعام، وعن وجود أنصار للألمان حول القيصرة، ولم يحاول مدرسونا قط كبح جماح كبار التلاميذ، ومنعهم أن يتحدثوا عن الثورة، وأخذ أصدقاء أبي يتهامسون بأصوات خافتة متوترة عن إثارة «الجماهير».
وكان أبي يعمل طوال اليوم في المصنع، وقلما كان يجد بعد الانتهاء من عمله متسعا من الوقت يستريح فيه أو يغتسل أو يأكل، وكثرت الاجتماعات والمناقشات والتقارير يحملها الرسل من بتروغراد أو كيف، وكثيرا ما كان بيتنا يتخذ في تلك الأيام محطا ينزل فيه الفارون من سيبيريا وغيرها من أقاليم المنفى في أقصى الشمال، وما أكثر ما كنا نحن الأطفال نحجز عن حجرة الاستقبال حيث يجتمع عمال المصانع ذوو الوجوه الكالحة والمفكرون من أهل البلدة يتجادلون ساعات طوالا خلف الأبواب المغلقة.
وذهب والداي في عصر يوم من الأيام ليقابلا صديقا لهما يدعى برامونوف كان قد فر وقتئذ من السجن، وعادا وهما في أشد حالات الاضطراب؛ فقد جاءت والدتي تبكي، وجاء أبي تصطك أسنانه، وكان برامونوف هذا أحد بحارة الطراد بوتمكين الذي كان تمرده وثيق الاتصال بثورة سنة 1905م، ومن أجل ذلك كنا نعده بطلا من أبطال البلاد، وكان إلى هذا إشبين أخي الأصغر، واستطعت فيما بعد أن أجمع شتات الحوادث التي وقعت وأؤلف منها قصة لم تبرح قط من ذاكرتي، بل بقيت فيها رمزا للتضحية.
وكانت خلاصة هذه القصة أن برامونوف وعددا قليلا من أصدقائه اتفقوا فيما بينهم على أن يلتقوا عند ركن في مكان منعزل في حديقة المدينة، ولم يمض على لقائهم بضع دقائق حتى مر بهم جماعة من الأغراب يتظاهرون بأنهم يسيرون في المكان مصادفة، ولكن برامونوف ارتاب في أمرهم وظنهم من رجال الشرطة في ملابس عادية، فبادر بتوديع رفاقه وانطلق بين الأدغال وهو يرجو أن يتسلق سورا من الأسوار ويفر منهم، وسرعان ما سمع أصدقاؤه صوت طلقات مسدس ووجد الهارب بعدها قتيلا.
وكان في وسع أبي رغم مشاغله الكثيرة أن يقضي ليالي كثيرة وبعض أيام الآحاد مع أبنائه الثلاثة، وكنا نقطع الوقت في قراءة مؤلفات هرزن وتولستوي وغيرهما من الكتاب، وكان أبي يختار منها بعض الفقرات ليعلق عليها ويشرح بها آراءه عن تحرير الروس من رق العبودية وعن الحرية البشرية، وكان لآرائه الحماسية - ولعلها كانت أيضا آراء غير صائبة - أعظم الأثر في مشاعري، وكان لها من القوة في نفسي ما للعقائد الدينية.
وانعقدت في ذلك الوقت أيضا بيني وبين زميل لي في المدرسة يدعى أسبيريدونوف أواصر صداقة قوية، وكان ذلك الشاب ابن أحد مدرسي المدرسة الثانوية، وكنت أقضي كثيرا من الوقت في داره، وفي بيت هذا الصديق عرفت لأول مرة أسرة مثقفة كان الأدب والموسيقى والمسرح لديها حقائق واقعية أعظم شأنا من الخبز ومن العمل، وكان والد أسبيريدونوف يوجه نهمنا في القراءة إلى آفاق واسعة لا تقتصر على روائع الأدب الروسي، بل تشمل كذلك مؤلفات شيكسبير وجوت وأناتول فرانس ونت همسن وهوجو وفلوبير وزولا ودكنز.
وإذا عدت الآن بذاكرتي إلى تلك الأيام الخالية أدهشني حقا مقدار ما قرأت وتنوع ما قرأت في تلك الأيام التي ازدهرت فيها حياتي الذهنية، وامتزج جمال هذه الكتب بأماني أبي العالية حتى أضحت بطريقة ما عنصرا من عناصر الثورة التي كانت تكتسح في طريقها غلاما مثلي في الحادية عشرة من عمره، وخيل إلي وقتئذ أن الثغرة التي تفصل الأدب عن الحقائق الواقعية، والألفاظ عن الأعمال، قد أخذت تسد، وأنها عما قليل لن يبقى لها أثر.
وهبت العاصفة التي تجمعت نذرها من زمن بعيد في الأسابيع الأخيرة من شهر فبراير سنة 1917م (في أوائل مارس بالحساب الغربي)، ودهش الناس كلهم وتحيروا في أمرهم حتى الذين كانوا منهم أكثر الناس ثقة بهبوبها، فقد أصبحت كلمة الثورة ينطق بها الآن جهرة وتجري على كل لسان، وحدث ذلك فجأة على غير انتظار بعد أن كانت هذه الكلمة لا ينطق بها إلا الأصدقاء الذين توثقت بينهم الصلات، وحتى هؤلاء لم يكونوا ينطقون بها صريحة بل كانوا يلمحون بها تلميحا، وارتاع الناس من هذه الحقيقة العجيبة، وسرعان ما استحال ما كان يبدو من قبل حلا سهلا ميسرا للمشاكل القائمة إلى آلاف الآلاف من المشاكل الجديدة لعل أقلها خطرا إيجاد الطعام للجائعين والكساء للعارين.
واضطربت شئون الحياة المألوفة كلها وتزعزعت أركانها، وفقدت المدارس والمصانع والمعاهد العامة ما كان لها من معنى في عقول الشعب، وخرج أهل مدينتنا جماعات إلى الشوارع المكسوة بالثلوج حتى ضاقت بهم، وكأن البيوت ومكاتب الموظفين والمعامل قد انقلب باطنها ظاهرها، فلفظت كل من فيها من الناس إلى الميادين والمتنزهات، وقامت فيها المظاهرات، وخفقت الرايات، وعلت أصوات الهتاف، وتوترت الأعصاب، وانطلقت أحيانا بعض الرصاصات، وطغى على هذا كله جو صاخب من الكلام، الكلام الكلام، فقد انطلق من الصدور ما كان مكبوتا فيها من الألفاظ عدة قرون في خطب قوية عاطفية مثيرة للشعور سخينة وملهمة عالية مدوية داعية إلى الانتقام.
وامتلأ الجو بنداءات الثورة، وأخذت هذه النداءات تتكاثر ويتضاعف عديدها في كل يوم: لتسقط الحرب، الحرب حتى النصر! الأرض والحرية ! المصانع للصناع! هيا إلى الجمعية التأسيسية! السلطة كلها للسوفيت! وقرعت آذاننا في كل يوم ألفاظ جديدة وأسماء لا عهد لنا بها من قبل: بلاشفة، مناشفة، ثوار اجتماعيون وفوضويون ... وكرنسكي وميلوكوف ولينين وتروتسكي ... والحرس الأحمر والبيض والأشياع ...
وأقيمت المنصات في الميادين الكبيرة، وتعاقب عليها الخطباء بعضهم في أثر بعض يخطبون الجماهير بأعلى الأصوات، ووقف عليها الرجال والنساء الذين لم تعل من قبل أصواتهم عن الهمسات، ثم اندفعوا الآن يصيحون ويخطبون ويسبون ويصخبون، وتنحى الرجال المتعلمون ذوو اللحى المشذبة عن أماكنهم إلى الجنود والعمال، وعلت أصوات الجماهير كهزيم الرعد تنادي: «حقا! حقا!» و«فليسقط، فليطرد.»
وجاء أبي في يوم من أيام المظاهرات تظلله أيكة من الأعلام التي صنعها المتظاهرون بأيديهم، ووقف يخطب من فوق منصة، وكأن الناس كلهم كانوا يعرفون اسمه.
وبدأ خطبته بقوله: «أيها الأصدقاء والإخوان، أيها العمال والفلاحون ورجال الفكر والجنود.»
وكانت هذه أول مرة سمعت فيها أبي يخطب في الجماهير، ولم يكن في وسعي أن أخفي تأثري، وكان صوته رنانا، وقد تبدل كل شيء فيه حتى لم يكن لي بد من الرجوع إلى نفسي لأتأكد أن الذي يتحدث هو أبي بحق، وغدت الكلمات التي لم تكن من قبل تتعدى محيطنا، والتي تكاد تكون سرا من أسرار الأسرة، غدت هذه الكلمات بمعجزة لا يعلمها أحد تتردد على ألسنة الجماهير، فأصبح الناس كلهم وكأنهم من أفراد أسرتنا، وأخذ أبي يتحدث عن السجن والنفي، وعن حياة البطولة التي خاض غمارها الرفيق برمونوف، وعن المستقبل المجيد، ويحض الجماهير على التزام النظام وضبط النفس، ويحذرهم ممن يريدون أن يغرقوا الثورة في بحر من الدماء، وكان حديثه غاية في البساطة والإخلاص، كأن مستمعيه هم أبناؤه الثلاثة ضوعفوا مئات المرات.
ولما نزل عن المنصة وعزفت إحدى الفرق الموسيقية نشيد المارسييز اندفعت نحوه وشققت طريقي إليه بين أصدقائه المعجبين به، وصحت قائلا: «ليحي بابا!» وضحك أبي حين سمع ندائي بأعلى صوته.
وقال لي: «ها أنت ذا يا فتينكا ترى بعينيك أن الشعب سينعم بالحرية، لقد كانت هذه غاية جديرة بأن نحارب من أجلها.»
وعرفت حينئذ - أو لعلي عرفت في مستقبل أيامي - أنه كان يبرر أعماله في نظري، ويشرح لي أسباب ما حل بأسرته من ضنك وشقاء على يديه.
وسرعان ما تقدم الشهر الأول من شهور الثورة وجاء في أثره الانشقاق والتهم والشقاء، وتبدلت الحماسة الأولى غضبا وغلا في الصدور، واختلطت الألفاظ والحجج بالحجارة واللطمات وطلقات المسدسات، حتى أصبحت هذه أعظم شأنا وأقوى أثرا على مر الأيام، وعز الطعام وخيل إلينا أن الخشب والفحم والكيروسين كلها قد اختفت، ولم تعمل بعض المصانع إلا عملا متقطعا، وأغلقت بعضها أبوابها، وقال الناس وبخاصة ذوو الثياب الحسنة: «ها هي ذي ثورتكم! ها هي ذي الثورة التي طالبتم بها!»
وأخذ أبي يزداد في كل يوم كآبة وصمتا، وأصبح أكثر حساسية وأشد تأثرا مما كان في سني الخطر والتضحية؛ ولما طلبت إليه أن يشرح لي أسباب تعدد الأحزاب والبرامج بدت عليه مظاهر الحيرة والارتباك.
وكان جوابه لي: «إن المسألة معقدة يصعب على من كان في مثل سنك أن يفهمها، إن هذا نزاع على السلطان، ومهما تكن الأهداف التي يسعى إليها أي حزب من الأحزاب المتنازعة، فإن من الخير ألا يفوز واحد منها فقط بالسلطة؛ لأن هذا الفوز لا يثمر إلا استبدال سادة جدد بسادة قدماء، وقيام الحكم المستند إلى القوة لا إلى إرادة الشعب الحرة، ولم يكن هذا هو الغرض الذي ضحى من أجله الثوار بحياتهم.»
ولما استمعنا مرة أخرى إلى خطب المناشفة والبلاشفة وغيرهم في معهد التعدين، وقد أصبح وقتئذ المركز الرئيسي لسوفيت إيكترنوسلاف، هز أبي رأسه في حزن وقال: «لقد حاربت للقضاء على القيصرية، حاربت من أجل الحرية ورغد العيش لا من أجل العنف والانتقام، يجب أن نظفر بحرية الانتخاب وأن تكثر في البلد الأحزاب، أما إذا سيطر علينا حزب واحد فقد قضي علينا قضاء لا مرد له.» - «وأي مذهب سياسي تدين به يا بابا؟ أنت منشفي أم بلشفي أم ثوري اجتماعي أم لك مذهب آخر غير هذه المذاهب؟» - «أنا لا أدين بمذهب من هذه المذاهب يا فيتيا، لا تنس قط يا ولدي هذه الحقيقة: إن شعار أي حزب مهما يكن فيه من الإغراء لا يعد دليلا على حقيقة الخطة التي سوف ينتهجها هذا الحزب إذا ما استولى على أزمة الحكم.»
وذهب أبي إلى جبهة القتال في رومانيا؛ ليكون فيها واحدا من طائفة من العمال الدعاة للثورة، وكان لا يزال يعمل فيها في شهر نوفمبر حين استولى البلاشفة في بتروغراد بزعامة لينين وتروتسكي على أزمة الحكم، وتولوا قيادة الثورة، ثم عاد إلينا ليبلغنا أن الحرب قد انتهت، وأن كل ما يعمله الجند هو أن يلقوا بأسلحتهم ويعودوا إلى بلادهم، وهي أنباء عرفناها من قبل، فقد كنت أنا وكوتيا وأصدقاؤنا طلبة المدرسة الثانوية نقضي الساعات الطوال في محطة السكة الحديدية نشاهد القطر المقبلة من الجنوب والغرب، وقد اكتظت كلها بالجنود حتى امتلأت بهم أسقف العربات، وتعلقوا بنوافذها وفي أسفلها، وفاضت جموعهم على القاطرات نفسها، وأخذوا ينشدون الأناشيد ويسبون ويتشاجرون وينادون نداءات مختلفة، ولم نكن نحن الصغار ندرك معنى هذه الفوضى، وبدا أن الكبار أنفسهم لم يكونوا أقل منا جهلا بكنهها وحيرة من أمرها.
ولم نكن ندرك من الحقائق المؤكدة التي تطبق علينا في كل لحظة إلا الجوع والبرد، فقد فقدت النقود قيمتها وخلت أرفف الحوانيت من البضائع، وعلاها التراب، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى شق علينا الحصول على الخدمات التي كانت من قبل من مظاهر الحياة العادية كتنظيف الشوارع والمخاطبات التليفونية ومياه الشرب والنقل، وصارت هذه الأعمال نادرة باهظة النفقة أو ممتنعة بتاتا، وفشا وباء التيفوس حتى كانت جنازات الموتى مواكب متصلة تسير طول النهار.
وكانت بابشكا من زمن بعيد تدخر كسرا من الخبز المجفف، وكانت من آن إلى آن تحمصها وتهديها إلى الدير الذي كانت تؤثره بها عن غيره، وإلى ملاجئ الأيتام، فلما أزفت الآزفة حمدنا لها حسن صنيعها، وادخرنا كل كسرة منها لأنفسنا، واختفى من بيتنا ضوء المصباح الدفيء المبهج، وخيل إلينا أن أيامه الحلوة قد أصبحت في خبر كان، وحلت محله ذبالة مغمورة في صحن زيت صغير، لم يكن لدينا وسيلة غيرها تضيء لنا ليالي الشتاء الطوال.
وفي هذا الضوء المضطرب الضئيل كنت أقرأ لجدتي بصوت عال من الكتب التي تحبها، وهي كتب نكراسوف وتولستوي وترجنيف، وكانت بين الفينة والفينة تعيد بعدي عبارة تعجب بها فيلهيها هذا عن سماع ما يتلوها من العبارات.
وبينا كنت ذات ليلة أقرأ لها مقالة من مقالات ترجنيف شعرت بيدها تتحسس يدي، وواصلت أنا القراءة، ولما استرخت قبضتها ظننت أنها استغرقت في النوم، وأوشكت أن أتسلل من الحجرة على أطراف أصابعي حتى لا أوقظها من نومها، ولكني نظرت إلى وجهها فرأيت عينيها مفتوحتين، ووجدتها ساكنة سكونا عجيبا، وشاهدت ابتسامة عذبة مطبوعة على شفتيها.
وصرخت قائلا: «بابشكا! بابشكا!» وأقبل من في الدار مسرعين.
وكان موت جدتي لأمي من الحوادث التي ظلت منقوشة في الصورة المرسومة في ذهني عن الثورة، وكانت هذه السيدة امرأة قوية الجسم حتى طحنتها رحى الجوع والبرد بثفالها، وظللت أنا وأسبريدونوف نطوف بالمدينة عدة ساعات حتى وجدنا قليلا من الأزهار النضرة ننثرها على تابوتها، فقد بدا لنا أن نقلها إلى مقرها الأخير بغير أزهار أمر لا يليق.
واستقر النظام السوفيتي في شمالي البلاد، أي في الروسيا الأصلية، بعد أشهر قلائل، أما في سائر البلاد وبخاصة في أوكرانيا، فقد دامت الحرب الأهلية عدة سنين، وكانت حربا وحشية جرت فيها الدماء وسادها الاضطراب، ولم تخل في معظم الأحيان من الفساد الطليق، وكانت السلطة في إيكترنوسلاف تنتقل من جماعة إلى أخرى، ثم تعود إلى الجماعة الأولى فيما لا يزيد على شهر واحد، وكثيرا ما كانت تتداولها الأيدي عدة مرات في الأسبوع، ولم نعد نحاول أن نذكر أي الجماعات تمثل السلطة العليا في الإقليم، أهي جماعة الحمر أم البيض أم الخضر، أم أتباع بتليوري، أم قوى هتمان اسكروبودسكي أم بنكومخنو أم جريجوريف، واحتل الألمان بلدتنا بضعة أشهر، ثم جلوا عنها، وجاءت بعدهم طوائف من الجنود المتنافسين، معظمهم في أثواب بالية ممزقة، وكلهم لا يقيمون وزنا لحياتهم ولا لحياة غيرهم، وأخذوا يتعاقبون على مدينتنا البائسة الهزيلة.
ولا تزال صور من تلك الأيام منقوشة في خيالي كأنها صحف مزقت من كتاب.
منها صورة جنديين يرتديان حلتين من حلل جنود القيصر ويمتطيان صهوة جوادين يندفعان في طريق بشكين الكبير بالقرب من بيتنا، يطاردهما فارسان صينيان يهز أحدهما سيفا والثاني بندقية، ويقف الفارس صاحب البندقية فجأة، ويصوب بندقيته ويطلقها، ويهوي أحد الجنديين الأبيضين عن ظهر جواده، ويقف الجواد فلا يتحرك، وينتظر زميله هنيهة لينظر ماذا جرى، فيتيح بذلك الفرصة للفارس الصيني الآخر أن يلحق به ويطعنه طعنة نجلاء، وهو يصيح بأعلى صوته، فيسقط الأول كومة من اللحم مضرجة بالدماء فوق الحجارة، وتبقى الجثتان المشوهتان لا يحركهما إنسان في هذا السكون المفاجئ.
وجئت أنا وكوتيا مرة أخرى إلى محطة جوريانوف في الطرف النائي من المدينة بعد أن سرنا مسافة على أقدامنا كنا نتجادل فيها جدالا عنيفا في موضوع كتاب نقرؤه، وكانت الليلة السابقة ليلة رهيبة لم ينقطع فيها إطلاق النار، وإن كان أحد من أهل المدينة لم يعرف من كان يطلقه ومن كان يطلق عليه، فلما وصلنا المحطة ألفينا جثث الموتى منتشرة فيها، ورأينا على القضبان قطارا مملوءا بالجنود الألمان، وعلى أرض المحطة كثيرا من الألمان في ثياب سميكة دفئة، يضحكون ويتنقلون بين جثث الموتى، ووقف إلى جانب كومة من هذه الجثث جماعة من الجند يأكلون الشطائر ويشربون القهوة، ويضع كل واحد منهم إحدى قدميه على جثة من الجثث ليستريح.
وأسمع في إحدى الليالي بعد أن مضى هزيع من الليل جلبة خارج بيتنا، فأهرول لأستطلع جلية الأمر، وأرى الأرض مغطاة بالثلج يتلألأ في ضياء القمر، ويطرق أذني نباح كلب في مكان ما، ولا أكاد أقف حتى يمر بي رجل ضخم الجسم ينطق بألفاظ الفحش كأنه ثمل، وقبل أن تمضي على ذلك بضع ثوان يجيء في أثره رجال كثيرون يلوحون بالخناجر والعصي والبنادق، وأبقى حيث أنا لحظة أنصت فيها إلى طلقات بعيدة، وصراخ يدوي في سكون الليل، فلما أصبح الصباح كان كل من في المدينة يتحدث عن هذه المطاردة، وعن بيلوشيكا صاحب القلنسوة البيضاء وزعيم اللصوص، الذي طارده الحرس الأحمر في أحياء المدينة سيرا على الأقدام، حتى التجأ إلى شارع منعزل فضيقوا عليه الخناق وقتلوه رميا بالرصاص.
وقلما كان يمر يوم واحد لا تروى فيه قصص مروعة عن المذابح المدبرة في الأحياء اليهودية، وعن غارات العصابات المسلحة على المصارف المالية، وعن الهجوم على قطر السكك الحديدية، وتعاقبت الحكومات فكانت كلما جاءت واحدة منها لعنت سابقتها ووصفتها بأنها «عصابة مسلحة»، حتى إذا أفلت زمام الحكم من يدها أصبحت هي الأخرى «عصابة مسلحة» كأختها، ومر بنا أسبوع، ولعله أطول من أسبوع، بلغ فيه الاضطراب غايته حين تولت الأمر حكومة «مخنو» أو الحكومة الفوضوية التي تحصنت في إيكترنوسلاف، ولكن الحمر لم يلبثوا أن عادوا إليها، وقضوا على حكومة مخنو فأضحت كأن لم تغن بالأمس.
وليس من السهل أن يرسم أحد صورة لهذا العهد كما ارتسمت في مخيلة غلام ممن كانوا يعيشون فيه، نعم إن كثيرا من الأحداث التي عرفناها أو فهمنا معناها بعدئذ قد انطبعت في تلك الصورة، ولكن الحقيقة المدهشة التي لا تفتأ على طول العهد ماثلة في أذهاننا هي أن شئون الحياة العادية ظلت تجري في مجراها بطريقة لا نعرف كنهها خلال الاضطراب الناشئ من الحرب الأهلية والفتن الحماء، وأخطار ذلك العهد وأهواله، فقد ظللنا كسابق عهدنا نعمل وندرس ونأكل وننام ونقرأ ونضحك ونعقد صداقات جديدة، بل بلغ من أمرنا أننا كنا نضع الخطط للمستقبل؛ ذلك أن الاضطراب أصبح في تلك الأيام من الأمور الطبيعية المألوفة، بل إنه كاد يصبح طريقة من طرائق الحياة، لقد كان هذا الاضطراب عنصرا جديدا من عناصر الحياة اليومية الرتيبة.
وسبب ذلك أن الحياة - أي إرادة البقاء وعادة البقاء - كانت أقوى من أعمال العنف ذاتها.
كانت البرقية التي جاءت إلينا من ألكسندروفسك بتوقيع عمتي شورا، وكانت تسألنا فيها هل جاءنا عم بطرس لسبب ما؟ وأبرق أبي في الحال أنه ليس عندنا، ثم جاءتنا بعد بضعة أيام رسالة تقول: إن عمى بطرس قد وجد ميتا مقتولا، وإن حضورنا جنازته إن استطعنا قد يخفف من وقع المأساة على الكبار من أفراد الأسرة.
وسافر أبي من فوره وإن كان قليل الرجاء في أن يصل إلى ألكسندروفسك قبل موعد الجنازة، وقرر بعد أن استشار والدتي في الأمر أن يأخذني أنا وكوتيا معه، فقد يكون منظر الحفيدين الصغيرين القويي الجسم المفتولي العضلات بلسما لجراح الأبوين الثاكلين.
ولم يشترك بطرس في اضطرابات الثورة؛ لأن شئونها كلها كانت تسبب له الملل والضيق، وكان يخيل إليه أنها تقطع على الناس حياتهم، وهي حياة في وسعهم أن يجعلوها على قصرها سارة هنيئة إذا امتنعوا عن العبث بها ومحاولة إصلاحها، ولما عاد من ميدان القتال خلع حلته العسكرية وحصل على منصب مدير لمصرف صغير في ألكسندروفسك، ولم نكن ندري حين ركبنا القطار كيف قضى الرجل نحبه.
وكان القطار مزدحما بالركاب حتى كاد يختنق بهم، فقد كان آلاف الآلاف من الناس وقتئذ - أو لعلنا قد خيل إلينا أن آلاف الآلاف منهم - يسافرون فارين من نار إلى نار لينجوا بأنفسهم من أتون الثورة القومية المشتعل في جميع أنحاء البلاد، وكانوا تارة يبتعدون عن الانتقام بضع خطوات، وتارة أخرى يندفعون إليه ليتعجلوه، ولم يكن في القطار شبر واحد خاليا من الركاب والأمتعة، فقد كان الناس يجلسون على رفوف النوم العليا تصطدم أحذيتهم الموحلة وأقدامهم الملفوفة بالخرق البالية بأرجل من تحتهم من الآدميين، وكان جو القطار ثقيلا مليئا بالرائحة الكريهة.
ولما وصل محطة سلافجو رود ذهبت إلى دورة المياه لآتي بقليل من الماء، فلما عدت رأيت رجلا واقفا بباب العربة يحمل في يده مسدسا من طراز موزر، فراعني هذا المنظر وصحت قائلا: «بابا»، فرد علي الرجل بقوله: «لعن الله أباك! ادخل إلى العربة وأمسك عن الصياح، وإلا أرديتك قتيلا.»
وبدأ القطار يتحرك ساعة أن اتخذت طريقي إلى جانب أبي، ورأيت الركاب جميعهم وقد رفعوا أيديهم فوق رءوسهم، وأخذ الأطفال يبكون من الخوف بأصوات خافتة، ووقفت عند كل من طرفي العربة شرذمة من الرجال المسلحين، وأخذت شراذم أخرى تجمع النقود والبضائع القيمة من ركاب العربة جزءا جزءا بطريقة منظمة حتى وصلت إلى الجزء الذي كنا فيه.
وصاح أحد أفراد العصابة في وجه أبي بصوت الآمر المغيظ: «أي شيء معك؟ هاته!»
فأجابه أبي وهو هادئ يبتسم: «أي شيء معي؟ إن معي ساعة وقليلا من النقود الصغيرة وولدي.»
ولما تم للصوص مغنمهم هدأ سير القطار مرة أخرى وقفزوا منه، وانبعثت طلقات نارية من بعض العربات، وشاهدت أحد اللصوص يقف كأن الطلقات أدهشته، ثم يسقط من مكانه ببطء، وقتل أحد الركاب لصا آخر قبل أن ينزل من القطار، وكان جسمه لا يزال معلقا به حين وصلنا إلى مستقرنا، وما من شك في أن الذين هجموا على القطار في هذه المرة لم يكونوا رجالا دربوا على هذا العمل من قبل، وإلا لما حدث لهم ما حدث.
ولم أكد أعرف ألكسندروفسك حين أقبلت عليها، فقد زال عنها في هذين العامين ما كان لها من سحر وفتنة، وذهبت أناقتها وأفسدها «كر الغداة ومر العشي». ورأيت محطتها مهجورة خالية، ومصابيح شوارعها محطمة، وحتى الثلوج التي تكسو أرضها قد علتها الأقذار، ولما سأل أبي أحد الناس: «أية طائفة تتولى الحكم؟» هز الرجل الغريب كتفه مشمئزا، وتمتم قائلا: «علم ذلك عند الشيطان!»
وخيل إلي أن البيت الذي قضيت فيه أسعد أعوام طفولتي قد انكمش وتقادم عهده بين يوم وليلة. ووصلنا المدينة متأخرين عن موعد الجنازة فلم نشترك فيها؛ وذلك لأنا لم نتسلم رسالة شورا في الوقت المناسب، ورأيتها تخيط شيئا في ركن من أركان الدار، وقد احمرت عيناها وجرى الدمع على خديها، وعانقتنا جدتي نتاليا مكسمفنا، وحاولت أن تبتسم كسالف عادتها، ولكن بريق عينيها قد زال عنهما إلى غير رجعة، ولم تستطع أن تتملك عواطفها أكثر من بضع لحظات، ثم أخذت تولول وتنظر إلى المصباح الموقد تحت الصورة المقدسة، وترسم علامة الصليب على صدرها المرة بعد المرة. «إن بيتيا عمك الصالح يا فيتيا لن يعود إليك أبدا! لقد ذهب ولدي الصغير بيتيا إلى غير رجعة، رباه لقد قتلوه ولن يعود إلينا أبدا.»
وجلس فيودور بنتليفتش عند نهاية المنضدة ولم يلق بالا إلينا، وكان من أصعب الأشياء أن أصدق أن هذا الرجل هو جدي الوقور القوي، فقد تبدل كأن شيئا من داخل جسمه ذاب وتركه جسدا مترهلا وعظاما نخرة، ثم نظر إلينا بعد هنيهة، وهز رأسه بالتحية، وقام من مكانه على مهل.
وقال وقد ملئ صدره حقدا: «ها قد وقع يا أندراي ما كنت تنتظره! ها هي ذي ثورتك الحبيبة إلى قلبك! ها هم أولاء يقتتلون ويتبادلون إطلاق الرصاص، ويسرق بعضهم بعضا، ويعذبون الجماهير بالجوع والبرد! وها أنت ذا لا ترى ثورة بل ترى اغتيالا وجرائم.»
وعلا صوته من شدة الحزن والغضب، وصاح وهو يقبض على كتفي أبي ويهزهما هزا: «ويل لأبناء الكلاب! لم قتلوا بطرسا؟ وبأي ذنب قتلوه؟ إن الألمان لم يقتلونا ولم يفعلوا بنا ما يفعله إخواننا الروس. شكرا لك يا أندراي، شكرا لك على ثورتك الحبيبة إلى قلبك.»
وأطرق أبي برأسه وظل صامتا لا يحير جوابا، فقد رأى ألا جدوى في الألفاظ والشروح، وأبصرت أسرة فيودور بنتليفتش عميدها يبكي أمامها لأول مرة، وبللت الدموع لحيته البيضاء وعلقت بها، وسار متباطئا إلى ركن الدار الذي علقت فيه الصور المقدسة، وقد زايله انتصاب قامته العسكري وخر راكعا وقال: «اهد اللهم عبيدك الضالين، ولا تسلط الأخ على أخيه والابن على أبيه، ورد على عبيدك عقولهم ونجهم من الهلاك.»
ثم قام بعد أن هدأ روعه، ومسح الدموع عن خديه، وقال: «لعل الله يغفر لك يا أندراي كما يغفر لك أبوك.» ثم التفت إلى زوجته وقال: «أطعمي الأطفال وأنيميهم.»
وأخذت شورا بعدئذ تحدثنا عن موت أخيها وهي تبكي وتنتحب؛ فقالت: إنه لم يعد من المصرف في ليلة من الليالي، فظنت أنه ربما قرر لسبب ما أن يزورنا في إيكترنوسلاف، ومن أجل ذلك بعثت إلينا بالبرقية التي جاءتنا، وبعد أربعة أيام من تغيبه وجد أحد الفلاحين جثته بالقرب من إحدى الطرق على بعد من المدينة، وقد دس منديل في فمه، وشدت يداه خلف ظهره، واخترقت عدة رصاصات رأسه، وأخذت منه مفاتيح المصرف التي كان يحتفظ بها معه عادة.
وعادت شورا تندبه قائلة: «لقد سكت قلبه ولكن ساعته كانت لا تزال تدق، الساعة التي تملأ كل خمسة أيام، والتي كان بيتيا يفخر بها.»
ولعل سبب مقتله أن جماعة من اللصوص أرادوا أن يسرقوا أموال المصرف، فاغتصبوا مفاتيحه من بطرس، ثم بدا لهم أن يقتلوه ليتخلصوا من شاهد عليهم، وربما كانوا ممن يعرفهم عمي، ولعلهم بعدئذ خارت عزيمتهم، فلم ينفذوا ما أرادوا من السرقة.
وعدنا إلى بلدنا محزونين تتشعبنا الهموم، ولم يفق جدي من أثر الكارثة التي حلت به من جراء موت ابنه الأصغر، فقضى نحبه بعد أشهر قليلة، ولحقت به زوجته بعد زمن قصير.
كانت ضيعة إلين بالقرب من كربينو على نهر الدنيبر من أغنى الضياع وأكثرها جمالا في ذلك الإقليم، فقد كانت تضم آلافا مؤلفة من الأفدنة الخصبة التربة تنتج القمح، ومساحات واسعة من أرض الكلأ والغابات وبساتين الفاكهة، كما كان فيها كثير من الإصطبلات ومصانع الألبان الواسعة، وكانت تخترقها الطرقات المرصوفة بالحصباء، تظللها الأشجار، وتلتقي عند القصر العظيم الذي كان يسكنه أصحاب الضيعة في غابر الأيام، وينعمون فيه بمباهج الحياة، وكان النهر في تلك البقعة بخلع على الضيعة شيئا من هدوئه وجلاله، فقد كان يشق طريقه أسفل الصخور الصلدة الوعرة، وكأن الطبيعة قد أجهدت نفسها لتخلع على هذا الركن من أركان الريف كل ما فيها من تباين، وتكسوه حلة من الجمال لا يكاد يوجد لها مثيل.
فلما قامت الثورة قسمت معظم الأراضي على الزراع الذين كانوا يعملون فيها، ولكن قلب الضيعة نفسها، ويشمل خمسمائة فدان من الأرض المنزرعة، والبستان العظيم، وبركة لتربية السمك، وقصر إلين نفسه وغيره من الأبنية؛ كل هذه قد جعلت في بداية عام 1919م مزرعة تعاونية لصناع المدينة، واستقرت فيها نحو مائة أسرة جيء بها من إيكترنوسلاف، وكانوا يطلقون عليها اسم النبات، وهي كلمة روسية معناها «قرع الأجراس».
وكان آل كرافتشنكو من بين هذه الأسر، وبقينا أربع سنين أو نحوها حتى بلغت السابعة عشرة من عمري نتخذ المزرعة التعاونية موطنا لنا، والحق أن أبي كان من الذين وضعوا أساس هذا المشروع، وهو الذي جاء إليها بعدد كبير من عمال المصنع الذي كان يعمل فيه، وحبذ سوفيت الإقليم هذه الفكرة وقسم الأرض، وأمد الوافدين ببعض ما يحتاجونه من الأدوات والماشية زيادة على ما كان باقيا منها في الضيعة القديمة.
أما في المدينة نفسها فقد كاد الإنتاج أن يقف لقلة المواد الغفل، وعز الطعام حتى أصبحت تهددها المجاعة، وأخذ الناس يهاجرون إلى الريف لعلهم يجدون فيه ما يرد عنهم غائلة الجوع، وكانت المجاعة الروحية هي الأخرى من أسباب هذه الهجرة، فقد كان بعض المهاجرين يتوقون لأن يحققوا في إحدى المزارع التعاونية ولو قليلا من الأحلام التي كانت تتراءى لهم في سني حماستهم الأولى للثورة، وكانوا يأملون أن يكون «قرع الأجراس» نذيرا يذكر الناس بالمثل الأعلى للأخوة الذي نسوه في غمرة نزاعهم واقتتالهم، حين أخذ الشيوعيون يستعينون بالجاسوسية للقبض على الناس جماعات، وإعدامهم رميا بالرصاص لأتفه الأسباب.
ودعي والدي أكثر من مرة للانضمام إلى الحزب الشيوعي، ولكنه لم يلب الدعوة، وكان يقول في شيء من الغلظة إن معدته لا تهضم الطغيان والإرهاب وإن استظلا بالراية الحمراء، ورأى رجالا من المال ومن أرباب الفكر ممن ظلوا طوال حياتهم بمنأى عن النزاع مع القيصر ينضمون إلى الحزب الشيوعي بعد أن بدا لهم أن السلطة الدائمة ستئول إليه، ووضع بعضهم لأنفسهم سيرا ثورية خيالية، ولكن هذا كله لم يفد إلا في تقوية عزيمته على أن يبقى مجاهدا حرا في الكفاح لإصلاح شئون العالم.
وجاء صناع المدن إلى المزرعة ممتلئين غيرة وحماسة، بلغت حد الاستخفاف بالأخطار، وكان همهم الأول بطبيعة الحال أن ينتجوا القوت ليطعموا منه أهلهم، ولكنهم كانوا يريدون فوق ذلك أن يبرروا بإنتاجهم تضحيتهم الأولى في سبيل القضية السياسية، وكان الزراع الأولون من أهل مزرعة إلين وما جاورها يسخرون من صناع المدن المنعمين الذين انقلبوا زراعا ، ويقولون هازئين: «سنرى الآن كيف يفلح الشيوعيون أرضنا.»
وكانت سخريتهم اللاذعة صادرة من قلوب طيبة، ومنطوية على صداقة ساذجة، كما كان الكثيرون منهم يأتون إلينا ليرشدونا ويقدموا لنا المعونة في كل عمل من أعمالنا الزراعية، ولم يظهر هؤلاء الفلاحون تبرمهم من هذه التجربة، بل كانوا يأخذون الزراع الجدد في كنفهم ويبسطون عليهم شيئا من الرعاية غير الرسمية، ويرعون لهم حق الجوار، وكثيرا ما كانوا يأتون إليهم حين تشتد الحاجة إلى الأيدي العاملة، ويمدون لهم يد المساعدة؛ ولهذا كانت السنة الأولى سنة رخية ناجحة بفضل هذه المعونة، وبفضل الخبراء الزراعيين الذين جاءوا من مدرسة إرستفكا الذائعة الصيت، وإن لم تكن هذه المدرسة قريبة من المزرعة التعاونية.
وكانت حياة الشبان في هذه المزرعة مليئة بكل ما يدعو إلى النشاط ويستثير المشاعر، وأحببت أنا العمل وحياة الريف وشعور الزمالة مع رفاق مثلي. وقلق آباؤنا من جراء إهمال تعليمنا، وحاولوا أن يعوضونا عن ذلك الإهمال بشيء من التعليم الناقص، ولكن أحدا منا لم يكن يشاركهم في فزعهم هذا، وكنا نقضي الفترات القصيرة التي نخلو فيها من عملنا المجهد في السباحة وصيد السمك والتجديف والألعاب الرياضية وارتياد الأقاليم المجاورة لنا، ووجدت أن المجال واسعا لإشباع حبي للخيل، وهو حب متأصل في كأنه جاء معي إلى العالم من يوم ولدت. وكان يسرني أن أقدم المعونة إلى جراشف سائس الخيل في المزرعة، كما كانت حياة الزراع تستهويني، فاتخذت منهم أصدقاء لي أقضي في بيوتهم كثيرا من الليالي مع من كان من أبنائهم وبناتهم في مثل سني.
ولم تكن الحرب الأهلية بعيدة عنا بطبيعة الحال، وكم من مرة سببت الاضطراب لحياتنا، وكم من مرة أوشكت أن تمحو مزرعتنا التعاونية من الوجود، ولشد ما كنت أنا وقنسطنطين نفخر بأنا قد كبرنا وأصبح في مقدورنا أن نشترك في الوحدات المسلحة التي أنشأها أبي وغيره من الزعماء للدفاع عن مزرعتنا، بل إن أخي الأصغر أوجين نفسه قد تعلم وقتئذ استخدام الأسلحة النارية، وكانت هذه القرية مسرحا للمعارك بيننا وبين المغيرين من الحمر أو البيض أو العصابات الأخرى التي لا لون لها من قطاع الطرق، الذين كانوا يغيرون على المزرعة يطلبون الطعام والغطاء والخيل نفسها في بعض الأحيان، وكان التظاهر بالقوة مضافا إلى استعدادنا لأن نقتسم مع الوافدين ما نستطيع الاستغناء عنه من مواردنا سببا في نجاة المزرعة من هجمات كبريات العصابات النهابة الجوالة.
ومن حوادث ذلك الوقت حادثة لا تمحى أبدا من ذاكرتي، فقد كنت في صباح أحد الأيام أرعى الخيل على نشز من الأرض استطعت بفضله أن أرى الحادث الذي أصفه للقراء واضحا أمامي كأني أرقبه على شاشة في دار خيالة. خرج جماعة من الفرسان تبلغ عدتهم حوالي ثلاثمائة معظمهم من القوزاق وغيرهم من الروس البيض، خرجوا فجأة من الطريق الرئيسي يركضون فوق حقول القمح متجهين نحو النهر، وجاءت في إثرهم جماعة أخرى من الحمر أكثر منهم عددا تطاردهم مطاردة عنيفة. وضيق الحمر الخناق على البيض فلم يجد هؤلاء سبيلا للنجاة إلا بالاندفاع إلى ماء النهر من فوق الجرف الصخري، وحاولوا أن يعبروا النهر سباحة ولكن مطارديهم نصبوا مدافعهم الرشاشة على حافة الأجراف الصخرية وحصدوهم عن آخرهم.
وتكررت هذه الحادثة بجميع تفاصيلها تقريبا بعد شهر واحد من ذلك التاريخ أو أقل، مع فارق واحد، وهو أن الحمر في هذه المرة هم الذين دفعوا إلى النهر من فوق الأجراف الصخرية، وأنهم هم الذين قتلوا واحدا بعد واحد حين كانوا يحاولون العبور إلى الشاطئ الآخر، وألفنا نحن رؤية أجسام الموتى تقذفها المياه إلى أرض الضيعة أو قريبا منها حتى لم نعد نذكر هذه الحوادث.
وحدث مرة بعد الحصاد الأول في ليلة من ليالي الخريف قبل أن يخيم الظلام أن كنت أنا وجراشف في أحد الإصطبلات، فأقبلت نحونا عربة من عربات الزراع يجرها جوادان وفيها أربعة رجال وامرأة، وكان الركاب والخيل جميعهم يكسوهم العثير ويتصبب منهم العرق، ونصب في مؤخر العربة مدفع رشاش، وكانت المرأة في نحو الثلاثين من عمرها وعلى شيء من الجمال، وكانت تعلق على ملابسها شارة الممرضات، أما الرجال فكان أحدهم يلبس ملابس المدنيين، واثنان منهم يرتديان الزي الرسمي للتشيكا وهم رجال الشرطة السوفيتية السرية الرهيبة، التي أصبحت تقذف الرعب في القلوب، ولما يمض على إنشائها إلا وقت قصير، وأما الرابع فكان رجلا بدينا غليظا يرتدي زي البحارة.
وعرفنا الرجل المدني بنفسه فقال إنه ليهومانوف، وهو نفس ليهومانوف الذي أصبح فيما بعد رئيس لجنة إيكترنوسلاف الإقليمية، وصاحب الأمر والنهي في ذلك الإقليم. وقال لنا إن سرية من البيض تتعقبهم، وإنهم في حاجة إلى خيل جدد تمكنهم من الهرب، وقال: إن الوقت لا يسمح لهم بأن ينتظروا حتى نستشير أحدا، وإن في وسعنا إن كنا نريد أن نسترد خيلنا أن نصبحهم إلى كمسكوى.
ورضينا بهذه الخطة، وسرعان ما كنا نحن السبعة في العربة نسوط الخيل ونندفع في الطريق مسرعين حتى لم يكن في وسعنا أن نتبين ما كان ملقى على الجانبين من جثث الموتى التي ظنناها حجارة وأنقاضا، وحدثنا ليهومانوف عنها فقال إن معظمها من جثث الحرس الأحمر، وإن واقعة حربية عنيفة حدثت في ذلك المكان في الأيام القليلة الماضية.
وكان البحار يصيح من حين إلى حين قائلا: «سنأخذ حقنا من أولئك الأنذال، سنقطع حواصلهم أبناء الكلاب.»
ولم تحدث لنا حوادث غير مستحبة حتى اجتزنا قرية أولي، وبدأت أظن أن معظم الخطر الذي كنا نريد النجاة منه خطر موهوم، فلما أن اجتزنا أولي انثنينا إلى طريق مجاور للنهر، ولم نكد نسير في هذا الطريق عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة على الأكثر، حتى طرق أسماعنا دق الطبول وركض خيل مقبلة من خلفنا، وأدركنا أن نحو اثني عشر رجلا كانوا يقتفون أثرنا، وكان في وسعنا أن نسمع صراخهم دون أن نتبين أقوالهم، وعرفنا من هذا الصراخ أنهم يأمروننا بالوقوف، وقفز بحارنا من مقعده إلى جانب المدفع الرشاش وهو يسب ويلعن، وأخذ يطلق منه الرصاص، وشاهدنا بعض من كانوا يطاردوننا يهوون عن ظهور الجياد، وأكبر الظن أن الذين بقوا منهم على قيد الحياة قد كفوا عن مطاردتنا.
ووصلنا كمنسكوى في تلك الليلة، ونزلنا في بيت صغير اتضح لنا أن من فيه يعرفون ليهومانوف، وكان مما قاله لي: «ستنام الليلة مع الممرضة في حجرة واحدة، فأنت لا تزال طفلا.» واختص جراشف والبحار بحجرة أخرى مجاورة لحجرتنا، واتفقا على أن يتناوبا حراسة العربية والجوادين، وخرجت من الحجرة بعض الوقت لأتيح للممرضة أن تأوي إلى الفراش، ثم عدت إليها وخلعت ملابسي في الظلام، ولم ألبث إلا قليلا حتى استغرقت في النوم.
واستيقظت من نومي بعد بضع ساعات كما أظن على أصوات مهتاجة وجلبة شديدة طردت الرقاد من عيني، فسمعت الممرضة تصرخ بصوت مختنق ونغمة هستيرية: «دعني أبها الوحش، وإلا أيقظت كل من في البيت! اخرج من هنا لساعتك!» وكان يتسرب إلى الحجرة من ضوء القمر ما يكفي لأن أتبين بحارنا مرتديا نصف ملابسه، وقد انقلبت سحنته من أثر هياجه، وهو يحاول أن يغتصب الممرضة، وكانت هي تقاومه بكل ما فيها من قوة، وقد انتفش شعرها، وتعرى ثدياها حيث مزق قميصها.
وما أن رآني البحار أجلس في فراشي حتى خلى سبيلها وخرج مسرعا من الحجرة وهو يسب ويلعن، وأغلق الباب من ورائه بدوي شديد، وسمعته يتمتم قائلا: «أيها المزارع القذر!» أما الممرضة فأخذت تبكي وتنتحب.
وقالت والعبرات تكاد تخنقها: «أولئك القوم، أولئك القوم الغلاظ، أولئك هم الذين تقوم على أكتافهم الثورة.»
وعرضت عليها وأنا مضطرب مثلها أن أدعو ليهومانوف وسائر من معه.
فأجابت بقولها: «لا، خير لنا ألا نضايق ليهومانوف، فحسبه ما هو فيه، إنه من خيار القوم، وهو رجل من ذوي المثل العليا حقا.»
ولم ننم في تلك الليلة بعد هذه الحادثة، بل ظللنا نتحدث - أو بعبارة أصح ظلت هي تتحدث وأنا أستمع إليها - حتى طلع الفجر، وكان مما قالته لي أنها ابنة أحد كبار الموظفين في حكومة القيصر، وأضافت إلى ذلك قولها: «ولما شبت الثورة احتضنتها وألقيت بنفسي في تيارها؛ لأني كنت طول حياتي أحب عامة الشعب وأتوق إلى مساعدتهم، ومن أجلهم قطعت صلتي بأسرتي، وذهبت إلى مدرسة الطب في خاركوف، أتلقى فيها دروسا في التمريض، وأنا الآن في جماعة التشيكا - الشرطة السرية - وأنا أبغض الشيء الكثير من فعالهم، ولكني أعمل في مداواة الجراح لا في التقتيل.
وينبغي لنا ألا نفقد الأمل أو نتخلى عن الكفاح منضمين إلى الآلاف من أشراف الناس أمثال ليهومانوف، وإن وجد بيننا أولئك الطعام والوحوش أمثال ذلك الرجل الذي هجم علي في هذه الليلة، وإنك لتجد في مقابل هذه الحادثة القذرة مائة من حوادث الشهامة والبطولة.»
ثم أسرت إلي بأن ذلك الرجل الذي هم بها لم يكن بحارا بحق، فهو قد عثر على حلة البحارة في مكان ما، ولبسها لأنها ترفع من شأنه في أعين الثوار.
ولما عدت أنا وجراشف على ظهري جوادينا إلى ضيعتنا في صباح ذلك اليوم حدثته بما وقع في أثناء الليل، وكان هو صانعا بسيطا لا يفهم إلا القليل مما يحدث في البلاد، ولكن أسبابا قوية أعادت إلى ذاكرتي في السنين التالية ما قاله لي وقتئذ: «نعم، يا فيتيا، لقد كانت تلك الممرضة على حق فيما قالته، إن في الثورة كما في كل شيء سواها ما هو خير وما هو شر، ولكن المسألة هي هذه: أي الطائفتين سيكون لها الغلبة حين تهدأ الثورة وتستقر الأمور، طائفة الأشراف أو طائفة الوحوش؟ أتكون الغلبة لأمثال ليهومانوف أم لأمثال البحار الزائف؟»
والآن ونحن نسير على مهل، كان في وسعنا أن نشاهد الجثث التي مررنا بها في مساء اليوم الماضي، وكنا نرى في بعض الأماكن تلالا من الأرض قد كومت حديثا، ودفن فيها الفلاحون أهل تلك الجهات بعض الموتى، وكان كثير من أجسام الموتى عاريا، وقل منهم من كانت في أرجلهم أحذية، فقد كانوا يجردون من ملابسهم ليكتسي بها الأحياء.
وأدخلت أنا وقنسطنطين في مدرسة إرستفكا الزراعية في كمسرفكا في أواخر فصل الحصاد الثاني، أي في خريف عام 1920م.
وكان هذا المعهد قد أنشأه في الجيل الذي قبل الثورة رجل من كبار الملاك في ذلك الإقليم يدعى إرستس برودسكي، كما كان ينفق عليه بكرم وسخاء، واقتطع الأرض اللازمة له من ضيعته الخاصة، وأقام له أبنية فخمة على ربوة تشرف على بحيرة جميلة، وبنيت بعض ردهاته على طراز القصور الأوكرانية القديمة، وغطيت الجدران بصور من رسم كبار الفنانين الذائعي الصيت، ونقوش من الفسيفساء تصور موضوعات شعبية، وكان بالمعهد بطبيعة الحال أحدث ما اخترع من الآلات الزراعية.
وامتدت أيدي السالبين أكثر من مرة إلى المدرسة، فدمرت بعض مبانيها ومناماتها حتى أصبحت غير صالحة للانتفاع بها، ونهب أثاثها، وانتزعت بعض الكتل الخشبية من جدرانها وسقوفها لتتخذ وقودا، وتلفت الآلات الزراعية ولم تجد من يصلحها، وتشتتت معظم الماشية التي كانت في إرستفكا، وهي ماشية ذائعة الصيت نالت الجوائز في معارض ويانه وبراج.
لكن كثيرا من قدماء المدرسين ظلوا في أماكنهم، وانضم إليهم مدرسون جدد، ومن أجل ذلك تجمع في المعهد نحو ستمائة طالب وطالبة قدموا من جميع أنحاء الروسيا ليدرسوا فيه العلوم الزراعية الحديثة، ويدربوا على أعمالها، على الرغم من القحط الشامل ونقص الأدوات، وكانوا يستعينون على العيش بما تخرجه أراضي المعهد من الحاصلات، وألفت الصعاب المشتركة بين المدرسين والطلبة، وكانت المدرسة تحت إشراف السوفيت، ولكن السياسة لم يكن لها إلا شأن قليل في سير الدراسة، وكان المشرفون علينا يسلمون بأننا حين نهيئ أنفسنا لأن نستخرج من التربة الروسية أكبر ما يمكن استخراجه من الطعام وأحسنه لنطعم به الشعب الروسي، إنما نعمل كل ما تنتظره «الثورة» منا.
وكنت أنا وأخي وطالب ثالث يدعى فيودور من أهل توابسي نسكن معا في كوخ يمتلكه أحد الفلاحين في هذا الإقليم، وولى الشتاء مسرعا وأقبل الربيع، واستبدلت بالدروس في حجر الدراسة الزراعة العملية في أملاك المدرسة، وكانت هذه الفترة عظيمة الفائدة لي، وتبينت فيما بعد أنني أخذت منها أكثر مما كنت أتوقع وقتئذ، فقد كان القليل الذي تعلمته من العلوم الزراعية عظيم النفع لي في أيام الزراعة الجماعية.
وعز الطعام وأخذ الحصول عليه يزداد صعوبة يوما بعد يوم، وفقدت النقود قيمتها، وكان ما بقي من التجارة يجري بطريقة المقايضة البدائية، ولم يكن في وسعنا أن نحصل على شيء من المعونة من المزرعة التعاونية، بعد أن انقلبت فكرة المشروعات التعاونية الخلابة إلى تخاصم وتطاحن وأحقاد توغر الصدور، وشرع المقيمون فيها يهجرونها أفواجا أفواجا، وأخذ المدخر من الخبز ينقص تدريجا، حتى استلزم الأمر فرض أشد القيود على توزيعه، ولم يكن الفقر كما يبدو بشيرا صالحا بالعالم الجديد، ولو كان هذا العالم بقعة صغيرة كأرض المزرعة التعاونية، أرض قرع الأجراس.
لكن المتاعب لم تكن لتوهن عزيمة غلمان في أوائل العقد الثاني من عمرهم، أو تدخل الرعب في قلوبهم، فقد تعودنا أن نعيش على الكفاف، وأن نخرج للبحث عن الوجبة الثانية، ولم يكن ذلك ليكلفنا كبير مشقة، فقد كانت قطر السكك الحديدية بكمسرفكا في هذا الربيع غاصة بالجند الذاهبين إلى ميدان القتال، حيث كانت رحى الحرب تدور مع البولنديين.
ولم يكن علينا إلا أن نأخذ من الجند بعض طعامهم، وكان في وسع الرفاق الثلاثة الذين يسكنون معا في إرستفسكا أن يقوموا بهذا العمل على خير وجه.
فقد كنا في أيام العطلات، وفي أيام الدراسة إذا استطعنا أن نسترق منها بضع ساعات، كنا في هذه وتلك نقيم عند محطة السكك الحديدية «حانوت حلاقة متنقل للطلاب»، وكان هذا هو العنوان الذي كتبه كوتيا على لافتة كبيرة بخطه الجميل، ومن تحتها كتبت العبارات التي تكتب على أمثال هذا الحانوت: «حلاقة اللحى وقص الشعر، خدمة طيبة ممتازة، يدفع الأجر سلعا»، وتحت هذه العبارات كلها كان التوقيع الذي لم يخل من فكاهة ساذجة: «جماعة العمل الذي لا خير فيه».
وكان فيودور قد تعلم شيئا من هذه الصناعة في بعض أسفاره، فتولى هو حلاقة اللحى، وتوليت أنا وأخي قص الشعر، وكان من نصائح فيودور لنا: «لا يهمكم هذا العمل، فهو كحصاد الكلأ في المراعي، ضربات طويلة هينة ثم تسوية أعقاب الشعر بعدئذ.»
وتجمع الجند حول الشبان الحلاقين الهواة، وسخروا منهم ودفعوا لهم نظير إثخانهم بالجراح أجورا سخية كما يفعل خلق الله الكرام، وكثيرا ما كنا نعود إلى رفاقنا نحمل لهم الشيء الكثير من الخبز واللحم والخضر وغيرها من المأكولات ، وكثيرا ما كان حانوت الطلبة الحلاقين المتنقل يرفع علمه أيام الآحاد في سوق المدينة، ويكسب من وراء ذلك أجورا طيبة، وكان الفلاحون يؤجرونهم بيضا وبطاطس بل ودجاجا في بعض الأحيان.
وما لبث هذا الكنز الثمين أن نضب معينه، فلم يكن لدى أحد من الناس طعام يؤديه أجرا لقص شعره، وكانت نذر الجفاف الذي حل في عام 1921م غير خافية، وأدرك الفلاحون هذه النذر فغلوا أيديهم وقطبوا وجوههم، ولما لم نجد في المدرسة ما نأكله عدنا إلى المزرعة التعاونية، فوجدنا أن نار الحماسة التي كانت تضطرم في صدور أهلها قد خبت، وحل محلها قنوط هادئ مستكين، وهجرها معظم أهلها الأولين فلم يبق منهم إلا القليل، وحتى هؤلاء كان معظمهم يعمل في المصانع القريبة منها.
وكنت وقتئذ قد بلغت السادسة عشرة من عمري، وكان بكربينو على بعد بضعة أميال من «دق الأجراس» مصهر معادن صغير أتمرن فيه، والتحقت في هذه القرية صبيا أتمرن على العمل عند صانع أقفال، وكانت هذه أول مرة أؤدي فيها عملا جثمانيا شاقا أؤجر عليه، وأحسست وقتئذ بأني قد كبرت بحق آخر الأمر، حين كنت أعود إلى بيتي في ملابسي الملطخة بالزيت، رث الهيئة، مصدعا من شدة التعب.
وخبت نار الفتن الأهلية أو كادت، وأصبحت مجالس السوفيت هي المسيطرة على البلاد لا ينازعها في الأمر منازع، وجاء دعاة الحزب إلى المصنع أحيانا ليخطبوا فينا وقت الغداء أو بعد الفراغ من العمل، وكان الشباب ذكورا وإناثا يصغون إلى هؤلاء الدعاة ويعون أقوالهم، أما الكبار فلم يكونوا في الغالب يلتفتون إليهم، وبعثت خطبهم فينا نحن الشبان بعض الأمل في هذا الوقت العصيب وقت الشدة والقنوط، وكنا نتردد أحيانا على ناد للعمال تزينه صور مطبوعة للينين وتروتسكي وماركس وأنجل، وحكم مكتوبة بحروف بيضاء على قطع من النسيج الأحمر.
وكنت أنا أستمع بشوق إلى المحاضرات التي يلقيها علينا رجال من المراكز العامة، بل إني كنت أجرؤ أحيانا على إلقاء بعض الأسئلة، وزادتنا الصعاب العاجلة المحيطة بنا أملا في المستقبل الموعود، وكنت أنا شخصيا أتقلب بين نارين: نار الشكوك التي تحيط بي في منزلي، ونار التعطش إلى الإيمان القوي. وأدركت في تلك الأيام اعتراض أبي على وسائل العنف التي يلجأ إليها الشيوعيون، ولكن خيل إلى عقلي الفتي على مر الأيام أنه متزمت في فضائله فوق ما يجب، وأن مثاليته أصبحت لسبب ما مثالية «بالية» في غير أوانها.
وكنت أحيانا أسأله: «ولم لا تأتي إلى النادي وتستمع إلى المحاضرات؟» وذلك لأني كنت أتوق إلى أن أستدرجه معي إلى الحياة الجديدة.
فكان يجيبني بلهجة الآسف الحزين: «وماذا يستطيعون أن يقولوا لي؟ لقد نسيت أكثر مما يعرفون، لا يا ولدي أشكرك، ليست البيضة هي التي تعلم الدجاجة.»
وما أن حل صيف عام 1921م حتى بلغ القحط غايته، وصحب القحط ذلك الوباء الذي لا يفارقه أبدا وهو وباء التيفوس، وأهلك القحط والوباء ملايين الأرواح قبل أن ينقضي عهدهما الرهيب، فقد حل القحط بالبلاد في أبشع مظاهره بعد سني الحرب الطوال والنزاع الداخلي، وتركز في إقليم الفلجا ولكن آثاره الرهيبة امتدت إلى ما وراء الدنيبر، وكان أشد الأقاليم قحطا بوجه عام أشدها انهماكا في الحرب الأهلية، كأن الأرض هي الأخرى قد جشأت لكثرة ما طعمت من الدماء.
وليس في مقدور الكاتب مهما كان بليغا أن يصف ما عاناه الشعب من أهوال وآلام؛ فقد كان الناس ينظرون إلى كل شيء حي - من خيل وكلاب وقطط وغيرها من الحيوانات المدللة - بعيون نهمة يائسة، وماتت الحيوانات التي لم تذبح من شدة الجوع، وكان الناس يلتهمونها التهاما رغم تحذير السلطات الرسمية مما يتعرض له آكلوها من الوباء، وكانوا يقشرون لحاء الأشجار ويغلونها ليتخذوا منها «شايا» و«حساء»، ويمضغون الجلد غير المدبوغ ليقتاتوا به، وانتزع من الحقول كل ما كان فيها من بقايا النبات والكلأ، وانتشرت الشائعات بأن الناس أخذوا يأكلون موتاهم، ويحزننا أن نقول: إن معظمها كان صادقا، فقد عرفت أنا نفسي حوادث من هذا القبيل في رومنكوفا وأولي وبنكوفا وغيرها من القرى المجاورة.
وأصبحت مناظر الموتى - الموتى المنتفخين البشعين - من المناظر المألوفة في حياة الناس، وشغل كل منا بنفسه وبحرصه على أسباب حياته، فلم يكن يلاحظ غيره من الناس أو يعنى بهم في سريرة نفسه أقل العناية. وأخذ الصالحون من الناس الذين لم يكونوا في الظروف المادية يطيقون رؤية آلام الغير؛ أخذ هؤلاء يخفون الطعام ليطيلوا حياتهم بضعة أسابيع أو شهور، دون أن يفكروا في جيرتهم الذين كانت تنتفخ بطونهم ويموتون حولهم من فرط الجوع.
وكنت أنا قويا سليم الجسم لا أحتاج إلا للقليل من الطعام والشراب ليحفظا علي حياتي، فركبت القطار مع غلام آخر في الضيعة يدعى سينا وذهبنا شمالا إلى إقليم بلطوا؛ لنبحث عن الطعام، وأخذنا معنا كل ما يمكن أن يستبدل به الطعام، من ملابس قديمة، وملاعق من فضة، ومجوهرات من أنواع مختلفة لم تعد لها قيمة، وفرشات وغيرها من الأدوات المنزلية؛ ذلك أن النقود أضحت في تلك الأيام عديمة النفع، أما البضائع فكان يمكن استبدال بعضها ببعض إذا واتى الإنسان الحظ.
ووصلنا بلدة بريلوكي بعد أيام قليلة وقررنا أن نجرب حظنا فيها، فوجدنا بها مئات غيرنا وفدوا إليها للغاية نفسها، واشتدت المنافسة بيننا، فوقفنا طوال اليوم في الأسواق نعرض بضاعتنا الهزيلة ونرجو الزراع أن يفحصوا هذه الكنوز، ولما حل المساء ذهبنا نجوس خلال القرى، ونتنقل من قرية إلى قرية، ومن بيت إلى بيت، يعيننا في عملنا أنا كنا كلانا صغيري السن، وأني كنت أستطيع أن أتحدث إلى الفلاحين بلغتهم الأوكرانية، وأخذنا في كل يوم نتخلص من بعض ما معنا، ونشهد أكياسنا تملأ سويقا ودقيقا وحمصا وفولا، ولم نكن نجد صعوبة في المبيت بمنازل الفلاحين، وخاصة إذا اتخذنا البنات اللاتي في مثل سننا وسيلة إلى هذه الغاية، وكان في وسع أولئك البنات أن يأتيننا بالملح والسكر وبعض الحبوب الزيتية واللحم المقدد وما إليها من مواد الترف نظير ما نقدمه لهن من الخواتم والحلى الرخيصة.
وكنت أنا وسينيا أسعد حالا من أي رجل من رجال المال استطاع أن يعقد صفقة بآلاف الريالات؛ وذلك أننا كنا نرد إلى أسرنا الحياة ونطيلها عدة شهور.
وركبنا القطار إلى موطننا وقد غص بالخلائق من رجال ونساء وأطفال كلهم عائدون إلى أقاليم المجاعة يحملون أكياسهم ولفافاتهم الثمينة، ولم نكن نجرؤ على إغماض أعيننا لئلا يسرق متاعنا، فلما أن وصلنا زنامنكا في ظلام الليل أقبل الجند وعمال السكك الحديدية وأمرونا بالخروج من عربة القطار، وتكدسنا في حجرة انتظار كانت قبل مجيئنا إليها غاصة بغيرنا من الخلائق البائسين، ولم يعرف واحد منا شيئا عن سبب إخراجنا منه وبقينا كلنا ننتظر وصول قطار آخر ونحن صابرون صبر العير، خلقه في نفوسنا طول العذاب وتبلد الحواس، فلما أقبل لم يستطع ركوبه إلا أقوى الناس أجساما وأسرعهم حركة وتخلفت عنه أنا وسينيا.
ولم يكن في حجرة الانتظار القذرة ضوء إلا فتائل زيتية، وكان الزحام شديدا، والناس مكدسين في الحجرة يسير بعضهم فوق بعض إذا أرادوا الذهاب إلى دورات المياه، والأطفال يصرخون في أماكن متفرقة من الحجرة والرضع يمتصون أثداء جافة خاوية، وكان في ركن من أركان الحجرة زوجان يتعانقان ولا يأبهان لنكات من حولهما من الناس.
ولكن الذي وجهت إليه أنظار من لا تزال لديهم بقية من حب الاستطلاع تحملهم على أن يوجهوا أنظارهم إلى شيء ما؛ منظر امرأة جاءها المخاض فأخذت تئن وتتوجع كما يتوجع الحيوان المصاب، ونحى النساء عنها من كان حولها من الناس، وجاء الرجال بدلاء الماء، ونسوا كفاحهم مع الجوع وهم يشاهدون حياة جديدة تخرج إلى العالم أمام أعينهم، وانبعث صراخ خافت من مولود جديد ينبئ أن المعجزة قد حدثت، وارتد الناس إلى ما كانوا فيه من شقاء.
ورأيت أم الطفل في الصباح مستلقية على أرض المحطة القذرة ووجهها أصفر لا أثر للدم فيه، وقد وضعت رأسها على كيس قذر أظهر هذا الوجه الشاحب في وضوح، وعلى صدرها المولود الجديد ملففا في خرق بالية؛ فرثيت لحالها، وأشفقت عليها، وتركت سينيا ليعنى بمتاعنا، ثم هرولت إلى القرية، وكان معي ثلاث روبلات فضية من العملة القيصرية، فجست خلالها نحو نصف ساعة كاملة، استطعت في خلالها أن أحصل على زجاجة صغيرة من اللبن الساخن، وملء صفحة خشبية صغيرة من حساء الخضر، فلما تقدمت بهاتين الهديتين ومعهما فوطة نظيفة إلى الشابة حدقت في ورمقتني بنظرة تنم عن اعترافها بالجميل، وعن أنها لا تكاد تصدق ناظريها.
وخاطبتني باللغة الأوكرانية قائلة: «شكرا لك أيها الشاب.» وكان لها عينان جميلتان في وجه بائس معذب، ثم واصلت حديثها قائلة: «ما اسمك؟»
فأجبتها: «فكتور أندريفتش.»
فقالت بصوت خافت ضعيف وهي تبتسم لأول مرة: «متعك الله بما تحب ووقاك من كل مكروه، سأسمي ابنتي فكتوريا حتى تذكر صنيعك هذا طول حياتها.»
وحدث وأنا عائد إلى سينيا في الطرف الآخر من الحجرة أن قام شاب وبش كان يرقب ما حدث، وصاح صيحة تنم عن الخبث والسفالة: «انظروا أيها الرفاق ها هو ذا أبو المولود!»
وكان أطول مني قامة بحيث لا يعلو رأسي عن كتفيه، عريض العظام، تبدو عليه مظاهر القوة والغلظة، ولكن الإنسان إذا غضب لا يحسب للعواقب حسابا، فاندفعت نحوه وضربته ضربة قوية، وما كان أشد دهشتي حين رأيته ملقى على الأرض، وعرف من لغط الحاضرين أنهم كانوا في صفي، فقام من فوق الأرض في هدوء، ومسح الدم الذي كان تحت أنفه، وعاد إلى حيث كان متاعه.
ولم يستقبل فاتح منتصر بأحسن مما استقبل به الشاب فكتور حين جاء إلى بيته، يرزح تحت عبء كيس من الطعام. وقمت في الشهور التالية بعدة رحلات في القطار وعلى ظهور الخيل، وكان صليب جدتي الذهبي آخر ما بعناه من كنوز الأسرة، فقد ظللنا محتفظين به طالما بقي لدينا شيء من الأمل بأنا نستطيع العيش دون أن نفرط فيه، ثم جاءنا العون بعد ذلك من أمريكا على يد جماعة الإخوان «الكويكريين»
1
وإدارة الإنقاذ الأمريكية التي أنشأها الرئيس هوفر وغيرهما من الجماعات، ولكن معظم هذه المساعدات كان يذهب إلى إقليم الفلجا، أما أوكرانيا فكانت على أبواب حصاد جديد، ثم عادت الحياة فيها ببطء إلى مجراها المألوف.
وعدت أنا إلى دكتي في حانوت صانع الأقفال في كربينو.
الفصل الرابع
الشباب في الجيش الأحمر
وجاء المحصول الجديد موفورا في صيف عام 1922م، وتجدد في صدور الناس أملهم في الحياة وحرصهم عليها، ودفنوا موتاهم وكانوا يعدون بالملايين، ولم يعد أحد منهم يذكر الكارثة التي حلت بالشعب كأنهم أخذوا على أنفسهم عهدا صامتا بألا يشيروا قط إليها، أو كأنها كابوس ليل لا يكادون يذكرونه إذا طلع النهار.
وحملت أشجار البستان في «دق الأجراس» حملا ثقيلا من الفاكهة، وامتلأت البركة سمكا، وهب النسيم من نهر دنيبر على حقول القمح يداعب سنابلها الذهبية، وعادت العذارى الأوكرانيات إلى الغناء جماعات في موسم الحصاد الجديد، ولشد ما اغتبطت لأني بلغت السابعة عشرة إلا قليلا، وقد خط شاربي، وأصبحت أستحي فجأة إذا شاهدت البنات، بعد أن لم أكن أعبأ بهن في الأمس القريب.
وصحت عزيمتي في هذا الوقت على أن أعمل في صناعة التعدين، ولعل لهذا صلة من نوع ما بهذا الفصل من حياتنا الزراعية الرخية الجديدة، فقد أصبحت أتحرق شوقا إلى أن أضرب بمعولي في باطن أمنا الأرض، وأن أبني على ظهرها وأتوسع، وما من شك في أن ما كنا نسمعه من المحاضرين في نادي كربينو لم يكن إلا عبارات عادية ليست بذات قيمة كبيرة، فهي لا تزيد على طائفة من القوانين يضعها الحزب الشيوعي ليستنهض بها همم العمال، ولكني كنت أرى في كل لفظة منها دعوة قوية إلى الجد والعمل.
وقال الخطيب ذات ليلة في مستهل الخريف: «أيها الرفاق، إن بلدنا في حاجة إلى الفحم وإلى المعادن وإلى الزيت وهي أعصاب الحياة في المستقبل، وأنا أدعو كل من كانت الثورة حبيبة إلى قلبه أن يذهب إلى المصانع والمناجم؛ ذلك أن جمهوريتنا السوفيتية في أشد الحاجة إلى أيدي الصناع القوية، فمناجم الفحم في حوض الدنتز مثلا تحتاج إلى الآلاف من الرجال.»
ونظرت إلى سينيا ونظر هو إلي، وأدرك كل منا أن صاحبه قد صحت عزيمته على ما صحت عليه عزيمة صديقه، وإن لم ينطق أحدنا بكلمة واحدة عن عزمه هذا.
ولما عدت إلى المنزل وأبلغت أهلي أني اعتزمت الذهاب إلى مناجم الفحم في حوض الدنتز حزن لذلك أبي وبكت أمي بكاء صامتا، وقالت لي: إني لا أزال غلاما وإني سأجد كثيرا من العمل ينتظرني في مستقبل الأيام، ولكنهما لم يحاولا قط أن يثنياني عن عزمي، وقضت أمي بضعة أيام تعد لي الثياب، ثم حزمتها وعلائم الحنو بادية على وجهها.
وأرسلنا إلى منجم من مناجم الفحم بالقرب من ألجفرفكا في إقليم ألشفسك، وكان هذا الإقليم من أقدم أقاليم الفحم في حوض الدنتز، ولكنهم أخذوا وقتئذ يوسعون دائرته كثيرا، وقضينا ليلتنا الأولى في ثكنات طويلة مظلمة، نام فيها مئات من الناس على أسرة من ألواح خشبية عارية، من طبقتين تعلو إحداهما الأخرى، وكانت الروائح الكريهة تنبعث من أجسام الناس المكدسة في الثكنات، ومن الطعام الفاسد والدخان الرديء، فلا نكاد نطيقها وأخذ بعض عمال المناجم القذرين يلعبون بأوراق قذرة، ويتبادلون أقبح الألفاظ في ضوء الفتائل الزيتية الخافت.
ولكن الغلامين القادمين من الدنيبر استغرقا في نوم عميق لما نالهما من التعب في أثناء سفرهما الطويل في قطار مزدحم بالركاب، فلما استيقظنا في الصباح لم نعثر لحقائب ملابسنا على أثر، فقد سرقت ونحن نائمان، ولم يبق لنا إلا الملابس القذرة التي سافرنا ونمنا وهي على جسمنا، وأخذنا نطوف بمحلة المعدنين، ولكن طوافنا لم يدخل السرور على قلبينا، فقد كانت هذه المحلة زقاقا طويلا قذرا تمتد على جانبيه أكواخ عتيقة وثكنات جديدة أقيمت في غير نظام، وكان يغمر المكان كله جو خانق من تراب الفحم، وسرعان ما خبت في صدرينا نار الحماسة التي كانت تتقد فيهما وتدفعنا إلى أن نقيم بأيدينا «صرح الاشتراكية»، وكان لا بد من أن تمضى أسابيع وأسابيع قبل أن يعود إلينا ما بدأنا به رحلتنا من غيرة وحماسة.
وأرسل سينيا إلى منجم في قلب إحدى غابات البلوط، أما أنا فكنت أتعس الناس حظا، فقد كان المتعلمون منا قليلين؛ ولذلك أصر أحد موظفي نقابة العمال على أن أعمل في مكتب من مكاتب الإدارة، وهكذا تكشفت الصورة التي رسمتها لنفسي، صورة رجل يضرب بمعوله ومصباح التعدين مشدود إلى جبهته، عن حقيقة لم أكن قط أتوقعها، وهي أن أقبض على قلم للكتابة وجداول للعد والحساب.
وقضينا الشهور الأولى في ثكنة من الثكنات الضخمة القذرة التي حشد فيها القادمون الجدد، ثم حصلنا بعدئذ على حجرة في أحد الأبنية الصغيرة التي يقيم فيها المعدنون القدامى أو الدائمون، وما كدت أتعود تراب الفحم وظروف الحياة البدائية حتى زال ما كان في هذه الحياة من ملل وسآمة، وأصبح فيها شيء من الحماسة والمتعة، فقد ألفيت نفسي فيما يكاد أن يكون قطاعا مستعرضا من الهيئات الاجتماعية التي تتألف منها الدولة السوفيتية، أو كأن نماذج قد أخذت من جميع هذه الهيئات وجيء بها كلها في ذلك المكان.
وكانت الكثرة الغالبة فيه تتألف من الروس والأوكرانيين بطبيعة الحال، ولكنه احتوى أيضا على التتار والأرمن والصينيين وأهل القفقاس الجبليين وقازاق من سهوب سيبيريا، وكان من هؤلاء عدد قليل جاءوا كما جئت أنا وسينيا ليعملوا جادين في تصنيع البلاد، وأكبوا على عملهم جادين بحماسة وغيرة وطنية، أما معظمهم فقد جاءوا لأن الأجور التي يتقاضونها أجور عالية إذا قيست إلى مستوى الأجور في قراهم؛ ولذلك فإن آلافا منهم لم يبقوا إلا ريثما يقتصدون من هذه الأجور ما يكفي لشراء بقرة أو حصان أو بناء بيت جديد.
ذلك أن أهم ما كانت تعنى به الإدارة في تلك الأيام هو رفع أجور العمال حتى تتجاوز كل حد معقول.
ولم تكن قلوب هذه الشعوب المختلفة تنطوي على شيء من الحب المتبادل، ولم يكونوا ينزعون إلى المعيشة متفرقين فحسب، بل كانوا يعملون أيضا متفرقين؛ فكان الشرقيون يعملون في أعمق المناجم وأكثرها مشقة، أما الروس والأوكرانيون فكانوا يقومون بالأعمال الهينة على أن الفروق التي كانت تفصل الطبقات كانت أوسع من الفواصل التي كانت تفرق بين الأجناس، فكانت «بقايا» الشعب القديم من أبناء التجار وملاك الأراضي والقساوسة والموظفين والضباط السابقين في العهد القديم والطلاب الأقدمين؛ كان هؤلاء جميعا يشعرون أنهم غرباء ويحقرون علنا ولا يكاد يطيقهم أحد.
وكانت حياة الثكنات حياة خشنة لا تخلو في كثير من الأحيان من القبح والفظاظة، كان الرجال يشربون الفدكا من الزجاجات، فإذا لعبت الخمر برءوسهم صرفوا نشاطهم في التطاحن والتلاكم، ومنهم من كان يقامر ويجادل بأعلى صوته في أسخف الموضوعات؛ ولقد أبصرت عمالا لا يخسرون في ألعاب الورق كل أجورهم فحسب، بل يخسرون معها آخر حذاء لهم، ويخسرون غطاءهم الذي لا غطاء لهم غيره، وكانت أندية العمال وفصول محو الأمية والمكتبات تجتذب إليها عددا قليلا من الصناع الذين طبعوا على الجد والتعقل.
وكان من أسباب متعتي أن أرقب ما يطرأ على صبيان الفلاحين من تطور؛ فقد كانوا يأتون خرقا سماجا واسعي الأعين ليتصلوا لأول مرة بالعالم الكبير خارج قراهم، وكانوا يحتذون نعالا من الأعشاب وسراويل واسعة من غزل منازلهم وصدريات قروية طويلة، وإذا شاهدوا «صعاليك» الصناع والغرباء العجبي الأطوار القادمين من أطراف الروسيا النائية دهشوا لمنظرهم وأخذ منهم العجب كل مأخذ.
ولكنهم سرعان ما كانوا يتبدلون إلى غير ما كانوا إن لم نقل إلى أحسن مما كانوا، فقد كان كثيرون منهم يعودون من المدن وعلى أجسامهم ملابس ابتاعوها من مخازنها، حليقي اللحى متعطرين، يحتذون أحذية جديدة ذات صرير جميل، ويطلبون إلى المصورين أن يصوروهم في زيهم الجديد الجميل ليدهشوا بصورهم أهلهم وذويهم، وكانوا يتبخترون في المحلة جماعات جماعات يمرحون ويصخبون على نغمات المزمار، ومنهم من كانت تجتذبهم النوادي وفصول مكافحة الأمية، وسرعان ما شرع هؤلاء «يأسون» لما كان عليه أصدقاؤهم من «تأخر» ونقص في «الثقافة» ويناقشون الشئون السياسية كأنهم ولدوا في غمرة السياسة من آباء سياسيين.
أما أنا فقد كان النادي محور حياتي بطبيعة الحال، وقد عاد إلي شغفي بالقراءة كاملا بعد أن قطعته الحرب الأهلية والمجاعة إلى حين، ولم أكن أنا وأمثالي نقنع بما في متناول أيدينا من كتب المكتبة، بل كان كل منا يستعير الكتب من الآخر، وكنت في كل مساء وفي أيام العطلات أدرس مناهج في الكيمياء والرياضيات والطبيعة أو أستمع إلى محاضرات فنية عن استخراج الفحم، وارتبطت أنا وسينيا برباط الصداقة مع فتيان وفتيات لا يقلون عنا شغفا بالعلم، وأكسبتني دراستي السابقة شيئا من النفوذ بين الشبان من العمال الممتازين بجدهم، وبين أبناء الكبار منهم.
وامتلأت أعمدة الصحف بالدعوة إلى حياة خير من حياة البلاد الأولى، وأخذت تنشر على الناس أن روسيا الفقيرة المتأخرة تسير في طريق الرقي، وأن الروس جميعا لم يبق أمامهم إلا أن يخرجوا فحما أكثر مما يخرجون، وينتجوا حبا أكثر مما ينتجون، وينالوا من الثقافة أكثر مما ينالون، وكنت أقرأ هذه الدعوة كأنها موجهة إلى شخصي، وكان هذا وذاك من كبار الزعماء الجدد أمثال بتروفسكي، وركوفسكي، بل ولونا تشرسكي نفسه يمرون بالإقليم الذي كنا نعمل فيه، فكنت أصغي لأحاديثهم فأشعر أني جزء من شيء جديد كبير مثير للعواطف، فقد عرفت منهم أن في قصر الكرملن بموسكو يجلس رجال لا نسميهم بأكثر من الرفاق - لينين وتروتسكي وزرزنسكي - ولكني كنت أعرف أنهم جبابرة.
وإذا رجعت بذاكرتي إلى تاريخي الخاص تحت لواء الشيوعية، فإني أميل إلى إرجاع تاريخ اعتناق مبادئها إلى الوقت الذي أقبل علينا فيه الرفيق لزريف، وألقى علينا سلسلة من المحاضرات عن الاشتراكية، وكان لزريف رجلا في نحو الثلاثين من العمر، ومن أعضاء هيئة التدريس بسفرولفسك، طويل القامة، نحيف الجسم، أنيق الملبس؛ وكان حديثه سهلا مقصورا على ألفاظه هو لا يلجأ فيه إلى عبارات ينقلها عن ماركس أو لينين، وكان أهم ما انطبع في ذهني منه أنه يلبس رباط رقبة؛ لأنه بذلك قوى حجة القائلين منا بأن في وسع الإنسان أن يكون مواطنا سوفيتيا صميما، وأن يبيح لنفسه مع ذلك بعض الكماليات التي هي من خصائص الطبقات الوسطى.
وكنت في أحد الأيام في المكتبة منهمكا في قراءة كتاب وإذا إنسان من خلفي يقول: «ماذا تقرأ؟ يهمني أن أعرف ذلك.»
فالتفت وإذا الذي يحدثني هو الرفيق لزريف.
فارتبكت ولكني أجبته وأنا أبتسم: «أحاديث الأب جيروم كوينارد لأناتول فرانس.»
فقال: «أصحيح هذا؟ أناتول فرانس! ولم لا تقرأ للكتاب الروس الأقدمين أو لأحد الكتاب السوفيت المعاصرين؟»
فأجبته: «إني أجد في أناتول فرانس أشياء كثيرة لا أجد لها نظيرا في مؤلفات كتاب السوفيت، فأناتول كاتب دقيق صريح، وأنا أقرأ للكتاب الروس الأقدمين، أما المؤلفون المحدثون فهم لا يكتبون إلا في السياسة، ويخيل إلي أنهم يتحاشون الكتابة عن الحياة الحقة المحيطة بنا.» - «شيء جميل، فلنبحث هذا في إحدى الليالي المقبلة، تعال إلى حجرتي لنتعارف.»
والتقيت به مرة أخرى بعد بضعة أيام في أثناء «دورة العمل»، وهي الدورة التي يؤتى فيها بمئات المتطوعين ليقوموا بعمل عاجل لا يتقاضون عليه أجرا، وكان العمل في هذه المرة نقل أكوام كبيرة من الفحم لإخلاء طريق عام، وكان الرفيق لزريف يرتدي ثياب العمل، يغطيها تراب الفحم، وفي يده مجرف يدفعه بنشاط عظيم، وحياني الرجل كأنه صديق لي قديم واغتبطت بذلك أيما اغتباط.
والتقيت به في تلك الليلة نفسها في المكتبة، وسألني عما كنت أقرؤه في ذلك الوقت فأجبته بأني أقرأ «ماذا تفعل؟» تأليف تشرتشفسكي.
فأومأ برأسه علامة على الاستحسان وقال: «هذا مؤلف عظيم الشأن.»
فأجبته: «أجل، وإن سؤاله الذي يقول ماذا تفعل ليحيرني الآن.» - «إنه سؤال قد تلقى الإجابة عنها ملايين الناس من لينين ومن ماركس قبل لينين، فهل قرأت لينين وماركس؟»
فأجبته: «قرأت أشياء قليلة متفرقة للينين، أما ماركس فلم أقرأ له شيئا، ولقد قرأت نشرات الحزب بطبيعة الحال، ولكني غير واثق من أن فيها إجابة وافية عن هذا السؤال: ماذا تفعل؟»
فتبسم الرفيق لزريف وقال: «تعال معي إلى حجرتي لنشرب قدحا من الشاي، ونتناول بعض المرطبات، ونتحدث دون أن نشوش على أحد.»
وكانت حجرة نظيفة ساطعة الضوء، فيها أريكة مغطاة بطنفسة جميلة، ومكتب صفت عليه كتب بين حاجزين بنظام جميل، وآنية ملونة تحتوي على أزهار ذات لون بهيج، وعلقت على أحد جدرانها عدة صور لأفراد أسرته، ومنها صورة له وهو غلام يرتدي حلة المدرسة العليا الرسمية، وعند قدميه كلب، ومنها أيضا صورة لأخت له حسناء وقد ارتدت هي الأخرى زي الطالبات ، وعلقت على جدار آخر وفي إطارين منفصلين صورتا لينين وماركس الشمسيتان، وبينهما صورة تولستوي المألوفة في شيخوخته، وعليه رداء الزراع الطويل، وإبهاماه مثبتتان في منطقته، وكانت هذه الصورة الأخيرة هي التي نفثت روح الحماسة في صدري، واستمالتني إلى المذهب الجديد.
وقلت وقتئذ في نفسي: «ليس هذا بحارا جلفا يهاجم ممرضة ليلا، إن في وسعي أن أتبع هذا الصنف من الشيوعيين.»
وقال لزريف يشرح ما كانت تحدثني به نفسي: «لما كنت مضطرا إلى الإقامة هنا عدة أشهر فقد حاولت أن أجعل هذا المكان شبيها بمنزلي.»
وظللنا نتحدث في تلك الليلة عدة ساعات عن الكتب وعن الحزب وعن مستقبل الروسيا، وقال لي لزريف: إن المكان اللائق بي هو أن أكون مع الأقلية الشيوعية التي يجب أن ترشد الناس وتهديهم، وإن من واجبي أن أنضم إلى لجان الشباب، ثم إلى الحزب نفسه بعدئذ، وأقر بطبيعة الحال أن الحزب ليس مبرأ من العيوب، ولعل في برنامجه بعض النقص، ولكنه قال: إن الرجال أجل شأنا من البرامج.
وواصل حديثه قائلا: «إذا كان أمثالك من الشبان النابهين ذوي المبادئ يترفعون عنا فأي أمل لنا في الإصلاح؟ لم لا تدنو منا أكثر مما دنوت، وتعمل معنا للقضية العامة؟ إن في وسعك أن تقدم المعونة لغيرك بأن تكون لهم مثلا يحتذى في الإخلاص لوطنك، انظر إلى الثكنات من حولك؛ تر المقامرة والأقذار والسكر والشره، حيث يجب أن تكون النظافة والكتب والنفوس الطاهرة، إن عليك أن تدرك أن أمامنا أعمالا عظيمة تحتاج إلى جهود جبارة، إن أمامنا أقذارا تراكمت على مر القرون لا بد لنا من إزالتها، إن علينا أن نجتث الماضي العتيق القذر من أصوله الضاربة في كل مكان، ونحن من أجل ذلك في حاجة إلى خير الرجال، إن من واجبنا يا فيتيا ألا نقنع باشتراكية صورية، بل علينا أن ندعم أركانها بحسن الخلق والتعليم وتهيئة أسباب البهجة والحياة السارة للجماهير.»
ولم تكن هذه أول مرة ألح علي فيها الشيوعيون بأن أنضم إليهم، ولكني أحسست فيها بصدى المبادئ التي كانت تمتلك علي نفسي في أثناء طفولتي تتردد بين جوانحي، وأخذت أحاجج الرفيق لزريف، ثم قلت له آخر الأمر: إني سأفكر في ذلك الموضوع، ولكني كنت في خبيئة نفسي متفقا معه فيما قاله، وكان رأيي قد استقر.
ولما سافر الرفيق لزريف إلى موسكو بعد بضعة أسابيع من ذلك الوقت كنت أنا مع الجمع الحاشد - من عمال المناجم وموظفي المكاتب وكبار رجال الإدارة - الذي اجتمع لوداعه في محطة السكك الحديدية.
ووجه إلي الحديث دون سائر الحاضرين وقال لي: «ها أنت ذا يا فيتيا، لقد ترامى إلي مصادفة أنك انضممت إلى لجان الشباب، لقد أحسنت صنعا! وأهنيك! ولكن لم لم تخبرني؟ لقد كان في وسعي أن أزكيك.» - «أعرف هذا وأشكرك، ولكني أردت أن أعتمد في هذا على نفسي، وألا أجعل لأحد يدا علي.»
فتبسم وقال: «قد تكون على حق، وها هي ذي هدية صغيرة ادخرتها لك خاصة.»
وكانت الهدية كتابا، ظننته أول الأمر من كتب لينين أو ماركس، واطلعت على اسم الكتاب وأنا عائد إلى منزلي، فإذا هو يحتوي على ثلاث روايات لشيكسبير، لقد كان لزريف الشيوعي المتحمس، والزعيم القوي العامل، يجمع في شخصه بين إنسانية تولستوي وحب الجمال الممثل في شيكسبير، وبين الإيمان بمبادئ ماركس ولينين، ترى هل يدوم هذا المزيج؟ وهل يعقد لواء النصر لمن هم على شاكلة لزريف؟
والآن أصبحت لحياتي رسالة تؤديها، وغرض تهدف إليه، واتسعت آفاقها، وكأني نذرتها نذرا جديدا إلى قضية تعمل لها لتبلغ بها غايتها، وأصبحت أرى نفسي واحدا من طائفة مختارة اصطفاها التاريخ لتخرج بلادي والعالم بأجمعه من الظلمات إلى نور الاشتراكية، ولست أشك في أن قرائي سيظنون هذا كبرياء مني وادعاء، ولكنه هو الذي كنا نتحدث عنه ونشعر به، ولربما كان بين كبار السن من الشيوعيين من يسخرون من هذه المبادئ ومن يعملون لمآرب شخصية، أما نحن المبتدئين المتحمسين فلم يكن بيننا أحد من هؤلاء.
وكانت الامتيازات التي آلت إلي بوصفي أحد «المختارين» أن أكون أكثر من غيري كدحا، وأن أحتقر المال ، وأن أطلق المطامع الشخصية، وكان علي ألا أنسى مطلقا أنني عضو في لجان الشباب أولا، ورجل ثانيا، وخيل إلي أن انضمامي إلى اللجان، وأنا في إقليم من أقاليم التعدين «والغمرات الصناعية» مما يكسب هذا الحادث الجديد معنى لا أدري كنهه، شبيها في اعتقادي بذلك الشعور الذي كان يسري في نفس شاب من أبناء أعيان البلاد حين يبدأ حياته في بلاط القيصر، فهو شعور بأن صاحبه ينتمي إلى فئة من الفئات، وأنه لم يعد فردا مستقلا يعمل لنفسه.
ولم يعد هناك متسع من الوقت أقضيه في ضروب التسلية الصغيرة، فقد امتلأت حياتي بالواجبات، من محاضرات تلقى، ومسرحيات تمثل لعمال المناجم، ورسائل «حزبية» تدرس وتناقش، ولم يكن يغيب عنا في وقت من الأوقات أن من بيننا سيخرج زعماء الغد ليحلوا محل لينين وبوخارين؛ ولذلك أخذنا نكمل أنفسنا ونعدها لأن تتولى الزعامة، لقد كنا نحن الحواريين في هذا الدين المادي الجديد.
ولما تبين للرؤساء أني أعرف الكتابة والخطابة بلسان طلق فصيح اختاروني على الفور لأن أكون أحد ناشري الدعوة الشيوعية، وانتخبت عضوا في كثير من اللجان المختلفة، ونشرت الدعوة بين من لم يكونوا يؤمنون بالمبادئ الشيوعية، وكان لي شأن أيما شأن في الحفلات المتعددة، وكانت هذه الحفلات تقام في مناسبات لا حصر لها، فضلا عن أيام العطلة الثورية الدورية، فإذا ركبت آلة جديدة في مصنع من المصانع، أو حفر منجم جديد، أو تم إنتاج طائفة معينة من السلع، نظمت لذلك مظاهرات تصدح فيها الموسيقى وتلقى الخطب، لقد كان الفحم في غير بلادنا فحما لا أكثر، أما عندنا فكان «وقودا» لتسيير قاطرات الثورة.
وبفضل وساطة الرفيق لزريف نقلت إلى العمل في المناجم، فلم أعد أحسد سينيا على هذه الميزة، وكونا نحن الاثنين مع طائفة من الشبان الذين يعملون في المناجم جماعة تعاونية تضطلع ببعض الأعمال وتتقاضى نظير اضطلاعها بها أجرا بوصفها وحدة، وكان الزعماء وقتئذ يشجعون هذا النظام التعاوني، رغبة منهم في زيادة الإنتاج، وكان أعضاء الجمعيات الصالحة يكسبون في الغالب أكثر مما يكسبه عمال المناجم العاديين، لكن هذا الكسب كان أقل ما نعنى به، فقد كان همنا الأكبر أن نقوم بأصعب الأعمال وأكثرها خطورة، وذلك لحرصنا على أن نثبت غيرتنا وحماستنا بالأعمال لا بالأقوال، بل إننا اتخذنا لأنفسنا شعارا أبلغناه إلى ولاة الأمور، وهذا الشعار هو: «إذا كان الشيء لازما، فإن عمله مستطاع.»
وكان أعضاء جمعيتنا التعاونية يسكنون معا في بيت نظيف مريح مزود بالكتب النافعة، وكنا نتناوب تنظيف الأرض وغير ذلك من الأعمال المنزلية، ولم يكن يخالجني شك في أن زعماء السوفيت والكتاب الروس الأقدمين المنتشرة صورهم على جدران بيتنا يعجبون بهذا المثل الرائع من «الثقافة» وسط ذلك الجو من التأخر، وكان من بين هذه الصور صورة سرجو أورزنكدز أحد المقربين من لينين، والذي أصبح فيما بعد وزير الصناعات الثقيلة، وكنت من المعجبين بوجهه الكرجي الخشن، وأنفه الكبير الأقنى، وشاربيه الأشعثين المتهدلين، ولعلي كان يوحى إلي إيحاء غامضا بأن هذا الرجل سيصبح يوما ما نصيري - وإن شئت فقل ملهمي - في أكثر السنين نشاطا من حياتي الشيوعية.
وكنا بطبيعة الحال نجيز لأنفسنا في بعض المناسبات أن نقضي ليلة نستمتع فيها بشيء من الأنس والمرح، وكان الأصدقاء والرفاق يميلون إلى الاجتماع في بيتنا، فقد كان بيتا مطبوعا بطابع «المدنية»، وكان ما يدور فيه من الحديث «راقيا» رفيع المستوى، وكان واحد منا يجيد العزف على القيثارة، وكنا نحن نغني ونرقص ونتجادل حتى ينقضي من الليل أكثره، وكان عدد من أجمل بنات الحي يشتركن معنا في هذه الحفلات، وكنا إذا استمتعنا بسهرة من السهرات أكثر مما يجب، شعرنا جميعا بشيء من الندم، وفرضنا على أنفسنا جزاء خطيئتنا هذه عقابا شيوعيا بأن نزيد من عملنا ودرسنا ومناقشاتنا السياسية في الأيام التالية.
وحدث في أواخر الخريف حادث خطير ابتليت فيه جهودنا وصبرنا على العمل، وعرف فيه هل كنا نؤمن حقا بهذا المبدأ الذي كنا نفاخر به، وتفصيل الحادث أن الماء غمر أحد المناجم، وأقيمت كتل خشبية حول جدرانه لتمنعها أن تنهار، ولكن العمل لم يقف بل سار فيه سيره المعتاد، وعرضنا نحن أن نعمل في هذا المنجم لنضرب المثل للعمال العاديين الذين كانوا يعملون فيه، ومعظمهم من التتار والصينيين.
وكنت أنا في داخل المنجم أعمل بكل ما وهبت من قوة، والماء المثلوج يغمرني إلى ركبتي، ثم خيل إلي أن الدنيا كلها ترتجف وتصر وتئن، وسمعت أحد الناس يصرخ من الفزع، أو لعلي كنت أسمع صوتي بأذني؛ ذلك أن جزءا من فتحة المنجم قد انهار، ولما فتحت عيني بعدئذ ألفيت نفسي في حجرة كبيرة مطلية الجدران بطلاء أبيض، على سرير في صف من صفوف أسرة المستشفيات، وكان طبيب في ميثرة بيضاء يجس نبضي، وممرضة حسناء متوسطة العمر تقف إلى جانبه وبيدها لوح وقلم رصاص، وحيتني الممرضة بابتسامة لطيفة حين رأتني أفيق من غشيتي.
وقالت لي: «ستشفى يا رفيق كرافتشنكو، فلا تقلق»، وأومأ الطبيب برأسه ليؤمن على ما قالت.
وقالا لي إني ظللت في الماء داخل المنجم المنهار ساعتين أو ثلاث ساعات، وإن العامل الصيني الذي كان بجواري قتل، وإن الأمل في نجاتي كان في أول الأمر قليلا، فإذا لم تكن جدران المنجم المنهارة قد قضت على حياتي فقد كنت لا محالة هالكا غرقا في الماء المثلوج، ولكن ها أنا ذا أصبت بحمى شديدة وبكدمات في ساقي، غير أني فيما عدا هذين سليم الجسم، ثم تطورت الحمى فيما بعد إلى التهاب رئوي.
ومن عجب أن الشهرين اللذين قضيتهما في مستشفى ألجفرفكا قد بقيت ذكراها ماثلة في ذهني، وأني أعدهما من ألذ الفترات في شبابي، فقد كان الناس إذا تحدثوا عن قصة جمعيتي التعاونية وما بذلته من جهد في المنجم المنهار أحاطوهما بهالة من المجد والبطولة الاشتراكية، وكنت أنا فيهما أحد الأبطال، وزارني في المستشفى عدد من رجال الحزب ونقابات العمال، وكان يتردد علي في أوقات منتظمة فتيان وفتيات من لجنة الشبان التي أتبعها ومعهم في كل زيارة بعض الهدايا الصغيرة، وكنت لا أزال في المستشفى لما حان عيد ميلادي الثامن عشر، فأقبل علي أعضاء الجمعية التعاونية وأصدقاؤها مجتمعين، وأظهروا لي من المودة ما أثلج صدري.
وكانت الممرضة الحسناء تعاملني كأني ولدها، والحق أني وأنا ضعيف في دور النقاهة كنت أحس بأن الروسيا كلها قد تبنتني - الروسيا بعمالها ولجان شبابها ورجالها الرسميين - وأني كنت الابن المحبوب لأسرة كبيرة عجيبة.
وأمرني الأطباء ألا أعود إلى المناجم إلا بعد سنة على الأقل، وأصروا على أمرهم هذا رغم إلحاحي الشديد، وأبلغوا القرار إلى رجال الإدارة، ولم أكن أحب قط أن أرجع إلى أعمال المكاتب؛ ولهذا تأهبت للعودة إلى المزرعة التعاونية وإلى إيكترنوسلاف.
وبينا أنا أعد العدة للرجوع، وإذا الأنباء تأتينا في الرابع والعشرين من شهر يناير سنة 1924م بأن لينين قد مات، وكانت الصدمة التي حلت بهذا الركن من أركان وادي الدنتز صدمة حقة لا تكلف فيها ولا رياء، كما كان الحزن الذي سرى في نفوس أهله حزنا عميقا أقض مضاجعهم وأكسف بالهم، ولم يكن الباعث على هذا الحزن ذا صلة بالسياسة، فقد أصبح لينين في عرف الفحامين السذج، حتى المقامرين منهم في الثكنات والمعربدين والمختالين المتفاخرين بأحذيتهم ذات الصرير، بله شباب الحزب أنفسهم، لقد أصبح لينين لهؤلاء وأولئك رمزا للأمل المرجو، لقد كنا كلنا في حاجة إلى الاعتقاد بأن ما قاسيناه في تلك السنين الدامية إنما هو غرس سيخرج أينع الثمار في مستقبل زاهر بسام؛ ولذلك أحس كل منا بأنه أصابته هو نفسه خسارة لا تعوض.
ومشيت على قدمي مع آلاف غيري من العمال ثلاثة أميال حتى وصلنا إلى مكان الاجتماع التذكاري خارج مكتب النجم، وهو المكان الذي كان يطلق عليه اسم «مزرعة باريس التعاونية»، وكان ذلك في عجز النهار، والجو بارد قارس البرودة، والثلج يتساقط، والريح تحز في أجسامنا حز السكاكين، وأقيمت منصة في الخلاء غطيت بقماش أحمر وأسود، وإن كان الثلج المتساقط لم يلبث أن غطى كل جزء منها، وتعاقب عليها الخطباء، وقد علت أصواتهم على هزيم الريح، وأخذوا ينطقون بعبارات الحزن الرسمية.
وقام مندوب متباه من أهل خاركوف وصاح بأعلى صوته: «أيها الرفاق المعدنون، لقد مات لينين، ولكن العمل الذي قام به لا يزال يتقدم حثيثا، إن زعيم الثورة العمالية ... وزعيم الطبقات العاملة في العالم أجمع ... وخير تلاميذ ماركس وأنجل ...»
وكان لهذه الكلمات الرسمية أسوأ الأثر في نفسي، وعجبت لهم لم لا يتكلمون بأبسط الألفاظ تخرج من قلوبهم لا من أقلام محرري صحيفتي برفدا وإزفستيا، ولشد ما سرني وأنا عائد متثاقل إلى بيتي وسط الزوبعة الثلجية، أن أعرف أن سينيا وغيره من الرفاق كانوا يشعرون بنفس الكآبة التي أشعر بها، لقد كنا كلنا نحس بأن الخطباء عجزوا عن التعبير عما نشعر به نحو لينين؛ لأن ما نشعر به كان أقل صلة بالزعيم الراحل منه بآمالنا الحية.
وقرأنا في الصحف المحلية بعد بضعة أيام من ذلك الوقت نص القسم الذي أقسمه ستالين على نعش لينين في الميدان الأحمر في موسكو، وكان هذا القسم عهدا قصيرا أشبه شيء بالطقوس الكنسية، أخذ فيه على نفسه أن يسير في الطريق الذي رسمه له الزعيم الراحل، وأثر في هذا العهد أكثر مما أثرت في الخطب التي ألقيت في اجتماعنا التذكاري، وكان ستالين وقتئذ عضوا في الهيئة السياسية صاحبة السلطة العليا في البلاد، وأمين السر العام للحزب، وكان من بداية الأمر أحد أعضاء الحزب البارزين، ولكني لم أحس بوجوده إحساسا حقا قويا قبل هذه المرة، وعجبت كيف لم تعلق صورته على جدران بيتنا!
وأخذ اسم ستالين من ذلك اليوم يذيع ويعظم ويتردد على كل لسان، حتى ليصعب على الإنسان أن يذكر وقتا لم يكن فيه اسم هذا الرجل القوة المسيطرة على شئون حياتنا.
لم أقض في إقليم التعدين أكثر من عام واحد، ولكن مع ذلك لم أجد من السهل علي أن أنتزع نفسي من الحياة التي ألفتها فيه، ولو أن إنسانا أخبرني في صباح ذلك اليوم المقبض الذي قدمت فيه إلى ذلك الإقليم بأني سأحب ذلك المكان الأجرد، وأهله الأجلاف، وعمله المقبض؛ لظننت به جنة، غير أني أخذت من بادئ الأمر أشعر بشعور عمال المناجم، وأرى عيوبهم ونقائصهم، ولكني أراها كما يراها العمال أنفسهم، فتثير عطفي عليهم، لا كما يراها الخارج عنهم فلا تثير فيه إلا النقد والتجريح.
من أجل ذلك كانت حياة عمال مناجم الفحم التي غلبت عليها الكآبة والفساد، وتعرضت لأشد الأخطار، تثير في نفسي عطفا شديدا عليهم ورأفة بهم قربتهم إلي، فليس بصحيح أننا لا نحب إلا ما يشرح الصدر ويلذ العين، بل إن ما يثير الحزن أو يرتد عنه الطرف قد يستحوذ هو الآخر على الخيال والحواس، والناس يحبون ما تهتز له أوتار قلوبهم، ويربطهم بالأماكن وأهلها ما تبعثه وما يبعثونه فيهم من عواطف ولو كانت عواطف محزنة بعيدة كل البعد عن السرور والبهجة، وشاهد ذلك أني لم أنس قط الأيام التي قضيتها في مناجم الفحم، وما فتئت أحس بأني قريب من مستخرجيه سكان العالم السفلى المظلم.
وركب معي في القسم الذي كنت فيه من عربة القطار الذي أقلني من حوض الدنتز ستة مسافرين، ولم نلبث أن ثار الجدل بيننا كما هي عادة جميع الروس، وكنت أنا أصغر الجماعة سنا، ولكني شعرت بأن من واجبي أن أدير دفة الحديث؛ ذلك أني بوصفي عضوا في لجان شباب الحزب الشيوعي أرى فرضا علي أن أغتنم كل ما يتاح لي من الفرص لأنشر الدعوة إلى الحياة السعيدة المقبلة وأشرح أسباب المتاعب العاجلة وأهون من أمرها.
وقال واحد من الركاب وكان من رجال الفكر: «إنك أيها الرفيق لا تفتأ تتحدث عن حياتنا الحاضرة وكيف أصبحت خيرا مما كانت في الأيام الماضية، ولكني لا أرى فرقا بين هذه وتلك، فنحن كما كنا لا نجد الخبز ولا الكيروسين ولا الأحذية، وكثيرا ما أرتجف أنا وزوجتي من البرد الذي تتجمد منه أطرافنا، ونقضي نصف أيامنا بلا طعام، لعمري إن هذه ليست حياة، بل أخلق بها أن تسمى محنة ...»
وكان هذا الذي يحدثني رجلا كهلا نحيل الجسم رقيق الملامح، يلبس على عينيه منظارين سميكين في إطار ذهبي، ويرتدي معطفا من معاطف الربيع وإن كنا في غير الربيع، وحول رقبته لفاعة من الصوف مما تلتفع به النساء، وفي قدميه جوربان أبيضان يظهران من خروق حذاءيه.
وسأله راكب آخر قائلا: «معذرة يا سيدي، أي عمل تقوم به؟»
فأجابه بلهجة المتحفز: «أنا مؤلف موسيقي، أكتب المقطوعات الموسيقية.»
فقال الأول في سخرية لاذعة: «آه، إنك مؤلف موسيقي، ومن ذا الذي يحتاج إلى مقطوعاتك؟ من ذا الذي يطلب في هذه الأيام الأنغام التي يرقص عليها الناس في أيام البهجة والسرور؟ اذهب إلى المصنع يا صديقي واعمل فيه عملا حقا تقل أسباب شكواك.»
فصاح مؤلف الموسيقى في حماسة شديدة: «إذن ينبغي للناس كلهم أن يعملوا في المصانع! ألا يحتاج السادة الجدد الذين يقيمون صرح الاشتراكية إلى الموسيقى؟ أم هل يريدون أن نكون كلنا آلات بلا أرواح؟» - «نعم إنك على حق، فلسنا في حاجة إلى الألحان والنغمات الموسيقية الملعونة، بل الذي نحتاجه هو أن نزيد إنتاجنا من السلع.»
وقطع عليهم حديثهم رجل ثالث فقال محتدا: «إن الأرواح لم يبق لها وجود.»
فلما سمع المؤلف هذا صاح بأعلى صوته: «إذن لم يعد ثمة فائدة في مناقشتكم، فأنتم من الرعاع، ومن العبث أن أضيع وقتي في التحدث إليكم.»
واستعنت في هذه اللحظة بما يمليه علي مركزي في لجان الشبان الشيوعي لأنقذ الموقف، فقلت في جد ووقار: «اسمحوا لي أن أتحدث إليكم جميعا، إنكم تتجادلون متحمسين أكثر مما يجب أن تتحمسوا، ولكنكم لا تفهمون ما تتجادلون فيه حق الفهم، إذا لم يسؤكم مني هذا القول، لست أنكر أننا لا نزال تنقصنا أشياء كثيرة جدا، ولكننا نبذل كل جهودنا لسد هذا النقص، وسيكون لنا عما قريب كل ما نحتاج إليه بما في ذلك الموسيقى.
قد لا يكون هذا المواطن موسيقيا بارعا مثل تشيكوفسكي، ولكنه إذا كان يؤلف مقطوعات موسيقية جميلة، فإنه هو أيضا يعمل على إقامة صرح الاشتراكية، لقد جئت توا من مناجم الفحم، وأنا أدرك شدة حاجتنا إليه، ولكني أؤكد لكم أن حاجتنا إلى الموسيقى لا تقل عن حاجتنا إلى الفحم نفسه؛ ذلك أن من واجبنا أن نحتفظ بحرارة أرواحنا كما نحتفظ بحرارة أجسامنا.»
وتبين لي أن عبارتي كان لها أكبر الأثر في نفوسهم، ولم أكن في حاجة إلى أن أخبرهم أني أحد الصفوة المختارة، فقد كان صوتي ينم على أني من ذوي السلطان، ثم تطرق الحديث إلى موضوعات شتى قبل أن يصل بنا القطار إلى دنيبروبتروفسك، وهو الاسم الذي سميت به إيكترنوسلاف وقتئذ، وكنت أنا في جميع الأحوال المحكم في الخلاف وصاحب الرأي الأخير، ولعل الذين كانوا يخالفونني في الرأي آثروا الحكمة على الشجاعة، ولم يحاجون رجلا من شباب الحزب الشيوعي؟
ووصلت المزرعة قرب المساء، والتقى بي كلبي ركر في الطريق، فلما رآني بلغت الحماسة منه غايتها، ونظرت إلى نافذة كوخنا فشاهدت أمي تقرأ في ضوء مصباح كيروسين وقد تقدمت بها السن قليلا، وهزل جسمها قليلا، وشاب شعرها قليلا، وفتحت الباب بخفة، وناديت وأنا أحاول تغيير صوتي: «هل تقيم المواطنة كرافتشنكو في هذه الدار؟»
فصاحت ودموع الفرح تنحدر من عينيها: «فيتيا، حبيبي، عزيزي!»
وعرفت خلال السهرة ما وقع حولهم من أحداث، عرفت أن المزرعة التعاونية قد قضي عليها، وأن الأسر التي لا تزال تعمل فيها لا تزيد على ثلاث أو أربع، وأن بعض الأسر الأخرى لا تزال تقيم بها ولكنها كلها تشتغل بالصناعة في المدن القريبة، وأن أبي وإخوتي قد عادوا إلى دنيبروبتروفسك، وأنهم يتقاضون فيها أجورا طيبة، وأنهم يرجون أن يجدوا قبل الربيع شقة من حجرتين أو ثلاث حجر تلم شمل الأسرة من جديد.
أما مباني المزرعة التعاونية فقد أهملت وخيمت عليها الكآبة، فقد تصدعت سقفها في كل مكان، وانفصلت أبوابها، وانتزعت العروق الخشبية من الجدران والسقف واتخذت وقودا، وقال الفلاحون في الأماكن المجاورة: ها أنت ذا ترى أن الشيوعيين لا يستطيعون أن يفلحوا الأرض، وأن كل ما يستطيعون فعله أن يقبضوا على الناس ويجبوا الضرائب، وجاء بعضهم لزيارتي حين علموا بمقدمي، وكانوا يعاملونني بالاحترام الواجب للرجل الذي خبر العالم الخارجي، وأمطروني وابلا من الأسئلة عن مقاصد «السلطة الجديدة» نحو الزراعة ونحو أرضهم.
وكذلك أحاط بي العمال في مصنع كربينو وأخذوا هم أيضا يوجهون إلي الأسئلة، وارتجلت أنا الأجوبة التي خيل إلي أن الواجب يقضي على عضو في لجان الشبان أن يجيب بها عن أسئلتهم ، وألقيت بعد بضعة أيام خطبة في نادي المصنع عن حياة عمال مناجم الدنتز، وما من شك في أني في حديثي هذا قد جعلت الحياة في هذه المناجم تبدو لهم جميلة جذابة إلى حد ما، وإن لم أقف على ما فيها من صعاب وعيوب، وعلى أثر ذلك أعلن أربعة من عمال كربينو الشبان أنهم يعتزمون الذهاب إلى المناجم ليعملوا فيها، فأعطيتهم أسماء موظفي نقابة العمال الذين يتقدمون إليهم وعناوينهم.
وقطعنا كتلة كبيرة من الخشب وأصلحنا باب الدوار - وكانت لا تزال لنا فيه بقرة واحدة - ثم غادرت المزرعة إلى المدينة، وكان أبي وأخي الأصغر أوجين يعملان في مصنع بتروفسكي-لينين في استخلاص المعادن وسبكها، ولم ألبث إلا قليلا حتى انضممت إليهم لأعمل في المعمل الميكانيكي، أما أخي قنسطنطين فكان يعمل في مصنع آخر في دنيبروبتروفسك (وكان الاسم الذي أطلقه السوفيت على إيكترنوسلاف لا يزال غريبا غير مستساغ)، وبقيت في هذا العمل نحو ثلاث سنوات حتى بلغت سن الحادية والعشرين، فدعيت إلى الانضمام إلى الجيش الأحمر عملا بقوانين الخدمة العسكرية.
وكانت المصانع التي نعمل فيها - وهي مصانع استخلاص المعادن وسبكها - تتكون من عدة أبنية، وتشغل عدة فدادين على أطراف دنيبروبتروفسك، وكان يعمل فيها نحو 24000 رجل وامرأة، وتعد من أكبر المشروعات الصناعية في روسيا الجنوبية، واشتهر هؤلاء العمال قبل الثورة في الإضرابات والمشاغبات، فجعلوا بذلك لهذه المصانع شيئا من الأهمية التاريخية، وفيها كان يعمل الرفيق بتروفسكي رئيس جمهورية أوكرانيا السوفيتية في أيام شبابه كما كان يعمل فيها غيره من كبار الزعماء الشيوعيين في بداية أمرهم.
وكانت هيئة الحزب الشيوعي فيها ومنها لجان الشباب تضم حوالي ألفي عضو، وكانت أعمال الدعاوة على الدوام قائمة على قدم وساق، وكثيرا ما قدم إلينا كبار الزعماء أمثال بتروفسكي وركوفسكي وكجانوفتش ليخطبوا في اجتماعات المصنع، وأخذ نشاطي في أعمال لجنة الشباب يزداد زيادة مطردة، وأخذت أدرس عدة برامج فنية شغلت معظم وقتي بعد فراغي من العمل، واضطلعت بدور هام في المناقشات الأدبية والسياسية التي كانت تقوم في نوادي المصنع المختلفة.
على أن السنين التي انقضت بعد قيام الثورة لم تزد أبي ميلا إلى الشيوعيين، نعم إنه لم يكن ينكر أن كثيرين منهم كانوا رجالا شرفاء مخلصين صادقي النية، ولكنه كان يرى أن الثورة خيبت ما كان يرجوه منها في شبابه، ولست أنكر كذلك أنه لم يتدخل قط في نشاطي في لجنة الشباب، وأنه كان يسره أن يراني أشق لنفسي طريقا في المجتمع الجديد الذي حولي، ولكنه لم يستطع أن يحاجز نفسه من حين إلى حين عن توجيه الأنظار إلى ما يتمتع به الموظفون ورؤساء المهندسين من رغد العيش، وما يعانيه صغار الصناع من بؤس وشقاء.
ومن أقواله لي: «إننا يا بني نتحدث عن الوحدة، ولكن انظر إلى المسكن الفخم الذي يسكن فيه الرفيق ن، وإلى ما يتمتع به من سيارات وثياب غالية، ثم انظر بعد ذلك إلى الثكنات التي يحشر فيها العمال الجدد القادمون من القرى كما يحشر السردين في العلب، وانظر إلى مطاعم رجال الإدارة تر الحجرات النظيفة والطعام الشهي، أما مطاعم العمال فإن أي شيء يصلح أن يقدم لهم فيها ...»
فكنت أرد عليه قائلا: «تمهل يا والدي، إن لدينا مشاكل كثيرة تتطلب جميعها الحل في وقت واحد.» - «أنا أعرف ما لديكم من مشاكل، ولكني أعرف أيضا أن الثغرة التي تفصل الطبقات العليا عن السفلى لا تضيق، بل تزداد اتساعا. إن السلطة شيء خطر يا فيتيا.»
وارتقيت بعد قليل من المعمل الميكانيكي إلى مصنع الأنابيب، ولم تمض علي في هذا المصنع الثاني سنة واحدة حتى كنت من رؤساء العمال فيه، وارتفع أجري ارتفاعا صلحت بسببه شئون الأسرة المالية، وكنا أربعة أشخاص نتقاضى أجورا فاستطاعت أسرتنا أن تعيش في رغد رغم ارتفاع الأثمان، وكانت السياسة الاقتصادية الجديدة - التي جعلت التجارة الخاصة عملا مشروعا - قد أدت إلى فتح مئات من الحوانيت والمطاعم والمقاهي، وكان في وسع الإنسان أن يحصل على كل ما يريد تقريبا إذا كان معه مال يبتاعه به.
وأخذت في كل يوم أزداد صلة بالكبراء من رؤساء العمال ، وكبار الموظفين المشرفين على المصانع، وموظفي الحزب ونقابات العمال؛ ومن أجل هذا أصبحت أرى الحياة السوفيتية بعين زعمائها، وأخذ هذا الميل يقوى في يوما بعد يوم على الرغم مني وعلى الرغم من تحذير والدي لي من أن أقطع الصلة بيني وبين الجماهير، أما أخواي جيني وكوتيا فلم تتقد في صدريهما نار الحماسة السياسية، وكان حسبهما أن يعملا جادين ولا يشتركا في مظاهرات ولا اجتماعات إلا إذا لم يكن لهما بد من الاشتراك فيها، وكانا يقبلان الدعاية الشيوعية الرسمية كما يقبلها سائر العمال العاديين بكثير من الريب والشكوك.
وكثيرا ما كان جيني يقول لي وهو يحاورني: «إن كل شيء فيك يا أخي الأكبر ينبئ بأنك ستكون من رجال البيروقراطية الشيوعية على شريطة ألا تسمح لإنسانية والدنا الخيالية أن تضلك.»
ولعل ربيع عام 1927م لم يكن يختلف في شيء عن ربيع الأعوام التي جاءت قبله أو بعده، لكن مباهج هذا الفصل ستبقى أبد الدهر أعظم منها في سائر الفصول، وستبقى مساويه أخف من مساويها جميعا؛ ذلك لأن فيه أخذت نار الحب تضطرم في قلبي، وكان اسم من أحببت أنا، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها زرقاء العينين ذهبية الشعر.
التقينا في وليمة في منزل أحد مفتشي الحوانيت، ولم نكن نتصافح باليدين حتى انمحى من أمامنا منظر الوليمة والضيوف، فلم يعد له وجود.
وكان والد أنا كبير المهندسين في أحد الطرق الحديدية الرئيسية، وكان بعيدا كل البعد عن المجتمع السوفيتي الجديد، وإن كان قد نشأ في أسرة من العمال وانضم وهو طالب علم إلى الجمعيات الاشتراكية السرية، أما أمها فقد ظلت تحتفظ بما انطبع في نفسها قبل عهد الثورة من شذوذ في الخلق ومن احتقار «للرعاع»، وظل شعوري بأن أنا ليست من «صنفي» كامنا تحت ستار عواطفي الملتهبة أيام كان حبي الحقيقي الأول متوقدا في صدري، وكانت تتظاهر بأنها تهتم بنشاطي في لجنة الشباب الشيوعي ، ولكني كنت أعلم علم اليقين أن هذا النشاط يضايقها، ولم تحاول والدتها قط أن تخفي احتقارها للشيوعيين ودعاواهم ، ولمركزي الاجتماعي الوضيع الذي لا يعدو أن يكون مركز رئيس عمال في مصنع.
وسمعتها ذات ليلة تقول لأنا وهي متبرمة: «لو أن صديقك عضو لجنة الشباب كان مهندسا على الأقل!»
وكانت أنا نفسها يتقسمها تأثير مدرستها السوفيتية والوسط الرأسمالي الذي كان يحيط بها في منزلها، واستطعنا أن نقضي معا شهرا في استراحة مصنعي على شاطئ نهر الدنيبر، وكانت تقابل كل دعاوتي الحزبية بالابتسام وهو حجة لم أجد لها قط جوابا.
ولكني أنا وهي أدركنا أن زواجنا أبعد من مناط النجم، وإن لم يصرح أحد منا بما يعتقد؛ لأننا لم نكن متفقين في «التفكير».
وقد يبدو هذا غريبا، ولكن هذه الحقيقة لا يستطيع فهمها إلا من عاش في زمان وفي مكان طغت فيهما السياسة على كل شيء، فلما عدنا إلى دنيبروبتروفسك افترقنا وبعدت بيننا الشقة، ولما غادرت المدينة للانضمام إلى الجيش في أواخر عام 1927م، كان كلانا يعرف أن فراقنا هذا فراق أبدي، على أنني قابلتها بعد أربعة عشر عاما من ذلك الوقت في مخبأ من الغارات الجوية بمدينة موسكو.
كانت الحدود الممتدة بين إمبراطورية آسيا الوسطى السوفيتية الواسعة الرقعة ذات الشمس الساطعة وبين فارس وأفغانستان وولاية كشمير الهندية، والتي يبلغ طولها ألفا وخمسمائة ميل، كانت هذه الحدود من زمن بعيد مسرحا للقلاقل والحروب بين الروس وقبائل البسمتشي الضاربة على طول هذه الحدود، وكثيرا ما ذكرت البلاغات الحربية أن هذه القبائل قد «أبيدت عن آخرها»، ولكنها كانت تعود مرة أخرى للظهور وهي أشد ما تكون شراسة، تشن غارات جديدة وترتكب فظائع جديدة.
وظلت أعمدة الصحف عدة سنين تفيض بالقصص المثيرة عن أعمالهم المروعة وطباعهم الذميمة، فكانت تصورهم كأنهم عصابات من قطاع الطرق المتوحشين لا هم لهم إلا شن الغارات للنهب والسلب بتحريض رؤساء الدين المسلمين، يستأجرهم الأمراء المخلوعون ويستخدمهم البريطانيون في أغراضهم الاستعمارية، وكان هؤلاء الناس كما تصورهم الصحف الروسية قساة غلاظا إلى أبعد حدود القسوة والغلظة، يعذبون أسراهم من السوفيت، وكان من عاداتهم المألوفة - كما تقول تلك الصحف - أن يدفنوا الأسرى في الأرض إلى مناكبهم، ويتركوهم على هذه الحال حتى يموتوا تدريجا من فرط الجوع والحر والظمأ، أو تلتهمهم الحشرات والنسور وهم أحياء.
وهذه الصورة التي ترسمها الصحف لأولئك القوم لم تكن تخلو من تناقض، فالتلصص والسلب لا يفسران ما كانت تتصف به جماعات صغيرة من البسمتشي من عناد وجرأة في هجومهم على قوات الجيش الأحمر النظامية الحسنة التسليح، والتلصص لا يتفق كل الاتفاق مع خضوع أولئك القوم لنفوذ الملا الديني أو مع صلاتهم السياسية بالأمراء المسلمين وبالبريطانيين.
ولما زدت علما بتلك المشكلة فيما بعد تبين لي أن القصة كما ترويها هذه الصحف من صنع الدعاوة السوفيتية، وأن البسمتشي لم يكونوا في واقع الأمر إلا وطنيين ديدنهم حرب العصابات يشنونها على المغيرين الأجانب الذين يعتقدون أنهم قضوا على استقلالهم القومي، وأنهم كانوا يعرضون حياتهم للخطر ليردوا عن بلادهم أولئك الذين يريدون أن يطمسوا معالم دينهم ويحولوهم عن تقاليدهم، فهم في المبدأ إن لم يكونوا في التفاصيل، يشبهون الوطنيين الهنود الذين كانوا يحاربون البريطانيين في الناحية الأخرى من الحدود.
وكان الحكام الروس في العهد القيصري يجبون الخراج من آسيا الوسطى، ولكنهم يتركون الأمراء والرؤساء الدينيين يسيطرون على البلاد، ولا يمسون النظم السائدة فيها، أما السادة الجدد فقد أخرجوا الأمراء من ديارهم باسم الإلهين الجديدين: لينين وماركس، وأخذوا يسخرون من العقائد الإسلامية ويستوردون آلات «الكفرة» وأفكارهم ليوقظوا البدو الرحل من سباتهم الطويل، وكانوا إلى هذا يفسدون عقول الشباب بما ينشرونه بينهم من الأفكار الغريبة، بل إنهم كانوا يحرضون النساء على خلع النقاب وحرقه والخروج من عزلتهن.
هذه هي المخاوف التي جعلت عصابات البسمتشي المتحصنة في تلال إيران، وفي مدن السهول الأفغانية، وفي التركستان الأصلية، تقاتل السادة الجدد وتظهر في قتالها الكثير من ضروب البطولة والحماسة، وما من شك فوق هذا في أن أهل آسيا الوسطى كانوا في السنين الأولى من هذه الحروب على الأقل يعطفون على أولئك الوطنيين، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الجنود الذين اختيروا لقتال أولئك القوم كلما ثاروا لم يكونوا من الكتائب المحلية بل من بلاد الروسيا الأصلية.
ولكن القصة كما يرويها السوفيت لم تكن تخلو هي الأخرى من عناصر صادقة؛ مثال ذلك أن ما وصفت به البسمتشي من عنف وقسوة لم يكن مبالغا فيه كثيرا، فلقد روى لي شهود عيان وبعض من نجوا من هذا العنف وتلك القسوة وهم قليلون، تفاصيل مروعة عن أعمال أولئك القوم، ومما لا ريب فيه أيضا أن النهب والسلب وتجارة المهربات الرابحة كانت تمتزج بروح الحماسة الدينية والسياسية التي تضطرم به صدور هذه العصابات المحاربة، حتى ليصعب على الإنسان في بعض الحالات أن يرى أين تنتهي الوطنية وتبتدئ المنافع المادية.
ومهما يكن من أمر أولئك القوم فقد كانوا مقطوعي الصلة بالشباب من الصناع والفلاحين في أوكرانيا، فقد كان كل ما نعرفه من هذه الأحداث - إن كنا نعرف عنها شيئا على الإطلاق - أنها مأساة دموية مروعة في عالم قاص لا يكاد أحد يعرف مكانه، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى أصبحنا جزءا من هذه المأساة يدفعنا إليها حب المغامرة المتألق سناه أمام أعيننا، ولكن كان من وراء هذا التحمس الظاهر قلوب تحس بما يتهدد حياتنا من خطر فيقلق ذلك بالنا بعض القلق.
ووضع منا أربعة وعشرون - كلهم مجندون جدد من إقليم دنيبروبتروفسك - في سيارة نقل لتسافر بهم إلى بلاد البسمتشي، وأخذنا نغني ونقص القصص ونحن جد فخورين؛ إذ وقع علينا الاختيار لنكون من فرقة الفرسان المنتقاة التي تعسكر في جمهورية التركمان السوفيتية، لكنا تذكرنا في أثناء الليل ونحن في العربة المظلمة ما سمعنا أو قرأنا عن قسوة البسمتشي ووحشيتهم.
ثم سرى في قلوبنا حنين إلى أوطاننا، ودار حديثنا حول البنات اللاتي خلفناهن وراءنا، وحدث أن كان كستيا ابن عم حبيبتي أنا من بين هؤلاء المجندين، فأثار وجوده بيننا وما ينتظر من فراقي الطويل لها نار الحب الكامنة في قلبي.
ثم قدمنا إلى باكو مدينة «الذهب الأسود» وقضينا فيها بضعة أيام فأنسانا ما فيها من حركة دائمة كل ما كنا نفكر فيه من قبل .
لقد كان هذا المركز العظيم من مراكز الزيت خليطا عجيبا من الأساليب الشرقية والتنظيم الصناعي الحديث، وكان أهلها مزيجا من الروس والمغول، يلبس معظمهم ملابس الغربيين، ولكن الكثيرين منهم يرتدون ملابس أهل الشرق الأدنى الفضفاضة، ذات الألوان الكثيرة الزاهية والستر الضيقة الوسط التي تصل إلى الركبتين، والقبعات المستدقة المصنوعة من الفراء، والتي يلبسها سكان سهوب قزاقستان، وفي شوارع المسلمين الضيقة التي يتضوع منها أرج الطيب رأيت لأول مرة النساء المحجبات في مآزرهن السابغة المعروفة بالبرنجات، وقد غطين وجوههن بنقب مثلثة الشكل من شعر الخيل، فكن أشبه بالزكائب المتحركة لا تستبين لهن شكلا ولا سنا.
وستظل مدينة باكو أيضا مرتبطة في مخيلتي بمنظر البحر العظيم الذي وقعت عليه عيني لأول مرة، ذلك أن القادم من داخل البلاد ينطبع في ذهنه منظر الماء الممتد إلى ما وراء الأفق فلا ينسى هذا المنظر أبدا، وكانت رائحة الزيت تملأ جو المدينة كله، بل خيل إلي أن هذا الزيت قد امتصته وجوه سكانها كلهم وأيديهم.
وانضم إلينا في باكو مئات من المجندين جيء بهم من أنحاء متفرقة من البلاد، وعبرت بنا النقالة الصغيرة كلنتي بحر الخزر إلى ميناء كرستوفدسك، وقضينا بعض الوقت عند شاطئ البحر قبل أن نركب القطار إلى أسخاباد، ورأينا على رصيف الميناء أكواما من البطيخ الأصفر كأنها قنابل المدافع، وشاهدنا التركمان الضخام الأجسام السمر الوجوه، معظمهم ملتحون، وكلهم عراة الصدور والبطون، وعلى رءوسهم عمائم من مناديل ملونة، يقذفون البطيخ إلى رفاق لهم في سفينة قذفا منتظما، وهم يغنون أهازيج مطربة بصوت عال.
وكانت تبدو على أسخاباد - التي سميت فيما بعد استاليناباد - مسحة شرقية تكفي لأن تشبع رغبة الشباب في اجتلاء كل ما هو جميل، فقد كانت تخترقها شوارع ضيقة غير مرصوفة، تتلوى بين جدران عارية من اللون، خالية من النوافذ، تلتقي في ميادين مشتبكة صاخبة بعضها ذات سقف، وتتردد في أسواقها أصداء مطارق الأساكفة والحدادين وغيرهم من الصناع، يعملون في الهواء وهم جلوس مطويو السيقان، والنساء المسلمات في كل مكان كأنهن عمد قائمة لا شكل لها ولا لون، غير أنك كنت ترى أحيانا إحداهن ترفع طرف نقابها المتخذ من شعر الخيل، وتشير في دلال ظاهر إلى الروس السمجاء الأغبياء.
واستقبل القطار الذي أقلنا عند وصوله بالموسيقى والمظاهرات، ووقف العمال الذين جاءوا من مصانع القطن ووجوههم كالحة لا تستبين فيها معنى من المعاني، بينا كان الموظفون يلقون الخطب الرنانة يحيون بها الرفاق البواسل الذين جاءوا ليحرسوا الحدود من البسمتشي الأوغاد، ولم يكن لدي من الأسباب ما يجعلني أشك في أقوالهم وقتئذ، ولكنني فيما بعد تولتني الحيرة، فلم أدر لم لا يجند من أهل البلاد من يحرسون الحدود؟ ثم عرفت بعد ذلك أيضا أن الجيش الأحمر لم يكن في تلك البلاد إلا جيش احتلال في بلد أجنبي بالرغم من كل ما تلوكه الألسنة من دعاوى الزمالة.
وأقلتنا العربات من أسخاباد إلى المعسكر الكبير القائم على الحدود الإيرانية، والذي أقمت فيه طوال السبعة أو الثمانية الأشهر التالية، وأقمنا في الثكنات الطويلة الجرداء التي كانت مقرا للجنود في عهد القياصرة السابق.
وكان الإقليم الذي اجتزناه في طريقنا إلى المعسكر صحراويا في أكثر جهاته، منه بقاع صفراء جرداء، ومنه بقاع مغطاة بالحسك العطري الجاف، أما الإقليم المصاقب للحدود فكان ذا مناظر متعددة متباينة، يكثر فيه النبات الأخضر الغض، ونزلنا عند سفوح سلسلة الجبال التي تحرس حدود إيران من جهة الشمال.
وبدأ تدريبنا العسكري بحمام بخاري وتطهير ملابسنا وقص شعرنا حتى أصبحت رءوسنا ولا فرق بينها وبين وجوهنا، وخطبة سياسية ألقيت علينا، ولقنا أن ليس بين البسمتشي والجنود الحمر من صلات إلا أن نقتلهم أو يقتلونا، وقيل لنا: إننا سندعى للطواف في أماكن خطرة، فرادى أو أزواجا، ليلا أو نهارا، وإننا في حاجة إلى كثير من اليقظة والفروسية وإتقان الرماية، وقضينا بعدئذ في التدريب عدة أسابيع، لم يدخر فيها أحد منا جهدا حتى أقلنا طموحا.
ولم نكد نبدأ العمل حتى انضممت إلى أسرة محرري حرس الحدود الأحمر، وهي صحيفة المعسكر، وكنا نحن أعضاء لجان الشباب أقلية بين الجنود ونهضنا بالتبعات الملقاة علينا على خير وجه، وكان النظام الدقيق الذي يسود المعسكر الحربي يسري فيه قدر كبير من الروح الديمقراطي، فلم نكن نتردد في أن ننقد في صحيفة المعسكر الأحوال السائدة فيه أو الضباط أنفسهم، وكثيرا ما كنا نذكرهم بأسمائهم.
وكان من بين أولئك الضباط رجل يدعى جالشكا أغضب الجنود بفظاظته وسوء خلقه، وكنت أنا أطيعه وأنفذ أوامره دون تردد أو تذمر؛ لأني وأنا محرر في الصحيفة أحببت أن أكون حرا فيما أوجهه له من نقد، وألا يكون هناك شك في أني أطيعه بوصفه ضابطا، وإن كنت أشعر أن من واجبي أن أوجه إليه سهام النقد بوصفي محررا في صحيفة المعسكر.
ومضت فترة من الوقت تظاهر فيها بأنه لا يعبأ بالمقالات القصيرة التي أخذت عليه فيها أنه يرفع صوته على الجنود، ويوجه إليهم ما لا يليق من الألفاظ، ويستبد بهم، ولكنه لم يلبث أن خضع واستسلم.
وجاءني يوما من الأيام وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، إني أريد أن أتحدث إليك.» وقال لي ونحن في طريقنا من الثكنات إلى الإصطبلات إنه لا يعرف قط سببا يحملني على اضطهاده، وسألني هل يليق بعضو في لجان الشباب أن يقوض دعائم سلطة قائد من قواد الجيش الأحمر؟
فأجبته وأنا معتد بنفسي اعتداد شاب في الثانية والعشرين من عمره: «إن الذي أهدف إليه يا رفيق جالشكا هو أن أدعم سلطتك لا أن أوهنها، فإن ظللت تعامل رجالك كأنهم أقذار لا قيمة لهم، فإنهم سيحتقرونك ولا يطيعونك إلا وهم كارهون، أما إن عاملتهم معاملة الآدميين والرفاق السوفيت، فإنهم سيطيعونك وهم راضون مغتبطون، وإذا جد الجد فإن هذه المعاملة قد تكون هي الفيصل بين النصر والهزيمة في ميدان القتال.»
وعقدنا اتفاقا فيما بيننا - بين الضابط والجندي البسيط - أخذ فيه على نفسه أن يهذب خلقه، ووعدته أنا ألا أتعرض له في حرس الحدود الأحمر، وأغرب ما في هذه القصة أن القائد جالشكا لم يف بوعده فحسب، بل أصبح فوق ذلك من أحب الضباط إلى الجنود في هذه الحملة، وكان هذا في نظره غريبا كل الغرابة، فقد كان إذا تولى القيادة تمنى الجنود أن يسيروا تحت لوائه، وإذا سار بنا إلى معركة محفوفة بالخطر عجبنا من شجاعته تحت وابل الرصاص.
ولما تم تدريبنا أرسلنا إلى مطاردة المهربين والبسمتشي في جنح الظلام؛ ولم نكن نعجز عن الحصول على معلومات سرية من عيون مأجورين عن الحركات الدائرة على جانبي الحدود، فقد كان الناس يتلقفون نتفا من المعلومات في المقاهي الفارسية والأفغانية عن البضائع الواردة أو الصادرة، وعن الحملات التي تدبر للإغارة على القرى السوفيتية، وكان الوسطاء ينقلون هذه المعلومات القليلة إلى قيادة الجيش الأحمر.
وكثيرا ما كانت الحملة تخفق في الالتحام بالطريدة بعد البحث الطويل، وكان الطرفان يتبادلان الطلقات أحيانا، ولكن وقعت مرة واحدة على الأقل في أثناء خدمتي ملحمة عجيبة تحمل فيها الطرفان بعض الخسائر، وأقول ملحمة عجيبة؛ لأنها دارت في ليلة مطيرة حالكة الظلام، كان فيها كل من الطرفين يقاتل عدوا لا يراه.
وتفصيل ذلك أن رجلا ملتحيا من التركمان، على رأسه قبعة عالية من الفراء، أرشد قواتنا في تلك الليلة إلى مكان قال مستندا إلى ما وصله من الأنباء: إن في وسعنا أن نقطع فيه الطريق على قافلة من المهربين، وسرنا على خيولنا سيرا وئيدا نحو ساعة من الزمان في جو مطير زمهرير، وكنا نقف من حين إلى حين ننصت لعلنا نسمع صوتا، حتى استطعنا في آخر الأمر أن نتتبع أثر العدو، فأرسلنا الصواريخ في السماء لتنير لنا ما حولنا برهة وجيزة، ثم أمرنا تارسوف - رئيس كتيبة القسم السياسي وقائد هذه الحملة - أن ننتشر ونبدأ الهجوم.
وظللت بعض الوقت أطلق الرصاص على غير هدف في اتجاه الأصوات التي أمامي، ثم لم أشعر إلا وأنا أكاد أسقط على رجل من التركمان اقترب مني حتى استطعت أن أرى عينيه في الظلام، ورأيته يصوب بندقيته نحوي، ولكنني استطعت أن أسبقه إلى إطلاق الرصاص عليه، وسقط الرجل عن جواده، ولكن يبدو أنه لم يصب إلا بجرح غير قاتل؛ لأنه حاول أن يطلق الرصاص علي مرة ثانية، فقفزت عن ظهر جوادي، وانتزعت البندقية من يده، وأمرته أن يقف.
ورأيت أمامي رجلا متقدما في السن، عريض اللحية، يداه مرفوعتان فوق رأسه، والدم يسيل على خده، ونطق ببضع كلمات بلسان قومه، ثم بكى، وأيقنت أنه يتوسل إلي أن أبقي على حياته، فانتزعت خنجره من جرابه، وأرسلته إلى أحد الضباط.
وانتهت المعركة قبل شروق الشمس، وفر كثيرون من المهربين بلا ريب، ولكن عددا كبيرا منهم جيء بهم إلى معسكرنا، ومعهم كثير من الجمال المثقلة بالأحمال، وقبل أن تغرب شمس اليوم كانت كتيبة من الرماة قد أعدمت كل واحد من الأسرى التركمان رميا بالرصاص؛ عملا بأوامر كبار الضباط.
ثم عينت بعدئذ أنا وكوتيا وبعض الجنود في أحد المراكز الأمامية على بعد بضعة أميال من المعسكر، وسر الذين كانوا يحتلون هذه النقطة قبلنا حين جئنا إليهم؛ لأن مجيئنا يعفيهم من العمل فيها، وكان أحدهم قرويا من كيف لا يحزنه إلا أنه سيضطر إلى التخلي عن حصانه، وهو جواد جميل نبيل كان يدعوه لورد كيرزن لأسباب لم تتضح لي في يوم من الأيام، ولم يسلمه لي إلا بعد أن أخذ علي المواثيق بأن أحسن معاملته، فلما عاهدته على ذلك قال لي مؤكدا: «أحسن معاملته، وسيكون كيرزن أخا لك، فهو أنبل شعورا من معظم الناس.»
وكان المركز الأمامي الذي نحتله عند مخرج ممر ضيق بين التلال، وحدث في الأسابيع التي تلت ذلك الوقت ما جعلني أحمد لمواطني أن أورثني لورد كيرزن، فقد وجدت أن الجواد ليس شديد الإحساس لأقل مس مني فحسب، بل إنه في رأيي يحس بأفكاري نفسها، وكان أشد ما يطمئنني أن أشعر بأني أمتطي صهوته وأنا قائم بنوبتي في الحراسة منفردا في أثناء الليل بعيدا عن رفاقي؛ ذلك أن كل صوت نسمعه سواء كان من حصاة ساقطة أو من حفيف أوراق الشجر، أو عواء ابن آوى جائع ، كان يكفي لتنبيه كيرزن وراكبه.
وكان النظام المتبع أن كل جندي يقبض على مهرب ينال ثلث قيمة البضائع التي تضبط معه، ولم يسعدني الحظ بشيء من هذا، ولكن كثيرين من الجنود كانوا يعودون من حراسة الحدود إلى قراهم بعد أداء خدمتهم وهم أغنياء كما يفهم من لفظ الغنى في بلاد السوفيت.
وإن أنس لا أنس ما حييت منظر زياما الشاب اليهودي الأسمر النحيل، ولم يكن زياما نفسه أو أي إنسان غيره يعرف أية حيلة منطقية بيروقراطية جاءت بهذا الفتى إلى كتيبة الفرسان وأرسلته إلى الحدود الإيرانية، فقد بدأ حياة الفروسية لا يعوقه إلا عائق واحد، وهو خوفه الشديد من الخيل، وكان بعض رفاق هذا الشاب المسكين يسخرون منه، ولكن معظمنا كانوا يشفقون عليه، وحاولنا أن نعلمه ركوب الخيل والقبض على أعنتها، فكان يخيل إلينا أحيانا أنه سيموت من شدة الخوف، ولكن زياما لم يكد يتغلب على خوفه حتى أدهشنا ببراعته في الفروسية وبجرأته ورباطة جأشه، فكان يقضي الليالي مقتفيا آثار المهربين، وهدته غريزته القوية النادرة في ليلة من الليالي إلى القبض على مهرب مثقل بالبضائع، فنال بذلك ثروة طائلة مكافأة له على هذا العمل. وكثيرا ما أنجاني لورد كيرزن من الهلاك بفضل قوائمه الثابتة القوية كما كان أيضا سبب ختام حياتي العسكرية.
فقد كنت في إحدى الليالي أطوف بأرض شجراء بعيدة عن مركزي، ومعي أحد الجنود، وقد انقضى من الليل معظمه، وسمعنا أصواتا من بعيد، فصحت بأصحابها الذين لا نراهم وأمرتهم بالوقوف، واندفعت أنا ورفيقي نحو مصدر الصوت، فزلت قدم كيرزن وألقاني على الأرض من فوق عنقه.
هذا كل ما عرفته عن نفسي في ذلك الوقت، وناداني رفيقي من بعيد ولكنه لم يتلق منى جوابا، وعثر على جوادي ولكنه لم يعثر على أي أثر لي، ثم عاد إلى المعسكر بعد أن قضى بعض الوقت يبحث عني من غير جدوى، وأرسلت سرية للبحث عني فعثرت علي بعد بضع ساعات في منقع من الماء مرضوضا فاقد الإحساس.
وقضيت عدة أسابيع طريح الفراش في مستشفى عسكري بالقرب من أسخاباد، أتلوى من شدة الألم وأحس أن ليس في جسمي عظم واحد سليم ومستقر في مكانه الطبيعي، ولكن القائمين علي تبينوا أن كل إصاباتي كانت سطحية، وكان في المستشفى ممرضتان تبديان علي وعلى غيري من المرضى عطفا وحنانا، وتبذلان لنا من العناية ما حببهما إلى قلبي وإلى قلوب سائر نزلاء المستشفى، ولم يكن خافيا علينا أنهما من الطبقة الراقية وأنهما منفيتان من بتروغراد، وصرحت لي إحداهما وهي ليديا بفلفنا بأنها أميرة من أميرات الأسرة المالكة.
ولما شفيت وأصبحت قادرا على السفر أرسلت إلى كيف، وبقيت في أحد مستشفياتها نحو شهر من الزمان، ثم قضيت شهرين آخرين في مصحة بهذه المدينة، سرحت بعدهما وعدت إلى عملي الأول رئيسا للعمال في مصنع بتروفسكي-لينين بدنيبروبتروفسك، وكان ذلك في صيف عام 1928م، وأنا أطوي السنة الثالثة والعشرين من عمري.
الفصل الخامس
قطع الصلة بالماضي
قلما يشعر صغار الممثلين في مسرحية تاريخية عظمى بما في هذه المسرحية من عظمة؛ ذلك أن انهماكهم في تمثيل أدوارهم فيها لا يمكنهم من رؤية خطوطها الرئيسية، ولقد كنت أنا واحدا من هؤلاء الممثلين في مستهل عام 1929م، كنت أحد الشبان المتحمسين الذين تشبعت نفوسهم بالمبادئ السامية والخطط التي وضعت في ذلك الوقت الذي أخذت فيه بلادي تستحث الخطى نحو ثورة جديدة أبعد غورا من بعض الوجوه من ثورتها الماضية، والذي كان فيه ستالين وأعوانه المقربون منهمكين في كفاح مرير مع خصومهم في الهيئة السياسية العليا وفي الحزب الشيوعي كله إلى حد ما، يبذلون قصارى جهدهم لاستئصال بقايا النزعة الاقتصادية الرأسمالية والعقلية الرأسمالية، حتى يقودوا روسيا في طريق التنظيم الصناعي والإنتاج الزراعي الجماعي.
ومن أجل هذا أخذ كل ما لا يزال عالقا بالثورة، ولكنه مطبوع بطابع الوهن والتردد، أو غير متفق مع مطالبها، أخذ كل هذا ينسلخ عنها، وأصبح الولاء للحزب، أي الواجب الذي تفرضه على الأعضاء طائفة معينة من الأهداف، أصبح هذا الولاء أجل شأنا من جميع المصالح الشخصية، وأضحت الآلة الجديدة - وهي رمز التنظيم الصناعي ومادته - ذات شأن خطير في حياتنا، يجعل لكل يوم من أيامها قيمة تعدل عدة أيام من حياتنا الماضية ، فهي منهومة لا تشبع، ذات قوة خفية في حياة البلاد العادية، وخيل إلينا أن ما يعانيه أصحاب النزعة الإنسانية من بلاء ليس إلا بقية من بقايا الماضي العجيب وأثرا من آثاره.
وجرف هذا التيار الجديد آلاف الآلاف من الخلق - طائعين أو مكرهين - فانتزعهم من حياتهم المألوفة ودفعهم أمامه في مجار جديدة، وكانوا في معظم الأحيان لا يجدون كفايتهم من الطعام أو الكساء، ولا يتطلعون إلى أمل وإن كان كاذبا يخفف عنهم ما هم فيه من شقاء، وأنا عليم بالحادثات الفردية التي وقعت خلال هذا التطور الجديد بطبيعة الحال، أعرف ما هو خير منها وما هو شر، ولكني كنت أنظر إليها بعيني حدث في الثالثة والعشرين من عمره، لقن مبادئه السياسية في أحضان لجان الشباب أو في الجيش الأحمر، وآمن بأن الروسيا مقبلة على مستقبل خير من ماضيها، وكنت لذلك من أشد عمال مصنعنا يقظة وأكثرهم شعورا بالواجبات الاجتماعية، يثلج صدري ما أبذله من الجهود في القيام بواجباتي اليومية الإنشائية.
ولقد كانت هناك عيوب كثيرة وآلام شديدة تقض مضاجع الكثيرين، ولكن هذه العيوب والآلام كانت تصحبها حماسة مروعة وآمال تلهب الصدور، لقد كان الأمل في حسن مستقبل البلاد قويا جياشا؛ ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة المحضة أنني اخترت هذه الفترة بالذات لأنضم إلى الحزب الشيوعي، وكنت فيه واحدا من تلك الأقلية التي تحركها الآراء الكامنة وراء المجهود الإنتاجي العظيم، وتملكتني أنا ومن معي رغبة في العمل كانت تبلغ من القوة أحيانا حد الجنون، وقد يكون في مواطني من يصبرون على الثورة الجديدة وهم ساخطون مكتئبون، كما صبروا من قبل على آلام القحط العظيم، وقد يقبلونها على أنها شر طبيعي لا بد منه، أما أنا وأمثالي ممن اعتصموا بالمبادئ وامتلأت قلوبهم إيمانا بالعهد الجديد، فقد بدا لنا أن ما نعانيه من آلام إن هو إلا ثمن نشتري به المستقبل السعيد الذي ترتقبه البلاد وأبناؤها، وخيل إلينا أن التنظيم الصناعي مهما يكن الثمن الذي يبذل فيه، وانتشال الأمة من وهدة التأخر، هما أنبل الأغراض التي يمكن أن يعمل لها إنسان.
وهذا هو الذي يوجب علي أن أقاوم ما قد تنزع إليه نفسي من الحكم على حوادث تلك الأيام في ضوء ما أشعر به اليوم، لقد كانت حياتي كلها عملا وكدحا وحرمانا، وبدا لي أن المطاعن التي يوجهها إلي هذا النظام «الأحرار الذين ولى زمانهم» والذين لا هم لهم إلا الانتقاد ثم البقاء خارج دائرة الجهود؛ خيل إلي أن هذه المطاعن لا تفيد إلا في بث الملل والسآمة في النفوس.
واغترق العمل جهدي وتفكيري، اغترقه عملي رئيسا فنيا للعمال في مصانع تطريق المعادن، وما عقدته من صلات جديدة مع الموظفين وذوي النفوذ من الشيوعيين، وما يلقيه علي الاشتراك في تحرير صحيفة المصنع من واجبات عاجلة، وكنت مولعا بالعمل، لا يخطر ببالي قط أني - بعد أن أكدح طول اليوم في حر المصنع أو المعمل الكيميائي وصخبهما - قد أكون متعبا لا أستطيع حضور الاجتماعات أو سماع الدروس الفنية، أو القيام بالمشروعات الاجتماعية أو أداء بعض الواجبات الكتابية، كأن التعب من أوهام الممولين.
وكانت الصحافة والإذاعة ترددان العبارات التي اتخذت شعارا للعهد الجديد، اللحاق بالبلاد الرأسمالية وسبقها! إلى العمل على تصنيع الروسيا والقضاء على طبقة كبار الملاك! وكأن البلاد كلها قد استحالت مصنعا ضخما تغلي مراجله، فكنا نأكل وننام ونعمل وسط عجيج المعارك، وكانت حياتنا تغمرها اجتماعات المال والدرس المتواصل، والاستماع إلى الخطب الرنانة طعنا على أعداء البلاد من أهلها ومن الأجانب عنها.
وكان يخيل إلينا أن مناقشة القرارات التي تهبط علينا من سماء الكرملن بألفاظ من نار لا تقل حمقا عن مناقشة الصواعق أو الزلازل، لقد كنا نقبل هذه القرارات كأنها وحي من السماء، وكانت بطبيعة الحال تشرح لنا وتفسر في خلال دراساتنا السياسية التي لم تكن تنقطع أبدا، ولم يكن ما يقال لنا يتفق حتما مع ما تضمره عقول الزعماء في الكرملن، ولكن عقولنا لم تفطن إلى هذه الحقيقة في تلك الأيام.
ولم يكن لي قط شأن بالشرطة السياسية المعروفة «بالقسم السياسي»، على أني كنت أحسب أن الخطر المحدق بالبلاد في تلك الساعة الحاسمة من حياتها يحتم فرض الرقابة على كل إنسان فيها، ولم يكن أحد تسوءه هذه الرقابة إلا أبي وأمثاله من الشيوخ ذوي الذكريات الماضية الطويلة، ولكن هذا التحذلق كان يبدو لنا في غير موضعه، ولا فرق بينه وبين الدعوة للسلم في ميدان القتال.
وجاء إلى مصنعنا في أوائل عام 1929م رجل من كبار البلاشفة القدامى يدعى كرستيان ركوفسكي، وألقى خطبة في اجتماع عام، شهده عدد كبير من المستمعين، وتكاد تكون هذه آخر مرة أجيز فيها لرجل من أعداء ستالين أن يتحدث إلى الجماهير، وجاء أبي بعد بضعة أيام يقص علينا نبأ هذا الاجتماع، وكان في أثناء حديثه مكتئبا، وأنا أدرك الآن سبب هذا الاكتئاب.
وكان مما قاله لنا: «لقد انتقد ركوفسكي زعماء الحزب، ولست واثقا من أن هذا النقد صحيح كله أو أن كثيرا من العمال يوافقونه عليه، ولكنا فهمنا من قوله أن هناك نزاعا على السلطة، وأن كفة ستالين هي الراجحة في هذا النزاع، وكان بعض المستمعين يميلون إلى جانب ركوفسكي ويعطفون عليه، وأخذوا يلقون عليه الأسئلة ويصفقون بأيديهم تأييدا لرأيه، ثم غادرنا ركوفسكي، ولم تكد تشرق شمس اليوم الثاني يا ولدي حتى استدعى رجال القسم السياسي العمال الذين أظهروا شيئا من العطف عليه ...»
وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت ذهبت إلى كزلوف أمين سر اللجنة الإقليمية (الرايكوم) للحزب، فلما أقبلت عليه حياني أحسن تحية، وكان يعرف أني أوشك أن أتقدم بطلب رسمي للانضمام إلى الحزب، ويرى في جنديا من جنوده كبير القيمة عظيم النفع، فقد أصبحت جم النشاط في شئون المصنع والمدينة على السواء، وأخذ اسمي وصورتي يظهران كثيرا في نشرات النقابات والنشرات الصناعية والمحلية التي تصدر في المدينة.
وقال لي كزلوف وهو يضحك: «إن أباك يا رفيق كرافتشنكو رجل شاذ غريب الأطوار.»
فسألته وقد استولى علي بعض القلق: «ماذا حدث؟» - «لم يحدث شيء ذو بال، وكل ما في الأمر أن عددا قليلا منا ممن ينتمون إلى لجنة الحزب الإقليمية ذهبوا إلى الإدارة الميكانيكية، حيث لا يزال لزيارة ركوفسكي بعض الأصداء الفاسدة، وأردنا أن نتحدث إلى عدد قليل من الصناع لنتعرف حقيقة الموقف هناك، فسألنا منهم أفرادا قلائل متفرقين، ثم تقدمنا آخر الأمر إلى أبيك الشيخ.»
وسألته أنا بأرق الألفاظ وأكثرها مجاملة: «كيف تسير الأمور؟ فماذا كان جوابه في ظنك؟ لقد حدجني بنظرة فاحصة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي ثم قال لي: لا تتدخل في عملي، إن هذا مصنع لا ناد، وإذا أردت أن تعرف أفكار العمال فاسأل عنها قسمك السياسي فإن من عمله أن يعرف هذه الأفكار.
ما أغرب أباك يا فكتور أندريفتش! وكان سينيا فلجن معي في أثناء الحديث وهو عضو في لجان الشباب كما تعرف، ولهذا حاول هو أيضا أن يحمل أباك على الإفصاح عن رأيه فقال له: إنك يا مواطن كرافتشنكو من العمال القدامى المحترمين، وقد حاربت القيصر، ونحن أعرف الناس بك، وهذا هو السبب الذي يدعونا إلى أن نعرف أفكارك، فما كان من أبيك الشيخ إلا أن ثار وقال محتدا: اسمعا أيها الشابان، إنكما لا تزالان طفلين في السياسة، وليس في وسعي أن أناقشكما في شيء من الشئون الجدية.»
ثم ضرب كزلوف صفحا عن الموضوع كله وقال في شهامة ورحابة صدر إن الأقوال التي صدرت من أبي ليست إلا سورة من شيخ مكلوم طاعن في السن ساخط على ما ارتقى إليه العالم الجديد، ثم سألني: «ومتى تتقدم بطلب الانضمام إلى الحزب؟» - «في القريب العاجل على ما أظن.» - «حسن! سأحضر الاجتماع لأزكيك، فإنا في حاجة إليك يا كرافتشنكو؛ لأن أمامنا أعمالا شاقة كثيرة، وليس في مقدورنا أن نعتمد على الجيل القديم، بل ليس في مقدورنا أن نعتمد على خير رجال ذلك الجيل.»
وهكذا كان كبار الشيوعيين يغرونني من آن إلى آن بالانضمام إلى الحزب، وكانوا يقولون لي إني ما دمت أعمل معهم وأعينهم في كفاحهم من أجل الحياة الجديدة، فلم أتنحى عنهم من الوجهة النظامية، والحق أني كنت متفقا معهم في كل شيء، وكنت منضما إليهم بقلبي وآمالي؛ ولذلك اعتزمت أن أنضم إلى الحزب مخلصا لمبادئه، لا تخالجني فيها ريب ولا هواجس، سأنضم إلى الجيش العامل على إقامة صرح العالم الصناعي الجديد والعالم الاشتراكي الجديد.
وكنا في صحيفة المصنع نستمتع بحرية واسعة داخل دائرة نظام الحزب، ولم يكن بين محرري الصحيفة من لم ينضم بعد إلى الحزب إلا أنا ورجل آخر يدعى بلسكوف، وكانت الصحيفة في بادئ الأمر أسبوعية ثم أصبحت فيما بعد يومية، وكان يوزع منها نحو 35000 نسخة، وكان يقرؤها بطبيعة الحال كل شخص يعمل في مصانع بتروفسكي-لينين تقريبا، بل إنها تعدت دائرة المصنع وانتشرت بين رجال الاقتصاد وبين موظفي الحزب في الإقليم كله بل وفي موسكو نفسها.
وكان كل ما يكتب في الصحيفة يمر بطبيعة الحال على الرقيب، ولم يكن يسمح لها بأن تنشر شيئا يمكن أن يلقي ظلا من الشك على التنظيم الصناعي أو على سياسة الحزب الشيوعي، والحق أن أحدا لم يكن يدور بخلده أن يكتب شيئا من هذا القبيل إلا إذا كان بعقله خبال، أما مهاجمة إدارة المصنع وموظفي الحزب والنقابات، وما كان يحدث في أعمال الإنتاج والإدارة من أخطاء فردية معينة، فهذه كلها كان يسمح بنشرها، وكان القراء يخدعون بهذا فيعتقدون أن الصحيفة تعبر عن الرأي العام.
وكان النقد الذاتي - سمو كريتيسكا - من أهم شعائر ذلك العهد، وكان الناس جميعا يشجعون على أن يقولوا «كل ما يعرفون» من العيوب والأخطاء والوسائل التي يمكن أن يستعان بها على الإصلاح في الصحف العامة، وفي صحف المصانع والمزارع، وفي النشرات المعروفة «بأوراق الجدران»، وكان هذا الانتقاد من الوسائل التي ابتكرت لتحسين نوع العمل، ولكنه كان في بعض الأحيان سوطا يسلطه كبار البيروقراطيين على رءوس صغارهم.
وكانت المصانع وقتئد لا تزال تديرها هيئة ثلاثية مؤلفة من ممثلين للإدارة والحزب ونقابات العمال، وفي هذا الجم الغفير من الموظفين الذين يراقب بعضهم بعضا كان الانتقاد الذاتي ينقلب في بعض الأحيان إلى وسائل خفية للنزاع على المناصب والسلطة.
وألقيت بنفسي في تيار هذا الانتقاد الذاتي بحماسة أزعجت بعض زعماء مصنعنا، فأخذت أهاجم ما فيه من عيوب مهاجمة عنيفة شريفة غير عابئ بمن يصيبه الضرر من جراء هذا الهجوم أيا كان مركزه، وسرعان ما أدركت السبب الذي من أجله أخذ بعض ذوي المكانة في المصنع يتقربون إلي على غير انتظار؛ فقد كانوا بلا شك يعتقدون أن خير ما يضمن لهم مراكزهم أن يكسبوا صداقة شاب مرهف القلم يسدده إلى أولئك الرؤساء المتأخرين المجاملين.
ولم تكن مقالاتي تنشر في صحيفة المصنع وحدها، بل كانت تظهر كذلك في نشرات خاركوف ودنيبروبتروفسك التي كنت مراسلا لها في المصنع الكبير، وكانت الصحف التي تنطق بلسان الحزب في المدينة تعلق على مقالاتي وتضرب بها المثل لما يجب أن يكون عليه «الشباب العامل».
وماذا يظن القارئ أني كنت أكتب فيه؟ كنت أكتب في الإسراف الذي لا يرتضيه الضمير، وفي التلف الذي يصيب السلع، وفي العمال الذين لا يقدرون عددهم وآلاتهم التقدير الواجب، وفي التكاليف الباهظة التي تتكلفها كل وحدة من إنتاج مصنعنا إذا قيست إلى ما يتكلفه مثلها في مصانع السويد وأمريكا، وفي الموقف غير اللائق الذي يقفه الرفيق فلان من العمال، وفي رداءة نوع المنتجات المادية، وفيما يمكن إدخاله من الإصلاح على بعض وسائل الإنتاج؛ لنقتصد بذلك آلاف الأيدي العاملة.
على أن أكثر ما كان ينزعج له المشرفون على الحياة الرتيبة في المصنع تلك المقالات العنيفة التي كنت أهاجم فيها الظروف المحيطة بالعمال المقيمين في الثكنات، وقد أوضحت في هذه المقالات أن الأجور مرتفعة في ظاهرها ولكنها لا تتمشى مع الأثمان الجديدة التي تباع بها المأكولات في مطاعم المصنع ومخازنه، وتساءلت: متى يتم بناء المساكن التي كثر التحدث عنها؟ ولماذا يعيش بعض الموظفين في رغد من العيش على حين أن الكثيرين من عمال المصنع لا يجدون ضرورات الحياة؟
وكانت نتيجة هذه الحملات الصحفية أن أصبح لي كثيرون من الأعداء الأقوياء، دامت كراهية بعضهم لي كثيرا من السنين، ولكني كسبت أيضا كثيرا من الأصدقاء الأوفياء، وكان أخص ما لقيت فيه تأييدا قويا شكواي المتكررة من كثرة الموظفين في المصنع كثرة لا تتناسب مع إنتاجه؛ ذلك أني استخرجت من بعض الصحف الفنية إحصاءات تدل على أن مصانع صهر المعادن في السويد تستخدم موظفا إداريا واحدا، فيما نستخدم فيه نحن موظفين أو ثلاثة موظفين، وكان مما قلته: إن ذلك يحدث تضاربا في العمل، ويبطئ من سيره، ويزيد نفقات الإنتاج.
وكان الانتقاد الذاتي آخر ما بقي من الوسائل التي تعبر بها الطبقات الدنيا في الاتحاد السوفيتي عن قوتها، وكانت في حد ذاتها نوعا من الرأي العام، وقد أفلحت في كبح جماح الموظفين المحليين وحالت دون الشيء الكثير من مكرهم وغطرستهم، وإن لم يكن لها أثر في السياسة العليا ولا في القرارات التي تصدرها السلطة المركزية في موسكو.
ولما أقبلت على والدي لأعلن له أني أريد الانضمام إلى الحزب شعرت بشيء من الارتباك، وكان منشأ ارتباكي هذا أسبابا أحس بها، ولكن يصعب علي أن أوضحها لنفسي؛ لأن أصولها مستقرة في أعماق عقلي، حيث كانت ذكريات مثل الطفولة العليا تحيا حياتها الخاصة بها.
وقال لي أبي: «لقد كنت أعرف أنك ستنضم إلى الحزب في يوم من الأيام سواء أكان ذلك اليوم قريبا أم بعيدا، فقد كنت أراقبك عن كثب وأرى صلاتك بالنشاط السياسي تزداد يوما بعد يوم، فأنت تكتب في السياسة وتدرسها، ولكني لا أقول لك إن انضمامك هذا يسرني ويثلج صدري كثيرا، فأنت نفسك تعلم مقدار ما يحيط بنا من المظالم وما بين الطبقة الحاكمة والشعب من فروق تزداد على مدى الأيام ... وأحب أن أعرف كيف تنظر إلى هذه الأشياء؟ وماذا يدور في خلدك؟» - «إني ليسرني يا أبت أن تسألني هذا السؤال، وأحب أن أتحدث إليك حديثا صريحا، وأنا شاكر لك فضلك علي، فأنا مدين لك بالشيء الكثير، وأنا أجلك لشرفك ونزاهتك وما لك في الثورة من ماض مجيد، ولكني أرجو منك أن تفهمني على حقيقتي، فأنا أكاد أبلغ الرابعة والعشرين من عمري، وقد شببت وعملت مع رجال من ذوي الآراء الحديثة في محيط كل من فيه مخلص لهذه الآراء والخطط التي توضع لإنهاض البلاد في المستقبل، ولم أقفز إلى الحزب قفزة، بل إن إيماني بمبادئه نما في قلبي على مهل، حتى شعرت آخر الأمر كأني من رجال الحزب.
وأنا أعلم أن في الحزب نقائص وعيوبا وسعيا وراء المناصب، وأن فيه أقذارا ومظالم تكتنف الحياة اليومية العملية؛ ولست أحب هذه الأشياء أكثر مما تحبها أنت، ولكني أعدها مرحلة من المراحل ستنقضي حتما؛ ذلك أن تحويل قطر بدائي إلى دولة اشتراكية صناعية حديثة عمل ضخم يتطلب جهودا جبارة، ولا يمكن النهوض به من غير أخطاء، بل قل: من غير مظالم، ولكني لا أريد أن أتنحى عن هذا العمل وأكتفي بتوجيه النقد إليه، بل أريد أن أعمل مخلصا في داخل الحزب وأقاوم ما فيه من شر وأؤيد ما فيه من خير.
ولقد فكرت طويلا قبل أن أخطو هذه الخطوة، وليس ثمة سبيل يعرف بها هل يسير الحزب في الطريق السوي إلا سبيل التجربة ومر الزمن، ولكني أومن بغاياته وأريد أن أبذل ما أوتيت من جهد لتحقيق هذه الغايات، ومهما يكن من أمرك أنت يا والدي فإنك لا تعارض فيما نريده لبلادنا من نهضة في الصناعة، كما أنك لا تعارض في استبدال الجرارات بالخيول المنهوكة الخائرة القوى، ولا تعارض في السماح إلى العمال بأن ينضموا باختيارهم إلى المزارع الجماعية.»
ونظر إلي نظرة قاسية ولكنها خالية من الغضب وقال: «أنا يا فيتيا لا أعارض في هذه الأشياء بطبيعة الحال، وأنا أعلم الناس بشعورك نحوها، بل إني في واقع الأمر أتبين نفسي فيك، فقد كنت في شبابي أسلك هذا المسلك نفسه، كنت أطيع وحي ضميري ولا آبه بنفسي ولا بزوجتي ولا بأولادي؛ ذلك أن دينا أيا كان خير من لا دين، أتذكر قول لك
luk
في كتاب جوركي الأعماق الدنيا
Lower Depths : إذا اعتقدت بوجود الله فهو موجود، وإذا لم تعتقد بوجوده فهو غير موجود. ولقد وجدت أنت دينا تؤمن به وأنا أدعو لك من أعماق قلبي بالخير والتوفيق.
ولكن نصيحتي لك يا فيتيا أن تبقى قريبا من الشعب ولا تقدر فائدتك له بما تناله من المناصب بل بنوع الحياة التي يحياها الشعب، وهل هو أكثر رخاء مما كان وأسعد حالا وأوسع حرية، وإذا اقتربت منه بحق وفهمته على حقيقته، وأعنته في أموره، فإني سأظل أبد الدهر شاكرا لك فضلك، لا تعش بالألفاظ تتخذها لك شعارا، واحكم على الساسة بأعمالهم لا بأقوالهم، واعلم أن الذين يقيمون في الكرملن يجيدون وضع النظريات، فلننظر نحن مقدار نجاحهم في تطبيقها، وأرجو ألا تجد قط ما يزعزع إيمانك!»
وسكت هنيهة ثم واصل حديثه مسلما ببعض آرائي: «ومن يدري لعل جمهور الشعب ينال على أيدي أبنائنا حرية حقة وحياة أسعد من حياته السابقة.» - «لست أشك يا أبت في أنه سينالهما على أيدينا.»
وظل هذا الحديث منقوشا في ذاكرتي في السنين التي أعقبت تلك الأيام، حين كنت أكدح في الحزب وفي سبيل الحزب، وكنت أحس كأن أبي يراقبني ويحكم على أعمالي، وينظر إلى الحقائق وإلى الأعمال من وراء الألفاظ.
وقبلت عضوا في الحزب في عام 1929م، وخيل إلي أن هذا الحادث أعظم أحداث حياتي وأجلها شأنا، فقد أصبحت به أحد الطائفة «المختارة» في روسيا الجديدة، فلم أكن بعد فردا عاديا يختار لنفسه بملء حريته من يشاء من الأصدقاء، ويعمل لما يشاء من المصالح، ويعتنق ما يشاء من الآراء، بل وهبت نفسي أبد الدهر إلى فكرة وقضية، وأضحيت جنديا في جيش منظم أحكم تنظيم، طاعة المركز الرئيسي فيه أولى الفضائل في نظري أو قل: إنها تكاد تكون الفضيلة الوحيدة، جيش لا يسمح لمن ينضم إليه من الجنود أن يجتمعوا بغير المرغوب فيهم من الأفراد، أو أن يستمعوا لغير المرغوب فيه من الألفاظ.
واستدعيت أنا ومدير قسمي في يوم من الأيام بعد انضمامي إلى الحزب إلى مكتب مدير المصنع الذي كنت أعمل فيه، فلما قابلناه قال لنا: إن نوع المواد التي كانت تورد من عندنا إلى مصنع درزكسفكي في الدنباص أخذت تسوء، وإن علينا أن ننتقل إلى هذا المصنع لساعتنا، وأن نبحث عن علة فساد موادنا وعدم وفائها بأغراضه، وأن نقدم له تقريرا بنتيجة هذا البحث.
ودامت هذه الرحلة أسبوعا، عدت بعده إلى المدير وقدمت له تقريرا شاملا، وظننت أني وضعت إصبعي على مواضع الداء فيه، وعرضت عليه عدة اقتراحات لعلاجه، وسر المدير من هذا التقرير، وقال إنه سيوصي بمنحي مكافأة مالية قيمة جزاء لي على خدماتي الطيبة، وسألني هل يرضيني هذا؟
فأجبته: «لست في حاجة إلى المال، ولكني في حاجة إلى مسكن، فإن أبي وأحد أخوي يعملان في هذا المصنع كما لا يخفى عليك، ولكنا ظللنا عدة سنين لا نحيا حياة الأسرة الحقة لحاجتنا إلى المسكن الصالح، بل إننا في هذا الوقت لا نعيش معا، وفضلا عن هذا فإن أمي مضطرة إلى البقاء في الريف.»
ووعدني المدير بتحقيق رغبتي وقال لي: «سأرى ماذا أستطيع أن أفعله لك.» ولم تمض إلا بضعة أيام حتى كان آل كرافتشنكو يعيشون جميعا في شقة مريحة من أملاك المصنع مبنية على الطراز الحديث، وبذلك استطاعت والدتي آخر الأمر أن تغادر بيتنا في مزرعة دق الأجراس التعاونية التي كانت تعيش فيها من قبل.
فاضت أنهر الصحف في بلادنا وتحدثت صحف البلاد الأجنبية نفسها في عام 1928م بما سمته حادث شختى، وتفصيل ذلك الحادث أن جماعة من كبار المهندسين الذين يعملون في صناعة الفحم قدموا للمحاكمة في موسكو على مشهد من مراسلي الصحف الأجنبية والسوفيتية، ورسمت آلات التصوير مناظر المحاكمة، ونقلت إجراءاتها على أمواج الأثير إلى جميع أنحاء البلاد الروسية.
وكأن أرباب الكرملن كانوا بعملهم هذا يقولون للشعب: «ذلك هو سبب ما لدينا من عيوب كثيرة على جانب عظيم من الخطورة، إن عمال الرأسمالية وبقايا العهد القديم يعملون عن قصد لوقوع الحوادث في المصانع ولنقص الإنتاج وتعطيله.»
وكانت هذه المحاكمة أولى المحاكمات الصورية الاستعراضية التي صارت فيما بعد عادة مألوفة في البلاد، والتي يقر فيها الناس في سكون وهدوء بجرائم اقترفوها ضد الدولة، أما في محاكمة شختى فقد ظل بعض المتهمين ينكرون ما وجه إليهم من التهم، ويكافحون للنجاة من القتل، وكان لا بد من منع هذا الشذوذ فيما يجد من محاكمات في المستقبل.
وحدثت بعد سنين من ذلك التاريخ محاكمة أخرى أخطر من هذه شأنا وأقرب منها إلى المسرحيات، وكان المتهمون فيها أيضا من المهندسين، وكانت هذه المحاكمة مظاهرة كبرى اتهم فيها جماعة من المهندسين بأنهم تزعموا حزبا صناعيا موهوما، يهدف إلى قلب النظام السوفيتي، وإعادة الرأسمالية والاستيلاء على أزمة الحكم، وصدقت أنا هذه المزاعم رغم ما فيها من سخافات ومتناقضات، كما صدقها الكثرة الغالبة من أهل البلاد؛ ذلك أن أنصار الحزب الشيوعي من رجال الجيل الجديد كانوا يقبلون من غير مناقشة المزاعم القائلة بأن كثيرين من المهندسين والعمال الفنيين الذين نشئوا قبل الثورة يناصرون بطبيعة الحال العهد القديم ويقاومون بقلوبهم - إن لم يكن بأعمالهم - ما يبذل من الجهود لتحويل الروسيا إلى بلاد صناعية.
ولم يكن أحد يشك في أن من الواجب أن يستبدل بأولئك المهندسين الذين ورثتهم البلاد من العهود الماضية جيل جديد خلت عقولهم من ذكريات الماضي، يدينون بالولاء للمبادئ السوفيتية ولخطط الحزب الشيوعي، وكان أكبر مورد تستمد منه هذه الطائفة هو الشبان من الصناع والموظفين، ومن الصناع المنضمين إلى الحزب، أو الذين يفكرون تفكير رجاله على الأقل، ومن أجل هذا اتخذت الدوائر العليا قرارا يقضي بإنشاء «آلاف» من شباب الحزب ونقابات الصناع؛ ليدرسوا في الجامعات والمعاهد الفنية الحديثة والقديمة، وكانت هذه خطة وضعت أسسها الهيئة السياسية العليا ذات السلطان الأعظم في البلاد.
وجاءت في عام 1930م هيئة ممثلة للجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب لتبحث في شئون مستخدمي مصنعنا وجهوده، واستدعيت أنا إلى مكتب المدير، فلما دخلت الحجرة رأيت على كرسي مدير المصنع، خلف مكتبه الفخم وعدده التلفونية التي يخطئها الحصر، رجلا غريبا عرفت من الصور التي كنت أراها من قبل أنه أركادي روزنجولتز من أكبر الزعماء أصحاب السلطان العظيم في موسكو، ومن أبرز أعضاء اللجنة المركزية.
وتبسم الرجل لي وقال وهو يسلم علي بيده: «كيف حالك يا رفيق كرافتشنكو؟ لقد استدعيتك لأني وصلتني الأنباء عن أعمالك، فأنت شديد الاهتمام بتعقيل
1
الإنتاج، وهذا عمل جميل، وأنت جريء فيما تكتب في صحافتنا، وهذا أيضا حسن، فهل لك من حاجة عندي؟» - «لا، وأشكرك يا رفيق روزنجولتز.» - «حسن، هل لك أن تحدثني عن نفسك؟»
وألقيت على مسامعه ملخص تاريخ حياتي، فحدثته عن نشأتي في أسرة ثورية، وعن عملي في المزرعة التعاونية، وعن الفترة التي قضيتها في مناجم الفحم، وكيف انضممت إلى لجان الشباب، وعن خدمتي في الجيش الأحمر، وعن عملي في هذا المصنع، وعن كيفية انضمامي إلى الحزب، وما أكثر ما قصصت هذه القصة! ذلك أن الكشف عن حياة الإنسان الخاصة في المجتمع السوفيتي يكاد يشبه الطقوس الدينية في غير تلك البلاد، يؤديه الإنسان بلسانه وبقلمه ردا على أسئلة مكتوبة، تقدم له ليجيب عنها إذا ما ثارت حوله أقل شبهة.
واستمع إلي روزنجولتز وهو يدرسني دراسة دقيقة، ثم قال وكأنه وصل من هذه الدراسة إلى نتيجة: «إنك لا تزال شابا لم تبلغ بعد الخامسة والعشرين من عمرك، والحزب في حاجة إلى مهندسين صناعيين، فهل ترغب في الدرس؟ إن كنت ترغب فيه فإنا سنرسلك إلى معهد فني تقيم فيه بضع سنين، وستفيد الحزب بأن تهبه خير ما لديك من جهود؛ ذلك أن الحزب في حاجة إلى فنيين من رجاله المفكرين ليقوموا هم بتنظيم البلاد الصناعي مخلصين لمبادئه وسياسته.» - «شكرا لك، وإني ليسعدني أن أضع كل جهودي في خدمة بلادي.»
وجاء سرجو أورزنكدز نفسه إلى المصنع في اليوم الثاني، ودخل قسمنا على حين غفلة ومن ورائه عدد كبير من موظفي المصنع والإقليم الذي يقوم فيه، واضطربت حين رأيته كأني أرى ستالين نفسه؛ ذلك أن أورزنكدز كان من أقرب المقربين إلى ستالين، وهو الوزير المشرف على شئون الصناع والفلاحين، ورئيس لجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب، وكان أول خاطر مر بخلدي حين شاهدته أنه شبيه كل الشبه بالصورة الشمسية المعلقة على جدار جمعيتنا التعاونية في حوض الدنتز!
وكان يرتدي نفس القبعة الرمادية الطويلة، ونفس السترة الزرقاء ذات الطوق الرمادي، وقد حشا سرواله الواسع في حذاءين من جلد لين يصلان إلى ركبتيه، وكان أنفه الأقنى ينحني انحناء أفخم منظرا مما كنت أشاهده في الصورة، أما شارباه فقد كانا يبرزان من تحت منخريه أوسع مما كانا في صورته، وشعرت حين رأيته كأني أعرفه طوال حياتي، وأن في بساطته وابتسامته سرا قد أزال ما بينه وبيني من بون شاسع يفصل بين إله هبط من سماء الكرملن ومخلوق عادي لا حول له ولا طول.
وقدمني مدير المصنع له.
وهدر أورزنكدز وهو يمد يده إلي: «نعم، لقد سمعت عنك، كيف يسير العمل؟»
فقلت له: «إنه يسير سيرا حسنا.» ثم أضفت إلى ذلك قولي: «ولكن في الإمكان أن يكون أحسن مما هو.» - «هذا كلام طيب! وماذا نستطيع فعله لنجعله أحسن مما هو؟»
فأجبته: «ليس من السهل أن أجيب عن هذا السؤال في بضع كلماته.»
فضحك أورزنكدز وقال: «لا تستح وكن صريحا.»
فقلت: «حسن، يستطاع ذلك بشيء مما سأقول، إن لدينا إسرافا في الأجهزة وفي الرجال الذين يراقب بعضهم بعضا، لقد اطلعت على سجلات هذا المصنع نفسه في السنين السابقة لعهد الثورة، فوجدت أن موظفيه الإداريين يكادون يزيدون الآن 35٪ على ما كانوا من قبل، وأرى أن ذلك خطأ يجب تلافيه، إن كل إنسان هنا يقف في وجه الآخر؛ وتبعة النتائج ملقاة على عاتق كل إنسان، أي إنها لا تلقى قط على إنسان ما، والعمل رديء والنفقات كثيرة، ولست أدري لم استطاع الرأسماليون أن يجنوا من هذا المصنع أرباحا، على حين أننا نتكبد فيه خسائر، إن العمال يشتغلون كما كانوا يشتغلون في الماضي؛ ولهذا أرى أن الذنب ذنبنا نحن.»
ولاحظت وأنا في شدة حماستي الكلامية أن موظفي المصنع قد بدأ يساورهم القلق، وسعل المدير وارتجف ممثلو الحزب والنقابات، ووقف دولاب العمل في القسم، وخرق أذني صوت من مكان ينادي: «إنك محق يا فكتور أندريفتش، إنك محق!»
وواصلت حديثي وقد نسيت نفسي في أثناء حماستي الكلامية فقلت: «نعم، كثيرا ما أسمع جعجعة ولا أرى طحنا، إن النظام ضعيف لأن الذين يفرضونه كثيرون، وكل ما نحتاجه يا رفيق أورزنكدز هو إدارة موحدة وتبعة موحدة، من غير أن تتدخل فيها جهات كثيرة.»
فقال مرة أخرى: «هذا شيء جميل، وأنت على حق بوجه عام، والفزهد (الزعيم) نفسه يفكر هذا التفكير، ومن الواجب أن تذهب لتدرس يا رفيق كرافتشنكو.»
وسلم علي بيده، وخرج ومن ورائه أتباعه وقد تملكهم الخوف، ولكنه التفت إلي بعد خطوات قليلة وقال لي: «إذا حزبك أمر أو كانت لك حاجة عاجلة فاكتب إلي تجدني في عونك.»
وكان يسرني أن أقبل هذه الدعوة في السنين الكدرة التي أعقبت ذلك الوقت، وشعرت من تلك الساعة كأن أورزنكدز قد «تبناني» وأن لي نصيرا في مجالس «الأرباب» القادرين، وظللت إلى أن مات في أوائل عام 1937م لا يفارقني شعوري بأن أحدا لا يستطيع أن يمسني بسوء، وكان علمي في أحرج الأوقات أن في وسعي أن ألجأ إلى زميل ستالين ومواطنه ذي الوجه الصقري وأطلب إليه العون، كان علمي هذا يبعث في قلبي من الجرأة ما ليس في قلب أحد غيري.
وظلت هذه المحاضرة، التي ألقيتها على صديق عظيم من أصدقاء ستالين موضع حديث كل من في المصنع عدة أسابيع، وكان العمال في أثنائها يربتون على ظهري ويبدون سرورهم من صراحتي.
ولكنني استدعيت بعد إلقائها بيوم واحد إلى مكتب لجنة الحزب، وكان فيه قنسطنطين أكوروكوف أمين سر الحزب ومعه مدير المصنع إيفانشنكو.
فلما دخلت صاح الأمين بأعلى صوته: «ماذا أصابك يا كرافتشنكو؟ هل جننت؟ هل تعلم أن سرجو وجه إلينا أشد اللوم، وكاد يلقي بالمحابر في وجوهنا؟ لقد بقي لطيفا مسرورا حتى أثرته أنت، فأخذ يسبنا ويعيرنا بأنا قوم كسالى عاجزون وأنغال.»
وظللت أنا رابط الجأش، وأجبته بأني لم أنطق بغير الحقيقة، ألم يقل لينين نفسه إن الأعمال الصناعية تتطلب قيادة مسئولة موحدة؟ ولما كان لينين وأورزنكدز في صفي، فإن غضب أمين الحزب نفسه لا يصيبني بسوء، ولم يكن في وسع إيفانشنكو أن يحاجز نفسه عن أن يبتسم ابتسامة السرور والرضا عن موقفي؛ لأنه كان في خبيئة نفسه متفقا معي في آرائي مستاء من تطفل الحزب ونقابات العمال وتدخلهم في شئوننا.
هذا فضلا عن أنني لم يكن مقامي ليطول في المصنع إلا ريثما أفرغ من بعض الأعمال القليلة فيه، ثم أعود طالبا كما كنت من قبل، وكنت أحسب أن بعض الموظفين في إدارة المصنع سيسرهم خروجي منه.
وسر والداي وأخواي من هذا التحول في مجرى الحوادث؛ ذلك أن أمي بنوع خاص لم تكن في يوم من الأيام راضية عن بقائي رئيسا للعمال كما كان زوجها، وكانت في خبيئة نفسها مستاءة؛ لأن الثورة قد حالت بيني وبين مواصلة الدرس والتعلم، وها هي ذي الآن تراني أعد نفسي لأن أكون مهندسا وإن جاء ذلك الإعداد متأخرا بعض الشيء، وسرها هذا وأثلج صدرها، بل إن أبي نفسه ظهرت عليه علائم السرور والغبطة، وأخذ يستمع إلى ما وصفت به الرفيق أورزنكدز راضيا مسرورا.
وسمعته يقول ذات مساء لبعض الشيوخ المجتمعين في بيتنا حول إبريق الشاي: «سيكون ولدي مهندسا.» يقولها في فخر وإعجاب.
وقضيت عدة شهور في الاستذكار استعدادا لامتحان الدخول في المعهد؛ ذلك أن برامج إعدادية خاصة كانت تعد للشبان الموظفين المختارين ليكونوا من بين «الآلاف» الذين سيصبحون رجال الفكر السوفيتيين في مستقبل الأيام، فلما استهل عام 1931م التحقت بالمعهد الفني في خاركوف.
الفصل السادس
طالب في خاركوف
ها أنا ذا أعود في سن الخامسة والعشرين طالبا وأمينا على مصالح الدولة، وقد خصص لي مرتب أتقاضاه في كل شهر من ميزانية مصنع بتروفسكى-لينين يفي بنفقات معيشتي ويترك لي فضلة من المال تكفي ثمن ملابسي ونفقات تسليتي، غير أن الجوع والبرد، وهما التوأمان اللذان ألفتهما في إبان الحرب الأهلية، لم يفارقاني طويلا، نعم إنهما لم يكونا من القسوة وطول الأمد كما كانا في الأيام الماضية، بل كانا يتركان لي بين الفينة والفينة مهلة أنجو فيها من عذابهما، ولكنهما مع ذلك كانا يعودان بكل ما فيهما من قسوة كما يعود مرض الأسنان المزمن.
وكان المعهد الفني في خاركوف يشغل بناء ضخما قديما مشيدا على طرف حديقة غناء في شارع كبلونوفسكي، وما من شك في أنه كان في الأوقات العادية نموذجا لما يجب أن تكون عليه المدينة الجامعية، وفي وسعي أن أتخيله في تلك الأوقات وقد اجتمع فيه الشبان بحللهم الجامعية الأنيقة، معظمهم من الأسر الموسرة، يجمعون بين العمل وبين نزق حياة الطلاب، وما من شك أيضا في أن روح الشباب كانت تسري في جو الدراسة، أما في الوقت الذي التحقت فيه بهذا المعهد فقد كان صاخبا مزدحما يكد فيه الطلاب كما يكد العمال في مصهر عظيم دائب على العمل، ترى فيه اللجاجة والدعوة إلى العمل والعجلة الملازمة لمشروع الخمس السنين كما تراها في أية صناعة من الصناعات.
ولعل هذا الخليط الذي شاهدته في هذا المعهد من رجال ونساء وفتيان وفتيات لم يحشر مثله في معهد واحد من معاهد التعليم قبل ذلك الوقت أو بعده إلى يومنا هذا، وكان معظم الطلبة يزيدون على الثالثة والعشرين من عمرهم، وكثيرون منهم بين الثلاثين والأربعين، وكان الذين أوتوا منهم قسطا من العلم والثقافة يجتمعون في فصول واحدة مع الشبان من العمال الذين لم يكونوا يحلمون قط بأنهم سيدرسون العلم في يوم من الأيام، ويرون في هذه الدراسة نوعا من العذاب؛ ذلك أننا جندنا من المصانع وأفران صهر المعادن والمناجم والمكاتب، ليؤلف منا ذلك الجيش العرمرم من رجال الفكر الفنيين على الطراز الجديد، وكنت ترى في هذا الحشد العظيم رجالا من ذوي الوجوه الكالحة من وسط آسيا لم يروا من قبل مدينة غربية يعيشون مع طلبة ذلك الإقليم نفسه المقيمين مع أسرهم في بيوتهم، كما كانت بينهم طائفة كبيرة من الجنود القدامى المحنكين وأنصار الحزب السابقين - من رجال العصابات المحاربة - جيء بهم من سيبيريا، والموظفين الشيوعيين الذين يتقنون أساليب السياسة الحديثة.
وأكبر الظن أيضا أن فئة غيرنا من الطلاب المجدين لم تدرس منهاجا يشبه في صعوبته المنهاج الذي وضع لنا، لقد كنا نشق طريقنا في هذا المنهاج كما يشق جماعة من الناس طريقهم وسط غابة تكتنفهم فيها الأخطار من كل ناحية ، أو كما يشق الجيش طريقه في بلد معاد له، فلم يكن عملنا في هذا المعهد شبيها بحال من الأحوال بعمل الطلبة الممهد في المدرسة العادية وفي الأوقات العادية.
وكنت أسكن مع آلاف غيري من طلبة معاهد مختلفة في خاركوف في مجموعة من حجر النوم في شارع بشكين غصت بنا كأنها خلايا النحل، وكنا نكدس فيها كل أربعة أو خمسة في حجرة واحدة، يشوي أجسامنا حر الصيف وتتجمد أطرافنا من زمهرير الشتاء.
وكثيرا ما اشتد البرد في شتاء 1930-1931م في هذه الأماكن حتى تجمدت منه المياه في المغاسل، فكنا نجمع ما نعثر عليه من قطع الخشب المتفرقة وأسوار الحدائق والأثاث المحطم والصحف القديمة، لنلقيها في الموقد الذي وضع في حجرتنا، وكان موقدا صغيرا من الحديد ذا مدخنة بالية من قطع متعددة، تخرج من إحدى النوافذ، وفي هذا الجو كنا نسكن وندرس ونتناقش ونحلم بمستقبل بلدنا الصناعي، ونحن نقاوم البرد والجوع في ذينك الزمان والمكان.
وكان النساء يقمن في جناح خاص بهن، ولكننا كنا مع ذلك أحرارا في الاختلاط بهن في قاعات الاجتماعات العامة وفي المطاعم، ولم نكن نمنع من المذاكرة معهن في حجراتنا وحجراتهن، وما من شك في أن صلات كانت تنشأ بين الطلبة والطالبات، فلم يكن ثمة شيء من التزمت في هذه الأماكن، وإن كان المستوى الخلقي ساميا بوجه عام؛ ذلك أن مزاج الطلبة والطالبات كان مزاجا تغلب عليه الصرامة والكآبة، وأن الصعاب التي تحيط بهم كانت قاسية كثيرة، واحترام بعضهم بعضا كان احتراما حقا لا تشوبه شائبة، وكل هذا يحول بينهم وبين العبث والاستهتار.
وكان يشاركني في حجرتي أربعة من الطلاب هم: ألكسي كارنوخوف، وجورج فجورا، ونجلسكين، وفانيا آفداش تشنكو، وكلنا من «الآلاف» المعبئين، وكلنا من أعضاء الحزب.
وكان ألكسي في واقع الأمر رجلا له بعض الخطر؛ لأنه كان عضوا في اللجنة المركزية لمنظمات الشباب، وكان فتى بهي الطلعة مفتول العضلات أصفر الشعر عسلي العينين، يشع منهما الجد والوقار، جميلا في أخلاقه كما كان جميلا في ملامحه نبيلا صريحا، ذا عقل نقاد يندر وجوده بين الموظفين الشيوعيين، وقلما كنت تراه يزهو بنفسه اعتمادا على سمو مركزه، أو يتهرب من المناقشة الصريحة في الشئون المدرسية أو الشئون العامة.
وسرعان ما استحكمت عرى المودة بيني وبين ألكسي، فقد كنا كلانا نحب حزبنا ونؤمن به، ومن أجل هذا السبب نفسه لم نتردد في التحدث عنه بمنتهى الصراحة، فنسائل أنفسنا عن سبب وجود تلك الهوة السحيقة بين المبادئ والأعمال، وبين الأقوال الرسمية والحقائق الواقعة، وكنا نبحث هذه المشكلة إشفاقا منا على الحزب لا غضبا عليه، وكان أسهل علينا أن نجد من الأسباب ما يبرر حكم الإرهاب الذي بدأت بوادره في الظهور، وأن نكشف عن البواعث النبيلة الكامنة وراء هذا المسلك الآثم في ظاهره، وأن تثبت قلوبنا على الإيمان بعهد الآلام الذي كنا نعيش فيه.
أما جورج فجورا فكان شيوعيا من طراز غير هذا الطراز، وكان يخيل إلى هذا الرجل أن مجرد التفكير في مناقشة ما يصدره الحزب من الأوامر والقرارات هو الكفر بعينه، فأي شيء في هذه الأوامر والقرارات يمكن أن يناقش؟ ألم يكن كل شيء فيها واضحا جليا؟ ولم يكن لجورج رأي خاص، وكل ما كنا نسمعه منه أقوال ينقلها عن ستالين وعن جريدتي إزفستيا وبرفدا وما إليهما من المراجع، أما الموضوعات التي لا يجد لها سندا من الأقوال الرسمية فلم يكن لها وجود لديه، ولم يكن يشك مطلقا فيما نجيزه لأنفسنا أنا وألكسي من تنقيب في الشئون العامة، وما نتكلفه من عناء في بحثها أو عدم التحرج في الحديث عنها، لم يكن يشك مطلقا في أن هذا كله سيكون وخيم العاقبة علينا.
ولم يكن نجلكين أقل إخلاصا للحزب من جورج، ولكنه كان فتى متسامحا، مثابرا، صبورا على ما يصيبه من آلام، وكان كثير الاحترام لجميع رفاقه، يشعرني بأنه فتى ذليل، يرى أن مجرد وجوده على ظهر الأرض نعمة أنعم بها عليه، ولشد ما كان شعوري بحاله هذه مؤلما لي، وكان يخشى تطرف فجورا في حزبيته التي لا يقبل فيها جدلا، بقدر ما يخشى أسئلتي الجريئة، ولعلنا كنا نستغل وداعته هذه فنحمله من أعباء العمل أكثر مما يجب أن يتحمله.
أما الشخص المشكل حقا في حجرتنا فقد كان هو فانيا أفداش تشنكو، وكان فانيا هذا أكبرنا سنا يزيد على الثلاثين من عمره، وكان بدينا قوي الجسم طيب القلب، كسولا فوق ما يتصوره الإنسان، ولما كان قد اشترك في الحرب الأهلية في صف الشيوعية فقد كان يقنع بالحياة في ظلال ما ناله من المجد الزائل في مغامراته الماضية، وكأنه كان يعتقد أن هذه الأعمال تعفيه طوال حياته المستقبلة من القيام بكل عمل جدي أيا كان نوعه.
ولم يكن فانيا شخصا غبيا، وكان في وسعه أن يتقن دروسه لو أنه بذل في ذلك بعض الجهد، وطالما أسدينا إليه النصح في هذا، وأخذنا عليه العهود بأن يجد في العمل الذي ضم من أجله إلى «الآلاف»، ولكن جهودنا كلها ذهبت أدراج الرياح، فقد كان يستلقي على فراشه ويتظاهر بأنه يحفظ القوانين الكيميائية عن ظهر قلبه، بينما هو في واقع الأمر يقرأ إحدى الروايات الرخيصة.
على أنه كان يعوض كسله وضعفه في الدرس بقدرته على الاتصالات السياسية، فلم يكن يجهل أحدا من الناس، كما أن أحدا من الناس لم يكن يجهله، وكان من أجل هذا يختار بطبيعة الحال في كل اللجان الهامة التي لا يعمل فيها شيئا معينا؛ ولذلك لا يرتكب فيها خطأ يؤخذ عليه، وكان له أصدقاء في مطابخ البيت، وفي أحسن مخازن البقالة التعاونية، وفي غيرها من الأماكن التي يمكن الحصول منها على جرايات إضافية، وكنا نحن نقتسم ما يأتي به بفضل عبقريته السياسية، وإن لم يحل هذا بيننا وبين تعنيفه على كسله وإهماله.
وطرد فانيا من المعهد قبل انتهاء الفترة الأولى من السنة الدراسية، على أنني لم يدهشني قط أن أعرف منه حين قابلته مصادفة في موسكو بعد عدة سنين من ذلك الوقت أنه أصبح رئيس مواثقة
1
كبيرة؛ ذلك أن فانيا لم يكن ذا حظ عظيم من العلم أو الذكاء أو الشعور المرهف يقف في سبيله وهو يرتقي سلم البيروقراطية.
وكان للتربية السياسية في منهاج دراستنا شأن أعظم من شأن التعليم الفني نفسه؛ ذلك أن الحكومة لم تكن تهدف إلى الحصول على مهندسين وحسب، بل كانت تريد مهندسين ذوي عقول سوفيتية، وكانت كلية لينين التابعة للمعهد وعلى رأسها الأستاذ فيليب الأحمر تعمل جاهدة لهذه الغاية، وكان الذين يعجزون عن استيعاب كتاب رأس المال
Das Capital
لكارل ماركس، ومحاورات إنجل ومؤلفات لينين وأبحاث ستالين وهي أهم من هذه كلها، يخرجون من المعهد أسرع مما يخرج منه الذين يعجزون عن استيعاب حساب التفاضل والتكامل، أو الذين لا يجيدون عمل التصميمات الهندسية.
والتحقت أنا ورفاقي الأربعة بمعهد بناء الطائرات، وإن لم يكن لأحد منا خبرة عملية في بنائها عدا فجورا، وكان لموضوع الطيران في حد ذاته صفة رمزية خاصة؛ لأنه كان أحدث ما اتبع من الوسائل في تجديد روسيا؛ ولذلك كان التحاقنا بمعهد الطيران سببا في شحذ همتنا وانشراح صدورنا.
وكنا في صباح كل يوم نمارس ضروبا من الألعاب الرياضية في حجرتنا لنخفف من آثار البرد القارس، ثم نفطر في المطعم. وكان الفطور المقرر يشمل مقدارا قليلا من الحساء وكسرة صغيرة من الخبز الأسود والشاي من غير سكر أو ليمون، وكنا نذهب بعدئذ إلى المعهد، جياعا نرتعد من البرد، ولكننا لم نر في هذا شيئا من البؤس والشقاء، بل كنا نتحدث طويلا ونضع الخطط الكثيرة للمستقبل، نتحدث عن المعهد والمطعم والحزب وعن أنفسنا نحن.
ونشأ بيننا شيء من الولاء لجماعتنا رغم ما كان بيننا من فروق في الآراء واختلاف في الشخصية، فإذا كان واحد منا نحن الخمسة على موعد مع فتاة جاء له زملاؤه الأربعة بما يحتاجه من رباط للرقبة أو سترة نظيفة أو سراويل أنيقة، بل كنا نقدم له أحيانا بعض الروبلات ليستعين بها على مطالبه في هذه المناسبات.
وكان للمعهد صحيفته الخاصة شأنه في ذلك شأن كل معهد سوفيتي آخر، وسرعان ما انضممت إلى هيئة التحرير فكنت محررا مساعدا لهذه الصحيفة، وكان التذمر من أحوال مسكننا شائعا بين العمال، ورددت صحيفتنا أصداء هذا التذمر، وكثيرا ما وجه النقد فيها إلى قلة الطعام وسوء طهيه، وعدم العناية بغسل الملابس، وقذارة المكان وسوء الإدارة.
وبلغ هذا التذمر غايته حين انتظم الطلاب في اجتماع عام نظمته خلايا الحزب ولجان الشباب، وألقيت في هذا الاجتماع كثير من الخطب وعرضت عدة اقتراحات، وعرضت أنا بناء على اتفاق سابق مع لجنة تنظيم الاجتماع أن يقوم الطلاب أنفسهم ببعض الأعمال الإدارية، وأن يتحملوا هم بعض التبعات، فلما تقدمت بهذا الاقتراح عرض ألكسي أن أقوم أنا من فوري بهذا التنظيم، ولم يكد يعرض اقتراحه حتى قامت فتاة حسناء جذابة لم ألق بالي إليها من قبل وطلبت الكلمة، فلما أذن لها قالت: «أؤيد انتخاب الرفيق كرافتشنكو، فقد عرفته من ثماني سنين وفي وسعي أن أشهد بأنه رفيق مخلص.»
وكانت فتاة حسناء بلا جدال، ممتلئة الجسم، أنيقة الملبس، جريئة في قولها، تبدو عليها شواهد الاعتماد على نفسها، وظللت طوال الاجتماع لا أدري من تكون هذه الفتاة وكيف عرفتني. وانتخبت رئيس «هيئة البيت الكبير»، ولما انفض الاجتماع لحقت بالفتاة في الردهة.
فلما رأتني قالت وهي تضحك ضحكة خبيثة: «كيف حالك يا فكتور أندريفتش؟ لست أشك في أنك قد نسيتني، ولكن حسبي أنني أذكرك.»
فسألتها: «هل لك أن تبوحي بالسر؟» - «أنا باشا، فهل هذا يساعدك على أن تعرفني؟» - «باشا؟ أخشى أن أقول إن هذا لا يساعدني قط.» - «إذن، فسأقدم لك شاهدا آخر لعله يهديك إلى معرفتي، لقد كنت أدفع عربة فحم في مناجم ألجفرفكا.»
ثم تذكرت فجأة فصحت: «رباه! وهل يمكن أن تكون هذه باشا نفسها؟» ثم ضحكنا وضممتها إلى صدري وأنا مغتبط جذل.
وصحت حين انضم إلينا ألكسي: «اليوشا! ها هي ذي باشا، لقد كانت حين رأيتها آخر مرة حالكة السواد كالفحم، ممزقة الثياب.»
وأضافت هي من عندها: «وأمية لا تقرأ ولا تكتب.»
وزدت على ذلك قولي: «نعم، ولكن انظر إليها الآن، فهي طالبة ومثقفة تعجب من يراها، هذا فضلا عن ملامحها الجميلة التي كان يخفيها تراب الفحم، ألا ما أعظم هذا النصر الذي ظفرت به الثورة!»
والحق أن هذا الانقلاب كان مدهشا خارقا للعادة، حتى لقد كان من أصعب الأشياء على الإنسان أن يتبين فيها أثرا من آثار الفتاة القروية المكتئبة المتأخرة، ذات الخرق البالية حول قدمها، والغدائر الطويلة المرسلة على ظهرها، التي عرفتها في مناجم الفحم، وتذكرت ساعتئذ أنها كانت في أيامها الماضية أشبه بحيوان بري مصيد تقاوم كل ما نبذله من جهود لتمدينها.
وسجلت في أعماق عقلي ما طرأ على باشا من تطور، وأضفته إلى محاسن الثورة لأوازن به ما يعادله من مساوئها.
وتوثقت الصداقة بين ألكسي وباشا وازدهرت، وأحسست أني أنا راعي هذه الصداقة والحفيظ عليها.
وأفلحنا في إصلاح أحوال البيت وحجر النوم بفضل سوفيت مدينة خاركوف والصحف المحلية التي تنطق بلسان الحزب، فزيدت مقرراتنا من الطعام، وأنشئت عدة مغاسل في الطبقة السفلى من البناء، وجهزت بما يلزمها من الأدوات، وتألفت جماعات متطوعة لنظافة الدهاليز أكثر من ذي قبل، وأنشئ في البناء حانوت لحلق الشعر به حجرة للزينة، وكان هذا أعظم شيء ظفرنا به، وإذ كنت أنا المشرف على هذه الجهود كلها فقد ارتفعت مكانتي كثيرا بين الطلاب.
ولكن حياتنا ظلت قاسية مخشوشنة رغم هذه الإصلاحات كلها.
وكان معظمنا يدرك - ويؤلمه أن يدرك - ما هو حادث في المدينة من تدهور سريع في أحوالها بوجه عام، وما هو حادث في الريف من تدهور أسرع منه، فضلا عما يكتنفنا نحن من صعاب، ولم يكن منا من لا يعرف بعض هذه الحقائق إن لم يعرفها كلها، رغم ما كان يفرض علينا من حظر وصمت، ورغم ما كان يحدق بمن لا يمسك لسانه عن التحدث في هذه الظروف من خطر شديد.
وكان الناس يتلقفون الشائعات التي كانت تنتشر بينهم عما كان يحدث في القرى أثناء تصفية أملاك كبار الزراع من فظائع تقشعر لها الأبدان ولا تصدقها العقول، وكنا نرى قطرا طويلة من العربات غاصة بالزراع تمر بمدينة خاركوف، وأكبر الظن أنها كانت تقلهم إلى أقاليم التندرا في الشمال، وكانت هذه وسيلة من وسائل «تصفيتهم». وكان الموظفون الشيوعيون يغتالون في القرى، والفلاحون المشاغبون ينفذ فيهم حكم الإعدام جماعات، وراجت الشائعات أيضا أن من الوسائل التي يلجأ إليها الفلاحون لمقاومة نظام المزارع الجماعية أن يذبحوا ماشيتهم حتى تبقى الأرض بلا حرث ولا زرع، وكان مما أيد أسوأ هذه الشائعات ذلك المرسوم الذي صدر في موسكو، والذي يعد ذبح الماشية بلا إذن جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام.
وغصت محطات السكك الحديدية في المدينة بالفلاحين الجياع ذوي الملابس الرثة البالية الفارين من منازلهم، وانتشر الأطفال المشردون الذين لا مأوى لهم، والذين كانوا في أثناء الحرب الأهلية وسني القحط يواجهون الإنسان أينما سار، وعاد المتسولون إلى الظهور في شوارع المدن، وكان معظمهم من الفلاحين، ولكن كان من بينهم أيضا بعض سكان المدن.
ومع هذا فقد كانت الصحف تشيد بما قامت به الدولة من أعمال عظيمة، فقد تم إنشاء الخط الحديدي بين التركستان وسيبيريا، وشيدت مصانع جديدة في جبال أورال وفي سيبيريا وفي جميع أنحاء البلاد، وتم في إقليم بعد إقليم تحويل المزارع كلها إلى مزارع جماعية، ونشرت الخطابات المفتوحة «ثناء على ستالين»؛ لما شيده من المصانع وما وضعه من مشروعات لإنشاء المساكن، وجاءت الوفود من البلاد الأجنبية النائية - ومن بلاد أمريكا وأستراليا نفسها - تشاهد معجزات مشروع السنوات الخمس، وأخذوا في مقابلاتهم يمتدحون بحماسة جنونية ما أحرزه السوفيت من نصر عجيب، أما كيف غفل هؤلاء الزوار عن الجانب الآخر من الصورة فذلك سر لم نستطع نحن الروس أن نكشف عنه الستار.
ترى أين الحقيقة وأين الخداع؟ هل الحقيقة هي ما في القرى من جوع وفزع وأطفال مشردين، أو ما تنشره الصحف من إحصاءات وما تشيد به من أعمال مجيدة؟ أو هل كانت هذه وتلك عناصر من حقيقة واحدة مركبة معقدة؟ إن هذه الأسئلة وأمثالها لم يكن يسألها إنسان أو يجيب عنها جهرة، ولكننا كنا نتحدث عنها في مجالسنا الخاصة، كنت أتحدث عنها أنا وألكسي وكان يتحدث عنها آلاف الآلاف غيرنا.
وحدث بعد دخولي المعهد بزمن قليل حادث آخر زاد الحياة فيه اضطرابا على اضطرابها، وذلك أنه صدر أمر يقضي بأن تكون اللغة الأوكرانية لا الروسية لغة التعليم كله ولغة الامتحانات كلها، وطبق هذا النظام على جميع المدارس ومعاهد التعليم على السواء، وكان أكبر إذعان من جانب موسكو للأماني القومية في أكبر جمهورية من جمهوريات السوفيت التي تقطنها العناصر غير الروسية.
وكان حقا علينا نحن الطلبة الأوكرانيين أن نغتبط بهذا القرار من الوجهة النظرية، ولكن الواقع أن القرار الجديد أساء إلينا بقدر ما أساء إلى الأقلية غير الأوكرانية؛ ذلك أننا لم نتعود قط أن نستخدم اللغة الأوكرانية في التعلم والدرس حتى الذين كانوا مثلي يتخذونها منذ طفولتهم لغة للتخاطب؛ ولذلك كان لهذا التغيير المفاجئ أسوأ الأثر في عدد كبير من أحسن الأساتذة، وشر من هذا كله أن لغتنا القومية لم ترتق بارتقاء العلم الحديث، ولم تكن تفي بحاجاته، فقد كانت مفرداتها خالية من الاصطلاحات الفنية في الكهرباء والكيمياء وعلم الغازات وضغطها وحركتها والعلوم الطبيعية ومعظم العلوم الأخرى.
وأصبح فانيا المسكين في حال من العجز يرثى لها بسبب هذه العاصفة الجديدة التي قلبت كل شيء فجعلته أوكرانيا، وقد كان من قبل يضل في بيداء التعليم أيا كانت اللغة التي تدرس بها العلوم، وكان شأنه في ذلك شأن مئات غيره من الطلاب، واستطاع جورج فجورا بطبيعة الحال أن يستعين بولاة الأمور في الحزب على ترجمة نصوصه المقدسة كلها إلى اللغة الأوكرانية، فلم يتأثر بهذا التغيير المفاجئ كما تأثر به غيره، أما سائر الطلبة فقد قاسوا الأمرين من جراء هذا العبء الجديد، وكانوا يرجعون إلى الكتب المدرسية الروسية في الخفاء، ويهزءون في مجالسهم الخصوصية من هذا الإغراق الساخر في القومية.
وكان الواجب يقضي بأن يكون هذا حقا من الحقوق يمارسه الناس بحريتهم، ولكنه استحال في تطبيقه إلى فرض بغيض مرهق؛ ذلك أن استخدام لغتنا القومية لم يسمح به فحسب بل أرغمنا عليه إرغاما، وطرد من وظائف الحكومة مئات ممن لم يستطيعوا إتقان هذه اللغة رجالا كانوا أو نساء، وكاد يصبح من أعداء الثورة كل من ينطق في خارج داره بغير اللغة الأوكرانية، ولاقى أبناء الأسر التي تروست أشد العناء، وتأخروا في دراستهم؛ لأن اللغة الأوكرانية كانت بمثابة لغة أجنبية لهم.
ولا حاجة إلى القول بأن هذه التطورات الجامحة كلها ألغيت فيما بعد، وعوقب دعاة الوطنية الأوكرانية المختلفة عن الوطنية السوفيتية - والتي كانت وليدة هذه التطورات - بالنفي أو الإعدام.
وكان الشيخ البلشفي اسكربنك وزير التربية في أوكرانيا ضحية ذلك الانقلاب الثاني، فأخرج من بلده، واضطر إلى الانتحار لهذا السبب ولغيره من الجرائم «الفكرية».
ولكن المشرفين على هذه المأساة الهازلة لم يكونوا يسمحون بأقل نقد لها وقت تمثيلها، وعدنا نحن الرفاق الخمسة إلى بيتنا ذات مساء بعد أن استمعنا إلى خطبة ألقاها الرفيق اسكربنك في امتداح سياسة الأكرنة الجديدة والإشادة بنعمها، وأثر فينا جميعا إخلاصه هذا وذكاؤه، على الرغم من ارتيابنا في حكمة السياسة اللغوية الجديدة.
وقال فانيا: «قد يكون الرجل على حق، ولكن تبا له! إني لا أستطيع دراسة شيء ما باللغة الأوكرانية، وحسبي ما ألاقي من صعاب في دراسته باللغة الروسية.»
فلما سمع منه فجورا هذا السؤال هز رأسه وهو محزون وقال له: «ليس من حقك أن تنطق بهذه الأقوال، إن الحزب يرى هذا فرضا واجبا وعلينا نحن أن نصدع بما نؤمر.»
فأجابه ألكسي بقوله: «إن النظر إلى الأمور هذه النظرة الرسمية لا يجدي نفعا، وإنك يا جورج لا تفيد الحزب أقل فائدة بإصرارك على عدم التفكير المستقل، وإن منهج الأكرنة المتطرف لا ينفع قضيتنا بل يضرها، ومهما يكن من شأننا فإنا أقدر على تبين النتائج واضحة من الهيئة السياسية العليا في الكرملن.»
وقلت أنا: «إن ألكسي على حق فيما يقول، وهذا العمل كله خرق وحماقة، ومن حق الناس أن يستخدموا أية لغة يشاءون.»
وصاح فجورا قائلا: «إنك الآن تطعن في الكرملن ، إن المسألة قد أصبحت من الأمور المقررة، وأنا أرفض البحث فيها بعد أن تقررت.»
ولما واصلنا بحث الموقف وتحليله، وجهرنا بأملنا في تغييره، غادر فجورا الحجرة وهو غاضب ، وأقبل اليوم الثاني وإذا أمين سر لجنة الحزب يستدعيني أنا وألكسي، فلما دخلنا عليه بدأ يتحدث عن أمور أخرى، ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى برنامج الأكرنة، وقال إنه قد بلغه أننا ننتقد هذا البرنامج، وأننا نشيع حوله جوا من الشك.
وتبين لنا أن فجورا نقل أخبارنا إليه؛ ولهذا جلسنا نحن الأربعة في انتظاره حين عاد من العشاء في مساء ذلك اليوم، وكان فانيا أول من تكلم، فقال: «يا جورج، إنك تستطيع أن تساعدنا في الوصول إلى رأي كنا نتناقش فيه، إنك تعرف الكتاب المقدس، أليس كذلك؟» - «بلى، إني أعرفه.» - «إذن فقل لنا كم كان عدد أولاد نوح وما هي أسماؤهم؟»
فأجاب فجورا الأديب المثقف: «كان لنوح ثلاثة أولاد: سام وحام ويافث.»
فرد عليه فانيا بسخرية لاذعة: «لا، إنك مخطئ، صحيح أنه كان له ثلاثة أولاد ولكن أسماءهم هي سام وحام ويهوذا، ولعلك تفهم قولي.»
واحمر وجه فجورا وتزعزعت للمرة الأولى تقواه واعتداده بفضيلته، وتمتم وهو يخرج من الحجرة: «إني لا أفتأ أؤدي واجبي.» ولم نستطع تنقية الجو الذي أعقب هذا الحادث إلا بعد أسابيع كثيرة، ولما انتحر اسكربنك بعد أن بدل الحزب نفسه خطته وأصبح رأيه في هذا الموضوع أقرب إلى رأيي ورأي ألكسي، لم ير فجورا نفسه شيئا من التناقض في مسلكه، وكان يقول: «لكل زمان حقائقه.»
ولقد أصبح الآن حق الجمهوريات أو الأقاليم غير الروسية الداخلة في نطاق الاتحاد السوفيتي في أن تستخدم لغتها الخاصة المظهر الوحيد من مظاهر الحكم الذاتي الذي تتمتع به تلك الجمهوريات والأقاليم، أما أن تكتب بهذه اللغة شيئا لا يتفق في كل صغيرة وكبيرة مع خطة الحزب، أو أن تفكر بها في شيء من هذا القبيل، فذلك هو الخيانة العظمى. وبهذا أصبحت حرية اللغة في واقع الأمر آخر مظاهر الاستقلال القومي، وكان الواجب يقضي أن تكون بدايتها، وأضحى شعار القوم الذي يسترون به سيطرتهم البوليسية التامة هو: «القومية شكلا والاشتراكية قلبا وقالبا.»
وهمس في أذني صديق ساخر في يوم من الأيام: «ها هو ذا كل ما لنا من استقلال ذاتي قومي.» وأشار وهو ينطق بهذا إلى مرحاض عمومي كتبت عليه كلمتا: «الرجال» و«النساء» باللغتين الأوكرانية والروسية.
ولقد نبتت في بعض البلاد الأجنبية لسبب ما تلك الخرافة القائلة بأن الجمهوريات السوفيتية المختلفة تتمتع بقسط من الاستقلال، يتضمن حتى حق الانفصال، وليس ثمة - بطبيعة الحال - إنسان واحد في بلاد الاتحاد السوفيتي كلها يصدق هذه الخرافة؛ ذلك أن أية نزعة ثقافية قوية تظهر بين أقلية من الأقليات وتتعارض مع العقائد الشيوعية في أتفه الأمور، يقضى عليها بلا رحمة، ومن أجل هذا أعدم مئات من الأوكرانيين وسجن أو نفي عشرات الآلاف منهم؛ ل «مروقهم القومي» ولوجود ميول انفصالية مزعومة بينهم.
وانتهت إقامتي في خاركوف دون سابق إنذار بمقتضى قرار لم يستشرني أحد فيه؛ ذلك أني نقلت فجأة من أعمال الطيران إلى أعمال التعدين، وأمرت أن ألتحق بمعهد للتعدين في لنينغراد أولا ثم في بلدتي الأصلية بعدئذ، ولكن العهد الذي قضيته في خاركوف على صغره يشغل حيزا كبيرا من ذاكرتي؛ ذلك أن هذا العهد ازدحم بالأعمال الحزبية ونواحي النشاط الصحفية، وبما ألقي علي من تبعات في إدارة بيت الطلاب.
ومن أبرز الصور التي بقيت في ذاكرتي صورتا امرأتين كلتاهما حسناء وكلتاهما رزئت مما رزئت به الأخرى فلم توفق في زواجها.
أما الأولى فهي زوجة الدكتور سمرين أستاذنا في الكيمياء، وهو رجل أحدب له ذراعان طويلتان لا تتناسبان قط مع قامته القصيرة المقرقمة، ورأس تخاله بطيخة، ولكنه كانت له عينان تشعان حكمة، وعقل قوي وثاب، وعطف على الناس صادق غير متكلف، وسرعان ما غطت هذه الفضائل الخلقية والذهنية في عقول الطلبة على عيوبه الجسمية، وكنت أنا أنتظر محاضراته بشغف عظيم.
ودعوته يوما إلى العشاء معي في بيت الطلبة، وطفت به في الحجرات وقاعات الاجتماع؛ فسر من نظامها ونظافتها، ولما فرغنا من العشاء قال لي: «عليك يا فيتيا أن ترد لي هذه الزيارة في وقت قريب، إن زوجتي تجيد العزف على البيان، وأنا أعلم أنك مولع بالموسيقى.»
وكانت أسرة الدكتور سمرين تقيم في شقة ذات أثاث يدل على ذوق راق حسن، في إحدى حجراتها بيان يشغل معظم فراغها، وعلى جدرانها صور لكبار الكتاب الروس، ووضع في أحد الأركان تمثال نصفي لبيتهوفن مصنوع من الشبه قائم على قاعدة.
ولم أكن في تلك الليلة الأولى أرى كلافديا بعيني وحواسي وحسب، بل كنت أراها أيضا بعيني زوجها وحواسه، وكان حبه لهذه السمراء النحيفة القوام حبا أكاد ألمسه في الحجرة لمسا، وكأن جمالها قد محا من الوجود تشويه جسمه فأصبح معافى سليما، وأحسست بقلبي يجذبه إليها سحر جمالها، كما أحسست بجو من الحزن لا أستطيع التعبير عنه يحيط بها، فسرى في نفسي شعور هو أقرب ما يكون إلى الجريمة أفسد علي استمتاعي بموسيقاها الشجية وحديثها العذب، فانتحلت بعض الأعذار وغادرت الدار مبكرا.
ومرت على هذه الزيارة أيام قليلة، وبينما كنت أسير في يوم يتساقط فيه الثلج خفيفا، إذ وقفت وجها لوجه أمام كلافديا.
وما أن رأتني حتى فاجأتني من غير أن تحييني: «لقد فررت منا في تلك الليلة، وسيكون جزاؤك أن تزورني في هذه، وسأعد هذا وعدا منك، وسأنتظر قدومك.»
ولم يخامرني شك في أني لن أذهب لزيارتها، ولكن مع ذلك وجدت نفسي أدق جرس بابها بعد بضع ساعات من لقائنا، وأشاهد المائدة في قاعة الطعام وقد أعدت لاثنين.
وشعرت فجأة بشيء من الارتباك، وبأني وقعت في شرك لم تنصبه لي كلافديا بل نصبته لي عواطفي، فسألتها وأنا على هذه الحال: «ولكن أين الدكتور سمرين؟» - «آه، لقد ذهب ليزور أخاه الذي يسكن في الريف غير بعيد من هذا المكان، ولن يعود إلينا إلا بعد بضعة أيام.»
وكان حديثنا على المائدة في أثناء العشاء حديثا مجهدا غير طبيعي، ثم شربنا خلاله زجاجة من النبيذ القفقاسي، وعرضت عليها بعد أن فرغنا من العشاء أن نتنزه في الحديقة، وكان ضياء القمر فيها أبيض ناصعا.
فضحكت وقالت: «لا يا سجيني العزيز، إذا كان لا بد لك من لوثة قمرية فها هي ذي «أنشودة ضوء القمر».» وأخذت تعزفها على البيان.
ثم أخذت بعدها تعزف وتغني أغنيات غجرية، كنت أذكر كثيرا منها منذ طفولتي في ألكسندروفسك، وحدثتها عن معسكرات الغجر وعن صداقتي لسيدمان، وكنت طوال الوقت جالسا على الكرسي الساند الذي كان زوجها يجلس عليه في أثناء الزيارة السابقة، وخيل إلي أن هذا الكرسي حصن لي يقيني من كل شيء، ثم أعلنت فجأة - وكاد يكون ذلك في منتصف جملة - أن لا بد لي من مبارحة الدار.
فنظرت إلي وعلى ثغرها ابتسامة حزينة وقالت: «أتريد الفرار مرة أخرى؟ لكنني لن أسمح لك به في هذه المرة.» - «أنا آسف، ولكن الدروس ... لقد وعدت أليوشا أن أذهب إليه.» - «إنك تكذب يا عزيزي فيتيا وأنا أعرف ذلك، فلنتحدث بصراحة: لم لا يكون من حقي أن أقضي سهرة مع إنسان، نعم مع إنسان أقرب إلى نفسي من غيره؟»
وكانت العبرات المكبوتة قد أخذت تخنق صوتها، فعدت إلى الجلوس، وشرعت تقص علي شيئا من تاريخ حياتها، فلما تحدثت به زال ما كان بيننا من تباعد، ولم أر فيها إلا فتاة بائسة يفيض لسانها بما ينطوي عليه قلبها من أسباب شقوتها.
وعرفت من قصة كلافديا أنها كانت في السنة التاسعة من عمرها حين شبت الثورة، وأنها ابنة أسرة موسرة تعلمت على يد مدرسين خصوصيين ومربيات، وقبض على أبويها في الأشهر الأولى من الثورة ثم أعدما بعد وقت قصير في مذبحة عامة، قتل فيها الرهائن من الطبقات الموسرة، وذهبت كلافديا لتعيش مع خالة لها عجوز في علية مظلمة في البيت الذي كان من قبل قصر أسرتها، وقضي عليهما أن تقاسيا في هذا المسكن شظف العيش الذي كانت تعانيه الطبقات المحرومة «السابقة» طريدة العدالة الخارجة على القانون، التي انحطت مكانها، ولم تعط كلافديا الصغيرة حق الذهاب إلى المدرسة ولا حق العمل، وكانت هي وخالتها تعيشان من بيع ما أخفيتا من بقايا متاعهما القديم.
وقالت لي: «إني أعرف أن الشبان الشيوعيين أمثالك لم ينظروا قط إلى صورة الأشياء من خارجها؛ ولذلك فإنكم لا تستطيعون أن تتصوروا معنى ما يشعر به من يحقرون، ومن لا يحميهم القانون، ومن يحسون أن بلادهم في غير حاجة إليهم، وخاصة إذا كانوا صغارا، إن الفقر مؤلم لكل إنسان، فما بالك بوقعه على من نعموا بالراحة ورفاهة العيش؟»
وأحبت كلافديا وهي في السابعة عشرة من عمرها شاعرا يكبرها بمثل سنها، وذهبت إليه لتعيش معه، وقالت: إن الأشهر القلائل التي قضتها معه كانت أقرب أيامها إلى السعادة الحقة، ولكنه اختفى فجأة، وبقيت هي إلى ذلك اليوم لا تعرف ما حدث له، وكان فتاها من المعارضين للنظام الجديد، وهي تظن أنه يقيم الآن في أحد معسكرات الاعتقال إن كان لا يزال حيا. - «وكنت جميلة يغازلني كثيرون من الشبان، ولكنهم بلا استثناء كانوا شبانا من طبقتي، أي من أطفال الماضي، ولما كنت قد قاسيت كثيرا وسئمت الحياة التي كنت أحياها فقد كنت أتوق إلى شيء من الأمن والطمأنينة، وأرى أن خطيبي، إذا قدر لأحد أن يخطبني، يجب أن يحمل بطاقة الحزب. ثم التقيت بالدكتور سمرين في يوم من الأيام، وانقبضت نفسي من صورته، ولكن كان من أسباب فخري أن شيوعيا وأن شابا معروفا ينتمي إلى السلطة الحاكمة يهتم بأمري، وأحبني حب من يهابني ويحنو علي، ولكن عن بعد، أما أنا فقد راعني وسحرني إخلاصه الشبيه بإخلاص الحيوان.
وكان أكثر ما أحمده له طيبة قلبه، ولم أختلف أنا وخالتي في أن له روحا جميلة، رغم أنه أحدب وشيوعي، وأخشى أن يكون هذان العيبان في نظر خالتي صنوين، وظل يتردد على بيتنا أكثر من عام، ويأتي لنا بالطعام والكساء، ويعلمني بعض الدروس دون أن يقول لي في خلال العام كله شيئا عن عواطفه نحوي، وبلغ من أمره أن استطاع الحصول لي بطريقة ما على بيان.
وبينا كنت في يوم من الأيام أعزف له بعض المقطوعات التي يحبها من وضع كشيكووسكي قلت له: إني أعرف أنك تحبني، وأنا لا أحبك ولكني أعجب بك وأحتاج إلى حمايتك ورفقتك، فلم إذن لا نتزوج؟ وجلس الرجل في مكانه جامدا كالمصعوق، وهو مغتبط، لا يصدق ما سمع وقد غلبه الحياء، وأظن أنه كان يعرف الحقيقة وإن حاول أن يطردها من عقله، وتلك الحقيقة هي أن فتاة من الأسر التي كان لها شأن، طريدة القانون، وطفلة من أطفال الماضي قد قبلت من فرط يأسها مخلوقا مشوها قبيح المنظر.»
وختمت حديثها بقولها: «فانظر الآن يا فيتيا، ما أقل ما تعرفون من الحقائق أيها الشيوعيون الماهرون! إنكم لا تعرفون كم ألفا من نساء الروس اللاتي أخرجن من بيوتهن وابتعد الناس عنهن بسبب أصلهن، لم يجدن لهن عاصما إلا أن يتزوجن بالأرستقراط الجدد، أي الشيوعيين والعمال، وقد وجد بعضهن السعادة، ولكني وا أسفاه لست من هؤلاء السعيدات، وليس في وسعي أن أنسى من قضوا على الشعب وعلى جميع ما كنت أحبه أشد الحب، وأعنى به كل العناية، ليس في وسعي أن أنسى هؤلاء أو أن أعفو عنهم.
إن من كان مثلي لا بد أن يشعر بالوحدة، واعتقادي أن هذا أشد ما يؤلمني في حياتي، آه من هذه الوحدة! إننا ندعي أننا من الحزب ولكننا نحيا في نفوسنا حياة خفية لا يعرفها أحد غيرنا، ولقد حاولت أن أقوم بعمل من الأعمال، وعرضت أن أعلم الموسيقى، وخيل إلي أن ولاة الأمور قد اهتموا بهذا، اهتموا به حتى أجبت عن الأسئلة المكتوبة التي قدمت إلي وعرفوا منها أني من الأشخاص السابقين.»
ولم أخرج من المنزل إلا بعد منتصف الليل.
وقالت لي وهي تودعني عند الباب: «فلنفترق صديقين يا فيتيا، ولا تظن بي السوء، إني بائسة، ولا أرى شيئا أمامي إلا الوحدة الأبدية، ورجائي إليك أن تأتي إلينا أحيانا لترانا حين يكون الدكتور سمرين في المنزل، فهو مدرس ماهر وأنا أعرف أنك شديد الإعجاب به.»
وكان إعجابي بسمرين من حيث هو أستاذ ومن حيث هو رجل هو الذي حال بيني وبين الاعتداء على حياته العائلية.
وكنت أتردد في بعض الأحيان على منزل الرفيق «ف»، وهو موظف أوكراني يشغل منصبا كبيرا في رياسة تفتيش العمال والفلاحين، وكان وهو في أواخر العقد السادس من عمره من أعضاء الحزب القدامى، حصل على قسط وافر من التعليم، ويعرف معظم كبار رجال الثورة معرفة شخصية، وإذا ذكر لينين وتروتسكي ولونا تشارسكي وزبنوفيف وغيرهم ذكرهم بأسمائهم الأولى دون ألقابهم، وكانت زوجته سيدة شمطاء الشعر تبدو عليها أمارات الرقة والحنان، وتذكرني على الدوام بكربسكايا أرملة لينين.
وكنا إذا انفردنا نحن الثلاثة بأنفسنا، لم يجد الرفيق «ف» مناصا من التحدث إلينا في الشئون السياسية، ومهما كانت بداية الحديث، سواء كان عن المسرح أو عن كتاب جديد أو عن دراستي، فسرعان ما كان ينتقل هو إلى البحث في المشاكل الزراعية، والإرهاب المسلط على رفاقه القدماء، والسرعة التي يسير بها التنظيم الصناعي، وكان يخيل إلي أن الآراء التي يدلي بها طبيعية معقولة مع أنها لو جاءت من إنسان غيره لصدمتني صدمة عنيفة، وكان يشير عرضا إلى أنباء لم أكن أصدقها من قبل، بل كنت أظنها «شائعات تذاع ضد الثورة»، ولكنه كان يذكرها كأنها من الحوادث العادية التي تقع في كل يوم، وكان منصبه الرسمي يتيح له الاطلاع على الفظائع التي ترتكب في القرى، وعلى مقاومة الفلاحين، والقبض على الناس جملة، والتحدث عنها كأنها من الأمور التي يعرفها الناس جميعا.
ومهما يكن من أمر الرفيق «ف»، فقد عمل دون أن يعرف على أن ألتقي بجوليا، وذلك أنه أهدى إلي في يوم ما تصريحا بمكانين في مقصورة في مسرح الأوبرا لمشاهدة مسرحية شيوشيوسان، فاصطحبت إليها ألكسي كارنوخوف، وكان في المقصورة المجاورة لنا سيدتان ذواتا جمال بارع وملابس أنيقة، وعرفت من فوري أن إحداهما كانت مريضة في مصحة كيف حيث كنت أقضي دور النقاهة بعد الكارثة التي حلت بي على الحدود الإيرانية.
فهمست في أذن رفيقي قائلا: «هذه جوليا ميخائيلفنا زوجة «ر».»
فصاح مندهشا: ««ر»!»
وكان من حقه أن يدهش، فقد كان «ر» من أكبر الموظفين في الحكومة الأوكرانية، وكان رجلا عظيم السلطان يعرف الناس أنه من أقرب المقربين لستالين نفسه، وتذكرت وقتئذ أنه كان يرسل إلى زوجته الأزهار في صباح كل يوم بالطائرة من خاركوف حين كانت في كيف.
وعرفتني جوليا بطبيعة الحال، وأشارت إلي تدعوني إلى الذهاب إليها في فترة الاستراحة بين فصلين، وقلت في نفسي: «ما أجملها من سيدة! وكيف فاتني أن أشاهد هذا الجمال البارع في خاركوف من ثلاث سنين، ألا ما أشد غباوتي وقتئذ!» وظللنا طوال الفصل نتبادل النظرات، وكانت هي تبتسم إلي من فوق الحاجز ولا تخفي سرورها، حتى أخجلني هذا وإن لم أحاول أن أخفي إعجابي بها.
وكانت المسرحية الغنائية سخيفة مملة للغاية، وضعت بحيث تلائم الآراء السائدة وقتئذ، وملئت بالعبارات الطنانة الرنانة التي ألفها الناس في تمجيد الثورة، ولكنني ظللت طوال حياتي إذا ذكر شيء من سخافاتها، عادت إلي ذكرى حبي لجوليا، وكانت هي متوسطة القامة، أكبر مني قليلا، ذات جمال فاتن وشعر ذهبي مجدول في غدائر سميكة معقودة في شكل تاج على رأسها كأنه إطار من الذهب البراق يحيط بمعارفها الفاتنة.
ولما أسدل الستار ذهبنا إلى مقصورتها وعرفتها بألكسي، وعرفتنا هي بصديقتها ماري، وأخذنا نتحدث الحديث الذي يجري عادة بين المعارف الجدد الذين لم يزل ما بينهم من حرج، ولكن هذا اللقاء تخلله شيء من اهتياج المشاعر، وأحاط به جو من التوتر لا علاقة له بموضوع الحديث.
وبقينا في مقصورتهما خلال الفصل الثاني، وقبل أن ينتهي هذا الفصل همست جوليا قائلة: ولم نبقى إلى نهايته المملة؟ فلنذهب إلى بيتنا ونتناول بعض العشاء.» ووافقنا على هذا من فورنا.
ولما خرجنا من المسرح صرفت جوليا السيارة الكبيرة التي كانت في انتظارها، وقالت: إنا إذا عدنا إلى المنزل في مزلقتين كان ذلك أدعى إلى السرور، واخترنا من بين الصف الواقف أمام دار الأوبرا مزلقتين من أنظف المزالق، وركب ألكسي وماري واحدة وركبت أنا وجوليا الأخرى، ولا تزال صورة هذه المركبة منقوشة في ذاكرتي بجميع تفاصيلها واضحة المعالم حتى هذه الساعة، وما زلت أذكر هذه الليلة الباردة الصافية البراقة لفها الثلج المتلألئ، وأذكر فتات الثلج تتطاير من حوافر الخيل وهي تعدو بنا في غير جلبة، وأذكر سحب البخار الخارج مع أنفاسنا، وأحس بيد جوليا في يدي فوق ركبتينا تحت طنفسة الفرو.
وتحدثت إليها عن معهدنا، وعن حياتي في المصنع وفي الحزب، وحدثتها عن ألكسي وعن سائر رفاقي الذين يقيمون معي في الحجرة، وقاطعت نفسي وسط هذا الحديث الذي لا يهدف إلى غاية وصحت: «ما أجمل كل شيء في هذه الليلة!» والتقت شفتانا بقبلة.
وتحولت بنا العربة بعد قليل إلى شارع جانبي، ووقفت أمام بيت صغير من طابقين قائم وراء سور عال، شبيه بالمساكن الخاصة التي كان يسكنها التجار الأثرياء في الأيام الخالية، ووقف حارس مسلح عند باب البيت، وأحست ماري كما أحس ألكسي أننا نريد أن نكون وحدنا، فأصرا على أن يذهبا إلى مطعم، وفتحت جوليا الباب بمفتاح مزلاج ودعتني إلى الدخول.
وأضاءت الأنوار فألفيتني في أجمل بيت وقعت عليه عيني، فقد فرشت أرضه بالطنافس الشرقية، وعلقت على جدرانه الستر المزركشة والصور الزيتية، وانتشرت في حجراته الثريات البلورية والأرائك الوثيرة والمناضد البراقة من خشب الكابلي، وكان كل ما فيه ينطق بثراء أصحابه، وإن كان في ترتيبه شيء من التحفظ يدل على حسن الذوق.
ووقفت في وسط هذه العظمة منبهرا بادي الحيرة.
وضحكت جوليا وقالت وهي تلقي عنها دثارها المتخذ من جلد الفقمة: «تلك حقائق يا عزيزي، وليست صورا في دار خيالة.»
فأجبتها: «ولكني ما كنت أتصور أن شيئا من هذا لا زال له وجود في خارج المتاحف.»
دعك من هذا يا فيتيا، إن في بلدنا أشياء كثيرة لا يدور بخلدك أنها توجد فيه، هيا بنا إلى المطبخ وأعني على تناول لمجة، فإني أكاد أموت جوعا، فالخدم في خارج الدار الليلة، وهو في موسكو ليشهد مؤتمرا أو شيئا من هذا القبيل.
ورأيت المطبخ فزادني إحساسا بأن كل ما فيه أقرب إلى أن يكون من نسج الخيال، لقد كان جوه كله مشبعا بالوفرة والمتعة ، فقد امتلأت خزائنه بالأواني الخزفية الجميلة، وصفت فيها الأواني البلورية يحمل بعضها شعار القياصرة، وقامت على إحدى المناضد الجانبية غلاية براقة كبيرة، ولما فتحت المثلجة الضخمة أبصرت فيها من المأكولات الشهية ما عاد بذاكرتي إلى ما كان من المثلجات في قبو جدتي في ألكسندروفسك، وتمثلت ما بين هذا وذاك من فروق، وخيل إلي أني هنا في عالم آخر أبعد ما يكون عن الفقر المدقع والحرمان اللذين أصبحا من مستلزمات حياتنا السوفيتية.
ولما عدت إلى حجرتي في منزل الطلاب صباح اليوم الثاني، لم أكد أجد من الوقت ما يكفي للاغتسال وحلق الذقن قبل الذهاب مسرعا إلى المعهد، ولم تكن المحاضرات التي ألقيت طوال اليوم تجد في إلا طالبا نعسان غافلا ذاهلا لا يسمع ما يقال ولا يعي شيئا مما يسمع؛ ذلك أن أفكاري جميعها كانت مع جوليا، وقلت لنفسي من فرط الدهشة: «إن في العالم إذن حبا من أول نظرة.» ولكن لم تكون محبوبتي امرأة متزوجة، ومتزوجة فضلا عن هذا بزعيم من زعماء حزبي وبلدي؟
وعاهدت نفسي على ألا أزور جوليا بعد ذلك اليوم، وكنت في الوقت نفسه أعجب كيف أستطيع الحياة في الأيام القليلة الباقية على الموعد الذي حددناه للقائنا.
وقلت لنفسي في حزم وجفوة في أثناء محاضرة عن علم الغازات وضغطها وحركتها: «إن سلوكك يا كرافتشنكو ليشبه سلوك إحدى الشخصيات في رواية فرنسية رخيصة، ما لك ولهذه المهزلة؟! وماذا تكون عاقبها؟»
وبحت بسري إلى ألكسي في تلك الليلة، وأدرك من فوره أني لم أكن أطيق المزاح، فأخذنا نتحدث حديثا جديا، وكان مما قاله لي أنه عرف من ماري أن جوليا بائسة من زمن طويل، وأنها لا تحب زوجها العظيم، وأن من أكبر أسباب بغضها له أنها تكره قسوته على الشعب، وحياته المترفة، وعدم اكتراثه بما تعانيه جمهرة الشعب من شقاء.
وكان مما قالته له ماري: «لست أنكر أن هذا يبدو لك كأنه منظر من مناظر مسرحية «بيت العرائس» لإبسن، ولكن الواقع أن جوليا تحس بأنها سجينة، وتقول إنها لا ترى فرقا بين أن تكون زوجة ل «ر» أو زوجة لأحد أعضاء البيت المالك السابقين، وتظن أن حياتها معه سخرية بآلام الشعب الروسي.»
وقابلت جوليا مرارا في خلال الأسابيع التي أعقبت هذا اللقاء الأول، وسألتها ذات ليلة عن زوجها فاعتذرت عن الجواب، وقالت والدمع يفيض من عينيها: «أعفني من الجواب في هذه الليلة يا عزيزي، وسنجد في غيرها وقتا طويلا نتحدث فيه؛ لأني لا أريد أن أفسد علينا الليالي الأولى التي نقضيها معا.»
وكنا ذات مرة نسير معا في الحديقة الواسعة المسورة الواقعة خلف بيتها، بعد أن أزيل الثلج من طرقاتها وفرشت برمل جديد.
وقلت لها وألححت في قولي: «لا، إن من الخير أن تكشفي لي عن أمرك؛ ذلك أن «ر» ليس زوجك فحسب، بل هو أيضا زعيم من زعماء حزبي.»
فقالت: «لست من أعضاء الحزب، ولكني كنت أشعر من بادئ الأمر بميل إليه أو على الأقل بميل إلى الثورة، وكان أبي من رجال العلم ومن كبار الأحرار، آه! لقد نسينا كلمة الأحرار يا فيتيا، ونحن نسخر منها إذا نطقنا بها، ولكن كل سنة تمر بنا تزيدني إجلالا لها، إجلالا لها بالمعنى الذي كان يفهمه منها أبي على الأقل. لقد كان أبي يفهم منها حب العامة، والعدالة التي تشمل جميع الناس، وبفهم منها فوق هذا كله احترام الناس جميعا رجالا كانوا أو نساء، وكان يعلي من قيمة الحياة، ولعلنا قد نسينا هذا كله، ولكني أعتقد أن هذه المبادئ هي التي كانت تهدف لها الثورة.»
فقلت لها: «إن هذا لمن أعجب الأمور، لقد كان أبوك من رجال العلم أما أبي فعامل بسيط في أحد المصانع، وكان أحدهما يسمي نفسه حرا ويسمي الآخر نفسه ثوريا، ولكنك حين تحدثينني بما كان يعتقده أبوك أكاد أسمع في حديثك حديث أبي نفسه.» - «ليس في هذا شيء من الغرابة، إن زوجي يدعو للاشتراكية بين العمال الكادحين، ويهيب بهم أن يثبتوا دعائمها في المستقبل، ولكنه يعيش الآن في الحاضر لا في المستقبل، ولعله فيما بينه وبين نفسه يرى أن في اشتراكية اليوم ما يفي بغرضه، وأي حق لنا في هذه المتعة كلها؟ (قالت هذه الكلمات الأخيرة وهي تشير بيدها إشارة شملت الحديقة والقصر المترف ومعطفها المصنوع من الفراء.) على حين أن الملايين لا يجدون ما يسد رمقهم، وعلى حين ترى معسكرات المساجين تزداد اتساعا وقبحا في كل يوم؟ وقد لا تصدقني إذا قلت لك إني أبغض هذا النهم في الزعماء، وهل اتفق لك أن عرفت بطريق المصادفة ما يحدث في القرى في هذه الأيام؟» - «يؤلمني يا جوليا أني أعرف أكثر مما أريد أن أعترف به لنفسي.» - «لا يدهشنك مني أن أتحدث إليك على هذا النحو، إن عواطفي هذه ليست سرا خافيا على «ر»، فكثيرا ما أفصحت له عن رأيي في هذا كله، ولكنه إذا سمع هذا سخر مني وقال إنني طفلة بلهاء واهمة أطلق العنان لعواطفي، وأدعي أن أحدا لا يضار بهذا، وأن الزعماء يعملون وينقبون، ومن حقهم أن يحيوا حياة راضية هنيئة، ولكني لا أشك في أنه مخطئ في قوله هذا؛ لأن الزعماء الذين لا ينقصهم في حياتهم شيء سرعان ما ينسون ألم العذاب ويصبح حديثهم عن التضحية مجرد رياء.
وإني لأشعر يا عزيزي بأننا قوم مخدوعون، وأن على أبصارنا غشاوة فلا نبصر ما يحدث من حولنا، حتى ليخيل إلي أحيانا أن ما كان يعانيه الشعب من استغلال وهمجية في أيامه الماضية كان أنبل قصدا مما يعانيه في هذه الأيام؛ ذلك أن المسيطرين عليه لم يكونوا يدعون على الأقل أنهم رجال مبادئ ومثل عليا، ولم يكن منهم من يسمي عمله هذا اشتراكية، إن أمثالك من الشبان الشيوعيين لسعداء حقا؛ ذلك أنكم لا تزالون تؤمنون بمبادئكم، ولا تعرفون شيئا عن الدسائس القذرة، وعن الصراع القائم بين كبار الزعماء في سبيل السلطة.
وهل تعرف ما يدور من معارك تتقزز منها النفوس للاستيلاء على بيت ريفي في الغابات الفضية القريبة من موسكو، أو بيت شتوي كان يملكه في يوم من الأيام أمير من تجار القفقاس؟ ألا ما أكثر ما يذاع من أكاذيب وأباطيل! إني قريبة من هذا كله بحكم مركزي الذي أوجدتني فيه الظروف، حتى ليخيل إلي أحيانا أني أكاد أختنق منه، وما أشبهني في هذا الوضع بإنسان في حمأة يزيد تورطا فيها كلما حاول التخلص منها.»
ولم يخالجني أدنى ريب في إخلاص جوليا رغم ما بدا لي من مغالاة في أقوالها.
ثم تشجعت فقلت لها: «لو أنك كنت شديدة الحب لزوجك لما رأت عينك هذا، وأرجو ألا تسيئي فهم قولي إذا ما ذكرت لك أن سخطك السياسي قد لا يكون إلا صدى لسخطك الشخصي.»
وسكتت جوليا وهي تفكر برهة طويلة ثم قالت بعد هذا التفكير: «لا، لست أظن أن هذا هو السبب، لقد كنت حتى في السنين الأولى من حياتي الزوجية أنكر على «ر» وعلى أصدقائه العظماء الحياة التي يحيونها، والطريقة التي يتحدثون بها، وشدة احتقارهم للشعب الذي يستغلونه ويمتصون دماءه، وكنت أحس من أول الأمر أنني أشبه برقيق الأرض في مزرعة رجل من أصحاب الحول والطول.» - «ولم إذن لا تفارقين زوجك، وتتخذين لك عملا، وتعيشين من أجل مثلك العليا؟ إني أحبك وأظنك تحبينني، فما الذي يمنعنا أن نعيش معا؟» - «لا يا فيتيا، ليس الأمر سهلا كما تظن، فأنا أعرف الكثير مما لا تعرفه أنت، وليس فرار امرأة في مثل مركزي بالأمر اليسير، إذ ليس في وسعي أن أفارق زوجي وأختفي في غمار الشعب المجهول، لقد كنت طول حياتي شديدة القرب من ذوي السلطان؛ ولهذا فإنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي إذا أقدمت على هذا العمل، وأرجو ألا تطلب إلي أن أصرح لك بأكثر مما صرحت به، وإذا كنت تحبني حقا فلا تردني عنك، وهذا كل ما أريده منك.»
وكان ما أشارت إليه من عالم السلطان غير المحدود والدسائس التي لا تقف عند حد، عالما أجهله كل الجهل ولا أستطيع قط أن أفهمه، وما من شك في أن روسيا من السوقة يقع في حب أميرة من البيت المالك لا بد أن يشعر ببعض ما كنت أشعر به وقتئذ.
وكثيرا ما قابلت جوليا في بيت صديقتها ماري بعد عودة زوجها من موسكو، ولم يكن خافيا علي أن زوجها يعلم بأنها تحيا حياتها الخاصة، وأنه كان يغمض عينيه عما تفعل، وكنا في لقائنا نتحدث عن أملنا في أن نعيش معا جهرة كما يعيش الزوجان، ولكن لم يكن منا من يصدق هذا القول؛ ذلك أن اسم «ر» كان يبرز كثيرا في أعمدة الصحف، فهو اليوم يلقي خطبة وغدا يوقع مرسوما، وأخذت الألسنة تلهج بذكره «لقد قال «ر» هذا، وفعل «ر» ذاك.» ومن أجل هذا كان مركزه السامي وسلطانه القوي، ومهابته في جميع القلوب، كان كل هذا يبدو لي كأنه حواجز قائمة بيني وبين جوليا حتى في تلك اللحظات التي كنت أحتضنها بين ذراعي.
ثم تبدلت الأحوال فجأة؛ ذلك أنني استدعيت للمثول أمام لجنة الحزب المركزية، واستقبلني من أعضائها رجل يدعى الرفيق شلكين مساعد رئيس قسم المستخدمين.
وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، لقد أصدر الحزب قرارا يأمرنا فيه بأن نوائم قدر المستطاع بين عمل المهندسين الآن وبين تجاربهم السابقة، ولقد كنت قبل أن تلحق بالمعهد تعمل في صناعة التعدين، أليس كذلك؟» - «بلى، وكنت في مصنع بتروفسكي-لينين.» - «ها أنت ذا ترى بنفسك، وأي معنى في تدريبك على صنع الطائرات على حين أنك بدأت العمل بداية موفقة في صناعة التعدين؟»
فأجبته في وهن: «ولكني أفضل العمل في الطيران.» - «ربما كان هذا، ولكني لا أظنك تنكر أن هذا التفضيل لا يعدو أن يكون مسألة شخصية محضة.» ثم التفت إلى أحد أمناء السر وقال له: «اعمل على نقل الرفيق كرافتشنكو إلى معهد التعدين في دنيبروبتروفسك.»
وقضيت بعدئذ عدة ساعات أطوف في بستان سمسكايا، لا أبالي بالأوحال التي تتراكم في أواخر الربيع، وأسائل نفسي كيف يعرف الحزب أن الأمر ليس مجرد انتقال من الطيران إلى التعدين، بل هو انتقال من الحياة مع جوليا إلى الحياة بعيدا عنها، ولم يدر قط بخلدي إلا بعد زمن طويل أن الحزب، أو على الأقل بعض أعضاء الحزب، قد عرفوا ذلك الأمر ، وسواء أكان ذلك أم لم يكن فقد بدا لي أن قرار الحزب قرار عادل في جوهره.
وتحدثت إلى جوليا تلفونيا وأطلعتها على الخبر، واجتمعت بها عدة مرار قبل سفري، وكان اجتماعنا في كل مرة اجتماعا عاصفا، أذرفت فيه الدموع مدرارا، وألححت عليها أن تسافر معي مهما تكن النتائج، وخيل إلي في بعض الأحيان أن عزيمتها قد وهنت، وأنها قد تتبعني بالفعل، ولكن الأسباب التي تحول بينها وبين عملها هذا - أيا كانت هذه الأسباب - أقوى مما تستطيع التغلب عليها. «لا تطلب إلي هذا، ولا تقس علي يا فيتيا، إني لا أستطيع أن أفعل، وإن كانت الحياة بعيدة عنك ستكون موتا حيا، لا تطلبه إلي؛ فحسبي ما بي من آلام.»
وخرجت مع صديقي ألكسي في مساء اليوم السابق لسفري، وقضينا عدة ساعات نسير في شوارع خاركوف، ووعدني أن يوافيني على الدوام بأنباء جوليا، وأفضيت إليه بعزمي على أن تلحق هي بي، فإذا لم يكن ذلك في الأيام القريبة فلا أقل من أن يكون بعد فراغي من دراستي في المعهد حين يكون في وسعي أن أتزوج.
وجاءت إلى المحطة في صباح اليوم الثاني جوليا وماري، كما جاء أيضا رفاقي في حجرتي وغيرهم من الأصدقاء؛ ليودعوني وقت سفري، وتحدرت الدموع على خدي جوليا، وتظاهر كل من كان حاضرا بأنه لم يرها، ولم يدر قط بخلدي وقتئذ أنني لن أراها بعد تلك الساعة.
وكتبت إليها مرارا من دنيبروبتروفسك ولكنني لم أتلق منها جوابا، وألححت على ألكسي أن يتوجه تلقاء مسكن «ر» ففعل، ودق الجرس، ففتحت له الباب خادمة، ولما سألها عن مدام «ر» أخذت تنتحب وأجابته بقولها: «إن جوليا ليست هنا، وقد خلت منها الدار.» وأخذت تبكي، ولكنها لم تنبئه بشيء غير هذا، وأخبرته ماري أن جوليا فارقت زوجها بعد عودتي إلى دنيبروبتروفسك بزمن قليل، ولعلها لم تكن تعرف غير هذا، أو لعلها صدرت إليها أوامر مشددة ألا تبوح بغيره.
وأخذ جرح الفراق المؤلم يلتئم رويدا رويدا، ولكن الآلام الناشئة من سر الفرار الخفي وما كان يحوم حوله من شكوك ظلت تنتابني على الدوام. وحدث في إحدى السنين التي أعقبت ذلك الوقت أن ترامت إلي إشاعة غامضة فحواها أن جوليا ميخائيلفنا تعمل مدرسة في مدرسة في إحدى المقاطعات البعيدة بعد أن أطلقت على نفسها اسما مستعارا، ولكني لم يكن في وسعي أن أتحقق من صدق هذه الشائعة، ولعله كان من القسوة بعد ذلك الوقت الطويل أن نهتك أستار الماضي، أو أن نزبل ما تراكم فوقه من أنقاض على مدى الأيام.
الفصل السابع
انتصار الآلات
وسر أبواي وأخواي من عودتي إلى دنيبروبتروفسك غاية السرور، وأردت ألا أفسد عليهم سرورهم، فأظهرت أنا الآخر سروري لوجودي بينهم، وتطلب هذا مني مجهودا عنيفا؛ لأن ألم فراقي لجوليا كان ينغص علي حياتي كلها، وبدا لي ألا شيء يفرج عني هذا الهم إلا الانهماك في العمل، فألقيت بنفسي في تيار الدرس وأناشيد الحزب ومشروعات المصنع حتى لا أترك لنفسي فسحة من الوقت أكتئب فيها أو آسى على نفسي، وعملت على أن أزيد راتبي من الدولة بإعطاء دروس في الاقتصاد السياسي لبعض الفصول في المعهد الفني.
وكانت أمي لا تفتأ تشكو من حالي هذه وتقول: «إنك يا فيتيا ترهق نفسك بالعمل.» وما من شك في أنها كانت تظن أن هذه الغيرة كلها ليست غيرة عادية خالصة للعمل.
وسكنت في منزلي فنجوت بذلك من متاعب الإقامة في البناء العام المخصص لنوم الطلاب، وكل ما كان هناك من فرق بين هذا البناء ونظيره في خاركوف أنه أكثر منه اضطرابا وأقل راحة، وكنت أنا المشرف الرسمي على المصنع، ومن أجل هذا كانت علاقتي به وبالصناع فيه علاقة حقة وثيقة، واستعدت ما كان بيني وبين المهندسين والمدربين من صداقة قديمة، وأنشأت صداقات جديدة مع رؤساء العمال ومع العمال أنفسهم، وكانت مصانع بتروفسكي-لينين المتحدة تستخدم وقتئذ نحو 35000 عامل، وكان لهذه المصانع شأن عظيم في مشروع الخمس السنين.
وتبين لي أن ن. جليوبنكو الرئيس الجديد للمصنع رجل ذكي شريف، وإذ كان يعرف علاقتي القديمة بمصنعه، واهتمامي العظيم بتقليل نفقات الإنتاج وإجرائه على أحدث النظم، فقد كان يدعوني مرارا كثيرة إلى حضور الاجتماعات الصناعية، ويعهد إلي من حين إلى حين بعمل دراسات خاصة فيما يستجد في المصنع من مشاكل.
وكنت أعيش مع أبي تحت سقف واحد وأختلط بغيره من صغار العمال، فلم يكن في وسعي أن أغمض عيني عن المأساة المؤلمة التي كانت تمثل فصولها في الضياع والحقول، وكنا نحن الشيوعيين فيما بيننا وبين أنفسنا نحوم حول هذا الموضوع، أو نعالجه بالألفاظ الملطفة المنمقة التي ينطق بها الحزب، فكنا نتحدث عن «جبهة الفلاحين» و«خطر كبار الملاك الزراعيين» و«الاشتراكية القروية»، وكان علينا إن أردنا أن نحيا حياة الشيوعيين أن نغشي الحقائق بستار من الألفاظ المعسولة حتى لا تراها الأعين وتدركها العقول.
أما الصناع العاديون فلم يكن ثمة ما يضطرهم إلى هذا المسلك، فقد كان الكثيرون منهم زراعا قدامى لا تزال لهم كلهم إلا قليلا منهم صلات بالريف؛ ولهذا لم يكن في وسعهم أن ينظروا إلى المزارع الجماعية نظرة «علمية» مجردة عن أشخاص الزراع أنفسهم، فكانوا يتحدثون حديثا صريحا عن العنف والقسوة والجوع والموت، كما يتحدث الناس عن حوادث شخصية تمس زيدا وعمرا في قرية معينة من القرى، لا كما يتحدث العلماء عن قوانين عامة، وكنت أسمعهم من حين إلى حين يروون قصصا عن أشخاص في إقليمنا اضطرهم الجوع إلى أكل لحوم الآدميين، فكنت أعدها منهم مغالاة لا أصدقها، ولكنها رغم عدم تصديقي إياها تقذف الرعب في قلبي.
ولم يكن في وسع من في داخل المعهد أن يغمضوا عيونهم عن رؤية الفظائع التي تحدث في خارج أبوابه وعلى مقربة منه، وكان الرؤساء يحذرون العمال من أنصار «اليمين المنشقين» و«أنصار تروتسكي» و«مأجوري طبقات الزراع الأقدمين» الذين ينشرون «الشائعات المعادية للحزب»، ولكن الشائعات لم تنقطع بل زادها التهديد والقمع انتشارا، وكان من شأن هذا كله أن يجعل حياة طلاب المعهد الألفين حياة يسودها جو التوتر الخفي الصامت. وكان كثيرون من أنشط الطلاب يرسلون إلى القرى في مهام خاصة ، فإذا عادوا حذروا من أن يتحدثوا بما شاهدوا، ولكن صمتهم ومراوغتهم كانا أفصح من الحديث، هذا إلى أن كثيرين منهم كانوا يتحدثون إلي بما رأوا بعد أن أعاهدهم على ألا أذيع ما أسمع منهم، ويروون لي من الفظائع ما يقشعر من هوله بدني.
وكان لي زميل في فصلي عرفته في اجتماعات خلايا الحزب، فقلت له عقب عودته من إقليم بلتافا: «إن من يراك يحسب أنك شاهدت أطياف الموتى.»
فأجابني بقوله: «نعم لقد شاهدتهم.» ثم أطرق ببصره.
ولم أواصل حديثي معه، فقد أحسست بأنه محزون يريد أن يبوح لإنسان ما بما يحز في قلبه، ففررت منه مذعورا مما عسى أن يصيبني من هذا الحديث.
وكان «مروجو الشائعات» بين الطلاب يقبض عليهم من حين إلى حين؛ ذلك أن الرقابة على عقائد الطلاب السياسية كانت تستنفد من جهد المشرفين عليهم أكثر مما تستنفده الدراسات الفنية نفسها.
وكان في المعهد كما كان في كل مشروع سوفيتي وكل فرع من فروع الحكومة إدارة متصلة بالقسم السياسي، وكان يرأس هذه الإدارة عندنا الرفيق لبد، ولم يكن أحد يدخل مكتبه حين يدعى ليستجوب إلا تملكه الرعب، وليس منا من كان يعرف ما يجري وراء الكوة الصغيرة ذات القضبان الحديدية التي بباب غرفته المصنوع من الصلب؛ ومع ذلك فلم يكن بيننا من تبلغ به السذاجة حدا لا يعرف معه أن لكل طالب في هذه الإدارة الخاصة ملفا تسجل فيه كل كلمة ينطق بها، وكل عمل يصدر منه، ولا يفوت المشرفين عليه أن يسجلوا نبرات أقواله وحركاته.
وكانت الملفات الخاصة «بالأحوال الشخصية» تحوي معلومات عن حياة الطالب أو المدرس الخاصة، وعن أهله وماضيه السياسي، وكان أهم ما تحتويه التقارير والشكايات التي كان يرفعها العيون السريون المنبثون في كل فصل من فصول الدراسة، وفي كل منامة في المعهد، أو المخبرون المتطوعون الذين يريدون أن تكون لهم حظوة عند ولاة الأمور، أو الذين تحركهم الأحقاد والحفائظ الشخصية.
وكانت هذه الملفات سرا مكنونا لا يطلع عليها مدير المعهد نفسه ولا أمين لجنة الحزب فيه، وكان الغرض من ذلك حماية المخبرين وإحكام شبكة التجسس، وكان للإدارة الخاصة عمالها السريون في كل فرع من فروع المعهد بل وفي خلايا الحزب نفسها، على أن لجنة الحزب كان لها هي الأخرى مخبرون في هذه الخلايا، لا تعرفهم الإدارة الخاصة، وهكذا كان على كل جاسوس جاسوس مثله في نظام معقد دقيق يقذف الرعب في قلب كل إنسان.
ولم يكن هذا هو كل ما في الأمر، فقد كان للقسم السياسي هو الآخر عمال في المعهد غير عمال الإدارة الخاصة يتصلون مباشرة برياسة هذا القسم في الإقليم، وكان هؤلاء بمثابة رقابة ثانية على لبد وموظفيه، وكان للجنة الحزب بالمدينة عيونها في الخلايا، كما كانت لجنة الإقليم تتلقى التقريرات السرية من أفراد معينين في لجنة المدينة، وكان هذا الهرم المتشابك من الرقابة يمتد إلى أعلى قمته، إلى لجنة الحزب المركزية في موسكو ثم إلى الهيئة السياسية العليا التي يرأسها ستالين.
لقد كانت الحياة السياسية تحيط بها شبكة من التجسس تمتد خيوطها من أعلاها إلى أسفلها ومن أسفلها إلى أعلاها، تجسس من الحزب وعلى الحزب، من القسم السياسي وعلى القسم السياسي، يتعاون العمال فيها على جمع المعلومات في بعض الحالات، ويتنافسون على جمعها في حالات أخرى؛ ولذلك كنا نعيش في عالم كله عيون وآذان، وما من شك في أن الرجل العادي لم يكن يعرف مدى هذا النظام ولا دقته، بل إني أنا نفسي حين أكتب هذه الخلاصة الموجزة أستمد بعض ما أكتب من المعلومات التي كشفتها بعد خلال تجاربي في السنين التالية، وكل ما كان يعرفه الرجل العادي أن «للجدران آذانا» وأن الصراحة أقرب سبيل إلى الهلاك.
ولكن رغم هذا كله كانت المعلومات المحظورة تنتشر في كل مكان، وانتشارها هذا دليل على توتر مشاعر الناس في ذلك الوقت وعلى ما تمتاز به طبيعة الروس من حب للكلام، ومن عطف على البائسين، ومن إفصاح عما في ضمائرهم، ومن أجل هذا كنا إذا قطعنا على أنفسنا العهود بألا يفشي أحدنا ما يسمعه من زميله نخاطر بالتحدث فيما يخالجنا من شكوك مغيظة مؤلمة، وترتعد فرائصنا فرقا حين نفكر في أن كل كلمة ننطق بها ستجد سبيلها إلى سجلات حياتنا الخاصة، وكم من مرة حدث في سني التطهير المقبلة أن ووجهت بعبارة عارضة جرت على لساني في مجلس خاص لصديق كنت أثق به! وكم من مرة سئلت لم لم أنقل إلى من يهمهم الأمر عبارات سمعتها من غيري؟! لقد كان عدم التبليغ عن العواطف «المعادية للحزب» أو «المعادية للسوفيت» يفسر بأنه اشتراك في هذه الجرائم ورضا عنها.
ولم تكن الإدارة الخاصة تتوانى لحظة عن مطاردة «الأعداء»، وكان منا من يعرفون مثلا ما وضعته من خطط لفرض الرقابة الشديدة على الأستاذ دنيك العلامة الذي كان يدرس لنا علم الميكانيكا الإنشائية، وكان أهم من تدريسه وأعظم منه نفعا ما يجربه في معمل المعهد من أبحاث في مشروعات الإنشاء الصناعي الخطيرة التي تتطلب نفقات باهظة، وإذ كان هذا الرجل لا ينتمي إلى الحزب، وكان قبل الثورة من رجال الفكر المعدودين، والإخصائيين الذين لا يبدو عليهم شيء من الاهتمام بالسياسة، فقد كان بطبيعة الحال هدفا للارتياب الشديد، فكيف السبيل إذن لمراقبة نشاطه وهو نشاط فني إلى حد يصعب معه أن تتبين العيون ما عسى أن يكون فيه من عبث بالآلات أو المصانع.
لقد وجد الجواب عن هذا السؤال عند زوجة الأستاذ، وكانت تشغل هي الأخرى منصب كبيرة مساعديه، وكانت سيدة طويلة القامة نحيفة الجسم، شقراء اللون، متوسطة الجمال، في وسط العقد الرابع من عمرها، فكانت بذلك تصغر زوجها بنحو ثلاثين عاما، ولما كانت بطبيعة الحال تحترم زوجها لجهوده وعلمه، فلم يكن ولاة الأمور يرون أن في وسع رجال القسم السياسي أن يعتمدوا عليها كل الاعتماد في أن تكون عينا لهم عليه؛ ولهذا عمدوا إلى وسيلة أخرى فوضعوا في طريقها محبا لا تستطيع مقاومة حبه، وكان هذا المحب هو بفلنكو، وهو مهندس متطرف في حزبيته، قوي الجسم عريض المنكبين ضخم الرأس والوجه، لم يلبث أن أسر قلب الزوجة الشابة، ولم يكن في المعهد من لا يعرف أن زوجة دنيك وقعت في هواه إلا عدد قليل ومنهم زوجها نفسه، كما لم يكن فيه أحد غير الزوجة نفسها يظن أن حبيبها إنما يؤدي عملا عهدت به إليه الإدارة الخاصة، على أن ما ضحى به بفلنكو في هذه التمثيلية لم يجده نفعا، ولم يكن في وسعه أن يكشف عن أي عطل أو تخريب في معمل الأستاذ دنيك.
وقلما كان أحد يشير في حديثه إلى هذا التجسس المعقد المنظم اللهم إلا في عبارات غامضة خبيثة «ونوادر سياسية» رمزية - أي فكاهات ترمي إلى غرض سياسي - ولكنه مع ذلك كان نظاما حقيقيا شاملا لا يقل في حقيقته وشموله عن الهواء الذي نتنفسه. وكان هذا النظام المحكم يحيط بالمعمل ويتغلغل فيه كما يحيط بالمعهد وبالصحف المحلية التي كنت أكتب فيها، وبالهيئات الحزبية التي كانت تستنفد مني نشاطا مطردا لزيادة؛ لأني كنت وقتئذ من أعضاء الهيئة السياسية للجنة الحزب في معهدنا.
وتجمع من هذه الجاسوسية الشاملة سيل جارف من البيانات الشخصية والاتهامات، بعضها يعتقد ناقله بصدقه وبعضها قائم على حب التشفي والاستهزاء، وقناطير مقنطرة من الملفات دونت فيها أقوال آلاف الآلاف من الجواسيس وكلها مرتبة ومدروسة ومرقومة، ترسل منها صور إلى المدعي العمومي وإلى موظفي الحزب المنوطين بتأديب أعضائه، وإلى المحاكم السرية التابعة للقسم السياسي إذا ما تطلب الأمر اتخاذ إجراء عاجل، وكانت هذه كلها سيوف مرهفة مسلولة فوق رقاب المارقين المرتدين أو المتشككين المترددين، إذا احتاج الأمر إليها في مستقبل الأيام، وكانت كلها مصفوفة في عشرات الآلاف من الخزائن تعد كل واحدة منها حصنا مليئا بالأسرار الخاصة، وحوادث النزق والطيش، وبالأكاذيب والملق والأخطاء.
وكان هذا النظام السري الدقيق من نظم الرقابة على الأهلين وهتك أسرارهم، هو الذي قضى أبد الدهر على الأسرار الداخلية والحرية البيتية وجعلها من العادات العتيقة البالية، ومع ذلك فقد كان يسمى في عرف حزبنا الحاكم «الديمقراطية الحزبية».
في عام 1931م ألقى الرفيق ستالين خطبة في مؤتمر عام من الموظفين المشتغلين بالشئون الاقتصادية زلزلت قواعد الصناعة السوفيتية من أساسها وبدلت مظاهر حياة الصناع والموظفين على السواء، واشتملت هذه الخطبة على «عناصره الستة المهمة» لرفع القدرة على الإنتاج، وكان هم هذه العناصر الدقة في حساب النفقات، والعناية أكثر من الماضي بتركيز إدارة المشروعات، وزيادة تحديد تبعة العجز والإتلاف، والتفرقة العظيمة بين دخل الأفراد.
ومما جاء في هذه الخطبة قوله: «لقد خرجت الصناعة عن حكم العقل من زمن بعيد، ولم تعد مشروعاتنا الصناعية تعنى بالعد والحساب وتحضير حسابها الختامي الدال على إيرادها ونفقاتها، وما من أحد يبدو مسئولا عن شيء ما، والزعماء بكم فهم لا ينطقون، ولم هذا؟ إن الشواهد كلها تدل على أنهم يرهبون الحقيقة.»
وسرني بعض هذا التبدل في التفكير الرسمي، وخيل إلي أنه يكاد يكون نصرا مؤزرا لي أنا نفسي؛ لأني طالما كتبت وحاججت في هذا التعقيل نفسه، ولكن بعضه أقلق بالي، وخيل إلى أبي ومن على شاكلته أن هذه الآراء تؤيد أسوأ ما تنبئوا به من العواقب.
لقد كانت المساواة في الدخل من المثل السوفيتية العليا، وها هي ذي قد أصبحت جريمة ما بين يوم وليلة، وقيل عنها: إنها غير خليقة بالمجتمع الاشتراكي، ونبذت قاعدة «الحد الأعلى لإيراد أعضاء الحزب»، وهي التي كانت تقضي بألا يزيد دخل هؤلاء الأعضاء على الدخل المتوسط إلا قليلا، وبذلك أطلق العنان لسيل من النهم والجري وراء المصالح الشخصية في الأوساط الرسمية، وأدخل نظام الأجر بالقطعة في الاقتصاد السوفيتي بأجمعه حتى في الأعمال التي لا يخفى فيها سخف هذا النظام من الأجور إن لم نقل استحالته. وبفضل هذه العبقرية السوفيتية العجيبة التي تستطيع التحول من النقيض إلى النقيض استبدل بالفساد الناشئ من كثرة الرؤساء فساد مثله ناشئ من تحكم رئيس واحد مستبد، قضى قضاء مبرما على آخر ما بقي من آثار دعوى السيطرة من أسفل أي «سيطرة العمال» على شئون الدولة.
ولا حاجة إلى القول بأن الأمر بإجراء الإصلاحات شيء وتنفيذها شيء آخر، لقد كان ستالين محقا في اتهامه الزعماء بأنهم يخشون الحقيقة، فهم يخشونها لأنها من وسائل الترف العظيمة الخطر التي لا تتفق مع مطالب الثورة، وكان الذي يخطئ خطأ بريئا في حكمه أو يقوم بتجربة فنية غير محكمة يتهم بالتخريب وتعطيل الآلات المتعمد، ويجازى على ذلك بالنفي أو السجن، كما أن الموظف الصغير الذي يرتكب خطأ في عمله كان يحل به أقسى عقاب؛ لأن ولاة الأمور ذوي العقول البوليسية كانوا في كثير من الأحيان يتهمونه بالخيانة المتعمدة، وكان التهرب من المسئولية يضع العراقيل في سبيل الجهود الاقتصادية الضخمة، ويعقدها تعقيدا لا سبيل إلى التخلص منه، وقد وصف لي جليوبنكو هذه الحال وقتئذ بقوله: «إنهم يطلبون إلينا تعقيل الصناعة والتجديد فيها وتخفيض نفقاتها، وكل هذا شيء جميل جدا يا رفيق كرافتشنكو، ولكننا لا نكاد نفعل شيئا جريئا أو خارجا عن المألوف حتى نعرض حياتنا للخطر، أليس كذلك؟ إن السلامة في رأيي ألا نفعل شيئا قط.»
واستدعيت في أواخر الخريف من ذلك العام إلى مقر لجنة الحزب الإقليمية في صحبة تسبليا كوف مدير معهدنا وزميل من الطلاب يدعى برتز كوي، ولما دخلت أغلق أمين السر الباب وأعلن أنه يريدنا أن نقوم ببحث في نيقوبول، وهي بلدة تبعد عنا بضع عشرات من الأميال.
وقال لنا: «إن العمل في تلك المدينة يسير سيرا رديئا على الرغم من مبادئ ستالين الستة، فالاجتماعات قائمة على قدم وساق، والصخب عظيم، ولكن العمل أقل مما نتطلب، هذا إلى ضعف النظام وانتشار روح التذمر بين العمال. وحال نيقوبول من الحالات التي تتطلب البحث والعناية، فأنتم تعلمون أننا ننشئ مصانع لعدة صناعات في تلك البلدة تكلفنا مئات الملايين من الروبلات، ولكن عملية الإنشاء لا تتقدم على الإطلاق لسبب لا نعلمه، والإنتاج ضئيل إلى حد لا يصدقه العقل.
ونحن نريد أن تذهبوا أنتم الثلاثة إلى هذا البلد، وأن تقيموا فيه من الوقت ما يكفي لقضاء مهمتكم، أسبوعا أو أسبوعين إذا لزم الأمر، ثم ترفعوا إلينا تقريرا عما ترونه من عيوب وعن وسائل إصلاحها، وسندرس تقريركم هنا ونعرضه على الرفيق أورزنكدز إذا وجدنا أنه جدير بالعرض عليه .»
ولما جئنا نيقوبول وجدنا أن البناء قد بدئ به من نحو ثلاث سنين في سهل خال على بعد ستة أميال من البلدة وبضعة أميال من السكة الحديدية، وزاد ذلك البعد من متاعب العمال، ولم يكن أحد يعرف السبب في اختيار هذا الموقع غير الملائم لهذا الغرض، ولو أن البناء قد اختير له مكان أقرب من هذا إلى المدينة ليسر ذلك مشكلة مساكن العمال بعض التيسير.
وكان بطرس برتشكو مدير المصنع رجلا حديث العهد بمنصبه؛ ولهذا لم يجد ما يمنعه أن يكشف عن مئات الأغلاط والسخافات التي كان العمل يتورط فيها.
وقال لي وهو يتحسر: «لقد رأيت المكان غاية في الفوضى والقذارة، حتى إن عملية الحفر وحدها كانت تعد من المشروعات الكبرى، يضاف إلى هذا عدم الانسجام بين أجزاء العمل المختلفة، فأنتم أيها الرفاق تعلمون حق العلم أن كل مصنع يشتغل باستخراج المعادن وصهرها يعتمد في عمله على غيره من المصانع، فإذا أقيم بعضها دون مراعاة البعض الآخر كان هذا هو السخف بعينه، وقد يبدو هذا العمل لا غبار عليه من وجهة الإحصاءات العمومية، ولكنه لا يبدو كذلك إذا ما بدأت عملية الإنتاج بالفعل.»
وهالنا ما وجدناه من الآلات الغالية الثمن المستوردة من ألمانيا على الأكثر ملقاة في العراء يعلوها الصدأ وهي منتشرة في الأرض الواسعة المعدة لإقامة المصانع والمصاهر، وبيوت المديرين ومساكن العمال، وشاهدنا في كل مكان زرناه مباني مهجورة بعضها لم يبن منه إلا نصفه، وبعضها لا يزيد ما بني منه على قواعده.
وقلت ونحن نتعثر في هذه البيداء الملأى بالحجارة والمعادن: «لكن هذا أمر فظيع يا رفيق برتشكو.» - «إني أعرف ذلك ولكن ما حيلتي فيه؟ فنحن لا نكاد نبدأ العمل في أحد الأبنية حتى تأتينا الأوامر من المركز الرئيسي بأن نقف كل شيء وأن نوجه جهودنا كلها إلى مكان آخر؛ لأن الخطط تغيرت! هذا إلى أننا في الوقت نفسه نجد العمال عاجزين عن القيام بما فرض عليهم القيام به من العمل، ونسبة المرضى والغائبين بينهم مروعة حقا، فهم قد سئموا عملهم لأنهم يعيشون في ظروف قاسية، ولست أخفي عنك أنهم لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء الملائم لهذا النوع من العمل.»
ثم قال بلهجة الراضي عن نفسه : «وأنا حديث العهد هنا بطبيعة الحال، وكل ما تراه قد ورثته عن عهد الإدارة السابقة.»
ألا ما أتعس حظك يا برتشكو! أنى لهذا الرجل أن يعرف أنه لن تمضي على حديثه هذا بضع سنين حتى يكفر بحريته عن هذه الفوضى الضاربة أطنابها في نيقوبول؟ وأنى لي أن أعرف أني سأدعى في يوم من الأيام لأن أضطلع بقسط هام في إدارة هذا المصنع «الجبار»، لقد كنا في هذه الزيارة نخطو وسط تلك الفوضى التي لا يتصورها العقل والتي تشمل المكان برمته، وكل منا يجهل لحسن الحظ ما تخبئه له الأقدار.
ووجهت اللجنة الزائرة الأسئلة إلى المهندسين ورؤساء العمال وصغارهم، وتبين لنا من دراستنا أن العمل كان يسير في فترات متقطعة في غير نظام، وأن الأموال والجهود تذهب هباء، وخيل إلي أن أسباب هذا الاضطراب تنقسم قسمين:
أما القسم الأول:
فناشئ من دسائس من لا شأن لهم بالعمل ومن تدخلهم في شئونه، لقد كان هذا العمل على ضخامته مرتبط الأجزاء بعضها ببعض، يتكون منه كله مشروع شامل يبلغ من الاتساع حدا يكاد العقل البشري يعجز عن الإحاطة به كله، وكثيرا ما كان التغيير الضئيل في الخطة الرئيسية لهذا المشروع - ولو كان له ما يبرره - يؤدي إلى اضطراب في أجزائه النائية، ولم يكن في وسع الموظفين البعيدين عن مركز العمل أن يدركوا في جميع الأحوال ما تسفر عنه أوامرهم المرتجلة بشأن هذا الجزء أو ذاك من عواقب وخيمة تؤثر في العمل برمته، ولم يكن الموظفون المحليون يجرءون على مخالفة تلك الأوامر، فلم يكن لهم بد من إطاعتها مؤملين أن تستقيم الأمور فيما بعد، يضاف إلى هذا أن التدخل كان من نوع التدخل الشرطي طابعه القبض المستمر على القائمين بالعمل، واستجوابهم وتهديدهم مما أحاطهم بجو من الخوف وعدم الاطمئنان.
أما القسم الثاني:
من أسباب اضطراب العمل وضآلته فيمكن تلخيصه كله في عبارة واحدة هي إغفال الجانب الإنساني في عملية الإنتاج؛ ذلك أن أجور العمال كانت ضئيلة ضآلة يرثى لها إذا قدرت بالقيمة الشرائية للنقد الروسي في ذلك الوقت، مع أن عشرات الملايين من الروبلات كانت تبدد بلا حساب في شراء آلات لا ينتفع بها، وفي إقامة مبان يتخلى عنها بعد قليل، أما مشروعات مساكن العمال فقد بقيت مجرد رسوم على الورق، وظل العمال أنفسهم يحشرون في ثكنات خشبية أقيمت على عجل، ذات سقوف يتسرب منها ماء المطر، وجدران وأرض رطبة تنقصها الوسائل الصحية البدائية، لقد كان كل ما يهتمون به هو الإنتاج، أما من يقوم على جهودهم هذا الإنتاج فلم يكن أحد يوجه إليهم أقل عناية، بل كانوا موضع الإهمال والازدراء.
وقررت في مساء اليوم الثاني من مجيئنا إلى نيقوبول أن أزور الثكنات في صحبة الرئيس المشرف على أعمال البناء، وأمين لجنة الحزب المحلية، والموظف المشرف على المساكن، وسرنا نخوض في الوحل إلى كعوبنا حتى وصلنا إلى صفوف من المساكن قبيحة المنظر لم يمتد إليها النور الكهربائي مع وجود الكهرباء في أبنية الإدارة العامة، بل كانت مصابيح الكيروسين مع فتائل مغمورة في أوعية زيت صغيرة تلقي ضوءا شاحبا على مناظر من القذارة يرتد منها البصر خاسئا وهو حسير.
وبدت إحدى الثكنات من خارجها وكأنها لا ضوء فيها على الإطلاق، فدققت بابها ففتحه رجل ملتح كبير السن: «مساء الخير أيها الرفيق، هل تأذن لنا بالدخول؟» - «ومن أنتم؟» - «أنا أمين سر لجنة الحزب ومعي هنا» وأشار إلينا «لجنة من المركز العام.»
فقال العامل في سخرية ساذجة: «شيء جميل! مرحبا بكم في قصرنا! أتريدون بعض الجرذان أم تفضلون البق؟ دعكم من الروائح الكريهة.»
وكانت الثكنة مظلمة تقريبا، وجلس على فراش قذر شبان أصغر منه سنا يقرءون في مصابيح زيتية ضئيلة الضوء، وجلس غيرهم يلعبون الورق، ولم يلتفت إلينا معظم من كانوا في الثكنة من العمال البالغ عددهم نحو خمسين أو ستين، ولكن جماعة منهم التفوا حولنا يشكون ويلعنون ، وجاءت فأرة تجري بين أرجلنا.
وقال أحد العمال: «أتسمون سقط المتاع هذا فراشا؟ وهل هذه وسائد؟ لا، إنها خرق بالية قذرة.»
وسألته: «كم يوما تمضي حتى تغير أغطية الفراش ؟» - «تغير كل شهر إذا واتاك الحظ، وإذا لم يواتك فكل شهرين أو ثلاثة أشهر، وقد لا تغير أبدا.»
وصاح رجل آخر قائلا: «إنا لا نجد ما ينجينا من الحشرات والجرذان، تعال هنا وانظر.»
ورفع أحد أطراف سرير من حديد وضرب به الأرض عدة مرات، فخرج البق منزعجا من معششاته حتى اسودت منه أرض الحجرة وتراجعت مرتاعا على الرغم مني.
وجاء عامل آخر يكمل القصة فقال: «ولم لا تعشش عندنا الحشرات؟! إنا هنا نتناوب العمل، طائفة تروح وطائفة تجيء قبل أن يبرد الفراش، والأرض لا تغسل أكثر من مرة في الشهر، والحق أن هذه ليست حياة بل هي العذاب بعينه، فإذا أمطرت الدنيا فنحن في سفينة نوح، وإذا اشتد البرد كنا في القطب الشمالي.»
وسألته: «ولم تسكتون على هذا؟ ولم لا تشكون؟»
فقال مستهزئا: «نشكو! ألا ما أكثر الخير الذي نناله من الشكوى! إن اللجان تأتي إلينا كما أتيتم أنتم، ثم لا نسمع بعد ذلك شيئا، ونحن نريد أن نعمل، ونعرف أن العمل لازم وخطير، ولكننا خلقنا من لحم ودم لا من حجارة، ثم إن العمال في إحدى الثكنات الأخرى قرروا يوما ما أن يفعلوا شيئا يصلحون به تلك الحالة التعسة التي لا تطاق، فأجمعوا أمرهم على ألا يذهبوا إلى العمل حتى تنصلح أمورهم، وأظنكم تعرفون ما حدث.» - «ماذا حدث؟»
وسكتوا كلهم فلم يحر أحد جوابا. - «لا تخف وقل لي ما حدث، إني قادم من دنيبروبتروفسك وأؤكد لك أني لا أعرف ما حدث!»
وتطوع رجل آخر بالجواب فقال: «لقد استدعي الزعماء.» - «وإلى أي مكان استدعوا؟» - «لا حاجة بي إلى القول إنهم لم يدعوا إلى الكنيسة أو إلى مشرب البيرة، بل دعوا إلى القسم السياسي بطبيعة الحال، وفوق ذلك فإنهم لم يعودوا إلينا أبدا.»
وقاطعه العامل الملتحي وهو يضحك ضحكة مريرة: «لعلهم كانوا في حاجة إلى إجازة يقضونها في سيبيريا.»
ونقلت ما رأيت إلى زميلي عضوي اللجنة، وكانا هما أيضا قد فتشا البيوت وما تم من أبنية المصانع، ولم يكشف أحد منا عن شيء يسره ليخبر به رفيقيه، وقضيت الليلة ساهرا أتقلب في فراشي، يؤرقني ويقض مضجعي ما شاهدت من أقذار وما يعانيه العمال من آلام وشقاء، ويفت في عضدي قنوط الذين لم يشكوا أمرهم إلينا لفرط تعبهم أو لعدم اكتراثهم، فآلمني ذلك منهم أكثر مما آلمتني سخرية الذين تحدثوا إلي وكراهيتهم اللتان عبروا عنهما بأقوالهم، ومما زاد هذه الصورة قتاما وزادني يأسا من إصلاح الأمور ما قاله أولئك العمال عن الزعماء الذين استدعوا ولم يعودوا إليهم أبدا.
وعقد في اليوم الثاني اجتماع في مركز لجنة الحزب بالمدينة شهده جميع الرؤساء المسئولين في مصانع نيقوبول، وشرحت لهم ما رأيت بكل ما أسعفتني به اللغة من ألفاظ، وأعلن الرفيق برتشكو مدير المصانع أن موظفيه سيدعون ليحاسبوا على أعمالهم أمام السلطات السوفيتية العليا إن لم يحل بعد خمسة أيام من ذلك الوقت شيء من النظام محل الفوضى الضارية أطنابها في الثكنات، وأعلن الرفيق تسبكياكوف أن اللجنة لن تعود إلى مقرها، بل هي باقية حيث هي لترقب ما يئول إليه الأمر في نهاية الأيام الخمسة.
وكانت هذه أيام ما أعجبها، فقد جيء بمئات من الرجال يمسحون الأرض ويغسلونها ويصلحونها، واهتزت أسلاك البرق والمسرة مرارا كثيرة إلى خاركوف ومرة على الأقل إلى موسكو نفسها، فجاءت أسفاط ملأى بأغطية الفرش وأكياس الوسائد، وشرع العمال يمدون الأسلاك الكهربائية إلى الثكنات، وكأن الموظفين الذين سمحوا من قبل بأن تتجمع هذه الأمور المروعة قد أصبحوا هم أنفسهم أحرص الناس على إصلاحها وأكثرهم اغتباطا بهذا الإصلاح.
وتحدث إلي أحدهم فقال: «لم توجد هذه الشرور لأنا راغبون فيها، بل كان سبب وجودها أنا عاجزون عن علاجها، وإن ترك الأمور تجري في مجاريها خير من العمل وبذل الجهود، إنك لا تجد إنسانا يرغب في تحمل التبعة، انظر مثلا إلى عملية التنظيف الشاملة، فهي عملية لم تكن مستطاعة إلا لأنكم تمثلون لجنة الحزب الإقليمية، والميزانية لا تحوي اعتمادات للأغطية النظيفة أو الإصلاحات الضرورية، ومن ذا الذي يستطيع العبث بالميزانية؟ إنها كما ترى دائرة مفرغة لا أول لها ولا آخر.»
وتناولت العشاء في الليلة السابقة لسفرنا مع أحد رؤساء المهندسين، وكان رجلا كبيرا من غير أعضاء الحزب.
فقال لي في أثناء حديثه: «لست من حزبكم، بل أنا من رجال الفكر الروس وكفى، ولا أريد أن أتدخل في شئونكم الخاصة، ولكني مهندس يعز علي أن تذهب جهودي أدراج الرياح، فأنا أحب بلادي وأبغي لها الخير والرخاء، وأرجو أن تصدقني في قولي هذا.
إن كل ما نتقدم به إلى المركز العام عرضة للنقد الشديد، والذين فيه لا يدرسون ما نتقدم به إليهم على أنه عمل هندسي، بل يدرسونه من وجهة النظر «السياسية»، ومهما يكن قرارهم فإنا مرغمون على إطاعته، مهما يكن من سخافته وبعده عن الصواب، فإذا أخطأ الرؤساء قاسينا من جراء خطئهم الأمرين، ولكننا لا نستطيع الكلام، بل إننا في الواقع نكون سعداء محظوظين إن لم تلق علينا تبعة أخطائهم.» - «وماذا تقول في أعضاء الحزب المحليين؟ ألا تلقون منهم معونة؟» - «آه يا عزيزي الرفيق كرافتشنكو، إن لديهم مناصب لا حصر لها للتجسس والرقابة، أما المعونة فليس لها عندهم مناصب كثيرة، إن لجنة المصانع التابعة للحزب تفحص، ولجنة المدينة تفحص، والقسم السياسي يفحص، وأنتم هنا الآن لتفحصوا، وهم يفحصون عنا ويفحص بعضهم عن بعض، وقد تظن أن الواجب يقضي بأنه إذا عهد بالمال الكثير إلى الذين يحسنون تدبيره فلتترك لهم الحرية الكافية لإنفاقه على أحسن وجه، لكن الذي يحدث فعلا أننا نقضي من أوقاتنا نتناقش فيما عسى أن يظن بنا هذا الرجل أو ذاك أكثر مما نقضي منها في الأعمال الهندسية وفي الإنشاء، ولم أكن أجرؤ أنا نفسي على التحدث إليك بهذه الصراحة إلا لأني رجل كبير السن.»
وغادرت نيقوبول وأنا مكتئب محزون، وإذا ما عدت الآن بفكري إلى هذه الزيارة كان أعجب ما فيها أن قسما كبيرا من المصاهر قد تم إنشاؤه بطريقة ما هي أقرب الطرق إلى المعجزات وخوارق العادات، لقد استغرق إنشاؤها أكثر مما قدر له القائمون على أمرها، وأنفق عليها من المال أكثر مما رصد لها، وقاسى منشئوها ألوانا من العذاب لا يمكن تصورها، وضحي في سبيلها بأرواح لا حصر لها، ولكنها أنشئت آخر الأمر.
ورفعنا إلى الحزب تقريرا مفصلا، ورفعه الحزب إلى موسكو مشفوعا بتوصياته، ولم أغفل أنا شيئا مما لم أرض عنه حتى البق وحتى شكوى العمال من اعتقال القسم السياسي لزملائهم، ولست أعرف هل وصل ما ذكرته عن هذه الاعتقالات إلى موسكو أو لم يصل إليها.
وزادتني هذه التجربة تصميما على تنفيذ خطة كنت أفكر فيها من عدة شهور، لقد اعتزمت أن أسافر إلى موسكو وأحاول مقابلة الرفيق أورزنكدز والتحدث إليه وجها لوجه عما شاهدت حولي من أخطاء ومساوئ، وإذ كانت هذه الخطة تتفق مع حاجة مصنع بتروفسكي-لينين فقد وافق عليها الرفيق جليوبنكو مدير المصنع، ورضي أن يتحمل المصنع نفقات الرحلة.
وذهبت من المحطة إلى وزارة الصناعات الثقيلة مباشرة.
وكانت هذه زيارتي الثالثة لموسكو، ولكني شعرت فيها بما لم أشعر به في زيارتي السابقتين من فرق عظيم بين عاصمة البلاد وسائر مدنها، وكان من أسباب هذا الفرق ما أدخل على العاصمة من تحسين عظيم في مظهرها، ولكن أكبر أسبابه ما طرأ على مدن الأقاليم من تقهقر سريع.
وبدت لي موسكو كأنها مهد الرفاهة والرخاء إذا وازنتها بدنيبروبتروفسك أو بخاركوف نفسها، فلم تكن صفوف الناس أمام الحوانيت في العاصمة الكبرى طويلة كصفوفهم في المدينتين الأوليين، ولم تكن الرفوف فيها خالية مثلها فيهما، وكان النشاط فيها ظاهرا محسوسا والناس متفائلين، والشوارع نظيفة معتنى بها، والطرقات الكبرى قد رصفت حديثا بالأسفلت، والمباني الحديثة تبهر القادم إلى المدينة من خارجها، ومر بي السائق في ميدان الأوبرا الذي تحيط به دور التمثيل والفنادق، ودار الأوبرا الكبيرة والحوانيت الجميلة الكثيرة العدد، ورأيت الناس الذين تزدحم بهم طرقات المدينة أحسن ملبسا من أمثالهم في سائر المدن، وكان أكثر ما سرني فيهم أنهم لا يتسكعون في الطرقات ولا يجولون فيها على غير هدى، بل كانت مشيتهم نفسها تبدو عليها مظاهر النشاط والرشاقة التي تكاد أن تكون غريبة في بلاد الروسيا بأجمعها.
ووصلت إلى حيث كان الرفيق أورزنكدز، وعرفت من كان هناك بنفسي، وحصلت على جواز مرور، ثم قدمت نفسي للرفيق سمشكين أمين سره، وكان من حسن حظي أنني قابلته من قبل فيسر لي سبيل المقابلة، وأطلعته على ما معي من رسائل التوصية من جليوبنكو وغيره، ووعدني بأن يبلغ الوزير نبأ قدومي.
وأحصيت ستة عشر شخصا ينتظرون في حجرة الاستقبال، وكانوا كلهم حسني البزة تلوح عليهم مظاهر النعمة، وكان بعضهم يلبسون ملابس أجنبية في أيديهم كلهم تقريبا مكاتيب مختصرة، ويدل مظهرهم كلهم على أنهم من ذوي المراكز الهامة ومن ذوي اليسار، ويبدو عليهم أنهم من رؤساء الصناعات المتحدة أو مديري المشروعات الصناعية الكبرى، وكلهم من أعلى طبقات الزعماء الاقتصاديين، وكنت أصغر من في الحجرة سنا وأقدمهم ملبسا، وأحسست كأني دخيل أو فقير بينه وبين الزعيم قرابة، ونظر الحاضرون إلي بشيء من الريبة وكأن لسان حالهم يقول: «ماذا يصنع هذا الإنسان في هذا الحفل من العظماء؟»
وسمعنا فجأة أصواتا وصراخا منبعثة من خلف الأبواب الكبيرة المؤدية إلى مكتب الوزير، وتبينت فيها نبرات صوت أورزنكدز الوزير الكرجي، وتطلعت أعيننا كلنا إلى الباب باهتمام وبغير قليل من الرهبة؛ ذلك أننا لم نكن نشك في أن غضبه إن كان غاضبا سيكون نذير شر لنا وخيبة للأغراض التي جئنا كلنا من أجلها، ثم فتح الباب بعنف واندفع منه رجل بدين يتصبب العرق من جسمه، وتبدو عليه مظاهر الخوف، يجر حقيبة ملابس مفتوحة، وسقطت من الحقيبة حزمة من أدوات المائدة: ملاعق وسكاكين وأشواك، ووقف المسكين وهو مثقل بحمله ليجمع الأدوات، ثم ألقاها بحركات عصبية في حقيبته، وأغلقها بأصابعه المرتجفة، وهرول من الحجرة دون أن ينظر إلى واحد منا.
وبعد دقيقة أو دقيقتين من ذلك الوقت خرج أورزنكدز مبتسما باش الوجه ليس في مظهره أثر من آثار ذلك المنظر العنيف، ووقفنا جميعا إجلالا له.
وقال وهو يضحك موجها خطابه إلى من في الحجرة بوجه عام: «لست أشك في أنني قد سلقت هذا الوغد بألسنة حداد ، وفي الحق أنه جدير بهذا، لقد جاء يحمل إلي أدوات المائدة لتكون نماذج للإنتاج بالجملة، ولكنها كلها بشعة المنظر، بدائية الصنع، شبيهة بالفئوس، لا تصلح حتى للمتوحشين من الآدميين، إن من واجبنا أيها الرفاق أن نمحو من الأذهان تلك الفكرة القائلة بأن أي شيء يصلح لشعب السوفيت، إنا نريد الكيف كما نريد الكم، والآن فلأنظر ما جاء بكم كلكم إلى هذا المكان؟»
وتنقل الوزير من زائر إلى زائر وإلى جانبه سمشكين، وكان إذا سمع مطالب واحد منهم أحاله إلى أحد مساعديه، أو طلب إليه أن يعود لمقابلته في يوم معين، ورأيت أن أورزنكدز قد زاد بدانة عما كان حين رأيته في المرة السابقة، وزاد الشيب في شعره الكث وشاربه المتهدل، ولكن ملامحه الضخمة ذات البشاشة الطبيعية غير المتكلفة، كانت لا تزال تبعث الثقة في نفس من يراه.
ولما وصل إلي ناولته ما معي من الرسائل، فألقى نظرة سريعة على واحدة منها ثم نظر إلي وقد أبرقت أسارير وجهه وقال: «كيف حالك يا صديقي القديم؟ نعم، إني أذكرك جيدا يا رفيق كرافتشنكو، وأرجو أن تكون ناجحا في دراستك، ويسرني أن أتحدث إليك، وليكن هذا في الساعة العاشرة مساء، اعتن بهذا الرفيق يا سمشكين، وهيئ له جميع أسباب الراحة.»
ولما عاد الوزير إلى مكتبه جاءني سمشكين وضغط بيده على ذراعي ليهنئني على ما نلت من حظوة، لقد أظهر لي أورزنكدز دلائل الرضا والمودة، وجاء أمين سره يسلك معي مسلك رئيسه، ونظر إلي من في الحجرة بشيء من الحسد على ما نلت من رضا، وما من شك في أنهم قالوا في أنفسهم: «أهذا الذي لم يزل في شرخ الشباب يحظى بابتسامة العظماء؟»
وركبت عربة زرقاء كبيرة أقلتني إلى «فندق العاصمة» وقدمت إلى من فيها ورقة من الوزير، فأخذني من فوري إلى غرفة كبيرة في الطابق الأعلى، وأحسست في خبيئة نفسي بالعظمة التي عادت علي لقربي من ذوي السلطان، وبما يخلعه علي هذا القرب من نفوذ.
وذهبت في المساء إلى مطعم الفندق، وهو حجرة ضخمة عالية الجدران مزينة بأصص النباتات الاستوائية الضخمة، ورأيتها مزدحمة وفيها جوقة جاز تعزف بعض الألحان، وفي وسطها ما يشبه أن يكون بركة سمك وعلى شواطئها الممردة رجال ونساء، يرقص كل اثنين منهم على نغمات الموسيقى، وقد ازدحمت بهم هذه الشواطئ فكانوا كأنهم كتلة واحدة من البشر يموج بهم المكان موجا.
ولم يكن في مقدوري أن أوائم بين نفسي وبين هذا المنظر الجديد إلا بعد عدة دقائق، وساءلت نفسي: «هل يمكن أن يكون هذا المكان قطعة من اتحاد السوفيت حقا؟ أو هل قادتني قدماي خطأ إلى ملهى أرى فيه مناظر تعرض على الشاشة البيضاء؟» وأبصرت من وراء نخلة في أصيص صحاف الطعام والراقصين والراقصات، وشاهدت في أماكن متفرقة رجالا في قمصان نصفية روسية، ولكن سائر من في المطعم كانوا يرتدون الثياب الأوروبية بما فيها أربطة الرقاب، أما النساء فكان بعضهن يرتدين جلابيب قصيرة لم أرها قط إلا على أغلفة الكتب، وكان عدد الأجانب كثيرا، ومنهم طائفة ترتدي ملابس العشاء والقمصان البيضاء المنشاة، وشاهدت من خلال إحدى البواكي في نهاية المطعم مكان الشراب، وفيه عدد من الفتيات الحسان يقدمن المشروبات إلى عدد من الرجال الواقفين على كراسي عالية تدل ملامحهم على أنهم من غير الروس.
وما كدت أستقر في المكان حتى طاف بمخيلتي منظر ثكنات نيقوبول، وتذكرت قول أحد نزلائها: «مرحبا بك إلى مسكننا أيها الرفيق، أتريد جرذانا أم بقا؟» ولكنى أبعدت هذه الفكرة من مخيلتي وقلت لنفسي: إن هذه موسكو، ولن يمضي إلا قليل من الوقت حتى أكون في «حديث» مع واحد من الستة الزعماء الذين يتصرفون في مصاير البلاد.
وقبل أن يحل الموعد المحدد بزمن طويل كنت مرة أخرى في حجرة الاستقبال الملاصقة لمكتب الوزير، وقبل الساعة العاشرة بقليل، اقترب مني سمشكين، وقال لي: «ربما اضطررت إلى الانتظار بعض الوقت ؛ لأن الرفيق بوخارين مع الوزير.»
الرفيق بوخارين! ودق قلبي دقة عنيفة، وكأني في هذه الساعة في حضرة لينين نفسه، إذ لم يكن بين أسماء العظماء في الثورة من هو أعظم من بوخارين إلا لينين وتروتسكي، ولقد درست كتابه المسمى «أبجدية الشيوعية»
1
حين كنت أعد نفسى للانضمام للجان الشباب، نعم إن نيقولاي بوخارين قد اتهم قبل ذلك ببضع سنين بأنه من المنشقين أنصار اليمين، وجرد من وظائفه الرسمية وحرم على الناس أن يطالعوا كتبه، ولكن اسمه كان لا يزال تحيط به رغم هذا هالة من السحر، وكان مجرد إحساسي بأنه هناك في ذلك المكان، لا يحجبه عني إلا ذلك الباب، كان مجرد إحساسي بهذا كافيا لأن يهز مشاعري على الرغم مني.
وبعد قليل من الوقت أشار إلي سمشكين بأن أدخل وهمس قائلا: «إن بوخارين لا يزال هناك؛ لأن الوزير طلب إليه أن يبقى وأن يقابلك.»
وما هي إلا لحظة حتى كنت أصافح أورزنكدز وبوخارين، وجلس الوزير خلف مكتب كبير، انتشرت عليه أوراق وكتب وست مسرات، وصفوف من الأزرار الكهربائية وجلست أنا وبوخارين أمامه إلى جوار المكتب في حجرة رحبة، علقت على جدرانها صور كبيرة لماركس ولينين وستالين، ووضعت على المكتب صورة شمسية لستالين كتب صاحبها في أسفلها بخط رديء: «إلى سرجو.»
وقال الوزير وهو يحاول على ما أظن أن يهدئ روعي: «مرحبا يا رفيق كرافتشنكو، حدثنا حديثا واضحا مختصرا بما تعرفه عن مشروع نيقوبول.» - «أحب أن أحدثك أولا أيها الرفيق الوزير عن مصنع دنيبروبتروفسك، فإن لي آراء خاصة في عمله أريد أن أبسطها لك.» - «قل.»
وكان في وسعي أن أبسط المسألة بسطا واضحا؛ لأني رتبتها من قبل في ذهني ترتيبا منتظما، فقلت له: أولا إن بعض أجزاء المصنع في حاجة إلى التوسيع وإلى التنظيم على أحدث الأساليب، وأظهرت له أن بعض مبانيه القديمة قد أهمل أمرها لشدة حرص ولاة الأمور على تشييد مبان جديدة، وبرهنت له بالإحصاءات الدقيقة أن إنفاق ملايين قليلة من الروبلات في تحسين بعض الأجزاء القائمة من هذا المصنع يؤدي إلى إنتاج أكثر مما يؤدي إليه إنفاق عشرات أضعافها في تشييد مصانع جديدة.
وابتسم بوخارين ابتسامة عريضة حين سمع هذا الحديث دلالة على رضائه عنه، فقد عرف عنه من قبل أنه يعارض في الإسراع في تشييد المصانع الجديدة، وكان قبل أن يرغم على السكوت قد طعن في بعض نواحي مشروع السنوات الخمس ووصفه بأنه «مجرد نزعة إلى المغامرات».
ورد علي أورزنكدز بقوله: «إني متفق معك بوجه عام يا رفيق كرافتشنكو، وإن كانت المشاكل الخاصة بمصانع بتروفسكي-لينين المتحدة في حاجة إلى الدرس والتمحيص.» ودون بعض ملاحظات على إضمامة من الورق كانت أمامه ثم واصل حديثه قائلا: «أبلغ المدير جليوبنكو أننا سنعنى ببحث مطالبه، والآن فلتستمر في حديثك.»
ثم أخذت بعدئذ أصف ما انطبع في ذهني من زيارتي لنيقوبول، والتزمت في بادئ الأمر العبارات الفنية الشكلية التي أعددتها في عقلي من قبل، ولكني حين واصلت الحديث عادت إلى مخيلتي ذكرى الثكنات وما فيها من قذارة وتبرم، فذهب ما كان لدي من حصافة وسرت في صوتي نغمة الغضب وأنا أشرح ما شاهدته من تلف وإسراف واضطراب، وخاصة حين كنت أصف ما يحيط بحياة العمال من ظروف لا قبل لهم بها، وقلت له: «لست أشك في أننا إذا أنفقنا بضعة ملايين من الروبلات في إصلاح الظروف التي يعيش فيها العمال سنوفر مبالغ طائلة من نفقات المشروع، أما إهمال العنصر الإنساني فيه فإنه سيحول المشروع كله في مكان مثل نيقوبول إلى مأساة من السفه والدمار وخيمة العاقبة.»
وما كدت أنطق بهذه العبارة حتى قاطعني بوخارين بقوله: «مرحى، مرحى!» وحاول أورزنكدز أن يكبت ابتسامة ولكنه لم يستطع.
وواصلت حديثي وقد انسقت وراء لساني فقلت: «إن المشكلة الرئيسية هي مشكلة الأجور بأجمعها من أكبر المهندسين إلى أصغر العمال، وتأتي بعدها مشكلة السلع التي يستهلكونها، حتى يستطيع العمال أن يشتروا بما ينالون من الأجور ما يحتاجونه من السلع كالطعام والكساء ولوازم المنازل، ولقد شكوت إليك أيها الوزير حين اجتمعت بك أول مرة من التدخل الذي لا ضرورة له في إدارة المشروعات الصناعية، وما من شك في أن الإدارة الموحدة والتبعة الموحدة لازمتان لنجاح كل مشروع، ولكننا الآن قد ذهبنا في الناحية الأخرى إلى الغاية القصوى، ولم يبق للعمال كلمة يقولونها في شئون عملهم، ولقد بلغ من أمرهم أن أصبحوا يدعون أمام القسم السياسي إذا سولت لهم أنفسهم أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على ما يقاسونه من متاعب لا قبل لهم بها، على أني أخشى أن أكون في حديثي هذا قد عدوت طوري، فإن كان الأمر كذلك فلا تؤاخذني لأني أشعر بما أحدثك عنه في أعماق نفسي.»
وصاح أورزنكدز قائلا: «لا، لا، لا، أيها الرفيق، إني يسرني أن أسمع إنسانا يفصح عما في قلبه كله لا عن بعض ما فيه، إن كل ما تقوله صحيح ولا تظن أنه خاف علينا، وأؤكد لك أن الرفيق ستالين يعنى أشد العناية بمشكلة الأجور مثلا، ولكن تشخيص الداء أسهل كثيرا من مداواته.»
ودام هذا الحديث ما يقرب من ساعة، وسألني الوزير في أثنائه هل خرجت في حياتي من بلادنا؟
فأجبته قائلا: «لا، لم أخرج منها، ولكني قرأت الصحف الفنية التي تصدر في بلاد السويد وألمانيا وأمريكا، فعلمت منها أن في تلك البلاد أشياء كثيرة، نحن في أشد الحاجة إلى أن نتعلمها.» - «قد نرسلك إلى أمريكا أو ألمانيا بعد أن تتم دراستك في المعهد، والآن فلتنس أمر العمل والعمال بعض الوقت، هل شاهدت ما في موسكو من مسارح ومتاحف؟» - «لا، لم أذهب إليها بعد، ولكنني أرجو أن أشاهد منها أكثر ما أستطيع مشاهدته.» - «حسن، إني أمنحك إجازة خمسة أيام تقضيها في موسكو، فانتظر سمشكين في حجرة الاستقبال، وإلى اللقاء مرة أخرى.»
وكدت أفقد وعيي حين خرجت من عنده، لقد كنت في هذا اللقاء أقرب ما أكون إلى السلطة العليا، وكاد إحساسي بهذه السلطة يذهب بعقلي، وأخذ الجالسون في حجرة الاستقبال ينظرون إلي في دهشة لم يحاولوا قط أن يخفوها، وما من شك في أنهم كانوا يعتقدون أن الرجل الذي يستأثر بساعة كاملة من وقت الوزير لا بد أن يكون رجلا خطير الشأن، وجاءني سمشكين بعد قليل.
وقال لي: «أهنئك أيها الرفيق، لست أشك في أن ما كان معك من المال قد نفد، وإليك تذكرتين، إلى مسرح البلشوا، وإلى مسرح موسكو الفني، وسنؤدي نحن نفقاتك في الفندق، وهذه ألف من الروبلات لنفقتك الخاصة وهي منحة لك من الرفيق أورزنكدز، فمتع نفسك كيف شئت، وإذا احتجت إلى شيء فما عليك إلا أن تخاطبني تليفونيا.»
وجيء لي مرة أخرى بسيارة كبيرة أقلتني إلى الفندق، ولما ذهبت إلى مطعم العاصمة لأتناول عشائي شاهدت فيه جوقة من عشرين مغنية من الغجر، يغنون أغاني بلدية، ولم يدهشني ما رأيت في هذه المرة فقد ذهب عني ما كنت أشعر به قبل من غرابة، وما من شك في أن وجودي مع أورزنكدز وبوخارين قد أشعرني بأني هنا في المكان اللائق بي، كأني أصبحت أحد الصفوة المختارة، ألا ما أسهل على الإنسان أن يخضع لمغريات النعيم والسلطان! ترى كم من الزمن تطول آلامي النفسية مما يعانيه بعض صغار العمال المعذبين المجهولين في مصانع نيقوبول وأمثالها لو أنني كنت أنا أيضا أعيش في موسكو مثقل الجيوب بالمال، وبالقرب مني سيارة فخمة تقلني إلى حيث أشاء، وفرقة موسيقية تغرق نغماتها ما عسى أن أشعر به من وخز الضمير؟
وشاهدت في الخمسة الأيام التالية تمثيلية راقصة صامتة وعدة تمثيليات غنائية، ومعرضا للفنون في موسكو، وتمثيلية مسائية في مسرح يختنجوف، وقضيت عدة ساعات في معرض تريتاكوف الفني، وفي متحف الثورة ومكتبة لينين، وغيرها من المعاهد التي يتحتم على كل إنسان أن يشاهدها، ألا ما أكثر ما يحتويه العالم من علم وجمال!
ثم تذكرت أن الرفيق لزريف، المحاضر الأول الذي جذب أفكاري إلى الحزب ومثله العليا في مناجم فحم الدنتز من زمن بعيد كان هو أيضا في موسكو، فاعتزمت أن أذهب لزيارته، فلما دخلت عليه تذكرني وأحسن استقبالي، وكان يسكن في شقة صغيرة في إحدى الوحدات المقامة على الشاطئ الثاني من نهر موسكو، وسرني لسبب يصعب علي أن أعبر عنه أن أرى صورة تولستوي لا تزال معلقة في حجرته.
وعرفني الرجل بزوجته، وهي شابة حسناء ومن العاملات في الحزب لا تقل نشاطا عن زوجها نفسه ، وقدمت لنا أكواب الشاي، وأخذت وأنا أتناوله أقص عليه ملخص تاريخ حياتي مذ التقيت به في إقليم التعدين، وكانت خاتمة حديثي بطبيعة الحال وصفا مفصلا حماسيا لاجتماعي بأورزنكدز وبوخارين، وأصغى إلي لزريف وهو صامت، وأحسست أن نشوتي هذه قد ضايقته.
وقال بشيء من الأسى: «ألف روبل وتذاكر للمسارح وسيارات ودار الأوبرا! نعم، هكذا كان أمراء الأسرة المالكة في العهود المنصرمة يكرمون المحظوظين من أتباعهم، وكل ما هنالك من فرق بيننا وبينهم هو الاسم لا غير.»
ورددت عليه بشيء من الحماسة: «إنك لا تنصفهم كل الإنصاف يا رفيق لزريف، إن الذي أعجبني في هذا اللقاء أن الوزير كان راغبا في الاستماع إلى أقوالي، ولست أشك في أنه يدرك آلام الشعب ويعطف عليه، وإذا كان هو يدرك آلامه ويعطف عليه فإني أظن أن لينين لا يقل عنه إدراكا لهذه الآلام وعطفا على المتألمين، وهذا هو الذي يوحي إلي بالشجاعة والطمأنينة.»
وكان لزريف يشغل وقتئذ منصبا هاما في جامعة موسكو، كما كان يختار في لجان الحزب الهامة ذات السلطات الواسعة، ولكن خيل إلي ونحن نتحدث في تلك الليلة أن الآية قد انعكست، فخبت آماله الخداعة وحماسته، وأصبحت أنا الذي أدافع عن الحزب وألتمس المعاذير لأعماله.
وسألني فجأة في أثناء الحديث: «هل سافرت إلى القرى من زمن قريب؟» - «لم أسافر إليها ولكنني أعرف الكثير مما يحدث فيها.» - «إن معرفة ما يحدث فيها شيء ورؤيته بالعين شيء آخر، لقد عدت منذ قليل إلى مدينة أودسا في أوكرانيا حيث كنت أشرف على تنفيذ نظام المزارع الجماعية في أحد الأقاليم، وأخشى يا صديقي ألا يكون في وسعي أن أتحدث عن تلك البلاد بمثل الهدوء الذي تتحدث به عن كرم الوزير ...»
وكان مما أخبرني به لزريف أنه كان عضوا في لجنة من أعضاء موثوق بهم أرسلت إلى ذلك الإقليم بعد أن فصل كثير من الزعماء المحليين؛ لأنهم عجزوا عن تنفيذ المهام التي كلفوا بها هناك، وكان سبب فشلهم أن مقاومة الزراع فيها اشتدت، وأن الغل ملأ صدورهم، وأن وسائل «القمع الشديدة» التي لا بد من اتخاذها لمعالجة الموقف كانت مما لا يستطيعه الموظفون المحليون، وبدا الموقف شديد الخطورة إلى حد اضطر مولوتوف إلى الذهاب إلى هناك بنفسه نيابة عن الهيئة السياسية العليا ليشد من أزر الحكومة ويزيد في قسوتها.
وواصل لزريف حديثه قائلا: «وجمع الرفيق مولوتوف أعضاء الحزب العاملين في الإقليم وتحدث إليهم حديثا صريحا صارما، وقال: إن المشروع يجب أن ينفذ مهما ضحي في سبيل تنفيذه من الأرواح؛ ذلك أن الثورة تظل معرضة للخطر ما دام في البلاد ملايين من أصحاب الملكيات الصغيرة، فإذا ما جاءت الحرب، فإن هؤلاء الملاك قد ينضمون إلى أعداء البلاد ليحتفظوا بأملاكهم؛ ولهذا يجب ألا يكون هناك مجال للين ولا للأسف. ولم نخطئ نحن في فهم أقواله، ولم يكن ثمة حد لضروب القسوة التي ارتكبت في البلاد بعد هذا الإنذار الذي وجهه مولوتوف للقائمين على تنفيذ المشروع.»
وغطى لزريف وجهه بكلتا يديه كأنه يريد أن يطرد بهما تلك الذكريات المؤلمة.
وزرت عددا من معارفي قبل أن أغادر العاصمة، وكان منهم من يردد أصداء دعاوى الحزب وأقوال محرري الصحف، وهؤلاء هم الراضون الذين يعيشون في جنان من الدعاوة، وفي عالم منعزل لا يتجاوز أطراف موسكو، ويكاد يكون مقطوع الصلة بسائر البلاد بوجه عام، ومنهم آخرون من أمثال لزريف تبدو عليهم مظاهر مصطنعة من تفاؤل عاصمة البلاد، ولكنهم في حقيقة أمرهم تكاد تتفطر قلوبهم من هول ما دهى أهل البلاد، وهؤلاء هم الذين أفسدوا ما تركته زيارتي للوزير من أثر طيب في نفسي، ووجهوا أفكاري وجهة أخرى.
ولم يستخفني الطرب وأنا أقص على مسامع أهلي ما رأيت وما لاقيت في موسكو، أو أنقل ما شاهدته لجليوبنكو، ولم أذكر شيئا عن الروبلات الألف ولا السيارات ولا تذاكر المسارح؛ لأني أحسست إحساسا غامضا بأني إن ذكرتها كشفت للقوم عن جريمة اقترفتها، وإن لم يكن في وسعي أن أحدد نوع هذه الجريمة.
وكان لا بد من مضاعفة الجهد في الحفظ والدرس لتعويض ما فاتني منه بسبب انقطاعي عن معهدي في زيارتي لنيقوبول وموسكو ولغير ذلك من الأسباب، وكان من حسن حظي أني لم أجد صعوبة في تلك الدراسة الفنية، فلم ألبث أن حصلت ما حصله زملائي في فرقتي.
وجاءت كاتيا الصغيرة إلى منزلنا بعد أشهر قلائل من عودتي من موسكو، فقد عدت من المعهد ذات مساء وهممت بالدخول إلى الحمام لأغتسل استعدادا للعشاء، ولكن أمي أوقفتني وهمست في أذني قائلة: إن البنت الصغيرة تستحم فيه.
فسألتها: «أية بنت؟» - «صه، سأخبرك فيما بعد، إن أحداثا مروعة تقع في القرى.»
وذهبت إلى حجرتي ولحقت بي أمي بعد قليل، وقصت علي القصة في بضع كلمات، فقالت: إن نتاشا ابنة عمي، وهي من أعضاء الحزب ومديرة لإحدى الكليات التابعة لمصنع من المصانع، كانت تركب القطار عائدة من رحلة قامت بها لقضاء بعض الأعمال المصلحية، فأقبلت عليها في عربة القطار فتاة صغيرة في أسمال بالية، تبلغ من العمر عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، وطلبت إليها في صوت متهدج لا يكاد يسمع أن تعطيها كسرة من الخبز تتبلغ بها، ولم يكن هذا الصوت غريبا عليها، ولكن شيئا في عيني الطفلة الحزينتين وملامحها المتغضنة ترك في قلب نتاشا أعمق الأثر، فجاءت بالفتاة البائسة إلى المنزل.
وقالت نتاشا لأمي وهي تعتذر عن مجيئها بها: «ولعل الذي أثر في نفسي هو البرد الشديد، فإني لم أطق رؤية هذه القطعة من الإنسانية حافية القدمين عارية الجسد إلا من قليل من الأسمال البالية تخرج في البرد القارس في مثل تلك الليلة.»
وقررت أمي من فورها أن تبقي الطفلة في منزلنا، وقالت وهي تبتسم: «إن فردا آخر يضاف إلى أفراد الأسرة الكثيرين لا يكلفنا شيئا.» وأخذتها بين ذراعي وعانقتها.
وخاطبت أمي قائلا: «إنك أم بحق، ويسرني أنك قررت هذا القرار.»
وذهبنا إلى حجرة الطعام فرأيت كاتيا الصغيرة جالسة على الأرض بجوار أنابيب التدفئة، وكانت صفراء اللون مرتاعة، منكمشة الجسم كأنها تريد أن يصغر جسمها حتى لا تراها العين، وكادت بعض تلافيف ثياب أمي أن تحجبها عن ناظري، وكان شعرها الأسود المبتل مجدولا ومفروقا في وسط رأسها، ووجهها الصغير بيضاويا، ذهب لونه من فرط التعب وتغضن قبل الأوان، ولكن معارفها كانت وسيمة وفي وسعك أن تقول: إنها كانت جميلة، وجلست الفتاة في مكانها ساكنة لا تبدي حراكا، ولا يميزها من الموتى إلا حركات عينيها اللتين كانتا تتقلبان في جميع أركان الحجرة.
وقالت لها أمي: «لم تجلسين على الأرض يا كاتيا؟ قومي واجلسي على الكرسي، هذا هو ابني فكتور أندريفتش، تعالي سلمي عليه.»
وصدعت الطفلة بما أمرت.
وجلست على الأرض أمامها وناديتها: «مرحبا بك يا كاتيا، لم لا تتكلمين؟ لا تخافي شيئا، فنحن جميعا نحبك، هل مسك أحد بأذى؟»
فأجابت بصوت خافت: «لا.»
وكانت كاتيا ونحن جلوس حول مائدة العشاء حيية صامتة، وكانت قبضتها على ملعقتها سمجة غير لطيفة، ولكن الجوع لم يلبث أن تغلب على ما كانت فيه من ارتباك، فأخذت تلتهم الطعام التهاما، وحاولنا أن نتحدث في موضوعات شتى لا تمت بصلة إلى حالها، ولكن بؤس هذه الطفلة أثر فينا وأحزننا، ولم يكد أبي ينبس ببنت شفة.
ولما ذهبت والدتي بعد العشاء لتغسل الصحاف أقبلت عليها كاتيا وقالت لها: «خالتي، هل تأذنين لي أن أساعدك؟» ولما حملت الصحاف من المائدة إلى المطبخ بدت لأول مرة بنتا صغيرة عادية، وكأنها وهي في ثوبها الكبير ذي الذيل الطويل في حفلة من حفلات التخفي، ودخلت في تلك الساعة جارتنا ألجا إيفانوفا، وهي موظفة نشيطة في لجنة الحزب الإقليمية، ولما علمت بأمر الفتاة لم يكفها استحسان ما فعلناه لها، بل عرضت علينا أن تشترك معنا في نفقات كسائها، وسمعنا فجأة صوت الفتاة تبكي في المطبخ.
وقالت أمي: «دعوها تنفس عن كربها بالبكاء.»
ولكن صوت بكائها أخذ يرتفع حتى أصبح نحيبا هستيريا، وشرعت تردد في نحيبها باللغة الأوكرانية عويل النادبات وتقول: أين ماما؟ أين بابا؟ آه! أين فاليا أخي الأكبر؟ وذهبنا إلى المطبخ، ورأينا الفتاة منكمشة فوق كرسي تضرب كلتا يديها الصغيرتين الباديتي العظام بالأخرى، والدموع تنهمر من عينيها وتجري على خديها الغائرين .
وتوسلت لها أمي أن تسكت قائلة: «أرجو أن تهدئي يا كاتيا، إن أحدا لن يمسك بسوء، وستقيمين معنا وسنأتيك بأحذية وملابس ونعلمك القراءة والكتابة، وثقي أني سأكون لك أما رءوما.»
ولكن الفتاة لم تهدأ وشرعت تقص علينا قصتها.
وألحت عليها أمي أن تمسك عن سرد هذه القصة قائلة: «لا تقصيها علينا يا بنيتي العزيزة، لا تقصيها علينا، وستحدثيننا عنها في غير هذا الوقت.»
فقالت كاتيا وهي تنتحب: كلا، لا أستطيع، بل لا بد لي أن أقص عليكم قصتي الآن، إذ ليس في وسعي أن أقف صامتة، بعد أن قضيت عاما كاملا من غير أهل، نعم عاما كاملا، لقد كنا نعيش في بكرفنايا، ولم يشأ أبي أن ينضم إلى المزارع الجماعية، وأخذ ناس كثيرون يناقشونه، ثم ساروا به إلى مكان بعيد، وشرعوا يضربونه، ولكنه أصر على عدم الانضمام إليها، فصاحوا قائلين: إنه من عمال «كبار الملاك».
وسألتها: «وهل كان والدك من الملاك الزراعيين؟ وهل تعرفين معنى لفظ «عمال كبار الملاك»؟» - «لا يا عمي لست أعرف معنى هذه الألفاظ؛ لأن معلمي لم يعلمني إياها، لقد كان لنا جواد وبقرة وعجلة وخمس نعاج وبضعة خنازير ومخزن، ولم يكن لنا شيء غير هذا، وكان الشرطي يأتي في كل يوم ويأخذ أبي إلى سوفيت المدينة فيطلبون إليه أن يورد لهم الحبوب، ولا يصدقونه إذا قال: إنه ليس لديه منها شيء، ولكني أقسم لكم إنه كان صادقا في قوله.» ورسمت على صدرها علامة الصليب في جد ورزانة؛ «وظلوا أسبوعا كاملا لا يسمحون لأبي بالنوم، ويضربونه بالعصي والمسدسات، حتى ازرق جلده وتورم جسمه كله.»
وواصلت كاتيا حديثها قائلة: «إنهم بعد أن انتزعوا من أبيها آخر حبة من القمح، ذبح خنزيرا، وترك لأسرته قليلا من اللحم، وباع ما بقي منه في المدينة ليشتري بثمنه خبزا، ثم ذبح العجل، وعادوا «هم» بعدئذ يخرجونه من المنزل كل ليلة ويقولون: إن ذبح الماشية من غير إذن جريمة.
ثم جاء إلى بيتنا من نحو عام جماعة أغراب في صباح أحد الأيام، وكان أحدهم من رجال القسم السياسي ومعهم رئيس سوفيت بلدنا، وأخذ رجل آخر منهم يدون في سجل معه كل شيء في منزلنا، بما في ذلك الأثاث والملابس والأواني وغيرها، ثم جاءت عدة عربات ونقلت كل ما كان في المنزل، وسيق ما كان في بيتنا من الماشية إلى المزرعة الجماعية.
وصاحت أمي العزيزة وبكت وتوسلت، وخرت على ركبتيها، بل إن أبي نفسه وفاليا أخي الأكبر وأختي شورا أخذوا كلهم يبكون، ولكن هذا كله لم يجدهم نفعا، وأمرنا أن نرتدي ملابسنا وأن نأخذ معنا بعض الخبز ولحم الخنزير المملح والبصل والبطاطس؛ لأنا على سفر طويل.»
وكانت هذه الذكرى أكثر مما تطيقه كاتيا فعادت تنتحب بحرقة، ولكنها مع ذلك أصرت على أن تواصل سرد قصتها: «ووضعونا كلنا في الكنيسة القديمة، وكان فيها معنا كثيرون من الآباء والأطفال من أهل قريتنا، يحملون جميعا أشياء محزومة ويبكون، وقضينا الليلة كلها في ذلك المكان نصلي ونبكي ثم نبكي ونصلي في الظلام، فلما طلع النهار سيقت نحو ثلاثين أسرة إلى الطريق يحيط بها رجال الدرك، وكان الذين يشاهدوننا في الطريق العام يرسمون على أجسامهم علامات الصليب ثم يبكون.
ووجدنا في المحطة جماعات أخرى من الناس مثلنا جيء بهم من قرى غير قريتنا، يحسبهم الناظر إليهم آلافا، وحشرنا كلنا في هرء خال مقام من الحجر، ولكنهم لم يسمحوا لكلبي فلتشك بالدخول معي وإن كان قد تبعنا طول الطريق، وسمعته يعوي وأنا في داخل البناء المظلم.
ثم أخرجونا بعد قليل وساقونا إلى عربات من التي تنقل فيها الماشية، مصفوفة صفوفا طويلة، وبحثت عن كلبي في كل مكان فلم أجده، وسألت عنه الحارس فلم يجبني إلا بركلة من قدمه، ولما امتلأت عربتنا عن آخرها حتى لم يبق فيها مكان لإنسان يقف على قدميه، أغلقت علينا من الخارج، وصرخنا كلنا وأخذنا نصلي إلى العذراء، ثم تحرك القطار، ولم يكن أحد ممن فيه يعرف مستقرنا، فقال بعضهم: إننا ذاهبون إلى سيبيريا، وقال آخرون: إننا ذاهبون إلى أقصى الشمال، وأعلن البعض أننا مسوقون إلى الصحارى الحارة.
وأذن لي أنا وأختي شورا أن نخرج من العربة لنأتي ببعض الماء، وأعطتنا أمنا شيئا من المال وزجاجة، وطلبت إلينا أن نحاول شراء قليل من اللبن لأخ لنا طفل صغير اشتد عليه المرض، وتوسلنا إلى الحارس أن يأذن لنا بالخروج؛ فأذن لنا بعد إلحاح طويل، وقال: إن ذلك يخالف القواعد المرعية. وكان على مقربة منا أكواخ لبعض الفلاحين فجرينا نحوها بأسرع ما تستطيع أقدامنا أن تحملنا.
ولما علم من في هذه الأكواخ منا حقيقة أمرنا أخذوا يبكون، وأعطونا من فورهم بعض الطعام، وملئوا الزجاجة لبنا، ورفضوا أن يأخذوا منا له ثمنا، ثم أسرعنا عائدين إلى المحطة، ولكننا جئناها متأخرين، ووجدنا القطار قد غادرها قبل أن نصل إليها.»
وقطعت كاتيا قصتها مرة أخرى لتندب أمها وأباها وإخوتها وأختها، وأخذ كل من كان منا في المطبخ يبكي على بكاء هذه الطفلة، وكلما حاولت أمي تهدئتها زاد صوت بكائها علوا، ونظر أبي إليها في حزن وصمت ولم يقل شيئا، وكان في وسعي أن أرى عضلات وجهه تتحرك بحركات تشنجية.
وانضمت كاتيا وأختها بعد فراق أهلهما إلى جيش الأطفال المشردين الذين لا يحصى عديدهم، وأخذتا تتنقلان من قرية إلى قرية، وتعلمتا التسول والطواف بالقرى طلبا للطعام، والتعلق بأسوار عربات القطر الحديدية، وأتقنتا رطانة المتشردين أبناء السبيل، ثم افترقت الأختان في سوق إحدى القرى على أثر مطاردة أحد رجال الدرك لهما، وبقيت كاتيا وحدها في هذا العالم حتى جاءت بها نتاشا إلى منزلنا.
وأحببنا كاتيا وأصبحت تشعر كأنها واحدة منا، ولكننا كنا نسمع في بعض الليالي نحيبها المكبوت، وهذه الشكوى القديمة الشبيهة بالنديب: «أين أنت يا أماه؟ أين أنت يا أبتاه؟»
الفصل الثامن
الرعب في القرية
كثيرا ما يغمض الناس أعينهم وعقولهم؛ ليخفوا عن أنفسهم ما يحيط بهم من الحقائق المرة المؤلمة؛ لينجوا بذلك من الآلام العقلية التي تضرم القلب وتقبض الرجاء، وهم يتلمسون لعملهم هذا معاذير يختلقونها لساعتهم، ويتخلصون من المعلومات التي تجابههم، قائلين: إنها مبالغات وهوس، ثم يحدث حادث فجائي يضطرهم إلى أن يفتحوا عقولهم وعيونهم، فيتطلعوا إلى ما حولهم دون أن تطرف عيونهم.
وهذا ما حدث لي في الأسابيع التي أعقبت مجيء كاتيا الصغيرة إلى بيتنا، لقد كنت قبل مجيئها أحرص على ألا يتزعزع إيماني بالمبادئ الشيوعية مهما أحاط بي من الحقائق المزعزعة لإيماني هذا، وتحاشيت الذهاب إلى المزارع الجماعية القريبة مني، ثم حدثت مأساة طفلة واحدة بريئة فصدمتني صدمة عنيفة، وأرغمتني على أن أواجه مآسي الزراع الروس على بكرة أبيهم؛ ولهذا اعتزمت أن أنتهز أول فرصة أستطيع فيها التغلغل في أقاليم المزارع الجماعية.
وأتيحت لي هذه الفرصة أسرع مما كنت أتوقع، فقد تلقيت من مكتب الحزب في معهدنا أمرا بالذهاب إلى اللجنة الإقليمية، وكان الغرض الذي ذهبت من أجله هو تنظيم فرق من أعضاء الحزب للعمل في القرى.
واجتمع في قاعة المؤتمر نحو ثمانين منا، كثرتهم الغالبة من الشبان، ومن بينهم عدد قليل عرفتهم في أثناء النشاط الحزبي في السنين القليلة الأخيرة، وكنا جميعا متوتري الأعصاب، ولم يكن في وسع بعضنا أن يخفوا ما يساورهم من القلق واضطراب النفس، وصدرت إلينا الأوامر بأن نذهب إلى الريف لنساعد في جمع الحبوب، ونعجل عمليات الحصاد الختامية، ولكننا كنا جميعا نشعر كأننا مقدمون على حرب عوان، وكان مسلكنا مسلك من قد تملكهم هذا الإحساس.
وخطبنا الرفيق هياتيفتش أحد أعضاء لجنة الحزب المركزية، وكان كل ما لخطبته من أثر فينا أن زادت أعصابنا توترا، فقد كنا نظن أننا سنستمع إلى حديث فني عن الزراعة وعن الشئون الاقتصادية في الريف، ولكننا سمعنا بدلا من هذا خطبة من نار دعينا فيها إلى الذهاب إلى الريف لنقاتل أهله، فننفذ ما أمرنا به أو نموت في سبيله.
وكان مما قاله لنا: «أيها الرفاق! ستقضون في الريف شهرا أو ستة أسابيع، فقد تأخر إقليم دوبتردنبروفسك عن غيره من الأقاليم ، وكنا قد تلقينا الأوامر من الحزب ومن الرفيق ستالين أن يتم تنظيم المزارع الجماعية قبل أن يحل الربيع، ونحن الآن في أواخر الصيف ولم يتم العمل بعد، وتبين لنا أن ولاة الأمور المحليين في الريف يحتاجون إلى حقن من الحديد البلشفي، ومن أجل هذا بعثنا بكم إليهم.
وعليكم أن تضطلعوا بواجبكم وأنتم أشد ما تكونون شعورا بالتبعة الملقاة عليكم من حزبكم، فلا تشكوا ولا تسمحوا لمبادئ الحرية البالية أن تنفذ إلى عقولكم، وألقوا بالمبادئ الإنسانية التي تعتنقها الطبقات الوسطى من النافذة، وكونوا في عملكم بلاشفة خليقين بزعامة لينين عليكم، واقضوا على عملاء كبار الزراع أينما رأيتموهم، فنحن معهم في حرب، إما أن يقضوا علينا فيها أو نقضي عليهم! ويجب أن تمحى البقية الباقية من النظم الزراعية الرأسمالية مهما بذلنا في سبيل محوها من الجهود!
ويجب بعدئذ أيها الرفاق أن تعملوا على تنفيذ خطة الحكومة في الاستيلاء على الحبوب؛ ذلك أن كبار الملاك وبعض الزراع المتوسطي الثروة بل وبعض الفقراء منهم لا يسلمون حبوبهم، وبذلك يفسدون على الحزب خططه، وولاة الأمور المحليون يترددون أحيانا ويضعفون أمامهم، وواجبكم أن تحصلوا على الحبوب مهما كلفكم حصولكم عليها، انتزعوها منهم مهما يكن المكان الذي يخبئونها فيه، في الأفران أو تحت الأسرة أو في السراديب، أو مدفونة في الأفنية الخلفية للبيوت.
ويجب أن يتلقى القرويون منكم يا فرق الحزب دروسا لا ينسونها في الشدة البلشفية، يجب أن تحصلوا على الحبوب، وما من شك في أنكم ستحصلون عليها، وذلك عمل ستنجلي فيه قوة ابتكاركم وروح الشرطة السرية السوفيتية، ولا تترددوا في اتخاذ الإجراءات الرادعة مهما كانت قاسية، إن الحزب من ورائكم يناصركم، والرفيق ستالين ينتظر ذلك منكم، إنكم في كفاح ليست له نتيجة إلا الحياة أو الموت، وخير لكم أن تفرطوا في أداء واجبكم من أن تفرطوا في شيء منه.
وثالث واجباتكم الهامة أن تتموا دراس الحبوب، وأن تصلحوا العدد من محاريث وجرارات ومحاصد وما إليها من الآلات.
لقد بلغت حرب الطبقات في القرى أشدها، وليس هذا وقت الحذلقة أو التظاهر بالحنو ورقة الإحساس، فتلك كلها أمور عتيقة بالية، إن صنائع كبار الملاك يتسللون خفية إلى المزارع الجماعية؛ ليعطلوا العمل ويقتلوا الماشية، والذي نطلبه إليكم هو اليقظة والصلابة والشجاعة الجديرة بالبلاشفة، ولست أشك في أنكم ستنفذون تعاليم الحزب وتوجيهات زعيمنا المحبوب.»
وأغرقت هذه الألفاظ الأخيرة، وما تحمله في ثناياها من وعيد، في عاصفة من التصفيق ودلائل الطاعة والخضوع. «هل منكم من يريد سؤالا؟ هل كل شيء واضح؟»
ولم يسأل أحد سؤالا. «إذن فانتظروا هنا، وستدعون فرادى بعد لحظة وجيزة لتقابلوا الرفيق برودسكي.»
وسألت نفسي: هل يمكن أن تكون هذه كل «التوجهات» التي نتلقاها؟ وهل ينتظر من طائفة من الطلاب وموظفي المصانع أن يحلوا ما في الأقاليم الزراعية من مشاكل اقتصادية وسياسية كثيرة مستعصية بوسائل لا تزيد على استخدام «الشدة البلشفية» المطردة الزيادة؟ وكيف يعهد لطائفة من الأحداث مثلنا لا تعرف كثرتهم شيئا من المشاكل الزراعية أن يفصلوا في مصاير مئات الآلاف من الزراع؟
وكان عن يميني شاب لعله أحس بما يجول في خاطري فقال لي بصوت خافت: «أظن يا رفيق كرافتشنكو أننا سنتلقى أوامر أخرى، أقصد أوامر توجهنا وجهة عملية.»
فأجبته بقولي: «لا أعرف.» وتبينت أنه طالب في المعهد، ولكني لم أعرف عنه غير هذا، ولم أكن أرغب في أن تكون بداية استخدام «حزم البلاشفة» هي الإقدام على نقاش «خطر» مع شخص لا أعرفه.
وواصل الشاب حديثه قائلا: «اعلم أيها الرفيق أني لم أعش قط في قرية، ولا أعرف شيئا عن الحياة في الريف، وليس لي أقل علم بالوسائل التي يمكن أن أؤدي بها هذه الواجبات الشاقة التي ألم أمين السر بأطرافها، ولكنها مع ذلك واضحة، أليس معناها أننا سنفقد مركزنا في الحزب، أو أننا ستطيح رءوسنا إذا أخفقنا في مهمتنا؟»
وضايقني هذا منه أشد المضايقة، وقلت لنفسي: إن هذا الشخص إما أن يكون أبله إلى درجة لا يصدقها العقل، وإما أنه يحاول أن يثيرني لأنطق بما لا يصح النطق به.
فأجبته دون أن أحاول إخفاء غضبي: «أنا آسف، ولكنك كان في وسعك أن تلقي ما تشاء من الأسئلة.» - «هذا صحيح، غير أن الحاضرين كلهم كانوا يصفقون، ولم أجد في نفسي من الجرأة ما ينطقني بأن شيئا مما قاله لم يكن واضحا لي، ولكني أعرفك من المعهد يا رفيق كرافتشنكو وأثق بك، ولو أنني عينت معك في فرقة واحدة لكان في ذلك كل الخير لي.»
وحدقت في عينيه وشعرت فجأة بالخجل يسري في نفسي لسوء ظني به، وبدا لي أن ألمه ألم حقيقي غير متكلف، وكانت نظراته نظرات الغلام الصغير الساذج وإن لم يكن يصغرني إلا ببضع سنين.
فأجبته: «لا مانع لدي من أن تكون معي إذا استطعت أن تنظم أمرك على هذا النحو، وإن كنت أظن أن توزيع الأفراد على الفرق قد بت فيه.»
فقال وهو يبتسم وفي صوته ما يدل على تجدد أمله: «سأحاول، إن اسمي تفتكوف، سرجي ألكسيفتش تفتكوف.»
وتركني، وبعد بضع دقائق دعيت إلى مكتب الرفيق برودسكي، فأبصرت رجلا قوي الجسم، على رأسه كومة من الشعر الأسود، يجلس خلف مكتب كبير.
وخاطبني من فوره قائلا: «أتعرف يا رفيق كرافتشنكو شيئا عن القرى؟» - «لقد عشت في مزرعة تعاونية عدة سنين في أثناء الحرب الأهلية، ثم درست بضعة مناهج في إحدى المدارس الزراعية في عام 1920-1921م.» - «حسن جدا! قل أن تجد من أعضاء هذه الفرق من يعرف الفرق بين القمح والشعير.»
ودق جرسا فأدخل رجلان آخران إلى مكتبه: أحدهما الطالب تفتكوف وقد دخل وهو يبتسم في حياء دليلا على نجاحه في مسعاه، أما ثانيهما فرجل في الأربعين من عمره لا أعرفه.
وقال الرفيق برودسكي: «فليحي كل منكم زميله، ستعملون أنتم الثلاثة معا، وعليكم أن تذهبوا إلى قرية بدجردنوى، وستتولى أنت يا رفيق كرافتشنكو إتمام عملية الدراس، وسيناط بك أيضا إصلاح جميع العدد والآلات، وستتولى أنت يا رفيق تفتكوف بمعاونة الرفيق أرشينوف إتمام أعمال التنظيم الجماعي للمزارع وجمع الحبوب، وستعملان كلاكما برياسة الرفيق أرشينوف هذا، فسيرأس هو الفرقة المؤلفة من ثلاثتكم؛ ذلك أن هذا الرجل ليس من عمال الحزب فحسب، بل إن له فوق ذلك تجارب سابقة في مكتب المدعي العمومي.» - «هذا كل ما أقوله لكم، فاخرجوا إلى الردهة وخذوا أوراق انتدابكم ونقودكم.»
وكان أرشينوف رجلا بدينا قصير القامة حليق الرأس والوجه مبرقشهما كالرخام القديم، لا يفصل جبهته عن رأسه فاصل، وكان وجهه مستويا لا مركز له كأنك تراه في مرآة غير منتظمة السطح، أما عيناه فلم تكونا تزيدان على فتحتين ضيقتين في وجهه المستوي، وجملة القول: إن شكله كله لا يروق الناظر إليه.
ولما كنا في الحجرة الخارجية أمرنا أرشينوف أن نأتي معنا بملابس مدفئة، وكل ما نستطيع شراءه من الطعام، وأضاف إلى ذلك قوله: «ومسدس بطبيعة الحال.» واتفقنا على أن نلتقي في استراحة المحطة في اليوم الثاني، ثم تفرقنا فسار أرشينوف في طريق، وسرت أنا وتفتكوف في طريق آخر.
ولم يكن تفتكوف من الذين يستطيعون كتمان ما في ضميرهم فقال لي: «أصدقك القول يا فكتور أندريفتش، إنني لست متحمسا كل التحمس للعمل مع رئيسنا هذا، وأرجو أن أكون مخطئا في ظني، ولكني أحس بأنا لن نستريح إلى العمل معه.» - «دع هذا الهراء يا رفيق تفتكوف، لم تبدأ عملك وأنت كاره لرفيق تجهل كل شيء عنه؟ وقد يتبين لك فيما بعد أنه رجل رقيق الحاشية، وما من شك في أن الحزب يثق به، وأقل ما يجب علينا نحوه أن نثق به نحن أيضا، وأهم ما في الأمر ألا نبدأ العمل ونحن نتوقع الإخفاق.»
وأدركت وأنا أتحدث أني كنت أطمئن نفسي أكثر مما أطمئن صديقي.
ثم واصل حديثه في إصرار قوي: «وما حاجتنا إلى المسدسات؟ لست على استعداد لأن أستولي على الحبوب بالقوة، لقد قال لينين: إن المزرعة الجماعية تعاون اختياري بين الزراع، وكرر ستالين هذا القول نفسه أكثر من مرة، وقد قرأت أنا من أيام قليلة ...» - «اسمع يا تفتكوف، لا يؤلمنك مني إذا تحدثت إليك بصراحة، إن حديثك هذا عجيب حقا، ولي كل الحق في أن أظنك إنسانا سليم النية إلى حد بعيد، أو أنك قد عينت معي لتكون عينا علي.»
فصاح بصوت مرتاع ندمت حين سماعه على صراحتي: «رباه! ما أفظعها من فكرة! لست أشك في أنك ستدرك أنك مخطئ في سوء ظنك بي حتى فيما تقوله عن سذاجتي، فأنا مدرك خطر المهمة التي نحن مقبلون عليها، وذلك هو سبب دهشتي من أننا لم نتلق تعليمات عملية صريحة، فأنا روسي وابن روسي، ولم أكن في يوم من الأيام من الدساسين المأجورين، وليس في وسعي أن أكون هذا الدساس المأجور ولو كانت حياتي معرضة للخطر، وما أفظع أن يتهم الناس بعضهم بعضا بالتجسس والدس المأجور.»
وكأنما أوحي إليه بفكرة جديدة فأضاف إلى أقواله السابقة قوله: «تعال معي في زيارة لأسرتي، فإن بيتي لا يبعد عن هذا المكان أكثر من بضعة مبان.»
وكانت هذه الفكرة التي أوحي إليه بها فكرة موفقة معقولة، فقد كان التقائي بأبويه، والجو المحيط ببيته المتواضع، سببا في إزالة آخر ما بقي لدي من ارتياب في سلامة طوبته وإن كان ذلك قد قوى ظني في ضعفه وقلة تجاربه، ورأيت والده رجلا كبير السن يلبس منظارين على عينيه، ذا لحية صغيرة لها طرف دقيق، أما والدته فكانت سيدة ضئيلة الجسم، ضعيفة البنية، شمطاء الشعر، رحيمة القلب.
وكان كلاهما أشبه بشخصيتين في كتاب من عهد ما قبل الثورة، والغريب في أمرهما أنهما لم يفسدهما ما حدث من عنف في هذه السنين الكثيرة الأحداث، وكأنهما يعيشان في عالم خاص بها لا تستطيع شرور العالم الخارجي أن تصل إليه بسهولة، وخيل إلي أنه يكاد يكون من غير المعقول أن تفتكوف الكبير من أعضاء الحزب قبل حوادث عام 1917م، وكان مما يسر له الإنسان أن يبقى في الحزب إلى الآن رجل «طيب القلب» بالمعنى الذي كان يفهم من هذا اللفظ في العهد القديم، والذي كاد الناس ينسونه الآن.
وقالت مسز تفتكوف تشكو من فعل ولدها: «ولكن لم لم تقل لي يا سريزها إنك مسافر إلى القرى؟ إني أسمع عن فظائع محزنة ...»
ورد عليها زوجها محتجا: «لا ، لا، يا عزيزتي، إن كل ما تسمعينه عما يرتكب من الفظائع في المزارع الجماعية مبالغ فيه كثيرا، ولا يمكن أن تكون الأحوال كما يصورها لك هؤلاء المبالغون، وأنا نفسي من أعضاء الحزب القدامى، وأنا متفق مع الرؤساء في أن نظام المزارع الجماعية هو أملنا الوحيد في حل المشكلة الزراعية، ونجاح هذا النظام يقف معظمه على اختيار الذين ينفذون الأوامر، وأرجو ألا تقدم أنت يا سرجي ولا أنت يا رفيق كرافتشنكو على ارتكاب أي نوع من الفظائع، وما من شك لدي في أن الحزب لا يرغب في شيء من هذا.»
ولما عدت إلى المنزل أبلغت أسرتي نبأ بعثتي إلى الريف، وكان كل من في المنزل لا يزال متأثرا بقصة كاتيا، فبدت عليهم جميعا مظاهر الوجوم والاضطراب مما عسى أن ألاقيه في هذه المهمة، وبعد أن آويت إلى الفراش في تلك الليلة سمعت دقا على باب حجرتي ثم دخلت علي أمي.
وقالت بعد أن جلست على السرير: «معذرة يا فيتيا على هذا التطفل، ولكني قد لا أجد فرصة أتحدث إليك فيها ونحن نودعك غدا.
إني أعرف أن ما يلاقيه القرويون من متاعب يؤرقك ويحزنك كما يؤرق كثيرين غيرك ويحزنهم، ولكني أرجوك أن تهدئ من روعك وتصبر على كل ما عساه أن يصادفك، وتذكر أن ما يحدث في إقليم من الأقاليم لا يعد دليلا على ما يحدث فيها جميعا، وأبغض الأشياء إلي أن تكون تجربة واحدة محزنة سببا في القضاء على كل ما هيأته لمستقبلك في حياتك الشيوعية كلها، وما من شك لدي في أنك ستجعل حياة القرويين المساكين ميسرة قدر ما تستطيع.» - «شكرا لك يا أماه! وأرجو ألا تشغلي بالك بأمري، وثقي أنني لن يصيبني مكروه، وأنا أعلم أن الثورات ليست رحلة للتنزه والاستمتاع.»
ولم يكن الحديث الذي دار بين أعضاء الفرقة الثلاثة في القطار المسافر إلى بدجردنوى حديثا وديا؛ ذلك أن أرشينوف كان يحمل معه مسدسا من طراز موزر معلقا بشريط من الجلد على كتفه، وكان اختياله وإعجابه به سببا في مضايقتنا وإثارة مشاعرنا، على أن أرشينوف نفسه لم يحاول أن يخفي احتقاره لتفتكوف الصغير السن الأشقر اللون، الوسيم الوجه، وتحاشينا كلنا أن نذكر شيئا عن عملنا المشترك.
وقال لي تفتكوف: «إن أهلي الكبار يرسلون إليك يا فكتور أندريفتش تحياتهم.» - «شكرا لك يا سريزها، وهل لك أن تخبرني بهذه المناسبة عن المكان الذي يعمل فيه والدك؟» - «إنه يعمل في مكتب تابع للسكك الحديدية، فهو مهندس كما تعلم، وهو في عمله هذا منذ زمن طويل، وهو عضو في الحزب من قبل عام 1917م.»
وبدا الفزع على أرشينوف حين سمع منه هذا القول، وما من شك في أنه كان يظن أن تفتكوف ابن رجل من رجال الفكر المتحذلقين المجردين من النفوذ، أما وهو ابن بلشفي قديم فقد يصبح هذا الشاب أصعب مراسا مما كان يظنه أولا.
وصاح أرشينوف بامتعاض ظاهر: «تقول: إن أباك عضو في الحزب؟» - «نعم، وأي شيء من الغرابة في هذا؟ ولم تسأل هذا السؤال؟» - «لا شيء، إنه مجرد سؤال لا أكثر.»
ووصلنا إلى المكان الذي نقصده قبيل الغروب، وكان المطر يتساقط رذاذا والطريق الموصل إلى القرية موحلا، ولم ينظر إلينا من لاقيناهم من القرويين بشيء كثير من الاهتمام، ولم يلفت نظرهم إلا مسدس أرشينوف وهو يلطم فخذه السمينة في أثناء مشيه.
وناديته بصوت واطئ: «استمع إلي يا رفيق أرشينوف، أتسمح بأن تخفي مسدسك تحت سترتك؟ فأنا لا أرى موجبا لإرهاب الناس على هذا النحو؟» - «إن هذا من شأني أنا لا من شأنك!» - «لا يا رفيق، إنه ليس من شأنك وحدك، فنحن نعمل هنا مجتمعين، وهو لذلك من شأننا جميعا، وهو فوق هذا من شأن الحزب، وأنا أصر على أن تفعل ما أطلبه إليك وإلا فلن أذهب معك إلى القرية.»
وقال تفتكوف: «إن الرفيق كرافتشنكو محق فيما يقول، فلم تخيف الخيل من غير موجب؟ إن معي أنا أيضا مسدسا، ولكني أخفيه تحت سترتي.»
وعمل أرشينوف برأينا وهو على مضض، ولكنه لم يتحدث إلينا بكلمة واحدة في أثناء سيرنا إلى مقر سوفيت القرية، وهو بيت خشبي كبير قبيح المنظر متهدم، وكان في داخله مصباح كيروسين يشع فيه نورا ضئيلا من تحت مدخنة من الورق، وكانت الحجرة ملأى بالدخان وأطراف لفافات التبغ منتشرة فيها، وجلس على أرضها نحو عشرين من الفلاحين صامتين وعلى وجوههم غبرة.
وسألهم أرشينوف بصوت عال يريد أن يظهر به سلطانه: «أين رئيس السوفيت؟»
وأشار الفلاحون بأيديهم وقالوا: «هو هنا في مكتبه.» - «وماذا تفعلون أنتم هنا؟ أليس لديكم عمل خير من الجلوس على أعجازكم؟»
فأجابه أحد الفلاحين: «إن لدينا أعمالا كثيرة، ولكنا دعينا إلى هذا المكان، وهم يطلبون إلي خبزا، ولكني أنا نفسي أسأل الخبز.»
وسخر منه أرشينوف وقال: «أرى أن سيكون لدي عمل كثير في هذا الجحر النتن.»
وسرنا من ورائه إلى مكتب السوفيت فأبصرنا فيه شابا متعبا رفيع الوجه ذا نظرات فاترة يجلس خلف منضدة ويتحدث إلى شيخ قروي.
وصاح أرشينوف قائلا: «نحن فرقة الحزب، وقد جئنا إلى هنا في عمل.»
وقام الرئيس واقفا وسلم علينا بيده وقال: «مرحبا بكم، كيف حالكم؟» ولكن وجهه كان ينم عن غير ما نطق به لسانه، فلم يكن الرجل مغتبطا بقدومنا، ثم واصل حديثه قائلا: «سأفض الاجتماع ونبدأ العمل من فورنا.»
وسأله أرشينوف قائلا: «وماذا يصنع هؤلاء الناس جميعا هنا؟» - «لقد دعوتهم إلى الحضور، إن أمر هؤلاء الناس ليس بالأمر الهين، وهم يصرون على أن ليس لديهم حبوب، وكان المحصول رديئا في هذه الجهات، والناس كلهم يتوجسون خيفة مما سيصادفهم في الشتاء المقبل، وليس من السهل علينا أن ننتزع الحبوب منهم أيها الرفاق، وهم يرفضون الانضمام إلى المزارع الجماعية، ومهما فعلنا بهم فإنهم لا ينضمون إليها.»
وقال أرشينوف وهو مقطب الوجه: «سننظر في هذا الأمر، وما دمت قد دعوتهم للحضور فخير لك أن تفرغ من عملك معهم، وسنبدأ عملنا نحن في صباح الغد.»
واستدعى الرئيس أحد مساعديه وأسر إليه بعض الأوامر، وسار هذا الرجل بنا نحن الثلاثة إلى داخل القرية، وكان يخيم على شارعها الرئيسي سكون مقبض لا يقطعه إلا نباح كلب ينطلق فيه من حين إلى حين، وكنا نبصر في أماكن متفرقة منه نورا ضئيلا مضطربا في إحدى النوافذ ودخانا يخرج من مدخنة، ولما وصلنا إلى بيت كبير يفضل ما حوله من البيوت وقف دليلنا.
ثم قال: «ستقيم في هذا البيت يا رفيق أرشينوف، وأرجو أن يوافقك.»
ثم واصل سيره في الشارع نفسه إلى بيت فخم ذي مبان منفصلة عنه، وحديقة صغيرة وبئر ذات دلو.
وقال: «سيعجبكم هذا المكان، لقد انضم آل استيوبنكو من وقت قريب إلى المزرعة الجماعية، وبيتهم هذا نظيف خال من صغار الأطفال، وكلهم كبار ولهم ابنة جميلة.» قال هذه العبارة الأخيرة وهو يشير بطرف عينه في اتجاه تفتكوف.
وقابلنا عند الباب رجل طويل القامة يبلغ حوالي الستين من العمر، حليق الوجه إلا من شاربين طويلين يتدليان على طرف فيه على الطريقة الأوكرانية القديمة، وحيانا الرجل في تحفظ وكرامة غير متكلفة سررت لها، ثم سار أمامنا إلى حجرة صغيرة ولكنها أنيقة ومريحة.
وقال لنا: «اغتسلوا أولا ثم تعالوا وانضموا إلينا على الرحب والسعة، واقتسموا معنا ما يبعثه الله لنا وهو غير كثير.»
ووجدنا الأسرة كلها جالسة حول المائدة، وكانت ابنتها في الثامنة عشرة من عمرها، وهي جميلة حقا، وكانت الزوجة امرأة حنونا كبيرة السن تعقد منديلا ملونا أسفل ذقنها، لها يدان مجعدتان خشنتان من العمل شأن زوجات الفلاحين، وكان للأسرة أيضا ولد في الثامنة من عمره، وعرفناهم بأنفسنا وانضممنا إليهم، وصب في أوانينا حساء بلا لحم، ثم أعقبته بطاطس مسلوقة وشبت مخلل، وكان الخبز مقطعا قطعا رقيقة أكلها كل منا بحرص وعناية كما لو كانت رقاقا مقدسا.
ولما كنت قد اعتدت حياة القرويين، وعرفت أن الخبز الكثير الغليظ هو طعامهم الرئيسي، فقد أدركت بوضوح أن الأسرة في ضنك شديد، واستأذنت أنا وسريزها وذهبنا إلى حجرتنا ثم عدنا بما كان لدينا من الطعام الملفف، وحدق فينا آل استيوبنكو حين كشفنا عما معنا من أمعاء محشوة، وأنواع متعددة من السمك، ودجاج بارد، وألححنا عليهم أن يشتركوا معنا في طعامنا، وما لبث جو التحفظ الذي كان مخيما علينا أن انقشع.
وكررت ربة الدار قولها: «شكرا لكم، شكرا لكم، لا شك أنك قد أدخلتم السرور على بيتنا المتواضع.»
وأضاف زوجها إلى ذلك قوله: «لست أذكر آخر مرة رأينا فيها الأمعاء المحشوة والحلوى، ونحن أحسن حالا من كثيرين ممن حولنا، ولكننا مع ذلك في ضنك شديد، وليس لدينا من الحبوب ما يكفينا حتى يحصد المحصول، آه! أيها الرفاق لو تعلمون ما مر بنا من الظروف القاسية في أوكرانيا! إن أحدنا إذا حصل على قطعة من الخبز أكلها خفية.»
وكنت في أثناء ذلك أرقب الولد الصغير، فرأيته مكتئبا ساكنا سكونا غير طبيعي، حتى إن الحلوى التي أخذ يلوكها من غير عناية لم تفلح في أن تثير اهتمامه بنا، فسألت الرجل: «وما اسم ابنك الصغير؟»
وأجاب الولد عن سؤالي بقوله: «فاسيا.» ثم غادر الحجرة فجأة.
وقال رب الدار: «ليس هو ابننا، بل هو ... ماذا أقول؟ هل أقول: إنه يتيم يتمته المزارع الجماعية؟» - «وماذا تقصد بهذا القول؟» - «إنه يتيم وكفى، ولكن لا تسأل الولد شيئا، إن الصدمة التي تلقاها لا تزال تذهله، فهو يذهب في كل ليلة إلى بيته ويطوف بفنائه ساعات طوالا، ونحاول نحن أن نمنعه ونقول له: وماذا تفيد من تعذيب نفسك؟ ولكنه لا ينفك يذهب إلى البيت.» - «قل لنا ماذا أصابه؟» - «لست أدري هل أخبركما بذلك أو لا أخبركما به، إنكما جديدان علينا، وأنتما فضلا عن ذلك من رجال الحكم.» - «قل يا أبت ولا تخف، إنا لم نأت هنا لنؤذي أحدا، بل جئنا لأنا نحب الفلاحين ونريد أن نساعدهم.» - «حسن، فلأجرب حظي معكما، إنكما تبدوان من خيار الناس، وفوق هذا فقد تجاوزت السن التي أخشى فيها أحدا، وكل الذي يسوءني وأخشاه أن يلحق ابنتي أذى.»
ثم أخذ يقص علينا قصة الغلام فقال: «كان آل فورفان يسكنون على بعد عشرة بيوت من هذا المكان، وكانت الأسرة تتألف من رجل وزوجته وابن واحد هو فاسيا الذي شاهدتماه هذا، وكانت أسرة سعيدة مجدة طيبة الأخلاق، ولم تكن من كبار الملاك الزراعيين، فلم تكن تملك إلا جوادين وبقرة وخنزيرا وبضع دجاجات، شأنها في هذا شأن سائر الناس، وأخذوا يلحون عليه لينضم إلى المزرعة الجماعية ولكنه رفض كل إلحاح.
وأخذوا منه كل ما بقي لديه من الحبوب وعادوا إلى مجادلته وتهديده، ولكنه لم يتحول قط عن رأيه، وظل يقول لهم: تلك أرضي وماشيتي وبيتي ولن أعطيها للحكومة قط. ثم جاء قوم من المدينة - وهم المكلفون بإخراج الناس من بيوتهم - وأحصوا أملاكه وسلبوه كل متاعه ولم يبقوا له آنية ولا فوطة، وأخذت أدواته الزراعية وسيقت ماشيته إلى المزرعة الجماعية.
واتهم فورفان بأنه من كبار الملاك ومن وكلائهم وجاءوا في المساء ليقبضوا عليه، وأخذ ابنه وزوجته يبكيان وينتحبان، ورفض الرجل أن يذهب معهم، فأخذوا يضربونه حتى سال الدم من جسمه كله، ثم أخرجوه من المنزل وجروه في الوحل من الشارع الذي يسكن فيه إلى سوفيت القرية، وجرت زوجته من خلفهم وهي تصيح وتعول وتطلب العون من الله ومن الناس، وخرجنا جميعا، ولكن أحدا منا لم يستطع أن يقاوم الحراس المسلحين، وإن كنا نحب فورفان ونعرف أنه لم يكن من كبار الملاك.
وظلت المرأة البائسة تبكي وتصيح قائلة: «من ذا الذي يعنى بنا من بعدك يا بيوتر؟ إلى أي مكان يسوقك هؤلاء الوحوش الكفرة؟ ودفعها أحد رجال القسم السياسي بعنف فارتمت في الوحل، وظلوا يجرون فورفان إلى عربات الحيوانات، والله وحده يعلم أين مقره الآن، وعدنا بالمرأة إلى بيتها وحاولنا أن نهدئ من روعها حتى نامت وتركناها جميعا.»
وكانت المرأتان الجالستان أمام المائدة تبكيان وهو يقص هذه القصة، وأخذ مضيفنا نفسا طويلا من لفافته المصنوعة باليد الكريهة الرائحة، ثم واصل حديثه قائلا: «وجاءت في الصباح جارة من جارات أسرة فورفان المسكينة لترى الزوجة، ولكنها لم تجدها، ونادتها باسمها فلم ترد عليها، فدخلت الهرء الخالي، فوقعت عينها على منظر روعها، وصرخت منه صرخة جنونية أقبل على أثرها كثيرون من الفلاحين مهرولين، وكنت أنا من بينهم، فرأينا المرأة معلقة في حبل مشدود إلى إحدى العوارض الخشبية، وقد قضت نحبها، وكان منظرا لن أنساه مدى الحياة ولو بلغت سني مائة عام، وحدث كل هذا من شهر واحد لا أكثر.
وقررت أنا وزوجتي العجوز أن نأخذ فاسيا في كنفنا؛ لأنا ليس لنا أبناء صغار، وقد قضى شهرا كاملا بين صمت وبكاء، وهو يذهب كل يوم إلى البيت المهجور كما قلت لكما، ثم يعود إلينا ويأوي إلى فراشه على ظهر الفرن دون أن ينبس ببنت شفة.
وبعد أن رأيت أنا وزوجتي ما حدث لآل فورفان تباحثنا في الأمر وقررنا أن ننضم إلى المزارع الجماعية، باختيارنا.»
وجلسنا حيث كنا صامتين مدة طويلة، فقد ترك في مصير آل فورفان كما ترك في مصير كاتيا الصغيرة أثرا لا تضارعه آثار الأرقام التي قرأناها عن عدد من نفوا وشردوا وقتلوا.
وقال تفتكوف آخر الأمر: «شكرا لك يا والدي على ثقتك بنا، وثق بأني لن أكون غير جدير بهذه الثقة، وصدقني إذا قلت لك: إن الشيوعيين ليسوا كلهم سواء، وإن منا من يعترضون على هذه الأعمال كاعتراضك أنت عليها، واعلم بأن الحزب نفسه لا يرضى عنها.»
وكان وهو يتحدث كأنه يعتذر عن نفسه وعني وعن الحزب.
وقلت أنا مؤيدا رفيقي: «نعم، إنا نشكر لك كرم ضيافتك وثقتك بنا، وسنقيم معكم شهرا ولا نريد أن نثقل عليكم في شيء، وهاك كل ما لدينا من نقود، ونصر على أن نؤدي ثمن كل شيء، فاشتر كل ما تحتاج إليه، ولا تخرج عن مألوف عادتك من أجلنا.» - «لقد أمرت ألا آخذ نقودا مطلقا.» - «ليس عليك إلا أن تغفل هذه الأوامر، واللجنة المركزية لم تعطنا النقود إلا لهذا الغرض، وكلي أمل في أن تساعدنا فيما جئنا من أجله، فنحن لا نريد إلا الخير، وأنت خبير بشئون قريتك؛ أما نحن فلا علم لنا بها.»
وطار الرقاد من عيني زمنا طويلا في تلك الليلة، ولكني ظللت ساكنا حتى لا أوقظ تفتكوف، وسرني كل السرور أنه تكشف عن إنسان رقيق القلب ذي أدب جم، ولم يكن شيوعيا رسميا متطرفا في شيوعيته.
وسمعته يقول: «أأنت نائم يا فكتور؟» - «كلا يا سريزها، لا أستطيع النوم، إن الأفكار لا تفتأ تساورني.» - «أتعرف أني لا أستطيع أن أرفع عيني في وجه أولئك الفلاحين الطيبين؟ وأني أشعر بأني أنا نفسي ملوم على ما فعله أولئك الأوغاد؟ وشر ما في الأمر أنهم فعلوا ما فعلوه باسم حزبنا المحبوب!»
وكنت قد قررت أن أتحفظ بعض الشيء في حديثي إلى تفتكوف، فقد عرفت أنه ليس بالرجل القوي الكتوم، وخشيت أن يضعف ويلين تحت الضغط الشديد، فيفشي على الرغم منه ما قلته له؛ لذلك رأيت أن من الخير لي وله ألا يعرف من أفكاري إلا القليل.
وقلت له مستحثا إياه أن ينام: «خير لك أن تنام، فإن علينا أن نستيقظ مبكرين.»
ولما وصلنا إلى السوفيت في الصباح وجدنا فيه أرشينوف غاضبا ثائرا، وكان سبب غضبه أنه وضع في بيت لم يجد فيه كفايته من الطعام، ولم يلق من أصحابه كثيرا من المجاملة، وإن لم يسيئوا إليه، وقضينا صدر النهار في مراجعة السجلات، وأطلعنا الرئيس على المعلومات التي جعلتنا نلم بشئون القرية إلى اليوم الذي قدمنا فيه، وقسمنا القرية أقساما، واخترنا لكل قسم من الفلاحين الجماعيين من يناط بهم تنفيذ الخطط المقررة.
ثم ذهب رئيس السوفيت وأرشينوف وسريزها إلى القرية ليطلعوا على أحوالها، وذهبت أنا ورئيس المزرعة الجماعية إلى هذه المزرعة.
وأبصرنا في فناء كبير في ضيعة قديمة تهدم معظم بيوتها بيادر من حبوب حصدت من زمن قريب، وسرني أن رأيت الحبوب قد حملتها العربات إلى الحقول، فهي هنا يستطاع دراسها في عشرة أيام أو اثني عشر يوما إذا وجدت من يعمل فيها بجد، ولم أجد ما يسرني غير هذا، فقد كان كل ما شاهدته في حال من الإهمال والاضطراب يرثى لها.
شاهدت كميات كبيرة من العدد والآلات مبعثرة في العراء، قذرة معطلة يعلوها الصدأ بعد أن كان أصحابها من قبل يعنون بها كما يعنى الإنسان بالجواهر الثمينة، وشاهدت أبقارا وخيلا عجافا تغطيها فضلاتها وتتجول في الفناء، ورأيت أسرابا من الدجاج والإوز والبط تحفر في البيادر غير المدروسة، وذهبنا إلى الإصطبلات فرأينا الخيل تغوص إلى ركبها في الأقذار «تقرأ الصحف» كما يقول الفلاحون حين تقف الماشية على مذاودها الخالية من الطعام ، ولم تكن الأبقار التي في الجرن أحسن حالا من الخيول.
وهالني ما رأيت، فقد كانت هذه حال لا تتفق وطبيعة مواطني من الفلاحين الأوكرانيين.
وقلت لرئيس المزرعة الجماعية وأنا غاضب أشد الغضب: «اجمع أعضاء المزرعة الجماعية على الفور.»
ولم تمض إلا ساعة حتى كان الجميع من الرجال والنساء المنوطين بأمر المزرعة الجماعية حاضرين في الفناء، ولم تكن نظراتهم إلينا مشجعة، وكأني بهم يقولون: «ها هو ذا شخص آخر يتدخل فيما لا يعنيه. وماذا نستطيع أن نفعل أكثر من الإنصات إلى ما يقول؟»
وأردت أن أظهر لهم المودة فبدأت حديثي بقولي: «كيف تسيرون في عملكم أيها المزارعون الجماعيون؟»
فرد علي واحد منهم بصوت جاف شكس: «كما ترانا، كما ترانا. لا نزال على قيد الحياة كما ترانا.»
وقال ثان: «ليس بيننا غني وفقير بل كلنا معدمون متسولون.»
وتظاهرت بأني لم أفهم هذا التهكم. «لقد أوفدتني إليكم لجنة الحزب الإقليمية لأعاونكم على دراس محاصيلكم، وإصلاح آلاتكم، وتنظيم أموركم بوجه عام، خبروني أيها الزراع الجماعيون، من الذي اختار رئيس هذه المزرعة؟»
فأجاب أعضاء اللجنة الإدارية: «نحن كلنا.» - «ولم إذن تسببون له المتاعب؟ ألا تعلمون أن تبعة هذا الاضطراب كله ستلقى عليه؟ انظروا إلى ما حولكم، ألا تستحون وأنتم الفلاحون مما ترون؟ ماشية قذرة وبيادر لا تجد من يحرسها، وآلات قيمة في كل مكان تصدأ وتتلف، إن من أسهل الأمور أن يسجن رئيسكم بسبب هذا كله وأن يسجن معه أعضاء اللجنة الإدارية أيضا.
ولكني لم آت إليكم لأفعل بكم هذا، إن السجون لا تأتيكم بالخبز، ومن ذا الذي تضرونه بهذا الإهمال المروع: أنا أو أنتم؟ لقد قضيت جزءا من حياتي في الريف، وكان بعض أهلي من الفلاحين، ولكني لم أر في حياتي كلها شيئا مخجلا كهذه الإصطبلات وهذه الجرون، وهذا الفناء، إني أدرك ما يشعر به بعضكم، ولكن لم يحل العقاب بالخيل والأبقار؟ إني لأتوارى منكم خجلا، وأنا أعرف أنكم لا تزالون فلاحين وألجأ فيكم إلى كرامة الفلاحين.»
وصاح واحد منهم قائلا: «حسن، إن هذا الرفيق يتكلم كلاما له معنى.» - «إذن فلنبدأ عملنا، أعلن افتتاح الاجتماع أيها الرئيس، واختر عددا من الأشخاص يعرف كل واحد منهم ما يجب عليه أن يقوم به، وسندون نحن الأسماء والتواريخ وما يجب على كل واحد أن يعمله.»
وقضينا عدة ساعات نتكلم ونضع الخطط، وأبى كثير من الفلاحين أن يتحملوا أية تبعة، ولكن كل عضو من أعضاء اللجنة الإدارية وافق في نهاية الأمر على أن يقوم بعمل معين: كتنظيم الدراس، وتنظيف حظائر الحيوانات، وتسجيل الأدوات وما إلى ذلك، وانتهى الاجتماع بروح ودية.
وحدثني مضيفي وقت العشاء فقال إنه قابل بعض أعضاء اللجنة الإدارية عقب الاجتماع، وإنهم يقولون: «إنك بدأت بداية طيبة، وإنهم مسرورون منك، وبخاصة لأنك لا تسب ولا تملأ الدنيا صخبا ووعيدا.» - «قل لي يا أبي، هل أصبت حين طلبت إليهم أن ينظموا من فورهم ما في المزرعة الجماعية من أدوات؟» - «لقد أصبت كل الإصابة، إن الفلاحين أنفسهم يدركون أن الأمور لا تسير كما يجب أن تسير، وكل ما في الأمر أن صدورهم تنطوي على أشد الغيظ؛ لأنهم خسروا أرضهم وماشيتهم وآلاتهم، ولكن الأمور يجب مع هذا أن تنظم والحياة يجب أن تجري في مجراها.»
وانفردت بسريزها بعد العشاء فوجدته مكتئبا حزينا. - «كيف حالك يا رفيقي؟» - «لست كما أحب يا فكتور أندريفتش، إني أسير في عملي حسب خطط أرشينوف، ولكني لا أحصل على نتائج كثيرة طيبة، فقد استدعيت المقصرين في توريد الحبوب واحدا بعد واحد، ولكن قصتهم جميعا كانت قصة واحدة، فقد كان الواحد منهم يخلع قبعته ويجلس في أدب واحترام.
ثم أبدأ أقول له: «إنك لم تؤد ما عليك من الحبوب بعد.» - «ربما أكون قد أديته وربما أني لم أؤده.»
فأقول له: «لا يزال عليك للدولة عشر بودات.»
فيهز كتفه ويقول: «وأنى لي بهذا القدر كله ؟! ليس لدي منه شيء.» - «وكم تستطيع أن تورده منه اليوم؟» - «قد أستطيع أن أورد بودتين أو ثلاث بودات.»
1
وهكذا نظل في جدال مستمر فأقول أنا: إن الحكومة في حاجة إلى الحبوب، ويقول الفلاح: «نعم، إن الحكومة في حاجة إليها، ولكن ماذا يفعل أطفالي وزوجتي؟ أظنهم في غير حاجة إليها! وأنت نفسك تعرف أن المحصول قد خاب، ومن ذا الذي يطعمنا طول العام بعد أن اغتصبتم كل حبوبنا؟»
وجمعت اليوم اثنتين وخمسين بودة، ولكن هذا لا يساوي معشار ما كان ينتظره أرشينوف مني، وليس في وسعي أن أفعل خيرا مما فعلت، فهؤلاء الناس متعبون مكتئبون في أشد حالات الوجل، ولعل عند بعضهم من الحبوب أكثر مما يعترفون به، ولكنهم لا يريدون أن يوردوه للحكومة ولا يجرءون على توريده، والشتاء الطويل مقبل عليهم وعيالهم يطلبون القوت.»
وحاولت أن أهدئه بقولي: «لا تقلق بالك إلى هذا الحد يا سريزها، بل افعل خير ما تستطيع أن تفعله؛ لأن القلق لا يجدي نفعا.»
وذهبت مع مضيفي إلى المزرعة الجماعية في صباح اليوم الثاني، وسرني أن أرى العمل قائما على قدم وساق، فالعدد تنظف وتزيت، والسماد يخرج من الحظائر والإصطبلات، والاستعدادات تتخذ لدراس الحبوب، واستمر العمل على هذه الحال عدة أيام كاد المكان بعدها يعود إلى حاله الطبيعية، وخير من هذا كله أن روح الفلاحين الجماعيين المعنوية قد تحسنت كثيرا عن ذي قبل، وأخذت النساء والبنات يغنين الأغاني الأوكرانية كما كن يفعلن في أيامهن الماضية؛ ذلك أن أولئك القوم السذج يحبون العمل بطبيعة نشأتهم، وقد كان الجو صحوا وهم يدركون خيرا مما أدرك أنا نفسي ما لكل يوم غير مطير من قيمة.
ومر علينا أكثر من أسبوع، وأبطأت عملية إصلاح العدد لنقص المسامير والأسلاك والحديد والخشب وغيرها من المواد الضرورية، ولكن مهارة الفلاحين عوضت هذا النقص، غير أننا لم يكن في وسعنا أن ننظم حسابات المزرعة لعدم وجود الورق؛ ولهذا عولنا على أن نرسل سريزها إلى دنيبروبتروفسك ليقضي فيها يوما يشتري في خلاله ما نحتاجه.
ولما عدت إلى المنزل في تلك الليلة شاهدت سريزها وفي يده خيط يقيس به فاسيا الصغير، ويعقد فيه عقدا، وتظاهرت بأني لم ألاحظ ما يفعل.
وذهبت في اليوم الثاني قبل أن يعود سريزها لزيارة أرشينوف، وكان يعلم أن العمل الذي نيط بي يسير سيرا حسنا، ويحسدني على هذا التوفيق، ولم يجد وسيلة ينفس بها عن كربه إلا أن يطعن على تفتكوف فأخذ يتهمه بأنه شخص ضعيف أصفر الكبد، وبما هو أسوأ من هذا كله، وهو أنه حر إنساني فاسد.
وقال: «لقد فتشت بالأمس عدة بيوت كان زميلي الضعيف قد اصطنع مع أصحابها اللين، فوجدت في كل بيت غلالا مخبوءة، فصادرت كل حبة وجدتها دون أن أدخل مع أصحابها في جدال عقيم، إن هؤلاء المزارعين القذرين الأوغاد يكذبون على السلطات السوفيتية، وسألقي عليهم درسا لا ينسونه أبدا! فقد ذهبت اليوم إلى لجنة المركز، وهم مقبلون بعد قليل وسترون ما يحدث يوم الثلاثاء.» - «أي شيء سيحدث في ذلك اليوم؟» - «ذلك شأني أنا.»
واستمر الدراس طوال يوم الأحد، ولم تكن بي حاجة إلى إقناع الفلاحين بأن يعملوا في ذلك اليوم، فقد كانوا جميعا حتى أكثرهم تدينا يدركون أن الوقت من ذهب، وعاد سريزها قبيل الغروب ومعه حقيبته وعدة أكياس وهدايا للأسرة كلها: كتاب للبنت، وخيط للأم، ودخان لاستيوبنكو الشيخ، ولكن الذي أدهشنا أكثر من ذلك كله في هذه الفرصة السعيدة أنه أخرج من حقيبته الكبيرة سروالا طويلا وسترة وملابس داخلية لفاسيا.
وسرعان ما ألبس الغلام ملابسه الجميلة، وأعجب به جميع الحاضرين، وأقبل اثنان من الجيران ليشهدا ذلك المنظر العجيب منظر فاسيا في ثيابه الجديدة الجميلة، وتبسم الولد نفسه لأول مرة مذ تقابلنا وقال: «شكرا لك يا عمي سريزها.» واغرورقت عيناه بالدموع حين قدم إليه سريزها العظيم كراسة وأقلاما من الرصاص وصندوقا من الحلوى الجامدة الملونة.
ولم تأو الأسرة إلى فراشها إلا بعد منتصف الليل، ولما انفردت بتفتكوف في حجرتنا سألته كيف تسير الأمور بينه وبين أرشينوف؟
فأجاب من فوره: «إنه كلب لعين، يا فكتور أندريفتش، لقد ترددت طويلا قبل أن أطلعك على حقيقة أمره، ولكني لا أستطيع السكوت بعد الآن، إن ذلك الوحش يخرج الفلاحين من بيوتهم في ظلام الليل، ويسبهم ويهددهم بمسدسه، وقد قيل لي : إنه يضربهم ضربا وحشيا.» - «ولم لم تخبرني بذلك قبل الآن؟ ارتد ملابسك في الحال وهيا بنا نذهب إليه.»
وكان في وسعي أن أرى أضواء في بناء السوفيت من خلال مصاريعه الخشبية، فلما دخلناه وجدنا الفلاحين متربعين على الأرض، وكان على الباب الخارجي حارس مسلح، وجلس في الداخل كونستبل من القرية وبيده مسدس وفي فمه لفافة يدخنها، ولما دخلت الدار سمعت صياح أحد الفلاحين وأرشينوف يسب وينهر خلف باب حجرته المغلق.
وسألت الكونستبل بصوت يجلجل من شدة الغضب: «ماذا يعمل هؤلاء كلهم هنا في هذه الساعة؟»
فوقف الرجل على قدميه مذعورا وقال: «إن الرفيق أرشينوف ينتزع منهم الحبوب كعادته، ويتحدث قليلا إلى الذين لا يريدون منهم أن ينضموا إلى المزرعة الجماعية.»
وعلا صوت أرشينوف فجأة واحتد حدة جنونية، وسقط جسم ثقيل على الأرض، وسمعنا الفلاح يئن ويقول: «لم تضربني؟ إنك لا يحق لك أن تضربني ...» ثم صاح أرشينوف: «يا كونستبل ألق بهذا الوغد في البرادة، وسألقي عليك درسا لا تنساه أيها المالك الحقير.»
واندفع الكونستبل نحو الغرفة المجاورة، فأمسكت بذراعه وقلت له: «قف هنا، وسأذهب أنا نفسي.»
ودفعت الباب فانفتح، وفزع أرشينوف، وعض شفتيه، وتحرك حركة عصبية في كرسيه، وأراد أن يرفع مسدسه عن المنضدة، وكان الفلاح الملقى على الأرض رجلا هرما، في ثياب مهلهلة ووجهه ملطخ بالدماء، وأشرت إليه أن يخرج.
ثم سرت نحو أرشينوف وهممت أن أستخدم قبضتي معه.
وصحت به قائلا: «دع الفلاحين يخرجون من هذا المكان! دعهم يخرجون من فورهم. أتسمع ما أقول؟» - «أنا صاحب الأمر في هذا المكان يا رفيق كرافتشنكو، وأرجوك ألا تتدخل في عملي.» - «لا، إن هذا من عمل الحزب، وأنا بوصفي شيوعيا لا أسمح لك أن تدنس سلطة السوفيت بهذه القسوة الوحشية.» والتفت نحو الغرفة الخارجية وصحت: «يا رفيق تفتكوف، أرجوك أن تكتب اسم الشيخ الذي كان يضرب توا واسم الكونستبل أيضا.»
وتظاهر أرشينوف بالجرأة، ولكن غضبي أقلقه وبلبل أفكاره، فقال لي: «ويلك ماذا تريد أن تفعل؟ ما هذا الاستفزاز؟ أتريد أن تحقر مبعوثا للجنة الإقليمية في أعين الجماهير؟» - «دعك من هذا النفاق! إن أمثالك هم الذين يحقرون الحزب والبلاد بأجمعها، يا كونستبل، ليذهب كل هؤلاء الناس إلى بيوتهم، وأنتم أيها الرفاق الفلاحون، إذا ضرب واحد منكم بعد الآن، فليرفع أمره إلي، وأنا أعلنكم أن الضرب مخالف للقانون.»
ودخل تفتكوف المكتب وهو ممتقع الوجه كأنه شبح، ويداه ترتجفان، وأمرته أن يذهب إلى المنزل وينتظرني فيه، ثم التفت إلى أرشينوف وقلت له: «اسمع يا أرشينوف، أتدري ماذا تفعل؟ أهذا تنظيم المزارع الجماعية أم هو السلب والنهب بالاستعانة بالمسدسات؟ إن من حقك بلا شك أن تطلب الحبوب، وأن تفتش البيوت إذا اضطررت إلى تفتيشها، ولكن ليس من حقك أن تلجأ إلى العنف، وأن تفعل فعل محاكم التفتيش في ظلام الليل، وإذا لم تشأ أن تعرض نفسك للمتاعب مع اللجنة الإقليمية فعليك أن تمتنع من فورك عن هذه الفعال، وإلا فسأكشف أمرك مهما كلفني هذا. أتفهم ما أقول؟»
وأدرت ظهري إليه، وغادرت المكان، ولم أجد سريزها في المنزل حين وصلته، فقلقت عليه، ولكنه جاء بعد نصف ساعة.
وقال لي: «لقد ذهبت إلى كوخ الفلاح الذي كان يضرب، فوجدت فيه زوجة مريضة وخمسة أطفال، ولم أجد فيه كسرة من الخبز، بل رأيت البيت ينضح فقرا ويأسا، وهذا وأمثاله هم الذين نسميهم كبار الملاك! والأطفال لا تغطي أجسامهم إلا أسمال بالية، وهم كالأشباح، ورأيت قدر الطعام على الموقد، وليس فيها إلا قليل من البطاطس في الماء، وكان هذا عشاءهم في تلك الليلة.»
ثم أطلعني على ورقة قذرة وقال: «انظر إلى هذا يا فكتور، لقد عاهدني الرجل على أن ينضم إلى المزرعة الجماعية؛ ذلك أني رجوته أن يقلع عن عناده، وأن يشفق على أسرته، فرضي آخر الأمر.» - «اذهب إلى فراشك يا سريزها ولا تشغل بالك بهذا الأمر ، وسنفكر فيما يصح أن نفعله.» وعجلت بجواب ما ظننته أن سيسأل عنه، فقلت: «سأحدثك غدا عما دار بيني وبين أرشينوف، وعليك أن تواصل العمل معه كأن لم يحدث بيني وبينه شيء، واسمح لي بعدئذ أن أشكر لك عطفك على فاسيا وشرائك حلة له.»
ثم قبلت وجنتيه. - «شكرا لك يا فكتور، أما قصة هذه الحلة فهي أني لما عدت إلى المنزل قصصت القصة كلها على أسرتي، فخرج أبي وجاء من حيث لا أدري بالحذاءين من بعض أصدقائه، وذهبت أمي تنقب في علية البيت، وجاءت بحلة قديمة لي كنت ألبسها وأنا تلميذ في المدرسة، وظلت تعمل طول النهار لتجعلها ملائمة لمقاس فاسيا.»
فقلت له: «نعم، إن في الحزب خلقا كأبيك وخلقا كأرشينوف.»
كان العمل في المزرعة الجماعية يجري على أحسن حال، وفي وسعي أن أقول: إنه أحسن مما كنت أتوقع، فالهمة مبذولة في دراس الحبوب، والماشية والخيل يعتنى بها، والأدوات الزراعية حسنة الترتيب.
وقررت اللجنة الإدارية للمزرعة - بناء على اقتراحي - أن تدعو الفلاحين إلى عشاء احتفالا بإتمام الدراس، واتفق على أن يقام الاحتفال يوم الأربعاء، ورضي جميع من في المزرعة أن يعملوا حتى مطلع الفجر؛ لكي يقام الاحتفال في الوقت المحدد. وذبحت الخنازير ومدت في فناء المزرعة موائد طويلة مرتجلة، وبعثت رائحة الطعام المطهي والحفلة ومستلزماتها في جميع سكان الضيعة شعورا بأنهم في عيد.
وذهبت بعد ظهر الأربعاء إلى الحقول حيث كانت النساء يقشرن الذرة ويعبئنها في العربات، وانضممت إليهن في العمل - وفي الغناء - بضع ساعات وأنا مغتبط بما أبذل من مجهود جثماني، غير أني لم أكن على ثقة بأن في وسعي أن أكبح جماح أرشينوف، وإن كنت قد وقفت منه موقفا جريئا. وكانت هذه المشكلة لا تنفك تحز في نفسي، غير أني كان في وسعي وأنا في الحقول أن أنساها، فقد كانت النساء يتكلفن السرور حين يبصرنني أتطوع لمشاركتهن في تقشير الذرة، وإن لم يكن هذا من عملي، ولكنهن كن في واقع الأمر يشعرن بشيء من العزة حين يرين «الحكومة» تنزل إلى مستواهن المتواضع.
وأذنت الشمس بالمغيب حين عدت راكبا إلى القريبة ومعي بعض الرفاق، وما كدنا نصل إليها حتى أدركنا لساعتنا أن حدثا ما يحدث فيها، فقد تجمعت في أنحائها جماعات مضطربة متهيجة، وكان النساء يبكين، فأسرعت إلى مبنى السوفيت.
وسألت الكونستبل: «أي شيء يحدث؟»
فأجابني بقوله: «حشد كبير من المزارعين، ويخيل إلي أن هذا العمل القذر لن يكون له آخر، لقد أقبل علينا في هذا الصباح رجال القسم السياسي وأعضاء لجنة المركز.»
ورأيت جمعا كبيرا في خارج البناء، ورجال الشرطة يحاولون أن يفرقوا الخلائق المحتشدة ولكنهم كانوا يعودون إلى أماكنهم، وكان بعضهم يلعنون، وبعض النساء والأطفال يبكون وينتحبون، فهؤلاء ينادون آباءهم، وأولئك يذكرن أسماء أزواجهن، وكان المنظر كله يرمض القلب ويحز في النفس.
ووقف أرشينوف في خارج دار السوفيت يتحدث إلى أحد موظفي القسم السياسي، وكلا الرجلين يضحك، ولعلهما كانا يتبادلان بعض الفكاهات، وقف في الفناء الخلفي نحو عشرين من الفلاحين كبارا وصغارا، وعلى ظهورهم بعض الأحمال في حراسة جنود من القسم السياسي يسددون نحوهم المسدسات ووقف سائر الفلاحين مكتئبين مستسلمين يائسين.
كانت هذه إذن هي عملية «تصفية طبقة كبار الملاك»، كما يقول الرجال الرسميون، أما الحقيقة فهي أن طائفة من الفلاحين السذج تنتزع منها أرضها، وتبتز منها جميع ممتلكاتها، وتنقل على الرغم منها إلى معسكرات خشبية لتعمل في قطع الأخشاب أو في أعمال الري، وكانت معظم الأسر في هذه المرة تترك في بلادها لسبب ما، وامتلأ الجو بالصياح والضجيج، ولما خرجت من مقر السوفيت رأيت اثنين من رجال الدرك يقودان فلاحا متوسط السن، ولم يكن ثمة شك في أنه كان يضرب، فقد كان في وجهه كدمات زرق وبيض، وكان ألمه باديا في مشيته، وملابسه ممزقة دلالة على أنه كان يقاوم من يعتدون عليه.
وبينا أنا واقف هناك محزونا خجلا يملأ اليأس قلبي، إذ سمعت امرأة تصيح بصوت لم أسمع مثله على ظهر الأرض، والتفت الناس كلهم إلى ناحية الصوت، وأسرع إليها رجلان من رجال القسم السياسي، وكان شعر المرأة مهدلا على جسمها، وبيديها حزمة من السنابل مشتعلة ألقتها على سطح البيت المصنوع من الغاب والقش قبل أن يدركها أحد، فاشتعلت فيه النار على الفور.
وأخذت المرأة تصيح وهي في حالة شديدة من الذهول: «أيها الكفرة! أيها القتلة! لقد قضينا العمر نعمل في إنشاء بيتنا ولن تأخذوه منا بل ستلتهمه النيران.» وانقلب صياحها فجأة إلى ضحك جنوني.
واندفع الفلاحون إلى البيت المشتعل وشرعوا يخرجون منه ما فيه من أثاث، وكان المنظر من أوله إلى آخره منظرا رهيبا أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، منظر النار والعويل، والمرأة التي ذهب عقلها، والفلاحين يجرون في الوحل ويحشرون جميعا لكي يبعدوا عن ديارهم، وكان أكثر ما فيه إيلاما لنفسي منظر أرشينوف، وضابط من رجال القسم السياسي، وهما يطلان على هذا المنظر هادئين، كأنه منظر عادي مألوف، كأن الكوخ المحترق ألعاب نارية أشعلت ليلهوا بها ويستمتعا بمنظرها.
أما أنا فقد وقفت في وسط هذا المنظر مرتجفا حائرا لا أكاد أتملك حواسي، وسولت لي نفسي أن أطلق الرصاص، أطلقه على إنسان أيا كان، ليزول بإطلاقه توتر أعصابي الذي لم يعد يطاق، ولم يستطر لبي في وقت من الأوقات مثل ما استطار في تلك الساعة، ومددت يدي تحت سترتي أبحث عن مسدسي، فقبضت يد قوية في تلك اللحظة على ذراعي، وكانت هي يد مضيفي استيوبنكو، ولعله قد استشف أفكاري.
وقال: «يجب ألا تعذب نفسك يا فكتور أندريفتش، إنك إن أقدمت على عمل جنوني ستضر نفسك ولا تنفعنا، صدقني فأنا رجل كبير السن مجرب للأمور، وتملك عواطفك، واعلم أن الخير كل الخير في أن تتجنب المتاعب؛ لأنك لا سلطان لك على هذه الأحداث، هيا بنا نعود إلى المنزل، إنك ممتقع الوجه كالموتى، أما أنا فقد ألفت هذا المنظر، فلم يعد غريبا علي، فقد كانت حملات العام الماضي الكبيرة شرا من هذه الحملة.»
ولما عدت إلى المنزل أخذت أذرع حجرتي الصغيرة وأنا في أشد حالات الاضطراب واليأس، وكنت قد فكرت من قبل في أن أحتج للجنة الحزب في المركز على أعمال أرشينوف، ولكن ها هم أولاء ممثلو اللجنة ورجال القسم السياسي يشهدون هذه المأساة، ويشتركون في تلك الأعمال الوحشية، وأي أمل لي في أن أصيب خيرا من اللجنة الإقليمية .
وكان الظن قد بدأ يساورني في أن هذه الجرائم الشنيعة لم ترتكب عفو الساعة، بل دبرها ووافق عليها كبار ولاة الأمور، أما في هذه الليلة فقد استحال هذا الظن يقينا، لم يترك في نفسي بارقة أمل في الإصلاح، وكان في مقدوري أن أتحمل من قبل ذلك العار، ما دمت أعتقد أن أرشينوف ومن على شاكلته من الأفراد هم الملومون على هذه الأعمال.
وغلبني النعاس من فرط التعب دون أن أخلع ملابسي، ولما فتحت عيني بعد بضع ساعات راعني ألا أجد سريزها في فراشه، فانطلقت إلى الفناء ثم إلى الحديقة.
فسمعت صوت سريزها يقول: «من القادم؟» ولاح لي بريق مسدس، ثم أبصرته جالسا على دكة تحت شجرة من كراز.
وما هي إلا قفزة واحدة حتى كنت إلى جانبه، واختطفت المسدس من يده، فغطى وجهه بيديه وأخذ ينتحب ويرتجف.
وقلت له: «إنك إنسان أبله خائر العزيمة، ولست ممن أفخر بصحبتهم، ومن ذا الذي يفيد من انتحارك؟ إن هذا غباء وبلاهة، وليس ما تريد أن تفعله هو الذي ترد به على ما رأيت اليوم، بل يجب أن نظل أحياء ونبذل كل ما نستطيع لنخفف أعباء الشعب الروسي، أما إذا قتلنا أنفسنا فلن يبقى إلا أمثال أرشينوف.»
فهدأ روعه قليلا وأخذ يحدق في عيني. - «يا فكتور أندريفتش، لقد شاهدت بعيني كل شيء وفهمت كل شيء، وثق أن عقلي من الوجهة السياسية أكبر من سني قليلا، ولن يفيدنا التعامي عن الحقائق أقل فائدة، إن الحزب نفسه مسئول عن جرائم العنف والقسوة والتقتيل، وليست الألفاظ الجميلة التي ينطق بها المسئولون إلا ستارا لإخفاء الحقائق البشعة، أهذا هو الذي جاهد من أجله أبي الصالح طول حياته؟ أهذا هو الذي كنت أنا نفسي أعتقده منذ انضممت إلى الحزب؟»
وما زلت به حتى آوى إلى فراشه، ولكننا لم نغمض أجفاننا، بل أخذنا نتحدث عما رأينا، وكان ما رأيناه يتفق كل الاتفاق مع ما كنا نسمعه، فلم يخالجنا بعدئذ شك في صدق «الشائعات المعادية للحزب»، وكان سرورنا عظيما حين دق الشيخ صاحب البيت الباب وقال: «قد آن أن تصحوا أيها الرفيقان.»
وأقيمت حفلة العشاء في ذلك اليوم حسب النظام الموضوع، ولكنها خلت من السرور والبهجة، فقد كانت ذكرى جمع «كبار الملاك» تثقل صدورنا جميعا.
وظلت علاقتي بأرشينوف علاقة رسمية محضة، وأعددت تقريرا مطولا مفصلا عن مسلكه وأرسلته إلى اللجنة الإقليمية، وكان العدد القليل الباقي من المعاندين قد انضموا «باختيارهم» إلى المزرعة الجماعية بعد الاعتقالات الكثيرة التي وقعت في الأيام الماضية، وقدم الفلاحون كل ما لديهم من الحبوب «باختيارهم» أيضا، ويظهر أن أولئك القوم قد فضلوا أن يموتوا في منازلهم جوعا على النفي إلى أقاليم لا يعرفونها، وطلب كثيرون منهم أن يؤذن لهم ببيع ما بقي لديهم من الماشية وأثاث بيوتهم نفسه ليشتروا بأثمانها حبوبا من المدن ليوفوا بها بمطالب الحكومة.
وحولت كنيسة القرية إلى هرء، فلما امتلأت بالحبوب، شعر أرشينوف بنشوة الظفر، وأخذ يفخر «بنجاحه»، ولم يدع فرصة تمر دون أن يوجه قوارص اللوم إلى تفتكوف، فكان يقول له: «انظر كيف أسير الأمور وتعلم، إن عيبك هو أنك لا تعرف الحزم «البلشفي».»
واقترب يوم رحيلنا، وأبلغنا أرشينوف أنه سيبقى خمسة أيام أخرى يراجع فيها أعماله للمرة الأخيرة، ولم يخالجني شك في أنه لم يتأخر عنا إلا ليجمع «أدلة» على تهم يوجهها إلي وإلى تفتكوف، وقضيت اليوم الأخير في المزرعة الجماعية أعد النقط التي سأضمنها تقريري الأخير.
وقلت لأعضاء اللجنة: «والآن وقد تم جمع المحصول أظن أن في وسعكم أن تقدروا ما تطلبون من أجر على جهودكم.»
فقال الرئيس وهو يهز رأسه في حسرة: «نعم، لقد قدرنا ثم قدرنا، فإذا التقدير لا يزيد على 1200م جرام (رطلين ونصف رطل) من الحبوب لكل مزارع منضم إلى المزرعة الجماعية عن كل يوم عمله فيها، وإذ كنا لم نعمل إلا جزءا من العام فإن ما يعطاه الفلاح من أجر على هذا العمل هو الذي سيقتات منه هو وأسرته سنة كاملة، أما كيف يوزع هذا القدر حتى يحين موعد الحصاد الثاني فعلمه عند الله، وقد يكون عند الحزب أيضا.»
وقال آخر في غضب مرير: «أظن أننا كلنا سنهلك جوعا.» وأكبر الظن أن الرجل لم يكن يقصد بقوله هذا معناه الحرفي، وإلا فكيف استطاع أن يحزر أن أهل قرية بدجردنوى سيهلكون كلهم من الجوع في العام المقبل؟ وكيف استطاع أن يحزر أن ولاة الأمور سيأخذون من الفلاحين بعض الحبوب التي حصلوا عليها نظير عملهم في جمع المحصول؟
وافترقنا نحن والقرويون افتراق الأصدقاء، وأظهروا حبهم الخالص لي ولتفتكوف، وأسف مضيفنا وأسرته أشد الأسف على فراقنا، وأحضر استيوبنكو في أثناء العشاء الأخير زجاجة من خمر الكرز، جاء بها من فناء الدار الخلفي، وعليها آثار التراب ظاهرة.
وقال لي: «لقد كنت أدخر هذه الزجاجة ليوم عيد هام، وقلت لنفسي: إن الناس سيشربون منها يوم أزوج ابنتي أو بعد أن أموت ثم يترحمون علي، ولكني رأيت أن سفركم خليق بأن يقدم لكم فيه أحسن ما عندي، فلنشرب إذن نخب صحتكم، وندعو الله أن ينجي بلادنا البائسة المعذبة.»
وأخذنا بعد العشاء نغني أغنيات أوكرانية قديمة، وحل الشراب القوي عقدة لسان زوجة استيوبنكو فأخذت تقص علينا أقاصيص فيها حنين لوطنها عن خيول خرافية، وتقصها بنفس الألفاظ التي سمعتها من جدتها.
ولما عدت إلى دنيبروبترفسك بدا لي أن اللجنة الإقليمية راضية عن عملي، ولكنني لم أستطع أن أثير اهتمام أي إنسان بتقريري عن أرشينوف، فقد كانوا يقولون لي: إنهم يعلمون أن فيه عيوبا، ومن من الناس لا عيب فيه؟ ولكن أحدا لا ينكر عليه أنه يحصل من عمله على نتائج طيبة! وأرسلت رسالة إلى جريدة برفدا في موسكو عن حادث وحشي يسوئ سمعة الحزب في القرى، ولكن الرسالة لم تنشر ولم أتلق عنها ردا.
وكان من نتائج ما قضيته في القرية من وقت طويل أن تأخرت في دراستي، وأردت أن أعوض ما فاتني، فبذلت في هذه الدراسة غاية جهدي، وكلما شغلت نفسي بكتبي الفنية قل ما لدي من الوقت الذي أقضيه في أفكاري المؤلمة وشكوكي، حتى أصبح العمل لدي مخدرا أتجرع منه جرعات كبيرة .
في الحرب لا يستوي المجاهدون في ميدان القتال والقاعدون في بيوتهم، بل إن بين الطائفتين بونا شاسعا لا يمكن إزالته بزيادة المعلومات عنها أو بشدة العطف على من يكتوون بنارها؛ لأن هذا الفرق مستقر في الأعصاب لا في العقول.
ومن أجل ذلك أصبح الشيوعيون الذين تورطوا بأنفسهم في فظائع النظام الجماعي رجالا يعرفون بسيماهم، فقد تحملنا نحن الأعباء الثقال وقاسينا الأهوال، وامتزنا من غيرنا بصمتنا وبتجنبنا كل مناقشة عن «جبهة الفلاحين»، نعم إننا كنا نتحدث عن هذا إذا خلا بعضنا إلى بعض، كما فعلت أنا وسريزها بعد عودتنا من رحلتنا، ولكننا كان يبدو لنا أن حديثنا لمن لم يكابدوا الأمر بأنفسهم لا يجدي نفعا؛ ذلك أننا لم يكن بيننا وبين هؤلاء الأحداث ألفاظ مشتركة مشتقة من تجاربنا الماضية نتفاهم بها فيما بيننا.
ولست أشير بطبيعة الحال إلى أرشينوف ومن على شاكلته، فهؤلاء هم الجلادون ورجال الشرطة في ظل كل نظام سياسي، ولكني أشير إلى الشيوعيين الذين لم يفقدهم استهتارهم بما يحدث من حولهم كل حواسهم، ومهما حاولنا إقناع أنفسنا بأن ما يرتكب في هذه الأيام من فظائع هو الثمن الذي نشتري به سعادة آلاف من الناس في الغد، فإننا لم نجد لهذا القول معنى، وتعذر علينا أن نجد ما يبرر الإرهاب السائد في الأقاليم الزراعية.
ولما اجتمعت لجنة الحزب المركزية في شهر يناير من عام 1933م نشر ستالين في طول البلاد وعرضها أن نظام المزارع الجماعية تم بنجاح، وأن «هذا العهد قد قضى على التسول والفقر في القرى، وأن عشرات الملايين من الفلاحين الفقراء ارتفعوا إلى درجة كبيرة من الطمأنينة ... لقد كان الفلاحون في العهد القديم يعملون لخير النبلاء وكبار الزراع والمضاربين وكانوا يعملون ويجوعون ليثرى غيرهم، أما في عهد الزراعة الجماعية فإن الفلاحين يعملون لأنفسهم ولمزارعهم الجماعية.»
وجاء في وصف الصحف لهذا الاجتماع أن المكان دوت فيه عاصفة من التصفيق، وصاح المندوبون: «ليحيى الأب والمعلم الحكيم الرفيق ستالين!»
وقرأت هذا الوصف فجال بخاطري منظر بدجردنوى وأهلها المعذبين، وأرشينوف يضرب الفلاحين ، والمرأة المخبولة تشعل النار في بيتها، والخلائق ذوي الثياب الممزقة يحشرون في الأفنية الخلفية لينفوا من بلادهم. وكنت أدرك كما يدرك كل من في أوكرانيا أن قحطا لا يقل فظاعة عن القحط الذي قاسيته منذ عشر سنين أو أكثر كان في هذا الوقت الذي يخطب فيه ستالين يجتاح أرض «المزارع الجماعية الكاملة» و«الحياة السعيدة الراضية».
كلا! إن ألفاظ ستالين لم تكن لتهدئ نفوسنا الثائرة، ولم يكن ثمة شيء يعيد إلينا إيماننا، أو على الأقل يحول بيننا وبين القنوط إلا أن نحول أبصارنا عن القرية، ونفكر في غيرها من أجزاء الصورة التي صورها لنا الزعيم، إلى الجهود الصناعية مثلا أو إلى «مراجل الثورة التي تغلي في البلاد الرأسمالية».
وقال لي سريزها: «إنك لتعلم يا رفيق فكتور أندريفتش أني قرأت مرارا كثيرة خطب ستالين في الاجتماعات العامة للجنة المركزية التي تعقد في شهر يناير من كل عام، وإن ما يقوله عن القرى ليقشعر منه بدني: الآن تتمتع القرى «بحريتها» ... وقد محي الفقر من القرى. وهو يقول هذا بعد الذي رأيناه فيها أنا وأنت رأي العين!» - «لكن انظر إلى الجهود الصناعية يا سريزها؛ تر لها قصة أخرى، فكم من مناجم فتحت، ومصانع ومصاهر وسدود ومحطات كهربائية شيدت! إن الإنسان ليسر حين يشعر بأننا نخطو إلى الأمام بخطى سريعة جبارة، وأنا لن نصبح بعد اليوم أمة استعمارية متأخرة، إن المهندسين الأكفاء في أمريكا نفسها يبيعون التفاح وأربطة الأحذية في شوارع المدن، أما هنا فإني أنا وأنت نجد في الدرس؛ لأن بلادنا في حاجة إلى أكثر مما عندها من المهندسين، فهناك التعطل، وهنا نقص في الأيدي العاملة.» - «فليكن هذا ما يكون يا فكتور أندريفتش، ولكني لن أنسى قط فظائع بدجردنوي ...» - «وأنا أيضا لن أنساها يا سريزها.»
وأخذ خطباء الحزب يذيعون خطبة ستالين في خلايا الحزب وفي مجتمعات المراكز، وكانوا يقولون: إن الثمن الذي تؤديه البلاد ثمن غال بلا شك، ولكن انظروا إلى المشروعات الجديدة وإلى السرعة التي تنمو بها، انظروا إلى مجنى تستروي ودنيبروستروي ، ومصنع ستالين للجرارات، وإلى المصاهر المتحدة، وإلى عشرات المصانع الأخرى، وبينا نرى العالم الخارجي الرأسمالي لا ينجو من أزمة إلا ليتورط في أزمة نرى العالم السوفيتي يسير إلى الأمام بخطى ثابتة، وإن حلت به أزمات فهي أزمات نمو لا أزمات انحلال.
وكانت التعزية الكبرى التي تعزي بها الروسيا نفسها عن جهودها المضنية هي أنها سوف تحطم الرأسمالية، وتقضي على ما تستمتع به من «ثبات قصير الأجل». لقد كانت الدولة توزع ما لدينا من أطعمة مطردة النقص بالبطاقات، أما في القرى فقد عم القحط وغصت السجون والمعازل ومعسكرات الاعتقال «بأعداء الشعب»، وكان لا بد من تطهير البلاد من آلاف من رجال الفكر - من مهندسين وموظفين بل وشيوعيين مشهورين - لأنهم يعطلون الإنتاج، ولأنهم «عمال للحكومات الأجنبية»، ولكن الطبقة العاملة في جميع الدول توشك أن تثور! كما قال ستالين، و«نجاح مشروع السنوات الخمس يحشد كل القوى الثائرة لطبقات العمال في جميع بلاد العالم».
ولم يمض على خطبة ستالين إلا ثلاثة عشر يوما بالضبط حتى قبض هتلر على زمام السلطة في ألمانيا! وانفجرت في وجوهنا تلك الفقاعة التي كانت سلوتنا الوحيدة.
لقد ظلت الدعاوة الروسية عدة سنين تعلن على رءوس الملأ أن ألمانيا هي أولى الدول الرأسمالية التي ستحذو حذو روسيا السوفيتية، وكان هذا الحلم هو القوة المعنوية التي تتراءى لأعضاء الحزب ليلا ونهارا، لتشد من عزائمهم وتحيي آمالهم.
وكان يقال لهؤلاء الأعضاء: إن الاشتراكيين الديمقراطيين «صنائع طبقة الملاك» قد أفلسوا، على حين أن الحزب الشيوعي ينال ملايين الأصوات في الانتخاب.
فلا عجب والحالة هذه إذا روعتنا تلك الأنباء وصعقنا عند سماعها، وقضينا جميعا عدة أيام عاجزين عن التفكير، ثم شمرت الدعاوة عن ساعد الجد، فلم تكد الدوائر العليا في موسكو تستقر على تفسير رسمي لهذا الحادث الجلل حتى أخذت تدفعه دفعا في عقول جمهرة أعضاء الحزب، فقام كبار الموظفين يخطبون في المجتمعات الإقليمية، وصغارهم ينشرون الرسالة في مجتمعات الأقاليم، والدعاة المتنقلون يحملونها إلى خلايا الحزب الصغيرة.
وخلاصة ما كان يقال لنا أن ما نالته الفاشية من انتصار في ألمانيا ليس في حقيقة أمره إلا نصرا مقنعا للثورة العالمية، فهو آخر جهد تبذله الرأسمالية، وآخر أنفاسها تلفظها قبل موتها، لقد انقضى عهد البرلمانات المهرجة في الديمقراطيات الزائفة، ولم يعد في وسعها أن تصعر للناس خدها، وليس في مقدور الرأسماليين أن يسيطروا على الجماهير الغاضبة ولو استعانوا عليها بالأتباع الأذلاء من الاشتراكيين الأحرار، ورأوا ألا بد لهم من أن يستعينوا على هذه الجماهير بالإرهاب السافر وأن يتخذوا الفاشية أداة لهم في هذا الإرهاب.
وقال لنا خطيب في المعهد: «إن الفاشية الألمانية هي رأس الحربة تسددها الرأسمالية العالمية إلى الصدور، لقد أسفرت الرأسمالية آخر الأمر عن وجهها، ولم يبق أمام عمال العالم في هذه الأيام إلا أن يختاروا بين الفاشية والشيوعية، وهل ثمة إنسان يشك فيما سيختارون؟ والاتحاد السوفيتي وحده هو الذي يقف في وجه الفاشية، تؤيده في ذلك الكتلة العاملة في جميع بلاد العالم، أيها الرفاق إن موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا ليسا إلا نذيرين من نذر ثورتنا العالمية، وهم بعد أن أماطوا اللثام عن حقيقة الرأسمالية الفاشية سيدفعون الجماهير دفعا لأن تدرك الأمور على حقيقتها، وما أصدق القول المأثور: اشتدي أزمة تنفرجي.»
وهكذا أصبحت هزيمة الروسيا في ألمانيا نصرا لمشروع السنوات الخمس، وكنا فإذا خلا بعضنا إلى بعض، أو اجتمعنا في حجراتنا، كنا أبعد الناس عن تصديق هذه الأقوال، فقد كانت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية وأحزاب الأحرار ونقابات العمال الرجعية نفسها، كانت هذه كلها هي والأحزاب الشيوعية تحل وتصفى في ألمانيا، ألم يكن في أقوال الزعماء السوفيت خطأ وتناقض بين؟ وهل كانت الضرورة تقتضينا أن نبدد قوانا كلها في محاربة الاشتراكيين والديمقراطيين، وقد كان في وسعنا إذا ضممناهم إلى جانبنا أن نصد تيار النازية؟ وهل كان حتما مقضيا أن تنضم البلاد الرأسمالية وبخاصة إنجلترا إلى ألمانيا الهتلرية ضد روسيا السوفيتية في الحرب المقبلة؟
الحق أنه لم يكن في مقدورنا أن نجيب عن هذه الأسئلة إلا بالرجوع إلى المعلومات الضئيلة التي كانت تبيحها لنا الحكومة، فقد كانت الصحف والمجلات الأجنبية ممنوعة عنا. نعم إن رجال الحزب كان يباح لهم أن يطلعوا على ما لا يطلع عليه جمهور الشعب، وذلك من نشرات خاصة يصدرها هو، ولكن غذاءنا العقلي كان مع ذلك يختار وينسق، ولم يكن أحد يشك في أن الأخبار السرية نفسها التي تذاع من المصادر العليا كانت في الأعم الأغلب تصنع وتنظم تنظيما دقيقا ثم تجري علينا كما يجري الطعام على الجنود.
غير أن التفسير الرسمي لهذه الضربة الهتلرية لم يرق في أعين معظم الشيوعيين، بل كان الأثر الذي تركته في صفوف المؤمنين، وقد جاءت في أحرج ساعات الحياة السوفيتية، كان هذا الأثر هو ازدياد روح الكآبة التي أخذت تنتشر انتشارا سريعا في صفوف الشيوعيين الصادقين، وشرعت صحف الحزب تندد بروح التردد والهزيمة، وتدعو إلى استئصال شأفتها، وكانت الأسس توضع لإجراء تطهير عظيم في الحزب يخرج من صفوفه كل المتشككين المتحذلقين الذين أتخمت حياتهم بتعذيب الناس وسفك دمائهم، حتى لم يعودوا يطيقون منها مزيدا.
الفصل التاسع
حصاد في جحيم
لم تكن أحداث العالم أو حوادث الوطن عند الشيوعيين العاملين أمورا موضوعية مما لا يتصل بمجرى حياتهم اتصالا مباشرا، بل أوشك الحد الفاصل بين ما هو خاص وما هو عام من شئون الحياة أن يمحى في بلادنا، وتدخلت الحياة اليومية في التطورات السياسية تدخلا جعل منهما وحدة، فالنصر يحرزه هتلر، والأرقام الدالة على المزارع الجماعية وافتتاحية «برافدا» في عددها الأخير، كل هذه كانت عناصر من قصة حياتي.
وإن الرجل من خارج روسيا ليتعذر عليه أن يصدق روايتي إذا ما رويت له الحقيقة الواقعة، وهي أن أمثال هذه الوقائع السياسية أعمق أثرا وأشد وضوحا في ذكرياتي عن ذلك العهد، من زواجي من «زينا» الذي لم يدم إلا أمدا قصيرا.
التقيت ب «زينا » قبل رحلتي إلى الريف بشهرين، وقد كان جمالها هادئا رقيقا كالزهر، فلم يكن بها ما ب «جوليا» من عاطفة وشهوة، وهما الصفتان اللتان جذبتاني إلى هذه الأخيرة، كانت «زينا» رقيقة نحيلة ناعمة الصوت مرهفة المشاعر، لكن جسمها هذا الرقيق كان يغلف لبا صليبا من أثرة؛ فبينا كانت الكثرة الغالبة من فتياتنا السوفيت منبسطات النفوس، إذ كن بسيطات قويات، كما كان لهن وعي اجتماعي - على حد التعبير الذي جرى به العرف الاصطلاحي بيننا في الحزب - كانت «زينا» تنطوي على نفسها.
لم يكن لشيء وجود في رأي «زينا» إلا ما ارتبط بعواطفها الخاصة أو اتصل بهواها، ولقد أنذرني أصدقائي بأنها مترفعة بطبعها، والحق أن فتنتي بها كانت منذ البداية يشوبها شيء من وخز الخطيئة، فما عتمت - حتى قبل تسجيل زواجنا - أن أظهرت عدم ارتياحها لما كان يقتضيه مني الحزب من أعمال كثيرة، وكأنما لسان حالها يقول محتجا: «وأنا؟ أين منك نصيبي؟ لا أظنك مستطيعا أن تفرغ لي من وقتك شيئا.» ولئن أنطقتها بالشكاة شواغلي، فلم تكن أقل شكاة من قلة مالي ومن اضطرارنا أن نعيش مع أسرتي، وأحس أهلها بخيبة الرجاء في زواجها، ولم يجعلوا من شعورهم هذا سرا مكنونا.
فلما أمرت بالسفر إلى منطقة من مناطق المزارع الجماعية، شعر كلانا كأنما انزاح عن صدره كابوس جاثم، إذ جاءت غيبتي تلك قطيعة صادفت من نفسينا ارتياحا، وقد كانت مدة انفصالنا - ولو أنها لم تزد على قليل من أسابيع - كفيلة أن تفصم عرى الزوجية بيننا، حتى إذا ما عدت من الريف مهدود القلب مشتت الفكر، لم تأبه «زينا» لروايتي لها عن رحلتي، فوقع مني ذلك موقع الإيذاء، ولم ألاحظ بادئ ذي بدء أنها تأنقت في لباسها؛ فثوب من حرير، بل وأحجار كريمة.
وكان الطلاق عندئذ أمرا بسيطا يأتي من جانب واحد، فما عليك إلا أن تسجل ختام زواجك، فتعلن زوجتك بطلاقها ببطاقة ترسل إليها بالبريد، ولقد علمت - بعد أن حللت عرى زواجي ب «زينا» - أنها كونت لنفسها «أصدقاء جددا تحلو لها معهم الصلات »، وكأنما هدتها فطرتها الأثرة سواء السبيل، إذ كان بين هؤلاء الأصدقاء رجل ذو مركز ممتاز، تربطه الروابط بالطبقة العليا من أصحاب القوة والنفوذ، فكان في مقدوره أن يشبع لها ميولها المترفعة، فلم يكد زواجنا تنفصم عراه حتى تزوجت منه.
هكذا تبين أن ما كان ل «زينا» من جمال الزهر الرقيق، إنما هو ترف فضفاض بالنسبة إلى طالب مفلس، بل هو أوغل في الترف بالنسبة إلى شيوعي جاد في عقيدته، ولبثت أعواما بعد ذلك أصادفها في المسرح وحفلات الموسيقى، فما رأيتها قط إلا أنيقة الثياب، مترفعة عن غمار الناس، محشورة في زمرة اللامعين من أبناء مجتمعنا الجديد، وكنت لا أكاد أحتمل مجرد الذكرى بأني قد كنت يوما لها بعلا.
كان الموت أول ما حصدناه من مزارعنا الجماعية، وشاع بين الناس ما أصيبت به روسيا الجنوبية وآسيا الوسطى من مجاعة فاتكة، على الرغم من أن الصحف السيارة لم تذكر كلمة واحدة عن هذه المأساة، بل كان الناس يستنكرون هذا النبأ على أنه «دعاية ضد السوفيت»، مع أنهم كانوا على يقين أنه الحقيقة الصارخة.
وعلى الرغم مما اتخذته الشرطة من تدبير عنيف لكي تحصر صرعى المجاعة في ديارهم، فقد اجتاحت جموع من عمال المزارع مدينة «دنيبربتروفسك» وهم يتضورون جوعا، واستلقى على الأرض منهم كثيرون حول محطات السكة الحديدية لا يملكون حراكا، خارت قواهم حتى عن سؤال الإحسان، وأوشك أطفالهم أن يكونوا هياكل انبعجت منها معدات منتفخة، لقد كانت العادة فيما مضى أن يرسل الأهل والأصدقاء من الريف رسائل الطعام إلى ذويهم في الحواضر، أما الآن فقد انعكس الوضع، وعلى كل حال فقد كان نصيبنا من الطعام من القلة والاضطراب بحيث لم يستطع أن يستغني عن شيء من زاده إلا قلة يسيرة.
ولما كانت هذه المجاعة قد وقعت في نفس الوقت الذي بلغنا فيه ختاما ظافرا لأول مشروع وضع ليتم في أربعة أعوام، فقد طفقت الصحف فيما يشبه الهوس، تعلن في ازدهاء «جليل أعمالنا»، لكن هذه الدعاوة التي تصم الآذان بصياحها، لم تستطع أن تطمس في عجيجها أنات الذين كانوا يكابدون الموت، وقد رنت هذه الصيحة «بالحياة السعيدة» الجديدة في أسماع فريق منا رنين الصراخ تبعثه الشياطين، ويروع النفوس أكثر مما تروعها المجاعة نفسها.
وكان الأمر كله مرهونا بالحصاد الجديد، أفيكون لهؤلاء الزراع المتهافتين جوعا، أفيكون لهم من القوة والعزيمة ما يحصدون به وما يدرسون، والموت ضارب حولهم بجرانه؟ لكي يضمن أولو الأمر جمع الحصاد، ويحولوا بين الفلاحين أعضاء المزارع الجماعية وبين أن يدفعهم القنوط إلى التهام الزرع وهو بعد أنجم خضراء، ويصونوا نظام المزارع الجماعية من أن يتداعى بنيانه إذا ما دب دبيب الفوضى، ويقاتلوا أعداءه. لكي يحققوا ذلك كله؛ أنشئوا في القرى أقساما سياسية يديرها رجال من الشيوعيين الأكفاء، فمنهم رجال الجيش والموظفون وأصحاب المهن ورجال القسم السياسي والطلاب، وهكذا جندت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جيشا يربى على مائة ألف من الصناديد، جندتهم في ربوع هذه المزارع الجماعية، ليكون واجبهم صيانة الحصاد الجديد، وقد كنت أحد هؤلاء المجندين، اجتمع منا عند مقر اللجنة الإقليمية ثلاثمائة جيء بهم من هيئات مختلفة من المدينة، وألقى فينا الخطاب الرئيسي أمين سر اللجنة، وهو من طليعة الشيوعيين في أوكرانيا، وأعني به الزميل هاتايفش، ولم يخف في خطابه ما عسانا ملاقوه في القرى من صعاب، وكان يعيد في خطابه مرة بعد مرة ذكر «التطهير» الذي وضع الحزب خطته بحيث يتم في زمن معين من ذلك العام، فكان تلميحه هذا أوضح من أن يخطئه سمع سامع، فبقاؤنا السياسي مرهون بما يصيبه في مناطق المجاعة من فشل أو نجاح.
أعلن فينا محذرا: «إن ما تعملونه في القرى هو برهان ولائكم للحزب وللرفيق ستالين، وهو مقياس ما تضمرونه من ذلك الولاء، ليس أمامنا للتخاذل من سبيل، كلا، ولا في هذا الميدان موضع لمتهافت، فلا مندوحة لكم عن معدات قوية وعزيمة من حديد، ولن يقبل الحزب عذرا إذا ما فشل في المهمة فاشل.»
بهذه السلطة التي سلمتني بها اللجنة المركزية، أخذت سمتي نحو إقليم «بياتيخاتسكي» يرافقني «يوري» وهو زميل في الدراسة وصديق، فوجدنا أولي الأمر في ذلك الإقليم قد نفد صبرهم لما خاضوه من عقبات، وأخذنا نستفسر عن المحصول الجديد، فلم يجيبوا إلا بنبأ المجاعة التي تفتك بالناس جماعات جماعات، وبنبأ التيفوس وقد تفشى، وبأخبار الناس يقتاتون على لحوم البشر.
وكانوا إذا ما استنهضتهم يوافقونك قائلين: نعم لا بد من إعداد أنفسنا لحصد الغلة الجديدة ودرسها، أما كيف يبدءون فقد كان ذلك فيما يظهر فوق عزائمهم التي كأنما أصابها شلل، وغصت مكاتب الشرطة كما غصت السجون بالمزارعين سيقوا إليها من القرى المجاورة، متهمين بجمع غلال لم يأذن لهم الحاكمون بجمعها، وكانت تهمتهم الرسمية في ذلك هي «التخريب» و«سرقة أموال الدولة».
بلغنا قرية كبيرة - بتروفو - عندما دنت ساعة الغروب، فوجدنا صمتا كصمت القبور قد ساد المكان، وكان معنا فلاح يهدينا الطريق إلى القسم السياسي، فقال: «لقد أكل الناس الكلاب جميعا، وهذا هو السر فيما ترون من سكون.» ثم أضاف إلى ذلك قائلا: «إن الناس لا يطيلون المسير، فليست لديهم قوة تعين على ذلك.» وقابلنا رئيس القسم السياسي، ومن ثم بعث بنا إلى كوخ لفلاح حيث نقضي المساء.
لم يكن يضيء الدار إلا سراج ضئيل، وكانت صاحبة الدار فلاحة شابة، خيل إلي أن قسماتها التي شفها الجوع، قد غاض منها كل الشعور، فلم يبق لها منه شيء حتى شعور الحزن والخوف، كانت قسماتها بمثابة قناع من الحياة يخفي وراءه الموت، وعلى مخدع ضيق في ركن من أركان الدار، رقد طفلان رقادا ساكنا كأنما فارقتهما الحياة، فلم يكن فيهما من علائم الحياة إلا عيون تنظر، فكنت إذا ما التقت تلك العيون بعيني، أهتز من ألم.
قال «يوري»: «يؤسفنا أن نقحم أنفسنا عليك إقحاما، لكننا لن نسبب لك عناء، وسنغادر الدار مع الصباح.» قال هذا بصوت متكلف خفيض كأنما كان يتحدث في غرفة مريض أو بين القبور.
قالت الشابة: «لقد حللتم أهلا، وإنما يؤسفني ألا أملك ما أقدمه إليكم، فلم تشهد دارنا لقمة من خبز طيلة أسابيع طوال، لدي قليل من بطاطس، لكني لا أجيز لنفسي أن نمضي في أكلها فنأتي عليها في وقت أقصر مما ينبغي.» ثم قالت وهي تبكي في صوت خافت: «ألهذه الغمة نهاية تنقشع بعدها، أم أنه لا منجاة لي ولصغاري من الموت كسائر الناس؟»
فسألتها: «وأين زوجك؟» - «لست أدري، أمسكوه! ولعلهم أبعدوه، كما أبعدوا أبي وأخي، لست أشك في أنهم قد خلفونا ها هنا لنلاقي حتفنا جوعا.»
عندئذ قال «يوري» إنه يريد التدخين، وغادر الدار من فوره، وإني لعلى يقين أنه إنما خشي أن تخذله قواه فينفجر باكيا أمام هذه الفتاة.
وقلت لها: «أي عزيزتي، لا تستسلمي لليأس، أنا عليم بصعوبة الأمر، لكنك إذا أحببت أطفالك كان لزاما ألا تيأسي من الجهاد، أحضري أطفالك إلى المائدة، فإن معي وصديقي شيئا من الطعام جئنا به من المدينة، وستشاركوننا - أنتم جميعا - طعام العشاء.»
عاد «يوري» ووضعنا على المائدة كل ما كان لدينا من زاد، وأكلنا - أنا و«يوري» - قدرا ضئيلا؛ لنبقي للآخرين أكثر ما نستطيع، ونظر الأطفال إلى لحم الخنزير والسمك المقدد والسكر والشاي بعيون فازعة، وطفقوا يلتهمون الطعام التهاما شرها سريعا، كأنما أوجسوا خيفة أن يختفي عن أبصارهم بغتة كما هبط عليهم بغتة، وبعدئذ أرقدت الأم صغارها، ثم أخذت في الحديث.
قالت: «لن أحدثكم عن الموتى، فأنتم بذلك عالمون لا ريب، لكني سأحدثكم عن أنصاف الموتى وأشباههم، فهم أبعث على الأسى؛ ففي «بتروفو» مئات يتضورون من جوع، وليت شعري كم من هؤلاء يلاقون حتوفهم كل يوم، وكثير من الناس قد هدهم الهزال بحيث لم يعودوا يغادرون ديارهم، فتمر علينا عربة آنا بعد آن لتجمع أجساد الموتى، ولقد أكلنا كل ما استطاعت أن تصل إليه الأيدي، أكلنا الهررة والكلاب والجرذان والطير، وسترون إذا ما أصبح الصباح أن الأشجار قد عريت عن قشورها، فقد أكلنا كذلك هاتيك القشور، بل أكلنا كذلك روث البغال.»
وقع مني هذا الكلام - فيما أرجح - موقعا أظهرني في هيئة الفزع المرتاب. «نعم، أكلنا روث البغال، بل إنا لنعترك عليه؛ لأن فيه أحيانا حبوبا كاملة من غلال.»
كانت هذه أول مرة يزور الريف صديقي «يوري»؛ فخشيت أن يشتد اضطرابه لوقع هذه المفازع في نفسه لأول مرة، فطلبت إلى المرأة أن تمسك عن روايتها، وأصرت أن نأوي جميعا إلى مخادعنا لننام، لكني و«يوري » لم ننم إلا غرارا، وسرنا أن أصبح الصباح.
فلما أن بلغنا «القسم السياسي» بعد شروق الشمس بوقت قصير، لم نجد هناك سوى الخبير الزراعي لمزرعة الدولة، وتبين أنه صديق قديم؛ لأنه كان طالبا في مدرسة الزراعة ب «آراستوفكا» فضمني ضم الصديق لصديقه، وسألته عن زميله «ياشا جرموف» الذي كان قد زاملني في العمل في المصنع لبضع سنوات خلون. - «سيأتي بعد قليل، أأنتما مقيمان في «بتروفو» أم أنتما في الطريق إلى مكان آخر؟»
فأجبته قائلا: «سنواصل السفر إلى بلد ليس ببعيد، إنما نزلنا ها هنا لنقضي المساء ولنعرف الناس، وإني لأرجوك رجاء لعلك متفضل به علي، أي زميلي «باشماكوف» فهل لك أن تستغني لي عن شيء من زادك؟» - «هل تريده لنفسك؟» - «ليكن ذلك، وعلى أية حال سأدفع لك ثمنه.» - «تدفع لي! كأنما المال هو موضع الإشكال، اصحبني إلى الدار، وإنها لعلى مقربة من هذا المكان، لعلي مستطيع أن أستغني لك عن قليل.»
ولما كنا في طريقنا إلى داره، قال: «إني لعلى يقين أنك تريد الطعام لبعض هؤلاء الفقراء المناكيد، ولست على ذلك بلائم، لكن - أي زميلي «كرافتشنكو» - لن يرجى منك نفع لو أحللت الرأفة مكان السياط، إنه لا مندوحة لك عن تدريب نفسك على أن تطعم أنت حتى لو رأيت الجوع قد أشفى سواك على الهلاك، وإلا لما وجدت من الناس من يجمع لك الحصاد، فنصحي إليك كلما رأيت مشاعرك قد غلبت على حزمك، أن تقول لنفسك: «إن الوسيلة التي لا وسيلة سواها للقضاء على هذه المجاعة، هي أن نضمن المحصول الجديد.» ولا تحسبن أني قد هيأت نفسي لمثل هذا بغير عناء، فلست بالحيوان الذي يخلو من حنان.»
ومع ذلك فقد أعطاني قطعة من لحم الخنزير وزجاجة من زيت، وشيئا من الدقيق وكيسا صغيرا من رقائق الخبز ، فشكرته وحملت هذا كله إلى الدار التي كنا قضينا فيها المساء، فكأنما نزلت بالمرأة صاعقة أمسكت لسانها أن يتحرك بالشكر، وفررت من عرفانها لجميلي كأنما كان اعترافها بالفضل تقريعا أليما.
وسرت يصحبني «يوري» خلال القرية، فأحسسنا من جديد بضائقة تلم بصدرينا لما ساد المكان من سكون غير مألوف، وسرعان ما انتهى بنا السير إلى مكان مكشوف لا بد أن قد كان فيما مضى ساحة السوق، وفجأة أمسك «يوري» بذراعي وضغط حتى آلم، ذلك أن وقعت عيناه على جثث طرحى على أرض المكان، جثث لرجال ونساء وأطفال، سترت بغطاء رقيق من قش قذر، وقد عددتها سبع عشرة جثة، وبينا نحن واقفان نرسل البصر إذ جاءت عربة وأخذ رجلان يقذفان على سطحها بأجساد الموتى كأنما هي جذوع من حطب.
ذهب «يوري» إلى مزرعة الدولة ليهيئ للنقل أسبابه، وعدت أنا إلى «القسم السياسي»؛ لأتحدث مع «جروموف» فسر لرؤيتي سرورا كانت له في نفسه نشوة، فالزائر كائنا من كان يأتيهم من خارج حدود هذه المجاعة، يحل عندهم أهلا لأنه تذكرة لهم بأن الدنيا لم يزل بها أصقاع تجري فيها الحياة على نحوها المألوف، وأخذني إلى مزرعة الدولة، وهي نموذج لمشروع تملكه الدولة وتشرف على سيره، لا يشاركها في ذلك سواها، وفي مثل هذا الضرب من المزارع يؤجر المزارعون، وبهذا يختلف عن المزارع الجماعية التي يديرها المزارعون جماعة.
وبينا نحن سائران خلال حقول القمح والشعير التي لم يكتمل نضجها، قلت لزميلي: «ياشا، لقد كنت في ساحة السوق هذا الصباح، و...» - «نعم، أعلم ما تريد يا «فيتيا»، كم وجدت هذا الصباح؟ سبع عشرة جثة فقط! إن العدد ليزيد على ذلك أحيانا، وماذا ترانا صانعين إلا أن نجمع الأجساد لنواريها القبور! إن الحكومة قد استلبتهم كل غلتهم في الحصاد الماضي، والقليل الذي بقي لهم أجرا على عملهم أو الذي استطاعوا أن يخفوه، قد استهلكوه منذ أمد بعيد، إنها حال تبعث على الحزن والفزع، اصحبني إلى الدار لنمضي في الحديث، فقد طال بي الزمن الذي احتبست فيه أفكاري لنفسي طولا جاوز المعقول.»
إن حديث الموت من جوع حديث مملول، حديث معاد مكرور، وإنه لمما يبعث على الحسرة أن نستخدم الألفاظ التي تلوكها الألسن في الحياة الجارية، أن نستخدمها بنفسها حين نصف ما هو قطعة من الجحيم، فلم يكن ما قاله لي «ياشا» سوى ما كانت قالته لي الشابة الفلاحة في الليلة السابقة، وما شهدته بعيني في ساحة السوق، وقد أخذت بالفعل أتعود هذا الجو تملؤه المفازع، وكان ينمو في نفسي رويدا رويدا شعور دخيل بالمناعة إزاء الحقائق الواقعة، بحيث أشهدها ولا أتأثر بها، تلك الحقائق التي ما كدت أسمع عنها أمس القريب حتى تحطمت لسمعها قوائمي.
امتد بنا السمر حينا طويلا، وأخذ «جروموف» يصف لي الناس الذين سأزاول معهم مهمتي في القرى التي كلفت بالعمل فيها، ووعدني المعونة ما استطاع إلى المعونة سبيلا، ولوح بيده مودعا حين أقلتني مع «يوري» عربة صغيرة وضعتها مزرعة الدولة رهن أمرنا.
كانت الشمس آيلة للغروب والسماء ملطخة بالدماء، وسمعت الرجل الكهل الذي كان يسوق لنا العربة يوجه الحديث إلى جياده قائلا: «امضيا أيها الصقران الصغيران، امضيا بنا أيها العزيزان!»
وقدمت له لفيفة تبغ، فأحدث تبغها الجيد - فيما يظهر - نشوة في نفسه ومد ذراعه يقلب فيها تحت مقعده، وأخرج مزمارا من غاب، وطفق يغني ألحانا شعبية أوكرانية حزينة.
قال له «يوري»: «الظاهر يا أبت أنك تستمتع بعيش سعيد.»
فأجاب: «أي والله! كلنا ها هنا نعيش عيشة الأمراء، زوج واحد من السراويل لكل رجلين، وكل إنسان ها هنا حي حتى يموت، ليس منا فقراء ولا أغنياء، كلنا سائلون إحسانا، يا صقري الصغيرين عليكما بذلك التل! أخرجا ما لديكما أمام أهل الحضر! أي صغيري!»
فسألته: «ومن أنت يا جدي؟» - «ليس في هذا المكان من يجهل من أنا، كان الناس يطلقون علي «كوزما أفانوفتش» حين كانت لدي مزرعتي وحين كنت في وفرة من قوت، أما وقد أصبحت اليوم حوذيا، فهم ينادونني باسم «كوزكا»، لم يبق لي إلا هذا المزمار، فتراني أعزف عليه، لقد ماتت زوجتي العجوز في الشتاء الماضي، ماتت جوعا، وتزوجت ابنتي واشتغلت في المناجم، وأرسل اثنان من أبنائي مع أسرهم إلى سيبيريا، أرسلهم هناك الرفقاء ... ولعلهم إذ رأوني كهلا لا يخاف له بأس، استخدموني حوذيا في مزرعة الدولة ، لقد لبثوا طويلا يرفضونني ظنا منهم أني قد أدبر تلفا للمزرعة، ولكن فيم إتلافي لهم شيئا؟ لقد بت من الموت قاب قوسين.
إني أصدع بكل ما يأمرونني به، ومتعتي في حياتي هي هذان الجوادان، أعنى بهما خير عناية، نعم إنهما ملك الحكومة، لكني أخيل لنفسي أنهما لي، إنهما أسرتي التي لا أسرة لي غيرها الآن؟ إني أغذوهما وأنظفهما وأتحدث إليهما، إنهما يفهمان عني، يفهمان كل كلمة أقولها، إنني بهذين الجوادين لا أزال «كوزما إيفانوفتش» ولست «كوزكا» مجردة عن الألقاب، إن كل رجائي هو أن يدفن جسدي إلى جانب زوجتي العجوز إذا ما جاءت منيتي، لقد رجوت ناسا من أطيب الناس أن يذكروا ذلك، فوعدوا أن يحققوا لي الرجاء، فأنا - كما تريان - خلي من الهموم.»
ثم استأنف عزفه على المزمار.
ولما بلغنا الغاية المقصودة، وهي القسم السياسي في القرية، كان قد أمسى المساء، وقد كان مقر القسم السياسي دارا جميلة في نهاية طريق محصوب تحف جانبيه أشجار من حور، وكان في القسم كثير من الموظفين يرقبون قدومنا فرحبوا بنا، وبعد أن قدم كل منا نفسه للآخر، صحبناهم إلى كوخ كان يقيم به مساعد الرئيس، وكان المكان نظيفا، والعشاء شهيا كافيا رغم بساطته.
لم يكن يسيرا عليك وأنت جالس إلى المائدة المليئة بصنوف الطعام، ومصباح الغاز يرسل شعاعا بهيجا من الضوء، لم يكن يسيرا عندئذ أن تتخيل أن الجوع والموت قد استوليا على المنازل المحيطة بنا جميعا، لقد أخذت أمعن النظر في هؤلاء الرجال الذين سأزاول معهم مهمتي، ولم يكن خافيا أنهم كذلك بدورهم يمعنون في النظر.
كان «سومانوف»، رئيس القسم السياسي، رجلا من رجال الجيش، كان بكباشيا في المدفعية، هو قصير مليء سنه حول الأربعين، ووجهه هادئ يشيع في ملامحه شيء من العطف، ولم أكد أراه حتى أحببته، أما مساعده - وهو صاحب الدار - فكان مديرا لمصنع من مصانع المعادن في حوض الدونتز، كان أنيق الملبس كثير الجلبة ثرثارا يفيض فيضا بنكاته، وأما المساعد الثاني فضابط شاب من الشرطة السرية، وهو أسود الشعر والعينين أنيق الثياب، كان لا يتكلم إلا قليلا، لكنه يرهف السمع إنصاتا للحديث، ثم عضو رابع من القسم السياسي كان محررا في إحدى الصحف جاء من مدينة في الإقليم الذي كنت من أبنائه.
أخذ كل منا يقلب النظر في الآخرين، وعرفت كيف أسوق في الحديث عرضا أسماء أصدقائي الذين يحتلون مكانة عالية، بل أشرت تلميحا إلى معرفتي الشخصية بالوزير «أورزنكدز»، ولما ألقيت في حديثي أسماء معارفي من رجال الشرطة السياسية في المدينة التي نشأت فيها، وجه الضابط الشاب الذي ينتمي إلى هذه الفرقة انتباها لقولي واعتدل له بجسمه اعتدالا اندفع إليه بلا شعوره، فمهما يكن من أمر المهمة التي تنتظرني، فقد كان لا بد لي من أن أحشد كل قطرة أستطيع حشدها من المكانة في أعين الناس حتى أستطيع أداء مهمتي.
ولما فرغنا من عشائنا عقدنا اجتماعا رسميا، وأخذت أنا و«يوري» نزداد معرفة بطبيعة ما نحن مقدمان عليه من عمل، وتفضل علينا الحاضرون بوصف موظفي ذلك الإقليم ومختلف شخصياتهم، أعني موظفي المزارع الجماعية التي ألقيت تبعتها على عاتقينا، والظاهر أن قد شاء لنا حسن الحظ أن تكون المحصولات مبشرة بوفرة وجودة، فكانت مهمتنا إذن أن نصونها وأن نرعى جمعها رعاية تضمن للحكومة نصيبها كاملا، وحدد اليوم الأول من سبتمبر تاريخا أقصى للحصاد، وقد جمع ما بيننا اشتراكنا في التبعة، على الرغم من أن كلا منا خصص له جزء معين يكون تحت رعايته.
وفي صبيحة اليوم التالي دعاني الرفيق «سومانوف» إلى مكتبه الخاص.
قال لي: «إن خبرتك بالزراعة أوسع من خبرة الكثرة الغالبة من «الممثلين الرسميين» وذلك شيء محمود، لكني أحب أن تكون على حذر، سيصادفك كثير من ألوان الشقاء، وستكون صاحب الكلمة لأني لن أشير عليك كيف تتصرف فيما عساه أن يصادفك من مواقف ، لكن شيئا واحدا أريد أن أشير عليك به، وذلك ألا تتخاذل إزاء ما ترى، وإلا كنت عديم النفع لنفسك ولمهمتك، اعمل ما تظنه لازما ولا تأبه لما عدا ذلك من ضروب التدخل، إن كل سيئة قمينة أن تجد الغفران لو أنك نفذت الخطة في إحكام ودقة، وإلا ... ماذا أقول وكلنا يعرف النتائج، إن لك مني كل معونة مستطاعة، وفي انتظارك الآن رؤساء المزارع الجماعية ورئيس السوفيت في القرية، فأتمنى لك حظا سعيدا!»
وما هو إلا أن عدت مع «يوري» إلى استئناف السفر، وكانت قراه تبعد عن قراي ما يقرب من ثمانية أميال، فلما بلغنا «لوجينا» التي ستكون مركز إقامتي، نزلت من العربة أمام مقر السوفيت وواصلت العربية سيرها تحمل «يوري» وحده.
كان مركز السوفيت صغيرا لكنه نظيف، وكان الاجتماع معقودا ساعة وصولي، فقدمت نفسي للأعضاء وأبرزت وثيقة انتدابي «ممثلا رسميا ينوب عن القسم السياسي» و«اللجنة الإقليمية»، وألحفت في أن يواصل المجتمعون عملهم، وكان رئيس الاجتماع - فيما علمت - يدعى «بلوسوف» ولم يكن خافيا ما كان يستولي عليه من رعب إزاء أمين الحزب الرفيق «كوبزار»، كذلك كان بين الحاضرين مدير محطة الجرارات الآلية واسمه «كاراس».
قال «كوبزار»: «أيها الرفيق كرافتشنكو، أنت ها هنا الآن صاحب الأمر، فتول رياسة هذا الاجتماع.» - «لا، لا، امضوا فيما أنتم ماضون فيه، وإذا سمحتم فسأجلس منصتا، ولن يكون منذ الآن - أيها الرفاق - «نحن» و«أنتم» فلا بد لنا من تعاون، فأنتم أدرى مني بمشكلات هذا الإقليم، وستكونون في كل شيء عمادي، لكني في الوقت نفسه مسئول عن الأمر، وسيكون لي القول الفصل، سأعقد أول اجتماع لي غدا، وأحب أن تحضروا جميعا مزودين بما يلزم من حقائق، وأريد من كل رئيس لمزرعة جماعية - بوجه خاص - أن يأتيني بخطة عمله، وإلى أن يحين الغد، امضوا فيما أنتم مشتغلون به الآن كائنا ما كان.»
استأنف الأعضاء اجتماعهم، وكانت الكلمة لرؤساء المزارع الجماعية واحدا بعد واحد، فأكدوا جميعا أن مزارعيهم لن يقووا على جمع الحصاد إذا لم يجدوا ما يقتاتون به من طعام.
قال أحد هؤلاء الرؤساء: «إن من أشرف عليهم يتضورون جوعا، إنك لتراهم طرحى في منازلهم من هزال، فليس لنا أن نعد هؤلاء من الأيدي العاملة، وسيزداد هؤلاء العاجزون عددا، وسيمضي الموت بعدد قبل أن يبدأ الحصاد، فماذا نحن صانعون؟»
أجاب «بلوسوف» و«كوبزار» إجابات مهمة وأشارا إلى أوامر الحزب، فأدركت أنهما مهوشان يسيران على ضلال، وأنهما في أعماقهما لا يهمهما من الأمر كثير أو قليل، فقلت لنفسي: «الظاهر أني سأجعل المزارعين أنفسهم عمادي، فهم أرسخ عمادا من هؤلاء الموظفين.» فقد تبين لي في وضوح أن السوفيت وما للحزب من أداة تنفيذية قد تعودوا المجاعة حتى عميت أبصارهم، وأنه لا أمل في جمع الحصاد إذا لم أنفض عن هؤلاء ما خيم عليهم من عدم اكتراث.
قال لي «بلوسوف» عندما ختم الاجتماع: «تعال فنم في منزلي، فلا بد أن قد أنهكك السفر، وأظنني قادرا على إمدادك بما يرد لك النشاط.»
ثم قال أحد رؤساء المزارع الجماعية: «يسرني أن تصحبني إلى داري، اسمي «شاداي» وأسرتي صغيرة العدد، ونستطيع أن نخلي لك غرفة.»
فقررت على الفور أن أقبل دعوة «شاداي»؛ لأنني أحسست أنني كلما ازددت قربا من رجال المزارع الجماعية، كنت أقرب إلى الصواب، فصافحت الحاضرين جميعا، وصحبت «شاداي»، وهو رجل متوسط العمر فيه بساطة وذكاء، كان حليقا وسيم المحيا، ورافقنا رئيس آخر من رؤساء تلك المزارع هو «دمشنكو».
وصلنا الدار فابتسمت قائلا: «لنقصد أولا إلى حظيرة الجياد أيها الصديقان، فقد علمني جدي في «اسكندروفسك» ألا آوي إلى مخدعي قبل أن أستيقن أولا أن الخيل لم تهمل.» - «إذن فأنت سليل أسرة مزارعة؟» - «لست على وجه الدقة كذلك، أيها الرفيق «دمشنكو» لكني أطلت المقام في المزارع.»
واستطعت أن أرى على ضوء مشكاة أن الجياد في مرابطها، لكن لم يكن في مذاودها دريس، ولم تكن حظيرتها على ما ينبغي لها من نظافة.
قال «شاداي» في اضطراب: «لقد أهمل ابن الكلبة تنظيف الحظيرة مرة أخرى؛ لأرينه الجحيم غدا.»
قلت: «لست أدري من ذا وكل إليه هذا العمل، لكني أرى أنك أنت أولى بهذا الجحيم، فأنت الرئيس، والخطأ خطؤك أنت كلما وقع، وفي هذا وحده معنى الرياسة.»
ووافق «شاداي» في خشوع: «لقد أصبت القول، ومع ذلك فليس الأمر سهلا هينا، فكيف يعمل الناس بغير قوت؟ إنهم لا يستطيعون حصر أذهانهم في أعمالهم إذا ما كانوا جياعا.»
ووافق «دمشنكو» على ذلك قائلا: «هذا صحيح، ليس الأمر هينا، عما مساء، وسأراكما في الصباح.»
دخلت الدار حيث زوجة «شاداي» وأطفاله، وعلى الرغم مما بدا عليهم جميعا من هزال وضعف، فقد كان جليا أن ظروف العيش ها هنا لم تبلغ ما بلغته في دور الفلاحين من سوء.
قلت: «أي رفيق «شاداي»، حدثني حديث رجل لرجل، حدثني حديثا بعيدا عن الأوضاع الرسمية، كيف حال الناس؟ ماذا أعددتم من خطة لجمع الحصاد؟ كيف حال الآلات؟ لا تخف عني شيئا، بل كن معي مخلصا صادقا فنحن كلانا معنيان بشيء واحد.» - «لست أدري أين أبدأ الحديث أيها الرفيق «كرافتنشكو» ليس المحصول سيئا، والآلات صالحة على الرغم من فقدان بعض أجزائها، وبغير هذه الأجزاء المفقودة سيقف دولاب العمل.» - «اكتب لي قائمة بما تريد، وسأرسل في طلبه من القسم السياسي في «بتروفو».» - «شكرا فذلك عون عظيم، وشيء آخر في حالة من السوء، وهو موقف الجياد، فليس لدينا علف لها، ويعوزنا ولو قليل من الشوفان. طبعا نستطيع أن نحصد لها بعض شوفان المحصول الجديد، لكن ذلك تحرمه الأوامر تحريما قاطعا.»
قلت: «لا عليك من الأوامر، فسيكون لك ذلك إذا لم تر طريقا آخر، وستكون التبعة كلها علي وحدي، سيكون ذلك في طليعة مهامنا غدا، ماذا نحن صانعون بغير جياد، وهل تكون جياد بغير شوفان؟»
فحذرني «شاداي» قائلا: «لا أظن أن «بلوسوف» و«كوبزار» سيوافقانك على ذلك.» - «دعني وإياهما.» - «وأخيرا، وأهم من ذلك كله أيها الرفيق «كرافتشنكو» حال الناس أنفسهم، إنهم ليموتون كأنما هم الذباب يتساقط، ومن لم يمت فهو من الضعف والهزال بحيث لا يستطيع حراكا، من ذا سيحصد لنا الغلال، لقد توسلت إلى «السوفيت» أن يعيرونا شيئا من حبوب، فأرسلوا إلي مقدارا ضئيلا، ولست أنا بموسى ولا عيسى حتى أطعم ألوف الناس على مثل هذا القدر الضئيل، لقد شهدت أيها الرفيق الموت والدماء حين كنت في الجيش، لكني فيما شهدت لم تقع عيناي على شيء يوازي في بشاعته هذا الذي أراه ها هنا في قريتي.»
ونظر إلي محدجا، ولمع في حزنه بريق من أمل. - «أيها الرفيق، وأنت الممثل الرسمي، لو أردت حصد المحصول فلا بد لك أولا من إنقاذ هؤلاء الناس من براثن الجوع، أضف إلى ذلك أني لم أعد أحتمل النظر إلى هذا البؤس من حولي، كلا، لم أعد أطيق رؤيته لحظة واحدة.» - «لست بمستطيع أن أعدك شيئا أيها الرفيق «شاداي» سوى أن أبذل وسعي، سننهض من فراشنا غدا مبكرين، وسننتقل من دار إلى دار، لا بد أن أشهد الحال بنفسي قبل أن أصمم العمل.»
إن ما رأيته ذلك الصباح، حين أخذت أزور المنازل مع «شاداي» لأبشع من أن تصوره العبارة، فالرجال في ميدان القتال يموتون في لحظة، وهم يردون قتالا بقتال، ولهم في ذلك سند من الزملاء والشعور بالواجب، أما ها هنا فالناس يموتون في عزلة بعضهم عن بعض، وهم يموتون موتا متدرجا بطيئا، الناس ها هنا يموتون على نحو بشع فظيع، دون أن يكون لموتهم مبرر كأن يكون دفاعا عن مبدأ، لقد صيدوا ها هنا في فخ أغلق من دونهم، ثم تركوا هناك ليموتوا جوعا، كل في داره وحيدا، وصائدهم في هذا الفخ إنما هو قرار سياسي اتخذه الرؤساء في عاصمة بعيدة، إذ هم جالسون حول مائدة يتشاورون الرأي أو يأكلون ويشربون، ولو كان زوال هذه المفازع أمرا محالا، لكان في هذه الاستحالة شيء من العزاء، لكن الأمر يخلو حتى من هذا العزاء.
وأبشع ما كانت تقع عليه الأبصار هم الأطفال الصغار بأطرافهم الهيكلية مدلاة من بطونهم المنتفخة كأنما هي البالونات، لقد طمس الجوع من وجوههم كل علائم اليفاعة وأحالهم أمساخا شاهت مما لاقته من ألوان التعذيب، ولم يكن بهم ما يذكرك بطفولتهم إلا آثار بقيت في عيونهم، كنا حيثما أدرنا البصر نرى الرجال والنساء طرحى وقد انتفخت منهم الوجوه والبطون وغاضت من أبصارهم كل معاني الحياة.
طرقنا بابا فلم نسمع جوابا، وطرقنا الباب مرة أخرى ، ثم بيد واجلة دفعت الباب ودخلنا في ممشى ضيق يؤدي إلى الغرفة الواحدة التي يحتوي عليها الكوخ، واتجهت عيناي أول ما اتجهتا نحو سراج في أيقونة في أعلى السرير العريض، ثم صوبت النظر إلى جثمان امرأة في منتصف العمر مسجى على ذلك السرير، وقد ربعت ذراعيها فوق صدرها على صدار أوكراني مطرز نظيف، ووقفت عند حافة السرير امرأة عجوز كما وقف على مقربة منها طفلان: ولد في الحادية عشرة أو نحوها وبنت تقرب من العاشرة، كان الطفلان يبكيان في غير صوت مسموع، وينشدان في صوت حزين أغنية ريفية «أماه يا أماه العزيزة»، ثم أدرت البصر فإذا بالبصر يقع على جسد منتفخ متصلب لرجل ممدود على حافة الفرن.
لم تكن بشاعة المنظر في الجثة الراقدة على السرير بقدر ما كانت في حالة الأحياء المشاهدين، فساقا المرأة العجوز انتفختا إلى حد جاوز كل معقول، ولم يكن ثمة من شك في أن الرجل والطفلين كانوا في آخر مراحل الحياة بفعل الجوع، فعدت مسرعا وبي خجل من سرعة عودتي.
ورأينا في المنزل المجاور رجلا في نحو الأربعين من عمره، رأيناه جالسا على دكة يصلح حذاء، كان الرجل منتفخ الوجه، وكان إلى جواره صبي صغير مرتب الهندام استحال إلى ما يشبه أن يكون هيكلا من عظام، كان هذا الصبي يقرأ كتابا، وإلى جانب الموقد امرأة شاحبة مشغولة بطهيها.
سألها «شاداي»: «ماذا تطهين يا ناتالكا؟»
أجابت في صوت غاضب يشف عن رغبة في انتقام: «أنت تعلم ماذا أطهى.»
وجذبني «شاداي» من كمي وغادرنا الدار.
سألت «شاداي»: «فيم كانت غضبتها؟» - «لأنها ... ماذا أقول؟ إنه ليخجلني أن أنبئك، «فكتور أندريفتش» ... إنها تطهى روث خيل وأعشابا.»
كان أول ما بدا لي أن أفعله هو أن أعود إلى الدار فأمنع المرأة عن طهيها، لكن «شاداي» أمسك بي قائلا: «كلا لا تفعل، نشدتك الله، إنك لا تدري كم يحس الناس من ألم الجوع، إنها قد تقتلك يأسا إذا ما سكبت لها ما في قدرها.»
وبعد أن زرنا ما يقرب من اثنتي عشرة دارا، استمعت لنصيحة «شاداي» في الاكتفاء بما شهدناه إذ قال: «سترى ما رأيت أنى سرت، فقد عرفت الآن ما يكفيك.»
اتضح لي الآن ما يجب أن أصنعه، فالموقف من سوء الحال بحيث لا يحتمل أنصاف الحلول، فلا بد من إهمال الأوامر والقوانين مهما يترتب على ذلك من نتائج بالنسبة إلى نفسي، فإذا لم أرد لهؤلاء المزارعين قواهم، ضاع منا كل شيء، ولما عدنا إلى دار «شاداي» كتبت خطابا إلى الرفيق «سومانوف» وهو رئيس القسم السياسي الذي كنت تابعا له، وأرسلت الخطاب مع رسول خاص، ولما اقترب المساء جاءني الرسول يحمل رد الخطاب. «أنا على أتم العلم بالحالة، وإني لأود أن تعاود التفكير في الأمر من جديد وأن تزن كل جوانب الموقف، فإن ما تقترحه فيه عصيان خطير لما لدينا من أوامر صريحة، ومع ذلك فإذا لم يهدك التفكير إلى مهرب آخر، فلك أن تفعل ما تراه حتما لازما، وسأحاول أن أجد لك بعض الغلال، لكني أصارحك أنني لست كبير الرجاء في التوفيق.»
اطمأننت لهذا الجواب، فهو على الأقل لم يكن جوابا يحمل كلمة «لا»، ولم يكن ما اقترحته سوى أن أجمع بعض الشوفان لنطعم الخيل، وأن أحصد قليلا من الشعير النامي على حفاف الحقول ليأكل الناس، لكن مثل هذا الحصد السابق لأوانه كان في رأي جريدة «إزفستيا» المنشورة أمامي «سرقة لأموال الدولة» و«ضربا من التخريب»، ولقد ألقي القبض على الفلاحين وأرسل بهم إلى مطارح النفي عقابا على مثل هذه «الجرائم».
كانت الظروف في المزرعة الجماعية الأخرى لا تختلف عن ظروف هذه المزرعة جوهرا، فقد بقيت لبعض الفلاحين أبقارهم لكنهم كانوا يرسلون اللبن كله إلى مصنع الزبد التابع للدولة، وحتى هؤلاء الناس الذين لبث لهم من القوة ما يجولون به هنا وهناك، كانوا في حالة من الضعف واليأس والقنوط.
طلبت من «شاداي» و«دمشنكو» أن يستحضرا معلمي القرية وطبيبتها وبعض النساء ممن لهن شجاعة وذكاء في المزرعة، ثم أرسلت في الوقت نفسه إلى «بلوسوف» و«كوبزار» و«كاراس» آمرهم بالحضور، فلما اجتمع شملهم، جلسوا حول المنضدة يرقبون لا يدرون أي مفاجأة أنا مباغتهم بها من أوامر الحزب، ولم يستطع بعضهم - وكوبزار بصفة خاصة - أن يخفي ما يجول في نفسه من ريبة.
بدأت الحديث قائلا: «لقد دعوتكم للحضور أيها الرفقاء وبخاصة السيدات؛ لأنني بحاجة إلى نصحكم، وإنه ليسرني أن أرى بين الحضور الرئيس السوفيتي، وأمين الحزب، ومدير محطة الجرارات الآلية، لقد كنت أنتقل من دار إلى دار، وعرفت ماذا هناك، ولئن أفزعني كل ما رأيت، فقد أفزعتني حالة الأطفال على وجه خاص، كيف نطالب الناس بالعمل إذا كان أطفالهم يتضورون في المنازل جوعا؟
والآن هاكم خطتي، فقد أنبأني «شاداي» أن في القرية بعض المنازل الخالية، وأريد منكن أيتها السيدات أن تنظفن هذه المنازل وتبيضن جدرانها وتجعلنها صالحة للكائنات البشرية، وسنبدأ بالأطفال، سنعد لهم هذه الأماكن يعيشون فيها حتى يتم الحصاد، فاجمعن الأطفال واحلقن لهم شعرهم ونظفن أجسادهم واحقنهم وقاية من التيفوس، أنا أعلم أيها الطبيب أن لديك بعض الأدوية الضرورية، أعددن مناضد في حدائق تلك المنازل، واجمعن آنيات كبارا لطهي الطعام، هل أنتن على استعداد للمعونة؟»
قالت امرأة: «إننا على استعداد لا شك فيه، لكن ماذا عندك ليطهى؟» - «سأنبئكم بذلك فيما بعد، ولكني أحب أن أعلم الآن من تظنونه أكثر الناس جدارة بالركون إليه في الإشراف على هؤلاء الأطفال نيابة عنكم؟»
أجابت أصوات عدة: «كونوننكو إيفان بتروفتش، المعلم.»
فلما أشير إلى الرجل الكهل المقصود، وجهت إليه الخطاب قائلا: «إيفان بتروفتش، ما دام الناس قد وثقوا فيك، فلك مني الثقة كذلك، أنت المنوط بأمر الأطفال لا يشاركك في ذلك سواك، خذ من تشاء ليعاونك، ولك أن تعتمد على معونتي إلى أقصى الحدود، وإذا ما تدخل أحد في عملك فبلغ أمره لي.»
قال المعلم في صوت يختلط بالعبرات : «أنا على أتم استعداد، وكيف لا أكون وهؤلاء عشيرتي، هيئ لنا الطعام أضمن لك كل ما تريد.» - «شكرا لك يا إيفان بتروفتش، ابدأ عملك مفترضا أن الطعام هيئت أسبابه، اركن في ذلك إلى صدق وعدي.»
أذنت للحاضرين بالانصراف إلا الموظفين، فقد جمعتهم في غرفة أخرى وأغلقت من دوننا الباب.
قلت: «أيها الرفقاء، لنشمر السواعد للعمل، لا يفزعنكم ما أنا قائله، فأنا أعرف الأوامر كما تعرفونها، بل ربما كنت بها أتم منكم علما، ومع ذلك فإني سأصدر الأوامر الفلاحين أن يجمعوا الشوفان ليطعموا الجياد، وكذلك سآذن لهم بجمع الشعير من حفاف الحقول ومن حيث تم للشعير النضج، ابدءوا في درسه من فوركم، وأعدوا منه ما يكفي أن يوزع على الناس بحيث يصيب الواحد منهم في كل يوم كيلوجرام من شعير مجروش، وامضوا في زيادة هذا المقدار رويدا رويدا، بحيث إذا ما بدأ الحصاد كان للناس من القوة ما يعينهم على العمل، وأمدوا «إيفان بتروفتش» بقدر كاف من هذه الغلة الجديدة ليعنى بالأطفال، وإني لآذن لكم أن تذبحوا من خنازير المزرعة الجماعية ما يكفي أن يطعم الأطفال من لحم ودهن جنبا إلى جنب مع مجروش الشعير.»
وبينا أنا أتحدث كانت تبدو على وجوه هؤلاء الموظفين التابعين للإقليم علامات الريبة التي جعلت تتحول تحولا سريعا إلى فزع، فكأنما لغة عيونهم كانت تقول بأفصح مما تستطيعه الألفاظ: هل جن جنون هذا الرجل؟ هل يريد بنا وبنفسه الهلاك رميا بالرصاص.
وبدأ «كوبزار» الحديث فقال: «لكن أيها الرفيق كرافتشنكو ...» - «ليس في الأمر «لكن» بل افعل ما آمرك به والتبعة واقعة علي وحدي.»
ونهض «بلوسوف» مضطربا وقال: «إن واجبي يحتم علي أن أبلغ القسم السياسي.»
فقال مدير محطة الجرارات الآلية مؤيدا لموقفي: «لقد أخطأت أيها الرفيق «بلوسوف» إذا أمر الممثل الرسمي للجنة الإقليمية أمرا، إذن فهو يرمي إلى هدف يريده، وما علينا جميعا إلا الطاعة.»
ثم قلت أنا: «لست أمنعك من تبليغ من شئت، ذلك من حقك، لكنك إذا لم تنفذ ما آمرك به، كنت مسئولا عن هذا العصيان، أما أنت أيها الرفيق «كوبزار» فإنك لتقامر بمركزك في الحزب إذا لم تعمل على تنفيذ خطتي بغير إبطاء، هذا كل ما أريده منكم أيها الرفقاء.»
وبينا نحن خارجون واحدا في إثر واحد ، أحسست يدا تضغط على يدي ضغطة الشاكر وكانت تلك يد «شاداي»، ثم لحق بي «دمشنكو» وهمس في صوت أجش قائلا: «سأكون في عونك وإن كلفتني معونتك حياتي، أما وقد بدأت المغامرة، فما رأيك في مواصلة السير في طريقك بأن تفحص مخزن التعاون، تعال معي أقدمك إلى مديره ماكارنكو.»
كان المخزن قذرا مهملا، فلو استثنيت تماثيل نصفية لستالين وأكداس من صور مطبوعة لغيره من الزعماء، وجدت الرفوف خالية، وأما «ماكارنكو» فقد كان رجلا ضئيلا ذليلا ماكرا مسترضيا، فأنبأته في إيجاز عما قررته بشأن إطعام الأطفال في القرى، وطلبت منه المعونة. - «أنا أعلم أنك تخفي قدرا من مواد الغذاء، ولا مندوحة لك الآن عن إخراجها وتسليمها، حتى إذا ما تم لنا الحصاد سنرد لك الدين غلالا، ولن يصيب أحدا شيء من الأذى.»
صعق الرجل، وألفى نفسه موزعا بين أمرين: فهذه هي أوامر المركز الرئيسي من ناحية يقابلها خوفه أن يسيء إلي باعتباري ممثل الحزب. - «نعم أيها الرفيق، إن لدي شيئا من ملح وسكر نباتي، وحب مجروش وسمك مدخون وقليلا من صابون، فإذا تعهد رجال المزرعة تعهدا مكتوبا بأن يردوا هذه الأشياء غلة ودريسا وافقت على تسليمها، لكن قبل تسليمها لا بد أن أستأذن مكتب الإقليم وسأنبئك بالقرار غدا، وكذلك أحب أن أقدم لك شيئا من النصح، لماذا لا تطرق محطة الزبد؟» - «ماذا تعني؟»
فقال دمشنكو شارحا: «إنه يعني المكان الذي نسلم فيه كل ما لنا من لبن ليصنع هناك زبدا للتصدير.» - «للتصدير!» - «نعم أيها الرفيق كرافتشنكو، لإرساله إلى الخارج، إنهم يلفونه في ورق عليه كلمات من لغة أجنبية غريبة، نعم فموت الناس من الجوع شيء، وتبادل التجارة مع الخارج شيء آخر.»
كان مصنع الزبد يبعد عن القرية مسافة قصيرة، وكان مديره رجلا من رجال الحزب، وديعا، في نفسه غم دفين، فصحبني خلال المصنع ليريني أجزاءه، فرأيت الزبد في إحدى الغرف يقطع شرائح مستطيلة ويلف في ورق كتب عليه بالإنجليزية: «تصدير الزبد التابع للاتحاد السوفيتي الاشتراكي.»
قال المدير: «أنا أعلم أن الفلاحين يتضورون جوعا، وفكرة إرسال هذا الزبد ليطعم أجانب قد أحسن غذاؤهم تمزقني تمزيقا كأنها السكين الماضية، ولكن ماذا أصنع؟ أنا مأمور لأطيع، بل إني متأخر جدا في إنتاج ما يجب إنتاجه وفقا للخطة؛ ولذلك فعقابي آت لا ريب فيه، إن الفلاحين يسرقون اللبن لأنهم جياع، والأبقار لا تحلب لأنها لا تجد ما يكفيها من علف.»
فأجبته: «ومع ذلك كله فلا بد من معونتك لي، لا بد من تغذية الأطفال، ولست أشك في أن صناعة الزبد تترك من المخلفات ما يمكن أن نستفيد منه.» - «من اليسير عليك أن تقول ما أنت قائل، لكني - مثل ماكارنكو - لست مطالبا فقط بتحقيق ما تضعه الإدارة المركزية من خطط، بل لا بد لي إلى جانب ذلك من إطعام الموظفين في الإقليم، فكلهم - كوبزار وبلوسوف وأعوانهم الكثيرون - يأخذون مني الزبد واللبن.»
فقلت: «سينصرف اللبن المخيض كله منذ اليوم إلى مشروع الأطفال الجديد.» - «لا بأس بقرارك هذا من ناحيتي، لكني لا بد أن أتلقى موافقة على ذلك من رؤسائي.» قال مدير المصنع ذلك ثم سكت لحظة كأنما يستجمع كل ما في جعبته من شجاعة مدخرة، وقال: «لا، لن أستأذن في ذلك أحدا، مر رجالك أن يحضروا غدا ليحملوا المخيض، إنني كذلك والد لأطفال.»
ثارت في نفسي ثورة الغضب إذ أنا عائد بالعربة إلى القرية، إنهم يصدرون الزبد وسط هذه المجاعة! لقد صور لي الخيال كيف ينعم أهل لندن وبرلين وباريس بأكل الزبد الذي طبعت عليه العلامة التجارية السوفيتية، كما صور لي الخيال كذلك أنهم إذ يأكلون زبدنا لا بد قائلون: «إنهم في روسيا يتقلبون في النعيم ما دام في مستطاعهم أن يرسلوا هذا الزبد خارج بلادهم، ها هو ذا أيها الأصدقاء برهان الاشتراكية في صورة عملية.»
لم أسمع خلال عودتي بين الحقول أحدا يتغنى بأناشيد أوكرانيا الحبيبة إلى فؤادي، لقد نسي الناس كيف يكون الغناء، لم أسمع سوى أنات قوم يلفظون أرواحهم، وإلى جانبها في أذني رنات مصمصة الأجانب البدينين وهم يستمتعون بزبدنا.
لما بلغت المزرعة التي كنت أشرف عليها، وجدت الناس يحصدون الشوفان والشعير، كما وجدت أن بضع مئات من الأطفال قد جمعوا من القرى ووضعوا في الحدائق ليتم لهم الغسل والتنظيف، وقد عرف «إيفان بتروفتش» كيف يوحد العمل، وكان يعاونه نحو عشرين رجلا وامرأة، وكانت زوجة شاداي - وهي مضيفتي - مشغولة مع غيرها من النساء في تبييض المنازل، فأذاب حبي لهؤلاء الناس في بساطتهم ما كان يتأجج في رأسي من أفكار الغضب، لقد شهدت هؤلاء الناس تكرههم على العمل عذبات السياط وطلقات البنادق، وها أنا ذا أراهم مدفوعين في إيثارهم لأداء عمل مشترك لا يخالطه شيء من الوعيد.
ولما كنا على مائدة العشاء في ذلك المساء، جاء رجل من حظيرة الجياد ينبئ «شاداي» أن حصانا قد مات لتوه، فأمره «شاداي» أن يسلخه وأن يرمي الجثة بعد ذلك بعيدا عن القرية بمسافة طويلة، وأن يصب عليها غازا (كيروسين) ثم يغطيها بالجير المحترق، ثم اتجه لي شارحا أنه إن لم يفعل ذلك جعل القرويون الجياع من اللحم الموبوء طعاما لأنفسهم، وبعدئذ جاءنا المعلم والطبيبة وأنبآنا أن الأمور تجري على نحو طيب، فالشعير الجديد قد جفف في الأفران ليوزع على أبناء المزارعين في اليوم التالي فيأكلوا بذلك أول إفطار جيد يقدم لهم، كذلك ذبح عدد من الخنازير.
قال «إيفان بتروفتش»: «لقد علمنا بنبأ المخيض، لكن ذلك لا يكفي؛ لأن بعض الأطفال قد ساءت حالهم إلى حد بعيد، لا بد لنا من اللبن ذاته.»
فكرت لحظة، وكنت حينئذ قد بلغت حدا بعيدا في الخروج على القواعد وفي «التخريب» حتى إنه ليسهل أن أمضي في الطريق خطوة أبعد.
قلت: «يا شاداي، ها أنا ذا أفوض لك بصورة رسمية أمام هؤلاء الشهود ألا تعطي لبنا بعد الآن للموظفين الذين جروا على أخذه، وأن تحتفظ بثلث الإنتاج كله لإرساله إلى منزل الأطفال، وعليك أن تبلغ «دمشنكو» أن ينفذ هذا الأمر بعينه في مزرعته.»
ولما أويت إلى مخدعي في المساء أخذت أفكر في هذه الطبقة الجديدة الممتازة في القرية، أعني رجال الحزب ورجال السوفيت الذين كانوا يستولون على اللبن والزبد والمؤن من المخزن التعاوني في الوقت الذي كان الناس فيه من حولهم يموتون جوعا، إن هؤلاء الموظفين كانوا يتلقون الأوامر من المركز الرئيسي فيتقبلونها في طاعة العبيد غير آبهين للآلام التي كان يعانيها الشعب من حولهم، إنه لمما يحز في النفس أن ترى ما يؤدي إليه الامتياز من فساد الخلق، فهؤلاء الرجال الذين كانوا منذ أعوام قلائل من الفلاحين الفقراء، قد زالت عنهم بالفعل آخر علامة من علامات الشبه بينهم وبين جيرانهم، وأصبحوا طبقة ممتازة بعيدة عن الناس، يعيشون في زمرة وحدهم يتآخى أفرادها ويعين بعضها بعضا ويتحدون معا عصبة تناهض الشعب.
ذهبت في اليوم التالي لأشاهد الحاصدين والدارسين وآلات الذر، وكانت الأجزاء البديلة التي أرسلت في طلبها لإصلاح الآلات قد وصلت وأخذ الرجال يصلحونها، وبينما كان عضو من أعضاء اللجنة الإدارية للمزرعة يقص علي ما يصادفه من صعاب، جاء فلاح وأسر في أذنه شيئا.
فقال عضو الإدارة: «ارفع صوتك حتى يسمع قولك الممثل الرسمي.» - «إذن فاسمع قصتي أيها الرفيق المندوب من الهيئة الرسمية، مات حصان ليلة الأمس، فسلخ جلده ثم غمست الجثة في غاز (كيروسين) وغطيت بالجير المحترق، لكنهم حين ذهبوا صباح اليوم لدفنها لم يجدوا لها أثرا، فقد حمل الناس أثناء الليل هذا اللحم الفاسد الموبوء، يا إلهي! إلى أية حال وصل بنا الأمر أيها الرفيق؟!»
دنا يوم الحصاد، وشاع في القرية روح جديد، فالكثرة الغالبة من الأسر كان لكل منها في روضة الأطفال التي يشرف عليها «إيفان بتروفتش» طفل أو أكثر، ووزع شيء من الشعير على أعضاء المزرعة جميعا، وبعد أن انفض الاجتماع، بقيت لأتحدث إلى الناس، فأخرج أحدهم عودا، وعزف فلاح على زامرة، فعادت أناشيدنا الأوكرانية إلى سمعي من جديد، واطمأن إلى ذلك قلبي.
وجاءني شاب يحمل إلي رسالة لم يستطع أن يجري بها لسانه لكنه جاهد حتى أخرجها تمتمة. - «أيها الرفيق الممثل الرسمي! أنت مطلوب في مكتب السوفيت، شخص هناك يريد لقاءك، شخص من ... من ... الشرطة السياسية.»
فسكت عن الغناء أولئك الذين كانوا على مقربة منا بحيث يسمعون ما يقال، وقعت هذه الكلمات المخيفة وقع الصواعق، ودار الخبر بين الحضور أني مطلوب لمقابلة رجال الشرطة السياسية، فخيم عليهم سكون وتوقع الجميع كما علمت من رؤساء المزرعة؛ توقع الجميع في القرية أنني سألقى عقابي جزاء ما هيأت للناس من قوت.
فلما أن ذهبت إلى مكتب السوفيت، وجدت ضابط الشرطة السياسية الأنيق الذي كنت قد لقيته في القسم السياسي، وكان هناك كذلك «كوبزار» و«بلوسوف»، فوجهت الخطاب إلى «كوبزار» قائلا: «لماذا لم تحضر اجتماع اليوم وقد طلبت إليك الحضور؟»
فقال مجيبا في تمتمة وتجهم: «آسف فقد شغلتني شواغل أخرى.»
ثم قال ضابط الشرطة السياسية: «أريد أن أتحدث إليك على انفراد أيها الرفيق كرافتشنكو.»
قلت: «لا مانع من ذلك، فاصحبني إلى مكتبي في المزرعة.» وبينا نحن في طريقنا ثم بعد أن استوينا إلى مقعدنا في المكتب، دار بيننا حديث عام عن شئون القرية واحتمال أن يجيء المحصول جيدا وما إلى ذلك من أمور.
ثم قلت له آخر الأمر: «أيها الرفيق سكوبين، خير لنا أن نأخذ في الكلام عن الحقيقة العملية، ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «إذن فاعلم أن قد وصلنا كثير من الأنباء والتقريرات الرسمية عما صنعته هنا، وصفوة هذه الأنباء والتقريرات كلها هي أنك لا تقف عند حدود القانون، تتجاهل أوامر الحزب ولا تبالي بالسلطات المحلية.» - «ماذا تعني حين تقول «وصلنا»؟ هل تشير بذلك إلى رئيس القسم السياسي؟ أهو الذي طلب إليك الحضور ها هنا؟» - «هذا خارج عن الموضوع.» - «كلا بل هو أساس الموضوع كله، هل خول لك أولو الأمر أن تراجع فعلي؟» - «بل جئت ها هنا لأتحدث إليك حديث الصديق مع صديقه، وليس في الأمر مراجعة.» - «أيها الرفيق سكوبين، إنني أفعل ما أراه حقا، ولست بمستطيع أن أناقش معك ما يبرر فعلي، هنالك شخص واحد في مستطاعه أن يوجه إلي السؤال، وذلك هو رئيس القسم السياسي، أنا هنا الممثل الرسمي للجنة الإقليمية وأنا مسئول أمام تلك اللجنة وحدها عما أصنع، وواجب السلطات المحلية أن تعينني، ولكن رجالها بدل أن يساعدوا تراهم لا يصنعون شيئا سوى أن يملئوا بطونهم بالطعام الجيد، في الوقت الذي يموت الناس فيه جوعا، وعندي قوائم أثبت فيها ما أخذه كل موظف من المزرعة ومن مخزن القرية لاستعماله الخاص، أنا أعلم علم اليقين من هؤلاء الذين يستنكرون صنيعي، ولكني أعلم كذلك ما هم غارقون فيه من شراب ومجون، لقد علمت عن ذلك شيئا كثيرا.» - «صدقني أيها الرفيق «كرافتشنكو» أنني هنا بمحض مشيئتي، وأن الرئيس لا يعلم عن هذه الزيارة شيئا، فقد رأيت أن أحدثك حديثا قصيرا قبل أن أقدم الوثائق للرئيس، فقد بلغني أنك أخذت مقدارا من مصنع الزبد ومن المخازن التعاونية، وأنك تتصرف في إنتاج اللبن التابع للدولة، فتجريه في غير ما أريد له من مسالك، وأنك تحصد الغلة قبل أوان حصدها، وهذه كلها أمور خطيرة.» - «إذا شئت فارفع تقريرك إلى القسم السياسي، وقل لهم: إنني مصر على فعلي، وسأذهب هناك غدا لأقرر أمري بنفسي، وبعد، فهل تريد أن تجول في القرية جولة أيها الرفيق سكوبين؟» - «لا، لا يتسع وقتي لذلك، مع السلامة - إذن - ولست في هذا إلا مؤديا واجبي كما أراه.» - «مع السلامة أيها الرفيق، وسأراك غدا.»
وذهبت في اليوم التالي فقابلت الرفيق «سومانوف».
قال لي: «كنت على أتم صواب حين رفضت الحديث مع «سكوبين» دون استئذاني بذلك، إن هؤلاء الكسالى في قراك ليستنكرون ما تصنع فيما يكتبون؛ ليكون ذلك بمثابة التأمين لأنفسهم إذا ارتبكت معك الأمور، أنا أعلم أنك بذلت مجهودا، وأعلم ما أقدمت عليه من مخاطر، وسأحمل معك تبعة ما صنعت، فإذا ما أجرينا الحصاد وأسلمنا المحصول للدولة في الوقت المحدد، ذهبت كل معالم الخطر، وإلا فقد طاح رأسانا معا.» - «أيها الرفيق سومانوف، لقد صارحتك بكل شيء، فلم أخف عنك شيئا مما صنعت، لكني أريد أن أحمل عبء التبعة وحدي، وهاك الرسالة التي بعثت بها إلي وفوضت لي فيها - وإن يكن تفويضا في عبارة غير قاطعة - أن أصنع ما أشاء، ها أنا ذا أردها إليك.»
أخذها ووضعها في جيبه ثم صاح رفيقي «سكوبين»! وعندئذ دخل الضابط. - «هات لي من فضلك ملف الأوراق والإقرارات الخاصة بالرفيق كرافتشنكو.»
وأحضر «سكوبين» ملفا ضخما، أعطانيه «سومانوف» بدوره، وغادر المكان، ولبث خارج الغرفة حتى فرغت من قراءته، وقد كتبت مذكرة بأسماء المخبرين التابعين للقسم السياسي الذين قرروا في غير صالحي، وأسماء الموظفين الذين استنكروا فعلي، ووعد «سومانوف» بعدئذ أن يبيد الملف، ووضعه في خزانته حتى يحين يوم إبادته. - «سأزورك في لوجينا غدا، فاجمع الموظفين هناك، وسأرينهم الجحيم الذي يستحقون.»
ولما عدت إلى القرية راجعت أسماء المخبرين على القائمة الرسمية بأسماء سكان المكان، فوجدت أنهم موزعون في أنحاء الإقليم توزيعا فيه شيء من العناية، فواحد في دكان التعاون، وآخر في مصنع الزبد، وثالث في إدارة المزرعة، ورابع يشتغل سائقا في محطة الجرارات الآلية، وهكذا كان للشرطة السياسية عيونها وآذانها أعدت بحيث يصبح كل شيء منها على مرأى ومسمع، وإذن فقد كان خلف أصحاب الأمر الاسميين ومديري الاقتصاد الصوريين شبكة من الجواسيس، بعضهم ينتمي إلى الشرطة السياسية، وبعضهم الآخر ينتمي إلى الحزب، فكل لا يدري شيئا عمن عداه، وهكذا وجدت أن وراء الحكومة الظاهرة حكومة أخرى بمعنى الكلمة الدقيق.
وفي ساعة متأخرة من ذلك النهار، صادفت «إيفان بتروفتش» في بعض الطريق، فكان يتهلل بكثير من البشر الذي أثاره في نفسه ما يؤديه من عمل.
قال لي إذ نحن سائران معا: «ما أجمل أن ترى الأطفال في طريقهم إلى العافية! ما أجمل أن ترى طفولتهم تعود إليهم من جديد! إننا نعلم جميعا ما أنت مجازف بنفسك فيه من خطر، ولئن أردت صراحة، فاعلم أن القرية كلها يساورها القلق لهذه الدعوة التي جاءتك من ضابط الشرطة السياسية.»
فابتسمت قائلا: «لا يساورنكم قلق فالآلهة ترعاني، أو هي قد رعتني حتى الآن في أقل تقدير، لكني مغتبط أن أرى الفلاحين على دراية بالموقف، وها قد آن لهم أن يردوا لي صنيعي جميلا بجميل، فيحسنوا إلى أنفسهم إذ يحسنون إلي؛ ذلك أن الحصاد قد دنا موعده، وأريد منكم أن تذيعوا في الناس أنني لا أريد منهم شكورا، إنما أريد العمل، أريد العمل النشيط، أريد العمل موصولا في الليل والنهار، إذ قد يكون من الناس من يركن إلى التراخي.
بلغ الناس هذا: يا أعضاء المزرعة الجماعية هل تريدون أن تبقوا للرفيق كرافتشنكو على حياته؟ إذن فاجمعوا الغلة وادرسوها وقدموها وفقا للخطة المرسومة، إنني لا أحسن الشفاعة أرجوها لنفسي، ولكنكم أنتم تحسنون.» - «كن على يقين أني فاعل لك ما تريد، فلك في هذا البلد أعوان، صدقني فيما أنبئك به، إن من يتراخى في أداء واجبه خير له أن يصلى نار الجحيم، فلن نخلي بين أحد منا وبين التراخي.»
ولما ذهبت إلى مكتب السوفيت في اليوم التالي، كان «سومانوف» قد وصل، فقد سمعت جلجلة صوته من بعيد، وكان موظفو الإقليم جميعا وبينهم مدير المخزن حاضرين.
قال رئيس القسم السياسي وكأنما يضع للسامعين قاعدة هي القانون: «إن الرفيق كرافتشنكو ها هنا هو صاحب الأمر، والقانون هو ما يصدره لكم من أوامر، إن الزمن ليمضي سراعا، وليس لدينا مدخر من الجهد ننفقه في الإنصات إلى لغوكم، فهيا إلى العمل وعاونوه، اذهبوا إلى الحقول بأنفسكم، فإن في ذلك خيرا لأبدانكم، وها هو ذا الممثل الرسمي قد أتانا بشخصه!»
حياني تحية المشتاق كأنما قد غبت عنه السنين، وقد أراد بهذه المظاهرة الودية أن يؤثر في أعدائي، وغادرنا معا مكان الاجتماع، وذهبنا إلى مقر إدارة المزرعة الجماعية.
قال: «فكتور أندريفتش، إني سليل أسرة مزارعة، وما يعانيه أهلي يحز فؤادي، ليس هناك إلا الدموع والدماء والموت والنفي، ولماذا؟ إن الأرض خصبة والقوم جادون، فلماذا نراهم يتضورون جوعا ويموتون ويردون موارد الهلاك ثم نغضي؟ إنني كلما ازددت في الأمر تفكيرا ازددت حيرة، سأرسل لك بعد يوم أو يومين مزيدا من الدقيق ومزيدا من أجزاء الآلات الدارسة.
لكن ليس ذلك ما أردت في حقيقة الأمر أن أنبئك به، إنما أردت أن أعبر لك عن عظيم تقديري لما صنعت، وخاصة ما صنعته للأطفال.» قال ذلك ثم وقف في الطريق بغتة وعاد يقول: «فيكتور أندريفتش، كلانا شيوعي، لكننا كذلك إنسانان من البشر، سأدفع عنك الأذى كما أدفع الأذى عن شخصي.»
ومضى بعد ذلك يومان فكان كل شيء على أتم إعداد، وما أن لمعت تباشير الصبح حتى جست بالعربة خلال الحقول، فوجدت أعضاء المزرعة رجالا ونساء، قد سبقوني إليها، يجمعون أعواد الغلال ويحزمونها، وبعد قليل جاءنا موظفو الإقليم يعرضون ما في وسعهم من معونة، فقد فعلت الخطبة - فيما يظهر - فعلها في نفوسهم، ساد الجميع شعور الجد والنشاط، وكما يعرف سائق السيارة أن سيارته ستحسن السير حين يسمع لآلاتها دمدمة يعرفها، فكذلك أنا في ذلك الصباح، استطعت أن أحكم بالبداية التي رأيتها أن كل شيء على ما يرام.
كانت المئونة من زاد وماء قد أرسلت على عربات إلى الحقول في الليلة السابقة، وأقيمت للأطفال الخيام، فهؤلاء الفلاحون يؤثرون لأنفسهم أن يقيموا في الخلاء بعيدا عن دورهم حتى يتم الحصاد، وها هم أولاء يعملون الآن ما اعتادوا في الأيام السوالف أن يفعلوه، وأذنت لهم أن يذبحوا ثورا وعددا من الخنازير، وعلى الرغم من أن بين هؤلاء المئات من الرجال والنساء الذين لم يجدوا في هذا الطعام ما يشبع بطونهم، وعلى الرغم من أنه لم يكن بين هؤلاء المئات إلا عدد قليل لم يدب في أجسادهم الضعف أو لم يهدهم المرض بالفعل، فقد أخذ الجميع في غناء ومزاح وعمل منذ شروق الشمس حتى غروبها.
وهمس «إيفان بتروفتش» في أذني قائلا: «كن مطمئنا، فكلهم راغب في إنقاذك من الموت.» فضحكت وضحك.
ولما جاء اليوم التالي أنفقت النهار في المزرعة الجماعية التي يشرف عليها «دمشنكو»، فوجدت أن الحصاد قد بدأ هناك كذلك بدءا طيبا، وأن الروح السائدة ليس بعدها زيادة لمستزيد، ولم تمض أيام قليلة، وكان جمع المحصول لم يزل قائما، حتى بدأت جماعات جديدة في درس الغلال، وأخذ الحب يندفق اندفاقا في عربات مملوءة نحو الآلات الروافع.
وحدث ذات يوم - إذ كان الحصاد في ذروته - أن ركبت إلى مزرعة «دمشنكو» فوقع بصري على إحدى آلات الحصاد وقد وقف دولابها وتعطلت، عندئذ أسرعت نحوها لأستفسر عن السبب في تعطلها، فإذا أنا أعلم أن عاملها قد سقط في غيبوبة من شدة الإجهاد، وأحاط به عدد كبير من النساء يحاولن رد شعوره إليه، فأمرتهن أن يحملنه إلى القرية، وأخذت مكانه بنفسي من الآلة الحاصدة، وكان قد طال بي العهد منذ آخر مرة عملت فيها على مثل تلك الآلة، فأشاع العمل في نفسي لذة، وأسعدني أن أواصله ساعة بعد ساعة.
ولما دنا شفق الغروب، أخذ العمل عني عامل آخر، وعندئذ كشفت عن خسارة فادحة ألمت بي، وتلك أني فقدت محفظة نقودي، فلم يحرك من نفسي شيئا أني فقدت كل ما كنت أملك من مال، إنما الذي اضطربت له هو أن وثيقة انتدابي قد ضاعت كذلك، وضاعت معها تذكرة الحزب، وبحثنا في الحقول ذلك المساء وفي اليوم الذي تلا، لكننا لم نجد للمحفظة الضائعة أثرا، فأبلغت القسم السياسي واللجنة الإقليمية، وتوقعت أن يكون لهذا الحادث أسوأ الأثر في حياتي مدى أعوام طوال.
ثم تبع هذا الغم غم آخر، وهو أني تلقيت من القسم السياسي هذا الأمر: «بناء على تعليمات اللجنة المركزية التنفيذية، عليك أن تعد كنيسة القرية مخزنا لغلة الحكومة، وينبغي أن يتم هذا الإعداد في ثمان وأربعين ساعة، حتى إذا ما أتممت هذه المهمة أبلغت بذلك.»
اضطربت لهذا الأمر يصدر إلي، إذ لم يساورني شيء من الشك فيما يقابل به الفلاحون مثل هذا الفعل من شعور، إنه فعل سخيف كأنما دبر ليكون حجر عثرة يقف عندها دولاب العمل في حصاد هو للبلاد بمثابة الحياة، لكن «كوبزار» و«بلوسوف» وغيرهما أثلجت صدورهم بمثل هذا؛ لأنهم أخذوا رويدا رويدا وفي تدرج غير محسوس، ينقلبون للناس في ذلك الإقليم أعداء لا لشيء سوى أنهم يستمتعون بالعمل الذي يمقته الناس في سائر القرى، هم أعداء الناس لهذا السبب وحده (أعني لأنهم يؤدون واجبهم في اغتباط)، وجردت الكنيسة من تعاليقها ومصابيحها وتحفها، جردها بعض الشيوعيين الشبان.
وسرى النبأ في الحقول سريان النار في الهشيم، فما أن سمعه الناس حتى رأيت عشرات من الفلاحين يقذفون بأدواتهم ويهرعون إلى القرية مسرعين، يستنزلون اللعنة تارة ويستعطفون ويبكون طورا عندما شهدوا ما نزل من نفوسهم منازل التقديس يزول من مواضعه، إن قدسية هذه الأشياء في نفوسهم لم تكن إلا جزءا مما أنزل في قلوبهم الأذى، إنما آذاهم حقا ما أحسوه في الأمر من إهانة صريحة لكرامتهم الإنسانية.
وسمعت فلاحا كهلا يقول: «لقد أخذوا منا كل شيء ولم يتركوا لنا شيئا، وها هم أولاء يزيلون عنا آخر ما بقي لنا مما يبعث الطمأنينة في نفوسنا، فأين عسانا بعد اليوم منصرون أبناءنا ودافنون موتانا؟ أين عسانا بعد اليوم متجهون بأبصارنا إلى شيء من العزاء فيما نحن فيه من ألوان الأسى؟ لعنة الله عليهم من مجرمين! لعنة الله عليهم من كافرين!»
لم يكن لي إزاء هذا حول ولا قوة، ولقد تذرعت وتذرع «إيفان بتروفتش» بكل ما لدينا من جهد وبلاغة لكي نعيد للعمل اطراده، وفي اللحظة التي ظننا أن قد كلل مجهودنا بالنجاح وقعت حادثة جديدة فقلبت لنا كل شيء رأسا على عقب من جديد، وقعت هذه الحادثة يوم الأحد التالي، وهي أن أمين الهيئة الشيوعية للشبان - وهو شاب بليد الحس شائه الوجه يدعى «شز» - ظهر فجأة في الطريق، وكان يعزف على العود وإلى جانبه صديقته، وكان يغني أناشيد تهزأ عباراتها بالدين، وكان ذلك في ذاته منظرا مألوفا، ولكن الذي أثار الثائرة هو ما كان على هذين الصديقين من رداء، فقد لبس هذا الشاب وصديقته قميصين من الحرير الأحمر الناصع، يمسكهما عند الخاصرة خيوط مذهبة وأفواف من حرير، ولم تكن هذه إلا تعاليق الكنيسة المنزوعة، رآها الفلاحون فعرفوها من فورهم، وثارت في نفوسهم نار الغضب التي سرعان ما انقلبت إلى روح اعتداء عنيف على الشاب وصديقته، ولم ينقذهما من الموت إلا أنهما كانا أسرع عدوا ممن تعقبوهما من الفلاحين الكهول، فأويا إلى الدكان التعاوني، وبذلك سلما من أيدي الشعب الثائر.
ولما جاءني نبأ هذه الحادثة أرسلت إلى «شز » أدعوه للحضور.
وصحت في وجهه: «لماذا سرقت تعاليق الكنيسة؟» - «لست لها بالسارق، إنما أخذتها علنا، وقد فعل مثل فعلي كثير سواي من الرفقاء.» - «إذن فلا بد لك ولسائر هؤلاء الرفقاء أن تردوا كل شيء إلى مكانه، هل تسمع ما آمرك به؟ وإن لم تفعلوا بعثت بكم إلى الشرطة مصحوبين بكل مجرم يناصركم، وشيء آخر، ما دمت ها هنا فلن أسمح بأغنية تهزأ بالعقيدة الدينية تنشد في الطريق العام، هذا مني أمر واجب الطاعة.»
ومضت أيام قلائل بعد ذلك، وذبح الفلاحون ثورا كبيرا، وملحوا لحمه وحفظوه في برادة ليكون طعاما في أيام تالية، فلما أقبل المساء جاءني «شاداي» ينبئني أن جزءا من اللحم قد سرقه سارق، فدعوت كاراس إلى الحضور من محطة الجرارات الآلية، وقبل أن يعاونني في الأمر، فانتظرنا جميعا حتى انتصف الليل أو كاد، وعندئذ حمل «شاداي» و«كاراس» بندقيتين من بنادق الصيد وحملت أنا مسدسا، وكان لكل منا شيء من الحدس النافذ عمن عسى أن يكون السارقون، واعتزمنا أن نتابع البحث في غير إبطاء.
قلت: «لنقف في عرض الطريق فنصطحب «كوبزار» كاتم السر، فلا بد له أن يكون عالما بما يقع في منطقته.»
كانت داره معتمة، وطرق الباب «شاداي» فلما لم نسمع جوابا دفعه بيده، وهنا فوجئنا بأصوات، فدخلت الدار وأضأت مصباحا يدويا معي، فصاحت امرأة، وأدرت ضوء المصباح نحوها، فرأيت شابة عارية من رأسها إلى قدمها، رأيتها تحاول أن تستر وجهها برداء، وأخذت تصيح فزعة، ثم خرجت على هذا النحو مسرعة من الدار حيث يسترها ظلام الليل.
أضأت مصباحا كان على المنضدة، فرأيت زجاجة من شراب الفودكا وإلى جانبها رأيت كأسين وقطعة كبيرة من الشواء، وكان «كوبزار» جالسا على السرير وقد أوشك جسمه أن يكون عاريا عما يستره، منفوش الشعر مأخوذا، ورأيت في إناء خشبي على أحد المقاعد قلب ثور كبير.
سألته: «أنى لك هذا اللحم؟»
قال: «اشتريته ... من الدكان التعاوني ... ولك أن تحقق صدق ما أقول.» - «سأفعل بلا تردد، هيا معي يا رفيقي، ولنتركه حتى يفرغ من طعامه، بما فيه من قلب الثور الذي أرى.»
سار «شاداي» أمامنا وتبعناه في طريقنا إلى أعلى التل حيث دار في أطراف القرية وكانت تلك الدار - فيما روى الناس - مقر «العربة» التي كان يتحدث بها الفلاحون حديث الممرور، ومشينا في حذر وصمت حتى دنونا من الدار، ونظرت خلال كسر في شيش النافذة إلى غرفة كبيرة، فرأيت منضدة قد أثقلتها حمولة من الزجاجات واللحم وألوان الخضر، كما رأيت رجالا ونساء تلاقوا كما يتلاقى العاشقون، ثلاثة رجال هم: مدير الدكان التعاوني ووكيله والطحان، وثلاثة نساء على درجات متفاوتة من العري.
وقف «كاراس» عند الباب الأمامي، ووقف «شاداي» عند الباب الخلفي، ونقرت أنا على النافذة.
فصاح صائح في فزع: «من الطارق؟» - «أنا ممثل الحكومة الرسمي، افتح توا وإلا رميتك بالرصاص.»
وفتح الباب فإذا مجمع اللهو قد انقلب مشهدا للاضطراب والجزع، وأخذ النساء في البكاء، فقالت إحداهن: «إنما جئت إلى هنا مدفوعة بالجوع.» وقالت أخرى باكية: «لقد دفعوني إلى الحضور دفعا.» فأمرت النساء أن يرتدين ثيابهن ويغادرن المكان، ثم طلبت إلى رفيقي أن يفتشا الدار، فوجدا مقدارا من اللحم وكثيرا من الزبد والجريش والعسل، كما وجدا عددا كبيرا من أكياس الدقيق.
صحت صيحة غاضبة: «بينا يموت جيرانكم جوعا، تسرقون من أفواههم الطعام أيها القعدة؟ ثم تسمون أنفسكم شيوعيين! احملوا هذه المؤن على ظهوركم وسيروا بها الآن إلى دار السوفيت!»
سرت خلف الرجال الثلاثة حتى بلغنا دار السوفيت في القرية، ولما أصبح الصباح جاء فريق من الجند وساقوا اللصوص الثلاثة إلى المحاكمة في عاصمة الإقليم «بيانيخانكي»، ولما شاع النبأ في القرية سخط له الفلاحون.
قال لي كثير منهم: «ما كان ينبغي لك إرسالهم للمحاكمة، فنحن أعلم من المحكمة بما يجب أن يلاقوه.»
ولما بدأنا تسليم محصول الغلال إلى مخازنه القريبة من محطة السكة الحديدية، كشفت عن حقيقة وقعت فظاعتها من نفسي وقوع الصواعق؛ ذلك أني وجدت في تلك المخازن مقدارا هائلا من غلة العام السابق! كانت هذه الغلة المخزونة ما أمرت به الدولة من احتياطي يحفظ لهذا الإقليم، فانظر إلى هذا المقدار من الغلال يأمر الموظفون الرسميون بإخفائه عن أعين القوم وهم يموتون من الجوع! لقد مات مئات من الرجال والنساء والأطفال في هذه القرى، ماتوا من قلة الغذاء، في الوقت الذي خزنت فيه الغلال قاب قوسين من دورهم أو أدنى!
وحين كشفت عن «احتياطي الدولة» من الغلال، كان معي طائفة من الفلاحين، فحدقوا الأبصار لا يكادون يصدقون ما هم مبصرون، ثم أخذوا يسبون في ثورة من غضب، وبالطبع لم ألمهم على سبابهم ذاك، لكني استحلفتهم ألا يذيعوا النبأ في الناس حتى لا تتحطم فيهم القوة المعنوية فتتأثر بذلك حركة الحصاد، وقد علمت فيما بعد أن هذا الأمر بنفسه وقع في كثير من أنحاء البلاد، فتخزن الحكومة الغلة احتياطا، وبموت الناس من جوع، فيم هذا الفعل؟ إن الجواب عند حاشية ستالين السياسية وحدها وهي لا تجيب.
تم الحصاد فخرجت أشق الحقول ذات يوم رخي في عربة صغيرة، وكانت الشمس قد مالت للغروب، فسمعت على مبعدة أنشودة الحصاد يغنيها رجال ونساء اختلطت أصواتهم في امتزاج جميل، فها هم أولاء يرسلون أصواتهم بالغناء مرة أخرى بعد كل ما شهدوه من موت وشقاء، الله لهؤلاء الناس من أهل التربة الأوكرانية في بساطتهم المباركة وطيبتهم التي ليس لها حدود!
وما هو إلا أن رأيت المنشدين يسيرون نحوي موكبا وعلى رأسه المعلم «إيفان بتروفتش»، فما كان أوقعه في القلب من منظر: الرجال في أبهى حللهم والنساء في أرديتهن المطرزة التي يلبسنها في مواسم العطلة، وعلى رءوسهن أكاليل من ورود الحقول، وفي وجوههن علائم الفرح الذي لا تشوبه شائبة، فأوقفت الجواد وترجلت، ودنا موكب الناس مني ثم وقف، وقد كان قوامه ما يقرب من مائتي فلاح وفلاحة.
قال المعلم في صوت يسمعه الحضور جميعا: «فيكتور أندريفتش، لقد وفينا ما وعدنا، فالحصاد في مخازنه قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، وقد رأيت بعينيك كيف كان منا العمل، وإنك لتعلم أن كثرتنا الغالبة كانت جائعة ضعيفة من شتاء فربيع كلاهما فظيع، وإن ذلك منا البطولة بعينها.»
فأجبته قائلا: «أشكرك يا إيفان بتروفتش، وأشكركم جميعا يا رفاق.»
وانفرط الموكب وعزفت الزامرات ورقص الشباب، وجاء «شاداي» و«دمشنكو» فوقفا إلى جواري، لقد مات ما يقرب من نصف سكان الإقليم في العام المنقضي منذ الحصاد الماضي، ماتوا من الجوع ومن الأمراض التي تتفشى بسبب الجوع، وها هم أولاء أحياؤهم قد جددوا للحياة مجراها، ولئن كانت الدولة تستولي على معظم الغلة الجديدة، فجودة الحصاد ستجعل مما يبقى مئونة تقرب مما يكفي لحفظ أود الحياة عاما جديدة.
وأدب الناس مأدبة في فضاء الحقول التي كان يشرف عليها «دمشنكو»، فلما وجه إلي الدعوة لزيارتهم لم يسعني إلا القبول، على الرغم مما كان ينتظرني من واجب تحرير خطابات لا بد من تحريرها في غير إبطاء، وهناك التف مئات من الفلاحين حول الموائد، وأضاء المكان قناديل ومشاعل، وبعد ساعات قضيناها في الترحيب وتبادل التهنئة وإلقاء الخطب، انتهت حفلة العشاء إلى عزف ورقص، فها هنا أيضا تبدى الرجاء في عودة الحياة إلى مجراها من جديد.
وفي مساء ذلك اليوم كتبت في غرفتي تقريرا ختاميا رفعته إلى القسم السياسي، منبئا بتمام مهمتي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، كما أنبأت كذلك بأني ألقيت القبض على اللصوص وأوصيت بطرد «كوبزار» و«شز» وكثير غيرهما من الموظفين.
وحدث بعد ذلك بأيام قلائل أني كنت أفتش حقلا، فسمعت فجأة صوت سيارة، ونظرت فإذا أمامي سرب من سيارات كبيرة أنيقة جاءت منسابة على طول الطريق، فلم أشك في أنها جاءت تحمل طائفة من أهم الزائرين، واستحثثت جوادي وعدوت صوب السيارات فوقفت ونزل منها ستة رجال، ودنا مني أحدهم، فعرفت فيه الرفيق «هاتايفتش» فنزلت عن جوادي وسرت إليه.
تصافحنا، ثم قال لي في لهجة الجاد: «أيها الرفيق كرافتشنكو، متى فرغت من الحصاد؟» - «فرغت منه منذ ثلاثة أيام، أي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام.» - «هكذا سمعت، كما سمعت أشياء أخرى، فمثلا، من ذا أذن لك أن تقطع الشوفان والشعير وأن تتصرف في ملك الحكومة من إنتاج اللبن؟ لماذا حرمت أن يعمل الناس ما ينافي العقيدة الدينية؟ أأنت عضو نظامي في الحزب أم أنت ضرب من ضروب الدعوة إلى الفوضى؟»
فأجبت في هدوء: «أيها الرفيق «هاتايفتش»، لم يسعني سوى أن أصنع ما صنعت، كان الأطفال يلفظون الروح وكانت الجياد في طريقها إلى الهلاك، ولم يكن لدى مزارعي الحقول الجماعية من القوة ما يستطيعون به حصادا، وها هي ذي الدولة قد تسلمت غلتها وافية وقبل الموعد المضروب، نعم، قد كلفني ذلك مقدارا من غلال، لكني بمثابة من استثمر هذا المقدار من الغلال ليحصل أضعاف أضعافه، فإن كان ذلك جرما فأنا على استعداد أن أحمل تبعته.»
فأمسك «هاتايفتش» بذراعي، وضغطها ضغطة فيها دليل الرضى على عكس ما دلت عليه ألفاظه الغلاظ، فلا بد أنه كان يبدي شيئا ويخفي آخر، تظاهرا أمام الذين صحبوه حتى لا تسود صحيفته، ثم سار في خطو بطيء حتى بعد عن مسامع أصحابه وحارسيه: «لقد أنبئت أنك صائر إلى أعمال الهندسة، وأنك من خيرة رجال الحزب، ولكني أشك في أنك قد أسأت فهم ما كان يجري من أمور، فبين الفلاحين ونظام الدولة حرب شعواء، إنها حرب حتى الفناء، وقد كان هذا العام امتحانا لقوتنا وقدرتهم على الاحتمال، ولم نتخاذل أمام المجاعة حتى ندلهم من يكون في البلاد سيدا، نعم دفعنا لذلك ثمنا ملايين النفوس التي أزهقها الجوع، لكن نظام المزرعة الجماعية باق، وبهذا خرجنا من القتال ظافرين.
أغلب ظني، أي رفيقي كرافتشنكو، أن قلبك أقوى من عقلك، فلو لان الجميع كما لنت لجاز ألا نظفر بالنصر في هذا القتال، ولا تحسبن أني بذلك أنحو عليك بلائمة، كلا بل إني لأعتقد أنك أديت مهمة تستدعي كل إعجاب، فلا بأس من أن أسر في أذنك أن قلبي - كقلبك - يقطر دما من أجل الفلاحين المساكين، لكني مع ذلك أحب أن تذكر أني وجهت إليك النقد، فإن سألك سائل فلا تنس أني حاولت أن أؤدبك بحيث تنطوي تحت طاعة القانون.»
فيظهر أنه حتى «هاتايفتش» الجبار يخشى على صحيفته في الدولة أن تسوء، كما يخشى من حركة «التطهير» القادمة.
وإن هي إلا دقائق معدودات بعد ذلك حتى أحاط به معاونوه وحارسوه المدججون بسلاحهم، وتحركت السيارات صوب القرية المجاورة فأثارت في الفضاء غماما من تراب، وركبت جوادي وعدت إلى دارى أتساءل: من ذا يا ترى قد وشى بي إلى «هاتايفتش»؟ لقد كنت على يقين أن «سومانوف» لم يكن هو الذي اقترف هذا الجرم مجاوزا به ما بيننا من عرى الود، فلا بد أنه «سكوبين» الذي كان في الظاهر خاضعا لأوامر «سومانوف»، أما حقيقة الواقع فهي أنه مسئول أمام الشرطة السياسية رأسا، وهي صاحبة السلطان الحقيقي في بلادنا، ولا شك كذلك أن «سكوبين» حين وشى، لم يكتف بالوشاية إلى واحد، بل أرسل عدة صور إلى أشخاص آخرين، وسيعلن المستقبل عن صدق هذا الرأي فيه، حين يحين يومي في حركة «التطهير».
تأهبت للرحيل، وكانت فورة النفوس التي نتجت عن توفيقنا في الحصاد قد هدأت، بل أخذ الفلاحون في إعلان تذمرهم من قلة نصيبهم من المحصول؛ ذلك أنه لم يبق إلا النزر القليل بعد أن دفع للدولة مقدار لقاء استخدام الآلات، ومقدار يسد النقص في الاحتياط المخزون، وبعد أن تسلمت الحكومة حقها كاملا من المحصول، فكانت نسبة ما بقي للمزارعين هي أربعة أرطال ونصف الرطل، أو يزيد قليلا، عن كل يوم في العمل لكل شخص، وهو مقدار يروعك بضآلته، أين هو مما يكفي لإطعام أسرة كاملة بله أن يمكن أصحابه من شراء الثياب وسائر ضرورات الحياة مدى عام كامل.
نعم، إنهم كانوا يأخذون بالإضافة إلى ذلك شيئا من أنواع الحبوب الأخرى ومقدارا من الخضر، ولكن ماذا كان في مستطاعهم أن يشتروه بما يحصلونه من كدح عملهم؟ إن أرخص حذاء يلبسه ريفي في ذلك الوقت كان ثمنه ثمانين روبلا، وأبسط رداء قطني كان ثمنه مائة، فبالأثمان الرسمية التي كانت الدولة تشتري بها الغلال، لم يكن الفلاح ليستطيع أن يشتري بأجوره مدى عام كامل أكثر من حذاء ورداء واحد! ولما كان النظام الحكومي نفسه هو الذي يشرف على شراء الغلال وبيع الحذاء سواء بسواء، ولما كان ذلك النظام يقتضي أن تحدد الأثمان في كلتا الحالين بما يلائم مصالح الحكومة، فقد كان ذلك النظام في حقيقة أمره استغلالا ذا حدين، وإلى جانبه رجال الشرطة السياسية والمستبدون من أعضاء الحزب يفرضون أنظمة اقتصادية لا تعرف شيئا من الرحمة الإنسانية.
كان بعض الفلاحين أميا لا يعرف القراءة، لكنهم جميعا، من يقرأ منهم ومن لا يقرأ، كانوا يفهمون الظلم بأوفى معانيه، ولطالما قالوا في نغمة الساخر: «اشتراكية، خير لك أن تسميها سرقة ونهبا، فتلك تسمية أدل على المراد.»
قابلت «يوري» خلال تلك الأشهر مرات عدة، وحدث ذات مرة أني تدخلت لصالحه في القسم السياسي فمنعت عنه عقابا، ولقد أيأسه ما صادفه من مر التجربة، وأحزنه أن يرى حركة الحصاد في مزرعته متأخرة عنها في مزرعتي بمسافة طويلة من الزمن، على أن علاقة الود بيننا كانت تقرب بين قلبينا، فكيف يسبق إلى ظني أنه سيصبح بعد أعوام واحدا من جماعة توجه إلي التهم حين كنت في موقف سياسي لا أحسد عليه؟ لست أشك في أنه صنع ما صنع مدفوعا بإرغام لم يكن له قبل برده.
ولما آن رحيلي أوشك أهل القرية جميعا أن يخرجوا لتوديعي، وقد سالت العبرات على وجه «إيفان بتروفتش» ذلك الكهل الرفيق، واستوعدني «شاداي» وأسرته أن أراسلهم، وأخيرا فرقع الحوذي بسوطه لجياده، فلوحت للمودعين مودعا.
الفصل العاشر
أول ما رأيت من حركة التطهير
لم يكن يسيرا علي أن أوائم بين نفسي وبين مجرى الحياة المألوفة بعد عودتي من أقاليم المجاعة، فالفصول الدراسية في المعهد، والمؤتمرات التي تعقد في المصنع، والاجتماعات المركزية بل ومكرورات الحياة اليومية في المنزل، كل هذه بدت لعيني تافهة بالقياس إلى ما عدت به من ذكريات، لقد كنت ثائرا قلقا، وحاول أبي أن يسترويني قصة كاملة عما شهدته، لكنه حاول عبثا فأمسك، وسرعان ما تنمو عند الشيوعيين مناعة تحول بينهم وبين التأثر بما تردده الصحف والمذياع والاجتماعات من ألوان اللجاجة الجوفاء، أما أنا فقد عدت من ثورة النفس بحيث كانت هذه الأشياء تحرك في صدري شجنا أوشك أن تكون له لذعة الألم ينزل بالبدن.
وإذ أعود الآن بالذاكرة إلى ذلك العهد، أراني أميل إلى العقيدة بأني إذ ذاك كنت قد بدأت في طوية نفسي وثنايا ضميري، أن أعتزل الحزب، فالمفازع التي شهدتها في الريف تركت في نفسي جروحا هيهات أن تندمل، ومع ذلك، فلهذا السبب عينه أخذ عقلي الواعي يتلمس تلمس اليائس طريقا يهادن به ضميري، وما أحسب أن قد كان أمامي طريق آخر، في ظروف تحتم عليك إذا أردت أن تعيش، أن تذعن للأمر الواقع الذي لم يكن منه مهرب لهارب.
ومع ذلك فلم يكن في مقدور إنسان أن «يترك» الحزب حين يشاء، بل لم يكن في مقدور إنسان أن يتراخى في نشاطه إزاء الحزب أو أن يبدي من الأمارات ما ينم عن ضعف إيمانه فيه، فإذا ما التحق إنسان بالحزب فقد وقع في الفخ إلى الأبد، نعم يجوز للحزب أن يطرده، ويكون معنى ذلك أن تنزل به الكوارث، لكن ليس في وسعه هو أن يتنحى منشقا عليه، فلو كنت أظهرت ما يدور في صدري من عواطف على حقيقتها؛ لكانت النتيجة إبعادي عن المدرسة ووصمي بالعار وتعقبي بألوان الاضطهاد، بل ربما كانت النتيجة المحتومة أن يزج بي في معسكرات الاعتقال أو ما هو شر من ذلك وبالا.
كان لزاما علي أن أكتم عواطفي بين جوانحي، كان لزاما علي أن أدسها دسا في أعماق فؤادي، هذا إلى ما بذلته جاهدا أن أستعيد للحزب ولائي، فلئن كان ذلك ضرورة في الظروف المعتادة، فقد كان عندئذ أشد ضرورة؛ لأن حركة التطهير قد نشرت قلاعها للريح.
عينت مئات من لجان التطهير، ولم يكن ليمضي طويل وقت قبل أن تعقد تلك اللجان اجتماعاتها العلنية في المصانع والمكاتب ودور الحكومة والمعاهد ، وكان على كل شيوعي في البلاد أن يذعن لما يطالب به من محاكمة واعتراف، واشتد شعورنا عندئذ بأننا محاطون من كل جانب بالعيون الرواصد والآذان المنصتة، تلك العيون والآذان التي تخفى عن النظر لكنك تحس وجودها في كل مكان، وكذلك اشتد شعورنا بالأضابير الضخمة التي سجلت في أوراقها دخائل حياتنا الخاصة ومكنون أفكارنا، وبأعدائنا الذين قد ينتهزون مثل هذه الفرصة فيبرزوا ما لنا من سقطات، ما هو حقيقي منها وما هو من نسج الخيال.
كان السؤال الذي يسبق إلى ذهني وإلى ذهن كل شيوعي إذ ذاك هو هذا: ترى هل تمضي عني موجة هذه المحنة سالما؟ هذا سؤال رن صداه في كل وجه من وجوه نشاطنا، وفي كل عبارة من أحاديثنا، لم نعد ندبر للمستقبل سبيلا، فلا مستقبل هناك إلا إذا اجتزنا في سلام تلك العقبة الكأداء.
كنت ترى في كل طابق من طوابق معهد سبك المعادن صندوقا خاصا أعد لتلقى به «الإقرارات» عن الشيوعيين، ممهورة بتوقيع مرسلها أو غفلا من التوقيع، وواصل أعضاء «القسم الخاص» خلف بابهم الحديدي ليلهم بنهارهم يرتبون تلك الشكاوى ويبوبونها ويقارنونها بعضها ببعض، فوقت التطهير هو الموسم الذي يتيح لكل إنسان أن يتصيد من يكن له ضغينة، هو الموسم الذي يفسح المجال للحاسدين والناقمين والمرائين.
كانت كل لجنة من لجان التطهير تتألف عادة من عضوين أو ثلاثة أعضاء وعليهم رئيس، كلهم من رجال الحزب الذين لا تشوب ولاءهم شائبة، ومثل هذه اللجنة تكون بمثابة المحكمة، لها حق الاتهام وحق القضاء في آن معا، وكان رئيس اللجنة التي عقدت في المعهد رجلا اسمه الرفيق «جالمبو»، وهو رجل ارتفع فيما بعد إلى منصب وزير الشعب لصناعة سبك الحديد.
فإذا ما تبين لإحدى اللجان عن أحد أنه معيب سحبت منه تذكرة الحزب وأصبح عضوا سابقا، وهو أمر يختلف كل الاختلاف عن كونه لا ينتمي إلى الحزب عضوا من أعضائه، فمن ينعت بأنه عضو سابق فهو طريد لن يكون أهلا للثقة حتى ختام حياته، ولا سبيل أمامه للرقي، وإذا ما حزب البلاد أمر، عد هذا العضو السابق خطرا على الشعب، إن أفظع ما ينزل بعضو الحزب من نكبات هو أن يطرده الحزب من عضويته؛ لأن ذلك يجعل منه مجذوما سياسيا يجتنبه الأصدقاء السابقون وينكره الأقرباء الذليلون، وإذا ما التقيت به عرضت نفسك لخطر سياسي وهو أن توضع في القائمة السوداء.
إذن فقد كان هناك من الأسباب ما يكفي لتبرير هزة الخوف التي ارتجف بها المعهد كله حين اقتربت منه موجة التطهير، وكان ذلك حين دنا عام 1933م من ختامه، وإنه لخوف كانت به مسحة من هوس، فالصحف تنشر القوائم بمن جاء دورهم في التطهير وأين ينتظر أن تقع عليهم الواقعة، ولكل إنسان أراد الوقيعة بمن دنا دوره أن يرسل اتهاما إلى لجنة التحقيق فيضاف إلى ما جمعه الحزب فعلا في ملفاته وفي «ملفات» الشرطة السياسية، ولئن كان من الطبع الإنساني أن تغتبط إذا ما نزلت النوازل بجيرانك الذين يعلونك مقاما أو يسبقونك في الحياة نجاحا، فلقد زادت الآن هذه الحركة التطهيرية تلك الميول الفطرية شدة وسعيرا.
وبالطبع كان الشرط الأول لاحتفاظك بعضوية الحزب هو أن تكن للقادة ولاء لا ذبذبة فيه، وأن يكون ولاؤك ناصعا لا تشوبه شائبة ل «ستالين» بوجه خاص، وإنه ليكفي أن يقول عنك فلان عن فلان عن فلان تلميحا خفيفا يفيد «انحرافك» عن جادة الولاء الخالص، لكي تورد موارد الهلاك، بل إن أخص خصائص الحياة الداخلية لمن وقع عليه التطهير، وما يدور في رأسه من خواطر في كل الشئون كائنة ما كانت، استهدف لهجمات الناس علانية دون أن يروا في ذلك ما يعاب، وكانت إجراءات التحقيق تحتوي على أفظع الفظائع التي عرفت في حمل المتهم على الاعتراف، وفي جعله عرضة لشهادة الزور وفريسة لألوان التعذيب على أيدي الشيوعيين، أما الفريسة القنيصة فقد كانت ترى وقت المحاكمة محنة رهيبة، وأما النظارة فكانوا في أغلب الأحيان كأنما يشاهدون مسرحا لترويض الوحوش، وكان حضور هذه المحاكمات خلال أسابيع التطهير كلها إلزاما محتوما على كل من ينتمي للحزب، وأما من ليسوا في الحزب أعضاء من غمار الشعب فيغرونهم بالحضور بشتى وسائل التشجيع.
ولم يكن أحد من الشيوعيين ليخطر قبل محاكمته بالتهم التي يكون في النية توجيهها إليه، فكانت هذه القلقلة أشد ما يحرج الصدر من عناصر المأساة، إذ كان عليك أن تتحسس طريقك في الظلام لتكون على أهبة لما عسى أن يفجأك من مباغتات، فتستعرض ماضيك مرة بعد مرة متسائلا: ترى من أين يأتي الخطر؟
ألم يحدث مرة أنك أفرطت في الحديث ذات مساء منذ ثلاثة أعوام مدفوعا في حديثك بما بعثته روح الزمالة في نفسك من طمأنينة؟ قد يكون واحد من هؤلاء الزملاء الذين ركنت إلى حسن طويتهم وشى بك منبئا بما أفرطت به من ملاحظات. إن أحد أعمامك كان ضابطا في عهد القياصرة، نعم قد لا تكون التقيت به أبدا، ولكن ماذا لو حدث أن أحدا استخرج هذا الشبح من مكمنه وإذا أنت متهم «بإخفائه» عن الحزب، إن امرأة كنت أحببتها قبض عليها بعد حبك إياها بتهمة الانحراف نحو اليمين؟ ماذا لو فوجئت بتهمة يقذفونك بها قذفا لعلاقة نشأت بينك وبين من يعادي النظام الاجتماعي؟ إن «بافلوف» ينتظر له الإبعاد من الحزب، فكيف أنسلخ عنه قبل أن يجرني معه إلى مهوى الدمار؟ انج بجلدك على أي نحو ومهما تكن الظروف؛ لأنك ها هنا إنما تخاطر بالحياة نفسها.
بدأ التطهير في معهدنا بصورة رسمية بخطبة طويلة مملة ألقاها الرئيس «جالمبو»، قال: «إن حزبنا العزيز قد امتلأت شعابه «بعناصر غريبة» وأعداء متلونين ووصوليين ومنشقين مقنعين وأفراد يقاومون نظامنا الاجتماعي مقاومة حقيقية، وواجبنا أن نخرجهم من بين صفوفنا فننتزع أقنعتهم من على وجوههم ونعرض خبثهم في ضوء النهار، إن البلاد قد فرغت لتوها من تأميم المزارع ومحو المالكين الزراعيين باعتبارهم طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وقد ختمت مشروع السنوات الخمس الأول وحالفها فيه التوفيق، وها هي ذي تبدأ مشروعا آخر لسنوات خمس أخر، فهؤلاء الذين يداخلهم الريب في أننا نسير في طريق قويم مؤد إلى الاشتراكية الكاملة والحياة السعيدة هم أنجاس عقدوا الخناصر مع أعداء البلاد، فلا بد من اقتلاعهم من جذورهم ليسلم الحزب وزعيمه الأكبر وأبوه الرفيق ستالين المحبوب!»
وكان كلما ذكر اسم الزعيم؛ دوى المكان بالتصفيق لبضع دقائق يسودها قلق في النفوس.
وأخيرا دارت عجلة التطهير دورتها، وهاك وصفا للإجراء الذي اتبع: يجلس أعضاء اللجنة خلف منضدة ملفوفة بغطاء أحمر، وفوق منصة تزينها صور الزعماء كما تزينها عبارات مما تجري به الألسنة دفاعا عن الحزب، وفي أبرز مكان يوضع تمثال نصفي لستالين، تزخرفه عقود من الزهر، فإذا ما بدئ في محاكمة شيوعي، نودي إلى المنصة، حتى إذا ما بلغها سلم تذكرة الحزب التي معه، وأخذ يقص قصة حياته، فتجيء القصة بمثابة التقرير السياسي والاعتراف الروحي؛ لأنه كان يدلي بمختصر عن أصله ونشأته وسيرته واهتماماته، ويعترف خلال ذلك بما اقترف من خطايا وأشباه الخطايا، وما زل فيه من عثرات، وإنه لمن الخير لك أن تنبئ بنفسك عن أخطائك، لو شككت في أن اللجنة قد يكون لها علم بها، «فإخفاء» شيء كائنا ما كان عن الحزب يضاعف من وزر الجريمة التي أخفيتها.
فإذا ما فرغ المتهم من اعترافاته، أخذ أعضاء اللجنة ومن شاء من النظارة يوجهون إليه الأسئلة، فيذكرونه بما قد أهمل ذكره في روايته، ويوقعونه في أقوال ينقض بعضها بعضا، وكان لمن شاء من الرفقاء أن يتكلم في صالحه أو في غير صالحه، فإذا كانت اللجنة تميل إلى جانبه، جاءت المحاكمة قصيرة في العادة وصورية لا جد فيها، أما إذا أحس النظارة أن المتهم لا يتمتع من اللجنة بالرضى، أو أنه منها على السفود، فإنهم يثبون عليه وثبا، ويدقونه بأقدامهم دقا بغير رحمة، وخصوصا أصدقاءه والمتصلين به، فهؤلاء يأخذهم الخوف على أنفسهم ويسارعون إلى رشقه بألفاظ غلاظ مع الراشقين؛ حماية لأنفسهم من الأذى، وقد تدوم المحنة نصف ساعة، وقد تطول مساء بأسره، وأحيانا يستطيع المتهم أن يرد عدوانا بعدوان، وأن يناقش ويدلي ببرهان براءته، ويبكي ولكنه أحيانا أخرى ينعقد لسانه من شدة الهجوم فيظل في صمت رهيب.
أما من اجتاز التطهير آمنا فترد له تذكرة الحزب ويهنئه الأصدقاء الذين انزاح عن صدورهم هم ببراءته عبء فادح، وكانت اللجنة أحيانا تؤجل حكمها حتى تزداد للقضية بحثا، وأما من انتهت محاكمتهم بالطرد من الحزب فيهملون ويجتنبهم الناس ، فتراهم يقفون في عزلة يتلفتون حولهم في حيرة فلا يرون أمامهم إلا عالما تحطمت قوائمه، ثم ينسلون خارج القاعة يملؤهم الشعور بأنهم طريدو القانون منبوذون، وما أكثر ما كان هؤلاء المطرودون يزهقون أرواحهم بأيديهم.
أمثال هذه اللجان التطهيرية لم يخل منها موضع من بلاد السوفيت على رحبها، ريفها والمدن، وكانت الصحف والمذياع تذيع مقتطفات من هذه المعارض الصاخبة، وكانوا يصفون هذه الحركة في جملتها بأنها «ديمقراطية حزبية»، لكني إذ كنت جالسا في قاعة المحاضرة في المعهد، أخذني شعور عجيب بأن هذا الذي أرى إن هو إلا جزء صغير من مسرحية كبرى يمثل فيها ملايين الرجال والنساء، ومسرحها هو سدس اليابس على هذا الكوكب الأرضي.
أخذ اضطرابي العصبي يزداد رويدا رويدا، إذ كنت أنتظر في قلق دوري على المسرح.
صاح الرئيس جالمبو: «الرفيق سانين، من فضلك.» فتقدم إلى المنصة بخطوات سريعة رجل أشقر الشعر، تقع سنه بين الثلاثين والأربعين، وسلم تذكرته. كان نحيلا وسيم المحيا يلبس منظارا، كلنا نعرفه ونحبه، هو محاضر في الرياضة، محبوب لقليل من الضعف فيه، ولأنه لا يغالي في الدقة، وأخذ يروي قصة حياته، فهو ابن فلاح، بدأ سيرته في الشيوعية بالتحاقه عضوا في هيئة الشباب الشيوعي، واستهل حياته المهنية عاملا بسيطا يعمل على المخرطة في أحد المصانع، ثم التحق بالمعهد وقام فيه ببحث، وانتهى أمره إلى التدريس.
كانت سيرة حياته التي رواها كأنما هي المثال يحتذى، وأخذ السأم يدب في نفوس النظارة مما يسمعون، لولا أن قوطعت هذه السيرة النقية بسؤال وجهه عضو في اللجنة.
قال في صوت خافت: «أيها الرفيق سانين، هل حدث مرة أن وقعت برنامجا يقوم على أساس مذهب تروتسكي مع طلاب آخرين أيام دراستك؟»
هنا حدثت حركة بين النظارة وأخذ الناس يتهامسون ويتبادلون النظرات. - «نعم، لقد فعلت ، لكني عدت فتبرأت منه منذ أمد طويل، وكل الناس يعرفون موقفي منه.»
فقال عضو اللجنة في إصرار: «إذن فقد وقعت ذلك البرنامج ولست بمنكر هذا؟» - «بالطبع لا أنكر ذلك، فلم أكتم ذلك سرا عن الناس ، إن كل زملائي ليعلمون، وإن الحزب ليعلم، أنني زللت في هذا الخطأ، وأنني اعترفت به فيما بعد.» - «قد يكون ذلك أيها الرفيق سانين، ومع ذلك فإني لا أزال أتساءل إذا كنا قد عرفنا عنك كل شيء، إني لأتساءل هل يعلمون عنك أنك لا تزال تدين بمبادئ ينكرها الحزب ويبرأ منها الشعب السوفيتي؟»
ازداد اهتمام الناس في القاعة على نحو ملحوظ، كأنما شم الجمهور رائحة الدماء، وأخذ الهم يستولي على من كانوا مع «سانين» صحبة منذ دقائق، وجعلوا يرشقونه بالأسئلة صديقا في إثر صديق، ولم تخف غايتهم من ذلك، فقد أرادوا أن «يوقعوه» بأسئلتهم لعلهم بذلك ينقذون رقابهم، وكلما ازداد الزميل به صلة، ازداد حماسة في محاولة إدانته، حتى يبين للناس أنه لم يكن يسايره في شنيع «جرائمه»، ولأنهم يعرفون منه أوجه النقص والضعف، أخذوا يتلاعبون به حتى ارتبك ولم يعد قادرا على أن يقول دائما ما يريد حقا أن يقول.
قال في دفاعه عن نفسه: «أيها الرفاق أعضاء اللجنة، لقد أعلنت منذ أمد طويل براءتي مما كنت قد زللت فيه، إنني لم أؤيد أنصار «تروتسكي» قط تأييدا ذا خطر، فلم أساهم أبدا في هيئتهم، ولم يحدث إلا مرة واحدة في لحظة من لحظات الضعف، أني أغريت بتوقيع ورقة، ثم لم ألبث أن أعلنت براءتي منها، إن هؤلاء الناس الذين يتهمونني ليعلمون عني هذا علم اليقين، ولست أدري لماذا يقلبون الحقيقة فيما يقولون ...»
لكن الرئيس لم يمهله حتى يتم حديثه، وكان في صوته سخرية ظاهرة.
قال: «لا عليك، لا عليك، إننا نعلم علم اليقين كيف تتلونون أيها التروتسكيون يا أعداء الحزب، إن لدينا من الحقائق ما يثبت أنك لم تتغير في باطنك، وليس مما يخلو من المغزى أن يثير أخلص خلصائك حولك الشكوك.» ثم توجه إلى النظارة وقال: «من يريد الكلام؟»
لم يعد إلى الشك إلا سبيل ضئيل في أن ما يصيب «سانين» أصبح قضاء محتوما، فأما وقد انتهى فيه الرجاء فقد تدافع أصدقاؤه ليركلوه ويدفعوه من ذروته إلى الهاوية، كنت تراهم ينهضون في أماكنهم ليقولوا: إن «سانين» مخادع، يظهر الولاء للحزب ويبطن انشقاقا خبيثا، ولا تسمع منهم أحدا يخصص الاتهام بنقط معينة، بل هم يلقون الاتهام جزافا في عبارات محفوظة، وظلوا كذلك حتى وقع ما لم يكن في الحسبان، فكأنما أحدث بوقوعه هزة كهربائية؛ وذلك أن مهندسا يعرفه المعهد كله ويجله المعهد كله، طلب الكلام.
بدأ يقول: «لقد كنت أصغي في انتباه إلى كل ما قيل في هذا المكان، فلم أسمع نقطة واحدة في صميم الموضوع حقا، أيها الرفاق، إننا الآن نقضي في أمر عضو من أعضاء الحزب، فسنحكم عليه بحياة أو موت من الوجهة السياسية، أين التهم المحددة التي وجهت إليه؟ لم أسمع منها شيئا!»
فلم يقع هذا الدفاع إلا موقع المزيد من الوقود يلقى به في النار، فقد احتدت العواطف، وأمعن زملاء «سانين» في وصمه بما يشين وفي قذفه بألوان السباب، شجعهم على ذلك أعضاء اللجنة الذين كانوا بغير شك قد اتخذوا قرارهم في شأن «سانين» قبل انعقادهم، وقضي الأمر وطرد الرجل من الحزب.
وما هو إلا أن بدأنا نسمع طالبا يقص قصة حياته، كان أسود الشعر كثيفه، فيه الملامح السامية، وهو شاب سيرة حياته قصيرة، فلم تلبث المحكمة أن انتقلت به إلى مرحلة الاستجواب. - «قل لي، أيها الرفيق شلمان، ماذا كانت منزلة أبويك من المجتمع قبل الثورة؟» - «كان أبي خياطا، وكانت أمي زوجة تدير دارها فحسب.»
هنا صاح أحد النظارة قائلا: «إنه كاذب.»
وهنا سرت في الحضور هزة عصبية، وبدا أن جلسة المحكمة هذه المرة ستكون ممتعة بعد ما أحس به النظارة من سأم، فالمتهم «شلمان» من ذلك الطراز المكتئب الغارق في كتبه، ليس له من الأصدقاء إلا نفر قليل.
توجه «جالمبو» بالكلام إلى الرجل الذي صاح من النظارة، وكان واضحا أن صيحة الرجل لم تكن مفاجأة للجنة، قال جالمبو: «كيف تستطيع أن تقيم البرهان على أن عضو الحزب الذي نحن بصدد اتهامه، قد خدع اللجنة والحزب جميعا؟» - «برهان ذلك يسير، ف «شلمان» وأنا من مدينة واحدة هي «شركاسي»، وقد التحقت منذ أمد قصير بالمعهد فكان لي بذلك أن شهدت «شلمان» لأول مرة، لكنني أعرف أسرته وأعرف أن أباه كان صاحب دكان للخياطة، وأنه كان يستخدم عددا من العمال، فكان بذلك ممن يستغلون الأيدي العاملة، وكان دكانه في شارع ألكساندروفسكي، أنا أزعم لكم ذلك وأعلم صدق ما أنا زاعمه، ف «شلمان» - باعتباره ابنا لرجل استغل الأيدي العاملة - يجب طرده من حزبنا المحبوب.»
اصفر وجه المتهم وأخذ في اضطرابه العصبي يطقطق أصابعه، فقد دارت عليه دوائر الحوادث على نحو لم يتوقعه، وأوشك ألا تكون له القدرة على ترتيب ألفاظه.
نقر الرئيس على المنضدة يأمر بحفظ النظام، وسأل المتهم متجهما: «هل أنت من شركاسي؟» - «نعم، هذا صحيح، وقد ذكرت ذلك.» - «هل كان لأبيك دكان للخياطة في العنوان المذكور؟» - نعم هذا صحيح، لكنه لم يستغل أحدا، كان سائر العمال بمثابة الأعضاء في شركة وأبي رئيسهم، إني أقسم لكم أيها الرفاق إن الأمر كان تعاونا اقتصاديا بينهم، أضف إلى ذلك ألا شأن لي بالأمر إطلاقا، فأنا قد اشتغلت عاملا في مصنع في مدينة أخرى.» - «ألم يكن هو أباك؟» - «يقينا، يقينا، إنه أبي.» - «إذن فقد أخفيت عن المحكمة أنك سليل أسرة من المستغلين.» - «أنا لا أخفي شيئا، كان الأمر شركة تعاونية اقتصادية، وعن نفسي أنا فقد اشتغلت في مصنع، وصحيفتي باعتباري عضوا في الحزب وباعتباري طالب علم لا عيب فيها.»
كانت الطريقة التي يتحدث بها في غير صالحه؛ لأنه كلما ازداد اضطرابا ازدادت نبرته اليهودية وضوحا وبروزا، وطافت بالقاعة موجة خفيفة من الضحك، ثم أخذنا نسمع صيحات، فواحد يصيح «أخرجوه» وآخر يصيح «اطردوه إنه خدع الحزب!» وغادر «شلمان» المنصة فتعثر؛ لأن عبراته قد أعمت ناظريه، ولم يكن يخفى على أحد أنه سيطرد من المعهد وأن مستقبله قد انهدم.
وجاء بعد ذلك عدد من المتهمين جرت محاكمتهم على صورة مكرورة مألوفة، ثم ردت لهم تذاكر عضويتهم، وبعدئذ جاء دور الرفيق «تسارف» فكان محط الأنظار، لقد كان في نحو الأربعين لكنه لم يزل طالبا ، وكانت جبهته وصدغاه قد تغضنت بفجوات عميقة، وكنت ترى في حركاته سرعة وعسكرية، ثم سرعان ما كشف اعترافه عن خدمته بالجيش أعواما عدة، وأنه ساهم بنصيب موفور في الحرب الأهلية، ثم ينتهي أمره إلى أن يكون موظفا في مصنع، وبعد ذلك بعامين اجتاز مرحلة الدراسة الثانوية في المعهد، وقال إنه متزوج ذو طفلين.
سأل الرئيس: «قل لي أيها الرفيق «تسارف» ماذا ارتأيت في نظام المزارع الجماعية، أي موقف اتخذته حيالها على وجه الدقة؟» - «أي رفيقي، لقد اشتغلت في القرى وعاونت في حل طائفة المالكين الزراعيين باعتبارهم طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وإني لأعترف أنني وجدت من الإجراءات ما أحدث في نفسي حيرة وضيقا، لكني كنت راضيا عن الحركة من حيث المبدأ.» - «الظاهر أنك لم تفهم سؤالي، أيها الرفيق «تسارف»، أو ربما آثرت لنفسك ألا تفهمه، فلست الوحيد الذي أحس حيال هذا المشروع العظيم ضيقا، لكنني أحب أن أعرف استجابتك للمشروع من وجهة النظر السياسية.» - «لم أقف إزاء الحزب موقف المعارض قط.»
فلوح عضو اللجنة ببضع أوراق في يده الله أعلم ماذا تكون، وقال: «ليس ما تقول صوابا لسوء الطالع، فلدينا ها هنا من الحقائق ما يثبت أنك إبان تسريح المالكين الزراعيين بدرت منك إشارة استحسان لما كان قرره «بخارين» من أوجه النقد للرفيق «ستالين»، أيها الرفيقان «كاساريك» و«سوموف» تقدما وأيدا أمام اللجنة ما قررتماه في هذا الشأن.»
كان كثير منا يعرف هذين الطالبين، فهما ممن يدرسون قليلا ويتكلمون كثيرا، وها هما يتقدمان إلى صدر القاعة ويعيدان من الذاكرة ما حفظاه من اتهام مؤداه أنهما حين كانا في الريف مع «تسارف» سمعاه يتحدث بلسان النقد عن سياسة المزارع الجماعية على وجه الإجمال، وهما يسوقان مقتطفات بنصها مما يزعمان أنه كلام المتهم، وكنت ترى «تسارف» يحاول المقاطعة ، لكن محاولاته كلها في هذا السبيل ذهبت هباء، ولم يك ثمة سبيل إلى الشك في أن قضيته خاسرة.
هنا تصبب العرق البارد من جبيني، فالسلوك الذي سلكه «تسارف» في الريف، بل وألفاظه بنصها، تذكرني بما سلكت وما نطقت.
واتجه الرئيس نحوه قائلا: «تسارف، ألا تزال تنفي عن نفسك الخروج على مبادئ الحزب؟» - «نعم، وإنهم ليبالغون، أضف إلى ذلك أن النقد ليس بالضرورة خروجا على الحزب، فلست إلا إنسانا من البشر، وقد كان حولي من صنوف الألم ألوان وأشكال.»
فصاح «جالمبو» ليسكته خشية أن يقول ما لا ينبغي أن يقال: «إن من يضمرون الولاء من أعضاء الحزب يثقون بلجنتهم المركزية وزعيمنا المحبوب الرفيق ستالين.» فصفق هنا الحاضرون، «إن الحزب لا يفسح من صدره مكانا لأمثالك ممن تبلغ بهم القحة أن ينكروا أخطاءهم.» وهنا صفق الحاضرون مرة أخرى، «مطرود.»
فصاح «تسارف» قائلا: «سأرفع شكاتي إلى اللجنة المركزية، إن صحيفتي إبان الحرب لتعلن عن مجدها، وأصبت نجاحا فيما وكل إلي في الريف من مهام، لقد أرقت دمي في سبيل الثورة، وليس لكم الآن أن تقوضوا بنيان حياتي.»
ولكن أعضاء اللجنة أداروا لهذا القول آذانا صماء، وأخذوا يعدون ملفات القضية التالية، كان «تسارف» في المعهد مقربا إلى القلوب جميعا، أما الآن فهم يجتنبونه، إذ هو يغادر المنصة، إنه يوشك ألا يصدق ما قد حدث، ما قد حدث له وهو من هو بين سائر الناس!
وتلاه على المنصة «ديخوفتسف» الذي جعل يشتغل بيديه عاملا منذ أن كان في الثامنة من عمره وأصبح رئيسا لطائفة من العمال، ثم وقع عليه الاختيار من بين «الألوف» ليكون مهندسا، ولقد جاء حديثه الآن بحيث يترك في السامعين أعمق الأثر، وكانت إجاباته عن الأسئلة السياسية التي وجهت إليه، وعن الأسئلة التي أريد بها اصطياده في الفخ فيما يتعلق بالحزب وتاريخه، كانت إجاباته كلها بغير شائبة تشوبها.
سأله «جالمبو» سؤالا كأنما هو عابر: «هل أنت متزوج أيها الرفيق ديخوفتسف؟» - «نعم!» - «متى تزوجت؟ ومن زوجتك؟» - «تزوجت في العام الماضي، وزوجتي ابنة وراق ، وهي تشتغل الآن بصناعة التمريض في أحد المستشفيات.» - «قل لي: هل سجلت زواجك أو لم تسجله؟ بعبارة أخرى: كيف جعلت من زواجك زواجا شرعيا؟»
احمر وجه «ديخوفتسف» وأخذ يتململ في ارتباك وحيرة، ثم أشرقت عليه فجأة علة التماس هذا السؤال، واشرأبت أعناق النظارة وأرهفت منهم الآذان، وساد المكان سكون تام، وأخيرا تكلم المتهم بصوت خافت، فاعترف بالحقيقة المروعة.
قال مطأطئ الرأس: «تزوجت في الكنيسة.»
وبهذا القول انفجر الصخب من جوف السكون السائد، إذ ضحكت النظارة في قهقهة اهتزت لها أجسادهم.
وعلا «ديخوفتسف» بصوته فوق الضحك، وقال: «أنا أعلم يا رفاقي أن مثل هذا الكلام يبعث على الضحك، إنه مهزلة مضحكة وأنا بذلك أعترف. إن الحفل يعقد في الكنيسة ليس يعني عندي شيئا، صدقوني فيما أقول، لكني شغفت بزوجتي حبا وأبى والداها علي زواجها إلا إذا قبلت مهزلة الكنيسة، إنهما رجعيان، وليست زوجتي بأقل مني استخفافا بالخرافات، لكنها الابنة الوحيدة لأبويها ولم ترد أن تؤذي الأبوين الشيخين.
ناقشتها ورجوتها وأنذرتها أن ذلك لن يؤدي إلى خير نرجوه، لكنها لم تذعن، ولم أستطع العيش بغيرها، فانتهى أمرنا إلى زواج عقدناه في كنيسة ريفية بعيدة، ولما كنا في طريقنا عائدين، أخفيت برقع العرس وزهوره في محفظة أوراقي.»
لم يملك الحاضرون إلا مضيا في زئاطهم، ونقر الرئيس يطلب النظام، ولا نظام، وفقد «ديخوفتسف» اتزانه فازداد بصوته ارتفاعا: «أؤكد لكم أننا بالله كافران، إن زوجتي عاملة وأنا ماض في دراستي ولنا طفل، أتوسل إليكم يا رفاقي أن تصفحوا عن زلتي، إني أعترف أنني قد أذنبت بما أخفيت من هذه الجريمة عن الحزب.»
وحاول كثير من الناس أن يدفعوا عنه الأذى، لكنه طرد، فليست جريمته تنحصر في عقد زواجه بالكنيسة فحسب، بل ما هو أخطر من ذلك، وهو أنه قصر فلم ينبئ رؤساءه بمثل هذا العدوان الفظيع على مبادئ حزبه.
هكذا مضت حركة التطهير بوما بعد يوم، فتبدأ الجلسة بعد الفراغ من الدراسة فورا، أي نحو الساعة الخامسة عصرا، ثم تظل منعقدة حتى تضرب في أحشاء الليل، وفي ختام الأسبوع الأول، وقد أصبح الأمر مشهدا لأفظع المآسي، بما يصاحبه من عبرات وضحكات ولهو العابثين، فوجئنا بما هزنا فأيقظنا؛ ذلك أن معلما موهوبا وإخصائيا في البحث العلمي، وهو الرفيق «بطرس بولكين» نودي للمحاكمة، إننا نعلم عنه أنه من أب قسيس، وهي حقيقة تزعزع موقفه، ولو أن أباه بطبيعة الحال قد برئ من الكنيسة، بل والتحق بجمعية «الكافرين بالله» ليمحو من صحيفة أبنائه نقطة سوداء.
وما كان «بطرس» ليقبل عضوا في الحزب بغير انسلاخ أبيه عن الكنيسة، على الرغم من أنه عالم بارع، لقد أخلص الرجل للعلم إخلاصا نسي فيه نفسه، فواصل العمل ساعات بعد ساعات، يشير على كثير من المصانع، ويقف أمام مخابير العامل، ويشرف على طلابه في حجرات الدرس، فكأنما أسرف في حماسته للعلم على هذا النحو ليمحو «عارا» يصمه من تاريخ أسرته.
وتصادف أني قابلته في البهو صباح اليوم السابق ليوم محاكمته في التطهير.
سألته: «كيف حالك يا بطرس؟» - «ليست حالي أطيب حال يا «فيتيا»، فما أدري أيصيب السهم مني مقتلا فأسقط صريعا أم يخطئ فأنجو.»
وضحكت قائلا: «أوهو! ما دمت قد جعلت تتمثل بشعر من نظم «يوجين أونجين» إذن فقد ملأ صدرك الهم.»
أخذ يروي قصة حياته على مسمع من الحضور الذين زاد عددهم عن المألوف، ولعله فيما أظهر من براعة في طريقة الاعتراف قد استفاد من أصله الكنسي، فقد صرح أنه لم يستر قط وصمة العار في حياته، زد على ذلك أن أباه قد طلق العقيدة الدينية تطليقا أعلنه للناس في الصحف، ومضى فقال: إنه لم يكن يسيرا أن يمحو القديم ليستبدل به جديدا، بل اقتضاه الأمر مجهودا شاقا طويلا لكي يقضي على كل أثر من آثار الخرافة التي تلقاها إبان الطفولة، لكنه فعل ذلك ووفق فيما فعل أيها الرفاق، وها هو ذا قد كرس كل فكره للبحث العلمي، فالبحث العلمي - فما يرى - خير وسيلة يستطيع أن يخدم بها الحزب وستالين.
قال «جالمبو» الرئيس: «قل لي أيها «الرفيق بولكين» هل طال عهد اتصالك ب «سانين»؟» - «نعم، عرفته منذ أمد ليس بقصير، كنا زميلين في الدراسة، وتخرجنا في المعهد معا، وها نحن أولاء زميلان في التدريس ها هنا.» - «هل علمت أن «سانين» وقع على وثيقة تتشيع لمذهب تروتسكي؟» - «نعم علمت ذلك كما علمه كثيرون من الحاضرين الآن.» - «لست أسألك عن سواك، بل أسألك عن نفسك.» - «نعم، علمت ذلك عن «سانين»، ولست بمنكر ذلك.»
هنا رفع «جالمبو» صوته في غضب: «وإذن فلماذا لم تنبئ لجنة التطهير أنك كنت تعلم ذلك؟!» - «لم أجد ما يدعو إلى مثل هذا النبأ، لقد بلغ من شيوع العلم بهذه الحقيقة ما أبعد ذكرها عن روايتي، إن «سانين» نفسه قد استنكر زلته علنا، وقد مضى على الحادث وقت طويل.» - «اسمع يا «بولكين» إنك لا تنكر أنك كنت على صلة وثيقة ب «سانين» وإنك بين أعضاء الحزب لرجل عليم ببواطن الأمور، وكان ينبغي عليك أن تعرف كيف يخفي أعداء الحزب - سواء منهم من يجنحون إلى يمين أو شمال - حقيقة أمرهم، فهل أظهرت ما يدل على يقظة بولشفية فيك؟ هل بلغت الحزب بما كان يقوله «سانين» من كلام كلنا يعرف الآن ما هو؟» - «إنه لم يقل شيئا من هذا القبيل على مسمع مني قط، وليس لدي ما أقوله غير هذا.» - «هذا جميل، وهل عرفت بونوموريف؟» وبونوموريف هذا عضو آخر من أعضاء الجماعة التي تهاجم الحكومة. - «نعم عرفته، وقد وقع هو كذلك على البيان الذي يدعو إلى سياسة تروتسكي.» - «وهل أنبأت لجنة التطهير بأمره؟» - «لا، لم أفعل لنفس الأسباب التي أبديتها في حالة سانين.» - «وبعبارة أخرى أنت لم تقتصر على أن يكون لك أصدقاء من أنصار مذهب تروتسكي، بل زدت على ذلك أن أخفيت دسائسهم الحقيرة عن الحزب.» - «أولا ليس هؤلاء المعلمون أصدقاء شخصيين لي، لكنهم زملاء المهنة، أي أنهم معي في هيئة التدريس لا أكثر ولا أقل، وثانيا لم يكتم أحد منهم ماضي حياته سرا.» - «يظهر أيها الرفيق بولكين أنك لا تدري أن الحزب يجاهد في مناهضة المنشقين عليه، إنك فيما يبدو تنظر إلى هذا الكفاح كله نظرة استخفاف، أليس كذلك؟ فليس من الخطر في رأيك أن يكون أصدقاؤك تروتسكيين مقنعين، هذا أمر لا يعنيك، فكيف إذن يجوز لنا أن نثق فيك؟»
فقال بولكين في صوت رزين: «لست أرى أين جريرتي!»
فقال جالمبو: «وهذا مما يزيدك في رأينا سوءا.»
هكذا أخذت محاكمة «بطرس» تنحرف في اتجاه يخشى عليه منه، فلما أدرك الناس اتجاه التيار، نهض منهم كثيرون ليغمسوا رأس هذا العالم في الماء فيغرقوه، وقد حدث لواحد من هؤلاء أن أدرك إبان حديثه أنه إنما يفتري كذبا، فغلبه شعوره بالخيانة، والتاث عليه القول في منتصف عبارته، وتلعثم لسانه، ثم انفجر قائلا: «إنني أقول لغوا، إن الرفيق بولكين زميل ممتاز ورجل عظيم.»
فهبط السكون على أرجاء القاعة كلها، كأنما أصيبت بشلل من جراء هذه الصدمة التي وقعت عليها من هذا الفعل الجريء، واضطر أعضاء اللجنة أن ينفقوا خمس دقائق في أقوال خطابية يلهبون بها عواطف أنفسهم بحيث يلبسون لبوس الغضب من جديد، وسحبت من «بولكين» تذكرة الحزب، فدهش لهذا جل الحاضرين.
ولقد علمت فيما بعد أن هذا الطرد قد انتهى إلى سحق أسرته، ثم ازداد الموقف سوءا بطرد أخته - وهي طالبة في معهد آخر - لا لشيء سوى أن أخاها قد ارتكب إثما، وإذن فتضحية أبيهما بعقيدته الدينية لم تنتج نفعا، وتحطمت حياة شخصين، لكن حدث بعد بضعة شهور لم ينقطع خلالها بعض الأعلام من الزملاء من استئناف الحكم الذي صدر ضد «بولكين»؛ لأنهم قدروا فيه نبوغه، أن أعيد الرجل إلى عضوية الحزب، فعادت أخته إلى معهدها تبعا لازما لذلك.
ومضت اللجنة في محاكماتها، وخرج منها أربعة أو خمسة من الزملاء سالمين، ثم جاء دور طالبة نعرفها جميعا ونقدرها جميعا لذكائها وإخلاصها، فنوديت إلى المنصة. كانت سوداء الشعر والعينين، في نظراتها التماع وفي صوتها رنين، هي من هؤلاء النسوة اللاتي يجذبنك دون أن يكون لهن أدنى درجات الجمال، قالت عن نفسها إنها لأب صانع يشتغل بالنجارة، وإنها عملت في مصنع وهي في أوائل العقد الثاني من عمرها، وإنها أنفقت أمساءها في الدرس حتى وقع عليها الاختيار أخيرا للالتحاق بالمعهد حيث تتلقى في الهندسة منهجا دراسيا.
سألها الرئيس: «أيتها الرفيقة جرانك، هل تزوجت؟» - «نعم!» - «وكم مضى على زواجك؟» - «خمسة أعوام.» - «ومن زوجك؟» - «هو صانع سابق، التقيت به في مهنته، ثم رقي بعد ذلك رئيسا لعمال في مصنع من مصانع صهر الحديد.» - «هل هو عضو في الحزب؟» - «كلا، ليس هو الآن عضوا، لكنه كان فيما مضى.»
وهنا تشمم النظارة رائحة الدم تفوح في الهواء مرة أخرى، فعاد فريق منهم كانوا في طريقهم إلى البهو للتدخين، عادوا إلى مقاعدهم، واشرأبت الأعناق. - «لماذا خرج من الحزب، هل أخرج منه مطرودا؟»
فقالت جرانك في صوت هادئ: «طرد زوجي من الحزب لاشتراكه في حركة المعارضة العمالية.» - «وهل طلقته عندئذ؟» - «كلا!» - «أين زوجك هذا الآن؟» - «ألقي عليه القبض وأودع سجن الشرطة السياسية.»
ها هنا توترت الأعصاب في الحاضرين، فهم الآن إزاء مسرحية بكل معناها، فمن المواقف المألوفة في المسرحيات السوفيتية أن تكون المرأة التي هي عضو في الحزب زوجة لرجل خارج عليه، ونرى الكاتب المسرحي دائما يعمل فنه بحيث تختار الزوجة حزبها دون حبها. - «هل هذه هي أول مرة يلقى فيها القبض على زوجك؟» - «كلا، بل المرة الثانية.» - «ومع ذلك فلم تطلقيه بعد؟» - «لا، لم أطلقه.» - «هل زرته في السجن؟» - «نعم، أزوره كل أسبوع.» - «لماذا؟» - «لماذا؟ لآخذ له معي شيئا من الطعام وثيابه النظيفة وسجائره.» - «أليس هناك من يأخذ له هذه الأشياء سواك؟» - «أظن أن هناك من يستطيع ذلك سواي، فله أم وأخت.» - «إذن فنبئينا لماذا تزورينه في سجنه، إنك عضو في الحزب أليس كذلك؟ ومع ذلك فليس في ضميرك ما يردعك عن معاونة رجل عدو للحزب.» - «إنه زوجي.» - «أوه! إنه زوجك! لكن أليست سلامة الحزب أعظم خطرا من المصالح الشخصية التافهة؟» - «لست أوافقه من الوجهة السياسية، وأحاول أن أناقشه في الأمر لأرده إلى الصواب، وكلما التقينا دار النقاش بيننا إلى حد العراك.» - «أوه! إذن أنت لا تذهبين إلى السجن إلا مغايظة له؟»
هذه السخرية التي يبثها «جالمبو» في عباراته قد أرخت من الأعصاب المتوترة في جمهور النظارة، فكنت تسمعهم يضحكون آنا بعد آن، ثم أخذت ترتفع من هنا وهناك صيحات: «حسبنا هذا! اطردوها!»
رفعت الفتاة صوتها وقالت: «معذرة أي رفيقي الرئيس، أهذه لجنة لتطهير الحزب أم هي حلقة ألعاب بهلوانية؟ إنني أطالبك بأن تقرر ما يوجه إلي من تهم سياسية، وأمنعك من أن تجعل من حياتي الشخصية نكاتا تضحك بها هؤلاء المتفرجين.» - «إذن فلماذا لم تجيبي إجابة صريحة فتنبئينا على وجه الدقة لماذا تزورين كل أسبوع رجلا هو عدو الحزب ومن الخوارج عليه؟» - «لقد أنبأتك بما تريد، فليس هو زوجي فحسب، بل هو كذلك من بني الإنسان، ومن الجبن والخيانة أن أطلقه حين تحل به الصعاب، إنني لا أتفق معه في وجهة النظر، لكننا عملنا جنبا إلى جنب، ودرسنا جنبا إلى جنب، وعشنا تحت سقف واحد، ويحس كل منا عاطفة إزاء الآخر، فالحق أنا حبيبان!»
فقوبل هذا الاعتراف بضحكات عالية، شيوعية تعلن ولاءها لحزبها وهي تحب سجينا في محبس الشرطة السياسية!
ولخص «جالمبو» الموقف فقال: «اختصارا، باعتبارك عضوا في الحزب، ترفضين حتى الاعتراف بخطئك في الاتصال برجل هو عدو الشعب، ورأيي أن النتيجة واضحة: إن مواطنتنا «جرانك» لا تستحق البقاء في صفوف الحزب، إننا لن نأذن لها بعد ذلك أن تساهم في مصالح بلادنا.»
وقوبل الحكم بالاستحسان وبصيحات: «هذا حق! أخرجوها!» ومع ذلك فقد سرت في الجمهور موجة من العطف عليها حين غادرت المنصة مرفوعة الرأس مرتعشة الشفتين، وسارت في الممشى الأوسط حتى خرجت من القاعة، وهمس في أذني طالب جلس بجانبي قائلا: «إنني لا أدافع عن «جرانك»، لكني رغم ذلك أرى الأمر متعلقا بحياتها الخاصة، ولا ينبغي لنا أن نعالجه على هذا النحو.» فظللت صامتا؛ إذ من أدراني إن كان جاري قد ثارت نفسه حقيقة أو دفعه إلى قوله حافز خفي آخر، فأراد أن يثير صدري فأنطق بما يودي بي إلى الخطر.
ولما نودي اسم «سريوزا تفتكوف» أخذ قلبي يثب في صدري، إذ لا شك في أن شهادته ستعرض لما صادفه في الريف، وهذا قد يؤدي إلى ذكري، وقد كنت أعلم أنه رجل ذو عاطفة، يخشى على سلامته وسلامتي.
وقف على المسرح وانعقدت عليه الأبصار ، فبدا للعين من اليفاعة وضعف الحيلة بحيث لم يصلح لتلك الوقفة، بل كانت يفاعته بمثابة السبة الشائنة في ذلك المحيط المتجهم، كانت تبدو عليه أمارات الاضطراب واضحة، ومع ذلك فقد أخذ يروي عن نفسه قصة موصولة الحلقات وإبان حديثه لم يزحزح عينيه من ركن القاعة الأقصى، فتعقبت نظرته وإذا هي تنتهي عند أبيه الذي كان يبتسم له مشجعا، ولما بدأ يقص قصة عمله في القرية قاطعه الرئيس: «أيها الرفيق تفتكوف، هل أبوك عضو في الحزب؟» - «نعم، وقد مر خلال محنة التطهير سالما.» - «قل لي كيف كان شعورك إزاء حركة المزارع الجماعية في الريف؟» - هنا رأيت وجه «سريوزا» قد شحب لونه، ووجه نظراته إلي وقال: «أديت الهمة التي كلفتني بها اللجنة الإقليمية، لكنني أعترف أن موقفي إزاء حوادث معينة وقعت في القرية كان موقفا سلبيا.»
فمضى «جالمبو» يقول: «عندنا من الأدلة ما يثبت أنك لم تكن من الحزم بحيث ينبغي أن تكون، وأنك أظهرت ترددا وتباطؤا في البت في أمورك في مناسبات كثيرة، فماذا أنت قائل؟»
هنا شعرت أن «تفتكوف» ستخور قواه فيتهافت ساقطا إذا لم يسعف بما يشد بنيانه، ولم يكن بد من إفساح الفرصة أمامه ليستجمع قواه، فكأنما دفعتني الغريزة دفعا أن أنهض فأطلب الإذن بالكلام.
قال الرئيس: «ما سؤالك؟» - «أطالبك بإعلان اسم الشخص الذي وشى بهذا الزميل.» - «هو موظف في مكتب النائب العام.» - «ذلك لا يغير من الموقف يا رفيقي، إن اسمه مهم هنا، فقد كنت في الريف مع الرفيق تفتكوف وأعلم الحقائق.» - فوافق الرئيس قائلا: «إذن فاسمه أرشينوف.» - «ذلك ما رجحت أن يكون.» قلت ذلك في نغمة الظافر فكأنما أثرت بذلك في «سريوزا» حبل الحديث، هذا إلى أن فترة المقاطعة هيأت له فرصة تهدأ فيها نفسه الثائرة، فمجرد ذكر اسم «أرشينوف» قد استثار فيه الغضب - فيما يظهر - وأعاد له الثقة بنفسه.
قال: «أرشينوف! أؤكد لكم أن تقرير هذا الرجل زائف ولا قيمة له؛ لأن دافعه إلى كتابته شخصي بحت، إنه خشي أن أبلغ ما أعرف عنه، فقد اتخذ اتهامي وسيلة لوقاية نفسه، كانت هذه أول مرة لي في الريف، وطبيعي أن كانت تنقصني التجربة، وأنه من الجائز أن أرتكب بعض الأخطاء في عملي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اصطنع «أرشينوف» من الأساليب ما يصمه بالعار، تلك الأساليب التي استنكرها الحزب وهاجمها منذ ذلك الحين، ولما عدت قدمت تقريرا عن سلوكه إلى اللجنة الإقليمية، فلست أنا المجرم، إنما الذي أجرم هو «أرشينوف» هذا بعينه.» - «لكن أليس صحيحا أن «أرشينوف» ضرب رقما قياسيا في تسليم الغلة، وأنه فعل ذلك حيث منيت أنت بالفشل أحيانا؟» - «نعم، ذلك صحيح في مناسبات كثيرة، لكن ذلك لا يستتبع بالضرورة أن أجاوز تعليمات الحزب فأسلك على النحو الذي سلك.» - «هذا جميل، من ذا يريد الكلام؟»
فوقفت وأشار لي الرئيس أن آخذ في الحديث. - «لقد عملت مع الرفيق تفتكوف والرفيق أرشينوف في «بودجورودنوي» وسأذكر تفصيلات ذلك حين يأتي دوري، لكني أريد الآن أن أقول: إنني وجدت الرفيق «تفتكوف» رجلا شريفا متعاونا ووجدته شيوعيا يحاسبه ضميره على ما يفعل، إنه شخص مهذب بوجه عام، ولو أنه لا يزال قليل الخبرة، فلا ينبغي أن نجعل منه فريسة لأساليب «أرشينوف» هذا، لو كان هنا لمزقته إربا، ولو أذنتم لي لأنبأتكم ببعض أعماله التي تعد الآن من جلائل الأعمال.»
صاح بعض الحاضرين: «لنسمع ما يقوله عنه! امض في الحديث!» لكن الرئيس بدت عليه علامات الفزع واضحة؛ لأنه لا يريد ذكر شيء من مفازع الريف. - «أيها الرفاق، نحن الآن بصدد البحث في ماضي «تفتكوف» لا «أرشينوف»، فهذا الزميل المتحدث من بين النظارة يمكنه أن يتقدم ها هنا ليروي قصته همسا للجنة.»
ذهبت إلى المنصة وأخذت في قصتي عن فظائع «أرشينوف» الوحشية في صوت خفيض، وكنت كلما قلت شيئا سجل أعضاء اللجنة نقطا في مذكراتهم، ولن أدري إلى الأبد هل كانوا يفعلون ذلك عن جهل بأنباء «أرشينوف» أم كانوا يفعلونه على سبيل إيهام النظارة أنهم جادون، لقد كنت قبل ذلك قدمت تقريرا مفصلا عن هذه الحقائق، لكن لم يكن مستحيلا أن يكون لأرشينوف أصدقاء من ذوي السلطان بحيث يبعدون تقريري فلا يقع في أيدي لجان التطهير.
شجع دفاعي عن «سريوزا» كثيرين غيري، فتكلم في صالحه ثلاثة رجال وامرأتان، وبعدئذ أعيدت له تذكرته، فأتى من المنصة رأسا إلي، وضغط على يدي ضغطة المعترف بالجميل وعيناه تغرورقان بالدموع، ثم ذهب إلى أبيه الذي ضمه إلى صدره.
كان رجائي أن أنادى لمحنتي بعد «تفتكوف» مباشرة، ولو حدث ذلك لجاز أن أفيد بالاتجاه الطيب الذي خلفه وراءه، فيما يظهر، لكن الاسم الذي نودي به هو «الرفيق جرنتشنكو» الذي كان يحاضر في مذهب «ماركس» ومذهب «لينين» في معهدنا، فكان بحكم وضعه هذا بمثابة المبشر «الروحي» - على نطاق مصغر وبمعنى من معاني الكلمة - المبشر الذي يذيع مبادئ المذهب الجديد بين الناس، فلو كان في قائمة رجال المعهد رجل واحد يجل عن النقد بحكم عمله، لكان هو هذا الرجل المديد القامة، البسيط المحيا، لقد كان رأينا فيه أنه أقرب إلى بث الملل في النفوس باعتباره معلما، أما باعتباره إنسانا فقد كان في رأينا ممتازا إلى حد يستحيل أن يفوقه فيه سواه.
كان «جرنتشنكو» يحاضر باللغة الأوكرانية، وهي لغته الأصلية، على الرغم من أن أوضاع هذه اللغة القديمة قد أهمل استعمالها، لا بل عدت ضربا من ضروب «الخروج على الوطن»، إنه شيوعي متعصب، يقول عنه طلابه: «إنه يرافق ماركس كل ليلة في مخدعه.» ولأننا لم نكن ندري عن قصة حياته إلا قليلا فقد أنصتنا في انتباه زائد إلى اعترافه.
هو سليل أسرة فقيرة من الريف، ولبث يعمل في إحدى الضياع الواسعة خادما في إصطبل حتى قامت الثورة، وكان قد بلغ من العمر عامه التاسع عشر حين سقط القيصر، فالتحق بصفوف البلاشفة من فوره، وصعد في الجيش الأحمر حتى بلغ مرتبة «قائد فرقة »، وأثخن في ميدان الحرب بجروح كثيرة، ولما أن وضعت الحروب الأهلية أوزارها درس النظرية الشيوعية في أحد معاهدها الخاصة، وها هو ذا يحاضر في مذهب لينين، حقا إنها لسيرة سوفيتية لا تشوبها شائبة من فساد .
وختم روايته قائلا: «ومع ذلك فلا بد لي من الاعتراف للجنة وللحاضرين من الرفاق بما زللت فيه من أخطاء في موضوع الخروج على الوطن، فقد ترسمت خطى «سكربنك» وغيره ممن شوهوا النظرية الشيوعية كما تعرف في صورتها المألوفة، تلك حقيقة من ماضي حياتي المرير، وهي حقيقة آسف لها وإن يكن قد محاها النسيان محوا تاما.»
فقاطعه الرئيس بلهجة أوضح ما تكون اللهجة توعدا بالشر، وتوترت أعصاب الحاضرين جميعا: «تقول محاها النسيان؟ ولكن ألا تزال على صلة بأفراد من أمثال ...» وذكر له ثلاثة أسماء أو أربعة. - «نعم، ربما أكون قد صادفتهم هنا أو هناك، فما يستطيع أحد أن يجتنب هذا اللقاء العابر، لقد كانوا فيما مضى من الوطنيين في أوكرانيا ولست معهم الآن على صلة من الود.» - «ألم يكن بينك وبينهم قط تبادل الرسائل؟» - «لا.» - «ألم تقابل هؤلاء الرجال بعد أن عفا عنك الحزب عفوا كريما؟» - «لا، وإذا لم تخني الذاكرة، فقد التقيت مرة برجل هو صديقي وصديقهم، ولكني لم أتحدث معه في السياسة.» - «هل تعلم أين هؤلاء الوطنيون الآن؟» - «سمعت تقريرا عن بعضهم أن قد ألقي عليه القبض، ولكني لا أعلم من.» - «ممن سمعت هذا التقرير؟» - «من الصديق المشترك الذي قابلته عرضا.» - «لقد ذكرت لنا الآن توا أنك لم تتحدث معه في السياسة، فكيف حدث أن أنبأك تقريرا بأمر القبض على هؤلاء؟» - «ربما أكون قد استعملت كلمة خاطئة حين قلت «سمعت تقريرا»، فلم تكن أكثر من ملاحظة عابرة.» - «أيها الرفيق جرنتشنكو، أنت ساذج إذا ظننت أنك مستطيع أن تذر في أعيننا رمادا، فنحن نعلم أنك - مثلا - حين سمعت بأمر من قبض عليهم، قابلت الخبر باستياء.» - «يؤسفني أن أقول: إن من بلغ عني ذلك قد افترى علي كذبا.» - «الأمر على نقيض ذلك تماما، فلدينا من مصادر عدة ما يثبت أنك ما تزال «أوكرانيا» أولا، «لينينيا» ثانيا، فلدينا اتهامات مقدمة من رجلين هما من ألصق زملائك بك.» وذكر اسمهما.
فوقع هذا القول على «جرنتشنكو» وقع الصاعقة، إذ لم يكن يخفى عن أحد منا أن هذين الرجلين لم يعودا بعد أحرارا من القيد.
وتمتم جرنتشنكو قائلا: «لا أستطيع أن أفهم غايتهما من الوشاية بي بمثل هذا الكلام، لقد كانا حقا من خيرة الأصدقاء.»
فقال أحد أعضاء اللجنة: «وأظن أنك يا «جرنتشنكو» لم تقل شيئا ضد المزارع الجماعية.» - «لا، ربما أكون قد تحدثت في نقد ألوان بعينها من الإسراف في تطبيقها، لكني لم أقل قط في حياتي كلمة أهاجم بها ما اتخذه الحزب في هذا الصدد من قرارات.» - «حسبنا منك هذا، ولنسمع الآن ما عسى أن يقوله في شأنك الحاضرون.»
ونهض الأساتذة الذين يحاضرون في مذهبي «ماركس» و«لينين» واحدا في إثر واحد لينزلوا بزميلهم الضربات، وأخذوا يلقون الخطب تباعا ليقولوا: إن الروح الوطنية (التي يتهمون بها جرنتشنكو إزاء وطنه أوكرانيا) تتنافى مع الشيوعية، وجعل هؤلاء الزملاء ينكتون رءوسهم لعلهم واجدون فيها ما يقذفون به زميلهم المتهم من ألوان الاتهام، فكانوا يعثرون في أعماق ذاكراتهم على نتف من أحاديث زميلهم لا تسعفهم الذاكرات بنصها الصحيح، وكانوا فيما يذكرونه عن زميلهم من وقائع لا يحددون لها التواريخ، بحيث جاء ما قالوه بمثابة المسامير التي تدق في نعشه السياسي، حتى لو كان ما قالوه يرجع تاريخه إلى زمن لم يكن شعور «جرنتشنكو» الوطني تجاه بلده أوكرانيا مما يحرمه قانون الشيوعية، بل كانت الحماسة الوطنية عندئذ ضربا من الإلزام.
وهكذا حشر «جرنتشنكو» في زمرة المطرودين الذين يجللهم العار، وهو ذلك الرجل المتعصب لمذهب «لينين» بذهنه الأوكراني الصافي، وبهذا بلغت سيرته ختامها.
وكنت أتساءل: ترى ماذا عسى أن يلحق بهذا الرجل من أحداث حين سمعت اسمي ينادى به، فأسرعت إلى المسرح وقصصت قصة حياتي: في المزرعة الجماعية، وفي مناجم دونتز، وفي المصنع، وعلى حدود فارس، ثم في المصنع من جديد، وأخيرا في المعهد ، وكنت أحس إبان الحديث أنني إنما أدلي بسيرة تستثير في السامعين إعجابا، فآبائي من طبقات الشعب إلى حد مقبول، ومناشطي شيوعية الاتجاه لم تنحرف عن مبادئها قط، وذكرت نبأ تفتيشي في «نيقوبول» وزيارتي الطويلة ل «أورزنكدز»، ذكرت هذا النبأ متعمدا لكني جعلته يبدو كما لو كان شيئا ذكر عرضا في سياق الحديث. وأخيرا غامرت بذكر تقرير موجز عن مهمتي اللتين أسندتا إلي في المناطق الزراعية، إذ إنني كنت على يقين أن أمري هناك قد وشى به واش، فلا بد لي إذن ألا أخفي ما اتخذته من قرارات جريئة، ثم بينت أنها قرارات أملتها علي ضرورة الموقف. - «في أي الظروف ضاعت منك تذكرة الحزب؟ هل تعلم أن ضياعها فيه هدم خطير لقوانين الحزب؟» - «أعرف ذلك وآسف له أيها الرفاق، ضاعت مني ونحن في معمعان الحصاد، فقد أصيب عامل زراعي بإغماء مفاجئ فحللت مكانه في العمل، وبينا نحن في اضطرابنا هذا فقدت محفظتي، وها هي ذي شهادة من القسم السياسي في ذلك الإقليم تثبت ذلك.»
فحصت اللجنة عن الشهادة المقدمة، وأضافتها إلى ملف أوراقي، واستأنفت استجوابي. - «لدينا ما يثبت معارضتك للتدابير الفعالة التي تطبق في جمع الغلال، وأنك أنكرت ممثلا رسميا للحزب.» - «الواقع عكس ذلك يا رفاقي، إنه هو الذي أساء إلى الحزب، أقول ذلك على زعم مني بأنكم تعنون «أرشينوف» الذي حدثتكم عن أساليبه.» - «لنفرض معك أننا نعني أرشينوف.» - «وإن كان ذلك كذلك، يا رفيقي الرئيس، فها هي ذي صورة من تقرير عنه قدمته إلى اللجنة الإقليمية وإلى جريدة برافدا، وسترى أن هذا الرجل وصم بالعار الشيوعية والشيوعيين، لقد بذلت جهدي في سبيل صيانة الحزب وسمعته الطيبة من أفعاله؛ ولهذا يحاول أن يحفر الأرض من تحت قدمي، لقد كان مما استخدمه «وسائل بدنية».»
فسأل أحد النظارة: «أي ضرب من الوسائل البدنية؟»
فقال الرئيس مسرعا: «قد ألمت اللجنة الآن إلماما كاملا بالوقائع، فخير لنا الآن أن تحدثنا عن شيء من أساليبك أنت أثناء الحصاد في لوجينا.» قال الرئيس ذلك بسرعة ليغير موضوع الحديث.
وقصة الحصاد في «لوجينا» هي أكبر عقبة أمامي، وقد رتبت في رأسي كيف أسلسل حوادث القصة، ووعيت ذلك في رأسي أياما لأقوله ساعة الاتهام، لكن القصة التي رتبتها في رأسي ذابت الآن على نحو لا أدريه، وتدخلت الحوادث تدخلا لم أستطع معه وضعها في خط واحد مستقيم، فاعترفت بأنني جمعت الشوفان والشعير إنقاذا للحصاد، وبأنني أقمت دارا جماعية للأطفال، وأنني لجأت إلى «وسائل حازمة» في إطعام هؤلاء الأطفال وفي إنقاذ الناس وإنقاذ الموقف جميعا. «لقد شكرني الرفيق هاتايفتش بنفسه على ما فعلت في الحصاد الذي أتممته قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، وها هي ذي شهادة رسمية من القسم السياسي تثبت حسن صنيعي.» وناولتهم الشهادة: «ماذا أقول بعد هذا؟»
أخذت الرئيس حيرة؛ لأنني جئت إليهم مدعما بالوثائق، فلو كان في عزمه أن يسير القضية على نحو يضرني، فهو الآن في حالة من التردد، وانفتحت الطريق أمامي للنجاة، ثم سار بالأمر في طريق أخرى جديدة تنفست معها الصعداء. - «ما وظيفة أبيك؟» - «يشتغل في مصنع «بتروفسكي-لينين» ويشتغل معه هناك أخي الأصغر، أما أخي الأكبر فهو حاسب في مصنع كيميائي.» - «هل أبوك عضو في الحزب؟» - «لا.» - «وأخواك؟» - «لا.» - «لماذا كان أبوك سجينا قبل الثورة؟» - «لأعمال ثورية. في ثورة 1905م وبعدها أيضا.» - «لأي الأحزاب كان ينتمي؟» - «لم ينتم إلى حزب في حياته.» - «أواثق أنت مما تقول؟» - «كل الوثوق أي رفيقي جالمبو.» - «إذن فهل لأحد هنا من الحضور أن يقول شيئا؟»
ونهض من الرفقاء ثلاثة ليهاجموني، كما نهض كثيرون آخرون ليثنوا علي، وكان بين هؤلاء «سريوزا»، وعلى كل حال لم يكن في الأمر ما يثير الاهتمام، فأخذ الناس ينسلون خارج القاعة التدخين، فهي قضية سخيفة. وأعطيت تذكرتي.
وقبل مغادرتي للمنصة سألت أعضاء اللجنة عمن وجه إلي الاتهام في الفترة التي أقمتها في «لوجينا»، ونظروا إلى ملفات الأوراق مما يدل على أن صاحب الاتهام لم يطلب إخفاء اسمه.
فقيل لي: «صاحب الاتهام عضو في الحزب، هو الرفيق سكوبين.» - «هذا على وجه الدقة ما ظننت.» قلت ذلك مبتسما، وهكذا لم ينس لي ضابط الشرطة السرية في القسم السياسي أني رفضت الحديث معه!
أحاط بي الأصدقاء، وضغطوا على يدي، فما زالت حياتنا مفتوحة الطريق أمامنا، لا نزال رجالا في الحزب ذوي مركز حسن .
وفي أوائل سنة 1934م أعلن «الرفيق لا زار كاجانوفتش» في موسكو أن 182500 عضو طردوا من الحزب، ولا بد أن تزيد الأرقام النهائية على ذلك العدد؛ لأن عملية التطهير لم تكن قد انتهت بعد في بعض المناطق، وهكذا انتهت على هذا النحو سير مائتي ألف من الناس، وزعم «كاجانوفتش» أن الحزب قد تم «تنظيفه» بذلك وأنه قد أصبح الآن حزبا ذا عقيدة واحدة، لكن هذه النتيجة لم تلزم عن تلك المقدمات.
بل إن هذه المقدمات انتهت إلى نقيض هذه النتيجة كما أشاهد الأمر في نفسي، فعلى الرغم من أن المحنة ذهبت عني موجتها فليس إلى الشك من سبيل في أني أصبحت أكثر ارتيابا في الحزب وأكثر قلقا في أعماق نفسي من ألوف الرجال والنساء الذين قذف بهم فوق كومة المهملات السياسية، وما هو صحيح بالنسبة إلي كان صحيحا بالنسبة إلى عشرات الألوف سواي، فليقل الزعماء لأنفسهم ما شاءوا من «أن آخر ما تبقى من آثار الخروج على الحزب ومعارضة مجراه قد زال»، ليقل الزعماء في ذلك ما شاءوا، لكن الصفوف الدنيا من أعضاء الحزب كانت أعلم بالأمر من هؤلاء الزعماء.
الفصل الحادي عشر
سر إلينا
توارت من المعهد، طلابه ومدرسيه، وجوه كثيرة بعد التطهير كنا قبل ذلك قد ألفنا أن نراها، لكن من بقي في المعهد أطلقوا لأنفسهم في عملهم حرية أوسع ونشاطا أكبر، ما دامت أصابع الرعب قد زالت عن حلوقهم، وكنت عندئذ في آخر أعوام دراستي، وكان قد مضى علي أمد منذ أخذت في معالجة مشكلات هندسية عملية في مصنع المعهد، أنفق فيها بعض وقتي باعتبارها جزءا من منهج دراستي، حتى إذا ما تخرجت كان لي أن أتطلع إلى منصب رئيسي في صناعة المعادن التي كان يتسع نطاقها.
ولم ألبث بعد حركة التطهير أن التقيت ب «إلينا»، وقد عرفت ما تعانيه من آلام، فسرعان ما صيرت كيمياء الحب آلامها جزءا لا يتجزأ من حياتي، فأصبحت تكون فصلا من قصة سيرتي، بل إن ما ألم بي من أحداث إلماما مباشرا قلما ترك في نفسي أثرا أعمق مما تركته هذه الأحداث التي وقعت ل «إلينا» وغيرت من نظرتي إلى حكومة السوفيت.
لطالما أخذني العجب مما تفعله المصادفة البحتة في تقرير حياة الإنسان، لقد حدث لما انتقلت إلى «دنيبروبتروفسك» أن سكنت «إلينا» في شقة من منزل يقع على مقربة من مسكني، وكانت تذهب إلى عملها في الصباح في نفس الوقت - تقريبا - الذي كنت أذهب فيه إلى المعهد، فنشأ عن ذلك أننا كثيرا ما كنا نركب عربة واحدة، وقد كنت لحظتها أول مرة ذات يوم ثارت فيه عاصفة ثلجية شديدة، إذ كان كلانا واقفا ينتظر على طوار السيارة الكهربائية الحجري، ومعنا نحو اثني عشر رجلا وامرأة تلاصق بعضهم في بعض.
تلك كانت حادثة عابرة، كذلك كان لقائي الثاني بها ولقائي الثالث فيما تلا ذلك من أسابيع، كلها كانت من قبيل المصادفات، لكني بعدئذ أخذت أبحث عن هذه الفتاة الممشوقة ذات الشعر الأسود، وأخيرا جعلت أنتظر قدومها، فكنت أترك سيارات كثيرة تمضي فلا أركبها ارتقابا لها، وعلى غير أساس من منطق سليم كنت أغضب إذا ما تأخرت، حتى إذا ما لمحتها بطرف عيني قادمة بقدها الأهيف؛ نبض قلبي نبضة أو نبضتين، وحسبت - وكان حسابي صوابا كما علمت فيما بعد - حسبت أنها كانت شاعرة أتم الشعور باهتمامي بها، وأنها لم تكن إزاء اهتمامي تقف موقف التي لا تأبه بالأمر كثيرا أو قليلا، وكثيرا ما ضحكنا معا فيما استقبل من الأيام، ضحكنا معا من هذا الغزل الذي يتم بغير كلمات وعلى طرف من سيارة عامة.
ولما قدمت لها في نهاية الأمر - وكان ذلك أيضا مصادفة - أحسسنا معا كأنما طال عهد تعارفنا، كان ذلك في ساعة متأخرة ذات مساء، وكنت عائدا من جلسة طويلة عقدتها اللجنة الإقليمية، وكانت القاعة معبأة بالدخان ، والنقاش يبعث الملل، فما كان أحلى الخروج عندئذ إلى الهواء الطلق حيث أستنشق الهواء البارد وأحس لسع الصقيع، وبينما كنت أخطو مسرعا في طريقي، ناداني مناد، فقد مررت لتوي بسيدتين أوشكت ألا أراهما.
درت ببصري إلى خلفي فعرفت منهما طبيبة كانت عالجتني في المستشفى بعد خدمتي على الحدود الفارسية، وأما التي معها فهذه الجميلة التي لم أكن عرفتها بعد.
حيتني الطبيبة تحية حارة، وقالت: «كيف كانت حالك هذه الأيام يا فكتور أندريفتش؟ إنني لمغتبطة حقا أن أراك، لقد كنت أتابع قراءة مقالاتك في الصحف، وكنت أتتبع أخبار تقدمك في الحياة من أصدقاء لي هم كذلك أصدقاؤك، معذرة، فإني أقدم إليك صديقتي الشابة «إلينا بتروفنا».»
فكادت الطبيبة أن تفزع لهذا الشوق الذي بدا في «إلينا» وفي حين تصافحنا، ولهذه الحيرة التي نطق بها لسان حالنا، فما كان يدور بخلدها أن قد مضى علينا شهر أو نحو شهر ونحن لا نحلم إلا بمثل هذا اللقاء ليصل مسافة الخلف بيننا، ولا شك أنها ازدادت دهشة حين التمسنا سبيلا لتوصيلها إلى سيارة عامة حتى نمشي وحدنا، ولم يكن عسيرا علينا أن نخلق علة لذلك، ما دمنا نسكن معا في منطقة واحدة.
الأناقة والرشاقة كانتا أول ما يخطف البصر من جمال «إلينا» الفريد، نعم كان لها وجه رائع، لكن لو أراد فنان أن يصورها لما عن له قط أن يرسم وجهها وحده على لوحته، بل إن طبيعة الموقف تملي بنفسها عليه الرغبة في أن يصورها كاملة، كانت «إلينا» في ذلك المساء الذي تم فيه لقاؤنا الأول على صورة رسمية، تلبس معطفا من فرو أسود، يضيق عند الخاصرة، وتحته رداء يسطع بلونه على نحو ما اعتاد أهل القفقاس، وعلى رأسها قبعة لم تطرز حوافيها، وعليها قليل من فرو أبيض، وكانت القبعة مرتكزة على شعرها الفاحم، ماثلة على نحو يستوقف النظر، فأظهرت طولها النحيل، وعلى حاجبيها بضع رقائق من الثلج المتساقط، لمعت كأنها من كريم الأحجار.
مشينا نحو الساعة ذراعا في ذراع، نتحدث عن نفسينا وعن العالم ثم عن نفسينا من جديد، فقد كانت هي كذلك آتية لتوها من اجتماع في مكان عبئ هواؤه، وأرادت أن تسترد نشاطها بالبرد القارس والهواء الذي يلمع كأنه البلور، أنبأتني أنها كانت في «دنيبروبتروفسك» لأول مرة، وأنها كانت مهندسة معمارية في مكتب للتخطيط الهندسي يتبع الحكومة، وكانت ترجح لنفسها أن يطول بقاؤها في هذا البلد، ولقد تخرجت منذ أربع سنوات في معهد الفنون «بخاركوف» حيث تخصصت في فن العمارة.
قلت لها في موضع من سياق الحديث: «ما أسعدني بلقائك، إني لأحس أن هذا اللقاء سيزدهر بصداقة صحيحة.»
فقالت مبتسمة: «وهذا ما أحسه أيضا، لكني أصارحك بأني لا أريد هذه النهاية حرصا عليك، فلو كنت عاقلا يا «فكتور أندريفتش» لجعلت هذا اللقاء الأول لقاء أخيرا.»
فأزعجتني هذه العبارة منها على الرغم من أنها ضحكت بعدها، فقد شككت للوهلة الأولى أن الأمر أخطر مما يبدو من طريقة حديثها، شككت أن يكون حديثها ذاك مشيرا إلى مأساة لها في حياتها الخاصة، فقد ابتسمت لكن ابتسامتها خلت من كل علامات المرح، وكمن في عينيها اكتئاب عجيب تفاعل مع جمالها منذ اللحظة الأولى فزاد أثره قوة على قوة.
قلت لها: «سأتعرض لكل خطر في سبيل صداقتك.» - «لكني أنذرك فاذكر نذيري.» - «لا بأس فسأذكره، لكن لا بد لك مقابل هذا أن تنبئيني عن نفسك أكثر مما أنبأتني، فمثلا ...»
فقاطعتني قائلة: «لا تسلني، نعم أنا متزوجة، وزوجي رجل طيب لكنه منكود الحظ، وكلانا نعيش تحت سقف واحد، وأعنى به عناية الأخت بأخيها، أما فيما جاوز ذلك فنحن زوج وزوجة بالاسم وحده، أنا لا أحبه ... وبهذا المعنى ... أنا مسرورة بلقائك، لقد استوحشت بوحدتي.» - «استوحشت بوحدتك؟ أنت؟ بكل ما لك من دار وعمل ناجح وجمال ...» - «أوه، إنني أعرف ناسا كثيرين، بل ربما كانوا أكثر عددا مما ينبغي، ومع ذلك فأنا أغبطك؛ لأن لك بيتا حقيقيا وأما، لقد مات أبي، وأمي تعيش في «كيف»، ولست أخلو من الغبطة لهذا، ففي هذه الأيام يمر علينا من الأحداث ما لا يجوز لأحد أن يتحدث عنها لأحد حتى لأمه، ثم أغبطك كذلك لما تعيش فيه من أوهام، إذ لا شك أنك شيوعي يخلص لمذهبه.»
قلت: «يستطيع الإنسان أن يكون مخلصا لمذهبه حتى بعد أن يطرح بعض أوهامه، لكن دعينا من السياسة الآن، حدثيني عن زوجك أكثر مما فعلت ...» - «أرجوك ألا تطلب هذا، فلو كنت حقا تريد أن تعاود رؤيتي فهنالك شرط واحد أشترطه عليك، وذلك هو أن تتصرف معي على فرض أنه غير موجود، والواقع أن ليس له وجود بمعنى الوجود الصحيح، لكني أعود فأنذر، إنك مليء بالأمل والإيمان، أما أنا فلا أمل لي ولا إيمان، فأنا من القافلة في ذيلها على حين أنك من الموكب في طليعته، وسيسهل عليك السير إلى أمام لو كنت في سيرك وحيدا.» - «لن أستمع إلى نذيرك هذا، وفي نيتي أن أراك كثيرا مهما كلفتني هذه الرؤية من ثمن.» وهنا افتعلت هيئة المرح ومضيت أقول: «لن أندم على صلتي بك حتى وإن لقيت في سبيل ذلك نيران الجحيم عذابا.»
فابتسمت ابتسامة حزينة وقالت: «أسمعتك تقول نيران الجحيم؟ لست أدري شيئا عن نيران الجحيم، لكني أعرف كثيرا عن نيران هذه الحياة الراهنة، وأين منها نيران الجحيم، ما دامت هي تصيب الناس في حياتهم لا بعد أن يلحق بهم الموت.»
تركتها عند باب دارها بعد أن تم الاتفاق بيننا على اللقاء في المتنزه مساء السبت المقبل، واشتريت تذكرتين لحفلة موسيقية ممتازة كانت ستقام في ذلك المساء، وسيشترك فيها أعلام الفنانات من فرقة الرقص التمثيلي الموسيقي بموسكو، من أمثال «فكتورينا كريجر» و«جوليوين»، كان انتظار السبت عذابا أليما، ومع ذلك فقد اجتنبت لقاءها على طوار العربة العامة، وكان كلما آن وقت النوم من كل ليلة، فرحت لأن معناه أننا اقتربنا خطوة من موعد اللقاء المضروب.
ولكم سرني حين التقينا أن أدرك من ضغط يدها على يدي ومن تورد وجنتيها أن «إلينا» كذلك كانت تنتظر هذا اللقاء الثاني بصبر نافد، مشينا وتحدثنا ثم ذهبنا إلى مسرح الأوبرا، وكانت فيما يبدو من هزة الفرح بمثل ما نعهده في الطفل يوم العيد.
همست في أذني بينما كانت «جوليوين» ترقص دور كورسير: «إنني لأنسى كل همي وأنا في جوارك.»
لم تعد «كريجر» بالشابة الصغيرة، ومع ذلك فلم يزل رقصها رائعا، وكانت تصادف من الناس إعجابا في طول الروسيا وعرضها، وكانت تلك الليلة ترقص مناظر في دورها المشهور من رواية «بحيرة التم»، وصفق لها النظارة تصفيقا عاصفا، ثم تبعتها مغنية أخذت تنشد: «فكوا أساري، ألا فكوا أساري، وسأعرف كيف أمحو عاري، وسأعيد في الناس سمعتي وفخاري ...» فضغطت «إلينا» على يدي ضغطة شديدة حتى آلمتني.
قالت في صوت منخفض فيه اضطراب: «فكتور أندريفتش، أنصت إلى هذه الكلمات فإن لها لأعمق الأثر في نفسي ونفوس كثيرين بل كثيرين جدا سواي.»
ثم جاءت امرأة بدينة فغنت أنشودة «ليزا» من رواية «ملكة البستوني» فأحسست كأنما ذهبت عن «إلينا» كل فرحة بالحفلة الموسيقية، وأخذت تتململ في كرسيها وتتنهد، فلما بلغت المغنية من أنشودتها هذه العبارة: «وجاءت السحابة الصغيرة فاستتبعت في ذيلها الصواعق وحطمت قوائم السعادة والأمل ...» نهضت «إلينا» من فورها وجذبتني معها.
قالت: «أرجوك الانصراف يا فكتور أندريفتش، أرجوك لم يعد في وسعي أن أنصت أكثر مما فعلت.»
ولما خرجنا إلى الهواء الذي يلفحه الصقيع، هدأت ثورة نفسها، ولم أسألها شيئا، واعتزمت ألا أستكشف هذا السر المقبض الذي يعتم حياتها بظله، مهما يكن نوعه.
قلت: «هيا إلى مطعم فنسمع شيئا من العزف البهيج.» - «لا بأس، لكني أشترط شرطا واحدا، وهو أن أدفع حسابي، فأنت طالب وأنا أعمل وأكتسب، وليس ثمة ما يبرر أن تدفع أنت.»
وبعدئذ جرت العادة خلال الأشهر التالية أن نلتقي مرة على الأقل في كل أسبوع، وكثيرا ما التقينا في الأسبوع أكثر من مرة، وانقضى الشتاء وأقبل الربيع، وقدمت «إلينا» لأمي؛ فأحبت كلتاهما الأخرى منذ النظرة الأولى، وأخذتا بعد ذلك تلتقيان كثيرا حتى ولو لم أكن معهما.
قالت لي أمي: «إنها امرأة لطيفة وهي تحبك حبا جما، وأنا أعلم كيف تحس نحوها، لكن في حياتها شيئا يبهظ فؤادها بحمله الثقيل.» - «أعلم ذلك يا أماه ولم أعثر على شيء أفسر به سر شقائها، ولقد وجدت أن تحسس السر من أصوله إنما يؤذي شعورها، فكففت عن السؤال.» - «لقد أصبت يا «فيتيا» إنها فتاة طيبة ولا عليك إذا ركنت إليها، وأيا ما كان هذا الذي يعنيها فلن يكون مما يسيء، فهي من الناس الذين لا يحبون أن يؤلموا أحدا إلا نفسها.»
وحدث ذات ليلة أن تعشت «إلينا» مع أسرتي ولبثت تقضي المساء، فأخذنا في القراءة معا وجلسنا نستمع إلى المذياع معا، وعرف كل منا، دون أن نتبادل في ذلك الكلمات، أنها لا تريد العودة إلى دارها.
قالت «إلينا»: «هذه ليلة زواجنا يا فكتور، فأنا أحبك بكل قلبي ونفسي، وأرجو أن تصدقني إذا ما قلت: إنك الرجل الأول والرجل الأوحد الذي التقيت به في حياتي منذ ذهب عن فؤادي حبي لزوجي.»
مضت شهور و«إلينا» ما فتئت تزورنا في دارنا حتى كادت تصبح فردا من الأسرة، وكان أبواي وإخوتي يجلونها إجلالا لما كان يحيط بها من هالة مجد تشع النور إشعاعا في نفوس أهلي جميعا، ورغم ذلك كله لم أكد أخلو من قلق مقض لعلمي أن جزءا هاما من حياتها ما زال عني خبيئا، وكان يخيل إلي أحيانا أنها تعيش في حالة من الهلع الذي لا ينقضي، كأنما كانت تسكن من هذه الدنيا دارا توازن بنيانها على شفا هاوية توازنا قد يختل لأضعف المؤثرات فتهوي بها في القرار.
وذات يوم وجد هذا الهم الحائر في نفسي بؤرة يتركز فيها، ولقد عللت لها ريبتي بأنها قلق مني على سعادتها، لكنها كانت ريبة ترجع في أكثرها إلى غيرة الرجال المألوفة على من أحبوا من نساء.
ذلك أنه حدث ذات عصر بعد أن فرغت من محاضراتي أن صحبت طائفة من زملائي في الدراسة إلى مباراة في كرة القدم كانت تجري في ملعب المدينة، فلما أن انتصف وقت اللعب بفترة من الراحة اندفعنا مسرعين إلى المقصف لنجرع أكواب الجعة، فوجدنا - كما هي الحال دائما - صفا طويلا من المنتظرين أمام النضد، وأخذنا من الصف مكاننا، وبينا أنا واقف في الصف أرسل نظرات هائمة خلال الباب إلى مطعم ملاصق، إذا وقع بصري على «إلينا» وقد تأنقت في ثيابها تجالس رجلين لم أشك في أنهما أجنبيان عن البلاد، وكان ثلاثتهم يشربون النبيذ ويسمرون في مرح، وخيل إلي أن الرجلين ينظران إلى «إلينا» نظرات فيها جرأة وشهوة.
وبقيت في الملعب حتى انتهى اللعب، لكني لم أشهد منه شيئا.
ماذا كانت «إلينا» تصنع في صحبة هذين الأجنبيين؟ ولما انتهى اللعب رأيتها تغادر الملعب محروسة بذينك الرجلين، وركبوا جميعا سيارة أجنبية كبيرة، فظللت بقية اليوم تائه الفكر ولم يغمض جفناي طيلة الليل.
وفي اليوم التالي قدمت «إلينا» إلى داري للعشاء كسابق اتفاقنا، فحدجت فيها بصري ونحن جالسان إلى مائدة الطعام، لكني لم أعثر فيها على علامة واحدة تنم عن التحول، أيكون هذا الاتصال بالأجانب - وهو أمر خطير في بلادنا - جانبا مألوفا لها في حياتها بحيث لا تتأثر له؟ ولما خلا لنا المكان ذكرت في سياق الحديث العابر أنها كانت في مباراة كرة القدم في اليوم السابق.
قالت: «طلب إلي رئيس مكتبي أن أصاحب زائرين إلى هناك، يا لهما من ثقيلين!»
لم أنبس بكلمة عن رؤيتي لها في الملعب، ولما غادرت غرفتي ذاهبة إلى المطبخ لحظت حقيبتها مفتوحة ولمحت فيها أوراقا، وكانت نار الغيرة والشك لا تزال تتأجج في صدري فعبرت بنظري عبورا سريعا على تلك الأوراق، فوجدت ورقة منها مكتوبة بالألمانية، وعرفت - على جهلي بالألمانية - أنها تحوي أشياء فنية وإشارات إلى مقاييس وآلات، وكانت الورقة الأخرى مكتوبة بالروسية، تبدأ بالعبارة الآتية: «إذ أرسل إليكم طي هذا الخطاب تقريرا فيه المعلومات، أود أن أذكر ...» هنا سمعت وقع خطاها قادمة فأعدت الأوراق مكانها مسرعا.
لم يعد عندي مجال للشك في أن لهذه الأوراق صلة ما بذينك الأجنبيين، وأن القصة كلها إنما تشتمل على مفتاح سر حياتها الغامض، فلما أن افترقنا في ساعة متأخرة من ذلك المساء سألتها متى يكون لقاؤنا التالي.
قالت: «الجمعة مساء.» - «عندي محاضرة - لسوء الحظ - هذه الجمعة أيضا، فليكن لقاؤنا يوم الخميس.» - «آسفة يا حبيي؛ لأني أتوقع أن تشغلني مشغلة هامة يوم الخميس.»
وكانت ريبتي قد أرهفت حسي، فأشرقت علي عندئذ حقيقة لم أتبينها قبل ذلك الحين وهي أن «إلينا» من عدة أشهر لم تخل لي يوم الخميس من كل أسبوع، فاعتزمت أن أتعقبها هذا الخميس - إذا استطعت ذلك - لعلي أعلم من أمرها شيئا.
وجاءت ليله الخميس مظلمة ممطرة مما يسر عملية التعقب على رجل لم يحترف مثل هذا العمل، فلما أبصرت بها تعتلي سيارة عامة وثبت على سلم السيارة الخلفي، حتى إذا ما نزلت بالقرب من وسط المدينة، نزلت وتابعتها على مبعدة في الجانب الآخر من الطريق، فرأيتها تدنو مما بدا لي كأنه دار خاصة، ودقت الجرس وفتح لها الباب رجل يرتدي حلة، فأدخلها وتلفت يمنة ويسرة في حذر ثم أغلق من دونه الباب.
ووقفت إلى جوار باب بحيث أتمكن من رؤية الدار واضحة، وظللت أرقبها ما يقرب من ساعتين، فرأيت داخلها ناسا يجيئون ويذهبون، وكان هنالك من أضواء المنازل المجاورة ومن الضوء الذي انبعث من الباب عند فتحه ما مكنني من رؤية وجوههم، وكان الرجل ذو الحلة كلما فتح الباب نظر إلى الطريق نظرة فاحصة كأنما يريد أن يستوثق أنها تخلو من المشاهدين، ومعظم من قصد الدار كان من النساء، عرفت منهن عددا، فإحداهن سيدة معروفة في المدينة بأسرها، معروفة بجمالها وفتنة حديثها حين تستضيف الأضياف، وهي زوجة طبيب مشهور، وأستاذ في أمراض النساء، وأخرى كانت مغنية ذائعة الصيت في دار الأوبرا من المدينة، وكان من القادمين مهندس بارع طالما رأيته في المؤتمرات الفنية عضوا، وقد عرفت من الزائرات طائفة، عرفتهن إذ كن واقفات أمام الباب ينتظرن أن يفتح لهن، فعرفت فيهن سيدات كثيرا ما رأيتهن في المسرح ومباريات الرياضة البدنية وهن في «دنيبروبتروفسك» بمثابة سيدات الطبقة الراقية.
وأخيرا جاءت «إلينا» من داخل الدار يصحبها رجلان يرتديان معطفين من معاطف المطر، التي يلبسها المدنيون، لكن أحدهما فتح معطفه ليخرج سيجارة من جيبه الداخلي، فرأيت أنه يرتدي حلة عسكرية لم تدع لي مجالا لشك في أن صاحبها من الشرطة السرية، فعرفت عن «إلينا» كل ما أردت أن أعرف، فهي تنتمي بغير شك إلى فرقة الجواسيس التي انبثت في كل ثنية من ثنايا مجتمعنا السوفيتي!
فاضطرب رأسي اضطراب الهلع، وأخذت أتقلب في سريري ذلك الليل، أحاول ترتيب خواطري، فما كان لي من الوجهة النظرية - باعتباري شيوعيا - أن أنقم على الشرطة السرية في تجسسها الذي تغلغلت به في كل ركن من أركان البلاد، ولم يكن هنالك من جديد بالنسبة إلي في أن ألوف الناس يبدون كأنما تشغلهم في الحياة هذه المشغلة أو تلك، وهم في حقيقة أمرهم لا يشتغلون إلا بالتجسس، ولكن على الرغم من ذلك كله، فقد دهشت دهشة عميقة إذ علمت أن الفتاة التي أحببتها كانت فيما يظهر من أعضاء الشرطة السرية، فكأنما ظهرت مني غريزة دفينة تمقت التجسس، فاهتز كياني من جذوره هزا عنيفا.
كان منا نحن الشيوعيين من يعلم علم اليقين أن ألوفا من الأبرياء رجالا ونساء يزج بهم في السجون أو يدفع بهم إلى معسكرات العمل الشاق، لكننا ندس مثل هذا العلم في أعماق رءوسنا فلا يطفو، وقد كنا نفسر لأنفسنا هذه الحالة بأنها تدبير «وقائي»، أو كنا نغضي عن الجانب الخلقي من الأمر إغضاء ونأبى أن ننظر إلى الأمر بأبصار زالت عنها الغشاوة، أيمكن أن تكون «إلينا»، وهي القريبة من فؤادي الحبيبة إلى نفسي قد أنزلت بالأبرياء عذابا وموتا؟ كنت كلما فكرت في هذا الكشف الفظيع، ازدادت حالتي يأسا، فقد مزقني الجذب من جانبين: فحب هنا وهلع هناك.
أرسلت إلى «إلينا» رسالة قصيرة في الصباح التالي أنبئها أن قد اضطرتني ظروف إلى مغادرة المدينة نحو أسبوع، وانتقلت إلى دار أحد الأصدقاء خشية أن تجيء إلى دارنا بحثا عني، أو أن أصادفها في الطريق في الحي الذي نسكنه معا، حتى إذا ما أقبل الخميس التالي كنت في مخبئي عبر الشارع أرقب تلك الدار وما يحيط بها من سر عجيب، فرأيت «إلينا» هناك للمرة الثانية، كما رأيت آخرين، معظمهم نساء، واتضح لي الآن ما يعملون وعلى أي نظام يسيرون، فكل هؤلاء - بمن فيهن من زوجات الموظفين الأعلام - كن يقدمن تقاريرهن عما عملن طيلة الأسبوع، ولعلهن كذلك كن يتلقين الأوامر، فدار خاصة كهذه جعلت مثل هذه المهمة أيسر وآمن من الاجتماع في المركز الرسمي للشرطة السرية.
عدت إلى داري ذاك المساء، وكتبت إلى «إلينا» أقول: إن أسبابا لا قبل لي بالإفصاح عنها تضطرني اضطرارا ألا أراها بعد ذاك، وقلت كذلك: إن كل ما بيننا من صلات قد بلغ الآن ختامه، وإني لأشكر فضلها إذا ما قبلت قراري في هذا الأمر ولم تحاول أن تستأنف العلاقة التي كانت تربطنا، والتي استحال عليها أن تعود فتربطنا من جديد.
وكان هذا القرار كأنما هد قوائمي هدا بحيث لا أستطيع عملا أو تفكيرا واضحا، وانقطعت عن المعهد وأخذت أذرع شوارع المدينة ساعات بعد ساعات، أحاول عبثا أن أنسى عذابا أليما، على أن حالتي هذه إنما كانت تخفي وراءها شوقا مضنيا لرؤية «إلينا» كما كانت تخفي وراءها قلقا مؤرقا خشية أن أكون في ظني بها آثما.
وبعد ذلك بأيام، عدت من المعهد فناولتني أمي خطابا.
قالت أمي: «تركت إلينا لك هذا الخطاب، وقد ظهرت عليها علامات الحزن العميق، وتورمت عيناها بالبكاء، إنني لا أحب يا «فيتيا» أن أتدخل في شئونك الخاصة لكني آمل أن تتبصر ما أنت صانع، إن الجراح التي ينزلها بنا أحباؤنا هي آلم الجراح جميعا.»
كان خطاب «إلينا» قصيرا: «حبيي فيتيا، أرجوك فضلا أخيرا، قابلني مساء الغد في محطة السكة الحديدية الساعة السادسة، إني لأتوسل إليك أن تهبني هذه المكرمة الأخيرة قبل أن نفترق إلى الأبد.»
ذهبت قبلها فانتظرتها حتى جاءت تحمل حقيبة صغيرة للملابس، وحز قلبي ما رأيته على وجهها الجميل من علامات الألم كأنما هو السكين الماضية.
قالت لي: «سنذهب معا إلى نهر سامارا وسنأكل معا ونسمر معا في طلق الهواء، لقد أعددت تذكرتي القطار.»
ودار الحديث بيننا في القطار حول أمور توافه، فتحدثنا عن إعدادي للامتحان الأخير في المعهد، وعن مشروع بناء كانت مشتغلة هي بتصميم خطته، ووصلنا محطة صغيرة وسرنا في طريق ريفي حتى بلغنا ضفة النهر، واجتنب كلانا أن يفتح بالحديث موضوعا خطيرا، كأنما كنا نؤجل عامدين تلك اللحظة التي من أجلها جئنا ها هنا، ودنا الليل وقرقعت السماء على مبعدة بصوت الرعود.
قلت مقترحا: «دعينا نسبح في الماء لحظة قبل أن تصب السحائب ماءها.»
ونضونا ثيابنا وارتمينا في الماء، حتى إذا ما انتعشنا بالسباحة عدنا فارتدينا الثياب، ثم فرشت غطاء مائدة ونشرت عليه طعاما، وكانت قد أحضرت معها كذلك زجاجة من نبيذ ناباريلي.
قالت «إلينا»: «لقد شربنا نخب التقائنا منذ أمد بعيد، فلنشرب الآن نخب افتراقنا.» قالت ذلك وقد اغرورقت عيناها بالدموع، ثم مضت تقول: «تذكر أنني قلت لك آنئذ: إنه يحسن ألا نعاود اللقاء، فها أنا ذا على وشك أن أفقد صحبتك، وسأعتزل وحيدة مرة أخرى.»
لم يأكل أحد منا شيئا من الطعام، لكننا شربنا النبيذ. - «قل لي يا «فيتيا» ماذا حدث على غير ارتقاب؟ لماذا أمسكت عن حبي؟» - «إني أحبك الآن كما أحببتك دائما، وذلك ما جاء بي ها هنا، وإنما جئت معتمدا على إخلاصك يا «إلينا»، فهل لك أن تكاشفيني بسرك؟ فلن أساق بعد الآن كما يساق يافع مأفون.» - «ماذا تريد أن تعلم عني، أهو عن زوجي ما أردت أن تعلم؟» - «لا بل عنك أنت، فأنا أعلم لماذا تصحبين الأجانب، وأعلم من اجتماعاتك مساء كل خميس في الدار التي تقع في شارع ب ... فماذا تريدينني بعد أن أقول؟»
فتنهدت باكية وأخذت تقول: «رباه يا رباه، ماذا أنا صانعة، ماذا أنا صانعة؟»
ولمعت السماء بالبرق، وأخذت قطرات المطر الكبيرة تسقط من السماء، فلجأنا إلى كوخ سماك مهجور كان منا على مقربة، وفي ذلك الظلام الذي أخذ يزداد حلوكا، وعلى كومة من الدريس اليانع العبق، قصت علي «إلينا» قصة سرها.
قالت: «أحبك حبا لا أستطيع معه أن أضحي برفقتك، فحاول يا حبيب الفؤاد أن تنصت إلى حديثي بعقل فسيح الأفق، سأنبئك بما لم أنبئ به إنسانا آخر، بل بما لم أنبئ به أمي، ودع عنك زوجي المسكين، فإذا ما سمعت قصتي حتى ختامها، فلك بعد ذلك أن تقرر لنفسك طريقا.»
وها هي ذي قصة «إلينا» عن حياتها، أسجلها بألفاظها كما بقيت في الذاكرة. «كنا نعيش في «كيف»، وكانت أمي فيما مضى تشتغل بالتدريس، كما كان أبي أستاذا للهندسة معروفا بين الناس، يشتغل في شركة في «كيف» ويكسب مالا كثيرا، وكنت ابنة والدي الوحيدة، فنعمت بطفولة سعيدة، لم أحرم خلالها شيئا، وتعلمت عزف الموسيقى واللغات ونشأت خلية البال من كل هم، وكان الرسم هوايتي التي آثرتها على كل شيء سواها.
وكان لجيراننا ابن هو «سرجي» يطلب العلم في معهد الفنون الهندسية في «خاركوف»، وكان يقضي عطلة الصيف بين ذوبه فتصادقنا، ثم أثمرت الصداقة حبا حين تقدمت بي السن، فتقدم إلى خطبتي ولم أكن قد أربيت على السابعة عشرة إلا بأمد قصير، فقبلت زواجه وانتقلت معه إلى «خاركوف» حيث هيأت لي الفرصة أن أتابع الخطى نحو ما أطمح إليه من هدف، فدخلت معهد الفن الجميل وفيه تخرجت عام 1930م.
ولا شك أنك لا تزال تذكر أن هذا هو العام الذي اتهم فيه كثير من المهندسين والإخصائيين بالتخريب، ولقد حدث أني كنت في زيارة أهلي في «كيف» حين وصل ضباط الشرطة السياسية وألقوا القبض على أبي، وفتشوا كل ما في الدار فمزقوا الصور والأرائك والحشايا، ولم يجدوا بالطبع شيئا، والحق أن من العجائب أن يدور في خلد إنسان عن أبي وهو الرجل الوديع البحاثة أنه ممن يعملون على التخريب، وقد كان اتهامه هذا من الغرابة بحيث تعزينا - أمي وأنا - بفكرة أنه لا محالة لن يلبث حتى يطلق سراحه.
وكان من الطبيعي أن أظل في «كيف» لأعاون أمي حتى تنقشع عنها تلك المحنة، فحياتنا السعيدة قد بلغت ختامها، ولم ندر قط ماذا عسى أن تكون التهمة الموجهة إلى أبي، ولم يأذنوا لنا بزيارته، ولبثت أسبوعا بعد أسبوع، ثم شهرا في إثر شهر، أذهب كل مساء إلى باب السجن لأبعث إليه بلفائف الطعام، وكنت كل مرة أقف ساعات في صف المنتظرات وهن مئات من البائسات الأخريات، وقد يهطل على رءوسنا المطر تارة، ويسفعنا الثلج طورا، وكذلك كنت كثيرا ما أتردد على مكاتب الشرطة السياسية خارج السجن، يحدوني رجاء اليائسة في معاونة أبيها.
وقصدت إلى مكتب الشرطة السياسية ذات يوم، فطلب إلي أن أدخل مكتب الرئيس، وعجبت فيم أرسل الرئيس في طلبي، ولما أن دخلت وجدت هناك رجلا في منتصف العمر لطيف الترحيب باعثا على احترامه، فأخذت ألتمس العفو عن أبي وأخذ يصغي، ثم قال: «أصغيت إليك فأصغي أنت الآن إلي يا «إلينا بتروفنا» أنت فتاة رشيقة بل أنت ربة جمال، بل لك فوق جمالك ثقافة واتزان، وتلك هبات قد تكون ذات نفع عظيم لبلادنا، ولست بحاجة إلى القول بأنها قد تنفعك وتنفع أباك، ففي مستطاعنا أن نعينك على شرط أن تبادلينا معونة بمعونة، ولن أضيف على ما قلته شيئا، فلا حاجة بي إلى ذلك؛ لأني ألمح فيك ذكاء وفطنة، كلا، لا تعبسي ولا تجزعي، فإن ما أقترحه عليك ليس في خسة الحياة نفسها، فأنا لا أطالبك بمضاجعة رجل في فراشه، وإن من أعواننا لنساء نطلب إليهن ذلك، ومنهن أفراد بلغن في مدينتنا منزلة عالية من التقدير، لكنك ستخدميننا دون أن يمس طهارتك شيء أو ينال من شرفك نائل، سنطلب إليك أن تلاقي من الناس من لا يسوءك أن تلاقيهم، حيث تسمعين عنهم كثيرا مما تريد حكومة بلادنا أن تحيط به علما، وطبيعي أنك ستؤجرين على عملك أحسن الأجر، وسنحميك وسنحمي معك من تحبين.»
وقدم إلي سيجارة اعتذرت عن عدم أخذها، فأخرج من درج مكتبه صندوقا من الحلوى وعرض أن آخذ منه ما شئت، فنظرت إليه نظرة لا تنم عن سذاجة.
ثم قلت: «بعبارة أخرى: كل ما تريدونني أن أصنعه هو أن أقدم لكم طائفة من الأنفس البشرية، وربما كان من أقدم لكم أصدقاء أبي أو معارفه، فأتيح لكم بذلك أن تطبخوا عددا آخر من القضايا التي تستثير اهتمام الناس؟ فإذا فعلت ذلك أطلقتم سراح أبي، فهل أصبت في الإفصاح عما تريد؟ ذلك ما تريده وما ترشوني من أجله ببضع قطع من الحلوى لعلي أستجيب؟»
فضحك وقال: «ذلك تبسيط للصورة فيه إسراف.» - «إذن فيؤسفني ألا أستطيع القيام بما تطلبون.» - «لا تتسرعي في اتخاذ هذا القرار يا «إلينا بتروفنا» فليس بنا حاجة إلى سرعة، فلديك من المهلة ما تشائين لتفكري في الأمر مليا ثم تعودين، وإلى أن تعودي إلينا بقرار، فلا ينبغي أن يعلم أحد عن هذه المقابلة شيئا مهما يكن صغيرا، وإلا حبسنا العصفور الصغير في قفص قد يلبث فيه أمدا طويلا بالغا في الطول، من فضلك وقعي على هذه الورقة.»
وكان ما وقعته استمارة يتعهد فيها صاحب التوقيع ألا يخبر أحدا بما دار من حديث، وينص فيها على عقوبة مخيفة لو خالف ما تعهد به.
مضى الزمن في حزن عميق يا «فيتيا»، فها هي ذي فرصة قد أتيحت لي لأشتري حرية أبي بثمن هو أن أكون أداة للشرطة السرية، فكاد يغلبني إحساس بإجرام إذا ما تركته يعاني في سجنه، ولو أنه من حسن حظي أنني كنت أعلم عنه أنه لو عرف موقفي لكان آخر إنسان في الدنيا يتوجه إلي بلائمة، لكني عانيت روحا وبدنا، ثم دعيت مرة أخرى إلى مكتب رئيس الشرطة السياسية، فلم أجد فيه هذه المرة ظرفا في الترحيب، كلا ولا قدم لي هذه المرة حلوى أو سجائر.
دخلت فتشاغل بالنظر إلى أوراق وتظاهر بعدم رؤيتي، وبينا أنا واقفة هناك وقفة الحائر سمعت صرخات مفزعة في مكان ما من البهو، فصرخت من خوف صرخة لم تكن لي إرادة فيها، فرفع بصره إلي.
قال: «أهو أنت هنا ثانية؟ أيزعجك هذا الضجيج الذي تضيق له النفس؟ أنت في ذلك على حق، شخص يحفزونه بذلك على تذكر ما قد نسيه ... نعم إن مهمتنا مهمة شاقة، تتطلب أعصابا من الصلب، والآن هل تقبلين ما عرضته عليك؟» - «لا، لا أقبله، ليس في وسعي أن أقبله.» - «أذلك قرار حاسم منك؟» - «نعم، إنه قرار حاسم.» - «إذن فأنا آسف من أجلك ومن أجل أبيك، ولا زلت أرى أنك قد تغيرين من رأيك، نهارك سعيد.»
ثم تشاغل من جديد بتلك الأوراق، وتركته وانصرفت.
وفي مساء ذلك اليوم، حين جاء دوري فسلمت حزمة الطعام لأبي في قفص قريب من بوابة السجن، أعاد الموظف المسئول اسم أبي بعد أن ذكرته له: «لادينين؟ لا، ليس في وسعي قبول حزمتك.» فوقفت إزاءه جامدة من الهلع.
صحت له: «ماذا جرى؟ إنه أبي، هل مات أبي؟ هل أرسلوه إلى طرح بعيد؟» - «لا علم لي بشيء، عني! من بعدها!» - «لكنه رجل كهل، إنه بريء، ولا بد أن أعلم ماذا أصابه.» - «عني وإلا أبعدتك بالقوة، إنك سبب في تعطيل الصف كله.»
ذهبت إلى نافذة أخرى كتب عليها «استعلامات» فقلت للحارس: إني أريد أن أعلم ماذا أصاب أبي، وأعطيته الاسم، فأقفل النافذة ورأيته يتحدث بالمسرة، فأرهفت أذني لأسمع، لكني لم أسمع إلا لفظة واحدة هي «مستشفى» ففتح النافذة وقال: «آسف لا نبأ عنه.»
درت لآخذ سمتي نحو الدار مع أني أوشكت أن أعجز عن تحريك قدمي، وأعطيت حزمة الطعام لسائل حتى لا أزعج أمي، ثم حاولت في اليوم التالي أن أقابل طبيبا يعمل في مستشفى السجن يحدوني أمل غامض أني ربما سمعت عن أبي خبرا، وبدأت بحثي بعدة أطباء كانوا أصدقاء أسرتنا، فكان كل منهم يحيلني على آخر، فلما مضت علي في هذا البحث ساعات أعطاني شخص اسم طبيب له - فيما ظن - علاقة بالسجن في «كيف».
ذهبت إليه فأدخلني ظنا منه أني مريضة، لكنه لم يكد يغلق الباب من دوننا حتى جثوت أمامه على ركبتي وصارحته بما ذهبت إليه من أجله والدمع يتساقط من عيني، وكان رجلا طيب القلب، لكن قصتي التي رويتها له أفزعته حتى أطارت صوابه، وتوسل إلي أن أنصرف عنه، قائلا: إن عمله في السجن سر لا يفشى فلا يستطيع أن ينبئني بشيء.
قال: «اذكري من فضلك يا عزيزتي أنني رجل ذو زوجة وأبناء، ولا أستطيع أن أعرض نفسي للخطر، الحق أني آسف، لكني لا أستطيع إزاءك شيئا، لا أستطيع شيئا، بالله اتركيني وإذا كنت تكنين الحب لأسرتك فلا تجلبي الشقاء لأسرتي.»
لكني أبيت أن أتركه، وأخذت أبكي تارة وأتحدث طورا حتى غلبته على أمره فوافق أن يعين لي موضع أبي إن كان حقيقة في مستشفى السجن، واتفقنا أن أتصل به بعد ثلاثة أيام عن طريق المسرة من تليفون عام.
وظلت أمي تعد لفائف الطعام لأبي، وظللت آخذ هذه اللفائف فأعطيها للسائلين، وأخذت أرقب الموعد المضروب بيني وبين الطبيب، حتى إذا ما آن، اتصلت به خلال المسرة.
قال لي منذرا: «تشجعي وتملكي نفسك، فلدي أخبار لا تسر، أبوك في المستشفى، وأرجح ظني أن حالته لا تبعث على رجاء لأن رئتيه ملتهبتان ... زيدي على ذلك ...» وهنا تردد قليلا «إن بجسده كدمات خطيرة، مع السلامة، أنا شديد الأسف.»
ذهبت إلى مكتب الشرطة السياسية كارهة، وأرسلت اسمي للرئيس، فلم يلبث أن دعاني للدخول، وقابلني عند الباب يبتسم ابتسامة عريضة. - «ماذا أتى بك من جديد؟ هل اتخذت قرارا حاسما؟»
قلت: «كلا، فقبل أن أحسم قراري لا بد أن أرى أبي.» - «إن تدبير ذلك عسير، ولست أريد لك اضطرابا، فأبوك في المستشفى، وليس في حالة تسمح بزيارته.» - «أرجوك، أرجوك أن تأذن بزيارتي إياه، فأنت إنسان من البشر أيا ما كانت الحال ...» - «ليس من هنا ناس من البشر يا «إلينا بتروفنا»، بل هنا رعاة الثورة، ليس هنا مكان لعاطفة، وما أدواتنا التي نقاتل بها أعداء الدولة سوى العذاب والموت، وخير لك أن تتبيني هذه الحقيقة عاجلا والشر في التسويف، سآذن لك برؤية أبيك على أساس واحد وهو أني أريد معونتك، اذهبي إلى السجن، ففي طريقك إليه سأرسل أمري بذلك، وفكري في الأمر الذي أعرضه عليك ودعي عنك هذه البلاهة الحمقاء.»
ساروا بي إلى عنبر حيث كان أبي وحده في غرفة نقلوه إليها استعدادا لزيارتي، كان راقدا على سرير من الحديد، ساكنا سكون الموت، وقد طالت له لحية بيضاء في هذه الشهور التي افترقنا خلالها، لم يبق له من جسده إلا جلد وعظام، ورأيت على جبهته وعلى صدغيه الغائرين أشرطة قبيحة من الجلد، كما رأيت أربطة على أصابعه وذراعيه، دنوت من سريره فلم يكن لديه من العافية ما يعينه على ابتسامة الترحيب، ولما أخذ في الحديث رأيت ما راعني إذ رأيت أن أسنانه الأمامية قد خلعت عن فكه خلعا.
قال بصوت متكسر: «لا تبكي يا يولوشكا.» هذا هو الاسم الذي كان يدللني به منذ طفولتي.
كنت قد أوصيت أن أتحدث في أمور عائلية وألا أعرج بالحديث على شئون السياسة، لكن الحارس الذي صحبني هاله ما رأى فأدار وجهه عنا تلميحا لنا بأنه لن ينصت إلى الحديث، وأشار أبي إلي بإصبعه أن أنحني إليه، ثم همس في أذني: «ها أنت ذي تشهدين حالي يا «يولوشكا»، لقد جعلوا يضربونني يوما بعد يوم، فأداتهم هي التعذيب، ومئات ممن سجنوا في «الحجر المنفردة» ها هنا يجلدون بالقطائل المبتلة ولا يخلى بينهم وبين النوم أسابيع متوالية، أو هم يوضعون في غرف هي الجليد في بردها، لقد ضربوني في غير رحمة لأسمي لهم شركائي في المؤامرة.
فماذا أقول إن لم تكن هناك مؤامرة؟ لم يكن هناك مؤامرة إلا في خيالهم الجامح، إنهم بمثابة من يرى أشباحا، لطالما تمنيت أن يكون هناك ما أعترف به، ولقد تذكرت أخطاء ليست بذات خطر، فاعترفت بها على أنها ضروب من أفعال التخريب، وحبكت لهم حوادث تخريب لم تقع، لكنهم لم يزدادوا إلا ضربا؛ لأن ما نسجت لهم بخيالي من أباطيل كان من السذاجة بحيث لم يستقم أمام عقولهم، وفيم استرسالي معك في هذا الحديث؟ لقد كنت سمعت عن الشرطة السرية وأساليبها لكن أسوأ ما كان يصوره لي الخيال لم يكن إلى جانب الواقع شيئا مذكورا، ليس هؤلاء بشرا، إنما هم نفر من الشياطين، أواه يا ابنتي يولوشكا، إن ما صنعه هؤلاء الناس ...» - «ستبرأ يا أبت مما ألم بك، وسأخرجك من هذا الجحيم، إني أعدك ...» - «لا يا ابنتي فلا أمل هناك ، لقد صارحني الأطباء بحقيقة أمري، فقد تندمل الجراح التي أثخنها التعذيب في جسدي، لكن رقادي في مكان بارد قد أنزل العلة برئتي، والبرء في ظروف كهذه وفي سن مثل سني ليس قريب الاحتمال، ولن تمضي أيام قلائل حتى يدركني الموت، فانسي هذا ما استطعت إلى النسيان سبيلا، وامضي في عملك كأن لم يحدث من ذلك كله شيء، وكوني كريمة في معاملة أمك وزوجك سرجي.» - «مواطنتي، لقد انتهت الخمس الدقائق ولا بد لك من الخروج.»
ومات أبي بعد أيام، وذهبت إلى زوجي في خاركوف.»
استوقفت «إلينا» في قصتها. - «لا عليك يا حبيبتي، لست أريد أن أعرف منك أكثر مما عرفت، فأسفي شديد عليك وخجلي عظيم من نفسي، فسامحيني على ما بدر مني من سلوك أحمق.»
قالت: «لا، لا، فما دمت قد بدأت فلا بد لك أن تسمعني حتى النهاية المرة، أريد لك أن تعلم وأن تقدر الظروف، فما ذاك إلا بداية الأهوال.» ثم استرسلت في قصتها المروعة: «انقضى عام 1931م وانقضى كذلك الشطر الأعظم من 1932م، وكان زوجي حينئذ قد تخرج وعمل في مصنع كبير، وكان في فزع لا ينقضي خشية القبض عليه، شأنه في ذلك شأن غيره من الإخصائيين الفنيين في ذلك الحين، فعلى الرغم من أنه لم يقترف إثما يزجره ضميره عليه، كان يفزعه ذلك الخوف الذي لا ينتهي والذي لا يرتكز على أساس يبرره؛ لأنه رأى بعينيه سائر رفقائه يتخطفهم هذا القضاء واحدا في إثر واحد.
ومع ذلك فلم أكد أصدق النبأ حين أنبئت أن القبض قد ألقي عليه فعلا، لقد كنت أعرف أصدقاءه جميعا، وآراءه جميعا وأفعاله جميعا، فما عرفت فيه إلا براءة لا تشوبها شائبة من عداوة، بل إن فكرة العداوة نفسها لم تدر في رأسه، فعاودت الوقوف في الصفوف الكئيبة من جديد، صفوف الألوف من النساء، عاودت الوقوف في تلك الصفوف لأبعث برسائل الطعام إلى السجين.
وتذرعوا بذريعة سخيفة لطردي من وظيفتي؛ لأن رؤسائي بالطبع لم يريدوا إلى جانبهم زوجة مهندس سجين، فأخذت أبيع كل ما ملكت يدي شيئا فشيئا لأشتري الطعام لنفسي ولزوجي السجين، وأعطيت في الموسيقى دروسا، وعاونني بعض الأصدقاء بشيء من المال على وعد قطعته لهم على نفسي كلما أحسنوا إلي بشيء ألا أبوح لأحد أني رأيتهم أو أنهم عاملوني في شيء من الرحمة؛ ذلك لأني ما دمت زوجة «عدو الدولة» فقد أصبحت على هذا الاعتبار طريدة المجتمع منبوذة من الناس.
ولما قضى «سرجي» بضعة أشهر في سجنه، رفضت رسالة الطعام التي أخذتها له عند بوابة السجن، فخيل إلي أني أرى شريطا سينمائيا مليئا بالفظائع مرة ثانية بعد أن رأيته بعينه فيما مضى، ذهبت إلى نافذة أخرى وطلبت مقابلة الرئيس، فوقفت أنتظر ساعتين أخذت بعدهما إلى مكتب الرفيق «ت» الذي كان فيما سبق عونا من أعوان رئيس الشرطة السياسية في «خاركوف»، وهو رجل طويل وسيم أشقر، يدل جسمه على أنه ينعم بغذاء جيد، وكان السحر يشع منه.
قال إذ صافحني وقدم لي مقعدا في شهامة الرجال: «آه، لقد كنت أتوقع منك زيارة، وما أحب إلى نفسي أن تزورني جميل الغانيات، هذا فضلا عن تقرير واف جاءني عنك من مكتبنا الرئيسي في «كيف»، ويؤسفني أن نتلاقى في مثل هذه ال... ماذا أقول؟ أأقول هذه الظروف الرسمية؟ ومع ذلك فأنا مغتبط لهذه الفرصة السعيدة.»
فأجبته: «هل تعني أنك دبرت الفرصة تدبيرا برفضك قبول رسالة الطعام التي أتيت بها إلى زوجي؟» - «أرفضوا حقا أن يأخذوا منك رسالة الطعام؟ يا لهم من حمقى آثمين! سأنظر في الأمر من فوري.»
وضغط على زر فدخل ضابط أنيق، وأمره أن تؤخذ رسائل الطعام التي آتي بها لزوجي، ثم خرج الضابط. - «صدقيني يا «إلينا بتروفنا» إذا ما قلت: إني آسف لهذا الشتاء الذي تتعاورك أسبابه، ولكني مع ذلك أرى الأمر مرهونا باختيارك، ولعلك تعلمين أن ما عرض عليك في «كيف» منذ عامين لا زال قائما، فنحن رجال الشرطة نفي بوعودنا.»
فأجبته: «لماذا سجنتم زوجي؟ إنك تعلم كما أعلم أنا أن زوجي بريء، ولو كان لك أم أو أخت لأخذتك الشفقة علي، ليس في مقدوري أن أتجسس لكم؛ لأن التجسس ليس من خلقي، وإن الموت لخير لي منه، لكني مستعدة أن أعمل أي شيء تريدون مني غير ذلك إنقاذا لزوجي؛ لأني كلما تصورت آلامه مادت بي الأرض.»
ومضيت في الكلام لا أسكت، فأقول وأعيد ما أقول مرات، أتوسل مرة وأتهم مرة، وجعل هو ينصت إلى قولي في صبر جميل، حتى إذا ما أرهقني الكلام إرهاقا لم أستطع معه الاسترسال فيه، دنا مني وربت على كتفي تربيتا توشك ألا تجده إلا من والد.
قال: «إن الحياة قاسية يا «إلينا بتروفنا»، وإذن فلا بد للإنسان أن يواجه الواقع، وواجبك أن تفكري في نفسك أولا، ففيم هذا العناء؟ لماذا ترفضين العمل معنا؟» - «إذن فاسمع لماذا، فقتل أبي البريء سبب لهذا، وقتل ألوف الناس من أمثاله ألوف من الأسباب كذلك، ولن أحمل ضميري عبء ما تسفحه سائر الزوجات والأمهات من دماء وعبرات حتى ولو كانت الغاية سلامة زوجي، هذا هو السبب.»
قال: «أفهم جزعك هذا من الدماء والعبرات، لكن كوني عاقلة ما استطعت، فلن نكلفك أعمالا تؤدي إلى دماء ودموع، وكل ما نطلبه هو أن تعملي مع الأجانب، فبلادنا تحيط بها ضباع الرأسماليين التي تعوي رجاء أن تثور الثورة وتنسفح الدماء، ولست أبغي عليك الآن ضغطا، لكنك إذا ما غيرت من رأيك فأنا رهن إشارتك في كل وقت، إن أباك قد مات ويستحيل لما فات أن يعود، لكن زوجك لا يزال يحتاج إلى نجاة، ونجاته متوقفة عليك لا علي.»
ومع ذلك فقد وعد أن تصل إلى «سرجي» ما أبعثه إليه من رسائل الطعام، حتى يقضى في أمره بصورة رسمية وينفى، ولم يمض بعد ذلك إلا أسابيع قلائل حتى أنبئت أن قد حكم عليه بعشر سنوات ينفقها في عمل شاق بمعسكر من معسكرات الاعتقال في جبال أورال.
لبثت أمدا طويلا أحارب في نفسي إغراء الالتحاق بالشرطة السرية، وكنت أكابد الشوق إلى «سرجي» وكان الكفاح قد نال مني فأجهدني، فلماذا أسبح في الخيال على نحو ما فعل دون كيشوت ما دام العصر الذي أعيش فيه يسوده الباطل والإجحاف؟ وكم من مرة صممت أن أخطو الخطوة القاضية، لكني في كل مرة كنت أسمع في اللحظة الأخيرة صوتا في طوية نفسي، صوتا أعمق جذورا من أن يجد عند العقل تعليله، كنت أسمع هذا الصوت يقول: «لا، لا ينبغي لك أن تفعلي.» إن فكرة التجسس، التي من شأنها أن تتظاهري بالصداقة لمن تدبرين له أن ينتهي إلى الموت، كانت تثير في نفسي امتعاضا، حتى لقد أصابتني بالعلة في جسدي.
وظللت نحو عام كامل أبعث بالرجاء في إثر الرجاء إلى نواح مختلفة من الحكومة، طالبة أن يعاد النظر في قضية زوجي، وبالطبع لم يثمر رجائي، ثم حدث بعد ذلك حادث، وذلك أني كنت أزور معرضا من معارض التصوير الأوكراني مع صديق صادقته أيام الطلب في مدرسة الفن الجميل، وإذا أنا أرى وسط الزحام الرفيق «ت» وفي صحبته امرأة رائعة الجمال، وأدركت من موقفه إزاءها أنه كان في قبضتها ولم تكن هي في قبضته، فجعلت أرقبهما في اهتمام فوجدتها رعناء ووجدته مصغيا لها مطيعا كأنما هو غلام أحب وهجره الحبيب.
إذن فها هو ذا موظف الشرطة السياسية الذي لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا، والذي في يده تصريف القضاء لعشرات الألوف، ها هو ذا ينساق كالشاة لامرأة وضاءة المحيا! فلعل هذا التناقض فيما رأيت قد أوحى إلي بما أوحى، ولقد بدت لي الفكرة الطارئة شديدة الغرابة والشذوذ، لكني صممت على تنفيذها.
ولم يكن عسيرا علي أن أعلم من ذا تكون هذه الصديقة التي شهدتها مع الرفيق «ت»؛ فتعقبتها في محل سكنها وارتقبتها عند مدخل العمارة الجديدة التي كانت تسكن فيها، ثم تتبعتها إذ هي تصعد السلم، وبينا هي تحرك المفتاح في باب شقتها دنوت منها في شجاعة وبدأتها بالكلام.
قلت لها: «نشدتك الله يا سيدتي أن تأذني لي بالكلام معك بضع دقائق.»
أخذها مني الفزع أول الأمر، لكنها ما لبثت أن صوبت بصرها في وصعدت، حتى رأت - فيما يظهر - أنني لم أكن أريد بها الأذى. - «لست أدري ماذا تريدين، هيا فادخلي فلا يجمل بنا الوقوف ها هنا في الردهة.»
دخلنا غرفة استقبالها التي أثثتها بذوق ممتاز، وكان بها بيان في ركن من أركانها، ولقد بدت علي - فيما أرجح - علامات التعب والإعياء بعد ساعات وقفتها منتظرة في الطرق.
فقالت لي السيدة: «اخلعي معطفك يا ابنتي واجلسي، وسأصنع لك فنجانا من القهوة فأنت فيما تظهرين أقرب إلى الموتى منك إلى عالم الأحياء.»
وضعت يدها في يدي وجعلتها تصغي إلى قصة متاعبي، فرويت لها عن موت والدي وعناء أمي ونفي زوجي، وطلبت منها ما يعوزني من معونتها، ففي مقدورها أن تحصل لي من صديقها الضابط السياسي على إذن بزيارة زوجي، فلم يعد في يدي ما أقدمه لزوجي سوى الزيارة، وقد كان ألمي من العمق بحيث وجد إلى قلب السيدة سبيله، فأخذت هي الأخرى في البكاء.
سألتني أسئلة كثيرة ثم أخذت تذرع الغرفة المفروشة بالبسط جيئة وذهابا، مفكرة في أمري، وبينا هي في انتباهها الموزع جلست إلى بيانها تعزف بعض الألحان.
ثم قالت آخر الأمر: «إلينا بتروفنا، يؤسفني ألا أستطيع لك وعدا إلا وعدا ببذل ما أستطيع، وإنك بالطبع لتعلمين أنه لا ينبغي لك أن تذكري أمر هذه الزيارة بأي حال من الأحوال، لا تذكريها في حديثك معي في المسرة.»
وقبلتني قبلة حنان أدهشتني، فرجحت ألا تكون سعيدة، بل ألا تكون مستمتعة بحياتها الدنيوية، كما يبدو عليها، وذهبت إلى الكنيسة ذلك المساء وأخذت أدعو الله دعاء طويلا، فعلى الرغم من أني لا أومن بالله يا فيتيا، فإني إذا ما حزبني الأمر تراني أنقلب على عقبي إلى ما نشأت عليه في طفولتي، ومهما يكن من أمر فقد دعوت الله في إخلاص كما يدعوه المؤمن، ثم تلفنت معشوقة «ت» فعلمت منها أن دعوتي قد أجيبت، وطلبت مني أن أذهب إليها من فوري، فلما وصلت إليها بكيت من فرحتي وقبلت يديها، فأمرتني أن أكتب طلبا رسميا آخر ألتمس فيه مقابلة زوجي، وأكدت لي أن طلبي مجاب هذه المرة، أما عن حقيقة أمرها هي فلم تفصح لي بأكثر من التلميح. - «الحياة هي الحياة يا إلينا بتروفنا، لقد مضى علي عهد لم يكن فيه العيش مترفا كالذي ترين الآن من ترف، لكني كنت إذ ذاك أسعد مني الآن بكثير، فلا أقل من أن أنعم لحظة قصيرة حين أعلم أنني استطعت أن أخفف قليلا من عبء الشقاء عنك وزوجك، إنه لمما يشرح الصدر أن أصنع الخير مرة على سبيل التغيير من مجرى الأمور المألوف، ورجائي ألا تذكري أبدا أننا التقينا، لا ينبغي لك أن تتلفني إلي مرة أخرى، أو أن تظهري بمعرفتك لي إذا ما رأيتني.»
وهكذا لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى كنت في القطار آخذة سمتي نحو جبال الأورال، وحملت معي حزمات كبيرة، إذ أنفقت كل ما أملك من مال لأشتري طعاما وثيابا تحتية من الصوف، وأحذية وتبغا، وصور لي الخيال لقاءنا وفرحة «سرجي» ووجهه المشرق وما سنقضيه معا في سعادة من لحظات قصار، فلما جاوز القطار «سفرد لوفسك» نزلت في محطة صغيرة، وكان مطر من مطر الخريف يتساقط، ولاح لي كأنما هبطت في ذلك المكان، عالما من قذر ووحل عميق، وكان معسكر الاعتقال يبعد أميالا عن محطة السكة الحديدية، ولبثت أحاول جهدي مع فلاح لعلي أستميله فيركبني عربته إلى هناك، وسارت بنا العربة ساعات بين غابات كثيفة وصخور وعرة، حتى بلغنا في نهاية الأمر نجدا فسيحا مكشوفا تحيط به أسوار عالية من الأسلاك الشائكة.
ورأيت وراء الأسوار صفوفا مديدة من الثكنات بنوافذها الضئيلة ذات القضبان، كما رأيت الحراس منبثين في أرجاء المكان وبينهم طائفة يتبعها كلاب في وجوهها علائم الشر، وبينا أنا واقفة أمام البوابة تحت المطر أنتظر الإذن بالدخول، جاءت فرقة يقرب عددها من ثلاثمائة سجين، جاءت تسير رباع رباع عائدة من الغابة إلى المعسكر، ولم أكن شهدت في حياتي قبل ذاك ناسا من البشر قد بلغ بهم ما بلغ بهؤلاء من مهانة وتهافت، فما رأيت فيهم رجالا لكني رأيت أشباحا للرجال، رأيت صورا شائهة لآدميين تسترهم هلاهل وتنفر من رؤيتهم العين، طالت لحاهم وذوت أجسادهم وأخذوا يشدون أقدامهم شدا خلال الوحل في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل يوم ذاقوا فيه طعم الموت من نصب وإعياء، وكيف لي يا «فيتيا» أن أجد ألفاظا تعبر لك عن بؤس ما شهدت لتشعر بما شعرت؟
ودخلت غرفة الحراسة فقدمت أوراقي وجاء ضابط فسألني أسئلة كثيرة ثم أمر امرأة حارسة أن تفتشني، فلم تبحث في ثيابي فقط بل بحثت في جسدي كذلك، وأخذوا ما كان معي من أقلام وأوراق، بل أخذوا مقصا صغيرا لأظفار اليد كان في حقيبتي، وبعد ذلك كله لم يأذنوا لي بأخذ ما معي من لفائف الطعام، وكل ما سمحوا بإدخاله هو التبغ والسجائر والصابون.
صاح الضابط في وجهي قائلا: «أيتها المواطنة، ليس هذا المكان مصيفا ولا مصحة يرتادها المستشفون، فيكفيهم ما نعطيهم إياه من طعام وثياب، إنهم أعداء الدولة.»
جلسنا في الغرفة الصغيرة القذرة انتظارا ل «سرجي» فرأيت على الجدران صورة عليها بقع من الذباب ل «ستالين» و«دزرزنسكي» و«ياجودا»، كما رأيت شريطا مهلهلا من قماشة راية كتب عليه «البعث عن طريق العمل»، ظللت أرقب من النافذة فما لبثت أن شهدت رجلا كهلا نحيلا يدنو من الغرفة ووراءه حارس شهر مسدسه، وكان الرجل ذا لحية مشعثة بيضاء ورأسه يشتعل بالشيب، كما كان جسده ذاويا يفزع الرائي لرؤيته وعلى إحدى عينيه رباط من خرقة قذرة، وبالجملة كان كأنما خرج لتوه من أرض العذاب، فتحرك قلبي لهذا المخلوق الذي يبعث في النفس الحزن ودرت ببصري نحو الضابط.
قلت: «هل ترى أيها الرفيق ذلك الرجل الكهل؟ أرجوك أن تعطيه هذه العلبة من السجائر.»
كان ذلك كل ما أستطيعه لأعبر به عن عطفي على ذلك المسكين، فانفجر الضابط مقهقها وأخذ يضرب فخذه بكفه من فرط السرور. - «جميل والله! أتسخرين مني أم أنك حقا لا تعرفين زوجك إذا ما رأيته؟»
فجمدت من الجزع، وانفتح الباب ودخل الكهل، فلما أن دنا مني تبينت أنه «سرجي» حقيقة، لكنه محطم مسن يوشك ألا يكون إنسانا من البشر، كيف أصدق هذا الذي أرى؟ لكني ذهبت إليه وضممته بذراعي وهمست قائلة: «سريوزا يا حبيبي، سريوزا يا مسكين.»
نظر إلي مشدوها وارتجف بالعاطفة وجهه الذي شاه من العذاب، وما هو إلا أن جثا على ركبتيه وأخذ ينهنه بالبكاء ويقبل ثوبي وركبتي ويدي، فهدأت من نفسه وأجلسته على الدكة بجواري، وكان ما سمح لي به عشر دقائق لا تزيد، بعد رحلة قطعت بها نصف البلاد الروسية، وأنذرونا ألا يدور بيننا حديث في غير الشئون الخاصة، فما كدنا نأخذ في الحديث حتى صاح بنا صائح: «انتهى الزمن، بقيت دقيقة واحدة للوداع.»
همس لي «سرجي» المسكين: «إلينا يا عزيزتي، أنقذيني لو كان ذلك في حدود المستطاع، الحياة هنا أبشع مما يصوره الخيال لكائن من كان خارج هذا المكان، إنها أسوأ مما كان يصوره لي الوهم، إنهم يعاملوننا معاملة العجماوات لا معاملة الآدميين، ويلقى المسجونون حتوفهم كل يوم كأنهم الذباب، هم يضربوننا ويميتوننا من جوع، «إلينا!» «إلينا» أنقذيني، يستحيل أن ينقضي علي عام آخر في هذا الجحيم وأنا حي من الأحياء.»
فصاح به الحارس: «اسكت يا وغد!»
وعدته أن أبذل وسعي، وعدت إلى خاركوف يملأ ناظري هذا المشهد المؤلم لحطام إنسان كان فيما مضى زوجي، وها هنا زال عني كل أثر للتردد، فما كان لي أن أدعه هناك لأشبع كبريائي وأنقذ ما لي من طهارة الأخلاق، فذهبت إلى الرفيق «ت» وتمت بيننا الصفقة، قبلت عبودية الشرطة السرية ثمنا أشتري به حرية «سرجي». - «أؤكد لك تأكيدا تؤيده كلمة الشرف أقولها بنفسي، إنك يا «إلينا بتروفنا» لن تكلفي عملا مما عسى أن يؤدي إلى «دماء ودموع» - على حد تعبيرك ذات يوم - لكنك لقاء ذلك ستدفعين حياتك ثمنا إذا ما كشفت لأحد بأقل تلميح عن علاقتك بنا.»
فأجبته قائلة: «ضع دائما نصب عينيك أنني لن أنقذ زوجي بحيث أبعث بزوج امرأة أخرى أو أبيها أو أخيها إلى مثل هذا القضاء، إنك لتعلم علم اليقين أن «سرجي» بريء وأن الكثرة الغالبة ممن زج بهم في ذلك المأزق الجهنمي أبرياء، وسآذن لك بقتلي قبل أن آذن لنفسي بالمساهمة في مثل هذا الظلم الصارخ، وكذلك أحتفظ لنفسي بحق الخروج من هذا العمل حين أشاء، ولا بد أن آخذ تعهدا مكتوبا بذلك.» - «أقدر ما تقولين، وها أنا ذا قد أعطيتك وعدا بذلك أصونه بشرفي، لكنني لا أستطيع أن أتعهد لك بشيء مكتوب، ثقي بصدق وعدي، فسيكون لك حق الانسحاب، والآن فلنوقع الصفقة بيننا، فخذي هذه الاستمارة واملئيها.»
كان ما أعطانيه قائمة بأسئلة تملأ عشر صفحات لم تدع شيئا عن حياتي وآرائي وعن حياة أقربائي وأصدقائي وآرائهم إلا سئلت عنه، جلست أجيب عن أسئلتها فترة طويلة ثم وقعتها بعد أن فرغت منها، ففحصها مساعد رئيس الشرطة السرية الرفيق «ت» وكتب على هامشها بعض ملاحظات ثم حفظها في خزانته وارتدي معطفا وقبعة مدنيين وغادرنا مكتب الإدارة معا.
وركبنا سيارة بلغت بنا موضعا يبعد عن «فندق السائحين» بضع عمارات، حيث نزلنا.
قال: «سأسبقك مفردا، وعليك أن تتبعيني بعد ثلاث دقائق لا تقل ولا تزيد، واصعدي إلى الطابق الخامس من الفندق «وذكر لي رقم الغرفة» سأكون هناك في انتظارك ولا تظهري هكذا بمظهر المأخوذ، فأنا الآن ضابط من الشرطة السرية لا إنسان من الناس فلا حاجة بك إلى الجزع.»
وبعد دقائق كنا معا في الغرفة المعينة، ولما طرق الباب خادم الفندق بما جاء به من طعام ونبيذ، اختفيت في غرفة مجاورة فهنأني رئيسي بعد أن عاد الخادم: «ما أذكاك من فتاة! لكن الفطنة ها هنا ليست بذات نفع كبير؛ لأن كل من يعمل في فنادق السائحين من مدير الفندق فنازلا إلى الخادمة التي تمسح الأرض من أعوان الشرطة السرية.»
وإذ كنا نتناول العشاء، أخذ يرشدني بتعليماته الأولى، ويلقي علي درسا سريعا في أساليب الشرطة السرية.
وقال يشرح موقفه إزائي: «يؤسفني أن أقول: إنك لن تعملي معي في الوقت الحاضر، لكن سيأتي يوم - بعد عودتك إلى خاركوف - يتاح فيه لنا معا أن نفعل الأعاجيب.» - «إلى أين أنا ذاهبة أول الأمر؟» - «ستمكثين في خاركوف بضعة أشهر، إذ لا مندوحة لك عن تعلم شيء كثير، ثم سنبعث بك إلى «دنيبروبتروفسك» وهو بلد جميل، يجتمع فيه كثير من الأجانب بسبب الخزان الكبير هناك وبناء المصانع وغير ذلك من الأعمال القائمة، وستجدين بين هؤلاء الأجانب مهندسين من أمريكا وإخصائيين من ألمانيا، فواجبنا هنالك كبير، وأحب أن تعلمي أنني أوصيت بك بنفسي، فأصبحت بهذا مسئولا عنك، فلو انحرفت عن جادة الصواب بشيء من الألاعيب وقع اللوم على عاتقي، وربما ظننت أنك في قبضة يدي، لكن حقيقة الأمر على عكس ذلك يا عزيزتي، فأنا الآن تحت سلطانك، وسنغفر لك كل زلة تصدرين فيها عن طوية سليمة، أما إذا حاولت خداعنا أو حاولت «الانحراف إلى اليسار» - كما يقولون - كان الله في عونك حينئذ، نعم أنا الآن تحت سلطانك، وذلك هو ما جعلني أوثر الآن أن أتحدث إليك على هذا النحو الودي الصريح.»
قلت: «ها أنا ذا أصغي إليك.» - «أول ما أسديه إليك من نصح يا «إلينا بتروفنا» هو أن تدربي ذاكرتك وخصوصا فيما يختص بالوجوه، لا تكتبي شيئا، بل أمسكي كل شيء على صفحة الذهن بحيث لا يفلت، وذلك شيء يستفاد بالتدريب، فالأوراق والمذكرات لها خطورتها، فاحفظي عن ظهر قلب ما تحسين الحاجة إليه: الأسماء والعنوانات وأرقام التليفون والوقائع، إن أداتك الأولى هي الذاكرة.
ولغاتك الأجنبية استخدميها، فهي كذلك أدوات نافعة، وكذلك جمالك، فأنت من أشد النساء اللائي يخدمننا فتنة، وجانب من مهمتك الرسمية أن تحتفظي لنفسك بهذه الفتنة، فلا تقتري على نفسك في شراء الثياب ومساحيق الزينة، فهذه ألوان من الإنفاق لها من الأسباب ما يبررها.
وسيحدث لك أن تلتقي حينا بعد حين بسواك ممن يعمل في خدمتنا، فلا تثقي بأي منهم ولا تنبسي ببنت شفة مما قد يدل على طبيعة مهمتك مهما يكن ذلك على سبيل السياق العابر، وإذا دعت الحال أن تعملي مع غيرك من أعضاء الشرطة السرية في إنجاز مهمة واحدة اتبعي الأوامر فيما يخص الجانب الذي عهد إليك به، مهما بدا لك أنها أوامر سخيفة، فليست التبعة الملقاة عليك إلا هذا.
ونصيحة أخرى يا عزيزتي لها قيمتها، لا تقبلي قط شرابا إلا إذا صب في حضرتك وإلا إذا شرب منه المضيف أولا، ولا ترتبطي بصلات الصداقة مع أي رجل في خدمة الشرطة السرية إلا إذا وافق رئيسك موافقة صريحة على هذه الصلات، وبلغي أول الأمر عن كل صلة تنشأ بينك وبين كائن من كان، مهما بدت لك هذه الصلة تافهة وعابرة، وسيكون لك الحق في الانتفاع بالدكاكين الخاصة بنا وفي قسائم تبيح لك من الطعام والثياب قدرا أكثر مما يصيب سائر أبناء الوطن، فالقائمون على حراسة الوطن حتى يكون بمنجاة من العدوان لا ينبغي أن ينقصهم شيء، والآن فأنت واحدة منا.»
فقاطعته قائلة: «أريد سؤالا واحدا آخر، متي يعود زوجي إلى داره؟» - «لا عليك، فنحن لا نخلف الوعد، سنعطيه وظيفة طيبة في «دنيبروبتروفسك» وستكونين أنت مهندسة معمارية.»
وعاد «سرجي» بالفعل بعد ما يقرب من شهرين، وإنه لرجل عاقل طيب القلب، فهو يعلم أنني لا أكن له سوى الإشفاق، أما الحب القلبي بمعنى الكلمة القديم، فلم يكن له بيننا وجود، ولعل النظام السوفيتي هو الذي قتل فينا مثل هذه الرابطة، لم يسألني قط كيف استطعت إنقاذه، ومن يدري؟ لعل ما يتوهمه في ذلك من شكوك أشد بشاعة من الواقع على ما اتصف به ذلك الواقع من سواد.
ألا ما أفظع هذا القرار الذي أخذت به نفسي آخر الأمر، لكنك يا «فيتيا» لو رأيت معسكر الاعتقال، وما انتاب «سرجي» من تحول مخيف؛ لعرفت لماذا استسلمت في النهاية بعد أعوام من الإباء، وما أنا إلا واحدة من ألوف أجبروا على هذا النحو أن ينفذوا أوامر الشرطة السرية، ولا يتصل عضو بعضو من هذه الألوف، فيستحيل على أحد منا أن يرى أحدا في الدار التي رأيتني فيها، فكل منا يساق إلى غرفة وحده بحيث يستحيل أن يرى أحد أحدا حتى بالمصادفة، ومع ذلك فقد صادفت بعض هؤلاء الناس خلال أداء مهمتي، وإن من بينهم لزوجات لكبار الموظفين وأعلام الرجال بصفة عامة.
فأحيانا تقع الواحدة منهن في الفخ لضعف حيلتها فتقبل العمل تحت شيء من الوعيد، وأحيانا يغري رجال الشرطة السرية بعض هؤلاء النساء بفعل السوء وبعدئذ يضطرونهن إلى العمل معهم وإلا وشوا بفساد سيرتهن إلى أزواجهن، وأعتقد أنه كثيرا ما يتهم بعض هؤلاء بجرائم لم يقترفنها، فتصاغ هذه الجرائم على نحو محبوك بحيث يستحيل على أزواجهن أن يشكوا في إثمهن، فتراهن لهذا يستسلمن مجبرات، فهنالك من أقذر الأساليب مئات وألوف لينشئوا جيش الجاسوسية يا «فيتيا»، وقليلات جدا أولئك اللائي يعملن هذا العمل لمال أو لسلطان؛ إذ العادة أن يتم الأمر تحت ضغط لا يقاوم، فالقصة كما ترى مليئة بألوان الوحشية وصنوف البشاعة.» - «وإذن فهذا سبب قدومك إلى «دنيبروبتروفسك» يا إلينا؟» - «نعم يا «فيتيا»، وهذا هو سبيل لقائي بك بعد نحو شهر من قدومي من خاركوف، ولقد بلغت عن صلتي بك، فلم يكن أمامي في ذلك سبيل للاختيار، لكني لم أذكر شيئا أكثر من مجرد الصلة، أي حبيبي فيتيا.» - «وهل قال لك رؤساؤك شيئا عني؟» - «بالطبع، لكنهم لم يقولوا شيئا يسيء، فصحيفتك فيما يظهر نقية من الشوائب في الجانب الذي يعنيهم، أما تزال دهشا جازعا لاشتغالي بالتجسس؟» - «نعم، إذا أردت أن أكون صادقا فلا بد لي من زمن ينقضي حتى تتهيأ نفسي لهذه الصدمة.» - «ومع ذلك يا «فيتيا» فأنت شيوعي، وواجبك على هذا الاعتبار أن تبلغ كل شيء مما عسى أن يكون ضارا بالحزب، سواء أرضيت ذلك أم كرهت، فهل ترى من فارق كبير بين هؤلاء الملايين من الجواسيس المختارين وبين أولئك الذين اضطروا اضطرارا أن يتجسسوا؟ أليس كلانا مصيدا في الشبكة القذرة بعينها؟» - «إن فيما تقولين شيئا من الصدق، وإن تكن الموازنة - ماذا أقول؟ - ساذجة، فالواقع أن كلانا يدفع الأذى عن نظامنا السياسي، سواء أكان ذلك كرها أم طواعية.» - «أما وقد جازفت يا حبيبي فأنبأتك بقصتي، فقد باتت حياتي في يديك، فإذا أردت أن تكون شيوعيا صالحا؛ وجب عليك أن تكاشف أولي الأمر بما سمعت، ومع ذلك فلست أرتاب لحظة واحدة في أنك لن تفعل ذلك، وما أهون علي أن أذهب إلى أقصى الأرض لأنجو من فخاخ الشرطة السرية، لكن هذه الشرطة السرية متناولها بعيد المدى، فلا مفر منها إلا بالموت، ولكم فكرت في الانتحار على أنه الوسيلة التي لا وسيلة سواها للخلاص.
فيتيا يا حبيبي كن على حذر، فنحن نعيش في بلاد كل من يحيط بنا من أهلها يلبس قناعا، فلا تثق بإنسان كائنا من كان بحيث تسر له بمكنون نفسك، ولست أقصر حديثي على البوابين والمتسمعين خلال ثقوب الأبواب، إنما أعني أكثر الناس في هذا البلد احتراما، فطريق السلامة الوحيد هو في افتراض أن الناس جميعا بغير استثناء ينقلون الأخبار ثم ينقلونها وينقلونها ... أواه يا «فيتيا» لقد بلغ مني الإعياء واليأس مبلغا عظيما، وسأظل على حبك حتى لو نبذتني نبذ النواة.»
فقلت في انفعال عاطفي إزاء هذه الفتاة التي وقعت في الشرك: «إلينا أمسكي عن هذا الهراء، إنه ليشقيني الآن شيء واحد، وذلك أني عاجز عن معونتك، فكم يثير صدر الرجل أن يرى نفسه عاجزا عن مساعدة المرأة التي يحب.»
فقالت إلينا: «هيا نسبح فتذكري لما انتابني من صعاب يجعلني أحس كأنما تلزج مني الجسد.»
كان الماء دفئا، وسبحنا في الظلام وتحت المطر، وسط لمعات من البرق وقرقعة من الرعد، نعم إن ذلك الفعل منا جاء دليلا على شيء من الحماقة وعدم الحرص، لكنني رأيت السباحة عندئذ ضرورة لكي أزيل بالماء بشاعة القصة التي روت، ثم حملتها خارج الماء حيث وضعتها في حظيرة السماك ونشفت جسدها كأنها الطفل، ولففتها في مخدع من الدريس العاطر، ولما كانت منهكة بما تحرك في نفسها من انفعالات خلال ذلك اليوم العجيب، فقد استغرقت في النعاس من فورها.
ولما أصبح الصباح عدنا بالقطار إلى المدينة.
وهمست في أذني قائلة: «الحق يا «فيتيا» أني أحس الآن خيرا مما كنت وأنقى مما كنت، ما دام هذا السر المخيف قد ارتفع من بيننا، فلو دمت على حبك إياي فسأكون بذلك أسعد مني في أي لحظة مما مضى.»
وبعد ذلك بأسابيع قليلة ذهبت «إلينا» إلى «كيف» لزيارة أمها حيث لحقت بها، وذات نهار مشمس قصدنا معا إلى المقابر، وهنالك اقتلعت الأعشاب عن قبر أبيها وزينته بالورود، وكنت قد أحضرت معي علبة من الطلاء فطليت الحاجز الذي يحيط بالقبر والصليب الحديدي الذي يقوم عند طرفه، وأما «إلينا» فلم تبك بل أخذت تقص لي عن أبيها وعن طفولتها السعيدة بينا كنت أنا أقوم بعملية الطلاء.
قالت لي إذ نحن في الطريق عائدين إلى الدار: «لو علمت الشرطة السرية يا فيتيا أنك زينت القبر لألقت عليك القبض، فإنه من الخطر أن تبدي شعورا طيبا نحو أبي المسكين البريء حتى بعد موته، لكن هذا العمل الإنساني الذي قمت به على ضآلته قد زادني شغفا بك.»
فقلت: «إذن فالعمل جدير بأن أخاطر في سبيله.» - «لكن ألا يقلقك مثل هذا العمل باعتبارك شيوعيا مخلصا؟» - «كلا، إنه لا يثير في نفسي قلقا، وربما كنت شيوعيا مخلصا بغير هذا المعنى.»
وذهبنا معا إلى متنزه في «كيف»، وكانت هنالك جوقة موسيقية تعزف في الحديقة التي كانت تسمى فيما مضى بحديقة القيصر، وكانت الأغنية الشائعة عندئذ نغمة سخيفة تمجد «الحياة المرحة السعيدة» التي يحياها أبناء السوفيت، ونظر كلانا - إلينا وأنا - كل إلى عيني زميله، وكان حسبنا النظرة عن كلمات نتبادل بها ما يدور في رأسينا من خواطر.
الفصل الثاني عشر
مهندس في نيقوبول
كانت الفرقة النهائية في معهدنا تعد نفسها للامتحان الختامي في شيء من القلق، وكان من شروط الحصول على الإجازة الدراسية أن يتقدم الطالب بمشروع هندسي توافق عليه لجنة حكومية، وقد بذلت مجهودا لا يعرف التراخي حتى أعددت مشروعي، وكان علينا بالإضافة إلى ذلك أن ننفق بعض الوقت في مصانع صهر المعادن على سبيل التدريب، وأكثر ما كنا في حاجة إليه هو قليل من طمأنينة النفس، وراحة مؤقتة من شئون السياسة، لكن أبى علينا القدر هذا المطلب؛ فجاءت تلك الأشهر الأخيرة مليئة بالأحداث السياسية.
فلم تعرف حياتنا العلمية في المعهد إلا قليلا من الهدوء، ذلك على أحسن الفروض، فما كنا نكلف به من أعمال خارج المعهد، وما كانت تفعله بنا حركات التطهير، قد امتص نشاطنا امتصاصا، حتى لقد كان يبدو لنا أحيانا أن الدراسة لم تكن إلا وجها إضافيا من أوجه النشاط التي نقوم بها ، وها نحن أولاء نحرم حتى هذا الهدوء القليل الذي بقي لنا بعد ذلك كله، وذلك أنه في مستهل ديسمبر عام 1934م أطلقت رصاصة من مسدس في «لننجراد» البعيدة عنا، لكنها أصابت حياتنا في «دنيبروبتروفسك» إصابة زلزلتها من أساسها.
أطلقت تلك الرصاصة في دهليز البناء الذي كان فيما مضى «معهد سمولني» والذي هو الآن مقر رياسة الحزب في لننجراد، وأطلق الرصاصة شاب شيوعي يدعى «نيقولاييف»؛ فأصابت «سرجي كيروف» الذي كان عضوا في الهيئة السياسية العليا والمشرف الحقيقي على الجزء الشمالي من روسيا، فسقط صريعا عند قدمي «نيقولاييف»، ولبثت أصداء تلك الطلقة تتردد في الأرجاء أعواما طوالا، وقبل أن تسكن تلك الأصداء لاقى مئات الألوف من الناس ما لاقوا من عناء وموت، وشقيت أنا أعواما دفعتها ثمنا لتلك الفعلة الإرهابية التي اقترفتها يد شاب مجهول.
جاء «ستالين» ومعه «فوروشيلوف» مسرعين إلى لننجراد، وشاعت في دوائر الحزب أخبار تنبئ بأن «ستالين» أشرف بنفسه على استجواب «نيقولاييف» استجوابا بلغ من الدقة حدا بعيدا، وبالطبع لم يعلم أحد خارج هيئة المحاكمة بما علمه «ستالين» من المتهم، لكن سلوكه فيما بعد نهض دليلا على أن «ستالين» فزع لما سمع فزعا بلغ به حد الجزع.
وقبض على مئات ممن حامت حولهم الشبهة في لننجراد، وقتلوا رميا بالرصاص في حينهم بغير محاكمة، وسيق مئات آخرون من أعماق السجون التي زجوا فيها لأعوام خلون، ثم أعدموا رمزا من الحكومة على انتقامها من أعداء الحزب، وغصت سجون الأقاليم بداخليها، وحملت قطارات البضاعة ألوفا وألوفا من «العناصر الدخيلة من الوجهة السياسية» حيث خرجت بهم من المدينة إلى مطارح النفي النائية، ثم امتد هذا الإرهاب حتى شمل موسكو وكيف وخاركوف، وأخيرا طفت موجته على البلاد بأسرها.
وكان أول ما أذيع من أخبار موت «كيروف» هو أن القاتل كان أداة في أيدي طائفة من الأجانب الأنذال من أستونيا وبولندا وألمانيا ثم من بريطانيا، وبعدئذ تتابعت التقارير الرسمية معلنة أن «نيقولاييف» كان يرتبط على نحو غامض بأتباع - حاضرين وسابقين - «لتروتسكي» و«زينوفييف» و«كامينيف» وغيرهم من البلاشفة القدامى الذين خرجوا على الحزب، وأخذت في كل ساعة تقريبا، تتسع دائرة الذين فرضت فيهم صلة بالأمر على نحو مباشر أو من الوجهة «المعنوية» حتى شملت تلك الدائرة كل إنسان حدث له يوما أن أثار أدنى الشكوك في سياسة ستالين.
وأطلق للدعاوة حبلها على الغارب، كأنما نسي الزعماء ونسيت صحافتهم ما كانوا يفاخرون به أمس القريب من أن الحزب قد أصبح موحد العقيدة على نحو لم يسبق له مثيل، فراحوا الآن يصرخون صرخات الهوس بأن الحزب قد اندس فيه الخونة والمنشقون والمخادعون والمخربون، وكنت تسمع تلميحا منذرا بالسوء آنا بعد آن بوجود مؤامرات وتدبيرات في الخفاء، قد عقدت صلاتها بالعالم الرأسمالي الذي يأخذ أهبته لشن الحرب على الوطن السوفيتي، ومن كان منا ذا دراية يسيرة باتجاه الريح السياسية في البلاد أدرك أن إراقة الدماء إراقة على نطاق واسع كالذي عهده التاريخ على يدي جنكيز خان، كانت على وشك الوقوع، ولم نخطئ الحساب، إذ جاءت الأعوام القليلة التالية تحمل لنا في طيها أفظع حركة إرهابية حكومية شهدتها الروسيا في تاريخها كله.
وانتشرت الشائعة في دوائر الحزب بأن فعلة «نيقولاييف» لم تكن سياسية إطلاقا، وأنه إنما أطلق الرصاص على «كيروف» في ثورة من الغيرة؛ لأن «كيروف» قد أفسد عليه زوجته الجميلة، وتعاونت أمثال هذه الهمسات المحرفة مع وسائل الدعاوة المنظمة بحيث أحاطت الجريمة بالغموض والتخمين فلم تعرف حقيقتها حتى اليوم، وفي الوقت الملائم أصدرت اللجنة المركزية «خطابا سريا» قرئ في اجتماعات خاصة من أكثر أعضاء الحزب نشاطا في أرجاء البلاد كلها، وذلك بعد أن تعهد هؤلاء الأعضاء بكتمان الأمر سرا في صدورهم، وقد صور هذا الخطاب مقتل «كيروف» على أنه تعبير عن حركة بعيدة الغور يقاوم بها أنصارها من أعداء الثورة سياسة الحزب وزعماءه.
ومهما يكن من أمر العلة المباشرة أو الباعث البعيد الذي حفز «نيقولاييف» على إطلاق الرصاص، فقد كانت هذه الحادثة في رأي المفكرين من الشيوعيين علامة تدل على ما في النفوس من ضيق شديد دفين تحت سطح الحياة في بلادهم، ذلك السطح الذي يقوم على حراسته رجال الشرطة، فكل واحد منا كان يحس في طوية نفسه المرارة واليأس، وكانت تبلغ بنا الجرأة، أحيانا أن يكاشف بعضنا بعضا بتلك الوساوس على ألا تزيد جماعتنا عن اثنين أو ثلاثة، ولقد كان لا بد من مقتل رجل هو من أقرب المقربين لستالين، حتى نستيقظ لنعي أن كروبنا الخاصة إن هي إلا موجات من نهر عظيم من السخط تجري أمواهه تحت سطح الأرض دفاقة فتنفذ إلى صميم القلب في أمة كثيرة النفر.
كان كل شيء هادئا في الظاهر، فقد بطش بألسنة النقد من «المياسرة» ومن «الميامنة» على السواء، وسطع ستالين «شمسنا» في سمائه مطمئنا فوق حزب موحد النزعات، وأما الفلاحون فقد ألهبتهم السياط ليخضعوا على غيظ كظيم تحت ضغط البنادق والمجاعة، فلم تعد تسمع صوتا باحتجاج على حركة التحول الصناعي التي فتكت بحياتهم، وعلى ما يعانونه من قلة الطعام ومصاعب الحياة، وقبض الشرطة عليهم بنسبة عالية، هذا في الظاهر، أما في الباطن فقد كان كثيرون من أعضاء الحزب وأبناء الأمة يتميزون من غيظ، فتحت هذه الغفوة البادية من عدم المبالاة، وتحت طبقة رقيقة من اليأس الصامت، كانت تتأجج نيران الغضب الهائج كأنها حمم البراكين.
ينبغي أن يتبين العالم هذه الحقيقة في وضوح إنصافا للشعب الروسي، فقد كان هؤلاء الروس من شقاء العيش بحيث عجزوا عن النهوض، شلت فيهم الحركة عشرون عاما قضوها في حروب وثورات وقلة في الغذاء ومطاردات الاضطهاد، دوختهم أقوال الدعاوة وحيرتهم الأكاذيب، وقطعت الأسباب بينهم وبين العالم الخارجي، ومع ذلك كله لم يذعنوا قط عن رضى لفظائع حكامهم، وكان الشعور بالحرارة على أشده في الحزب نفسه؛ لأنها كانت ممزوجة في نفوس أعضائه بشعور الخطيئة، وكان يزيد من المرارة عند هؤلاء الأعضاء شعورهم بالعجز إزاء الحكام وما لهم من نفوذ وسلطان.
ولم يكن من قبيل المصادفات أن يكون «نيقولاييف» ومن اتهم معه بالاشتراك المباشر في جريمته جميعهم من الشباب الذين أخرجهم عهد السوفيت، وكانت كثرتهم الغالبة من الطلاب، لقد جرى التقليد بأن تكون المدارس العليا في الروسيا هي أوكار المذهب الثوري في صورته المثلى، فباتت هذه الصورة المثلى من المذهب تعد مناهضة للثورة، لكنها لم تزل على سابق عهدها لم تتحول.
لم يكن يغيب على أحد من الشيوعيين أن آلاف الطلاب قد قبض عليهم وأن مئات منهم قد قضي عليهم بالموت بعد مقتل «كيروف»، ومع ذلك لم تذكر الصحف من ذلك شيئا، فقد كان يكفي لتحريك الريبة في صدور الشرطة السرية أن يجتمع عدد من الطلبة في دار واحد منهم ليقضوا معا سهرة راقصة يسرون فيها عن نفوسهم.
فإذا ما فوجئنا في المعهد بغياب عدد من الطلاب لم يقع ذلك منا موقع الشذوذ في مجرى الحياة المألوف، ولا دعا أحدا منا إلى التساؤل، بل كنا نغضي عن عمد كأننا لم نلحظ شيئا، لكن قلوبنا كانت دائما تميل بعطفها نحو الزملاء الذين قبضتهم أيدي الشرطة، ولم يحدث قط أن كان هوانا مع الشرطة في ذلك، ولقد أخذ كل منا نفسه بأن يشدد الرقابة على لسانه؛ لأنه إذا ما انطلق بحديث صريح، كان معنى الصراحة هنا «عداوة للشيوعية».
كان ما أحسسته في نفسي من خيبة الرجاء أعمق مما أستطيع أن أصارح به نفسي، بله أن أصارح به الناس، ولهذا السبب عينه تجنبت المشاركة في المناقشات السياسية، لكنني إنسان من البشر، وروسي إلى أخمص القدم، فكنت أجد نفسي حينا بعد حين أفرط في الحديث مع أصدقاء وثقت فيهم، وبعدئذ كنت أقضي أسابيع في قلق وهم خشية أن يكون قد بلغ عني واحد من هؤلاء.
فلما وقع الاغتيال في لننجراد، اهتزت نفوس الطلاب اهتزاز الأمل الذي بعثه فيهم وهم الخيال، أفيكون هذا العمل الإرهابي تعبيرا عن حركة شعبية حقيقية؟ أيمكن أن تكون الشرطة السرية بكل ما لها من قوة قد فشلت في اقتلاع جذور المعارضة المستورة؟ فنحن بعد هذا كله لم نزل جزءا من أمة نشأت على ذكريات الحركات الثورية السرية والمؤامرات السياسية وقذف القنابل في سبيل الحرية.
لكن حادث الاغتيال قد بعث في نفوسنا إلى جانب الرجاء رعشة الخوف التي تغلغلت فينا إلى الصميم، فلم يكن لنا إزاءه محيص عن حركات تطهيرية أخرى، بل قد حدث بالفعل أن سارعت الهيئة الحاكمة إلى الإعلان عن نواياها، إذ أعلنت أن كل تذاكر الحزب لا بد من مراجعتها وتجديدها، ولم يطلقوا على الحركة المعتزمة اسم «التطهير» لكنها ستكون في حقيقة أمرها حركة محاكمات تعود إلينا من جديد قبل أن يكتمل عام واحد بعد حركة التطهير السياسية التي شملت أرجاء البلاد جميعا.
كان صديقي في الدراسة «م» واحدا من الشيوعيين القلائل الذين كنت أبيح لنفسي معهم أن أعلق برأي صريح على الشئون السياسية، فقد أحسسنا حالة نفسية مشتركة بيننا بثت فينا الجرأة كلما انفردنا معا، فلم يلبث «م» بعد موت «كيروف» أن دعاني للقاء طائفة من الأصدقاء في منزل «أندريه س» وهو طالب لم تكن قد توثقت بينه وبيني الصلات، «سنشرب الشاي ونشقق أطراف الحديث.» هكذا قال لي، لكنني ترددت في الذهاب؛ لأنني شممت رائحة الخطر في مثل هذه الدعوة العابرة، غير أن حب الاستطلاع من ناحية وحالتي العقلية المضطربة من ناحية أخرى جذباني في نهاية الأمر إلى الذهاب في الموعد المضروب.
كان «أندراي» مديد القامة شاحب اللون في نحو الثلاثين من عمره، سمح المحيا أزرق العينين غائرهما، وكان واسع الاطلاع ذرب اللسان حتى في الموضوعات التي لا توحي بالإفاضة في الحديث مثل مراحل صنع الصلب، فكان محبوبا من الجميع محترما من الجميع.
وجدت «م» في غرفة «أندراي» الصغيرة ذلك المساء، ومعه طالبان من معاهد غير معهدنا، وتحلقنا حول وعاء الشاي المتوهج في ضوء الغرفة الخافت الذي كان مصدره مصباحا واحدا صغيرا، وأخذنا نتنقل في الحديث على غير نهج مرسوم، نطوف حول الموضوع الذي كان يشغل عقولنا جميعا، دون أن نقع فيه، كأنما كان كل منا يسبر غور الآخرين، ولقد لحظت شيئا عجيبا وهو أن الحاضرين أخذوا ينادون بعضهم بعضا بأسماء زائفة، فكانت هذه الحقيقة وحدها كفيلة أن تصبغ جماعتنا بصبغة التآمر، وهي صبغة تشيع في النفس فزعا، لكنها في الوقت نفسه تغري بالمضي في الطريق، فاللعب بالنار عند كثير من الروس مما يخلب الألباب.
كنت حديث عهد بهذا الحديث السياسي الخطر، أما الآخرون فقد كانوا فيما يظهر يألفونه منذ بعيد، وما هو إلا أن نسينا ما اصطنعناه من حرص، وحمي النقاش بيننا رويدا رويدا في حادث اغتيال «كيروف» فاحتدت الأصوات تدريجا، وازدادت الأعين بريقا، وازددنا بفعل كلامنا التهابا، وأخذنا نتحدث عن «طاغية الكرملن» ونبدي علائم العطف على «الشعب الروسي المظلوم»، فخيل إلي على نحو ما أنني أعود بالذاكرة إلى حياة طفولتي من جديد؛ حيث كان يجتمع أبي مع أصدقائه الثائرين في دار استقبالنا المتفرعة من «طريق بوشكين» على نقاش سياسي محتدم في موضوع الظلم القيصري.
قال أندراي: «نحن نعتبر رصاصة» نيقولاييف بمثابة الفاتحة لانقلاب.» فرنت كلمة «نحن» هذه التي قالها رنين المنذر بالخطوب، ولم أدر قط من هؤلاء الذين يعنيهم بهذه الكلمة، «نعم إنها بمثابة الفاتحة لانقلاب، فقد كانت رصاصة لا تدعو إليها الضرورة ثم كانت مجلبة للأذى، فلا بد لستالين أن يلتمس ثغرة ينفذ من خلالها إلى مذبحة تطهيرية يشنها على فريق المنشقين من الحزب، وها هو ذا قد وجد الثغرة مهيأة، فلم يعد الأمر أمر «نيقولاييف» وحده، بل قضي الأمر فيه وفي أصدقائه جميعا، الموقف الآن هو أن عصبة الكرملن قد بات في يدها أقوى المبررات للإجهاز على نقدة الحزب ومعارضيه إجهازا لا يبقي منهم أحدا.» - «اذكروا قولي هذا يا رفاق، إن مئات الألوف، لا بل قد يبلغون ألوف الألوف، أولئك الذين سيدفعون الثمن لرصاصة «نيقولاييف»، لئن جاز لنا حتى الساعة أن نحلم بالحرية والديمقراطية تسودان الحزب، فهذا الحلم قد تقشع وزال، تقشع وزال، ها أنا ذا أعيدها لكم، لقد تبددت آخر ذرة من الأمل! إنه لن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!»
وأخذ يذرع الغرفة بخطاه وهو منفعل، وسرعان ما تأثرنا جميعا بانفعاله وجيشانه، وأحسسنا إحساس ركاب السفينة التي أخذت في الغرق، ودوامة الماء باتت قاب قوس من خياشيمهم، وسكت «أندراي» برهة ثم مال في ترنح المخمور، ومضى يقول: «كان «ستالين» و«فوروشيلوف» حاضرين حين كان «نيقولاييف» يسام العذاب، لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم ذلك يا رفاقي، لقد كانوا يريدون منه أسماء ناس، تتلوها أسماء وأسماء ... أرادوا منه أسماء ناس يكونون غذاء لسعير نيرانهم، وليس ما يهمنا الآن هو أي الأسماء قد اعتصرها المستجوبون من «نيقولاييف»، فهؤلاء سيكتبون تقريرهم على النحو الذي يشتهيه ستالين، كائنة ما كانت الأسماء، وبعدئذ تسيل الدماء دفاقة في هدوء، تستند إلى مبررات نظرية.»
كان أصغر عضو في جماعتنا طالبا ضئيل الجسم شاحبا، وما كان أجمله حين نهض فوقف فجأة بجسمه النحيل وأخذ ينشد مقطوعة من شعر «رايلييف»:
إني لأعلم أن الموت يرتقب
من يجعل من نفسه طليعة النهوض
ضد الطاغية الذي بغى بالشعب
وأعلم أن قد حم في القضاء
سأموت في سبيل وطني الحبيب
إني لأعلم ذلك وأحسه ...
وكأنما تبدلت سحنته وهو يقلص وجهه إذ هو ينشد هذه الكلمات، فبدا كأنه شخص من شخوص «دستويفسكي» أو «جوركي»، تلك الشخوص التي تعرفها في مناظر الثورة الرائعة من قصص هذين الكاتبين، بدا كأنه شخص من تلك الشخوص دبت فيه الحياة، وعلى الرغم من أن ما شهدته عندئذ كانت له في النفس روعة توحي بما توحي، فقد شعرت مع ذلك بأسف عميق إذ أبحت لنفسي أن أنساق إلى هذا الاجتماع، فقد كانت تسوده روح من السذاجة التي بلغت حدا توجست منه خيفة، ولم يكن في اتجاهه عمليا ولا مفيدا، لا بل إنني لم أفهم قط فيم انعقد هذا الاجتماع، ولقد حدث أن قرئ لنا فيه كتيب صغير صادرته الحكومة، بقلم رجل من أعلام المعارضين - هو «سلبكوف» - فطبعت منه نسخ على الآلة الكاتبة كهذه النسخة التي قرئت لنا، وكان فيها هجوم عنيف على طاغية الكرملن وعصابته، فكان ما سمعته من هذه الرسالة هو ما كسبته في هذا الاجتماع العجيب من علم مفيد، ولم أدر كيف استطاع «أندراي» أن يحصل على هذه الرسالة الخطيرة، ومهما يكن من أمر، فمجرد قراءتها - لو علمت الشرطة السرية بذلك - كان كفيلا أن يطوح بي إلى مطارح النفي في سيبيريا.
وانفض اجتماعنا عند مطلع الفجر، فلم أتبين فداحة ما أقدمت عليه إلا حين خرجت في ضوء الصباح الشاحب، أخب في الطريق المثلوج، لقد كنت واحدا من جماعة متآمرة طالما قضى أمثالها على ألوف الطلاب في أرجاء الروسيا، فسلبتهم الحرية أو حرمتهم الحياة بأسرها، فلو علم السلطان طرفا من الأمر لكان في ذلك قضائي المحتوم، ومع ذلك فقد أخذت صبح ذلك اليوم في المعهد أبحث عن «أندراي» ورأيتني منجذبا إليه بسبب ما نستهدف له من الخطر، لا على الرغم منه، فقد كنت مشوقا أن أعلم من هؤلاء الذين أشار إليهم ليلة أمس بكلمة «نحن» وظل يتحدث عنهم طيلة الليل.
وما بلغت الساعة الواحدة حتى طلب إلي الذهاب إلى مكتب الحزب، فوجدت هناك غيري من الناس وبينهم «م» وتجهم أمين سر الحزب وهو يغلق من دوننا الباب ويتجه بنظره إلينا، فتوقعت من الأمور شرها.
قال: «أيها الرفاق، إن ما لدي لخبرا محزنا، وآثرت أن أنبئكم به في غير إبطاء، وذلك أن رفيقا من أعز رفقائنا علينا قد أزهق نفسه بيده هذا الصباح في غرفته، وقد يكون دافعه إلى ذلك هو الحب، أو غير ذلك من مآسي الحياة.»
فسألته: «من هو ذاك؟» - «أندراي س، لقد كان طالبا مجدا وشيوعيا مخلصا، إنها لخسارة ...»
وبينا نحن في طريقنا إلى الخارج واحدا في إثر واحد، تحسس «م» حتى صادف يدي فضغط عليها، وكانت عبراته تنحدر فوق خديه، إذن فلم يكن هذا الجيشان النفسي الذي رأيناه في «أندراي» المسكين تمثيلا زائفا يخدعنا به، ولقد ظلت عبارته التي قالها: «لقد تبددت آخر ذرة من الأمل، ولن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!» ظلت عبارته هذه تتردد أصداؤها في ذهني أشهرا طوالا، ومن حسن حظنا جميعا أن هذا الاجتماع الليلي الذي سمعنا خلاله نشيدا من شعر «رايلييف» ظل سرا مكتوما طوال سنوات التطهير التي طغت على البلاد بعد ذلك.
لم يعلم أحد على وجه الدقة لماذا انتحر «أندراي»، ومع ذلك فقد كثر اللغط في أرجاء المعهد رجما بالغيب، وأحس كل من بالمعهد أن موته كان متصلا على نحو غامض بحادث الاغتيال في لننجراد وبموجة الرعب التي كانت وقتئذ تجتاح الحزب كله والهيئة الحاكمة السوفيتية جميعا.
ولم تكن مراجعة تذاكر الحزب علنية كما كانت حركة التطهير من قبل، بل اتخذت صورة التحقيق البوليسي، فنودينا للاستجواب واحدا بعد واحد، ولما جاء دوري دخلت مكتب الشرطة في حالة من الجزع تندى بها جسمي كله بالعرق، فماذا أنا صانع لو كان أمر الاجتماع في غرفة «أندراي» قبل موته بساعات قليلة قد كشف عن سره؟ لكن مثل هذا السؤال الذي ألقيته على نفسي لم يكن له سند من المنطق؛ لأنه لو كانت الشرطة السرية قد أحاطت بالأمر علما لكان القبض قد ألقي علي قبل ذلك بزمن طويل، غير أن الخوف الشديد - كالحب الشديد - لا يعرف منطقا.
قال الرجل الجالس خلف المكتب: «اجلس أيها الرفيق كرافتشنكو، أرني تذكرة الحزب التي لك.»
كنت أعرف عن هذا الرجل أنه شيوعي عامل في «دنيبروبتروفسك»، وكان معه اثنان آخران، لم أعرف أحدهما لكنني أيقنت أن ثانيهما - رغم ما كان يرتديه من ملابس المدنيين - من هيئة الشرطة السياسية، واستجوبني من لم يكونا من الشرطة، لكن كان الشرطي بمثابة القاضي هذه المرة، وكان أمامه ملف أوراق - لعله ملف أوراقي - فكان ينظر إليه آنا بعد آن، ثم رأيته حينا بعد حين يناول الجالس إلى المكتب هذه الورقة أو تلك.
وأخذت المحاكمة مجراها المألوف، فرواية على النحو المعهود لقصة حياتي وأصدقائي وأقربائي وما أديته من مهام الحزب، وهذا العمل المكرور على ما في تكراره من ملل، كان بتكراره هذا مطمئنا للنفس، وأرادوا هذه المرة أن يعلموا مرشحي حين التحقت بالحزب؛ فأدليت لهم بأسمائهم. - «ألا يزالون أعضاء في الحزب؟»
فأجبت قائلا: «نعم، هذا ما أعلمه عنهم.» - «هل حدث يوما أن كان أحدهم شريكا على أي صورة من الصور في إحدى حركات المعارضة ؟» - «لو كان ذلك فليس لي بالأمر علم.» - «رفيقي كرافتشنكو، أليس عجيبا أن تكون وحدك دون سائر أفراد أسرتك عضوا في الحزب؟ لماذا اعتزل صفوفنا أبوك وإخوتك؟» - «وأي عجب في ذلك؟ أليس واقع الأمر أن في البلاد خارج الحزب عددا أكبر من أعضاء الحزب؟»
فقاطع رجل الشرطة السياسية قائلا: «كان أبوه ذا نشاط سياسي قبل الثورة، لكن يظهر أن البلاشفة ليسوا على هواه.»
فقلت: «أنا آسف يا رفاقي، لكنه ليس من العدالة في شيء أن تزعموا لأنفسكم مثل هذه المزاعم لا لسبب ظاهر سوى أن بعض الناس لم ينضموا إلى الحزب.»
فقال الشرطي في ابتسامة ساخرة: «أوه، أنا لم أقصد إلى مهاجمة أبيك، إنما أردت أن أسرد الواقع فحسب.»
ودام الاستجواب نحو ساعة، وكان كلما سار خطوة ازددت سيطرة على نفسي، إذ كان من الجلي أن ملف أوراقي لم يزل نقيا، ونجوت مرة أخرى، وردت إلي تذكرتي بعدما فرغوا من استجوابي، لكن الإجراءات التي تم بها الاستجواب تركت في نفسي مرارة، فمن الوجهة النظرية كنا نحن الشيوعيين أصحاب السيادة في البلاد، إذ نحن «صفوة الصفوة» من بناة العالم الجديد، أما من الوجهة العملية فقد كنا قطعا من قطع الشطرنج التي لا حول لها ولا قوة، يحركها اللاعبون في جو من النظام الشرطي رسمته مجموعة من قوانين سنها رجال الشرطة أنفسهم لأنفسهم.
وطرد من الحزب ألوف الشيوعيين من أهل المدينة، وحدث مثل ذلك في كل بلد من بلاد الروسيا جميعا، وكان الطرد من الحزب هذه المرة معناه الحبس فورا.
لم يكن المشروع الهندسي الذي حصلت به على إجازتي الدراسية - وقوامه وصف وتصميم لآلة لخراطة الأنابيب، وهى ابتكاري الخالص - لم يكن ذلك المشروع في تقدير الممتحنين ممتازا فحسب، بل ازداد على امتيازه شرفا حين اشترت الحكومة حق الانتفاع به، نعم إن الآلة لم تخرج قط من دائرة الرسم إلى دائرة الواقع، لكنها مع ذلك وضعتني - من الوجهة النظرية على الأقل - في صف المخترعين الفنيين.
ولم أكد أفرغ من الامتحان التحريري حتى جلست لامتحان شفوي أمام لجنة حكومية من الممتحنين، وكان ختام حياتي المدرسية حفلة أقيمت لتكريم المتخرجين، فملأنا بطوننا طعاما وشرابا وأخذنا نغني ونتغنى بالعبارات الشائعة في تمجيد الوطنية السوفيتية، وطفق خطيب بعد خطيب يذكر لنا أننا تلقينا العلم على حساب الأمة، وأن واجبنا الآن هو أن نشرع في رد هذا الدين مائة ضعف بمعاونتنا لمشروع السنوات الخمس لنشيد للحزب مجدا مؤثلا.
وهكذا أصبحت في نهاية الأمر، في النهاية التي طال انتظارها، مهندسا ذا مؤهلات رسمية، وقد كان هذا الهدف منذ سنوات أربع يتبدى لعيني محوطا بهالة من مجد، ولست أدري كيف رأيته الآن وليس يزخرفه من المجد شيء، فقد أظلم هاتيك الهالة التي كان رسمها الخيال، ما رأيته في الريف من أهوال ومن مجاعة كاسحة، وما شهدته في حركة التطهير التي قام بها الحزب، وما أحسسته حولي من موجات التشاؤم، ولئن كان قد تبقى لي قليل من ضوء المجد المرتقب، قليل من ضوء يشوبه الأسى، فقد انمحى هذا القليل بعد أن سمعت من «إلينا» قصتها، وبعد أن علمت بانتحار «أندراي»، وبما كان سائدا في النفوس من يأس وشعور بالعبث، ولعله من هذا اليأس وهذا الشعور بالعبث جاءت قصة «إلينا» وجاء انتحار «أندراي» نتيجة لازمة.
إن أسرة من غمار الشعب كأسرتي لتعد من دواعي فخارها أن يكون من أبنائها مهندس ذو مؤهلات عالية، فتظاهرت بفرح لم أكن أحسه، ولا شك أن أمي نفذت ببصرها خلال ما تقنعت به من فرح مفتعل، لكنها أغضت بدورها وتظاهرت بمثل ما تظاهرت به أنا من علائم السرور، وأما أبي فقد كان يعلم علم اليقين أن الطريق الذي يسلكه مهندس سوفيتي، إنما هو طريق مليء بمواضع الزلل من الوجهة السياسية، لكنه كان رجلا كتوما فطوى نفسه على همه، وأما أخواي «يوجين» و«قنسطنطين» اللذان كانا لا يأبهان بالسياسة، فلم يريا في إجازتي الدراسية إلا فرصة تفتح أمامي طريق التقدم من حيث حالتي الاقتصادية.
وشعرت «إلينا» بزهو مشوب باكتئاب، واستطاعت بما تكنه نحوي من حب وعطف أن تهدئ من اضطراب خواطري، كانت تتوقع لنفسها النقل إلى «خاركوف»، وها أنا ذا أتوقع لنفسي أن أعين في مركز لصهر المعادن بعيد، وكلانا لم يكن بالمستهتر الذي لا يبالي الحوادث، فضلا عما زاد الآصرة بيننا من سلسلة الخطوب التي مرت بنا، فكانت تتأرجح بين الغبطة تارة والأسى طورا، فعلمي بأنها كانت عضوا في الشرطة السرية ظل شبحا يلقي ظله على مباهج حبنا، وعبثا حاولت أن أقتلع هذا الشبح من نفسي.
وأرسلت نسخة من رسالتي في الهندسة التي اجتزت بها الامتحان إلى «الوزير أورزنكدز» وجاءني منه رد عطوف، فقد لبثت مدى أعوام الدراسة متصلا به، حتى أخذت الروابط الرسمية بيننا تتحول شيئا فشيئا إلى صداقة شخصية.
وحدث مرة في عام 1933م أن عرضت رأيا بإقامة معرض سوفيتي دائم للصناعة لا يختلف كثيرا عن المعارض في ألمانيا، وعرضت هذا الرأي في مقالات نشرتها الصحف مصحوبة بصورتي وبثناء من هيئات التحرير على مثل هذا «الابتكار بين البلاشفة»، فأخذت عندئذ أضع للفكرة وصفا مفصلا مدعما بالمصورات الإيضاحية، وأسلمت كل هذا إلى «أورزنكدز»، ولم أعد أسمع شيئا عن مشروعي هذا سوى أن ظهيري من بين حاشية الكرملن قد اغتبط له، وأبلغني هذا الاغتباط على طريقته العاطفية القفقاسية، فأتبعت ذلك المشروع بمشروع آخر شبيه به، وهو اقتراح بإقامة معرض زراعي، فلقي هذا الاقتراح حظا أسعد من زميله إذ رأيته نافذا بالفعل بعد حين، ولو أن فضلي في ابتكار الفكرة لم يكن له ذكر على الإطلاق.
كان في مقدوري أن أقدم طلبا بالتعيين إلى «أورزنكدز» مباشرة، بوصفه الرجل الذي لا يعلوه إنسان في عالم الصناعة السوفيتية، لكني آثرت ألا أستغل صداقته، فأسلموني إلى «رياسة صناعة التعدين» وهي المكلفة بصناعة أنابيب الصلب وغيرها من مصنوعات الصلب للبلاد بأسرها، وكان رئيسي بها «يعقوب إيفانتشنكو» الذي كان حينا مديرا لمصنع «بتروفسكي- لينين» فعرفني معرفة جيدة، وتقرر في اجتماع انعقد في مكتبه في «خاركوف» أن أعين في مصنع معدني جديد ينشأ في «نيقوبول» فرض له أن يبدأ العمل في أبريل.
ولم أكن قد نسيت ما كنت شهدته في «نيقوبول» - حين ذهبت إليها مفتشا من قبل الحزب - من قذارة واضطراب ومرارة، وكانت الذكرى وحدها كفيلة أن تشيع الهم في نفسي، ولم أكد أصدق أن المصنع سيبدأ إنتاجه بعد قليل، رغم كل ما هنالك من إسراف وما يلاقيه الناس من عذاب، فقد كانت «نيقوبول» في رأيي مثالا لحركة التحول الصناعي في البلاد كلها، فهي مسرفة فيما تهلكه من حياة ومن مواد، وحشية في طرائقها التي خلت من كل حذق ومهارة، ومع ذلك فهي تتقدم لسبب لا أدريه.
وقفت أمي و«إلينا» تودعاني وتلوحان لي من رصيف الميناء حتى اختفت عنهما السفينة التي أقلتني إلى «نيقوبول» إذ دارت حول الحنية التي في نهر دنيبر، وأحسست حينئذ إحساسا عميقا أن صفحة جديدة من حياتي قد بدأت، فقد بلغت من العمر إذ ذاك تسعة وعشرين عاما، وهي سن متقدمة بالنسبة إلى مستقبل رجل سيشتغل بأعمال الهندسة، لكن كان يعوض ذلك أني بدأت الشوط من نقطة قريبة من النهاية؛ ذلك أني بدأت رئيسا من الرؤساء المشرفين على مشروع هندسي عظيم، وهكذا أصبحت بين عشية وضحاها رجلا من «الصفوة» الممتازة في المجتمع السوفيتي، إذ أصبحت فردا من عدد يقرب من المليون من الموظفين ومديري الصناعة ورؤساء الشرطة الذين كانوا يكونون بمجموعتهم الطبقة الأرستقراطية الجديدة في الروسيا. «نيقوبول» مدينة قديمة على نهر دنيبر، تفوح في هوائها رائحة النهر وتحيط بها غابات يانعة وحقول فسيحة من القمح، وهي في إقليم يعرف عنه العالم كله أنه من أخصب مصادر المانجنيز الذي هو معدن لا غنى عنه في صناعة الصلب، وعلى مقربة منها بعض مناجم الحديد الهامة مما جعلها مركزا طبيعيا لصناعة التعدين، وكانت الشوارع والمنازل في «نيقوبول» تحرك في قلبي حنينا نحو أعوام الطفولة التي قضيتها مع جدي «فيودور بانتليفتش» في مدينة «إسكندروفسك» التي باتت الآن تعرف باسم «زبرزهي».
لكن المصنع نفسه كان - لسوء الحظ - بعيدا عن المدينة، إذ كان قائما في مكان قفر موحش، وكانت الكثرة الغالبة من عماله الخمسة الآلاف لا تزال متزاحمة في ثكنات حقيرة، نعم كانت ثكنات العمال إذ ذاك خيرا مما رأيته فصعقت له إبان زيارتي الأولى، لكنها مع ذلك كانت لا تزال أصلح لسكنى الحيوان منها لإقامة الآدميين، وكان غمار العمال يتناولون وجباتهم في مقصف ضخم نتن الرائحة لم تراع فيه أصول الصحة، ثم كان لرؤساء العمال والمهندسين مطعم أنظف من ذلك المقصف وأملأ منه بألوان الطعام، ثم مطعم ثالث حديث الطراز أعد لنفر قليل من كبار الموظفين الذين كانوا يتزودون - فضلا عما ينعمون به في المطعم - بوفرة من الطعام في منازلهم يستمدونها من محصول ما ينبت في أرض المصنع، فهكذا جرى التقليد في الروسيا أن يكون بين الطبقات هذه الفوارق البعيدة، بحيث لم يدرك غرابة وجودها في بلد «تحكمه طبقات الشعب» إلا الأجانب.
أما عن نفسي فقد أسكنوني في منزل فسيح ذي غرف خمس يبعد عن المصنع نحو ميل، وكان أحد ثمانية منازل على طراز واحد أعدت للطبقة العليا من الموظفين، وكان منزلي ذاك محوطا بأشجار عالية وله حديقة أزهار ممتعة أحسنت العناية بها كما كانت له حديقة خلفية للفاكهة، وكان في المنزل حوض للاستحمام ومذياع، بل كان به كذلك ثلاجة كبيرة، وكان لي سيارة في حظيرتها، وجوادان من طراز ممتاز، كل هذه بالطبع ملك للمصنع، لكنها تكون تحت تصرفي وحدي ما دمت في منصبي كما لو كانت ملكي الخاص، وكان لي بالإضافة إلى دار السكنى سائق لسيارتي وسائس لجوادي وفلاحة فيها خشونة الريف تهيئ لي الدار وتطهى الطعام، وكنت أدفع أجر الخادمة، أما السائق والسائس فأجرهما من حساب المصنع.
وكان راتبي يتراوح بين 1500 و1800 روبل في الشهر الواحد، ولو أنه كثيرا ما كان يبلغ الألفين أو يزيد بعد إضافة العلاوات، وتستطيع أن تفهم معنى هذه الأرقام في الظروف القائمة في الروسيا إذا عرفت أن رؤساء العمال ومهرة الصناع الذين كانوا تحت إدارتي لم يكد يزيد راتب أحد منهم على أربعمائة روبل، وأن غير الفنيين من العمال رجالا ونساء لم يزد أجر الواحد منهم على قدر يتراوح بين 120 و175، وهكذا ترى أن صفوف الشعب التي تدار جماعة السوفيت باسمهم، لم ينعموا طبعا بشيء مما كنت أنا أنعم به، وقد ينعم به معي عشرة آخرون من رجال المصنع جميعا.
ضاعفت في العمل جهدي ولم أرخ العنان قط لنفسي، بحيث كنت أعد اليوم الذي ألبث فيه داخل المصنع اثنتي عشرة ساعة يوم عطلة، بل مرت أيام كنت أواصل خلالها عملي في وظيفتي ثمانيا وأربعين بل اثنتين وسبعين ساعة، لا أذوق فيها النوم إلا ساعات قليلة أخطفها خطفا فأستلقي على أريكة في مكتبي، ومع ذلك الجهد كله فقد كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري الجميلة بما فيها من خادمتي «باشا» القوية البنية الحمراء الوجه، إذ هي تعد لي في المطبخ أكلة طيبة، ومن البستاني الذي أعدته لي الدولة إذ هو يروي حديقتي، ومن ثلاجة مليئة بالخضر الطازجة والشمام والكفيار والقشدة المحمضة، كنت إذا ما خلوت إلى نفسي في داري بما فيها من كل هذه الأشياء؛ أشعر بتأنيب الضمير.
فقد كنت أفكر في العمال الذين يسكنون الثكنات، وأفكر في أبنائهم وفي حياتهم المظلمة، كيف أنحو إليهم بلائمة إذا ما فعلوا ما توهمت أنهم لا بد فاعلوه نحوي من مقاومة بل من مقت، باعتباري سيدا من بين سادتهم الجدد؟ كيف لي أن أفهمهم أن هذا الذي يرونه من فارق بين شقائهم ونعيمي لم يكن من صنع يدي، وأنني كنت بدوري ترسا لا حول له ولا قوة في عجلة ضخمة، وأن رغدي منحة وهبتني إياها الدولة وتستطيع الدولة أن تحرمني إياها متى شاءت لغير سبب وبغير إنذار؟
لقد أردت في إخلاص أن أصل ما بيني وبين العمال بصلات من الود والصراحة، فقد كنت أفهم ما هم عليه، وكانت حاجاتهم وآلامهم قريبة من قلبي، لكن مهندسا في مثل منزلتي لو خالط صفوف العمال، فإنه بذلك إنما يجرح كبرياءهم؛ لأن مثل هذه المخالطة فيها معنى الإشراف، هذا فضلا عن أن الهيئة الرسمية لن ترضى عن مثل هذا الإخاء بيني وبينهم باعتباره عاملا يفسد النظام، فنحن من الوجهة النظرية نمثل «سلطة العمال»، أما من الوجهة العملية فنحن طبقة غير طبقاتهم، فبين دنيا الكلام ودنيا العمل هوة سحيقة.
كان الرفيق «براتشكو» الذي كلف بناء المصنع هو نفسه الذي أسندت إليه الآن إدارته، ولقد رقق مر الأيام من خشونة أخلاقه وجعل منه زميلا أمتع بكثير مما كان، ولم يكن يعلوني في الإدارة الفنية إلا «براتشكو» هذا، وكبير المهندسين «فشنيف»، أما من الناحية السياسية فيما يختص بالإشراف على المصنع، فقد كان من بيدهما الأمر «ألكسي كوزلوف» رئيس اللجنة الحزبية المشرفة على المصانع، والرفيق «ستاروستين» رئيس نقابة العمال.
كان «كوزلوف» متقدما في السن، شديد العطف على الناس، معنيا بكل قلبه برفاهية العمال، أما «ستاروستين» فقد كان رجلا من الطراز الأول من حيث مقدرته على الصعود في سلم الوظائف، أما فيما عدا ذلك فهو بليد الذهن، وكان منظره - كمخبره - غليظا قذرا، ولحسن الطالع لم يكن له من النفوذ بقدر ما كان له من ضخامة المنصب، وذلك بحكم كونه موظفا في نقابات العمال، فلم يكن لرجال نقابات العمال أدنى الخطر؛ لأنه لم يكن في وسعهم أن ينبسوا ببنت شفة، بله أن يتخذوا قرارات فيما يعرض من الشئون، دون استئذان الحزب.
كان النظام كله، الذي يضع شئون العمال في يد حاكم مستبد، أثرا عجيبا باقيا على الزمن منذ الماضي البعيد، ولم يكن هذا الوضع من المخادعة في شيء؛ إذ لم يكن بين الناس أحد خدعته ألاعيب الاجتماعات والقرارات، وأبعد الناس انخداعا بمثل هذه الأشياء هم العمال أنفسهم، فأعضاء النقابات من هؤلاء العمال لم يعرفوا سوى أن النقابات تتقاضاهم رسوما تقتطعها اقتطاعا من أجورهم الضئيلة، فإن كان هذا شأن النقابات، فلا غرابة أن يبلغ نفوذ «ستاروستين» من الضعف حدا بحيث لا يأبه له رجل من كبار الموظفين، أما «كوزلوف» فكانت كل كلمة تنحدر من شفتيه بمثابة القانون.
كنا نحن الزعماء بطبيعة الحال على صلة شديدة بعضنا ببعض، فعرف كل منا عن الآخر جوانب ضعفه وشذوذه، مما أدى إلى عدم ارتياحنا بعض لبعض، وكان ثمة رجل يدعى «برودسكي» وهو أمين سر اللجنة المحلية في نيقوبول، التي هي فرع من الحزب، كان هذا الرجل كذلك شديد الرقابة لما يدور في مصانعنا، ولئن كانت له في ذلك عين واحدة، فقد كان لرجل آخر - هو «دوروجان» رئيس الشرطة السياسية في نيقوبول - مئات العيون يرقبنا بها، مستعينا في ذلك «بالإدارة الخاصة» و«القسم السري» في مصنعي، وطوائف من المخبرين المحترفين والمتطوعين والمجبرين ممن تراهم في كل «مصنع» أو مكتب أو مصلحة.
كان «دوروجان» فظا سريع الغضب، له وجه كوجه الكلب الإنجليزي، فهو رجل كأنما صاغه الخالق من الحجر الأعبل ليكون شرطيا في أي نظام حكومي كائنا ما كان، وإني لأذكر رجالا من أمثاله أيام أن كانت الشرطة السياسية تطارد أبي في عهد القيصر، وكانت الشرطة السياسية قد غيرت اسمها منذ عهد قريب، فلم تعد كما كانت «القسم السياسي التابع للدولة»، بل أصبحت تسمى «هيئة الشئون الداخلية»، وأصبح اختصارها هذه الأحرف:
N. K. V. D.
وهكذا تبدلت عليها الأسماء واحدا بعد واحد (
cheka
ثم
G. P. U.
ثم
N. K. V. D. )، لكن تبدل الأسماء لم يغير شيئا لا من أساليبها ولا من الاسم المخيف الذي شاع في النفوس عن «سيف الثورة المسلول» الذي يتمثل في هذه الهيئة، ولبث المشتغلون بهذه الإدارة الشرطية ينعتون بأول أسمائها، وهو اسم التشيكيون
Chekists ، كما لبث الروس أعواما يطلقون عليهم ثاني الأسماء
G. P. U.
حتى بعد أن تغير الاسم بحيث أصبح
N. K. V. D. .
كانت صلتنا برجال الشرطة السرية المحلية تتفاوت شدة، فهي أضعف برئيسها «دوروجان» منها بمساعده النشيط «جرشجورن» الذي كان منوطا به القسم الاقتصادي من تلك الشرطة السياسية الخاصة بمدينة نيقوبول وما حولها، وإن «جرشجورن» هذا ليحتل مكانا خاصا بين مجموعة من يجللهم العار في ذاكرتي، فهو رجل بدين، له عينان صغيرتان سريعتا الحركة، ركزتا في وجه مليء حليق، ورأسه كذلك حليق فترى جمجمته صاعدة في تدرج حتى تبلغ نقطة كأنها قمة الجبل، وكان إذا ما تحدث أخذ يسترضي أو يهاجم بالسباب حسب طبيعة الشخص الذي يتحدث إليه، ولئن كان في تركيب هذا الرجل ذرة واحدة من كرم النفس الإنسانية ، فلم يتح لي أن أراها في الأعوام التي عرفته فيها معرفة كان يضيق لها صدري.
كان أهم ما خصصت له الشهر الأول من أعمال هو جمع الآلات وغيرها من الضروريات الأولية لتنظيم الإنتاج، وكان هناك فرعان ثانويان من المصنع خصصا لخراطة الأنابيب في كل منهما نحو ألف وخمسمائة من العمال والعاملات، ولم ألبث طويل زمن حتى أسندت إلي إدارة أحد هذين الفرعين، فما دنا شهر يونيو من ختامه حتى كانت عجلة الإنتاج دائبة السير، إذ صادف تكليفي بهذا المنصب وتبعاته هوى من نفسي على الرغم مما فيه من مخاطر، فلم أكد أفسح لنفسي من فراغ الوقت ما يكفي للنوم حرصا مني على أن تتصل حركة العمل على أساس ثلاث نوبات في اليوم الواحد.
وكنت كلما سرت آنا بعد آن في أرجاء المصنع وأدركت أن كل ما فيه يطن طنينا سويا شعرت بسعادة تعز عن التعبير، وفي مثل تلك اللحظات كنت أفهم فهما صادرا من أعمق أعماق نفسي معنى قولهم: «لذة العمل»، فما كان أجمل هذه الحياة لو قل الجواسيس عددا وقلت الريبة وذهبت عن الناس حالة الفزع التي تشل عقولهم عن التفكير وتضيق الخناق على أنفسهم أيما تضييق!
لقد كنت أعلم علم اليقين أن كل خطوة أخطوها لها أعين ترقبها وتسجلها، ولست أعني سلوكي في المصنع فحسب، بل كذلك ما يتعلق بحياتي الخاصة، ولم أشك لحظة في أن أمينة سري واسمها «توفينا» - وهي امرأة نصف صارمة قادرة - كانت تقدم عني التقارير، كما كان يقدم عني التقارير كذلك سائق سيارتي وخادمة داري، وواحد على الأقل - إن لم يكن أكثر من واحد - من مساعدي في العمل، لكني تجاهلت علمي بهذا تجاهلا لم ينسني إياه نسيانا تاما، فقد كان لي بمثابة الواخز الذي يؤرقني إذا ما عملت أو فكرت.
فلطالما تبين لي أن كل كلمة مما كان يدور في اللجان العادية التي نعقدها للنظر في شئون الإنتاج، كانت تبلغ «هانتوفتش» رئيس الإدارة الخاصة، وهذا بدوره يبلغها بالطبع إلى «جرشجورن» صاحب العينين المترجرجتين، ولم يكن ما يدور في هذه اللجان سرا، كلا ولا كان فيها شيء مما يستوقف النظر، ولكم كان يسرني أن أدون محاضرها لكل من يريد أن يعلم عنها شيئا، ولم يكن يضايقني أشد الضيق إلا أساليب التجسس؛ ذلك لأني لم أستطع أن أتخيل نفسي قط عاملا من عوامل التخريب؛ فلذلك كانت محاولات التجسس تسوءني أشد الإساءة حتى لأعدها إهانة وسبابا.
إنه ليستحيل على أي عمل صناعي أن يسير في دقة مطلقة، فالآلات قد تفسد، والأغلاط قد تقع، والعمال المتعبون قد يزدادون إهمالا، وخطط الإنتاج قد يصيبها التعديل، ولئن صح هذا عادة، فهو صحيح بصفة خاصة إذا ما كان المصنع حديث الإنشاء، وآلاته واردة إليه من خارج البلاد، وعماله إلى حد كبير يتألفون ممن جاءوا من الريف توا ولا خبرة لهم، ومع ذلك فقد كانت كل حادثة طارئة مما يحدث تجيء برجال القسم السياسي مسرعين، يتشممون في قلق لعلهم واجدون رائحة شيء من التخريب والتدمير، فيجرون تحقيقا علنيا في مكاتب «القسم السري» أو يجرون تحقيق مسائيا سريا تهتز له رئاسة القسم السياسي في المدينة.
ولقد أصدرت أمري بأن أستدعى في الحال إذا ما حدثت حادثة مهما تكن تافهة، حتى لو أدى ذلك إلى إيقاظي من النوم في منتصف الليل، ولكني مهما أسرعت في الذهاب إلى مكان الحادثة، كنت أجد رجال القسم السياسي قد سبقوني إلى هناك، يتجهمون ريبة، ويتهمون في سخرية.
ذلك هو الجو الذي عملنا في ظله منذ البداية، وقد كان المهندسون والموظفون الإداريون القدامى يرونه جوا طبيعيا للصناعة السوفيتية، وكانت تدور بينهم نكات خاصة عن «كتاب العرائض» الذين ينبثون في كل ركن من أركان المصنع، أما أنا فلم أستطع قط أن أوائم بين نفسي وبين هذا الجو، وكان لا بد لهذه الحالة أن تزداد سوءا كلما تقدم الزمان شهرا، فاشتدت في قوتها حركة التطهير الأعظم التي أعقبت موت «كيروف»، فلم يكد يمضي عام واحد على نيقوبول حتى تحولت بحيث أصبحت أقرب إلى أن تكون مجالا للصيد يجول فيه رجال الشرطة وأعوانهم من المخبرين السريين، منها إلى أن تكون مؤسسة صناعية.
جاءت أمي تزورني فأعجبها منزلي الأنيق بما فيه من أثاث جميل ومن أسباب الراحة الكثيرة الحديثة، ثم أعجبها بوجه خاص أن تكون في الدار خمس غرف لي كلها وحدي، فلم يعد أمامها سبيل إلى الشك في أن ثاني أبنائها قد «شق طريقه في الحياة!» وكان المطبخ بثلاجته الكبيرة وخيراته الوفيرة يجذبها كأنه المغناطيس، وحدث أن دعوت بعض زملائي للعشاء ولإقامة حفل صغير تكريما لأمي، فألحت أمي أن تطهى هي الطعام بنفسها، ووقفت خادمتي «باشا» تنظر في إعجاب إلى أم مخدومها وهي تعد له أصنافا خاصة تعرف أنه يحبها منذ طفولته.
ولما فرغنا من العشاء مر بداري بعض أضياف آخرين، بينهم رئيس العمال وكثير من عمال المصنع، وكان كل منهم يبدي من ضروب الشهامة أعلاها في ترحيبه بهذه السيدة القليلة في حجمها ذات الشعر الأبيض والقد المتناسب، وقد حدث ما جعل أمي تهمس في أذني قائلة: «أرى يا «فيتيا» أنك محبوب لدى الناس، أرى ذلك من طرائق سلوكهم إزاءك، وهذا جميل، جد جميل!»
وفي الصباح التالي قبلت أمي مودعا، وطلبت إليها ألا تدع الملل يتسلل إلى نفسها؛ إذ إني لن أعود إلى الدار قبل ساعة متأخرة من الليل، ولم يدر في خلدي حينئذ أنها كانت قد دبرت لنفسها خطة تقضي بها النهار، فلما كانت ساعة الأصيل من ذلك اليوم جاءتني الأنباء عن بوادر نشاطها، إذ أنبأني مهندس أنه رأى أمي في المقصف تتحدث إلى الطاهيات والمناولات، فالظاهر أنها وجدت من يعطيها تذكرة مرور بحيث استجابت لدافع التطلع من أنوثتها والتمست سبيلها فورا إلى المطبخ.
وعدت إلى الدار ذلك المساء في ساعة متأخرة فوجدت أمي قد أوت إلى مخدعها، وفي اليوم التالي أنبئت مرة أخرى أن أمي كانت في بعض أنحاء المصنع تتسلل خلسة هنا وهناك وأوراق مذكراتها في يدها، على حد تعبير رئيس عمالي، وسمعت أنها طافت بالثكنات ومخازن التعاون ومراضع الأطفال، لكني كنت في ذلك اليوم من الإجهاد في عملي بحيث لم يبق لي من فراغ التفكير ما يجعلني أهتم لهذا «التسلل» الذي سمعته عن أمي، فما أن بلغت الدار في المساء حتى وجدتها جالسة إلى مكتبي بمنظارها ذي الإطار المعدني مرتكزة على أرنبة أنفها الدقيق، تكتب في كراسة على نحو ما يكتب أصحاب الأعمال إذ ينهمكون في أعمالهم، فلم أتوجه إليها بسؤال، وانتظرت قليلا في شيء من القلق، لعلها تبدأ هي الحديث، فلما انتهينا من طعام العشاء، وأزالت «باشا» عن المائدة أطباقها، قالت لي أمي: «أريد الآن يا «فيتيا» أن أتحدث إليك حديثا جادا.» - «افعلي يا أماه، فماذا يؤرقك؟»
فأخذت تحدثني على نحو ما يتحدث مجلس الإدارة للجمعية العمومية إذ يرفع إليها تقرير العام، فأنبأتني أنها قامت بتفتيش المصنع تفتيشا دقيقا، ففحصت مساكنه ومراضعه ونواديه ووسائل الاستحمام وغيرها من الوسائل الصحية، وكان صوتها إذ هي تحدثني ينم عن كثير من اللوم.
ولخصت تقريرها قائلة: «لقد صعقت لما رأيت، هل تدري كيف يعاملون عمالك ها هنا؟ ففيما يختص بما لديك من مديرين وموظفين ترى كل أسباب العيش الرغيد موفورة، أما إذا هبطت إلى صفوف العمال فلن تجد إلا قذارة وإهمالا، فالمطبخ يقزز النفس وقائمة الطعام تتكرر صنوفها تكرارا يغم الصدور، وأما الثكنات قل لي: أتظن حقا أن هذه الثكنات تصلح لسكنى العمال السوفيت؟» - «ولماذا تلقين التبعة على عاتقي؟ إني أبذل كل جهدي، وليس من الإنصاف أن تلقي التبعة علي.» - «إنك من القادة هنا يا «فيتيا» ولا مندوحة لك عن الشعور بالتبعة، انظر كيف تعيش أنت، ألا يحرك ضميرك قط أن ترى هذا الفارق البعيد بين عيشك وعيشهم؟» - «أخشى يا أماه أن تكون حقيقة الأمر قد غابت عنك، فلسنا نحن الموظفين رؤساء بالمعنى القديم لهذه الكلمة، إنما تأتينا الأوامر من الرياسة العليا ونحن إزاءها مقيدون لا نستطيع حراكا، لقد أمرت بتبييض المقصف وألححت في أن تغسل أرضه ثلاث مرات كل يوم، مرة بعد كل نوبة من نوبات العمل، أما إذا جاوزت أمثال هذه الصغائر فلا حول لي ولا قوة، إذ الأمر بعدئذ يصبح مرتبطا بسلم الأجور ومشروعات المساكن والميزانيات والأسعار المحددة للملابس والأحذية، وهذه كلها أمور تتقرر في موسكو، وكل عملي ها هنا هو صناعة الأنابيب.» - «لا أقل من أن تعرف الحقائق! لقد دونت مذكرات فهاك ما دونت، أتدري أن النساء لا بد لهن أن يركبن أو يمشين أربعة أميال أو أكثر إلى المدينة ليستبضعن؟ فلماذا لا تقام سوق هنا حيث يجيء مزارعو المزارع الجماعية بمنتجاتهم للبيع؟ إن لك وحدك - فيما أرى - حماما جميلا أبيض، أما العمال وهم يعدون بالألوف فليس لهم سوى جحر قذر لا يستحق أن يسمى حماما، وحتى هذا الحمام على ما فيه من سوء، تالف لا يعمل! في مشروع كهذا يكلف عشرات الملايين، لماذا لا تعد حمامات نظيفة للرجال ومثلها للنساء؟ وخذ مثلا آخر يا فيتيا: مراضع الأطفال، لا تجد فيها الكفاية من «بياضات» أو دواء أو أي شيء آخر.»
فقلت في صوت المتخاذل الموقن بصدق ما تقول أمي: «لقد رسمت الصورة أسود مما هي في الواقع.» - «لست يا بني بلائمتك على ذلك، لكنك إذا ما عرفت حقيقة الأمر وعرفها سائر المديرين، فربما أنقذتم في الموقف شيئا.»
هنا لم تعد أمي قادرة على الاحتفاظ بروح الجد العملي التي كانت تخاطبني بها، فقد كانت هذه الروح قناعا سترت وراءه طبيعتها ولم تستطع أن تطيل له الأمد، بل اغرورقت عيناها بالدموع إذ آلم نفسها ما رأت، آلمها حتى هذا الفارق بين ما يتمتع به ابنها من رغد في العيش وبين حياة الآخرين.
وبعد أن سافرت أمي إلى «دنيبروبتروفسك» ببضعة أيام، عقد الرفيق «كوزلوف» اجتماعا من الموظفين الفنيين وموظفي الحزب ونقابة العمال، فلما ذهبت إلى مكتب الحزب حيث الاجتماع، كان المكان قد غص بالناس، ولم يكن في جدول الأعمال إلا موضوع واحد - كما أعلن كوزلوف - وهو «الظروف التي يعيش العمال فيها»؛ فاهتزت نفسي لذلك، فها هي ذي الفرصة السانحة - سنحت في وقت أقرب مما توقعت - فأبسط الحقائق أمام الإدارة بسطا كما صورتها لي أمي! وقلت لنفسي: يا لها من مصادفة سعيدة!
وتكلم ناس كثيرون كلاما فيه تعميم تدعو إليه طبيعة الموضوع، نعم إنه لا جدال في أن الظروف من البشاعة بمكان، لكن ماذا نحن صانعون حيالها؟ فلما جاء دوري في الكلام استطعت أن أنزل من التعميم إلى التخصيص، وطفقت أعيد على السامعين ما كشفت لي عنه أمي، إذ كان ما حدثتني به لم يزل حاضرا في ذهني.
ولم أكن في كلامي صدى مرددا لما روته أمي من وقائع فحسب، بل مرددا كذلك لنغمة غضبها وحزنها وتقريعها، وبديهي أن الكثرة الغالبة ممن استمعوا إلى حديثي قد تأثرت نفوسهم كما تأثرت نفسي قبل ذلك ببضع ليال، فقلت فيما قلت: إن في وسعنا أن نصنع شيئا كثيرا على الرغم من قلة ما بين أيدينا من وسائل، على شرط ألا تشغلنا «شواغلنا الخاصة» على نحو ما تشغلنا الآن، ثم استحفزت السامعين قائلا: هيا منذ الآن ننظر إلى مشكلات العمال في حياتهم اليومية نظرتنا إلى «شواغلنا الخاصة».
وسأل سائل: «من أين ل «كرافتشنكو» كل هذه المعلومات؟»
فصاح «ستاروستين» رئيس نقابة العمال قائلا في نغمة الساخر: «أوه! إنها أمه يا سيدي، ألا تدري؟ لقد نصبت نفسها جاسوسة لا تني فاحصة متشممة لكل شيء كأنما هي سيدة تشرف على ضيعة لها ... إن «السيدة الرفيعة» قد حسبت أنها تملك نيقوبول ما دام ابنها بين الرؤساء، إننا نفهم مثل هذا التدخل ... إنها تكون بذلك لابنها رصيدا في عالم السياسة!»
وعم المكان ضجيج مرتفع إذ تكلم الجميع في وقت واحد، فصعد دمي إلى رأسي، وانعقد لساني عن الحديث بفعل الغضب، فضغط «كوزلوف» على ذراعي ليضبط جماحي.
وضرب على مكتبه وقال: «صمتا أيها الرفاق! إن الرفيق ستاروستين يتكلم كلام المأفون، ليست أم كرافتشنكو «سيدة مترفعة»، وإنه ليعلم ذلك، بل هي زوجة رجل عامل فيما مضى، زوجة بطل من أبطال 1905م في صحيفته ما يشرفه من سجن في سبيل الثورة، إنه لعار عليكم أن تهاجموها بنقدكم، أفلا يجوز أن يكون هجومكم هذا غطاء تسترون به ما أصابكم من كسل وعدم مبالاة بحالة العمال ؟»
وقهقه الحاضرون قهقهة عالية، فرئيس نقابة العمال له في نفوس معظم الناس من الازدراء بحيث إذا ما سنحت فرصة للضحك منه تصادف هوى في نفس أمين سر الحزب، فهيهات أن يدعوها تفلت من أيديهم.
ومضى كوزلوف يقول: «لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم أن هذه السيدة الكهلة قد حاولت أن تراك أيها الرفيق ستاروستين لكنك أبيت عليها ذلك اللقاء، لا شك أنك لم ترد أن يزعجك مزعج بأمور توافه مثل وجود حشرات البق في ثكنات العمال وقذارة البياضات في مراضع الأطفال، لكنني حادثتها لقد رأيت لديها ضربا من الأصالة السوفيتية مما يكون له أبعد النتائج.»
وهكذا علمت أن أمي لم تكتف بفحصها عن الأمور، بل ذهبت إلى كبار الرؤساء فأطلعتهم على ما كشف لها عنه بحثها! ولم تكن قد أنبأتني بذلك الجانب من نشاطها، وعلى ذلك فلم يكن ذلك الاجتماع مصادفة، بل جاء نتيجة مباشرة «لتدخلها»، لله هذه النزعة الخيرة وهذا القلب الجريء من تلك المرأة! لقد طفح قلبي حبا لها على الرغم مما عرضتني له من مواقف مربكة.
ولقد آتت دعوات أمي الساذجة أكلها في الأشهر التي أعقبت ذلك، إذ أقيمت سوق زراعية قريبا من المصنع، ونظفت مساكن الأطفال وزودت بكمية أوفر من البياضات، وأعلنت خطة ترمي إلى إنشاء حمام جديد، وأجريت بضعة إصلاحات صغيرة أخرى، وانتشرت بين العمال قصة «مسز كرافتشنكو» وحملتها في سبيلهم، فقاسمها ابنها هذا «المجد» المتواضع.
حدث ذات ليلة أن صادفت أمينة سري المنطبعة بطابع العانس التي تقدمت بها السن، الرفيقة «توفينا»، صادفتها خارجة من بناء القسم السياسي في نيقوبول، ولم يكن يدور في خلدي أدنى شك أنها ترفع عني التقارير، نعم أنا أعلم أن التجسس على الرئيس هو المهمة الرئيسية لأمناء السر في بلاد السوفيت، لكن علمك بالأمر شيء، ووقوعك على برهان وجوده شيء آخر، فما أقبل اليوم التالي حتى أصدرت أمري لقسم المستخدمين أن ينقل هذه المرأة من مكتبي وأن يوصي لي بغيرها، وآثرت أن يكون بديلها رجلا.
وبعد بضعة أيام جاءني رجل في نحو الثانية والثلاثين ومعه مذكرة من رئيس المستخدمين، كانت هيئته تستوقف النظر، فأول عبارة وردت على ذهني حين رأيته هي «نصب لتخويف الطير»، فقد كان في هيئته هيكلا تدلت فوقه هلاهيل الثياب، حذاؤه ممزق وسراويله مرقعة وسترته مصنوعة من «خيش» وفصلت في صورة غليظة، فهذا طراز من القذارة التي بلغت أقصى حدودها، حتى في ظروف الحياة السوفيتية، ومع ذلك فقد كانت ملامح وجهه الذي امتصه الجوع محددة التقاطيع بل كانت جذابة يعلوها شعر ضارب إلى الحمرة شاب عند العارضين.
قال: «أنا أعرف ما هيئتي أيها الرفيق كرافتشنكو، لكني أتوسل إليك ألا تحكم علي بهيئتي، فاعلم أنني جئت لتوي من معسكر اعتقال قضيت فيه أربعة أعوام، وإن قسم المستخدمين ليعلم ذلك عني فلو هيأت لي الفرصة فلا شك عندي أنك ستجد من عملي ما يرضيك.»
كان كلامه يشبه ما يتكلم به المتعلمون، فتحول شعور التقزز الذي بدأت به إلى إشفاق، إذ لا ريب في أن المسكين قد مرت به محنة قاسية، وسارعت فدققت الجرس لأطلب له شايا وشطائر، ولما قدمت إليه حاول أن يكبح زمام نفسه فلا يأكل إلا قليلا قليلا كأنما هو شيء عارض، لكن الجوع كان قد نال من جسمه على نحو لا تخطئه العين، وبينا نحن آخذان في الحديث دق التليفون، وكان المتحدث هو «رومانوف»، موظف محبوب له أهميته يعمل في قسم آخر، ولقد كان «رومانوف» هذا يتمتع بثقة الإدارة من «كوزلوف» فنازلا، على الرغم من أنه لم يكن من رجال الحزب.
قال: «فكتور أندريفتش، إني لأعدها مكرمة منك نحو شخصي إذا أنت استخدمت الرفيق «جرومان» الذي هو في مكتبك الآن، فهو على الرغم مما صادفه من حظ منكود شخص يركن إليه .» - «هل عرفته منذ طويل؟» - «لا، لكني في موقف يدعوني إلى الرجاء من أجله.» - «شكرا، فجميل منك أن تحيطني بذلك علما.»
وذهب «جرومان» إلى غرفة الاستقبال ينتظر، فتلفنت القسم السياسي واتصلت ب «جرشجورن»، إذ كان من واجبي أن أحيطه علما ما دام أمين سري سيتناول في عمله أوراق رسمية هامة، فلما أنبأته بالأمر طلب إلي أن أنتظر هنيهة، ثم ما لبث أن عاد إلى التليفون يؤكد لي أنه لا يمانع في تعيينه إذا وجدت أن الرجل مقبول من سائر نواحيه.
فلما أنبأت السجين السابق الذي تحطم بنيانه، أنه يستطيع البدء في عمله بعد يوم أو يومين، ابتسم لأول مرة، وأبدى من علائم عرفانه بالجميل ما أخجلني، أعطيته شيئا من المال مقدما، وأمرت مخازن المصنع أن تصرف له الملابس الضرورية، ثم عاونته - مستعينا في ذلك بمساعدي - على أن يجد لنفسه غرفة تصلح للسكن في منزل من منازل المصنع.
وسرعان ما أقام «جرومان» الدليل على كفايته وذكائه معا، فاستطاع بهذا أن يزيح عن كاهلي حملا ثقيلا من التفصيلات، ولقد خيل إلي أن الرجل يعود إلى الحياة من جديد حين حسنت ثيابه وأخذت عظامه تكتسي باللحم وعيناه تلمعان بنور الحياة، وكثيرا ما كان يحضر إلى منزلي من أجل العمل، وقد يحدث أحيانا أن أعيده إلى داره في سيارتي بعد الفراغ من عمله، فكانت العلاقة بيننا قائمة على أساس إنساني لا يقيم في وجهينا العراقيل، وشكرت «رومانوف» على توصيته بهذا الأمين؛ لأنه في هذا الباب من الطراز الأول.
ومضت أسابيع تتلوها أسابيع، حتى إذا ما كان الصباح ذات يوم، لم يحضر «جرومان» إلى عمله كعادته، فظننت به مرضا، فلما لم يحضر في اليوم التالي، شغلت عليه وقررت أن أرسل رسولا إلى منزله في ختام العمل من ذلك النهار ليرى ما خطبه، إذ لم يكن له تليفون في داره، وبينا أنا أقلب بعض الأوراق المكدسة في أدراج مكتبي، صادفت حزمة منها مكتوبة باليد ومدبسة في ربطة واحدة، فعرفت في الكتابة خط «جرومان» فما كدت أقرأ كلمات الافتتاح حتى دفعتني غريزتي ألا أمس هذه الأوراق، وقد بدأت بالكلمات الآتية: «عزيزي فكتور أندريفتش، حين تطالع هذه الكلمات لن أكون في نيقوبول؛ لأني أحاول الفرار من هذه البلاد، بلاد الفظائع، فالموت نفسه آثر عندي من أن أحيا حياة العبيد ...»
فتندى جسدي بعرق بارد، وأقفلت باب غرفتي في حركة عصبية ووضعت على يدي قفازها وتناولت الخطاب، فوجدته وثيقة نادرة، وإني وإن كنت قد نسيت ألفاظه التي كتب بها، لا أزال أجد مادته منقوشة في ذهني نقشا: «أشكرك على كل ما تفضلت علي به شكرا صادرا من أعماق قلب روسي مخلص، فقد أيقظت رأفتك في نفسي شعورا إنسانيا كنت ظننته قد برد إلى حيث لا يعود، والحقيقة أن ذلك هو أحد الأسباب التي جعلتني أعتزم الفرار، وسأعبر الحدود إن شاء الله، وأما إذا قبضوا علي قبل ذلك فبالطبع كان في ذلك موتي رميا بالرصاص.
إني لأمقت النظام السوفيتي بما فيه من نظام شرطي مقتا ليس بعده مقت، فعلى الرغم من أني لم أقترف جرما - اللهم إلا إن كان حب الحرية جرما - فقد عانيت في قاعات التعذيب ما عانيت وزج بي في غرف السجن الضيقة الانفرادية وحيدا، حتى إذا ما أطلق سراحي تبين لي أن حريتي لن يطول بها الأمد، بل تبين لي أنني قد لا أجد عملا إلا إذا وضعت نفسي رهنا لإرادة من أنزلوا بي التعذيب.
ففي الليلة السابقة ليوم لقائي بك، كنت قد وصلت لتوي إلى نيقوبول قادما من معسكر الاعتقال، وقد جئت إلى نيقوبول تنفيذا لما أمرت به، وذهبت إلى القسم السياسي فسيق بي إلى «جرشجورن»، وهكذا رسم لي طريق الحضور إليك، فكان كل ما حدث - بما في ذلك توصية رومانوف - جزءا من مهزلة قبيحة كنت أنت ضحيتها.
لم يكن يهمني أن أتجسس على الناس، فلأني أمقت الشيوعيين جميعا، وجدت - فيما بدا لي - في التجسس فرصة سانحة أستطيع بها الانتقام لنفسي بأن أوقع في الشر نفرا من هؤلاء الشيوعيين، وكلما ازدادوا بذلك شقاء ازددت أنا انتقاما فارتياحا، ونظرت إليك نظرتي إلى من سيكون الضحية الأولى، لكنني ما لبثت أن أحسست نحوك باحترام، ونحو نفسي بالكراهية لما كانت قد دبرت ضدك من خطط.
وأحب أن تعلم أنه ما مضى قليل وقت حتى أصبحت أنا أول من يبلغ عنك أنباءك، فما دام الرجل منا قد قاسى أهوال التطهير على يدي القسم السياسي، فهو عندهم بعد ذلك موضع اطمئنان وثقة، فإن هؤلاء الشياطين ليعلمون أن الخوف أداة تصون الولاء فيمن يتخذونهم من الناس أعوانا، فكان يجيئني كل يوم وكلاء القسم السياسي الذين ينبثون في كل ركن من أركان مصنعك ومكاتبك، فيبلغونني ما وقعوا عليه من أخبار، فأجمع هذه الأخبار جميعا مرة في كل أسبوع تقريبا، وأصوغها في تقرير شامل عن عملك وقولك وأصدقائك، بل عما تدل عليه ملامح وجهك، وكذلك عما يبدو من أوجه النقص في عمل مصنعك.
لم يكن هؤلاء الجواسيس يعرف بعضهم بعضا، لكني كنت أعرفهم جميعا، فأقل ما يجب علي نحوك - اعترافا لك بما أسديته نحوي من عطف - هو أن أكشف لك عن هؤلاء.»
وأعقب ذلك قائمة بأسماء كان بينها اسم «رومانوف»، «رومانوف» الأصيل الذي أحببناه جميعا ووثقنا فيه جميعا لأساليبه الأبوية اللينة، وكذلك كان بين الأسماء كثيرون من ألصق الزملاء بي صلة في المصنع، فمنهم فريق من رؤساء العمال، وفريق من العمال والكتبة، فكان المخبرون شبكة انتشرت عيونها في كل «ورشة» أو مكتب في المصنع، بحيث تشمل كل مراحل العمل الفني الذي نقوم به. - «حذار من هؤلاء الناس يا فكتور أندريفتش! إنهم لا يحترمون الحقيقة في قليل أو كثير، حياتهم في وظائفهم معتمدة على كشفهم عن المؤامرات، ويغريهم أن يخترعوا بخيالهم مؤامرات ليكشفوا عنها، ولتعلم أن من عمل القسم السياسي على تحطيم أبدانهم وهدم نفوسهم هدما لا يبقي لهم خلاقا، لا يتورعون عن عمل مهما يكن، ويعترفون بكل ما يطلب إليهم أن يعترفوا به، ويلقون الاتهام على أي إنسان، ومن هؤلاء الناس كثيرون ممن يحيطون بك - ثم أعطى جملة أسماء - ولم أكن في ذلك وحدي.» - «أكبر ظني أنك سترتاب في أن يكون هذا الخطاب فخا نصبته لك، ولست على ذلك بلائمك، وكل ما أستطيعه هو أن أقسم لك بالله وبأمي الورعة التقية إنني أقول لك قول الصدق، وإنني أحاول أن أكفر عن أسابيع قضيتها متجسسا على رجل عطف علي واحترم في الآدمية ، وسأترك لغريزتك أن تهديك إلى تصديق هذا الذي أقول أو تكذيبه.
إذا أنت أطلعت «جرشجورن» على هذا الخطاب فسيقول لك إني كاذب وسيعمد من فوره إلى إعادة توزيع المخبرين، أما إذا استطعت الركون إلي وأتلفت هذا الخطاب وتظاهرت بالغضب لاختفائي الذي يحيط به الغموض، إذا فعلت ذلك فلن تأخذهم ريبة في أن أكون قد كشفت لك سترهم.
ومهما يكن قرارك الذي تنتهي إليه، فإني أستحلفك كل عزيز لديك أن تهيئ لي مهلة يوم واحد على الأقل قبل أن تبلغ أولي الأمر عن غيابي، فقد يكون هذا اليوم هو الحد الذي يفصل موتي عن حياتي، إني لأجثو أمامك على ركبتي ضارعا يا فكتور أندريفتش.
وأشكر لك كل ما تفضلت علي به، أشكر لك أن عاونت في إحياء إنسان من البشر له شيء من كرامة النفس كان طغاة التعذيب قد محوها محوا، فلو بقيت حيا فسأدعو لك الله في غير انقطاع.»
فحفزني شعور دخيل أن أثق في هذا الهارب، وربما دعاني إلى الوثوق فيه قبل ذلك ما تكشف لي من صفحة نفسه في حديثنا العابر خلال الأسابيع الماضية، ولكن على الرغم من هذا الصوت الباطني الذي يطمئن نفسي، فقد أحسست كأنما كنت أقامر بحياتي كلها إذ أخذت في نقل الأسماء التي دونها لي في خطابه، ثم أحرقت الخطاب وأخفيت في حرص شديد كل أثر للرماد.
ولما دنا النهار من ختامه أرسلت رسولا إلى «جرومان» حيث يقيم، فجاءني الرسول في صبيحة اليوم التالي ينبئني أن الأسرة التي يساكنها «جرومان» قد قررت له أنه لم يذهب إليهم منذ يومين، فاتصلت فورا بقسم المستخدمين وسألت موظفيه في غضب مفتعل لماذا لا يبعثون إلي بأمين سر يكون أكثر جدارة بالركون إليه من ذلك الذي بعثوا به أول مرة، ثم قلت لهم متذمرا في غير إفاضة في الشرح: إن ذلك هو ثالث أيام غيابه عن عمله.
ولم تكتمل بعد ذلك ساعة واحدة حتى جاءني «جرشجورن» بنفسه مصحوبا برجل يرتدي حلة رسمية، وكان في حالة من الاضطراب الشديد ، وسألاني أسئلة، وقلبا كل ما يحتوي عليه مكتب «جرومان» ثم عادا، ولم يكن ثمة من سبيل أعلم به هل الهارب قد لاذ فعلا بالفرار، فالاحتمال ضئيل جدا أن يستطيع الهاربون التسلل خلسة عبر حدود السوفيت، ومع ذلك فمئات من الناس قد وفقوا في هذا العمل الجسيم.
ولقد أفادني ما علمته من أمر المخبرين المنبثين حولي، إذ استطعت أن أكون على حذر في شأن نفسي، وأن أعمل على حماية الآخرين، فلو أردت لشيء أن يبلغ مسامع الشرطة بغير إبطاء، فلا علي سوى أن أذكره ذكرا عابرا على مسمع من المخبر العامل في الأفران، أو المخبر العامل في قسم الآلات، أو رئيس قسم عمليات الصقل، أو المهندس «ماكاروف» أو رئيس العمال «يورافين» أو موظف نقابة العمال «إيفانوف» الذي كان مساعدا لرئيسه «ستاروستين»، وأصبح اتصالي ب «رومانوف» في أوقات الفراغ تكليفا أليما على نفسي أقوم به بين آونة وأخرى، إذ لم يكن في مستطاعي أن أجتنبه اجتنابا تاما دون أن أثير الشكوك.
وجاءت بعد «جرومان» خلفا له، فتاة شابة جميلة نشيطة كانت عضوا في الهيئة الشيوعية للشباب، ولا شك أنها استأنفت أعمال التجسس حيث تركها «جرومان» المنكود.
وكان اسم سائق سيارتي في القائمة التي تركها لي «جرومان» فكدت لا أدهش لذلك، وكان عليه أن يقرر عني ما يشاء رأسا لقسم المخابرات من المكتب السياسي، لا للقسم الاقتصادي الذي يشرف عليه «جرشجورن»، أما خادمتي «باشا» فلم يكن اسمها في القائمة.
لكني عرفت فيما بعد أن حذف اسمها من القائمة كان سهوا من «جرومان» أو أن «جرومان» لم يكن له علم بنصيبها من التجسس.
وعدت ذات يوم بعد زيارة لموسكو، وكانت «باشا» قد أمضت في خدمتي ما يقرب من سنة كاملة، فساعدتني في تفريغ حقيبتي، وكنت قد اشتريت لها عددا من الهدايا، اشتريت لها لفاعة زاهية الألوان، وبضعة أزواج من الجوارب القطنية، وكوثا منزليا، فخيل إلي أنها أخذت هذه الأشياء في تحفظ غريب.
فسألتها: «ألا تعجبك هذه الأشياء يا «باشا»؟» - «نعم، تعجبني يا فكتور أندريفتش ، وإني لجد شاكرة.»
لكن «باشا» في تلك الليلة نفسها، بعد أن خدمتني في تناول عشائي، جاءت إلى غرفة الطعام تحمل الهدايا وتبكي في صوت عال كما يفعل أهل الريف من الفلاحين، فنظرت إليها فزعا متسائلا، قالت وهي تنهنه بالبكاء: «لا أستطيع قبول هذه الأشياء يا فكتور أندريفتش، أرجوك، أرجوك أن تستعيدها.» - «لا بأس، لكن خبريني لماذا؟ ما السر في هذا؟»
فأشارت على صدرها بعلامة الصليب وقالت: «اللهم غفرانك، لا أستطيع أن أخبرك بشيء، وكل ما أرجوه ألا تضطرني إلى أخذ هذه الهدايا.»
لكني أخذت أستحفزها على الإفصاح، وأتعهد لها بكتمان سرها، فأنبأتني، ثم أضافت إلى النبأ قولها: إنها لا تستطيع أن تقبل الهدايا من رجل طيب القلب بينما هي مكلفة بالإخبار عنه بما ليس في صالحه. - «نعم، منذ اللحظة الأولى التي جئتك فيها ها هنا، لبثت أرفع عنك تقريرا كل أسبوع إلى القسم السياسي، لقد جئت من الريف وأعطيت هذا العمل، لكني ما كدت أستقر في دارك حتى أمرت بالذهاب إلى القسم السياسي حيث رسم لي ما ينبغي أن أفعله، فرفضت وبكيت وقلت: إن ذلك ينافي ديانتي، لكن الرجل صاحب الحلة الرسمية لم يجب إلا بقوله: «لا تكوني حمقاء يا «باشا» ألا ترغبين في عودة أبيك من منفاه؟ إذن فاخدمينا في دقة وإخلاص ننظر لك في عودة أبيك.» - «أذهب مرة كل أسبوع إلى دار خاصة في نيقوبول وأبلغهم كل ما عرفته عنك، وبصفة خاصة ما عرفته خلال الأسبوع عن زائريك وما يقولون، وكانوا يسألونني: ألا يلعنون الحكومة؟ فكنت دائما أشير بعلامة الصليب على صدري وأجيب: كلا، بل هم على عكس ذلك، وإنهم يضحكون مني إذ أشير بعلامة الصليب، ألا لعنة الله عليهم من كافرين!»
فأكدت للمسكينة «باشا» أنني عفوت عنها، وأنني لن أذكر لأحد قط ما أنبأتني به، على شريطة أن تمسك هي بدورها عن ذكر ما دار بيننا، بل إني أقنعتها أنه خير لها أن تقبل هداياي ما دامت قد وضعت ثقتها في.
ولبثت «باشا» تبلغ عني ما بقينا معا في تلك الدار، ولم يحدث قط أن ذكرنا ما اعترفت لي به وهي تذرف العبرات، لكنها كثيرا ما كانت تسألني أسئلة أرادت بها - فيما أعلم علم اليقين - أن تستوثق مني هل أريد لها أن تبلغ عن حوادث بعينها، فوضحت لها في جلاء أنني لا أخفي شيئا، وأن ما لا تخبر به هي سينقله آخرون غيرها على كل حال.
كنت ترى عادة في نيقوبول عددا من المهندسين الأجانب، أمريكيين وألمان، ليقوموا بتركيب الآلات الواردة من خارج البلاد، وليعملوا على رفع كفايتها في الإنتاج، وقد كان هؤلاء الأجانب عند الروس - عاليهم وسافلهم - موضع فتنة تستثير الاستطلاع، كما كانوا مصدر خوف في آن معا، فمن الخطر أن تخالطهم؛ لأنه من الخطر أن «تتصل بأعداء الشعب»، لكن هذا الجو الذي كهربته معاني الخطر كان في ذاته مثيرا لهؤلاء الأجانب الذين كانوا يبدون بحسن هندامهم وبغرابة حديثهم وسلوكهم، كأنما هم مخلوقات جاءتنا من كوكب آخر، ولعل أهم ما كان يستوقف فيهم الأنظار انعدام الخوف من نفوسهم بحيث يعملون ويتكلمون بل وينقدون إلى حد محدود، كأنه ليس هناك قسم سياسي ولا «جرشجورن» ولا مخبرون.
فلما اقترح الرفيق «براتشكو» أن آخذ اثنين من الأمريكيين في داري، لم أكتم ما أحدثه ذلك الرأي من الرعب في نفسي، وكان هذان الأجنبيان قد استدعيا من «ينجستون» ليقيما في نيقوبول بضعة أشهر بحكم المهمة التي جاءا من أجلها، ولما كان الفندق المحلي من القذارة بمكان، ولما كنت عزبا يسكن وحده دارا فسيحة، لم أجد مبررا لرفض استضافتهما في منزلي، لكنني خشيت ما عسى أن يترتب على هذا الاتصال الذي فرض علي فرضا «بعناصر غريبة عن طبقات شعبنا».
كان «لاري» و«جو» طويلين أشقرين طيبين، يضيق صدراهما لقذارة ما حولهما ويحنان إلى الوطن حنينا ظاهرا، ولقد توثقت بيني وبينهما صلات الود في الأشهر التي استضفتهما خلالها على الرغم مما اعترضنا من مشكلة التفاهم من حيث اللغة، ولم يحدث قط أن مس أحد منهما موضوعات السياسة بالحديث، ولم يكن هذا الإهمال لشئون السياسة مما يعز على التصديق، فحسب عند الرجل الروسي الذي كادت السياسة والحياة أن يكونا له شيئا واحدا، بل كان يعده شذوذا لا يجري مع طبائع الأشياء، لكن هذين الأمريكيين حصرا اهتمامهما في عملهما، فإذا ما فرغ الحديث في العمل أخذا يقصان القصص ويلعبان الورق ويبحثان عن «حفلات»، ولما كانت لهما طبيعة الاجتماع بالناس والصراحة في الحديث صراحة لا تخفي شيئا، لم يفهما قط لماذا ينفض الناس من حولهما بحيث يتركان وحيدين، ولماذا لا يحدث إلا نادرا أن يدعوهما من يعملون معهما في مصنع واحد.
وقد حدث ذات صباح أن تلفنني «جرشجورن»، وكان «لاري» و«جو» عندئذ قد قضيا معي بضعة أسابيع.
قال لي منبئا: «ضيفاك الأمريكيان سيطلعان للصيد هذا النهار.» - «أهو كذلك؟ وما شأني بهذا؟» - «أريدك أن تتلفنني بمجرد مغادرتهما لدارك، وقل لخادمتك إن يومها يوم عطلة، فليس عليها أن تعود إليك قبل الخامسة.»
فلما فرغنا من الإفطار، بدأ الأمريكيان رحلتهما نحو التلال وقلباهما يفيضان بشرا، وخبطاني على ظهري على نحو ما يفعل الأمريكان في زئاطهم، ووعدا أن يأتياني بما يصطادانه كائنا ما كان، ولم يكن لي بد من تلفنة القسم السياسي، فما جاءت الساعة الحادية عشرة حتى قدم «جرشجورن» ومعه آخر، ودخلا داري كأنها دارهما، وطافا بأنحائها كأنما يعرفان كل جزء من أجزائها، حتى لقد خطر لي خاطر أزعجني، إذ قلت لنفسي: يجوز أن يكونا قد فحصا هذا المكان مرارا في غيبتي!
وطفق وكيلا القسم السياسي يفتشان الغرفة التي كان يشغلها الضيفان تفتيشا دقيقا، فبحثا داخل الجيوب وفي أحزمة السراويل وأكمام القمصان وثنيات الستر ونعال الأحذية وكل ما يتوهم العقل أنه يجوز أن يكون مخبأ، ففحصا كذلك الكتب والمجلات والمذكرات والخطابات فحصا دقيقا ، وصورا بعض هذه الأشياء، ونقلا كل ما صادفاه من أسماء أمكنة أو أرقام تليفونية، ورأيت «جرشجورن» إذ اعتراه ارتباك ملحوظ إزاء عدة الحلاقة الأمريكية، فأخذ يضغط على أيدي آلات الحلاقة ويهزها ويدرس الفراجين ويخبر باللمس أنابيب الصابون، فلعله آمن أن هذه الأشياء هي ما يحتمل جدا أن تكون مخابئ ما لدى الأمريكيين من أسرار، ولم يكن زميل «جرشجورن» من موظفي القسم السياسي المحلي، ولقد أظهر معرفة جيدة بالإنجليزية.
وانتهى التفتيش في الساعة الرابعة، ولم يعثر الشرطيان على شيء؛ إذ لم تبد على وجهيهما علامات السرور التي تنم عن نشوة الكشف.
وقال لي جرشجورن: «أنت تعلم بالطبع أيها الرفيق كرافتشنكو أنه لا يجوز لك قط أن تنبس ببنت شفة عما حدث، فإذا ما تسرب النبأ فسيعدك القسم السياسي مسئولا بصفة مباشرة، وقع على هذا التعهد.»
وكان ما قدمه لأوقعه استمارة يألفها كل من كانت له صلة بالشرطة السرية، فهي تعهد «اختياري» يأخذه المرء على نفسه بألا يقول شيئا، وما أن تركني الرجلان حتى طفقت أطوف بأنحاء الدار محزون النفس؛ لأنني غريب في مسكني، وأخجلني أن أواجه الأمريكيين عند عودتهما فالتمست مبررا أعزز به غيابي عن الدار تلك الليلة.
وإني لعلى يقين من أن كليهما لم يرتب أقل ريبة في أن تكون أشياؤه قد فحصت، أو أنه في كل دقيقة يقضيها في الروسيا مراقب تسجل عليه كل حركاته، وحدث أن مرت «بجرشجورن» لحظة من التفريط بعد أن غادر الأمريكيان «نيقوبول» بزمن طويل، فأطلعني بلمحة سريعة على ملف أوراقهما، فوجدت بين ما فيه من أوراق صورا شمسية لهذين الأجنبيين إذ هما في حالات اتصال خاص ببعض النساء في فندق بموسكو، ولم يكن بالطبع قد دار في خلدهما إذ هما في تلك الغرفة من الفندق أن رجال آلة التصوير قد تستروا يسجلون حركات ذلك الغرام العابر.
وكان «جرشجورن» يمص شفتيه الغليظتين إعجابا وهو يناولني تلك الصور واحدة بعد أخرى.
سألته: «لكن ما حاجتكم إلى هذه الصور، والأمريكيان الآن في بلادهما؟» - «نعم، قد عادا إلى أمريكا، لكن ثق وثوقا لا يتطرق إليه أدنى الشك أنهما لن يكتبا شيئا يهاجمان به وطننا الاشتراكي هجوما عنيفا، كما يفعل بعض الأمريكان المناجيس بعد أن يأخذوا ذهبنا الثمين وأحسن ما لدينا من طعام.»
وكان هنالك كذلك مهندس أجنبي آخر لا تزال مغامراته الحمقاء عالقة في ذهني، وأعني به «لنتز»، وهو ألماني ضخم البدن تثنى عنقه الغليظ ثلاث ثنيات متميزة إحداها عن الأخرى، وإنما أرسل إلينا ليقوم بتركيب مجموعة من الآلات وردت من الخارج، ولقد كنت أوثر أن أتفاهم معه بوساطة رجل من رجال مصنعي - هو يورف - الذي كان يتكلم الألمانية قليلا، على الرغم من أن «لنتز» كان يصحبه مترجمتان.
كانت إحدى مترجمتي «لنتز» من نساء الشرطة السرية في «دنيبروبتروفسك» جاءت إلى نيقوبول لهذه المناسبة، ولم يكن عسيرا عليها أن تؤدي مهمتها خير أداء، فقد كانت في الثلاثين من عمرها مليئة بالحياة وليست تخلو من جمال، ولم يلبث أن شاع في الناس ما كان الغرض فيه أن يكون سرا مكتوما، وهو أن «ألكساندرا» كانت تزامل «لنتز» في حياته الخاصة، فكانت ترى مرتدية جوارب حريرية، حاملة حقيبة في يدها مما ورد من الخارج، وغير ذلك من الهدايا التي يثور حولها القال والقيل، ومع ذلك فالظاهر أن القسم السياسي قد رأى أن امرأة واحدة لا تكفي، فأضاف إليها امرأة أخرى هي «ناتاشا».
كانت «ناتاشا» ابنة قسيس أرسل إلى مطارح النفي قبل ذلك بأعوام كثيرة؛ ولذلك كان معروفا في المدينة، ولم تكن «ناتاشا» قد بلغت عشرينها بعد، وكان جمالها من طراز رقيق كجمال الأطفال، ولقد علمت من «يورف» أن «ناتاشا» قد ألزمت إلزاما أن تكون مترجمة ل «لنتز» إذ تهددوها في أبيها ووعدوها أن يأذنوا له بمكاتبتها.
وذات «أحد» جميل قصد الألماني ومترجمتاه ورجل قيل إنه صديقهم، وقيل إنه من هواة السيارات، قصدوا جميعا إلى رحلة نهرية في نهر «دنيبر» وكان معهم طعام كثير ونبيذ وفودكا في القارب البخاري الذي ركبوه، ولكي يضيفوا إلى جمال الرحلة أخذوا معهم حاكيا وعددا من الأسطوانات الروسية والألمانية، وبعد أن سمروا وأكلوا في مكان منعش جميل على شاطئ النهر، وبعد أن أصغوا إلى ألحان الموسيقى، استصحب «هاوي السيارات» كبرى الفتاتين إلى مشية قصيرة، وأما «لنتز» الذي كان عندئذ قد صعد فعل النبيذ إلى رأسه شيئا فشيئا، وزاد على النبيذ فعل النساء والغناء الألماني، أقول: أما «لنتز» فقد بقي وحده مع «ناتاشا» التي تسيل اللعاب.
وحدث ما توقعوا له أن يحدث، وهو أن أخذ الرجل بأسباب الغزل فصدت الفتاة تلك الأسباب، وهي بين الإثارة لشهوته والحياء من القبول، لكن المهندس «لنتز» لم يزد إلا إلحاحا، وفي اللحظة التي خلع الألماني للفتاة قميصها فعرى ثدييها الناضرين، خيل إليه أنه يسمع صوتا في الشجيرات القريبة، فألقى فريسته من يديه وبقفزة واحدة ذهب إلى مصدر الصوت بين الشجيرات، ليجد «هاوي السيارات» على وشك أن يصور فيها بآلته صورة ثانية لمنظر الألماني وهو يعابث الفتاة.
فعاد إلى «لنتز» صحوه فورا، وجذب آلة التصوير جذبا سريعا وحطمها تحطيما وألقى بها في النهر، وأمطر السباب على «هاوي السيارات» الذي أرسله القسم السياسي، وعاد إلى داره، ولما شكا الأمر إلى الإدارة في اليوم التالي، مهددا بأن يبلغ القصة كلها إلى السفارة الألمانية، أكدوا له أن ذلك لم يزد على مهاذرة أصحاب في يوم عطلة، وليس له أي معنى من معاني السياسة على الإطلاق، لكن «لنتز» لم يكن من الحمق بهذا المكان. «أنا أحسن تصويرا من شرطيكم.» قال ذلك في نغمة المزهو ثم قهقه ضاحكا: «انظر إلى هذه المجموعة.»
وعرض صورا له مع ألكساندرا في عدة مواقف غزلية.
ثم قال: «لو أرادت حكومتكم صوري مع «ناتاشا» لسرني أن أقدمها لها، ولم يكن ثمة ما يدعو أن تكلفوا أنفسكم قاربا بخاريا ورحلة نهرية، فها أنتم أولاء ترون أني من رجال التصوير الشمسي أيضا.»
فلم يلبث «لنتز» أن طلب إليه مغادرة الروسيا، وأغلب ظني أنهم أجزلوا له العطاء ماركات ألمانية ثمنا لكتمانه الأمر عن السفارة الألمانية، وعادت «ألكساندرا» إلى «دنيبروبتروفسك» حيث يتسع لها المجال لإظهار مواهبها في المهندسين الفنيين الأجانب، وإنهم في تلك المدينة لكثيرون، ولست أدري هل كوفئت «ناتاشا» على صنيعها بأن أذن لها أن تكاتب أباها، وأما «يورف» فإنه لما قبض عليه بعد ذلك بعام، اتهم بأشياء كثيرة بينها «الاتصال بالفاشيين من الألمان»، وكان كل أساس هذه التهمة أنه كان حينا بعد حين يترجم ل «لنتز».
الفصل الثالث عشر
السرعة السرعة!
في شهر سبتمبر من عام 1935م حدثت «معجزة» في منطقة الفحم من حوض الدنتز، وتلك هي أن عاملا يدعى «ستاخانوف» استعدن 102 من أطنان الفحم في نوبة واحدة، وهو مقدار يساوي ما يستخرجه العامل الواحد في المتوسط أربع عشرة مرة! ولن تجد من أحداث التاريخ الحديث إلا عددا قليلا صادف ما صادفته هذه الحادثة من تهليل وتكبير، بحيث ظلت تذاع أمدا طويلا وفي كثير من الهوس والأساليب المسرحية، غير أن المعجزة لم تجاوز حدود ما يمكن فعله في ظروف هذه الحياة الجارية، ولم تخل من أوجه النقص التي تشوبها، فلم يكن من العسير على مهندس عملي أن يتبين في الأمر عوامل الخداع، إذ كان من الجلي الواضح أن قد أعدت ظروف خاصة وأدوات خاصة وبعض المعاونة بحيث يتمكن «ستاخانوف» من الوصول إلى هذا الرقم القياسي، وإذن فقد دبرت المعجزة تدبيرا ليتخذ الكرملن منها وسيلة لإذاعة ديانة جديدة، ديانة عقيدتها السرعة في العمل.
فما فعله «ستاخانوف» يستطيع كل عمال المناجم أن يفعلوه! وما يستطيع فعله عمال المناجم، إنما تستطيعه كذلك سائر الصناعات! وفي هاتين العبارتين تتلخص لك العقيدة الجديدة، وأما من تشكك في هذه العقيدة، فقد حق عليه العذاب، ولم يكونوا ليمهلوه حتى ينتقل إلى الحياة الآخرة فيصلى نار الجحيم بما قدمت يداه، وإذن فكل فني يبدي اعتراضات في طرائق التنفيذ إنما يحشر في دعاة الهزيمة وأعداء «العقيدة الإستاخانوفية»! ومن لم يبلغ مثل الإنتاج الذي ضربه عامل الدونتز، كان من المتكاسلين.
وصاحت «موسكو» صياحا عاليا بعبارات تذيع بها في الناس هذا المذهب «الإستاخانوفي»، وأخذت تتدفق رسائل البرق إلى «نيقوبول» آتية من «خاركوف» و«موسكو» تحمل الأوامر من مكاتب الرياسة، وكان كل أمر من هاتيك الأوامر بمثابة التهديد الصريح، فواجبنا كما تمليه الأوامر هو أن نكون في الحال فرقا «ستاخانوفية» تضرب المثل في سرعة العمل لمن يتراخى، فإذا ما اعترض معترض من المهندسين أو الملاحظين عد عاملا من عوامل التخريب.
لم يكن قد مضى على مصانعنا في العمل ستة أشهر كاملة، ظلت تعمل خلالها ثلاث نوبات كل يوم على الرغم مما يحيط بذلك من عقبات، فلم يكن الصلب وغيره من المواد الخامة مما يبعث على الرضى لا كما ولا كيفا؛ وذلك لأن معظم العمال كانوا حديثي عهد بالصناعة، ومعظم المشرفين عليهم بغير خبرة كافية، زد على ذلك ضعفا في الحيوية البدنية عند العمال لقلة غذائهم وسوء أحوال معاشهم، ولئن مست بنا الحاجة إلى شيء فذلك هو تنسيق عمليات الإنتاج، أما أن تزيد من عبء العمال أو تزيد الضغط على الآلات، فلئن جاز أن نطالب به في أية لحظة أخرى، فلم يكن ذلك ليجوز في ذلك الوقت، فوسيلة الإنتاج المطرد ليست هي الحركات العنيفة المفاجئة لضرب الأرقام القياسية، بقدر ما هي في التعاون والانسجام، وكيف تستحث ألفا وخمسمائة عامل أو يزيدون، يعملون معا عملا مشتركا، تتداخل كل خطوة من خطواته في الأخرى، كيف تستحثهم على الإسراع بغير خطة محكمة دون أن يصاب العمل كله بالفوضى والاضطراب؟
لكنها أوامر ولا بد من تنفيذها، ووجه زعيم الحزب «كوزلوف» و«المدير براتشكو» دعوة بالحضور للمهندسين ورؤساء الأقسام، وكان الرفيق «برودسكي» يمثل «اللجنة المحلية»، ولم يكن مستبعدا أن تأخذ الأوهام رجلين مثل «برودسكي» و«كوزلوف» - باعتبارهما من غير رجال الصناعة - لم يكن مستبعدا أن تأخذهما الأوهام من حيث تطبيق «المذهب الإستاخانوفي» في مصانعنا، لكن «براتشكو» كان رجلا من رجال الصناعة العمليين؛ ولذلك فقد أدرك ما في الأمر من سخف إدراكا واضحا كما أدركته أنا، ومع ذلك فلم يكن بوسع أحد منا سوى أن ينشئ فرق السرعة الإستاخانوفية مهما يكن ما يكلفه ذلك من خسارة في الكفاية والنظام.
وسأل أحد المهندسين قائلا: «أيأذن لي الرفيق براتشكو بسؤال؟» - «سل ما تشاء يا لازار بتروفتش.» - «أنا رئيس قسم فيه مائة وثمانون عاملا، فلو أسرع عامل واحد عن بقية زملائه تعقد حبل العمل في القسم كله، فهل تتفضل بأن تشرح لي في صورة عملية كيف أستطيع أن آخذ الأسلوب الإستاخانوفي؟»
ولم يستطع «براتشكو » أن يشرح له ما يريد بطبيعة الحال، وكل ما كان في وسعه هو أن يعيد الأقوال التي تطبل بها موسكو وتزمر، فيوقع نفسه في لغو سياسي لا غناء فيه؛ فأسفت له لأني رأيته ضحية الإسراف في وضع الخطط النظرية التي ترمي إلى بعيد وتهمل الواقع، بل كنا جميعا ضحايا هاتيك الخطط.
ولقد اضطررت في نهاية الأمر أن ألجأ في جانب المصنع الذي كان مسندا إلي إلى أسلوب في الإسراع لم تكن تمليه طبيعة العمل، فكنت أعده في صميم نفسي جريمة في حق الآلات والعمال في آن معا، وجاءتني أوامر صريحة من لجنة الحزب أن أعيد تنظيم عمالي بحيث أضع خيرة العمال ورؤساءهم والمهندسين في نوبة واحدة، ثم انتقينا من الأدوات والمواد أحسنها، وخصصناها لتلك النوبة من نوبات العمل، وبعد أن أعددنا عدتنا على هذا النحو، أصدرنا كلمة الأمر لهذه اللعبة الخادعة أن تبدأ شوطها.
وذات مساء في الساعة الحادية عشرة، وبحضور طائفة من الصحفيين والمصورين، بدأت النوبة «الإستاخانوفية» عملها، فزادت في إنتاجها عن الإنتاج المادي بمقدار ثمانية في كل مائة، وكانت الزيادة متوقعة، فصدرت الصحف بأسطر من الخط العريض، وجاءت التهاني من الموظفين في العواصم، فتنفسنا نحن الصعداء لأننا استطعنا أن نحول عن أنفسنا ضوء المصباح الكشاف، ولقد خصني من المدح شيء كثير باعتباري الرئيس الفني المسئول.
لكن هذا «النصر» الذي ظفرت به في الجبهة الصناعية، تبعه في النفس حزن عميق، فهذا النصر الصناعي غش في أساسه ولا بد أن يرتد سهم الغش إلى نحري، فالنوبتان الأخريان قد حرمتا خيرة الرجال وأحسن الأدوات فخسرتا في إنتاجهما خسارة أكبر مما كسبت النوبة الرابحة، وظهر رجال هاتين النوبتين - بالموازنة مع رجال النوبة الممتازة - بمظهر ذوي الهمة الضعيفة، بل ظهروا بمظهر «الكسالى»، وطبيعي لم تطمئن نفوسهم لهذا الوضع الذي جعل منهم أمثولة، فصبوا سخطهم على زملائهم الذين أسعدهم الحظ وعلى الموظفين في آن واحد.
ولم تلبث موجة الإسراع أن تحولت في طول البلاد السوفيتية وعرضها إلى حملة شعواء تعمل عملها في الجو المألوف من ضغط وإرهاب، وفصل من العمل ألوف المديرين، وقبض على كثير منهم بتهمة إنزال الخسارة «بالإنتاج الاشتراكي» الجديد، وبتهمة «الفشل في تهيئة الظروف الإستاخانوفية الصميمة»، ووقعت تبعة التأخير في الإنتاج - كائنا ما كان - على عاتق المهندسين والفنيين، وصور للرأي العام أن العمال يتحفزون لزيادة الإنتاج، غير أن مديري المصانع يدبرون الخطط عمدا لتعطيل ما يبتغيه العمال.
وهكذا باعدوا بين العمال وهيئات الإشراف الفني.
ولم يكن يخفى حتى على أبسط عمال المصانع أو المناجم عقلا، أن هذه الأرقام القياسية التي يبلغونها بوسائل الإسراع المفتعلة لن تلبث أن تصبح «معيارا» يقيسون به كل عامل.
ولما بلغت هذه الموجة الإسراعية ذروتها في نوفمبر، دعي إلى موسكو مؤتمر وطني قوامه قادة «الإستاخانوفيين» وخطبهم ستالين فأمطرهم ثناء، مقارنا حماستهم بتلكؤ العمال الآخرين، وأصبح هؤلاء «الإستاخانوفيون» منذ ذلك الحين يكونون صفوة ممتازة بين العمال، يتقاضون أجورا أعلى كثيرا من أجور زملائهم، ويتمتعون بكل ضروب المزايا - وخاصة من حيث الطعام والثياب - مما لم يكن يتمتع به العمال بصفة عامة.
وكذلك باعد الكرملن بين طوائف العمال المختلفة، فكانت القاعدة القديمة «فرق تسد» تطبق على أمة بأسرها تحت راية «إقامة البناء الاشتراكي».
ولم يطل بنا الانتظار حتى شهدنا أسوأ ما يساور العمال من قلق يصبح حقيقة محسوسة، فقد جاءت الأوامر التي ليس إلى ردها من سبيل بأن تراجع «معايير» الإنتاج - التي كانت تقدر الأجور على أساسها - فترفع من عشرة في المائة إلى عشرين، ولم يكن هذا الأمر إلا تعبيرا ملتويا لو وضع في عبارة مستقيمة لكان معناه أن نبتز من العمال عملا أكثر مما يعملونه بمقدار عشرة إلى عشرين في المائة نظير الأجور عينها التي يتقاضونها، فقد كان في مصنعي - وعماله يبلغون ألفا وخمسمائة - ما يقرب من مائتين من «الإستاخانوفيين» أو ملوك السرعة، أما الباقون فقد كانت مراجعة معايير الإنتاج بالنسبة إليهم معناها خفض خطير في مقدار كسبهم، فشاع في الناس امتعاض صامت عابس لا يخطئه النظر.
ولكي يضيفوا إلى الإيذاء إساءة طالبوا بأن تقدم المعايير الجديدة إلى العمال ليقبلوها «بأنفسهم» ولم يكفهم أن يجيء ذلك «تطوعا»، بل أرادوا أن يصدر عن حماسة، ومثلت المهزلة حتى ختامها في سلسلة من الاجتماعات، بدأناها باجتماع عام ضم كل من كان في المصنع من قادة الحزب ورؤساء العمل الفني ونقابة العمال و«البارزين» من صفوف العمال أنفسهم، فقد كان واجب هؤلاء أن يرشدوا غمار العمال إلى «فهم» طرائح الإنتاج الجديدة وقبولها.
وأعد كل شيء وعملت تجاربه مقدما، فقرئت خطبة ستالين التي ألقاها ثناء على «الإستاخانوفيين»، ونهض «ستاروستين» عن النقابة و«كوزلوف» عن الحزب وآخرون عن الموظفين الفنيين، فشرحوا - تعلو وجوههم أمارات الجد - كيف أن معايير الإنتاج الوطيئة التي كانت سائدة عندئذ إن هي إلا بمثابة الإهانة للحماسة الاشتراكية والعبقرية الإنتاجية التي عرف بها حزبنا ومصانعنا، وكذلك قام الشيوعيون الطموحون الذين كانوا ينشدون الظهور والرقي، قاموا فاستغلوا هذه الفرصة في تأكيد عبادتهم لستالين تأكيدا عبروا عنه بأقوال مكرورة رددوا بها ما تقوله الصحافة والإذاعة ترديد الصدى.
وقرئ في النهاية قرار باقتراح زيادة طرائح الإنتاج زيادة كبيرة، فووفق عليه «بالإجماع».
وبعدئذ عقدت اجتماعات من فروع المصنع المختلفة، حضرها العمال كلهم، وأعلن زعماء السياسة ورؤساء العمل الفني - يعاونهم في ذلك «البارزون» من العمال - ما كانوا قد أعدوه من عبارات واقتراحات، فلما اجتمع رجال القسم الذي أديره من أقسام المصنع، جلس العمال عابسين صامتين لا تكاد تلمح فيهم علامة من علامات الاهتمام، وكانوا كلما ذكر اسم ستالين صفقوا تصفيقا آليا، ولم يستطع رجال الحزب الهتافون الذين انتشروا في أجزاء القاعة أن ينفخوا في المجتمعين ما أرادوه لهم من تحمس حار، فمعظم الحاضرين من رجال ونساء كانوا قد فرغوا لتوهم من عمل مجهد دام ثماني ساعات، فكانوا متعبين قلقين لا يريدون إلا أن تنتهي هذه المهزلة التي أمامهم ليذهبوا إلى منازلهم. قرئ عليهم تقرير عن العمل المجيد الذي أداه «الإستاخانوفيون»، وأعلنت لهم الطرائح التي اقترح إنتاجها منذ عهد قريب، ثم وقف بعض أعضاء الصفوف الخلفية في نقابة العمال، وتكلموا كما أريد لهم أن يفعلوا حسب خطة وضعت من قبل، فاستحثوا الناس على الأخذ بنظام الطرائح الجديدة في الإنتاج، وبدأت عملية التصويت.
وصاح رئيس نقابة العمال بما طلب إليه من قبل أن يصيح به، فقال: «أقترح أيها الرفقاء أن توافقوا على القرار بالإجماع.»
من الموافقون؟ فارتفعت أيد كثيرة غير حافلة لما ارتفعت له.
ومن المعارضون؟ صمت، وهنا ارتفع صوت امرأة ارتفاعا مفاجئا: «أيها الرفيق الرئيس، إن كيريوشكين ها هنا لم يصوت.»
بهذا انبعثت الحياة في الاجتماع لأول مرة، أفي جماعتنا ثائر؟ أبين الأرانب ليث؟ فها هو ذا رجل مغمور اسمه «كيريوشكين» - كائنا من كان - بلغت به الجرأة ألا يرفع يده بالموافقة، وبهذا اكتشفت جريمته ضد الاشتراكية! فالثورة في طرف، واليقظة الساهرة في طرف، والبلاد يجيئها الإنقاذ في آخر لحظة ممكنة.
سأل الرئيس في صوت المغيظ: «أيها الرفيق كيريوشكين ألست من المصوتين؟»
فوقف رجل نحيف وديع المحيا، وكان وجهه ملطخا بالزيت لكنه ينم عن رزانة، وقال في صوت وقور: «لماذا يتحتم أن أصوت؟» قال هذا وهز كتفيه هزة يعبر بها عن عاطفته: «إن المعايير الجديدة نافذة على أي وجه من الوجوه، إن مهمتي هي أن أعمل، وها أنا ذا أعمل، ماذا تريدون مني غير هذا؟ أهو واجبي أن أرفع يدي موافقا؟ لا بأس، فهذه هي يدي أرفعها.» ورفع فوق رأسه يدا غير آبهة لما تفعل: «إن زوجتي وأطفالي يريدون مني زيادة في الكسب، وهذا الذي نصوت له معناه قلة فيما أكسبه ...»
وضحك بعض الحاضرين، لكن الكثرة الغالبة ظلت صامتة متأثرة بما قاله الرجل وبالطريقة التي تكلم بها.
وصاح صائح: «أيها الرفاق، إن كيريوشكين يستخف بالاجتماع ويلطخ الحركة «الإستاخانوفية» بالوحل! إنه لا يحس بواجبه نحو الجماعة.»
فهز كيريوشكين - الذي كان ما زال واقفا - كتفيه مرة أخرى وقال: «واجب نحو الجماعة! لست أدري ماذا تريد، إنني أحس أن أجري كل شهر مائة وأربعين روبلا فقط، ولدي زوجة وأطفال يريدون القوت.» - «كفانا مهزلة! هيا إلى الموافقة على القرار!» قال الرئيس ذلك مقاطعا، غير أن العامل الوديع غلبته جرأته فقال مخاطرا بنفسه: «ماذا تعني بقولك مهزلة؟!» ثم رفع صوته على نحو لم يكن يتوقعه السامعون: «انظر إلي، هذه الحلة التي أشتغل بها هي الحلة الوحيدة عندي، ولن تلبث أن تصبح هلاهيل، وأسرتي جائعة لا تكفي لإطعامها هذه المائة والأربعون روبلا التي أتقاضاها كل شهر، فإن كانت هذه مهزلة، إذن فكيف تكون المأساة؟»
وجلس، ولم يضحك من الحاضرين إلا قليلون.
وكانت مهمتي في هذا الاجتماع أن أشرح للحاضرين من وجهة النظر الهندسية أن معيار الإنتاج الجديد ممكن وعادل في آن معا، ولم يكن لي بد من أداء مهمتي، وبينا أنا ألقي على الحاضرين حديثي، كدت أقنع نفسي - وإن لم أقنع السامعين - أننا قادمون على حياة جديدة أوفر ثراء من حياتنا الراهنة لو عرف كلنا كيف يجيد العمل فينتح إنتاج الأكفاء، فقلت فيما قلت: إننا عشنا قرونا في خمول وتأخر، ولا بد لنا أن نعوض هذا كله في جيل واحد قصير الأمد، وقد أحسست حينئذ بالأسف لنفسي ولهؤلاء الرجال والنساء المنهوكة قواهم، الذين هم بمثابة عشيرتي، فنحن الجيل الذي شاء له التاريخ - إن حقا وإن باطلا - أن يحمل التضحية والعناء.
وكان في قرارة نفسي إذ أنا ألقي حديثي وأزداد في إلقائه حرارة، فكرة استقرت لا تتزحزح، وهي: «لا بد لي من مساعدة كيريوشكين ...»
وختمنا اجتماع العمال، وكان ختامه تصفيقا من هنا وتصفيقا من هناك، وتفرق الناس، حتى إذا ما جاء اليوم التالي رأيت في صحف نيقوبول وصفا للاجتماع بلغة الرياء التي نعهدها في مبالغات الكتابة السياسية: «طالب أمس عمال الشعب في مجموعة الصناعة التعدينية في نيقوبول وسط حماسة عاصفة، بأن تراجع معايير الإنتاج القديمة التي لم تعد تلائم الزمن في تطوره، وأعلنوا بالإجماع أن ...» ولم تذكر الصحف سطرا واحدا عن كيريوشكين.
أرسلت إلى كيريوشكين أن يجيء إلى مكتبي في نهاية العمل ذلك اليوم، فلما انتهت نوبة العمل، سمعت حركة في غرفة استقبالي.
سمعت أمينة سري تقول: «أين أنت ذاهب؟ إن الرفيق كرافتشنكو مشغول بحيث لا يستطيع لقاءك.» - «صدقيني لست أريد لقاءه، لكنه هو الذي أرسل يطلب حضوري.» - «ماذا بينك وبينه؟» - «ماذا عسى أن يكون بيني وبين الرئيس؟ إنه يطلب مني الحضور فأحضر.»
فدققت جرسا لأمينة سري وأخبرتها بأن تسمح للزميل بالدخول، ودخل كيريوشكين ممسكا قبعته بيده.
قلت: «تفضل بالجلوس.» - «شكرا، أستطيع الوقوف.» - «ولكن فيم الوقوف؟ تفضل بالجلوس.»
وجلس إلى مكتبي من ناحيته المقابلة لي، فسألته كيف حال العمل معه؟
فأجاب: «حال العمل معي هو حاله مع كل عامل آخر، فأنا أعمل ما بقيت في جسدي قوة تعمل.»
عرفت منه أنه جاء إلى المصنع منذ عامين، جاء من الريف بعد أن ضمت مزرعته إلى المزارع الجماعية، وعرفت كذلك أنه كان يخدم قبل ذلك في الجيش الأحمر، وأنه أحضر معه بعض المتاع لكنه باعه لحاجته إلى المال. - «إن زوجتي تمسح أرض الغرف في منازل بعض الموظفين، فيأتينا ذلك بما يعين، وهي تغسل الثياب كذلك، لكن لي أطفالا ثلاثة وليس من السهل أن أدبر نفقات عيشهم ولكن فيم الشكاة وليس بين العمال من هم خير حالا مني؟»
كان يتكلم في أناة، يزن كلماته وزنا وينظر إلي وجها لوجه، ولم يكن في سلوكه غطرسة ولا خور، لم يبد إلا أسفا عميقا أسلم زمامه لتصريف القضاء. - «نعم يا فكتور أندريفتش، ماذا عسى أن أقول؟ إنك أنت، أنت واحد من الرؤساء، تستمتع بحياة طيبة، إنك تحيا في دنياك وأحيا أنا في دنياي، إنك لن تفهم حالة الناس الذين هم على شاكلتي.» - «لا تزعم ما لا تعرف أيها الرفيق كيريوشكين، فقد أكون على فهم بحالة هؤلاء أكثر مما تظن، لكن دع عنك هذا الآن وقل لي، هل تريد أن تعمل في الآلة القاطعة، إن أجرك هناك سيرتفع إلى مائتين وعشرين روبلا أو أكثر، وسيكون من حقك بعض الثياب: حلة وحذاء.» - «بكل سرور، لا بد للإنسان أن يعيش.»
فأصدرت أمري أن ينقل إلى عمله الجديد، فشكرني وانصرف، وسرني من أعماق قلبي أن أراه من أول الأمر إلى آخره محتفظا لنفسه بكرامتها دون أن يبدي أقل علامة من علامات الزيغ، واستدعيت «ستاروستين» واتفقت معه أن يدبر له شيئا من المال يأخذه من «رصيد المساعدة المتبادلة»، ثم أمرت زيادة على ذلك أن تصرف له مجموعة من ملابس العمل وحذاء.
كانت مسافة الخلف الاجتماعي بين رجل مثل «كيريوشكين» وبين «أرستقراطي» من نوع «إستاخانوف» أبرز في شعور الناس من المسافة بين العمال والإدارة، وذلك بسبب الصلة اليومية الدائمة بين من هم من قبيل «كيريوشكين» ومن هم من النوع «الإستاخانوفي»، والظاهر أن السياسة الرسمية كانت تعقد النية على توسيع هذه الفوارق وعلى خلق أسباب أخرى مما يبث العداوة والريبة بين الناس ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
كان المهندسون ورجال الإدارة في الصناعة يلقون ازدراء يزداد يوما بعد يوم لما زعموه فيهم من «رجعية» ومن «تعطيل» للذين يضربون لغيرهم الأمثال في سرعة الإنتاج، وقد ساهم رجال الهيئة التنفيذية من الحزب في هذا الإيقاع بالإخصائيين في أفخاخ المهاجمين، وذلك لئلا يتجه اللائمون نحوهم بلائمة، وهكذا أخذ نفوذنا ينهار انهيارا لا ينقطع، فلما أحس بعض المهندسين ورؤساء العمال بل وبعض الأيدي العاملة الصغيرة، أن الكلمة العليا أصبحت لهم دون رؤسائهم، راحوا يتخذون قرارات جزافية يزيدون بها من أجورهم، وكثيرا ما كان ذلك يؤدي إلى أفدح النكبات بالإنتاج على وجه الإجمال.
ونفخت السياسة في أبواق الكفاية الإنتاجية فاتخذت لنفسها حق التصرف في الشئون الصناعية، فكثيرا ما كانت الكلمة النهائية في هذه الشئون للموظفين الشيوعيين أو لرجال الشرطة دون المهندس أو مدير المصنع، حتى لو كان الأمر متعلقا بمشكلات فنية خالصة، فكنا في صميم عهد من عهود الفوضى والحرب الأهلية في دائرة الصناعة، ووقعت بين حدبن: التعليمات الآتية من موسكو من جهة، وارتياب الأدنين من جهة أخرى بين شاق الأعمال وتدهور النظام، حتى أصبح الاضطراب العصبي والإرهاق صفة حياتي العادية أو كادا.
وأيقظني التليفون ذات مساء، فإذا بي أعلم أن إحدى الآلات أصيبت بعطب فجأة فتعطل نصف الفرع الذي أشرف عليه من فروع المصنع، فتمتمت لنفسي قائلا: «وهذا وجع رأس جديد.» ثم ارتديت ملابسي، حتى إذا ما بلغت المصنع وجدته يموج بألوان الموظفين ، فرئيس القسم السياسي في نيقوبول قد حضر بنفسه، كما حضر «دوروجان» و«جرشجورن» وغيرهما من المساعدين، وأخذ «كوزلوف» و«ستاروستين» ومهندسون كثيرون يهرولون حلقات حلقات، بينما جلس الإخصائيون من رجال الشرطة في مكتبي يستجوبون من حامت حولهم الشبهات ويدونون مذكراتهم.
ولم ألبث طويلا حتى تبينت ما حدث، فلا بد أن بعض «الإستاخانوفيين» المتحمسين وأحد المهندسين، قد قرروا على غير أساس أن يزيدوا من سرعة دوران المخرطة، ولما كانت هذه الآلة الأسطوانية لم تصطبغ بالعقيدة في ستالين انكسر منها جزء كبير عند الحزام الرئيسي وتعطلت آلة عن العمل، وكان الأمر على كثير من الخطورة؛ لأن الآلة المكسورة كانت صناعة ألمانية فلم يكن في الإمكان إصلاحها أو تغييرها قبل زمن طويل.
كان الموظفون الذين تكاثروا هناك حينئذ يتجهون بتفكيرهم اتجاها بوليسيا، فلم يعنهم إصلاح ما فسد بقدر ما عناهم ضبط المسئولين عن هذا الحادث، فانبث المحققون في أرجاء المصنع، وقامت استجوابات سرية في المكتب الرئيسي للقسم السياسي، سادها التهديد والشتائم، ولقد دعيت عدة مرات ووجهت إلي أسئلة، بحيث لم يمض ذلك المساء بما فيه حتى خارت قواي ولم أعد كثير النفع في مباشرة العمل، فالتعليلات البسيطة الواضحة لم تكن لتقنع «جرشجورن» لما اتصف به من التواء وعجز في تفكيره، فكنت تراه يصيح ويرغي ويزبد ويطالب ب «دليل» على اتهام هذا الشخص أو ذاك، وكلما ذكر اسما رأيت ملف أوراق يبرز فورا من مكمنه. ولم يكفهم أن يفرضوا الرقابة على كبار الموظفين، بل فرضوها كذلك على الصفوف الدنيا من العمال.
وصرخ جرشجورن قائلا: «كرافتشنكو، لست أراك بالمعين لنا فيما نحن بصدده، وصدقني إن قلت لك: إنك قد تدفع ثمن ذلك! فمن أجل نفسك أنت ينبغي أن تساعدنا على ضبط عوامل التخريب.»
وإذ نحن في معمعان هذه الأيام المليئة بأسباب الاضطراب، جاءني عامل ميكانيكي ماهر - هو دوبنسكي - يصحبه مساعده شباشنسكي، فبينما كان الآخرون في هياجهم يحققون، كان هذان الميكانيكيان العظيمان يخبران المعادن ويجريان التجارب الحرارية ويخططان التصميمات، وانتهى بهما البحث إلى الرأي بأن في مستطاعهما أن يصنعا بديلات للأجزاء المكسورة، لكنهما أرادا ضمانا بأنه في حالة فشلهما لا تقع تبعة الزمن الضائع والمادة المفقودة على عاتقيهما.
وبعد دراسة ما قدماه من رسوم وأرقام، قررت أن التجربة التي يقترحانها جديرة بالاختبار، فأبلغت قراري «لبراتشكو» و«كوزلوف» و«بروسكي» وقاية لهذين الرجلين وحماية لنفسي، وكذلك أمليت تقريرا وافيا أرسلته ل «رياسة صناعة الأنابيب» في خاركوف ثم عينت للتجربة ما يلزمها من رجال ومادة وأمرت بالبدء في إجرائها.
لكن على الرغم من كل ما اتخذته من أسباب الحرص السياسي، فقد كان يشغلني قلق عميق، إذ تصادف لي أن أعلم من مجرى التحقيق في مكتب القسم السياسي أن «دوبنسكي» هذا لأمر لا أدريه كانت تكتنفه غمامة من الريبة من قبل الهيئة الرسمية، مع أنه كان رجلا مسنا هادئا وقورا قادرا، وكان من الجميع موضع الإعجاب، لكنه لما كان قد علم نفسه بنفسه واتسعت مطالعاته، فقد كان يمثل الرجل المثقف من نمط ما قبل الثورة، وهو نمط أخذوا ينظرون إليه عندئذ بأنه يميل بشكل ظاهر نحو الذبذبة السياسية، ولقد كان «دوبنسكي» عضوا في الجماعة «المنشفية» من فريق الديمقراطيين الاشتراكيين برياسة القيصر، ولم يكفه ثمانية عشر عاما يقضيها في عمل يخلص له تحت إشراف السوفيت ليمحو هذه الوصمة الشنيعة من صحيفته.
وقبل كل شيء وأهم من كل شيء، فلقد خيل إلى هؤلاء الذين اصطبغت عقولهم بالصبغة الشرطية، الذين لا يحيون إلا إذا أثاروا الفزع في النفوس، الذين يصعدون على أكتاف غيرهم والذين يتصيدون الأبرياء كما كان الناس يتعقبون السحرة في قديم الزمان، خيل إليهم أن «دوبنسكي» هدف جميل يمارسون فيه أساليب الاضطهاد، وأراد القدر الساخر أن يكون «دوبنسكي» هو الرجل الوحيد الذي تقدم بفكرة عملية في سبيل إعادة الإنتاج إلى مجراه، فلو فشلت تجربته، فالأرجح عندي أن يتخذ «جرشجورن» وعصبته من هذا الفشل فرصة هم في انتظار مثلها؛ لأنهم عندئذ يتهمون هذا الذي كان في ماضيه عضوا «منشفيا» بتهمة التعطيل المتعمد.
ظللت في المصنع مع «دوبنسكي» و«شباشنسكي» أربعة أيام ، ووقف المخبرون التابعون للقسم السياسي جانبا يرقبون، لينزلوا بنا الثبور إذا ما حادت بنا الأمور عن الجادة المستقيمة، لكن أمرنا انتهى إلى عاطفة تضطرب في صدورنا حين اختبرنا الآلة بعد تركيب الأجزاء الجديدة التي صنعت لها حديثا، فإذا الآلة تدور! لقد دارت عجلة الإنتاج دورتها من جديد.
ومع ذلك كله فقد مضى التحقيق في سبيله بضعة أسابيع أخرى، فإن الشرطة لما فشلت في إيجاد شخص أو أشخاص تمثل بهم لما أصاب الآلة عن عطب، أخذها الغيظ وأحست خيبة الرجاء كأنما قد خدعت عن فريستها المشروعة، ولا أظن أن علاقتي برجالها قد حسنت بما تم من إصلاح؛ إذ إنني لم أحافظ تمام المحافظة على كتمان رأيي فأعلنت أن الأمر كله في نظري حادث بسيط لا يستحق كل هذه اليقظة من رجال الشرطة.
كلا ولا حسنت علاقتي على الأيام بمندوبي نقابة العمال أو الحزب، فكاد ألا يمضي أسبوع يخلو من صدام بين حماستهم السياسية وبين وسيلتي في إدارة الإنتاج بعقل فطري سليم، وها أنا ذا أختار من عشرات الحوادث التي وقعت بيني وبينهم عددا قليلا مما أبقته لي الذاكرة، ولا أختار ما أختاره إلا جزافا.
فقد حدث ذات صباح أن وجدت الفرع الذي كنت أشرف عليه من فروع المصنع قد أصابه اضطراب عجيب، فقد حدث شيء من الخلل وأحسست كأنما شحن الجو بالكهرباء، وسرعان ما شهدت السبب، ففي ركن من أركان المكان، وعلى مرأى من كل من كان في المصنع، رصت بعض الأنابيب رصا فنيا ووضع عليها لافتة ضخمة كتب عليها ما يأتي: «يجب أن يعلم عمال هذا القسم ومهندسوه من ذا يعطل الحركة الإستاخانوفية.»
ثم تبع ذلك قائمة طويلة بأسماء، فالظاهر أنهم وجدوا عددا من الأنابيب التالفة، فأرادوا أن يذلوا طائفة المسئولين على هذا النحو، مع أن الأسماء المثبتة في القائمة - فيما أعلم - كلها لعمال مخلصين لا يؤخذ عليهم شيء من التقصير، والعيب في الأنابيب قد يكون راجعا إلى شوائب في صفاء الصلب ولا يمكن إلقاء التبعة جزافا على هؤلاء الناس فأمرت بهذه الأنابيب «المعروضة» وما عليها من لافتة أن تزال عن مكانها، وغضب «ستاروستين» لذلك غضبا شديدا، وقرعني تقريعا على تدخلي في عمله، وهو تربية أعضاء النقابة «تربية سياسية»، ولمح لي تلميحا فيه نغمة التهديد بأنني أغض من شأن ما ينبغي أن يكون ذا شأن.
ولم يمض بعد ذلك طويل وقت حتى شهدت «ماكايف» الذي ابيض شعره مع تقدم السن - وهو عامل كان له في نفسي منزلة لجودة عمله - شهدته يبكي في صمت إذ هو قائم بعمله، فلما سألته ما الخبر، أشار إلى الحائط المقابل، فنظرت فإذا بصورة «هزلية» لهذا العامل قد علقت وكتب تحتها: «متلف للحركة الإستاخانوفية.»
وضرع إلي قائلا: «فكتور أندريفتش، خلصني من هذا العار، فإني أعترف بأني ربما اقترفت إثما، والحقيقة هي أن زوجتي مريضة ولم تغمض لي عين مدى أيام عدة، فلست إلا بشرا ولعل في هذا ما اقترفته من إثم، ألا يكفيهم أن يأخذوا مني لقاء التلف ما اقتطعوه من أجر؟ ألا بد أن يضيفوا إلى ذلك هذا التعريض بي لهزء الآخرين؟»
فناديت رئيس العمال.
سألته: «من ذا الذي علق هذه اللافتة؟» - «رئيس نقابة العمال المنوط به قسمنا.» - «انزعها فورا وأرسلها إلى مكتبي.» - «لا أستطيع يا رفيقي كرافتشنكو، فلو فعلت ذلك لجلبت على نفسي المشكلات.» - «قل له: إن الأمر أمري وأنا متحمل تبعته.»
وأزيلت اللافتة المسيئة، لكنه لم يمض على ذلك بضع دقائق حتى جاءني عدد من موظفي نقابة العمال ومن متهوسي الحزب، فتزاحموا حولي، وأخذوا جميعا يتكلمون في وقت واحد، يتهمونني بتعطيل «التربية السياسية» وتشجيع التدهور، كما يتهمونني بأنني «أهدم نفوذ النقابة والحزب»، وهددوا بأنهم رافعون شكاتهم مني إلى خاركوف بل إلى موسكو.
قلت: «هذا جد جميل يا رفاق، اشكوا ما رضيت نفوسكم بالشكوى، أما من وجهة نظري فأنتم الذين تتهمون بالتعطيل بما تقدمون من إساءة إلى رجالي، وبما تهدمون من قوة العمال المعنوية، أنا رئيس هذا المكان، وأجدر بكم أن تعاونوني بدل أن تعاكسوني، ولأقلها لكم كلمة قبل أن أنساها: إن بعضكم كان يجب أن يكون الآن عاملا بدل الوقوف ها هنا مجادلين.»
ولما تقدم ذلك النهار أرسل «كوزلوف» يطلب حضوري، فقد وصلت إليه الشكاوى التي قدمت في شأن «ماكايف»، وإنه في رأيهم لخطر «عظيم»، فعرضت رأيي وسرني أن أراه موافقا لوجهة نظري، ووعد أن يكون ظهيري إذا ما استثارت حماقة هؤلاء الناس بعض الدوائر العليا، وشاع الخبر بأني أقف إلى جانب العمال ضد متهوسي السياسة، فأشاع في النفوس هزة رفعت مكانتي في قلوب العمال، لكن كان ذلك مسيئا إلى من شئت من الموظفين ومن رجال الحزب ذوي النفوذ.
وحدث كذلك حادث استنفد من وقتي ومجهودي عدة أسابيع، وذلك أن عطبت آلة من صناعة ألمانية، وشق علينا أن نستبدل بالجزء المكسور جزءا جديدا، فتعطل جانب من مصنعي عن عمله ثلاثة أيام أو أربعة، فدهم القسم من جديد رجال الشرطة و«أصحاب السلطان» من ذوي الوجوه الجاهمة.
ودرست الحالة دراسة صورت لي الأمر على حقيقته تصويرا سرعان ما انتهيت إليه، فقد حدث أثناء الليل، وكان الضوء رديئا، ولا بد أن يكون أحد العمال قد تناول خطأ قطعة من الصلب لم تكن هي القطعة التي قصد إلى تناولها، فقد كانت الآلة معدة لنوع من الصلب يكون ما فيه من الكربون قدرا ضئيلا، أما إذا وضع فيها صلب يحتوي من الكروميوم على 18 إلى 20 في المائة، ومن النيكل على اثنين في المائة، فإنها تصاب بالعطب، هذا هو الأمر على حقيقته ولم يكن ثمة من لغز عويص.
لكن القسم الاقتصادي لم يقتنع بسلامة تعليلي لما حدث، فقد كان لا يزال يتعقب ما توهمه من مؤامرات التخريب التي لم يتمكن بعد من ضبطها، فراح يحلل الصلب على النحو الذي يرضيه، ويستجوب عشرات من العمال، ويستدعي الإخصائيين من خارج المدينة، ويحصل على تقارير من أستاذ التعدين في معهد دنيبروبتروفسك، وبدا هذا الإجماع على رأي واحد في التقارير «غريبا» في رأي الشرطة، ترى ماذا تكون «وجهة النظر السياسية» التي يعتنقها هذا الأستاذ الذي اتفق مع كرافتشنكو؟ أيكون بينهما صلة من التعارف ؟ فعدت من جديد أنفق الليالي الطوال في جدال كنت فيه على حذر؛ لأن أية كلمة أنطق بها غافلا، أية هفوة من هفوات اللسان، قد يكون مؤداها أن تعود بالخراب على مهندس أو عامل، ولا أقول على نفسي، وحاول «جرشجورن» هذه المرة أيضا كما حاول في المرات السابقة أن يضيق نطاق الاتهام بحيث يحصره في «دوبنسكي»، لكني دافعت عن هذا الميكانيكي في كل موضع من مواضع الحديث.
وجاءني أمر مستعجل بصناعة أنابيب لا يأتيها الصدأ، وكان الأمر مذيلا بإمضاء «أورزنكدز»، ولم يكن مصنعنا معدا لمثل هذا الأمر، ولم تكن لنا خبرة بمثل هذا النوع من العمل، فقبلناه بعد أن أنذرنا أولي الأمر ألا يتوقعوا منا في هذا الصدد أكثر مما ينبغي، فأرسلت لنا من موسكو فرقة تعيننا على ذلك قوامها رجال خبروا هذا الضرب من ضروب الأنابيب، كما خبروا الصناعة الكيميائية التي طلبت من أجلها هذه الأنابيب، وكان بين رجال تلك الفرقة إخصائي في التعدين اسمه «تيموشنكو»، وهو رجل نحيل صغير السن، يلبس منظارا وقد أخذ الشيب يدب في شعره، وخيل إلي أنه في حالة من الذعر المتصل، وقيل لي إنه ابن أستاذ مشهور يسمى بهذا الاسم، كان وقتئذ يعيش ويحاضر في الولايات المتحدة.
وكان العمل بطيء الخطى بادئ ذي بدء كما توقعنا له أن يكون، ولم يكن مما أنتجناه أول الأمر من هذه الأنابيب أكثر من 10 في كل مائة يصلح للاستعمال، بل مرت أيام كان كل ما أنتجناه خلالها معيبا، وجاءنا خبراء من نواح كثيرة ليرشدونا، وعقدنا اجتماعات كثيرة فبحثنا خلالها درجة الحرارة ومقدار السرعة في السير في العمل، وأنماط الصلب وأنواع الالتحام، وكان كلنا حريصا على أن ينجز ما أمرنا بصناعته، قلقا لما أصابنا من تعطل، فمهما يكن من أمر العقيدة السياسية التي نكنها في صدورنا، فقد أحسسنا جميعا أن ستالين قد يجيء وستالين قد يمضي، أما الروسيا فباقية إلى الأبد، وما هو الآن معرض أمامنا للخطر، إنما هو مستقبل الروسيا الصناعي، أما ما كان يعنى به المخبرون الذين تكاثر علينا عديدهم، فهذا شيء واحد فقط: ماذا عسى أن يكون هناك من عوامل التخريب الخافية؟
وانتهى بنا الأمر إلى حل مشكلاتنا الفنية، ووفقنا في صناعة الأنابيب التي لا تصدأ بحيث صادفت قبولا لدى «جماعة كيمورفو الكيميائية»، ووزعت مكافآت طيبة علينا جميعا، غير أن «جرشجورن» وزملاءه ظنوا أنهم قد وقعوا على فريسة فثبتوا فيها أنيابهم لا يدعونها تمضي، وكانت الفريسة بالطبع هي «تيموشنكو» الشاب ومعه طائفة من المهندسين أرسلتهم الشركة الصناعية إلى خاركوف، فحدث ذات مساء أثناء جلسة عاصفة انعقدت في منتصف الليل، أن أخذ «جرشجورن» يصب لهيب غضبه على رأسي المكدود، فلماذا أقف موقف «الحامي من ابن وغد عاق لحزبه؟ ألم أعلم أن «تيموشنكو» كان على اتصال بأبيه الذي أسلم ما عنده للرأسماليين؟»
فقلت مؤكدا: «كل ما أستطيع أن أقوله لك عنه هو أنه شاب قدير، بذل وسعه وأدى واجبه غير منقوص، نعم إننا قد صادفنا مصاعب كثيرة، لكني أؤكد لك أنه لم يخطئ أبدا بحيث كان خطؤه سببا في شيء من تلك المصاعب.» - «إنك تلعب بالنار يا كرافتشنكو! أذكر أن هذا الأمر مما يهم الصناعة الكيميائية، فهو إذن أمر يتعلق بالدفاع الوطني، ومع ذلك فلست أراك تحرك إصبعا في معاونتنا على حصد عوامل التخريب!»
ولم يقلع «جرشجورن» عن غيه إلا حين دفعني الناس دفعا أن أهدد بالاتصال ب «أورزنكدز» تليفونيا لأطلعه على هذا التدخل في عملي من رجال الشرطة، وهكذا كانت الحسنة الوحيدة في هذا الموقف كله هي أن قد كان لي ظهير أستند إليه، ولو وضعت مهندسا في مثل هذا الموقف بغير ظهير كهذا يؤيده لألقى نفسه منذ زمن طويل في أحد السجون، أو في معسكر من معسكرات السخرة.
ولما دعاني «أورزنكدز» إلى موسكو في أوائل عام 1936م، خيل إلي أن هذه الدعوة بمثابة الدرع الواقية أرسلتها الملائكة لحمايتي، ذلك أن علائقي بالقسم السياسي كانت قد بلغت حدا بعيدا من التحرج ولم يعد أمامي ثغرة للمروق، وباتت حياتي في نيقوبول من الصعوبة حدا لا يحتمل؛ لأني أبيت أن أتهم الأبرياء أو أن أغضي عن أفعال الشرطة التي تدفعهم إليها الظنون الخاطئة، أما وقد دعيت لمقابلة «الوزير» فقد أخذت أستجمع شجاعتي لعلي مستطيع أن أبسط الوقائع بين يديه، فتلك فرصة سنحت قد لا تعود.
حياني «أورزنكدز» تحية ودية، ثم أنبأني فيم دعاني، فقال: إن الحاجة قد مست إلى نوع خاص من الأنابيب لصناعة استخراج البترول في «باكو»، وإن الخطة المرسومة للبترول تتوقف كلها على السرعة التي نستطيع بها إنتاج مقدار معين من تلك الأنابيب.
قال: «إنني أتجه إليك يا صديقي لأنني أعلم أنك ممن أستطيع الركون إليهم، وسيكون بين يديك ما تريد من آلات ومواد وأيد عاملة، فإذ أصبت التوفيق كافأتك بسيارة وسام، وكافأنا زملاءك جميعا بالعلاوات.» - «لا شك أني باذل جهدي لا أدخر وسعا، وإنه ليسرني أنك عالم بما يعوزنا من آلات، ولكني أحب أن تعلم يا «جريجري كونستانتينوفتش» أنني أعمل في ظروف من تدخل القسم السياسي تجعل الحياة ضربا من المستحيل؛ لذلك ينتابني اليأس.» - «ماذا تعني؟»
فأخذت أقص في تفصيل كيف يتعقبون أعمالنا الفنية كما يتعقب الصائد فريسته، وكيف تأخذهم حمى الاضطهاد والاتهام مما حول مصنعي - وسائر المشروعات في نيقوبول - إلى قاعة من قاعات التطهير، وأنبأته عن «دوروجان» و«جرشجورن» كيف يحاولان أن يجعلا من الحوادث الجارية مؤامرات على التخريب يخلقها لهما خيالهما، وكيف يجبران الناس على اتهام الأبرياء مثل «تيموشنكو» و«دونبسكي».
وختمت حديثي قائلا: «لا أحب الكلام في هذه الأمور لكني لم أعد أستطيع السكوت، فمن ذا الذي يدير صناعة التعدين؟ أهي رياسة الصناعات الثقيلة أم القسم السياسي؟ كيف نستطيع تجريب الجديد، كيف نستطيع تنفيذ الأوامر التي يقتضي تنفيذها إجراء التجارب، كيف نستطيع أن نخطو إلى الأمام خطوة واحدة، إذا عد كل ما يصيبنا من فشل وكل ما نزل فيه من خطأ في بداية العمل الجديد مؤامرة على الإتلاف والتخريب؟ بل كيف يستطيع إنسان أن يؤدي عملا كائنا ما كان إذا وجد نفسه تحت «مراقبة» لا تنقطع من مخبري الشرطة ولجان الحزب وطوائف النقابة وأنصار السرعة الإستاخانوفية وغيرهم ممن يعدون بالمئات؟
ما الذي يمنعنا من وقف هذا الإرهاب الجاسوسي بحيث ندع الناس يعملون في طمأنينة وهدوء؟ إن الجيل القديم من مهندسين وإخصائيين كاد أن يفنيه الموت أو تقضي عليه التصفية، وأصبحنا اليوم من أنصار السوفيت، نشأت كثرتنا الغالبة نشأة هيأها الحزب كما يشاء، فإذا لم نكن أهلا للثقة بحيث نعمل مدفوعين بعوامل من ضمائرنا، فأين الرجاء في رقي بلادنا؟ أما عن نفسي أيها الرفيق الوزير فلم أعد أطيق العمل في مثل هذه الظروف، فهؤلاء الأوغاد لا ينفكون يديرون رأسي دوارا كأنني نحلة تدور، فكيف تريدون الرجل أن ينتج إذا كان دوارا في دوامة لا تقف ولا تسكن؟»
كان «أورزنكدز» تعلو وجهه الكآبة، يعض على شفتيه آنا بعد آن، وكانت الشيخوخة قد دبت في جسمه دبيبا سريعا في العام الأخير أو العامين الأخيرين، ولم يعد يسارع إلى الضحك كما كان يفعل قبل، ولم يعد يفور بالمرح الصادر من قلبه عن تفاؤل الواثق كما كان يفعل قبل، ومهما يكن من أمر مشاعره إذ ذاك فقد كاد ألا يفصح عن شيء مما في نفسه إلى مرءوس له مثلي من مديري المصانع، ولا عجب فهو على كل حال عضو في «الهيئة السياسية العليا»، أعني عضوا من اثني عشر عضوا أو نحو هذا العدد من الرجال الذين كانوا أقرب ما يكونون صلة بستالين.
قال لي في صوت خافت: «هدئ من نفسك يا صديقي، ولست ألومك على تحدثك إلي بمثل ما تحدثت، فهنالك أشياء كثيرة تخفى عليك فلا تراها من حيث أنت، ولن أخفي عنك أنك واحد من مئات آخرين من قادة المهندسين الذين هم أعضاء في الحزب، وأفضوا إلي بمثل هذه الشكاة وفي هذا المكان بعينه ... أما عنك خاصة فإني أعدك أنني ما دمت حيا، وما دمت أنت مخلصا لواجبك، فلن يمسك أحد بسوء، هذا وعد مني إليك.»
ولم ينتظر حتى أخرج، بل تلفن من فوره الرفيق «هاتايفتش» أمين اللجنة الإقليمية في دنيبروبتروفسك، الذي تقع منطقة نيقوبول تحت إشرافه، وأخذ - على مسمع مني - يعنف «هاتايفتش» تعنيفا قاسيا، وأمره بأن يكف القسم السياسي في نيقوبول عن مضايقة الرفيق «كرافتشنكو» وإلا فلتبلغ له أسباب ما يصنعون.
ووضع السماعة مبتسما وقال: «هل يرضيك هذا؟» - «أشكرك شكرا جزيلا، لكن ذلك لا يكاد يزيل من الإشكال الأكبر شيئا، إذ لا يزال هذا النظام المخيف قائما.»
ولم يحدث قط منذ ذلك اليوم حتى مات «أورزنكدز» فجاءة أن دعاني القسم السياسي أو استجوبني شيئا، نعم ظل المخبرون حولي يعملون في نشاطهم المعهود - «ماكاروف» و«رومانوف» و«يودافين» ومئات غيرهم - لكني لم أمس منهم بسوء، فمهما ثارت في نفوس رجال الشرطة السرية من شكوك وامتعاض فيما يخصني، فقد كتموها في صدورهم مؤقتا بناء على أوامر ظهيري في موسكو، وقد يجيء اليوم الذي يتيح لهم أن يفلتوا فجأة من هذه القيود، فيغرقوني في خضم مخيف.
عدت إلى نيقوبول فجمعت كبار رجال المصنع والإدارات الفنية فيه، وبسطت أمامهم المهمة التي عهد بها إلي «أورزنكدز»، وكلفت عددا منهم بواجبات معينة، وجاءتنا العدد والمواد كما وعد الوزير، وسرعان ما أخذت عجلة العمل في دورانها، وظللت بعد ذلك أسابيع أنام في مكتبي أكثر مما أنام في منزلي، حتى استطعت أن أنتج من الأنابيب اللازمة ل «باكو» بنسبة أسرع مما وضعت الخطة على أساسه، فجاءت التهاني من جديد منهالة على المصنع من «خاركوف» و«موسكو» ونشرت صورتي في الصحف، وطار إلي «إيفانتشنكو» من «خاركوف» ليشكرني بنفسه.
وقد اهتزت نفوسنا هزة الغبطة الحقيقية حين استطعنا أن نقهر ما قام في سبيل هذا المشروع الصناعي العسير من صعاب، وكانت فرحتنا بتغلبنا على ما اعترض سبيلنا من ألوف المشكلات أعظم من غبطتنا بما اعترفت لنا به الهيئات الرسمية من تقدير ، وما منحته من مكافآت مالية.
ولما كان «إيفانتشنكو» في نيقوبول دعاني ذات ليلة لعشاء، فقد تعارفنا منذ سنوات، وكنت أثق في إخلاصه، وإني وإن كنت خلال الفترة التي قضيتها عندئذ في المصنع - وهي تزيد على عام - قد ارتفعت منزلة بفضل تأييد الوزير فإنني كنت أتلوى من عذاب في فخاخ الجاسوسية، وجعلت أروي ل «إيفانتشنكو» مثلا في إثر مثل لأبين له كيف يؤدي تدخل الشرطة وتوهم وجود مؤامرات على التخريب، إلى قتل روح الابتكار وتعطيل الإنتاج.
فأجابني في نغمة حزينة: «أدرك هذا الذي تشعر به يا «فكتور أندريفتش» ولا تحسبن أن الأعلين من الرجال أوفر من ذلك حظا، فها أنا ذا رئيس لمنطقة صناعية من أكبر المناطق، وعضو في الحكومة، وشيوعي قديم، ورجل ساهم في تقويض بناء «ونتر بالاس» في ثورة أكتوبر، فقد يسبق إلى وهمك إزاء هذا أنني محل للثقة، لكن لا! فهذه الجموع من النمل والحشرات قد تكاثرت بحيث تشيع في نفسي الفزع، أنا الذي لم يعرف ما الفزع في حومات الوغى حين تتعرض الحياة للخطر، لقد حيروني بتحقيقاتهم وشكوكهم حتى لم أعد أعلم من أين أسير وإلى أين، ففيم هذا كله؟ ما أظن أحدا من الناس يعلم مجرى الأمور إلا «الرئيس».»
لما انزاح عن صدري مؤقتا كابوس الشرطة، أحسست باستقلال لشخصي إحساسا موهوما لم يدم طويلا، فتهيأ لي بفعل هذا الوهم أن أنظر بعين المتفائل إلى «دستور ستالين» الذي كان قد أذيع حديثا، فقد بدا لي أن بقاء السلطة مركزة في أيدي حزب واحد أقل خطرا وأهمية من الضمانات التي نص عليها نصا صريحا بحيث تكفل للناس حقوقهم المدنية، بل تكفل لهم ما هو أهم من هذا، وهو تقييد أنواع السجن والقبض، فلو كان هذا الدستور الجديد دليلا على اتجاه التفكير في الدوائر العليا، إذن فلا شك أننا قد اجتزنا أخبث مراحل الإرهاب.
فلا بد لحياة الإنسان من رجاء يتعلق به كما لا بد له من هواء يتنفسه، ولقد تحسست الطريق التي قد تؤدي إلى الزيادة من الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها المواطنون السوفيت، كما تحسس الطريق إلى ذلك ألوف الألوف من الناس، وكنا في ذلك نلتمس النجاة لأنفسنا من غرق قد يغوص بنا إلى أعماق أعماق اليأس، كنا في ذلك نلتمس النجاة بكل بادرة من بوادر الأمل تبدو أمامنا مهما قل شأنها، وإذن فلو استثنينا عددا قليلا ممن رانت على قلوبهم غشاوة كثيفة من تشاؤم، فلم يروا في الدستور الجديد إلا خدعة جديدة، أقول: لو استثنينا هذا النفر القليل لصح لنا أن نقول: إن الشيوعيين تقبلوا الدستور تقبل من تتوق نفسه إلى تحقيق ما فيه.
فقد كان إحياء الأمل في نفوسنا حينا بعد حين شرطا لازما لبقائنا أحياء، لقد كنا نريد أن نسلم أنفسنا إلى إيمان مهما يكن فيه من إسراف، كنا نريد أن نخدع عقولنا ونغالط حواسنا، فكنا نحارب شكوك المتشككين في إخلاص، وكنا نلتمس المعاذير، ويمني بعضنا بعضا بما يصوره لنا التفاؤل من آمال لم نكن نؤمن بإمكان تحقيقها إذا ما خلا كل منا إلى نفسه، «فخير ما على الأرض من دساتير ديمقراطية» لم يخلق في صحرائنا السياسية إلا سرابا.
أيكون قتل «كيروف» هو الذي أفزع السادة فحملهم على شيء من التساهل؟ فأوروبا كانت - فيما بدا - سائرة نحو الحرب، فهذا هو اغتصاب إيطاليا للحبشة اغتصاب اللصوص قد أعقبته حرب أهلية في إسبانيا، وهذا هو هتلر يهز سيفه النازي، أيكون السادة - إذن - قد صمموا إزاء ذلك على أن يوحدوا صفوف الشعب الروسي وراءهم بما يتفضلون به عليه من فتات الحرية؟ هكذا أخذنا ننفخ في صدورنا جذوة الأمل، ونجحد في أذهاننا نوازي الارتياب، ولم يكن يسيرا علينا أن نبقي جذوة الإيمان مشتعلة في وقت أخذت ريح الإرهاب الأعمى تهب فيها عاتية على نحو لم نعهده من قبل، وكان لا بد للإنسان من إغماض عينيه إغماضا يكاد يكون صحيحا بمعناه الحرفي، حتى يبقي لنفسه على آخر بصيص من الأمل.
كان العمل جاريا لتوسيع مجموعتنا الصناعية في نيقوبول، فأدت جموع العمال الذين كانوا يقومون بالبناء الجديد إلى تقليل موارد طعامنا وتضييق محال سكنانا على نحو لم نشهد له مثيلا، وحدث ذات يوم، في الوقت الذي كان صدري يجيش فيه بالأمل في تغيير يسير بنا نحو ما هو أفضل، حدث أن رأيت فرقة من جنود القسم السياسي تحوم حول مكان البناء الجديد، فلم يكن لذلك إلا معنى واحد، وهو أنهم قد جاءوا للعمل برجال سخروهم لذلك تسخيرا.
ودنوت من المكان فوجدتني لم أخطئ التخمين؛ إذ وجدت أربعمائة أو خمسمائة من الرجال والنساء أضناهم الشقاء، وجدتهم يعملون تحت الحراسة المسلحة، وجدتهم جماعة من الكائنات البشرية على وجوهها من علائم الأسى ما لم أشهد له مثيلا في كل ما عشت من سنين، فقد كانوا من هلهلة الثياب والقذارة وانحطاط الأجساد في صورة بشعة، لكن سكونهم في غير ابتسام كان أشد بشاعة من ذلك كله، وراحوا يعملون كأنهم ناس ضربت عليهم مسكنة وذلة، فقدوا كل اهتمام بالحياة حتى لم يعودوا ينظرون إلى ما حولهم نظرة الفاحص، أو يختلطون بالعمال الأحرار الذين كانوا يعملون على مقربة منهم.
كان هؤلاء المسجونون في نهاية كل يوم يصفون ثم يساقون إلى ثكنات خصصت لسجنهم تبعد عنا بضعة أميال، وبعد بحث دقيق علمت أن هؤلاء العمال قد تم «الاتفاق» على استخدامهم بين الموظفين القائمين على بناء هذه المنشآت وبين رجال القسم السياسي في مفاوضات رسمية، بحيث يدفع للقسم السياسي عن كل سجين مبلغ يقرب مما يدفع للعمال الأحرار، وهكذا كان القسم السياسي يسخر الملايين من المسجونين السياسيين تسخيرا مباشرا - في استخراج الملح أو استنجام الذهب أو في مد السكك الحديدية واحتطاب الخشب من الغابات وتجفيف المستنقعات وبناء المواني - حتى إذا ما تبقى من المسجونين السياسيين فيض بعد ذلك كله؛ استغلوه رقيقا في مشروعات سوفيتية أخرى.
وحدث في عطلة الأسبوع إبان الصيف أن استقللت قاربا بخاريا مع صديق وسبحت به في نهر الدنيبر، وكان معنا كثير من الطعام وزجاجة من النبيذ، فلما بلغنا مكانا من الشاطئ بليل الهواء تظلله الأشجار، جلسنا فأكلنا، ثم مشينا بعد ذلك مشية طويلة في طريق يمتد حذاء الشط، وإذا نحن فجأة نسمع صوتا أمامنا، حتى إذا ما جئنا إلى حنية في الطريق وجدنا منبسطا فسيحا تغطيه المستنقعات، ورأينا بضع مئات من رجال ونساء يشتغلون تحت حراسة مسلحة.
عندئذ أحسست كأنما أقحمت نفسي على فاحشة، وكان أول ما بدا لي أن أصنعه هو أن أنسحب متظاهرا بأني لم أر مما رأيت شيئا، لكن دافعا جذبنا جذبا نحو المكان، حيث العمال في هلاهيلهم يغوصون في الطين والماء إلى ركبهم، فلا تكاد تتبين منهم شيئا من صفات الإنسان، وأخذت سحائب من بعوض المستنقع تموج فوق رءوسهم، فقد أشعل الحراس المشاعل ليذبوا عن أنفسهم البعوض، وأما المسخرون فالظاهر أن قد اعتادت أجسادهم لسع الحشرات، واستقر بصري آخر الأمر على فتاة على ملامحها سحنة الأموات، اسود وجهها ويداها بفعل البعوض، لكنها لم تنفك عاملة بمجرافها لا تحفل بشيء، كأنها لم تكن تدري أنها تؤكل أكلا وهي لا تزال على قيد الحياة.
ودنا منا ضابط.
قال: «لماذا لا تنصرفان إلى سبيلكما أيها المواطنان؟ ليس هذا معرضا للمتفرجين.»
قلت: «أنا من رجال الحزب ورئيس أحد المصانع، وهذا الذي أراه مما يهمني من الوجهة الفنية الخالصة، فماذا يصنع هؤلاء؟» - «إننا نجفف المستنقع.»
سألته: «أهو مشروع يقوم به القسم السياسي؟» - «كلا، بل يقوم به السوفيت في نيقوبول، لكنهم «تعاقدوا» مع القسم السياسي على إمدادهم بالأيدي العاملة.»
وعدنا في صمت إلى القارب البخاري حيث أخذنا سمتنا نحو الدار، فقد شعرنا بأن استئناف الرحلة بعد الذي رأيناه ضرب من النذالة الخلقية، وكنا قد أنفقنا الصباح كله نتحدث في الدستور وفي إمكان تحقيق ما وعدنا به، أما بعد هذا الذي رأيناه فلم نستأنف ما كنا قطعناه من حديث.
كان قد حدث بيني وبين والدي شيء من القطيعة أخذ يزداد على مر الأيام منذ التحقت بالحزب، فكنت إذا ما تحدثت في حضرته أحس كأنما يلزمني الواجب أن ألتمس المعاذير لضروب السياسة التي لم أضمر لها في نفسي إلا مقتا وكراهية، فقد كان مما يضيق له صدري على صورة لا أستطيع أن أتبين تعليلها على وجه الدقة أن أسمع والدي يضرب المثل العليا التي يجب أن تحتذى، ويعيد ويكرر المبادئ الإنسانية، وأن أراه عاجزا عن مسايرة الضرورات العملية بحيث ينزل عن شيء من تلك المعايير، وها أنا ذا أعود بذاكرتي إلى الوراء فأعلم علم اليقين الآن ما كنت حينئذ لا أجاوز فيه حدود الارتياب، وذلك هو أن أبي إنما كان أمامي بمثابة الضمير قد تجسد في إنسان، وأن ما كان بيني وبينه من خلاف إنما هو خلاف بيني وبين ما يمليه ضميري علي إذا ما أردت أن أصف الواقع وصفا أدنى إلى الصواب، فبدل أن ألزم نفسي إلزاما أن أسوي ما بيني وبين ضميري من خلاف، رحت أحاول التوفيق بيني وبين والدي في وجهة النظر.
وكان أبي ينبئني أحيانا أثناء زياراتي لهم عمن قبض عليه و«اختفى» من بين الرجال الذين عرفناهم معا أعواما طوالا في مصنع «دنيبروبتروفسك»، وأحسست كأنما يعدني أبي مسئولا شخصيا - باعتباري عضوا في الحزب - عن كل ما يقع من إجحاف، وأمسكت عن تبليغه ما يحدث شبيها بذلك من حوادث القبض في «نيقوبول»، وما أراه من جماعات المسخرين من المسجونين، وما أعانيه من فعل الجواسيس.
وكلما أحسست في نفسي هذا الحافز على إخفاء ما أعلمه عن أبي دون سائر الناس جميعا، وهو حافز لا يبرره سند من العقل، ثارت نفسي على نفسي غضبا وخجلا؛ لأن ذلك في حقيقة الأمر إن هو إلا بمثابة إخفاء ما أعلمه عن نفسي.
لم أكن شديد الرغبة في أن يزورني أبي في «نيقوبول»، ولم أشأ أن أصف له فخامة العيش الذي كنت أعيشه هناك، حتى لا أعرض أمام عينيه الفاحصتين صورة قد لا يرضاها، ومع ذلك فقد ألححت في رجائي إياه أن ينفق معي بضعة أيام، فوافق على زيارتي بعد إلحاح، ولما كان يجوب أنحاء منزلي الفسيح بما أمامه من حديقة للزهور وما خلفه من حديقة أخرى للفاكهة، وما له من حظيرة لسيارتي، أخذ يزداد في نفسي شعور القلق والحيرة ، وكان كل ما قاله أبي: «إنك تعيش عيش السادة النبلاء.»
واعترتني الحيرة نفسها التي لا يبررها سند من العقل، حين طلب إلي جوازا يدخل به المصنع، فقد كرهت أن يتناول أبي بمعاييره الخلقية القاسية ما لا بد أن يراه من ظروف العمل في المصنع، ومع ذلك فقد اضطرني واجب البنوة أن أوقع له على عدد من جوازات الدخول، ولم أعد أراه إلا قليلا خلال بضعة الأيام التي تلت، ولقد توثقت عرى الود بينه وبين كل من صادفه أثناء تجواله، إذ كان هذا الرجل الرشيق المكتهل بملامحه الدقيقة الواضحة المعالم، وعينيه الشابتين الجادتين، على أتم ما يكون الإنسان ارتياحا، كلما وجد نفسه بين طوائف العمال، وقد كان العمال يقبلونه واحدا منهم في غير تكلف ولا عناء، حتى لقد لبث العمال رجالا ونساء عدة شهور بعد زيارة أبي يسألونني عنه بلهجة تنم عن عاطفة ساذجة صادرة من قلوبهم. -قال لي «دوبنسكي» الكهل يوم أن رأى أبي: «أي رفيقي «كرافتشنكو»، إن أباك رجل لطيف، لطيف حقا، إنه يوحي إلى الإنسان أن يزهى بكونه عاملا يشتغل بساعديه، وفي رأيي أنه يعلم من أمر الآلات ما لا يعلمه معظم مهندسينا.»
فوافقته قائلا في شيء من التكلف: «نعم، فقد كان أول من علمني الصناعة.»
وفي نهاية ذلك اليوم كنت في مكتبي أراجع تصميما مع بعض زملائي، فإذا أنا أسمع ضجة في حجرة استقبالي، ورفعت أمينة سري صوتها: «أنا أسألك أيها المواطن لماذا تريد أن تقابل الرفيق كرافتشنكو؟»
وسمعت صوت أبي يرتفع على صوتها: «أمن شأنك أن تعلمي ذلك؟ أهو حاكم مستبد أم رفيق حتى ليضطر الإنسان أن يتوسل توسلا ليؤذن له برؤيته؟ أليس لديكم ها هنا إلا جوازات للدخول واستئذان قبل المقابلة!» - «إذن فلن آذن لك بالدخول أيها المواطن، فلا بد من طاعة القانون.» - «الله الله على قانونكم!» صاح أبي بهذه العبارة ثم دفع الباب دفعا ودخل مكتبي، أخجله أن يرى معي ناسا آخرين، لكنه لم يستطع كظم غيظه: «أي نوع من القانون هذا يا فيتيا ؟ ما هذا؟ إن الرجل في أيام القياصرة من أسرة «رومانوف» نفسها لم يكن ليتعذر عليه لقاء الرئيس، لكني ألتمس المعذرة، فقد ظننتك وحيدا هنا.»
وقدمت أبي للحاضرين، ثم طلبت إليه الخروج، وكان أبي ممن لا يخطئون بغير التماس المعذرة. - «لقد أبديت شيئا من القحة فألتمس منك العفو عما بدر مني، والحق أن هذه الرسميات كلها وهذه الفوارق كلها التي تباعد بين غمار الناس وبين الموظفين لمما يضيق له صدري ضيقا شديدا.»
فلما أن طمأنته بكلماتي التمس مني مكرمة، وهي أن أتفضل فأطلعه على دفاتر القيد الخاصة بمصنعي؛ لأنه بعد أن شاهد ضروب العمل هناك بضعة أيام أراد أن يعلم كم نؤجر القفالين والخراطين وعمال الكهرباء وغير هؤلاء وأولئك من العمال، كما أراد أن يعلم كم رجلا تمتع باستراحات الحكومة خلال عطلته وبأسباب الراحة الأخرى خلال العام المنصرم، ولما لم تكن هذه المعلومات المطلوبة سرا مكتوما، دققت الجرس أطلب رئيس مكتب القيد وأمرته أن يضع دفاتره تحت تصرف أبي.
ولبثت بعد ذلك عدة ساعات في المصنع، حتى إذا ما عدت إلى الدار وجدت أبي قد سبقني إليها، فلما اجتمعنا على العشاء بدت على وجهه علائم الهموم، لكننا أخذنا نشقق الحديث في أمور مطروقة لا نتعمد اختيارها، غير أني أدركت أن أبي كان قد ادخر في نفسه ما أعد من قنابل فيفجرها في حديث «جاد» نبدؤه فيما بعد، وقد أدركت ذلك في يقين حين اقترح علي أن أصرف «باشا» عن الدار ذلك المساء، وقد أضاف والدي إلى ذلك قوله: «لا حاجة بنا إلى آذان غريبة عنا.»
جلست على أريكة في غرفة مكتبي وأشعلت لفافة وأعددت نفسي لأسمع منه ما يقول. - «وبعد يا أبت، ماذا يشغلك؟» - «لقد لبثت يا بني زمنا طويلا أتمنى الفرصة التي أحدثك فيها حديثا مكشوفا صريحا، إنك عزيز علي، لا باعتبارك ولدي فحسب، بل كذلك باعتبارك إنسانا شهدته يتفتح خلال أعوام ثلاثين، ومع ذلك فكلما كرت الأعوام ازدادت الصراحة بيني وبينك عسرا، وإن ذلك لعلامة سوء؛ لأنها علامة على المخاوف التي تكتنف حياتنا هذه الأيام.» - «يؤسفني ذلك يا أبت، ولكني أسائل نفسي ترى هل يساير أبي التاريخ في خطاه؟ أعني أنني أشك في أنك لا تزال تحيا في جو عصر غبر.» - «أنا معترف يا «فيتيا» بأنك أغزر مني علما بحوادث السياسة الجارية، فأنت رجل من رجال الحزب العاملين وموظف له خطره في الدولة، إذ تشرف على ألف وخمسمائة عامل، وتدير إنتاجا تقدر قيمته بعشرات الملايين من الروبلات، ومع ذلك كله فأحسبني أكثر منك علما بغمار الناس، العمال منهم والمزارعين، فما أسرع ما يجرف الإنسان تيار الحوادث بحيث لا ينظر إلى غمار الشعب إلا من طرف المنظار الخاطئ، وكان واجبه أن ينظر إليهم من طرفه الآخر، فلديك وفرة من المال وألوان الراحة والسيارات والخدم ...» - «لست يا أبت فيما أرى حقيقا بهذا التقريع، فما سرقت شيئا، إنما هي أشياء أعطانيها نظام الحكم القائم، فتراني مقابل ذلك أعمل أكثر مما يعمل الفلاح.» - «لست أريد لك تقريعا بما قلت، فأرجوك ألا تسيء فهم ما أقول، لكني لا يسعني سوى أن يأخذني الهم خشية أن تكون قد أضعت من قلبك شعور الإخاء مع سواد الناس، ولأقلها في عبارة أصرح: إني أخشى أن تكون من هؤلاء الحاكمين (البيروقراطيين) الذين ترضى نفوسهم كل الرضى إذا ما رأوا أنفسهم رؤساء يتحكمون في أفراد الشعب الروسي الذين لم يسعدهم الحظ.» - «لست أفهم في جلاء ماذا تريدني أن أصنع، فما أنا إلا ترسا ضئيلا في آلة كبرى، الحق يا أبي أني أبذل في العمل جهدا لا يبقي لي من وقتي فراغا ولا من قوتي فضلا بحيث أشغل نفسي بالمبادئ الأولى، إنني في عملي كمن دفن في رمسه.» - «واختصارا فأنت تتحول شيئا فشيئا إلى نعامة تخفي رأسها في الرمال فتختفي بذلك جميع المشكلات، إنك تقول: ليس الخطأ خطئي ولست أنا بالمسئول عن صيانة إخواني من سائر الناس، وليكن بعد ذلك ما يكون، نعم فلقد شهدت الأيام الغابرة كذلك ناسا من هذا الطراز، إن آلام بني وطنك لم تعد تمس من قلبك الشغاف.» - «استمع إلي يا أبت، لا تحسبن أني غافل عما يقع، أو أني قد أحنيت ظهري للنظام القائم، فأنت على كل حال لا تدري ماذا يدور في نفسي ويدور في نفوس ألوف الألوف من سائر الشيوعيين، ولكن ماذا عسى أن أصنع؟ أأخرج في الطرقات فأصيح: الغوث الغوث! أمسكوا القاتل! وفضلا عن ذلك فلا تنس أن هنالك عناصر إيجابية كذلك، فهنالك مصانع جديدة ومناجم جديدة وسكك حديدية ...» - «طبعا يا فيتيا طبعا، لكن الثورات لا تثور من أجل المصانع والسكك الحديدية، إنما تثور من أجل الشعب، إن جوهر الأمر كله هو حقوق الإنسان وما يتمتع به من حرية، وبغير هذه الحقوق وهذه الحريات، بغير هذه الكرامة الإنسانية، فالناس عبيد ولا عبرة بعد ذلك بالصورة التي تحول إليها سجنهم بفعل التحول الصناعي، فأنتم أيها الشيوعيون حين تزهون بالمصانع الجديدة، فإنما تعنون بذلك أن الناس قد حسنت أحوال عيشهم، وإذن فالسؤال هو: هل حسنت أحوال العيش بالفعل لأهل بلادنا؟» - «أظن ذلك لو قورنت حياتهم الآن بما كانوا يعانونه من شقاء أيام القياصرة.» - «فيتيا! لماذا تخدع نفسك؟ ألا تذكر حياتك في بيت جدك وفي بيتي حينما كنت غلاما؟ لم نكن أغنياء، لكننا لم يعوزنا قط الخبز واللبن والثياب الضرورية، بل قد كانت لك ولإخوتك مرضعة خاصة، لقد عشنا عيشا لا يعاب، ولو عدت بذاكرتي إلى الماضي لوجدت حياتنا إذ ذاك حياة مترفة بالقياس إلى حياة أسرة من الطبقة العاملة الآن، كم عاملا له اليوم بيت يسكنه من طراز البيوت التي سكناها؟ إن حياة الجوع والهزال التي تحياها أكثرية الناس اليوم، لم يشق بها في الماضي إلا نفر قليل.
إنني حين طلبت إليك اليوم أرقاما عن مصنعك، إنما فعلت ذلك لسبب، فلأمر ما لا أزال أذكر جيدا ما يقابل هذه الأرقام من أيام ما قبل الثورة، فالقفالون في نيقوبول يتقاضون اليوم أجرا يتراوح بين مائة وخمسة وأربعين روبلا ومائتين في الشهر، بينما كانوا يتقاضون قبل عام 1917م أجرا يقع بين خمسة وثلاثين روبلا وخمسين، وكان الخراط الماهر عندئذ يتقاضى أجرا يتراوح بين خمسة وأربعين وخمسة وثمانين روبلا، وهو اليوم يتقاضى ما بين مائتين وثلاثمائة وخمسين، فلو أدخلنا في حسابنا صنوف العمال الأخرى من قلابين وصهارين وعمال الكهرباء، فمتوسط الأجور اليوم هو مائتان وأربعون روبلا، بينما كان المتوسط خمسة وخمسين روبلا في الأيام الغابرة .
ولقد يحسب من يسمع هذه الأرقام أننا قد صلحت أمورنا، لكن ما حقيقة الروبل في تلك الأيام وما حقيقته اليوم؟ فقد كان الكيلوجرام الواحد من الخبز يساوي خمس كوبكات،
1
فماذا يساوي الآن؟ يساوي شيئا يقع بين روبل وعشرين كوبكا وروبلين، والكيلوجرام من اللحم كان يساوي من خمسة عشر كوبكا إلى عشرين، وأما اليوم فإذا وجدت لحما يباع، فالكيلوجرام الواحد منه يساوي اثني عشر روبلا، وهو ما يساوي سعر الماضي ستين مرة!
كم دفعت ثمنا للحلة التي ترتديها؟» - «ثمانمائة روبل.» - «ثمانمائة روبل! هذا أجر عامل صهار ماهر في ثلاثة شهور أو أربعة! أتدري ماذا كانت هذه الحلة تساوي في الأيام الغابرة؟ من خمسة عشر روبلا إلى عشرين على أكثر تقدير، وإذن فهذه هي الصورة أمامك فانظر، ارتفعت الأجور النقدية بحيث أصبحت من ثلاثة أمثال إلى خمسة أمثال ما كانت عليه، وهم يطنطنون بهذه الزيادة على أنها تقدم اقتصادي عظيم، لكن تكاليف العيش لم تزد مقدار خمسة أمثال ما كانت عليه، بل زادت بحيث أصبحت خمسة عشر مثلا بل أربعين بل خمسين مثلا، لقد كان القفال الذي يتقاضى في الماضي خمسين روبلا يعيش في بحبوحة، وهو اليوم يكسب مائتي روبل ويعيش عيش المشردين الأشقياء.» - «لكنك قد نسيت ما يتمتع به اليوم من مزايا: عطلات بأجور ورعاية طبية ومدارس لحضانة أطفاله ...» - «هذا جميل، فلننظر إلى هذه المزايا، إنك تسميها منحات بالمجان، وأنت تعلم أن جزءا كبيرا يقتطع من أجور العمال لتغطية ما تكلفه هذه المزايا من نفقات، إذ يقتطع من أجر العامل من عشرين إلى خمسة وعشرين في كل مائة مما يكسب، ليدفع رسوم النقابة والقروض الإجبارية وما إلى ذلك، فالعامل في الماضي كان في مستطاعه أن يدفع من عشرين إلى خمسة وعشرين في كل مائة من أجره ليحصل بها لنفسه على ما يريد من معونة طبية وعطلات، دون أن يوضع من الحكومة موضع من أحسن إليه.
لماذا نحتاج إلى دور لحضانة الأطفال؟ لأنه لا يستطيع من الزوجات أن يبقى في الدار لرعاية الأطفال إلا عدد قليل، كان العامل فيما مضى يستطيع أن يعيش مع أسرته عيشا لا بأس به ولا يكلفه أكثر من خمسين روبلا في الشهر، أما اليوم فإن تقاضى مائتي روبل، فلا بد له إلى جانب ذلك أن يرسل زوجته وأبناءه الكبار ليعملوا حتى تتعادل مكاسبه ونفقاته، وأما عن الرعاية الطبية التي يظفر بها العمال، فخير لنا ألا نمسها بحديث، أإذا مرضت يا فيتيا تذهب إلى العيادة الحكومية؟» - «كلا، بل أستعيد الدكتور جوركين عيادة خاصة.» - «طبعا، وهكذا يصنع كل من يستطيع إلى ذلك سبيلا، فأنت تعلم كما أعلم أن السبيل الوحيدة - إن أردت علاجا مفيدا - هي أن تدفع أجرا، فالعناية الطبية، شأنها شأن كل شيء آخر، قد أفسدتها الإدارة المستبدة (البيروقراطية) كما أفسدها عدم الاكتراث، ولكن ما قصة هذه الاستراحات التي يقضي فيها العمال عطلاتهم والتي تطنطن بها الصحافة الشيوعية؟ إن في مصنعك يا فيتيا ألفا وخمسمائة عامل، فهل تعلم كم من هؤلاء قد استفاد بهذه الاستراحات خلال العام المنصرم؟» - «لست أدري، وأظنهم بضع مئات.» - «أخطأت، فقد راجعت الأرقام اليوم ولم أجد في المصنع كله إلا سبعة وخمسين تمتعوا بذلك الامتياز، ومعنى ذلك أن الألف والخمسمائة عامل قد دفعوا كلهم جزءا من أجورهم نظير هذه المتعة، لكن لم يتمتع بها فعلا سوى سبعة وخمسين، وبالطبع كانت الاستراحات مليئة طول الوقت بزائريها، مليئة بالمديرين ورجال الحزب وكبار «الإستاخانوفيين» وغير هؤلاء ممن تخصهم الدولة برعايتها، نعم إني أرى ضرورة التأمين الاجتماعي والعناية الطبية وما إلى ذلك، على شرط أن تمنح هذه الامتيازات للعمال منحة تنفق عليها الدولة من أرباحها باعتبارها مالكة المصانع والقائمة على إدارتها، أعني الأرباح التي كان يجنيها الرأسماليون فيما مضى، ولا تقتطع النفقات من أجور العمال أنفسهم، وفي هذا وحده أساس الثورة كلها.
لكن أين تذهب أرباحكم؟ إن صناعتكم بل إن اقتصادكم كله ينتهي بكم إلى خسارة، وعلينا نحن المواطنين جميعا أن نسدد هذه الخسارة، إن ما يؤلم يا بني هو أنكم تعطون التوافه ثم تزهون كأنما أعطيتم شم الجبال، إنه ليؤسفني أن أقول: إن التقدم الاقتصادي ضئيل إذا قيس بما بذلناه من أجله وما ضحينا به في سبيله.
إنه لا يصدق ما أنتم زاعموه من حكايات خلقتها أوهامكم إلا الأجانب الذين خلصت نواياهم، وإلا الشباب الذين لم يعيشوا في الماضي ليذكروه، إن الوقائع المادية لا تساوي - فيما أرى - الحقائق السياسية والروحية، لكنكم في دعايتكم لا تذكرون إلا ما أديتموه في عالم المادة؛ ولذلك فأنا أقيس أعمالكم بمقياسكم أنتم للأمور.» - «لو كان كل شيء في الماضي جميلا يا أبت، فلماذا رحبت بالسجن وعملت على إثارة الثورة؟» - «لا تتكلم كلاما فارغا من المعنى! إنك تعلم أني لا آسف على شيء، وأني أعيد كل ما عملته لو عادت الأمور من جديد، لقد جاهدنا لنمحو الشرور، وخاطرنا بأرواحنا في سبيل إزالة الطغيان السياسي والظلم الاقتصادي، وليس معنى ذلك أننا مستعدون أن نفخر بالشرور نفسها إذا ما تغيرت أسماؤها، إن تبرير ألوان العسف القائمة اليوم بيننا على أساس ما كان في ماضينا من شرور لمن قبيل التهريج الشعبي الرخيص.» - «لكن كل شيء اليوم ملك للشعب، وليس بيننا الآن رأسماليون ولا مستغلون.»
وكنت أزداد حرجا في صدري كلما أخذنا في الحديث، وعلة ذلك على وجه الدقة هي أنني كنت من صميم قلبي أوافق أبي على كثير مما قال. - «لا تتظاهر بالغفلة يا فيتيا، إن العامل الذي لا يجد ما يكفيه من قوت، على الرغم من أنه يشتغل هو وبعض أفراد أسرته في كثير من الأحيان، لا يعنيه في كثير من ذا يستغل جهده، أهو مالك من الأفراد أم هي الدولة، إنه إذا ما سيق إلى السجن فلن يجد العزاء في كونه يساق إلى السجن باسم الشعب الذي هو فرد منه، فمهما يكن من أمر الرأسماليين، فقد كان في مقدوري إذا ما قصر الرأسمالي في أجري أو في تهيئة ظروف طيبة يسير فيها العمل أن أغير عملي، وكذلك كان في مقدوري عندئذ أن أبث ما شئت من دعاية في زملائي العمال، وأن أدعوهم لاجتماعات كيما نعلن احتجاجنا، وأن أدبر الإضراب وأنضم إلى ما شئت من أحزاب سياسية وأنشر ما أعارض به الحكومة، أما اليوم فافعل شيئا من هذا تجد أن قد انتهى بك الأمر إلى معسكر للاعتقال أو ما هو شر منه، صدقني إن زعمت لك أن مجال الحياة كان أوسع نطاقا حينما كان لدينا مائة ألف من أصحاب رءوس الأموال الذين يستخدمون الأيدي العاملة، منه اليوم حين يقوم على أمورنا مخدوم واحد هو الدولة، لماذا؟ لأن الدولة لها جيش وشرطة سرية وسلطان لا تحده الحدود، لقد لبثت طول عمري أكافح الرأسمالية، وما زلت عدوا لها، لكن ذلك لا يعني أن أهلل مكبرا للاشتراكية التي تقوم على رجال الشرطة.»
لم أنبس بكلمة وما وسعني سوى أن أعبس بوجهي. «كان في مقدورنا على الأقل أن ندير في رءوسنا من الخواطر ما نشتهي، فقد كان هنالك أحزاب سياسية كثيرة وشيع وآراء منوعة، وإني لأرى الحكم المطلق الذي كان فيما مضى قائما على الرغم من كل غلظته؛ أراه أكثر سماحة بالقياس إلى ما أشاهده اليوم، نعم كانت الشرطة القيصرية تضرب المضربين، بل كانت أحيانا ترميهم بالرصاص، وكثيرا ما قتلت أو طوحت إلى النفي بالثائرين، لكن ذلك كله كان يتم على نطاق أضيق مما تتم عليه نظائر هذه الأشياء اليوم، فقد كنا نعد المسجونين السياسيين بالألوف وأما اليوم فنعدهم بالملايين، وكان إذا ما وقع بأحد شيء من الإجحاف قابله الناس بالاحتجاج والمظاهرات والاجتماعات الحافلة، أما اليوم فليس في وسعنا إلا صمت القبور.
خذ ما يسمى نقابات العمال، ما هذه النقابات إن لم تكن أداة جديدة تفرض بها الحكومة أوامرها فرضا، وتستنزف منا ما وسعها أن تستنزفه من مجهود في العمل؟ لقد شهدنا يوما كانت فيه منظمات العمال هيئات تعبر حقيقة عن آراء العمال، فكانت بذلك مدرسة سياسية تعلمنا في رحابها كيف نطالب بحقوقنا ونجاهد في سبيلها، أما اليوم فمن ذا الذي يستطيع أن يرفع صوته باحتجاج كائنا ما كان؟ إن الصحافة التي تتخذ أسلوب المتحدث بلسان الرأي العام، هي اليوم ملك للحزب وملك للدولة، فليست تعكس على صحائفها إلا آراءهم هم.
وشيء آخر يا بني، إنك تعلم أني ما آمنت قط بالدين، لكنني كنت دائما أقدر ما للناس من حق في عبادة الله إن شاءوا، فكم بقي من هذا الحق الآن؟ إذا شاءت لك المصادفة أن تكون ممن يختلفون إلى الكنيسة، فماذا تستبقي لنفسك من احتمال بقائك في منصبك ومضيك في سيرتك العملية؟ إن ذلك يصبح ضربا من المستحيل!
لقد كان للناس حق الرحلة خارج البلاد حتى في أسود عهود أسرة «رومانوف»، أما اليوم فقد أغلقت دوننا الأبواب، وكل من يحاول عبور الحدود يرمى بالرصاص كأنه كلب من الكلاب، لا، بل لا يقتصر العقاب على من يحاولون ذلك، إنما يعدوهم إلى أفراد أسرهم كذلك، أتريد أن تغادر البلاد؟ هيهات! إنكم ها هنا تربطون العمال إلى آلاتهم والفلاحين إلى أراضيهم كأنما هم عبيد.» - «لماذا تحدثني بضمير المخاطب كأن هذه الأشياء كلها مما صنعت يداي؟!» - «عفوا يا فيتيا، لكنك لا تستطيع أن تتنصل من قسطك في التبعة باعتبارك شيوعيا.» - «هل تراني عضوا في القسم السياسي أم تراني رجلا من رجال الهيئة العليا الحاكمة؟
إنك يا أبي واقعي في كل شيء إلا هذا الأمر؛ لأنك فيما يبدو لي لا تستطيع إدراك الحقيقة الواقعة، وهي أن الشيوعيين المسئولين أنفسهم - ودع عنك سوادهم - هم من ضعف الحيلة بما يصيب سائر أفراد الشعب، بل قد يكونون أضعف من هؤلاء سلطانا.» - «لست أريد الإجحاف بأحد يا فيتيا فأنا أعلم جيدا كيف يعجز أي فرد كائنا من كان عن تنفيذ شيء إلا في حدود ضئيلة، أنا لا أريدك أن تصيح: «الغوث! أمسكوا القاتل!» لكني على الأقل أحب أن أشعر أن تنشئتي لك لم تكن فشلا ذريعا، وأنك على الأقل عالم بحقائق الأمور.» - «نعم إني عالم بها، بل أكثر علما بها مما تظن، فكن مطمئنا من هذه الناحية، لكنني لا أزال أتلمس للأمل بصيصا، إني أوثر ألا أنظر إلى الأشياء نظرة سوداء، فمثلا أحب ألا أنظر نظرة سوداء إلى الدستور الجديد، فقد نظفر بمزيد من الحرية على كل حال ...» - «وددت لو استطعت مشاطرتك هذا الإيمان، ولكن ما قيمة كلمات على ورق ما دامت الشرطة السرية قائمة تدير الأمور على هواها، وما دامت البلاد لا ترى إلا حزبا واحدا بصحافته وبربه الأعلى - ستالين - وبمحاكمه، وما دام كل رأى مخالف يعد إجراما؟ إني من الكهولة بحيث لم تعد تخدعني الأوهام في حياتي، لو كنت أرى أقل علامة تدل على زوال شيء من الإرهاب القائم، تدل على انبثاق فجر الحرية الصحيحة، لكنت أول من يكبر لها مهللا في فرح صادق، ولكني لم أر بعد علامة تدل على شيء من هذا، إنني يا فيتيا كلما قرأت عبارات زهوكم أو قرأت دستوركم الجديد، لم يسعني سوى أن أذكر هذين البيتين من شعر فولتير:
إنك لن تجد أجمل يدا من هذه ولا أرحم،
هذه اليد التي تسبغ على الناس فقاقيع الصابون.
لا تحسبني مستسهلا هذا الحديث الذي أفضيت به إليك، إنه ليشقيني أن أرى ولدي بين طائفة المستغلين الجديدة، حتى وإن لم يكن هو بمقترف الخطأ، وربما جاء يوم نزداد فيه تفاهما.»
ولقد جاء ذلك اليوم أسرع مما توقع أو توقعت.
الفصل الرابع عشر
التطهير الأعظم
انفض اجتماع اللجنة المحلية للحزب فاستقللت سيارتي إلى داري، مستصحبا صديقا حميما من رجال الإدارة في المصنع، وكان قد عاد من موسكو صباح ذلك اليوم نفسه حيث اتصل بكثير من الدوائر، فالأرجح أن قد عاد وفي جعبته أخبار، فقد أعلن عن قرب محاكمة من قبض عليهم وأعني «زينوفيف» و«كاما نيف» وغيرهما من البلاشفة الأقدمين، فأرهفت أذني، كما أرهف سائر الناس آذانهم، لأتسقط كل نبأ جديد، وهل يمكن للخيال أن يتصور رجال «أركان الحرب إبان الثورة» الذين كانوا تحت إمرة «لينين» في أعماق السجون؟! ألا ما أبشعها من فكرة وما أبعدها عن التصديق!
وإذا حكمت بما رأيته في عمال «نيقوبول» كان لي أن أقول: إن غمار الشعب لم يكترث كثيرا لمثل هذا الخلاف الذي دب بين السادة الجدد ؛ لأنه خلاف - في رأيهم - وقع بين أفراد أسرة واحدة وليس لهم أن يتدخلوا في أمره؛ ولهذا لم تتحرك قلوب الناس بعاطفة معينة إزاء ما أصاب زملاء «لينين» من فوادح.
أما أعضاء الحزب، والموظفون الذين لا ينتمون إلى الحزب، ورجال الصفوة الحاكمة بصفة عامة، فقد تحركت نفوسهم من أعماق أعماقها؛ ذلك أن «حراس لينين القدامى» لبثوا حتى ذلك العهد مصونة حياتهم من أيدي الفاتكين، فللناس أن يقللوا من شأنهم، أو أن يطرحوا بهم إلى مطارح النفي أو أن يكيلوا لهم أشنع التهم، أما حياتهم فكانت فوق متناول الأيدي العابثة، حتى «ليون تروتسكي» نفسه - بعد أن خبا نجمه - لم يصبه سوى أن أبعد إلى «ألما آتا» في وسط آسيا، ثم نفي إلى تركيا، أما الآن فرجل مثل «جورج زينوفيف» الذي كان يوما رئيسا ل «الشيوعية الدولية»، والذي كان خطاب منه (وربما كان الخطاب مزورا) كافيا لتحويل الاتجاه في الانتخابات في إنجلترا، مثل هذا الرجل هو الذي يحاكم الآن علنا بتهمة الخيانة العظمى! فليس من سبيل إلى الشك في أن هذه لم تكن بوادر عاصفة محلية فحسب، بل بداية إعصار سيجتاح الحزب كله والهيئة الحاكمة كلها والبلاد كلها، تاركا وراءه أثرا عميقا من الموت والخراب.
قال لي صاحبي في صوت خفيض خشية أن يسمعه السائق أمامنا: «فكتور! ألك عنق قوي؟» - «ماذا تعني؟» - «أعني أنه لن يمضي طويل زمن قبل أن تطاح رءوس كثيرة عن أجسادها.» - «لكن ماذا عسى أن يصيب رأسي؟ لست من المعارضين ولم أكن قط معارضا، بل إني لألزم عملي لا أتزحزح عنه ولا أتدخل في السياسة.» - «ألا بارك الله من كان في مثل إيمانك، عش وازدد علما.»
كان في ألفاظه رنين التهكم ، لكن لهجته كانت جادة على نحو تنفطر له القلوب. - «دعنا نسر بقية الطريق، فالليلة جميلة قمراء.» قلت ذلك لصاحبي غامزا إياه بمرفقي، فأخلينا سبيل السيارة؛ لأن الحديث لا يبلغ من الأمان ما يبلغه أثناء المشي، ما دامت البلاد قد ركبت لجدرانها آذانا تسمع وتسجل، وما دامت الكثرة الغالبة بين سائقي السيارات تعمل إلى جانب وظيفتها تلك عمل مخبرين للشرطة السرية.
سألت صاحبي: «ماذا هناك؟ حدثني لا تخف عني شيئا.» - «إن موسكو مقلوبة رأسا على عقب، ويقال: إن لننجراد ليست بخير منها، فالناس يقبض عليهم بالألوف، ولم يعد في الأمر إخفاء، فترى الشيوعيين ومن لا ينتمون إلى الحزب سواء بسواء، ينتزعون عن مكاتبهم انتزاعا على مرأى من كل إنسان. لقد قصدت إلى ستة أو نحو ذلك من قادة الحزب، وممن أقصد إليهم كلما ذهبت إلى موسكو، فلم أجد لهم أثرا، إذ اختفوا على نحو يكتنفه الغموض، فرجال القسم السياسي قد صعدوا إلى قمة السلم وأخذوا يطيحون برءوس القوم وأصحاب المناصب العليا ومديري الأعمال الصناعية والجماعية بل ببعض من يعملون داخل الكرملن نفسه.
إن كل إنسان تعلوه الكآبة ويجمد من الفزع، وكل إنسان تراه كأنما أصابه شلل، وتعتقد طائفة من الرفقاء أن «زينوفيف» و«كامانيف» سيقتلان وأن كثيرا غيرهما سيلحقون بهما. ليس من اليسير على عقل أن يصدق هذا الذي أقول، فليس له معنى يفهمه عاقل، لكنه الواقع! سيعاملوننا بمثل ما عاملوا به أصحاب الأراضي الزراعية والروس البيض.» - «من ذا يكون أول اللاحقين؟» - «لا علم لي بما لا تعلم، لكني أرجح ألا يفلت منا أحد، أعني أن كلا منا ستطويه سحابة الغموض، إن اثنين من مهندسينا - ذكر اسميهما - قبض عليهما ليلة أمس، وهذا مفروض فيه أنه سر مكتوم، إذ أمر المدير «براتشكو» أن يبعث بهما إلى موسكو في قطار معين، لكنهما لما بلغا من الطريق محطة «زبرزهي» نقلهما رجال القسم السياسي وقذفوا بهما في سيارة هناك، لقد شاءت المصادفة لصديق من أصدقائي أن يكون ساعتئذ في المحطة فيرى كل ذلك، إن الأمور ستجري بعد الآن جريا سريعا فافتح عينيك تشهد!»
وحدث فعلا أن سارت الأمور سيرا سريعا، فما كدت أبلغ المصنع في الصباح التالي حتى أسر إلي أحد مساعدي نبأ المهندسين اللذين قبض عليهما، فسرعان ما شاع هذا النبأ في أرجاء المصنع كله كما تشيع «أسرار» السوفيت في كثير من الأحيان، وفي غضون الصباح جاءتني رسالة تليفونية من «لنسكي» الأمين الثاني للجنة الحزبية الخاصة بالمصنع، وطلب إلي الذهاب إليهم رأسا، فلقد كان «لنسكي» هذا معروفا بقسوة قلبه على الرغم من حلاوة حديثه ونعومة مظهره ووداعة محياه التي تبديه في مظهر المعلم الريفي.
بدأ حديثه معي قائلا: «أيها الرفيق كرافتشنكو، أريد استشارتك في أمر غاية في الدقة، يخص «أركادي لمانسكي»، فقد راقبت عمله وتزاورتما في منزليكما، أفلم يحدث قط أن حادثك في أمور سياسية؟ ألم يحدثك قط عن ماضيه السياسي في لننجراد مثلا؟» - «كلا، فلم نكد نتحدث في شيء غير العمل، فمصنعه ومصنعي يتعاونان إلى حد كبير في العمل، وذلك ما ينشئ الصلة بيني وبينه، لكني لا أذكر أن قد دار بيننا حديث في السياسة أبدا.»
وكان هذا الذي قلته صوابا في أساسه، ففي ظل الحياة السوفيتية قل من الناس من تجمع بينهم ظروف العمل بحيث تبلغ بهم صلات الود حدا يبيح لهم أن يتبادلوا الرأي في الأمور «الدقيقة»، ولم نبلغ هذا الحد من صلات الود، أعني نفسي «ولمانسكي»، لكن «لنسكي» لم يرضه قولي، ولست أشك أبدا في أنه سجل في ذاكرته أني «أستر» رجلا مشتبها في نقاء مذهبه، وأبلغني إذ ذاك أن مكتب الحزب سيجتمع ذلك المساء ليبحث في «أمر لمانسكي»، وحذرني ألا أبوح بما استشرت به في ذلك الأمر حتى يحين موعد ذلك الاجتماع.
وجاء «لمانسكي» إلى اجتماع ذلك المساء في روح مرح، ولم يدر في خلده قط أن المهمة التي من أجلها استعجل الاجتماع خاصة به، كان «لمانسكي» هذا رجلا مليئا في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، به شغف خاص بحسن الهندام، وقد حدث له ذات مرة أن غادر البلاد في مهمة رسمية لشراء أشياء من ألمانيا، فأصبح منذ ذلك الحين يميل بخياله إلى أن يعد نفسه رجلا وطنه العالم، ولم يخل من ازدراء الأفق الضيق السائد في «نيقوبول» الذي ينحصر في حدود الوطن الواحد.
كانت قاعة الاجتماع معبأة بدخان التبغ، وكان رئيس الاجتماع هو «لنسكي»، وجلس إلى جانبه رجل غريب عنا بدين من كثرة ما أكل، حليق الرأس بحيث لم يبق من شعره إلا ما يقرب من جذوره، ويعلو محياه عبوس ظاهر، وعلى الرغم من أنه كان يرتدي حلة مدنية، فإن حركاته في سرعتها وحسمها قد كشفت فيه عن شرطي منقوع في مهنة الشرطية، ولقد أمسك بحقيبة أوراقه على فخذيه وشدد عليها قبضته بحيث يشعر الرائي أن مثل هذه الحقيبة إنما احتوت على شر بالنسبة إلى بعض الناس.
قال لنسكي: «أيها الرفاق، بدأت جلسة مكتب الحزب، ولدينا في جدول أعمالنا الليلة موضوع واحد: هو موضوع رئيس لفرع من فروع المصنع وعضو شيوعي، ألا وهو «أركادي فاسيلفتش لمانسكي».» - «أنا؟» بهذه الصرخة صاح لمانسكي واقفا على قدميه، وشاعت على وجهه ابتسامة فيها بلاهة، فقد كانت الضربة من المفاجأة بحيث لم يظهر أثرها فورا. - «نعم أنت! اجلس حتى ينادى اسمك.»
فهبط لمانسكي في استرخاء حتى جلس على كرسيه، وخيل إلى الرائي أن وجهه قد طارت عنه كل نقطة من دمائه، وأخذ يمسح جبينه بمنديله. - «أعند أيكم يا رفاق ما يعلق به على موضوع البحث؟» فلم يجب أحد. - «إذن فما دامت هذه هي الحال، فقف يا «لمانسكي» وقص علينا أنباء مناشطك، وخصوصا حين كنت في لننجراد.»
وكان «لمانسكي» المسكين عندئذ قد انتهت به الحال إلى رعشة كأنه محموم يعاني أعنف ضروب الحمى، إنه رجل إذا ما تركته على فطرته ألفيته ذرب اللسان واثقا بنفسه، لكنه فجأة لم يكد يجد في نفسه القدرة على متابعة الحوادث، فأخذ يتلعثم وينعرج بالحديث في سيرة حياته، فيذكر حقيقة من هنا وحقيقة من هناك، ثم يعود من حيث بدأ، فكان في اضطرابه هذا يذكر من الوقائع ما ليس له علاقة بالموضوع، ومن قبيل ذلك أنه أشار إلى زواجه، فاشتد قلق الغريب.
قال الغريب: «ليس يعنينا من أمور حياتك الخاصة شيء، إننا نريد أن نسمع عن ماضيك السياسي.» - «ليس ماضي السياسي بسر مكتوم يا رفاقي ... فقد بسطته مائة مرة ... أما عن لننجراد فقد كنت عندئذ على شيء من التردد ... لقد اعترتني ذبذبة واختلطت ببعض أنصار تروتسكي، ليس ذلك سرا، وقد تفضل الحزب علي وعفا عني، نعم، لقد وثق في الحزب وكان لي بعد ذلك صفحة مجيدة، ولكم أن تسألوا في ذلك من شئتم من الحاضرين، وفضلا عن ذلك يا رفاقي فقد وقع هذا كله منذ أمد بعيد ...»
فقال «لنسكي» في نغمة الساخر: «منذ أمد بعيد! كذلك كان الدنس الذي اقترفه «زينوفيف» و«تروتسكي» وغيرهما من وحشي الكلاب، كان هذا كله منذ أمد بعيد، مثل هذا الدفاع لن يفلح بعد اليوم في نجاة أعداء الشعب، خبرني يا «لمانسكي»، ألم يحدث أبدا أن هاجمت في كلامك اللجنة المركزية وزعيمنا المحبوب الرفيق ستالين؟» - «كلا، بالطبع لم أفعل مثل ذلك.»
وهنا أشار «لنسكي» بأصبعه إلى الشرطي فأخذ هذا يهدر كالرعد قائلا: «أيها المواطن لمانسكي، إنك تخدع الحزب خداعا جريئا، ألم تنطلق بلسانك مهاجما لبعض العاملين من رجال الحزب في اجتماع عقدوه في إقليم «ن» ... في أغسطس؟»
كانت مخاطبته بكلمة «مواطن» بدل «رفيق» مما ينذر بسوء.
وتمتم «لمانسكي» في جوابه قائلا: «نعم، إني لآخذ في التذكر الآن.» قال ذلك ممسكا بكرسي ليثبت جسده في وقفته. - «خير لك أن تتذكر ما هو أكثر من ذلك، فمن ذا عرفت في لننجراد ممن كانوا مثلك قد «اعترتهم ذبذبة» و«كانوا على شيء من التردد»؟» - «من الصعب أن أتذكر هذا ... بعد أن انقضت أعوام طوال، ولكن انتظر فلعلي أتذكر شيئا.» وهنا ذكر ما يقرب من ستة أسماء. - «وأين هؤلاء الأجلاء اليوم؟» - «لا أعلم عنهم شيئا ... أظنهم يعملون.» - «إذن فسأنبئك بأمرهم، إن كل من ذكرت مقبوض عليهم، وأريد أن أسألك هذا السؤال قبل أن أنساه: هل وقعت معهم عريضة تعارضون بها الحكومة؟» - «كلا ... أريد أن أقول: إنني لا أظن أني فعلت ذلك.» - «إذن فاسمح لي بأن أجدد لك ما ضاع من ذاكرتك، فها هنا صورة شمسية، تعال فانظر إليها، ربما تعرف هذا، أليس هذا توقيعك أنت؟»
نظر «لمانسكي» إلى الورقة ثم عاد إلى مقعده يتعثر في مشيته كأنه أعمى. - «لكنك لا تتذكر، ألم تقل ذلك؟ إن ذهنك مشغول بأنباء زواجك وأخبار رحلتك إلى برلين بحيث لا تستطيع أن تتذكر، أليس كذلك؟» - «لقد كانت هذه عريضة خاصة، ولم تكن سياسية بأي معنى من معاني الكلمة، وحدثت منذ أمد بعيد ...»
دام استجواب المتهم حول نصف الساعة، ولما كان «لمانسكي» قد ضعفت روحه المعنوية أثناء الاستجواب، فقد أنكر بعض الحقائق التافهة دون أن يكون هنالك ما يضطره إلى الإنكار، ثم عاد إلى إثباتها حين ووجه بالبراهين، فعلى الرغم من أن كل ما ذكر من مفردات كان في ذاته تافها، فإن المفردات حين تجمع بعضها إلى بعض، وحين قرأها الشرطي بالنغمة التي تهول من أمرها ثم تبعه «لنسكي» في ذلك، تكون من مجموعها في نهاية الأمر شيء ذو خطر. وأعقبت ذلك مناقشة من النظارة كان فيها شيء من التكلف، فقد نهض أفراد يدافعون عن المتهم، كما نهض أفراد أكثر من هؤلاء عددا يكيلون له التهم، وأخيرا أصدرت اللجنة المجتمعة حكمها بإجماع أعضائها ومؤداه أن يطرد المتهم من الحزب وأن يطلب إلى اللجنة المحلية أن تؤيد الحكم، وغادرنا المكان دون أن ينبس منا أحد ببنت شفة، بل اجتنبنا النظر بعضنا إلى بعض.
ولما كنت في طريقي إلى داري رأيت ضوءا خلال نافذة مكتب «لمانسكي» فحفزني حافز أن أدخل دون أن أطرق الباب، فوجدته جالسا إلى مكتبه وقد غمس وجهه في راحتيه وأخذت كتفاه العريضتان تهتزان بفعل العبرات التي حبسها دون السكوب، لقد كان منذ ساعة واحدة موظفا له سطوته وثقته بنفسه، ولم يكن يخلو من مسحة خفيفة من عنجهية الحاكمين، فإذا هو ينقلب بغتة إنسانا محطما يدعو إلى الإشفاق.
نظر إلي في دهشة وقال : «فكتور أندريفتش؟ أشكر لك دخولك الآن، هذه هي النهاية! طرد ثم حبس، ثم ماذا؟ زوجتي ... أواه يا رباه! إنه لخير لي أن أزهق روحي بغدارتي.»
لم يجد معه عزاء، وهو في ذلك مصيب، فسرعان ما أيدت اللجنة المحلية الحكم عليه بالطرد، ثم ما هو إلا أن نقل إلى منصب صغير في مصنع بخاركوف، ولم يمض بعد ذلك طويل وقت حتى ألقي القبض عليه، ولم يعلم أحد في «نيقوبول» بعد ذلك ماذا كان مصيره.
وحدث بعد ذلك أسبوع أو أسبوعين من ذلك الوقت أن كان لي عمل مع مساعد «براتشكو» وهو رجل من رجال الحزب يدعى «ألكسي سوخين»، فدخلت بخطى سريعة في غرفة استقباله وكنت على وشك أن أدخل مكتبه، لولا أن أوقفتني أمينة سره. - «أرجوك الانتظار أيها الرفيق «كرافتشنكو»؛ لأن الرفيق «سوخين» جد مشغول.» - «وأنا مشغول كذلك.» قلت ذلك في غضب واقتحمت المكتب داخلا.
لكني وقفت فجأة عند عتبة الباب؛ إذ رأيت «سوخين» جالسا إلى مكتبه وإلى جانبه «جرشجورن» البدين وهو يتندى من العرق، وأخذ يلوي شفتيه في سخرية، وهي حركة كثيرا ما تلازمه، ثم رأيت عن يمينهما وشمالهما صفا من المهندسين، يقرب عددهم من عشرة أو اثني عشر، ولم يكن بينهم من أعضاء الحزب إلا قليلون، هنا أخذني الارتباك فألقيت تحيتي على الجميع، لكن لم يرد التحية إلا «سوخين»، وبعدئذ لحظت أربعة من رجال القسم السياسي في حللهم الرسمية واقفين في حراسة المهندسين.
انسحبت في ارتباك وأخذت سمتي فورا إلى مكتب «براتشكو».
فسألته: «ما الخبر يا بيوتر بتروفتش؟» - «لم أعد أفهم شيئا عن شيء، اثنا عشر رجلا في يوم واحد! وثمانية أمس! فإن صار الأمر على هذا المنوال ... إن رأسي يدور يا فكتور أندريفتش.»
ولقد كان يبدو على «براتشكو» وكأنه اكتهل بين عشية وضحاها، فاتسعت عيناه على نحو شاذ وترنح من قلة النوم.
غادرت مكتبه وذهبت إلى قسم السجلات لأبحث عن أرقام كنت بحاجة إلى معرفتها، ولبثت في ذلك القسم عشر دقائق، ثم حدث فجأة أن صاح كاتب كان يجلس بجوار النافذة صيحة مذعورة: «يا إلهي! انظر إلى ذاك!» فاندفعنا جميعا إلى النوافذ وإذا إحدى عربات القسم السياسي القاتمة المغلقة واقفة أمام البناء، وهي عربة مما يسميه الناس «بالأفاعي السود»، ورأيت المهندسين والفنيين الذين كانوا يملئون مكتب «سوخين» رأيتهم عندئذ يتقاطرون خلال الباب إلى الخارج، فأخذ رجال الشرطة السياسية يقذفون بهم في جوف العربة واحدا في إثر واحد، وهم شاهرون مسدساتهم.
وبينا نحن وقوف نشاهد، سمعنا صرخة جنونية تنبعث من امرأة، ثم ساد السكون من جديد، وكان الذي حدث هو أن زوجة أحد هؤلاء الرجال، وهي عاملة في المصنع أيضا، ذهبت إلى النافذة لتنظر مع الناظرين دون أن يدور بخلدها قط أنها سترى زوجها بين المسجونين، فكان اقترابها من النافذة في نفس اللحظة التي يلقى فيها زوجها في جوف «الأفعى السوداء» فصرخت ثم سقطت مغشيا عليها.
ولما تمت تعبئة العربة بالمهندسين، أغلق بابها إغلاقا كان له صوت مسموع، ثم سارت، وركب «جرشجورن» وزملاؤه في عربة أنيقة من عربات السياحة، وساروا بها في إثر عربة المسجونين، ووقف عشرات من الناس بجوار نوافذ المكتب ينظرون في دهشة إلى آثار العجلات التي تخلفها السيارتان وراءهما على سطح الأرض المثلوج.
وكان بين عمال مصنعي يهودي ألماني شيوعي لاذ بالفرار إلى الروسيا بعد اعتلاء هتلر مقعد الحكم، وهو رجل ضئيل نحيل شاحب اللون يسمى «زلمان»، وكانت تذكرته الحزبية قد استردها منه - لسبب ما - المكتب الشيوعي الدولي في موسكو؛ إذ الشيوعيون الأجانب قلما يوثق بهم في مقر الشيوعية، وإخلاصهم لستالين دائما موضع شك. وكان «زلمان» هذا هادئا منطويا على نفسه وكأنما كان في ذعر متصل، تزوج من فتاة سوفيتية وبدت عليه علائم الرضى عن حياته في «نيقوبول»، وقد كان موضع ثقتي الكبرى في تعليم العمال الجدد؛ لأني وجدت فيه رئيسا للعمال على درجة من المهارة نادرة المثال.
ونودي «زلمان» ذات يوم إلى مقابلة رجال القسم السياسي، فلما عاد بعد ساعات كان مصفر الوجه اصفرارا شديدا كمن يرتعشون من خوف، واستحال فيه الحياء المألوف إلى فزع مميت، وأنبأني في روسيته الضعيفة أن قد صدرت له الأوامر أن يغادر البلاد من فوره عائدا إلى ألمانيا! - «ساعدني أيها الرفيق كرافتشنكو، هل تعلم ما معنى أن أؤمر بالعودة إلى ألمانيا؟ فلست يهوديا فحسب، بل إني شيوعي كذلك، ولست شيوعيا فحسب بل إني يهودي كذلك، قل لهم يرسلوني إلى سيبيريا أو إلى السجن، لكن لا يرسلوني إلى ألمانيا، لا يرسلوني إلى ألمانيا!»
لم يعد «زلمان» إلى العمل بعد ذلك اليوم، وتقصيت الأخبار فلم أجد من يعلم شيئا علم اليقين سوى أن اللاجئ الألماني وزوجته قد أبعدا عن «نيقوبول».
إن ذاكرتي لتنوء تحت حملها إذا ما تذكرت الأشهر الأخيرة من عام 1936م قبل أن يدفع بنا إلى التيار الجارف من عوامل الكبت التي ألمت بنا، وها أنا ذا أروي لك حكايات قليلة أستخرجها كما اتفق من مجموعة ما حدث إذ ذاك عن تداخل حوادث ذلك العهد واضطرابها، ها أنا ذا أعرض نتفا من أنقاض عالم فقد توازنه وخيل إلينا أنه ينحل ويتهافت حين أرسلنا إليه البصر في فزع شديد.
لست أدري لماذا ترسخ على صفحة ذهني ذكرى المهندس «ستسفتش»، ثم لا أذكره أبدا دون أن أذكر معه أمه، وهي تلك المرأة العجوز النحيلة الحلوة القسمات، وقد كان «ستسفتش» وأمه وزوجته الجميلة من أصل بولندي، ولما كان هذا المهندس تقوم في وجهه عقبات قد لا يقوم مثلها في وجه غيره، وهي أنه لم يكن من أعضاء الحزب، ثم كان من أصل بولندي، فقد اجتنب السياسة وأخلص لعمله فأحسنه وأتقنه، ولم يخالط زملاءه إلا قليلا.
وجاءني ذات يوم رجل من رجال «جرشجورن» يسألني عن عمل «ستسفتش»، فعرفت أن الرجل في خطر، ولم أجد ما أقوله عنه إلا الثناء، لا يحدوني في ذلك إلا كل إخلاص، وقد كانت هذه نقطة أخرى سوداء في صحيفتي عند القسم السياسي، فرفض «التعاون» معهم في الحملة التي شنوها على «المخربين» كان هو التهمة الأساسية الرئيسية التي أخذوها علي، ولم يلبثوا بعد ذلك أن قبضوا على البولندي، وأخرجوا أمه وزوجته من مقر سكناهم.
وكنت ذات مساء في طريقي إلى «نيقوبول» في سيارتي، فرأيت أمامي في الطريق، على بعد ثلاثة كيلومترات من المدينة، امرأة عجوزا احدودب ظهرها وأخذت تدب في سيرها خطوة وراء خطوة، وتحمل في يدها حزمة، فلما حاذيتها بسيارتي تبينت أنها أم «ستسفتش»، فأوقفت السيارة ودعوتها للركوب ، على الرغم من علمي بما يتهددني من خطر إذا ما أبديت شيئا من الرحمة إزاء من حكم عليه قانون البلاد، فهذه امرأة والدة رجل «أخرجه القانون» فضلا عن أنه كان منهما بالتجسس لبولندا، لكنني لم أبال بذلك كله حينئذ، فلم يكن يسعني إلا معاونتها على الطريق بسيارتي حتى لو كان عقاب ذلك هو الموت.
قالت: «شكرا، شكرا، يا «فكتور أندريفتش» لا أرى الله أمك من العذاب ما ألاقيه، ولا حكم عليك الله أن تعاني ما يعانيه الآن ولدي، أنا الآن في طريقي إلى القسم السياسي، وسأظل هناك واقفة أنتظر، فقد يأذنون لي بإرسال هذه الحزمة إلى ابني، إن النساء الأخريات قد أخبرنني أنه سيكون بين طائفة سيشحنونها في سفينة إلى «دنيبروبتروفسك اليوم».
فلما وصلنا المدينة ألحفت في طلبها أن تنزل عن سيارتي حتى لا تكون سببا في متاعبي، فالتفت إلي السائق وقال: «أيها الرفيق الرئيس، قد أكون كلبا دنيئا لا يمسك في نفسه شيئا يراه أو يسمعه إلا بلغه، أما الآن فصدق أو لا تصدق، ها أنا ذا أقسم لك بأمي أنني لن أبلغ عنك هذه المرة، إن أمي امرأة ساذجة وليست هي بالسيدة الأنيقة مثل هذه السيدة لكني أحبها، وعلى كل حال فإني أشكرك يا «فكتور أندريفتش»، أشكرك شكر روسي لروسي.»
ولما أقبلت أعوام محنتي لم تؤخذ علي هذه الحادثة قط، ولو أنني ووجهت بما هو أقل منها خطرا مما اقترفت من «جرائم»، فقد يظهر أن السائق كان هذه المرة عند وعده.
كان كلما مضى يوم ازداد الجو في المصنع الجماعي بنيقوبول إجحافا على إجحاف، فقد «نقل» كوزلوف - أمين الحزب - إلى مدينة «كريفوارج»، ولم نلبث أن سمعنا بأن القبض قد ألقي عليه هناك، وأخذ يختفي عنا موظف إداري بعد آخر، فلا يظهرون في مقار مناصبهم بحجة «المرض»، وهذا المرض المزعوم كان يتبين لنا مع الأيام أنه مرض لا يزول.
وكان غمار العمال بادئ ذي بدء يتخذون موقف من ينظر إلى هذه الأعمال الغريبة على أنها ليست تدخل في نطاق اهتماماته، لكن موقفهم تغير حين أخذ يختفي عن أبصارهم رجال ونساء ممن يتصلون بهم اتصالا وثيقا، ممن يشتغلون معهم في سلك واحد هو سلك العمال، تغير موقفهم لأن الأمر لم يعد الآن كما كان، وأخذ الفزع يضرب بجذوره عميقا حتى كان له أكبر الأثر في كميات الإنتاج، إذ تحطمت الروح المعنوية في المصنع تحطما ملحوظا.
فلما انعقدت جمعية خاصة من أعوان الحزب في نيقوبول، ذهبنا إلى الاجتماع بقلوب يائسة، وهناك فحصت أوراقنا عند الباب فحصا دقيقا، مع أننا كنا نعرف بعضنا بعضا معرفة الصداقة، لكن معنى الزمالة القديم لم يعد له وجود في مثل تلك الاجتماعات، ولو حدث مثل هذا الاجتماع قبل ذلك ببضعة أشهر لسمعت صيحات الترحيب عالية «أهلا أهلا بالرفيق كرافتشنكو!» «يا مرحبا بزميل الحرب القديم!» ولرأيت كذلك الزملاء يتبادلون في ود الأصدقاء ما يعرفون من إشاعات وحكايات وأخبار العمل وسياسة الحزب، أما الآن فلم تشهد على الوجوه إلا رزانة قلقة، وأخذنا نبعد أحدنا عن الآخر كأنما يجتنب كل منا عدوى المرض من زميله، وإنك لتكاد تسمع الخواطر تدور في رأس كل منا قائلة له: «انج بنفسك! انج بنفسك! اجتنب جيرانك!»
رأيت الرفيق «برودسكي» - أمين اللجنة المحلية - وهو من عهدته حاسما جم النشاط، فوجدته اليوم يبدو كأنه لم يذق طعم النوم أمدا طويلا، فعيناه منتفختان، ويداه مرتعشتان، وصوته متهدج أجوف كأنه يتكلم خلال مزمار، ولم يشك منا إلا قليلون بأن ذلك الاجتماع سيكون آخر اجتماع يشهده «برودسكي»، وأن هذا الرجل القوي الفوار لن يطول به العهد قبل أن يرمي نفسه في «زنزانة» القسم السياسي، ومعه معظم هؤلاء الذين يجلسون معه الآن على منصة الرياسة.
وأعلن «برودسكي» أننا قد دعينا لهذا الاجتماع لنسمع خطابا سريا من اللجنة المركزية في موسكو، وقرأه على مهل قراءة فيها عاطفة يبين فيها ما أراد بقوة أن يبينه من موافقته التامة على ما جاء بالخطاب، موافقته التي لا قبل له بنقضها، وكان ذلك قبل الحكم على «زينوفيف» و«كامانيف» وسائر إخوانهما فإعدامهم جميعا، وإذن فالظاهر أن هذه الرسالة التي جاءتنا من موسكو إنما أريد بها أن تهيئ أعصاب رجال الحزب لهذه الصدمة، وأن تبث الخوف في كل قلب قد يدفع صاحبه إلى القلق والشك.
وجاء في الخطاب المذكور أنه «قد نهض البرهان» على أن الشياطين من أنصار «تروتسكي» و«زينوفيف» قد اتحدوا في عراكهم ضد السلطة السوفيتية مع الجواسيس الأجانب كما اتحدوا مع مثيري القلاقل وأصحاب الأملاك القدماء والمنشقين والبيض والمخربين وأعوان الرأسمالية؛ ولهذا وجب على كل أعضاء الحزب أن يدركوا تمام الإدراك ما نحن بحاجة إليه من يقظة قصوى ... ثم ورد في الخطاب كذلك أن برهان البلشفي الصادق في عقيدته سيكون منذ الآن قدرته على استخراج أعداء الشعب الذين يتخفون وراء تذكرات الحزب ثم التشهير بأمرهم في غير رحمة ... لم يعد لدينا مجال ل «التسامح الكريه» أو ل «الرقة البرجوازية».
وهكذا كان مضمون الرسالة جليا واضحا، فسرت في الحاضرين رعشة الفزع، فكما كنا فيما مضى نبحث عن «الأعداء» بين صفوف الشعب، وجب علينا اليوم أن نبحث عنهم بصفة خاصة بين صفوفنا نحن! وسيكون مقياس الجدارة بعد اليوم هو عدد من توجه إليهم التهمة من زملائك الأقربين.
أما الضعفاء الرعاديد الذين يقدمون صداقاتهم الخاصة على مصلحة الحزب فسيلقون جزاء هذا التذبذب.
وأخذ «برودسكي» يتحدث في تفصيل شديد عن أهمية الأوامر السرية، وراح يكيل لستالين الصفات كأن حياته نفسها كانت تتوقف على عدد الصفات التي يمكن خلعها على ستالين وعلى فخامة مدلولها، فجعل يمدح ستالين العبقري، شمس وطننا الاشتراكي، الزعيم الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فغرزت أظفاري في راحتي لأجتذب لهما دما.
وطلب بعض الحاضرين الكلام ليتهموا أنفسهم وحزب نيقوبول ب «التقصير في اليقظة الواجبة» وب «التراخي إزاء الخطر الداهم»، وعم الهرج بسبب الرفقاء الذين تحرقوا شوقا للإعلان عن أنفسهم وللحط من قدر أنفسهم، لكي ينقذوا أنفسهم، وبينا نحن في معمعان هذا الفيض الدافق من وحل الخطابة المفحشة، إذا حركة عند الباب؛ فلوينا أعناقنا جميعا لنرى.
وصل «الرفيق هاتايفتش » أمين اللجنة الإقليمية، وعضو اللجنة المركزية الرئيسية التي تضم أجزاء الاتحاد جميعا، وكان يخطو في الممشى سائرا نحو المنصة، ويحيط به رجال من الشرطة لحراسته، فكان هذا جانبا جديدا، بل لعله أشد الجوانب تحريكا للفزع في النفوس، حراس ومسدسات في اجتماعات الشيوعيين العاملين! حراس ومسدسات تحمي الزعماء من «صفوة الصفوة» من أبناء الأمة!
كان الإجهاد يبدو على «هاتايفتش»، فكان وجهه رخوا تظهر عليه خطوط عميقة، وصوته يخيل إلى سامعه أنه آت من مكان بعيد، خطب فينا خطبة تساير النقط الأساسية الواردة في خطاب موسكو، لكنه لم يستطع إخفاء ما يحس به من غم، ولقد ذكرت - إذ أنا أستمع إليه - ذلك الموقف في حقول القمح أثناء حملتنا على المزارع الجماعية، حين شكرني هذا الرجل «هاتايفتش» بنفسه على إنجاز الخطة المرسومة قبل الموعد المحدد لإنجازها، وحين استحثني على فهم حاجة البلاد إلى سياسات «قوية»، ذكرت ذلك كما ذكرت اجتماعاتنا به في اللجنة الإقليمية، فقد كان حينئذ قوي البنية واثقا بنفسه.
أصبح من عوامل «الشرف» - منذ ذلك اليوم - أن تتهم «الأعداء المتنكرين» بين رجال الحزب وأن تشهر بهم، فلم يعد يجرؤ أحد أن يتحدث إلى أقرب أصدقائه إليه، فما الذي يمنع أن يكون هؤلاء الأقربون مصابين بهذا الوباء السياسي، الذي يجتاح البلاد كلها، أو أن يكونوا من حملة جراثيمه؟ ونسي الإنسان أن قد جاء على الناس عهد فيما مضى كانوا يعرفون فيه معنى صلابة الخلق والوفاء والصداقة.
كان إذا ما سقط عن مكانته زعيم أو موظف كبير، استتبع سقوطه هذا أن يتناول التطهير كل معارفه والمحسوبين عليه، فبعد القبض على «برودسكي» أخذت عربات «الأفاعي السود» والسيارات المقفلة التابعة للقسم السياسي، تجمع أعوانه وأصدقاءه رجالا ونساء ممن كان هو السبب في تعيينهم في مناصبهم في «نيقوبول» بكافة أنحائها، فسقط في وفاض الصائد قائد حامية نيقوبول، ثم تبعه النائب العام للمدينة وكل من حوله من موظفين قضائيين، وأخيرا سقط رئيس السوفيت في «نيقوبول» نفسه، وتناولت أيدي «التنظيف» المصرف المحلي والصحيفة اليومية وكل المنشآت التجارية، فكنت ترى أشخاصا جددا يتولون المناصب أينما وجهت النظر، ثم لا يمضي بعدئذ أسبوع أو شهر حتى يحدث في معظم الأحيان أن يقع هؤلاء أنفسهم في شبكة الصياد.
وراح الناس يتهامسون الأنباء عن اعتقال رئيس السوفيت وهو أعلى موظف مدني في نيقوبول، وقد كان هذا الرئيس فيما مضى عاملا في المناجم وله صحيفة تشرفه عما قام به في الحرب الأهلية، ذهبوا فأيقظوه في منتصف الليل، وفزعت لذلك زوجته وأبناؤه فجعلوا يصيحون صياحا أيقظ الجيران.
صاح الرئيس في وجه الرجال الذين جاءوه في حللهم الرسمية قائلا: «إنني أمثل السلطة السوفيتية في نيقوبول، فليس لكم الحق في القبض علي! أروني ما معكم من أمر يبيح لكم هذا!» - «هيا معنا أيها الكلب القذر! سنريك من له الحق في هذا أو ذاك.» بهذه العبارة زمجر الضابط الذي ألقى القبض على الرئيس ودفعه خارج الباب دفعا.
وبعد طرد الرئيس من منصبه، دارت الدوائر على معظم كبار الموظفين في المدينة، وكان بينهم مدير الإدارة الاشتراكية ورئيس المطافئ ورئيس معهد الادخار، بل كان بينهم كذلك رئيس الشئون الصحية. من هؤلاء فريق قبض عليه في منازله في ظلمة الليل، وفريق آخر قبض عليه في مكاتبه علنا.
وجاءنا رجل اسمه «لوس» ليحل محل «كوزلوف» ولم يكن قبل من رجال مصنعنا، كان بليد الذهن ضيق الأفق، قويا فجا كما يكون شراب الفودكا إذا عتق تعتيقا «بيتيا»، وراح «لوس» هذا يتصيد المذنبين تصيدا متحمسا حارا بحيث تبخرت في حرارته آخر قطرات بقيت من شعور الود بين الزملاء، فكنا نحن الموظفين الفنيين أو رجال الحزب إذا ما التقينا في فناء المصنع أو أبهائه نظر بعضنا إلى بعض نظرة المبهوت «أما زلت حيا بين الأحياء ؟» كان هذا هو السؤال الذي تنطق به نظراتنا.
كانت رياسة القسم السياسي - وهي كائنة في أحد الشوارع الرئيسية - تسطع تلك الأيام بأضوائها طول الليل وفي كل ليلة، فهذا القسم السياسي يشتغل في كل يوم أربعة وعشرين ساعة، وكانت سوقها عندئذ نافقة منتعشة، وكان «دوروجان» و«جرشجورن» وأعوانهما في جاه عريض، ينال منهم الإعياء لكن ينفخهم الزهو، فهم بمثابة القادة في معركة حربية تسير إلى نصر مظفر، ولم يكن المقبوض عليهم ليظلوا تحت القبض أمدا طويلا، إذ لم تكن «نيقوبول» على كل حال إلا فرعا ثانويا بالقياس إلى المكاتب الرئيسية القائمة بهذا العمل؛ لهذا كان المقبوض عليهم سرعان ما يشحنون شحنا إلى «دنيبروبتروفسك» ومنها إلى «خاركوف» أو غيرها من المراكز الرئيسية ليفسحوا المجال لغيرهم ثم غيرهم.
ولم تكن «نيقوبول» إلا جزءا ضئيلا من طريق أخذ يضرب فيه منجل التطهير الأعظم فيتسع مداه شيئا فشيئا، وأخذت تجيئنا التعليمات من رياسة مصنعنا ومن الرياسة العليا في موسكو، موقعة بأسماء لم تألفها آذاننا، وأخذت هذه الأسماء الجديدة تزداد مع الأيام عددا؛ ذلك لأن منجل التطهير قد حصد طائفة كبيرة من الموظفين القدامى، وقبض على «هاتايفتش» وفئة من زملائه رجال اللجنة الإقليمية، وكان ل «هاتايفتش» من أهمية المكانة ما جعل الصحف المحلية تفرد لسبه نصف عمود من أنهارها، وهكذا مضى الأمر يوما بعد يوم حتى ليتعذر عليك أن تساير هذا الفيضان الدافق من مثيرات الشعور والمآسي ومر المفاجآت، ولتسبح الإشاعات بخيالها ما شاءت فلن تكون شيئا بالقياس إلى الحقيقة الواقعة.
ووقف العالم الخارجي يرقب المحاكمات المتعددة التي تريق دماء التطهير، والتي اتخذت مكانها في قاعة كانت فيما مضى «قاعة الأشراف» في موسكو، ولم يكن ذلك العالم الخارجي ليعلم، بل إنه لا يعلم حتى هذا اليوم، أن محاكمات موسكو لم تكن إلا صورة ظاهرة، أو معرضا في واجهة دكان، تتكدس وراء ستارها أكداس من المفازع الحقيقية التي تبلغ في ارتفاعها سامق الجبال، فلئن كانت المحاكمات العلنية قد تناولت عشرات قليلة من الضحايا الذين أحسن اختيارهم وأجيد التدريب على مجرى محاكمتهم قبل وقوعها علنا، فإن حركة التطهير قد تناولت مئات الألوف، إذ بلغ العدد في النهاية ما يقرب من عشرة ملايين أخرجوا من صفوف الناس وأبعدوا في غير إبطاء، فهؤلاء يزج بهم في السجن، وهؤلاء يطوح بهم إلى النفي، وهؤلاء يبعث بهم إلى أعمال السخرة، وهؤلاء يعدمون.
واحتشدت جماهير من النساء والأطفال حول المبنى الذي يقيم فيه القسم السياسي في «نيقوبول» بحيث كنت تراهم في كل ساعة من ساعات اليوم رغم البرد الشديد، فكان رجال القسم السياسي يفرقونهم، لكنهم لا يلبثون أن يعودوا إلى حيث كانوا باكين صارخين منادين بأسماء آبائهم أو أزواجهم أو إخوتهم، وكان كثير من هؤلاء النساء من سكان «نيقوبول» نفسها، لكن كثيرين آخرين جاءوا من القرى المجاورة حيث كان منجل التطهير يطيح برؤساء اللجان السوفيتية الريفية، وبأمناء الحزب في القرى وزعماء الشبيبة الشيوعية ورؤساء المزارع الجماعية. ولن أنسى أبد الدهر هذا الذي رأيته خارج مبنى القسم السياسي، فلو أراد نابغ من أعظم نوابغ الأدب المسرحي أن يصور اليأس وقد طفت موجته على جماهير الناس، والأسى وقد اتسع نطاقه واسودت غمامته، لما استطاع بخياله أن يصور شيئا أشد إثارة للفزع في نفس الرائي من هذا الذي كان.
ووسط هذه العاصفة وبين عويل المصابين وألم المعذبين، أخذ المذياع وأخذت الصحف تنشر التصديق الرسمي على «أعظم ما شهده العالم من الدساتير الديمقراطية» في نوفمبر عام 1936م.
بلغ هذا الهوس حدا كان يضطر معه رجال الحزب أن يأووا إلى فراشهم مرتدين ثيابهم «إذ من يدري؟» وأعددت كما أعد معظم الناس حقيبة صغيرة ملأتها بما قد أحتاج إليه في السجن، فوضعت مقدارا زائدا من الملابس التحتية والجوارب والمناديل و«بطانية».
سألتني «باشا» سؤالا بريئا حين وجدت الحقيبة تحت مخدعي: «أذاهب أنت إلى مكان ما؟»
فتنهدت قائلا: «من يدري يا «باشا» من يدري؟»
وكان الرفيق «براتشكو» قد زار دنيبروبتروفسك ليقضي شأنا، فعاد مثقلا بمروع الأنباء، ففي تلك المدينة التي هي موطني، بلغ الفزع حدا لم يبلغه في «نيقوبول» لو كان في الإمكان أن تسوء الحالة عما كانت عليه في «نيقوبول»، فقد سمع «براتشكو» أن عدد من قبض عليهم هناك من رجال مصنعي القديم زاد على خمسمائة، وكانت «عربات الأفاعي السود» لا تزال فاغرة أفواهها لمزيد، وكثير من زملائي في الدراسة في معهد المهندسين أمثال «برتزكوي» و«كاتس» و«رشتر » وآخرين لا يحصيهم العدد، اختطفوا اختطافا أثناء أدائهم لأعمالهم الهندسية، وكانت عربات الماشية تغادر كل يوم مدينة دنيبروبتروفسك مثقلة بحمولتها البشرية، وقد أغلقت من دونهم أبوابها وختم على أقفالها من خارج، أمثال هذه التعبئات البشرية التي تحرك في النفوس أعمق الأسى، كانت منذ أربعة أعوام تتألف من فلاحين، أما الآن فقد علا صنفها وباتت تتألف من شيوعيين وكبار رجال الحكومة والجيش والأعمال الفنية والموظفين الذين لا ينتسبون للحزب، «ماذا عسى أن تكون النية التي عقدها في هذا الصدد «ستالين» وأعضاء الهيئة السياسية العليا؟ إن الأمر ليبدو ضربا من الجنون المتصل.» هكذا قال لي «براتشكو» ثم أسف على قوله ذاك كما تبين لي من نظراته الفازعة.
ماذا عسى أن تكون النية التي عقدها «ستالين» وأعضاء الهيئة السياسية العليا؟ هذا بالضبط هو السؤال الذي كان لا يني يتردد على ذهني، ثم هممت بعمل كان دليلا على حماقتي، وذلك أني صممت أن أرسل خطابا إلى عضو الهيئة السياسية العليا الذي كنت أعرفه لأستفسره معنى ما نشاهد من أحداث متلاحقة، فأخذت أنفق شطرا طويلا من الليل لعدة ليال متتابعات في إنشاء هذا الخطاب إلى الوزير «أورزنكدز».
جعلت أقص في هدوء - كأني أنشئ تقريرا فنيا - قصة الحوادث التي كانت تقع في «نيقوبول» و«دنيبروبتروفسك» و«كريفوارج» وغيرها من بلدان إقليمنا، وأخذت أذكر أسماء معينة وأدافع عن ولاء أفراد اختطفوا اختطافا أثناء قيامهم بمهام أعمالهم، وأنذرته أن مثل هذه الحوادث لو لبثت تجري مجراها لما وجدنا بيننا بعد قليل من الزمن رجلا واحدا قادرا على إدارة الصناعة في إقليمنا، فالإنتاج قد تحللت عراه بالفعل، ولم يعد أحد يجرؤ على ابتكار الجديد، أو يجازف باتخاذ قرارات حاسمة في شئون عمله.
أرسلت الخطاب عن طريق خاص وعرفت في يقين أنه وصل إلى يد الوزير، لكنني لم أظفر منه بجواب، ولما جاء دور محاكمتي في حركة التطهير لم يوجه إلي سؤال بشأن هذا الخطاب، فعرفت شاكرا أن «أورزنكدز» لم يرسله إلى رجال الشرطة، فكل فقرة من فقرات «عريضتي» كانت كفيلة وحدها أن تنتهي بي إلى موت سريع.
جاء دوري في نوفمبر عام 1936م.
وكان في مفاجأته شبيها بمحاكمة «لمانسكي»، لكن الميزة النفسية التي ظفرت بها من دونه هي أني توقعت الضربة وأني مرنت عدة مرات على ما ينبغي أن أقوله مستفيدا بغيري من الرفقاء الذين كانت في أيديهم أهم الأعمال، وقد حدثت نفسي قائلا: إن أهم ما يجب أن أراعيه هو ألا يسقط من يدي زمام قواي العقلية، وأنفقت عددا لا ينتهي من الليالي لا أذوق فيها طعم النوم، أدير في رأسي كل التهم التي يمكن توجيهها إلي، وأفكر فيما عسى أن تكون «جرائمي»، أتكون شيئا مما قلت أو فعلت منذ عام واحد أو خمسة؟ أتكون شيئا مما يتصل بعملي في المصنع؟
ولو أبعدت ما يدور في رأسي من شك وما يعتلج فؤادي من هم لما وجدت جريمة واحدة اقترفتها ضد الدولة السوفيتية، فلما أزيح الستار عن ذنوبي وجدتها تختلف كل الاختلاف عما قدرت لها أن تكون.
عقدنا اجتماعا حزبيا في المسرح التابع لندوة المصنع، وكانت الليلة قاسية في بردها وثلجها، فغطيت الأرض في مكان الاجتماع بالوحل حتى باتت زلقة مما تساقط عليها من أحذيتنا، وعلقت في هواء القاعة سحائب زرقاء من دخان التبغ المتصاعد، ولا أحسبني سأنسى قط تلك القاعة ولا تلك الليلة بما شابها من قذر؛ لأن هذه الأشياء كلها كثيرا ما عاودتني آنا بعد آن في أحلامي المفزعة، وهي التي لونت نظرتي إلى العالم فيما تلا ذلك من حياتي، كما تلون الفاتحة في مسرحية «فاجنر» كل ما يلحقها من فصول.
وكان كثير من الأعضاء قد جاء على اتهام، والذي شق هذا الطريق - طريق اتهام الأعضاء أنفسهم - هو الأقسام الشيوعية المحلية التي أظهرت ما لها من «أصالة وابتكار» ومن «يقظة بلشفية» بأن ناهضت أعضاءها فبادرتهم بالاتهام قبل أن يسمع بهم رجال الشرطة، فكأنما كانت بمثابة الطلائع الكشافة للقسم السياسي. ولقد قرر المجتمعون في حالات ثلاث مما عرض عليهم من القضايا طرد المتهمين، وبهذا أوشك الاجتماع على فض جلسته فيما دلت الظواهر.
لكن «لوس» وقف فجأة يطلب الكلام، وكنت في تلك اللحظة أفكر في شيء أبعد ما تكون الأشياء عن هذا الاجتماع القبيح، فإذا فحوى كلام المتكلم ينزل علي نزول الصاعقة، لقد دقت الساعة.
بدأ «لوس» الحديث قائلا: «أيها الرفاق، أقترح أن نطرح على بساط البحث قضية مدير قسم خراطة الأنابيب، أعني العضو الشيوعي «فكتور أندريفتش كرافتشنكو»، فلدينا تقارير هي غاية في الخطورة من حيث ما توجه من الاتهامات إلى هذا الزميل في مناشطه الماضية والحاضرة.»
وصاح صوت من الصفوف الخلفية في القاعة قائلا: «قل للمتهمين يدلوا باتهاماتهم فنسمع.»
فقال «لوس»: «طبعا، فيستطيع المهندس «جرجوري ماكاروف» أن يتحدث الآن.»
فلما كان «ماكاروف» في طريقه إلى المنصة، وقف الزميل الذي كان يجلس إلى يميني وغادر المكان وهو يتمتم بعض الكلمات التي أراد بها أن يقول «إنه خارج ليدخن لفافة»، وكذلك غادر مكانه الزميل الجالس إلى يساري، وهكذا تحولت في أعينهم مجذوما وأحاطني الخلاء من كل النواحي.
لقد عرفت «ماكاروف» منذ أيام الدراسة في معهد الهندسة، فعرفت فيه رجلا عاجزا ضعيف الحيلة يعيش على استغلال ما يستدره من عطف زملائه، ولما كنت أنا الذي عينه في منصبه في «نيقوبول» وهيأ له مكانا للسكن، فقد فرضت دائما فرضا لم أشك في صحته أنه لا بد معترف لي بهذا الجميل، لكن هذا الافتراض مني كان أساسه سذاجتي.
أخذ يقول: «لقد عرفت «كرافتشنكو» من سنوات كثيرة، كان عضوا في مكتب اللجنة الحزبية في معهد التعدين، ولقد قبض على أكثر من كانوا يلازمونه في تلك الهيئة، أخص بالذكر منهم «برتسكوي» الذي كان له صديقا و«كاتس»، وإني لأتساءل أيها الرفاق: أيكون ذلك من قبيل المصادفات؟ إن «كرافتشنكو» هذا له أصدقاء كثيرون و«معارف» في موسكو، حتى لقد دخل المعهد بتوصية من الرفيق «أورزنكدز» نفسه، واسمحوا لي أن أقول خلال الحديث: إن بعض هؤلاء «المعارف» في موسكو قد افتضح أمرهم وظهر أنهم أعداء الشعب.
ولكن هذا كله عرض أذكره عابرا أيها الرفاق، أما ما أردت أن أقوله فهو أن «كرافتشنكو» خلال هذه الأعوام كلها التي كان فيها عضوا في الحزب، قد افترى على الحزب كذبا؛ ذلك أنه أخفى عن الحزب حقيقة غاية في الخطورة، أخفى عنه ماضي أبيه في السياسة! لماذا لم يعترف للحزب أن أباه كان «منشفيا» عاملا قبل الثورة، وأنه حرك العمال اللاحزبيين على سياسة «زعيمنا المحبوب»، ولم يزل محركا إياهم منذ ذلك الحين؟»
فقال قائل مقاطع: «تكلم عن «كرافتشنكو» لا عن أبيه.»
فصاح «لوس» في وجه القائل: «إن التفاحة لا تتدحرج بعيدا عن شجرتها، امض في حديثك أيها الرفيق ماكاروف.»
فواصل «ماكاروف» الحديث قائلا: «لقد أصاب، إن التفاحة لا تتدحرج بعيدا عن شجرتها، فليس «كرافتشنكو» خيرا من أبيه، إنه يحيط نفسه بعناصر أجنبية، أتظن أنه من قبيل المصادفات أنه جمع حوله هذا العدد الكبير من اللاحزبيين في قسم المصنع الذي يقع تحت إشرافه؟ من مساعدوه؟ من هم رؤساء العمال لديه؟ من يكون «رونبسكي» المنشفي الذي قبض عليه؟ من يكون الفاشي الألماني الذي قبض عليه، أعني «زلمان»؟ إن في وسعي أن أذكر كثيرين غير هؤلاء وكلهم من اللاحزبيين أو من الأعداء الحقيقيين الذين كشف القسم السياسي عما يقترفونه من إثم في عرقلة الإنتاج.»
فقلت لنفسي، وأنا إذ ذاك في محنتي: إذن فهذا هو الذي يحز في نفسه، أنني لم أرفعه إلى منصب مساعد!
قال عامل يقاطع المتكلم: «أيها الرفاق، إن «زلمان» يهودي وشيوعي ألماني، فكيف تسمونه فاشيا؟»
فقال ماكاروف: «هذا جد جميل، إنك تقول: إنه يهودي وشيوعي، ألم يرسل هتلر إلى هذه البلاد ألوفا من المضللين والجواسيس؟ فأين عساه أن يجد خيرا من هذا قناعا لهؤلاء، أعني أن يرسل لمثل هذه المهمة يهوديا وشيوعيا؟ وأين عساه أن يجد درعا لوقاية هذه القذارة خيرا من رجل مثل «كرافتشنكو» بما له من «معارف» ذوي منزلة عالية في موسكو؟»
هنا تكلم الرفيق براتشكو: «أيها الرفيق «لوس» أقترح أن يلتزم المتحدث حدود الوقائع وألا يخبط في قذارة ولغو باطل.» - «سأقدم لك وقائع أيها الرفيق «براتشكو»، سأقدم لك منها عددا وفيرا، ارجع بذاكرتك إلى الوقت الذي وضعت فيه معايير الإنتاج الجديدة بحيث تتمشى مع الحركة الإستاخانوفية المجيدة في سرعة الإنتاج، ألم يكن واضحا لنا جميعا أن «كرافتشنكو» يناهض الإصلاح؟ إن الجحود لم يبلغ حد مهاجمة المعايير الإنتاجية الجديدة إلا مع عامل واحد، هو «كيريوشكين» فماذا صنع إزاء ذلك «كرافتشنكو» هذا القلب الإنساني الكبير؟ لقد كافأ «كيريوشكين» على جحوده بترقيته إلى منصب أعلى! نعم إني أتهمه بحماية العناصر المعادية للسوفيت المنبثة بيننا، ثم أتهمه فوق ذلك بخداع حزبنا المجيد في إخفاء مبدأ أبيه المنشفي.»
فلما غادر المنصة سمعت صيحات «صدقت! أحسنت!» وصيحات أخرى «أكاذيب! كلها أكاذيب! كلام فارغ!»
وأعلن «لوس» قائلا: «المهندس «شايكفتش» عضو الحزب له الكلمة الآن.»
كان «شايكفتش» رجلا ضئيل الجسم له وجه متغضن صغير كوجه القرد وعينان صغيرتان حادتان.
قال بصوت رفيع مسحوب كأنه السلك: «أيها الرفاق، أنا كذلك بعثت باتهام الرفيق كرافتشنكو، لقد ظللت أرقبه عن كثب مدة طويلة، نعم إن الصحف والمذياع قد رفعته بما أثنت عليه حتى بلغت به أوج السماء، فكم من مرة نشرت صورته في الصحف! ولكن ماذا أنتم قائلون لو تبينتم أن كل هاتيك الخدمات لأمته لم تكن إلا ستارا يخفي هذا الرجل وراءه ما يقوم به من عمل دنيء؟»
فصاح براتشكو: «نريد الحقائق، لا مجرد البلاغة في الكلام.»
فأغاظ الخطيب ما قوطع به من اعتراض، فرفع صوته المتسلخ فزاده تسلخا على تسلخ وقال: «إن كرافتشنكو لممن تطوف برءوسهم الوساوس والشكوك، فلما كان في المعهد أخذ ينقد نظام المزارع الجماعية، وكلنا يعرف عنه ذلك، وكذلك كان أمره في المصنع، تراه دائما متجهما عابسا، لا يعجبه العجب! بل إن أمه في زيارتها له، جاءت متجسسة في منطقة المصنع تتلقى الشكاوى، فيم هذه المنزلة كلها التي أنزلتموه فيها؟ لأن له أصدقاء في موسكو وخاركوف! ليس السر في قدرة يمتاز بها، إنما السر فيما له من معارف!»
فصاح «براتشكو» من جديد قائلا: «هذا كذب يا رفاق! إن كرافتشنكو عين في منصبه برأي الرفيق «إيفانتشنكو » بعد استشارتي في الأمر، إنه من أقدر المهندسين في جماعة صناعة الأنابيب، ولطالما عهد إليه الوزير نفسه مشروعات خاصة كانت غاية في الخطورة.»
فدوى الصوت المتسلخ في نغمة الظافر: «لكنك لا تستطيع أن تنكر أيها الرفيق «براتشكو» أنه من أب يعادي السوفيت وأنه أخفى عنا ذلك! لقد حرم الترقية على كل شيوعي مخلص في ولائه للشيوعية ممن يعملون في قسمه من المصنع ...»
وها هنا تذكرت أني كنت أعطف على هذا المخلوق الضئيل «شايكفتش» الذي تحطمت آماله وخانه التوفيق، ولكم حاولت أن أستر له أغلاطه، لكني في نهاية الأمر لم أملك - بعد بحث الموضوع مع «براتشكو» - سوى أن أنقله إلى قسم آخر لا يتطلب العمل فيه ما كان يتطلبه عمله الأول مما لا يتكافأ مع علمه المحدود.
ووقف «يودافين» - بعد أن فرغ «شايكفتش» - ليلخص الاتهام، فتكلم بصوت الواثق من صدق ما يقول، وهو صوت تعرفه في رجال القسم السياسي، ولقد كنت أعلم عن «يودافين» هذا أنه من أعوان الشرطة ولذلك اجتنبته، وها هو ذا يرد لي اللطمة يدفعه الهوى.
قال: «أيها الرفاق، إني لا أكتفي بتأييد من سبقوني إلى الكلام فيما انتهوا إليه من نتائج، بل إني لأضيف نقطة هي أخطر ما يكون الاتهام، وتلك هي أن «كرافتشنكو» عامل على التخريب!»
فانفجرت هذه اللفظة المخوفة كأنها المدفع المدوي، وجمد الحاضرون صامتين، وأما أنا فقد ملكت زمام نفسي حتى ذلك الحين، أما وقد سمعت هذه الكلمة فقد تصببت عرقا، وأخذ قلبي يدق دقات سريعة عالية الصوت حتى لقد حسبت أنها تغطي على صوت «يودافين»، ترى إلام يشير حين قال هذه الكلمة عني؟ ترى ماذا كان هذا الشرطي المتنكر يلفق لي من الاتهام مع سيده «جرشجورن»؟ - «نعم، إنه عامل على التخريب! إن هذا الرجل «كرافتشنكو» قد جمد عامدا ما قيمته مليون روبل من العملة الروسية، وكيف صنع ذلك؟ طريقة بسيطة، هي غاية في البساطة! لقد أرسل يطلب صنوفا شتى من الآلات الغالية ثم كدسها في مصنعه، حتى لترى قسمه الآن غاصا بأجزاء الآلات الثمينة ولم يستعمل جزءا واحدا منها، بل إن بعضها لم يفض غلافه بعد! وإني لأتهمه بأن ذلك كله متعمد وأنه دبر إيقاع الأذى بالحكومة والبلاد!»
أما وقد أعلن عن موضوع الاتهام فقد انزاح عن صدري ما جثم فوقه من هم ثقيل، فلقد أحسست أن تهمته فيها من التلفيق الواضح بحيث تهدم نفسها بنفسها، ولما كان «لوس» - شأنه في ذلك شأن الحاضرين جميعا - قد أخذه القلق وأراد أن يفض الجلسة ليعود إلى داره، فقد كفاني ذلك شر اتهامات أخرى، وناداني للتعليق على ما سمعت، فاستجمعت كل مدخر من قوة إرادتي واعتليت المنصة.
قلت: «أيها الرفاق أعضاء الحزب، أريد أن أحدثكم في صراحة مهما تكن نتائج هذا الحديث الصريح، لقد لبثت الآن في الحزب ثماني سنوات وإن صحيفتي لتنطق بنفسها عن نفسها، ولست إلا بشرا له ضعف البشر، فلي من الأخطاء ما لي، فربما رفعت ناسا إلى مناصب أعلى لم يكونوا بها جديرين، وربما أقصيت آخرين لم يكن من العدل إقصاؤهم، إن من يلقى في يده بزمام السلطة لا بد أن يتخذ قرارات في شئون عمله، ولما كان صاحب السلطان إنسانا لا أكثر، فلا بد أن يكون بعض قراراته التي يتخذها خاطئا، فأنتم تعرفون جميعا أن «ماكاروف» و«شايكفتش» لديهما أسباب شخصية تدعوهما إلى السخط، فليس ثمة ما يبرر أن ندخل في تفصيلات؛ ذلك لأن كل من له علم بشئون هذا المصنع يعلم ذلك علما لا يشوبه غموض.
إنني أؤكد أنني بغير ذنب! ثم أؤكد ما هو أهم من ذلك، وهو أني لا أخشى شيئا، ولست ألتمس منكم إلا شيئا واحدا وهو أن تمهلوني حتى آتيكم بالأدلة التي تبرهن لكم على أن هذه التهم تلفيقات من رجال السوء، شكلوا لجنة تبحث في التهم، فإذا لم أستطع إقناع اللجنة فأنا مستعد لتحمل التبعة.
إن العاصفة كلها قد أثيرت حولي؛ لأن أبي فيما زعموا كان منشفي المذهب، واسمحوا لي أن أوضح لكم موقفي توضيحا جليا، إنني لا أنكر أبي بل إني لأحبه وأقدره، فهو أبي الذي غرس في نفسي تلك المبادئ الشعبية العليا التي انتهت بي إلى منظمات الشبيبة الشيوعية ثم إلى عضوية الحزب، إن أبي لا ينتمي إلى الحزب، لكن خدماته للطبقات العاملة لا يجحدها عليه إنسان، إنه ينزل منزلة عالية من نفوس العمال الذين يعرفونه جيدة، أعني عمال دينبروبتروفسك.
إن الحقيقة المجردة عن الهوى هي أن أبي لم يكن قط في حياته منشفيا، بل لم يكن قط في حياته عضوا في أي حزب آخر، إنه لم يزد على كونه ثائرا مخلصا في ثورته ضد القيصر والرأسماليين، لكنه لم يلبس قط لبوس الأحزاب السياسية، لقد حمل السلاح وراء الحصون عام 1905م وعمل جنبا إلى جنب مع المنشفيين، كما عمل جنبا إلى جنب مع البلاشفة أيضا، وجاور في السجن كل ضروب المجاهدين من الثائرين، هذا كله أقيم لكم الدليل على صحته لو أمهلتموني وقتا كافيا.
أما ما قيل عن كوني عاملا على التخريب والإتلاف فهراء في هراء. نعم إن في القسم الخاضع لإشرافي من أقسام المصنع كمية كبيرة من الآلات، لكن الوزارة تحيط علما بكل ذرة منها، لقد قدمت عنها التقارير المتتابعة في انتظام ووضعتها تحت تصرف المجموعة الصناعية التي نحن أحد أجزائها، وكان في وسعها أن تأخذ منها ما تشاء في أي وقت تشاء، ولم نطلب قط شيئا من هذه الآلات إلا لنسد به حاجة مست، فكيف حدث أن تجمع لدي هذا المقدار الكبير من الآلات الثمينة التي لا نستخدم بعضها إلا قليلا؟ الجواب هو أن قد عهد إلي في حالات كثيرة القيام بمهام خاصة تتطلب آلات خاصة، فمثلا لعلكم تذكرون ما استعجلونا في صناعته من الأنابيب الضرورية لآبار البترول في باكو ، ثم حدث أن نقصت الكميات التي كانوا يطلبونها من تلك الأنابيب بادئ ذي بدء، وأحيانا كان يحدث أن نكلف بصناعة شيء معين ثم يلغى هذا التكليف لتغيير يطرأ على الخطط الموضوعة، وعلى هذا النحو تكدست الآلات الثمينة عندي، واحتفظنا بها لأن الحاجة قد تدعو إليها مرة أخرى على وجه من السرعة لا يحتمل إبطاء، لكن هذا كله كان مكشوفا على مرأى من الجميع، ولم يتم في الخفاء كما يؤكد المتهمون، هذا كله نتيجة قرارات اتخذت في موسكو ولم تكن من بنات أفكاري.
فتفسير ذلك على أنه تخريب وإتلاف أمر يثير الضحك يا رفاق، إنني أستطيع إقامة البرهان مستندا إلى وثائق بحيث أدلكم كيف ومتى ثم لماذا - وهو الأمر المهم - أتينا بكل جزء من الآلات المخزونة، وأما ما قيل عني غير هذا فتافه لا أريد أن أجيب عنه في تفصيل ينفد صبركم، إنني أستأذنكم في التدليل على براءتي هنا في هذه القاعة، لا في أي مكان آخر، ولكن ليكن ما يكون من أمري، كل ما أريدكم أن تذكروه هو أني لم أقترف إثما.»
فلما عدت إلى مقعدي، انبعثت أصوات استحسان كان أصحابها قد حبسوها في أنفسهم وأمسكوا عن إخراجها، لكن كان كذلك إلى جانب ذلك صيحات: «اطردوه! إنه منشفي! إنه متلاف! إنه يستند إلى «معارفه»!»
ونهض عامل في نحو الستين من عمره، هو الرفيق «سلينين» لم أعرفه إلا عرضا، نهض وأعلن عن نفسه وقال: «ما دام الرفيق كرافتشنكو رئيسا للقسم الذي يشرف عليه من أقسام المصنع، فمن الخطأ أن نقف في سبيل عمله، فهذه قضية يبدو فيها كثير من عوامل الشك، فلماذا نتصرف تصرف العجلان المذعور؟ سيكون لديكم من الوقت أيها الرفاق ما يكفي لطرده واتخاذ الإجراءات الإدارية إزاءه، إن ما اقترحه عليكم «كرافتشنكو» نفسه لرأي صائب، فأقترح أنا كذلك أن نطلب إلى اللجنة المحلية تعيين لجنة التحقيق، وعلى الرفيق أن يقدم لها ما لديه من برهان.»
ووافق الحاضرون على الاقتراح، وكان ممن صوتوا ضده «يودافين» و«شايكفتش» و«ماكاروف» وغيرهم ، ولما خرجنا من قاعة المسرح حيث كان الاجتماع، لم يجرؤ على الدنو مني إلا «براتشكو» و«سلينين»، ومنذ ذلك اليوم حتى ختام محنتي - وهي مدة تربى على ثمانية عشر شهرا - ظللت «منبوذا» معزولا كما تكون الحالة مع من يصاب بالطاعون الأسود.
الفصل الخامس عشر
بداية محنتي
فتحت جريدة «نيقوبول» في صباح اليوم التالي لأجدني موضعا للتشهير، وكأنما أرادت الصحف المحلية أن تمحو ما كان يوجه إلي من ثناء حينا بعد حين، فأخذت تهاجمني في نفس المكان من أنهرها الذي اعتادت أن تذكرني فيه بالثناء، وذكرت عني أشنع ما وجه إلي من التهم في الليلة السالفة، ثم أضافت إليه ملاحظات تسود بها اسمي، كما أضافت كل ما كان يدور على ألسنة السوفيت من أنواع الشتائم المحفوظة، وكان مما قالته عني: «علمنا من مصدر موثوق بصحته أن هذا الرجل «كرافتشنكو» قد نجح خلال هذه الأعوام كلها في أن يخفي عنا أن أباه كان فيما مضى من أصحاب الأملاك الواسعة وأنه كان يستغل الأيدي العاملة.» وقالت عنى في موضع آخر إنني من «البيض»، وإنني اتخذت من نفسي مدى زمن طويل «تابعا» لأعداء الشعب، وإنني احتضنت بعض العناصر المعادية للحزب وعملت على حمايتهم، وإنني مشتغل بتدبيرات تؤدي إلى التخريب والإتلاف.
فشممت رائحة الإيحاء إلى الصحف من جهات خارجية، شممت ذلك في الاستهتار البادي فيما تروي عني من أخطاء، وفي كثرة ما كالته إلي من ألوان التهم.
كان من خلف «برودسكي» في اللجنة المحلية رجلا اسمه «فيلين»، ولقد أدهشني أن يدق على التليفون ذات صباح وأنا آكل طعام إفطاري أكلة العجلان.
قال لي: «لدينا تقرير واف عن اجتماع الأمس، وقرأنا جرائد الصباح، لكني أرجوك ألا تهتم بشيء من هذا أيها الرفيق «كرافتشنكو» فامض في عملك ودبر أمرك بحيث تساير في إنتاجك ما وضعناه من خطط، فلن يمسك أحد بسوء في الوقت الراهن.»
فأزاح عن صدري هذا الحديث كابوسا جاثما، وشكرته لذلك، فأنا بمنجى من الخطر فترة من الزمن على الأقل، فهذا الرجل «فيلين» لم يكن ليجرؤ أن يطمئنني على هذا النحو إذا لم يكن هو ومن حوله يرون أن «القضية» التي اتهمت فيها قضية خاسرة.
فلما ذهبت إلى المصنع وجدت هناك لجنة التحقيق التي أمر «فيلين» بتشكيلها قد أخذت تؤدي مهمتها، وكان بين أعضائها «لوس» الذي كان وجوده فيها علامة لا تطمئن، لكن كان كذلك بين أعضائها «براتشكو» مما استبشرت به خيرا، كما كان بين أعضائها أيضا «فشنف» كبير المهندسين، وكان هؤلاء جميعا في غرفة المعرض يختبرون الآلات «المخزونة» هناك.
حياني «لوس» تحية الصباح في برود مصطنعا في حديثه معي نغمة النائب العام إذ هو يوجه اتهاما لمتهم: «عم صباحا، هيا نأخذ سبيل العمل من فورنا، أأنت الرجل الذي يطلب آلات لهذا المصنع؟» - «نعم.» - «إذن فلست بمنكر أنك قد طلبت هذه الآلات المكدسة ها هنا؟» - «بالطبع لست بمنكر هذا.» - «ومن ذا الذي اعتمد لك هذا الطلب من رجال المصنع؟ من ذا الذي وقع معك الأوراق بالموافقة؟» - «الرفيق فشنف باعتباره كبيرا للمهندسين.»
هنا فزع «فشنف» فزعا ظاهرا للعيان.
قال فشنف في اضطراب عصبي: «كلا، كلا، فلا أذكر أنني صنعت ذلك، وإذا كنت قد صنعته فلا بد أن قد كان بمقتضى أمر من الوزارة.» - «من الذي أعد القائمة الأولى للآلات التي ينبغي طلبها؟» - «أعدها المهندس الميكانيكي كرافتشنكو مستأذنا الرفيق فشنف.»
فاضطرب «فشنف» مرة أخرى، وأخذه الهم أكثر مما أخذني، وراح ينكر مؤكدا أنه لا يذكر أن قد صنع في الأمر شيئا.
قال براتشكو: «إذن فسبيلنا إلى معرفة الحقائق هي الأوراق نفسها.»
فقلت واعدا: «سأحاول أن أجد هذه الأوراق، ولكنني لا أظنني واجدا في الملفات إلا الصور المنسوخة عن الأصول، وأما الأصول نفسها فربما وجدتها في موسكو.»
وشغلني البحث عن هذه الأوراق أسابيع بعد أسابيع بحيث كان ذلك البحث في طليعة ما أهتم له من عمل، وكأنما استحالت هذه الأوراق أشباح شياطين لا أكاد أظنها قد تبدت حتى تعود فتفلت، فلو قد استطعت إمساكها لشددت عليها قبضتي وبينت بها أن الآلات - وخصوصا شحنة كبيرة جاءتنا من أمريكا ولم يستخدم منها شيء قط - كانت في رأينا ضرورية لإنجاز ما أمرت موسكو بصناعته، وأن المقادير المطلوبة حسبت حسابا دقيقا بالقياس إلى مقادير الأنابيب التي طلب إلينا صناعتها.
لم أجد الصور المنسوخة عن الأصول، والتي كانت محفوظة في ملفات المكتب، ولم يكن لدي سبيل أعلم بها، هل ضاعت تلك الصور كما تضيع الأشياء بفعل الحوادث الجارية أو امتدت إليها يد الشر لتخفيها عن عمد، وأذن لي «براتشكو» و«فيلين» فسافرت في ذلك اليوم نفسه إلى «خاركوف»، كما أذنا لي أن أسافر إلى «موسكو» إن دعت الضرورة إلى ذلك، بحثا عن البراهين التي تدل على أن شراء هذه الآلات المختلفة الثمينة لم يكن عملا شيطانيا أريد به مجرد الإتلاف.
إنه اتهام لا يسيغه عقل، وإنها لرحلة لا يبررها منطق، لكن السخافات إذا ما نظر إليها معكوسة على مرايا ذلك اليوم المحموم، وهي مرابا تهوش ما تعكسه من صور، وجدت لها منطقا خاصا بها، فلئن جاز لهم أن يقولوا عن «تروتسكي» إذ هو ينظم الجيش الأحمر إنه «جاسوس ألماني»، ولئن جاز لهم كذلك أن يقولوا عن العمالقة الذين أثاروا الثورة جنبا إلى جنب مع «لينين» إنهم في حقيقتهم «كلاب متوحشة» مأجورة لدى الرجعية الأجنبية، فلماذا لا يقولون عن «كرافتشنكو» وهو ها هنا في ركن من نيقوبول إنه يحاول أن يقوض البناء السوفيتي بشرائه آلات لا ضرورة لها لصنع الأنابيب، بحيث أضاع في شرائها مليون روبل؟ إن من يستخف بمثل هذا الفرض إنما هو عدو للشعب!
لم يكن لي في حيرتي ما يبعث شيئا من الطمأنينة في نفسي إلا ما كان يظهر لي «فيلين» من علامات الود، ولقد أخبرته قبل سفري أنني سألبث قليلا في «دنيبروبتروفسك»؛ لأجمع أدلة تبرهن على أن أبي لم يكن أبدا من أنصار المنشفية.
ولم أتردد هذه المرة في أن أثق بأفراد أسرتي ثقة لا تحفظ فيها ولا شروط، وزال ما كان بيني وبين أبي من توتر نفسي باعد بيننا زمنا، وسدت الفجوة التي كانت تفصلني عنه، بحيث هيأت بين نفسينا السبل للاتصال من جديد، وأصبحت منذ ذلك الحين أجد العزاء في صميم محنتي، وكان عزائي هو أن ما كان بيني وبين أبي من جفاء قد زال آخر الأمر، وما هو إلا أن أحسست نفسي قريبا من والدي لاصقا بهما كأنني عدت طفلا صغيرا من جديد، فلم أعد ما كنته من «بلشفي مكين».
ولما نقلت لهما أنباء نيقوبول وجدت لديهما أخبارا تكافئها فداحة مما حدث في بلدي، ذلك أن جنون التطهير قد طاح في ليلة واحدة بثلاثة رءوس لثلاث أسرات من جيراننا، وكانوا جميعا ممن لا ينتمون إلى الحزب، عرفناهم أعواما طوالا، وشاركناهم في العمل في ظروف مختلفة، شاركهم أبي وإخوتي كما شاركتهم أنا.
فأما أحدهم فرجل يدعى «زرافين» كان رئيسا للعمال في أحد المصانع، وكان أحد ولديه جراحا والآخر مهندسا في التعدين، ولم يعلم ولداه ولا زوجته فيم ألقي القبض على رأس أسرتهم الذي تقدمت به السن، فقد جاءه رجل القسم السياسي فدفعه إلى «عربة الأفعى السوداء» إذ هو يترنح في نعاسه ولا يكسو جسده إلا بنصف ثيابه، دفعه دفعا وهو يصيح في وجهه «أسرع يا قذر»، وكانت هذه العبارة منه بمثابة ما قدمه من تصريح رسمي بالقبض على «زرافين»، بل كانت كذلك بمثابة الاتهام وبمثابة التبرير الذي يبين سبب إلقاء القبض على الرجل، إذ لا تعلم أسرة «زرافين» غير هذه العبارة التي سمعوها، لا تعرف سواها تصريحا بالقبض، ولا تبريرا ولا اتهاما، فهي كل ما عرفوه من الأمر.
وثاني هؤلاء رجل بولندي اسمه «كاشلسكي»، وهو رجل سهل المعاشرة نشيط محبوب لدى جيرانه، وكان ابنه عضوا في لجان الشيوعية الفرعية، ولقد صادفته اتفاقا في زيارتي تلك.
قال لي في حيرة نفسية: «ولكن كيف يمكن لأبي أن يكون «جاسوسا بولنديا» أيها الرفيق كرافتشنكو؟ إنه رجل من البساطة والصراحة بمكان معروف، وإنه لمن الجنون أن يظن به هذا الظن، لقد كنت وثيق الصلة بأبي، ولو كان في سلوكه ما يدعو إلى الريبة في أمره فكيف كانت تخطئه عيناي؟»
وثالث الثلاثة الذين قبض عليهم في تلك الليلة الواحدة من جيراننا الأقربين بل وأكثر هؤلاء الثلاثة تحريكا للأسى في النفس هو «بلينوف»، لقد كان في «ورشتي» أيام اشتغالي في مصنع «بتروفسكي-لينين»، وهو رجل طويل وسيم غاية في المهارة، وينزل من قلوب زملائه العمال منزلة الاحترام، ولما كان هو وزوجته لم ينجبا، فقد تبنيا يتيمة صغيرة أفقدتها المجاعة أبويها، فوهبا هذه الطفلة حياتهما.
فلما ساقه رجال الشرطة السياسية في تلك الليلة أخذت زوجته تصيح حتى أيقظ صياحها الجيران، وخرجت في ثوب نومها حافية القدمين صارخة خلف العربة المقفلة المشئومة، وأخذت تلاحقها في الثلج الكثيف حتى توارت عن بصرها، وبعدئذ عادت إلى غرفتها وشنقت نفسها، وأما الطفلة المتبناة التي يتمتها المجاعة التي خلقها الإنسان بسوء صنيعه، فقد تيتمت مرة أخرى بفعل عاصفة هوجاء أثارها الإنسان بسوء صنيعه أيضا.
ولما كان أبي وأمي يعيشان وسط هذه المآسي وأمثالها، تتكرر أمام أبصارهم مئات المرات ليلة بعد ليلة، فقد كان من الطبيعي أن ينظرا إلى حالي نظرة متشائمة سوداء، ولم يكن أبي حينئذ عاملا، بل كان يتقاضى معاشا يتقاضى مثله من خدم عددا من السنين كالتي خدمها أبي، لكنه ظل على صلات الود مع زملائه في «الورشة» وعن طريقهم كان يجيئه المعلم بمدى ما يقع من إرهاب بين موظفي مصنعه الإداريين منهم والفنيين، فأبلغوه أن مجرد الاتهام كان معناه في تسع وتسعين حالة من كل مائة رهانا قائما على الإدانة، ومع ذلك فقد دفعنا اليأس أن نتعلق بخيط ضئيل من أمل، وهو أنني ربما شاءت لي المعجزات أن أكون أنا الحالة المائة التي تنجو من الإدانة.
كان نومى لماما فزعا بما فيه من أحلام مزعجة، ولقد حدث ذات مرة أن أزحت عن صدري كابوسا مؤلما صحوت بعده فرأيت ضوءا في غرفة أمي، وقصدت إليها ماشيا على أطراف أصابعي لأستطلع الخبر، فرأيت أمي جاثية على ركبتيها أمام «الأيقونة» تدعو ربها مقفلة العينين دافعة برأسها إلى الوراء، وكانت قطرات من العبرات منسابة على خديها، لكن وجهها رغم ذلك بدا هادئا مشرقا بضوء انبعث فيه من داخل، وسمعتها تتمتم باسمي، فقفلت راجعا إلى غرفتي على أطراف أصابعي، وأويت من جديد إلى مخدعي حيث استغرقت في نعاس مطمئن هادئ لأول مرة منذ شهور.
وتحدثت مع أبي في الصباح حديثا طويلا كاد خلاله يتميز من الغيظ.
وأخذ والدي يقول مرة بعد مرة: «إذا كنت قد أخطأت في شيء فلماذا لم يمسكوا بي؟ لماذا يصبون وزري على عاتق ولدي؟ أيكون الابن مسئولا عن فعل أبيه؟ يا لها من وحشية وحماقة! إنني حين كنت أقاتل في الثورة وقبض علي رجال الشرطة لم يتعذب من أجل ذلك إلاي، ولم يدر في أذهان الشرطة القيصرية أن تعذب أبي أو أخي أو أسرتي، أما الآن - يا لها من قحة! - فالآباء والأبناء والزوجات كل منهم يحمل وزر الآخر، صدقني إن كل ما أبداه القيصر من ألوان التعذيب كان رحمة بالإنسان إذا قيس إلى ما يفعله رجال القسم السياسي في أيامنا هذه!» - «إن غضبتك يا أبت لن تعين أحدا على شيء، والذي علينا أن نصنعه الآن هو أن نجمع الأدلة التي تثبت أنك لم تكن من أنصار المنشفية.»
قال: «كأنما الانتساب للمنشفية جرم من الجرائم! إن نفرا من أشجع شجعان الثورة كانوا من أنصارها.»
وأخذ أبي في ذلك اليوم يطوف بكثير من مشاهير الشيوعيين القدامى الذين كانوا من أبناء جيله والذين كانوا يذكرون له مناشطه، فكتب له كل من هؤلاء إقرارا اعتمدته الهيئة الرسمية، ضمنه ما يعرفه عن «كرافتشنكو» الوالد، وشهد فيه أن الرجل لم يكن يوما عضوا في حزب من الأحزاب، وبعد ذلك صحبته في زيارة لأرملة الدكتور «كارافايف».
كانت عجوزا طويلة رفيعة ذكية شيباء، وكان زوجها عضوا في مجلس «الدوما» وهو الذي أعد مشروعا لقانون الإصلاح الزراعي، وقد قتل اغتيالا بأيدي أعوان القيصر، إذ هو في منزله، وكانت هذه السيدة تعيش على راتب يجريه عليها السوفيت، ولها من الأصدقاء عدد لا بأس به من كبار البلاشفة أخذت تذكرهم لنا، ولقد كانت تعرف أبي منذ أكثر من ثلاثين عاما وحيته بفرحة قلبية خالصة، فكل رجال الثورة الذين كانوا يؤلفون صحبة زوجها الأكرم كانوا يبدون في عينيها وحولهم هالات من النور، كأنما هؤلاء الرجال جميعا سواهم الله من طينة الآلهة.
ضمته إلى صدرها وقبلت وجنتيه قائلة: «ما أجمل أن أراك من جديد! ألا ما أجمل ذلك! وهذا ابنك الصغير «فتينكا» قد شب رجلا واشتغل مهندسا.»
وعلى الرغم من كل أصدقائها من رجال الطبقة العليا، فقد كانت تعيش هي في عالم يأفل نجمه معزولة عن دنيا الواقع، فلم تصدق قط بادئ الأمر أننا نريد منها «دليلا» على أن أبي لم يكن ينتمي للمنشفية.
قالت: «هذا سخف ما بعده سخف! فالانتساب للمنشفية في تلك الأيام كان يتطلب صلابة الأبطال، كان معناه أنك تخاطر بحياتك كل يوم، أظنني قد هرمت بحيث لم يعد في مستطاعي أن أفهم ما يجري هذه الأيام وما يصيب عقول القوم، لا بد لي أن أتحدث في هذا الأمر مع «كروبسكايا» إذا ما ذهبت إلى موسكو!»
لكنها جلست وكتبت لنا خطابا مستفيضا وجهته إلى اللجنة المحلية في «نيقوبول»، وذكرت فيه ما أبداه أبي أيام الثورة من براعة وشهدت بأنه كان طوال سنيه «رمحا طليقا» يأبى أن يخضع لقيود حزب من الأحزاب.
وفي ذلك الوقت نفسه كنت أمي تنفق الساعات في قسم المحفوظات من أوراق الحزب في «دنيبروبتروفسك»، وأخذت تضرع إلى الموظفين أن يبحثوا لها في سجلات الشرطة القيصرية عما لاقاه أبي في تلك الأيام من قبض وسجن، فسيتبين بالطبع من هذه السجلات أن أبي لم يكن ملحقا بحزب معين من الأحزاب، لكن الموظفين توجسوا خيفة من مثل هذا البحث بغير أن يجيئهم بذلك طلب من الحزب، فاضطررت أن أتلفن إلى «فيلين» الذي تلفن بدوره إلى رجال الحزب في «دنيبروبتروفسك»، وبعدئذ وافقوا على البحث عن السجلات الهامة التي ننشدها. - «وهكذا نستعين بالشرطة القيصرية على إنقاذ ولدي من الشرطة الاشتراكية.» هكذا قال أبي وعلى وجهه ابتسامة صفراء، والحق أن في قوله هذا لفكاهة حزينة.
كانت بضعة الأيام التي مكثتها في بلدي عاملا على تعميق إحساسي بالفزع، فزع العيش في عالم قوامه الأحلام وأساسه الغرابة والتعذيب، وظل هذا الفزع الذي أحسست به عميقا إذ ذاك يلازمني أعواما طوالا، وزرت مصنعي القديم لأجد أن كثيرين من أصدقائي قد اختفوا لغير عودة، وسألت عنهم من هناك فأخذوا يجيبون إجابات ملتوية أدركت منها ما أصابهم.
ولم يكن قد قبض على مدير المصنع «ستيفان برمان»؛ لأن رجال الشرطة السياسية حين ذهبوا إليه وجدوه غارقا في بركة من دمائه، فقد قطع عروقه لينجو من التطهير.
كان «برمان» مجريا اعتلى منصب الوزارة في حكومة شيوعية قامت في وطنه تحت رياسة «بيلاكون» ولم تدم إلا قليلا، ولقد كان وسيما ذكيا مخلصا لعمله، تولى سلسلة من أهم المناصب الحكومية والصناعية في الروسيا التي اتخذها لنفسه وطنا بعد وطنه الأول، وعلى هذا النحو عاش سيرة جليلة بأعمالها، أخذت تقفز به وثبة بعد وثبة حتى انتهت به إلى الانتحار.
وقبل أن يقطع عروقه في رسغه، كتب خطابا وجهه إلى اللجنة المركزية العليا، هاجم فيه هجوما عنيفا ما كان يقترفه ستالين من ضروب الوحشية، ولم يكن هذا أول خطاب من نوعه كتبه كاتب، بل إن من هذا القبيل ألوفا أو عشرات الألوف، وكان الناس يتبادلون سرا بعض هذه الخطابات فيتناولونها بأيد راجفة كأنما يتناولون مفرقعات على وشك أن تنفجر، لكن غمار الشعب لم يسمع بخطاب واحد من تلك الخطابات.
لقد بلغني فيما بلغني أن قد كان بين «هؤلاء المساكين» رجل يدعى «يوسف ماناينكوف» وهو عضو نابه في السوفيت الأوكراني، أحبه العمال لما بذله في سبيل إصلاح حالهم من جهود، وكانت زوجته شيوعية عاملة لها قيمتها بغض النظر عن قيمة زوجها، ولم تكن قد مضت بضعة شهور مذ ترددت جوانب «دنيبروبتروفسك» بأصداء ما ظفرت به هذه السيدة من شرف ومجد، حتى لقد صورت في الكرملن واقفة إلى جانب ستالين مباشرة! هذه المرأة أيضا تناولتها يد القبض، كما تناولت المهندس «زرانوف» على الرغم من أنه كان منذ قريب جدا قد ظفر بأوسمة الشرف لما بذله نحو مشروعات السنوات الخمس.
وكنت أينما سرت في مصانع المدينة سمعت القصة عينها، فلقد قبض على «فلنكوفسكي» و«كنزالوف» و«سوشان» و«بوستوفويتزف» ومئات غير هؤلاء سمعت أسماءهم وهي أسماء لم تكن تعني شيئا للناس، أما بالنسبة إلي - وقد اشتغلت معهم ودرست معهم وجلست معهم في اجتماعات الحزب - فقد كانت «تصفيتهم » من قائمة الحياة العاملة مما وسع دائرة الخلاء حولي وزادها عمقا، ولم يبق واحد من قادة الاقتصاد والهندسة والسياسة في بلدي «دنيبروبتروفسك» ممن شاءت لي المصادفة أن أتصل بهم اتصالا شخصيا، لم يبق واحد من هؤلاء بمنجى من الأذى، وكان بالطبع كثير من هؤلاء لا ينتمون إلى الحزب.
سافرت إلى خاركوف وودعتني أمي على المحطة، فقالت وهي تودع: «املك زمام نفسك، ولن حيث ينبغي أن تلين، فمهما يكن من أمرهم فهم ناس من الناس، ولا بد لهم أن يعلموا ...»
كانت الفوضى وكان الذعر في رياسة مصنع الأنابيب في خاركوف باديين لا يخطئهما النظر، وتخدرت أعصاب الناس - فيما يظهر - بفعل الإرهاب، إذ لم تكن تصادف بين الناس أحدا يعلم عن نفسه في يقين هل كان يومه آخر أيامه في مكتبه، أو آخر أيامه طليقا في حريته، ولقد رغب كثير من الموظفين الذين تتبعوا عملي مدى أعوام في معاونتي معاونة مخلصة على البحث عما أريد من وثائق، ولكنهم لم يجدوا منها شيئا، وتلفنوا في هذا الأمر بلادا بعيدة بغير جدوى، ولما تلفن أحد هؤلاء الموظفين إلى موسكو مستعلما، أجابوه بأن الرجل الوحيد الذي ربما أعان في ذلك هو الوزير أورزنكدز الذي بلغت به العلة حدا لا يسمح لأحد بالحديث معه، فدفعني اليأس أن أتصل ب «براتشكو» في «نيقوبول».
قلت له: «لم أجد شيئا يا «بيوتر بتروفتش» فإن ما عهدناه في الأمور من فوضى قد زاد وفاض بفعل حركة التطهير، فهل أستأنف السفر إلى موسكو لعلي واجد هناك شيئا؟»
فأجاب: «كلا، كلا، بل عد إلينا فورا.» - «وفيم العجلة؟ ماذا حدث؟» - «لا أستطيع الدخول في تفصيلات الأمر خلال المسرة فارجع مسرعا ما وسعك الإسراع، الأمر خطير.»
وفي صباح اليوم التالي كنت في مصنعي.
كان هنالك ما يبرر الفزع الذي أبداه رفيقي «براتشكو» فلقد استغل المتهوسون والوصوليون وأعدائي الشخصيون فرصة غيابي.
فأولا كان القسم السياسي قد «طهر» أعواني من الموظفين إذ قبض على «دوبنسكي» و«شبانشسكي» والمهندس «باكو» وكثيرين غير هؤلاء حتى لقد بهت العمال مما رأوا، أضف إلى ذلك أن أمين الشعبة الحزبية التي كنت أنا عضوا فيها، وهو رجل اسمه «ياسينيف»، قد أغراه نفر من ذوي السلطة العليا بأن يحمل طائفة من عمالي على أن يهاجموني، وكان أساس خطته في مهاجمتي هو العبارة التي سهل تداولها وهي «تكديس الآلات والمواد».
وجاءني رجال كل على حدة، وكلهم ممن أنفقوا في المصنع زمنا طويلا، جاءوني فرادى واعترفوا لي والخجل والأسف باديان على وجوههم بأنهم وقعوا عرائض في شكواي، وإنها لعرائض نسجت كلها من تلفيقات وأكاذيب، وإنما حملهم على التوقيع دائما ما تهددوهم به من «عواقب وخيمة»، ثم سمعت فضلا عن هذا أن «لوس» الذي لا يهده الكلل قد أرسل الرسل إلى «دنيبروبتروفسك» ليجمعوا «مادة اتهام» عني وعن أبي، وكان الذي يرمي إليه بصفة خاصة هو أن يبين أني كنت على قدم المساواة مع «كاتس» و«برتسكوي» و«برلين» و«رشتر» و«بوريسوف» وغيرهم ممن كانوا طلابا في معهد المهندسين، والذين هم الآن في قبضة الشرطة السياسية، وما داموا كذلك فهم أعداء الشعب؛ لأن «قبضة الشرطة السياسية» لا تعني إلا هذا.
كان «لوس» يدفع اضطهاده لي دفعا سريعا لا يسيغه إلا من مسه الجنون، فلا بد له - فيما رأى - أن ينجز قضية «كرافتشنكو» في أقصر وقت مستطاع، ولم تكن إدانتي ليقتصر أمرها على شخصي، بل كان العزم أن تتخذ مشجبا يستند إليه في توجيه اتهامات إلى جماعة من الناس كانوا على اتصال بي بوجه من الوجوه؛ لهذا راد «لوس» وأصدقاؤه أن «يأتوا علي» دون أن تعترض سبيلهم عقبات تعكر عليهم صفوهم، فذلك في رأيهم أمر متعلق بشرفهم، كما أنه ضرورة سياسية ليس عنها محيص ، فلم تمض أيام قلائل حتى عقدوا اجتماعا خاصا سريا من لجنة الحزب التي تختص بشئون المصنع، وطلبوا إليها أن تستأنف البحث في قضيتي، عندئذ أحسست كأنني صيد حصرته الكلاب النابحة، وأخذت دائرة الحصار تضيق، ونباح الكلاب يدنو مني شيئا فشيئا.
وكان الاجتماع هذه المرة أيضا في قاعة المسرح التابعة لندوة المصنع، وجلس الموظفون صفا على عتبة المسرح تعلوهم البيارق وصور زعماء الحزب، وتلقي عليهم المصابيح السفلى الضوء وهاجا، فكان هذا المنظر عاملا يؤكد ما قد يطوف بالوهم من أن رواية مسرحية - رواية عجيبة سوفيتية مما يسمى في الفن المسرحي بالرواية الأخلاقية - كانت على وشك الظهور. كان الجو السائد مما يجمد الدم في العروق، فعلى الرغم مما أخذت نفسي به أن أتماسك وأن أحتفظ بوقاري، فقد أخذتني رجفة وشعرت بهزة في كل أعضائي، ولاحظت أن من كانوا منذ أسابيع قليلة يتوددون إلي، أخذوا الآن يتجاهلون رؤيتي، فلم أبدأ أحدا بتحية خشية ألا ترد التحية بمثلها، وجلست في آخر الصفوف معتزلا بائسا.
ولم يجرؤ على الدنو مني إلا زميلان هما: «سيلينين» و«جوشين» وكلاهما من صفوف العمال الدنيا وممن أنفقوا في عملهم زمنا، والظاهر أن كهولتهما كانت لهما درعا واقية من الإسراف معهما في وسائل التربية التي تأخذ الناس «بالحزم البلشفي».
وأمسك «جوشين» بيدي في قبضته وقال: «لا يأخذنك الهم يا رفيقي كرافتشنكو، فإذا هم اتهموك ها هنا فإن اللجنة المحلية سترد إليك اعتبارك المفقود، وإلا فستفعل ذلك اللجنة الإقليمية، على شرط، بالطبع ...» وهنا تلعثم في الحديث.
فسألته ولو أني كنت أعرف الجواب: «على شرط ماذا؟» - «على شرط ألا يلقى عليك القبض قبل ذاك.»
كان «لوس» هذه المرة قد حبك خطته بحيث يتجنب التدخل الذي قد يعرقل ما صمم عليه في جنون، وهو أن يسحق عاملا آخر من عوامل «الإتلاف»، وكان قد أعد لكل فرد من هؤلاء الممثلين الجالسين على المسرح ما يقوله من كلمات وما يتنبه إليه من رموز، وكذلك أقاموا في البهو مقصفا قصد إليه كثيرون من كبار الممثلين قبل بداية الرواية وعبوا الشراب عبا حتى أصبحوا في حالة نفسية تزين لهم القتال، فذلك أدى إلى أن يمثلوا أدوارهم في حماسة أحمى، وبينا أنا أدور في المكان ببصري إذا عيناي تلتقيان بعيني «براتشكو» فابتسم لي مشجعا وأشار إلي إشارة معناها: «شد حولك فلا يزال الأمل هناك».
افتتح «لوس» الجلسة بكلمة كانت آية في خطابة التلميح واستثارة السوقة، فقال: إن جريمتي قد نهض عليها البرهان «أو كاد»، وإن أبي كان في «حالة عداء مع السوفيت»، وإنه كان منشفيا عاملا «ليس في ذلك شك»، وإن تفصيلات تهمتي بالإتلاف ستحدد ب «وسائل أخرى» وفي «أماكن أخرى»، ولكن أليس من المصادفات التي تستوقف النظر أن يكون سيف الثورة المسلط، أعني سيف القسم السياسي وشرطته، قد أجهز على كثير من زملائي في العمل وأصدقائي في المصنع وفي معهد المهندسين وفي جماعتنا الصناعية؟
قال في نغمة تدل على أن الحقائق نفسها ليست مما يأتيه الشك، وأن الدليل على صحتها أمر مرهون بالزمن، قال: «لم نظفر بعد بالحقائق التفصيلية التي تبرهن على أن «كرافتشنكو» كان شريكهم في السوء! لقد جاءتنا عرائض لا عدد لها تتلخص كلها في أن «كرافتشنكو» عدو للشعب قد أجاد التخفي عن عيون الراصدين، لكنه عدو يناهض الشيوعية ويحيط نفسه بأعداء الشعب، فهل يريد أحدكم الكلام؟»
ارتفعت أيد كثيرة، وكان من المتكلمين «ماكاروف» و«شايكفتش» و«يودافين» وقد أحكموا سياق قصصهم هذه المرة، ثم انضم إليهم «ياسينيف»، وكذلك انضم إليهم مندوب النقابة في مصنعي وهو «بالابين» الذي لم ينس لي قط ما «خربته» له من «تربية سياسية»، وأخذ يروي للسامعين في صوت مخيف كيف أني نزعت عن الجدران في مصنعي لافتات كان هو قد علقها هناك، وأنني إذ نزعت اللافتات كنت بذلك أقي أعداء الحركة «الإستاخانوفية» التي تقصد إلى سرعة الإنتاج، وكان يتوسط خطب الخطباء صياح كصياح الجوقة في المسرحية اليونانية، صياح يرتفع من جمهور الحاضرين قائلا: «هذا حق! أبعدوه! اطردوه!»
سأل «لوس» قائلا: «هل يريد أحد أن يتكلم في جانب كرافتشنكو؟» ولم يكن بحاجة إلى أن يضيف إلى ذلك نذيره «إذا تكلم أحد في جانبه فإنما يعرض نفسه للخطر.» فهذا النذير كان باديا في نغمة حديثه، ولم يكن به حاجة إلى التعبير عنه في كلمات صريحة. - «أريد الكلام في جانبه.» قال ذلك «جوشين» ووقف فاستدارت الأبصار كلها لتقع عليه في دهشة وغضب وإعجاب. - «أريد الكلام في صالحه؛ لأن التهمة كلها التي وجهت إلى هذا الرفيق الشاب القدير إن هي إلا باطل لفقه رأس فيه تخليط، إن «كرافتشنكو» ابن عامل وثائر قديم، وكل ما يقال غير ذلك عن أبيه افتراء بالكذب ونسيج خيوطه من ماء، هذا فضلا عن كونه في ذاته رشيدا مسئولا عن نفسه، لكني أريد أن أشير إلى غير هذا، أريد أن أنبئكم أيها الرفاق أن «ياسينيف» ناداني إلى مكتبه وطلب إلي أن أكتب عريضة أتهم بها «كرافتشنكو»، فلما أبيت ذلك تهدد وتوعد، وهذا يدلكم على مبلغ القيمة التي يجوز أن تزنوا بها أمثال هذه الاتهامات!»
فزأر «ياسينيف» قائلا: «هذا كذب!»
ثم ردد الصدى «ماكاروف» وعصبته: «أكاذيب! يا لك من ضليل صفيق!» - «كلا بل هو الحق يا رفاق، إنكم لتعلمون أني من الكهولة ومن رسوخ القدم في البلشفية بحيث لا ألفق مثل هذا القول تلفيقا، أنا عامل يؤيد الحزب، لكني أقول: إن مناهضة رجل من أقدر المديرين وأشرفهم عار أي عار.»
وهنا انفجر المكان في هرج ومرج كأنه بيمارستان، وراح الناس رجالا ونساء يصرخون بآرائهم صراخا، وخرجت من الصدور نفثات الزجاجات التي عبها الشاربون في المقصف، ومن صور علقت على الجدران فوق الرءوس وبقعها الذباب، أطل «ستالين» و«مولوتوف» و«كالينين» على الحضور وهم عبوس، وهكذا انقلبت المسرحية الأخلاقية رأسا على عقب بأن تدخل رجل جموح من النظارة في جماعة الممثلين على المسرح.
ولما استتب النظام من جديد، طلب «براتشكو» الكلام وأخذ يدفع عني تهمة الإتلاف، قائلا: «كل الآلات الموجودة في مصنعي قد طلبت لأن الحاجة كانت مست إليها، ولئن ظل بعضها بغير استعمال فما ذاك إلا بسبب تغير طرأ على خطط الإنتاج ولم أكن مسئولا عن ذلك التغير.» - فقاطعه «لوس» قائلا: «نريد الحقائق! أين هذه الوثائق التي رددتم ذكرها؟» - «نعم، ليست الوثائق معي الآن لكني واثق أننا واجدوها، ولئن اعتبرتم «كرافتشنكو» مذنبا، كنت أنا معه مذنبا كذلك باعتباري رئيسا له، وكان أيضا «فشنف» مذنبا؛ لأنه كبير المهندسين، بل كانت الرياسة في خاركوف، والرياسة الشعبية في موسكو مذنبة معنا؛ لأنها مسئولة عن عملنا.
إني لأنظر إليكم يا رفاقي والخجل يملؤني، ما هذا الذي أرى؟ أهو اجتماع للحزب أم هي سوقة اجتمعت عطشى للدماء؟ أنحن أتباع «لينين» أم نحن جماعة من غلاظ القلوب القساة؟ ومن ذا الذي أذن ببيع الخمر هذه الليلة واجتماع الحزب قائم؟ إني لأرجوكم أيها الرفاق أن تفيقوا لأنفسكم، فليس ذلك مهرجانا لمجرد المرح، بل إن الأمر ليمس رفيقا من الرفاق في حياته أو موته!»
وها هنا انفجر صوت عريض في طرف القاعة الخلفي، فأغرق في موجاته هذا الدفاع العاطفي الذي كان يوجهه «براتشكو» وأسكت كل صوت في القاعة، فاستدار كل إنسان على مقعده ليرى من ذلك المتكلم، وإذا هو «دوروجان» رئيس القسم السياسي في نيقوبول يقف عند الباب، وهو رجل ضخم مربرب اللحم غليظ القسمات كبيرها، عيناه باردتان لا تعبران عن شيء، ووقف هناك كأنه تمثال ضخم أريد به أن يكون صورة رمزية، وقف مفصول الساقين مرتكزا على عقبيه، ويترنح يمينا ويسارا في بطء كأنه طوق النجاة يتأرجح في النسيم، وقف هناك ويسراه على غدارته ويمناه ممسكة بلفيفة تبغ على شفتيه، كان «دوروجان» يبتسم ابتسامته التي لا فكاهة فيها، وينظر نظرات الازدراء.
ثم قال في صوت عال: «أتحتكم إلى العواطف يا رفيقي براتشكو؟ جميلة والله هذه اللحظة التي اخترتها لهذا الهراء تقوله!»
قال ذلك وأخذ يرسل بصره خلال الحضور في بطء، فختم «براتشكو» كلمته مسرعا بحيث جاءت مبتورة بعض الشيء، وأخذ «لوس» يتعجل ختام المهرجان، فشأنه شأن كل إنسان آخر ممن كانوا في القاعة، في أنه لم يشك في أن «دوروجان» إنما جاء ليلقي علي القبض بعد الفراغ من هذه «المهزلة المسرحية». - «هذا يكفي، فلنختم هذه المهزلة بطرد هذا العدو.»
هكذا صاح صوت، هو صوت «ماكاروف» فيما ظننت.
لكن «لوس» أعلن قائلا: «كلا يا رفاقي بل إن من حق «كرافتشنكو» أن يتكلم كلمة أخيرة إذا أراد، فله خمس دقائق.»
فمشيت إلى المسرح، وكنت في خواطري قد أعددت نفسي لهذه اللحظة، لكني لم أتوقع أبدا أن تكون فرصتي بهذا القصر، ولم يسعني سوى أن أضغط حججي في حيز صغير، فأضعفتها بغير شك وشعرت أني لم أكن أستغل هذه الفرصة استغلالا يبلغ حده الأقصى، وكنت أثناء حديثي أنظر إلى «دوروجان» لا أستطيع أن أتحول عنه، ولم يزل واقفا يهتز في ازدراء، وكنت على يقين أن كل سامع بين الحضور وكل جالس على المسرح لم ينصت إلى كلماتي بقدر ما كان مشغولا بهذا الرمز الحي الذي وقف هناك يمثل الدولة التي أمسكت الشرطة بزمامها.
ختمت حديثي قائلا: «إنني لا يأخذني استحياء من أبي، بل إني به لفخور، وليس لدي ما أقوله اعتذارا عما سميتموه آلات «مخزونة»، فقد تكون هذه الآلات دليل العجز الفني - منسوبا إلي أو إلى سواي - لكنها لا تدل على نية الإتلاف، ولو كنت مذنبا، إذن فكل جماعتنا الصناعية مذنبة، وكل الرياسة العليا مذنبة؛ لأنهم هم الذين يقررون كم ننتج، ولكن اسمحوا لي أن أختم لكم الحديث بهذا القول، ليس الأمر مقصورا على «كرافتشنكو» فلب الموضوع هو أنكم تهدمون ناسا أبرياء، إني أعلن أني لست بمذنب، أمهلوني عشرة أيام أخرى لا تزيد، أجمع لكم عددا أكبر من أدلة الإثبات.»
وأخذت الأصوات إذ كنت سائرا في الممشى في طريق الرجوع، وعيناي تحدقان في «دوروجان» الذي كان مجرد وجوده عاملا يبعث الإرهاب في النفوس، فلم يصوت ضد طردي إلا ستة، أهملهم «لوس».
وأعلن «لوس» قائلا: «إن هذا الاجتماع ليوصي اللجنة المحلية بإجماع الأصوات أن تفصل «فكتور أندريفتش كرافتشنكو».»
فسألني «دوروجان» حين دنوت منه: «أفي عزمك أن تستأنف الحكم؟»
فأجبته: «نعم، ليس في ذلك ريب، سأبرق الأمر إلى الرفيق «أورزنكدز» وسأرفع احتجاجات إلى خاركوف وموسكو، وسأستأنف الحكم غدا لدى اللجنة المحلية.» - «كرافتشنكو.» نطق باسمي يريد الكلام لكنه نفخ دخان لفيفته من فمه نفخا بطيئا قبل أن يعود إلى خطابي، ثم قال: «صدقني إنه لمما يؤسف له أن تقلق كل هؤلاء الناس، نعم إنه شيء يؤسف له.»
خرجت من القاعة في ظلمة الليل، ولقد كانت ليلة بردها قارس، ومع ذلك فقد شغلني همي حتى عن زر معطفي، ويظهر أني فقدت القدرة على الإحساس البدني، وتلفت حولي متوقعا في غير شك أن أجد عربة من عربات القسم السياسي في انتظاري، وأسرع من القاعة نفر كثير ليرى مقبضي، ولقد بدا عليهم شيء من الاضطراب بل من خيبة الأمل حين لم يروا شيئا من هذا، وأخذت سمتي ماشيا نحو داري، فإذا أنا فجأة أشهد رجلين واقفين إلى جوار عمود مصباح، ولم أستطع أن أتبين وجهيهما، أيكون هذان الرجلان واقفين ليسوقاني إلى حيث أوضع تحت الرقابة؟ فوقفت في طريقي تعلوني دهشة غامضة.
قال أحد الرجلين: «فكتور أندريفتش، نحن ها هنا، إننا صديقاك.» وكان الرجلان هما «جوشين» و«سيلينين». - «شكرا لكما، فلا شك أنكما صديقان ما دمتما تنتظرانني في لحظة كهذه.»
رافقاني بعض الطريق، يعبران لي عن شعورهما نحوي ويحاولان تهدئة ثائرة نفسي، ولما وصلت الدار أخذت أطوف بغرفها الكثيرة كأني سأجد سلواي في إحدى هذه الغرف، وكتبت برقية إلى «أورزنكدز» ثم عدت فمزقتها، ليحدث ما عساه أن يحدث فما أنا إلا واحد من ملايين، ففيم اختلاف حالتي عن حالاتهم؟ ماذا عساي أن أقول لرجل من أعضاء الهيئة السياسية العليا التي تحيط بستالين مما لا يعلمه؟ وعندئذ أخذت أقلب أوراق مكتبي كما فعلت مائة مرة من قبل لعلي واجد قصاصة يصح أن أقدمها «برهانا مكتوبا»، لكن علام أريد إقامة البرهان؟ ألقيت هذا السؤال على نفسي فلم أحر جوابا.
وأخيرا هدني التعب فارتميت على سريري ولم أنزع ثيابي، ففيم أنضو ثيابي وأنا أتوقع ألا يمضي طويل وقت حتى أراني مضطرا إلى ارتدائها من جديد لأسير متبوعا بشرطي إلى قضائي المحتوم ؟ لم يأخذني نعاس في رقادي، أو إن شئت فقل: إن جسدي قد أخذه النعاس، أما عقلي فقد ظل يقظان واعيا شديد النشاط، يحلل فكرة واحدة من نواحيها جميعا، هي فكرة واحدة أخذ عقلي يلعب بها لعبا كاد يقرب من اللعب العطوف الذي يكون أحيانا بين اللاعب ولعبته، وبدأ يغمرني شيء هو أقرب ما يكون إلى مرح جنوني، وأما الفكرة فهي أن أهشم رأسي بالرصاص، ولا أزال حتى يومي هذا أعتقد أنه لولا ما أصاب جسدي من شلل بسبب ما كنت فيه إذ ذاك من نعاس يقظان، لولا ما كان لجسدي إذ ذاك من إرادة خاصة به - إن صح هذا التعبير - لأزهقت روحي بيدي ذاك المساء.
لم يكن لي قبل ذلك عهد بهذا الانفصال العجيب بين العقل والجسد بحيث يظل كل منهما مستقلا بإرادته الخاصة به، كأنما سدت عليهما حظيرة ليقتتلا من أجل السيادة اقتتالا عنيفا، لكني ألفت هذا الجانب من نفسي بعد ذلك، وكنت أقف لأرقب القتال بينهما كأنني متفرج، أو كأنني حكم ثالث بين لاعبين لا يميل بهواه نحو هذا أو ذاك، ولا يأبه بمن عساه أن يكون كاسب المباراة، أما في هذه اللحظة التي أحدثك الآن عنها، فقد كنت مستلقيا على سريري، كامل الثياب، وكان عقلي يهدهد الفكرة التي ما زالت تتبدى له لتغريه فكأنما يقول لنفسه: اضغط على زناد مسدسك تخلص من كل شيء، حرك إصبعك حركة واحدة خفيفة تقض على «دوروجان» والقسم السياسي والهيئة السياسية العليا في موسكو جميعا، إنهم يصبحون ولا حول لهم ولا حيلة، وتتحول فيهم هذه العجرفة كلها إلى فكاهة تبعث على الضحك لو أنك بإصبعك الوسطى من كفك اليمنى ضغطت ضغطة خفيفة على قوس معدني صغير.
وبينا كنت أدير في رأسي هذا الحلم الذي امتزجت مرارته بحلاوته، سمعت نقرة على نافذتي، سمعتها من فوري على الرغم من ضآلة صوتها؛ لأني كنت أتوقعها مذ عدت إلى داري، فاستجاب لها جسدي استجابة من يكيد لعقلي وينتصر عليه في المعركة الحامية التي نشبت بينهما من أجل السيادة.
ها هم أولاء قد جاءوا إلي وانتهى الأمر ... ومشيت نحو الباب في يقظة تامة، بل في عزم مصمم، وفتحت الباب في عنف، فلم أر رجل الشرطة السرية في حلته الرسمية كما توقعت، بل رأيت العامل «كيريوشكين»، وهو الرجل الذي يعبر عن نفسه تعبيرا مختصرا مباشرا، والذي كان فيما سبق فلاحا كما كان جنديا في الجيش الأحمر، وهو الذي بلغت به الجرأة ألا يرفع يده عندما أخذوا الأصوات على «المعايير» الجديدة في مقادير الإنتاج.
فصحت به صيحة من أخذته هزة بالغة من الفرح: «ادخل، ادخل يا رفيقي «كيريوشكين» ماذا أتى بك ها هنا في منتصف الليل؟»
قال: «يحسن فيما أظن ألا أدخل لأنني سأتلف البساط لو فعلت، فلقد جئت لتوي من العمل، وجئت ماشيا، وإنها لليلة ليلاء.» - «إلى الجحيم بالبساط، ادخل، هات معطفك، ماذا تقول في كوب من الشاي؟ كيف عرفت داري؟» - «ليس من العسير أن أعرف طريقك يا «فكتور أندريفتش»، إنما يكون العسر عليك أنت لو أردت أن تعرف طريق مسكني في الثكنات، على كل حال، سأدخل.» - «لا تقل كلاما كهذا، لما كنت أشتغل في المناجم، سكنت في ثكنات أسوأ حالا من التي تسكنها أنت الآن، زد على ذلك أني لن ألبث أن أغادر هذا المسكن إلى سواه، إلى حجيرة رشيقة في السجن.» - «وهذا هو ما جاء بي إلى هنا يا «فكتور أندريفتش»؛ فلقد شاعت بين العمال القائمين بدور العمل في الليل أنباء متاعبك التي تعانيها، فأحدثت الهم في نفوسهم جميعا؛ لأنهم يحترمونك ويأسفون لك، أما أنا - ماذا أقول؟ - إنك لتملأ في حياتي جانبا كبيرا، وليس ذلك للترقية التي نلتها على يديك ولو أني أحسن عيشا الآن مما كنت، أرجو أن تصدقني فيما أنا قائل، بل التعليل الصحيح هو أنك جعلتني أشعر بنفسي شعور الإنسان بإنسانيته في نفس اللحظة التي غصت فيها إلى أبعد أغوار الهموم، إنني يا «فكتور أندريفتش» لم أنل قسطا من التعليم، لكني أفهم بمقدار لا بأس به؛ لأن لي عقلا يدرك، فأحيانا أفكر في الثورة وفي الخطب وما إلى ذلك فيؤذيني أن أرى كل هذا النفاق في الحياة، ثم أفكر في الطريقة التي عاملتني أنت بها فيزول عني بعض الشعور المؤلم؛ إذ أقول لنفسي: ليس الأمر كله هشيما، بل إن في الهشيم لبعض الغلال.»
صببت الشاي وقدمته مع سكر وليمون، فأخذ «كيريوشكين» يتحساه على مهل.
قال : «أتدري أن هذه أول مرة أشرب فيها الشاي بالليمون خلال الأربع السنوات الماضية؟ ولكن لماذا جئتك الآن؟ على كل حال فأنا رجل تقدمت به السن وأصغر من أن يستوقف النظر، وليس لدي ما أفقده فليس لدي ما أخشاه، أو كيف تعبرون عنها أيها الشيوعيون، ليس لدي ما أفقده إلا ما يكبلني من الأغلال، إن الفأر ليستطيع أحيانا أن يفعل ما لا يقوى على فعله الأسد، على كل حال، لقد جاء دوري الآن لأساعدك كما ساعدتني من قبل يا «فكتور أندريفتش»، وها أنا ذا مستعد لمعاونتك بكل ما أستطيع.
لقد فكرت لنفسي قائلا: ربما كان الآن في حاجة إلى صديق مخلص إلى جانبه، ولست أدعي أنني بطل مغوار، لكنني مستعد أن أخاطر إذا دعت الحال إلى مخاطراتي، فربما أردت أن تخفي شيئا أو أن ترسل إلى أحد شيئا من الوثائق أو من الرسائل التي قد ينبعث عنها خطر، وإني وإن كنت لا أفهم نظريات السياسة، فإني أعرف أمورها العملية، وها أنا ذا رهن إشارتك، ولك أن تثق في.»
فضحكت رغم ما أعانيه من هم، فكم كان في هذا العامل الساذج المتواضع من خير ومن حساسية! فلقد افترض على نحو ساذج يتفق وبساطة نفسه أنني ربما كان لدي ما أريد أن أخفيه، وأنني قد أحتاج إلى شريك في المؤامرة. - «استمع إلي يا «كيريوشكين» وصدق ما أقوله، لست متلافا وليس لدي ما أخفيه، وليأت رجال الشرطة السياسية فلن يجدوا شيئا مما يؤخذ علي، لا في دارى ولا في ضميري.» - «وهل قلت عنك إنك متلاف؟ لكن ربما ...» - «أحب أن تعلم يا «كيريوشكين» أنك الآن قد تفضلت علي فضلا كبيرا، وسأظل أذكرك ما حييت، وستكون زيارتك هذه أغلى ما أحمله معي من نيقوبول.»
وأراد الخروج لكني استبقيته وأخذت أحادثه في حياته وفي زملائه من العمال مدة أربت على ساعة، دق التليفون خلالها مرات عدة، وكان المتكلمون لا يفصحون عن أشخاصهم لكنهم رجال من المصنع أرادوا أن يستفسروني شعوري وأن يسألوا هل لا أزال في داري ، ولم أكن أسأل المتكلمين ما أسماؤهم، فالطريقة المألوفة حين تريد أن تسأل عن شخص يهمك لتعلم هل وقع في أيدي الخطر أو لم يقع بعد، هي ألا تعلن عن نفسك، وخرج «كيريوشكين» ففكرت في أمره مليا، إن بين أهل الروسيا التي أحبها الملايين بل عشرات الملايين من أمثال «كيريوشكين»، وهؤلاء جميعا لا يضمرون من الحب أكثر مما أضمره أنا نحو رجال من طراز «دوروجان» و«جرشجورن» والرؤساء في موسكو، لكنهم يرقبون الفرصة التي تتيح لهم أن يستولوا على حقوقهم فليسوا من الغفلة بحيث جازت عليهم الخديعة، كلا ليسوا من الغفلة في شيء.
لقد أنعشني الحديث الطويل مع «كيريوشكين» وما عرضه علي من استعداد غريب لمواجهة الخطر في سبيلي، وإنه لخطر كالذي تجري بذكره الأساطير، واعتزمت أن أبحث في داري من جديد، لتكون آخر مرة أجري فيها بحثا عن الوثائق المنحوسة التي كنت أنشدها، فكأنني هذه المرة قد اهتديت بقوة خفية من نفسي، إذ قصدت من فوري إلى حجيرة تكدست فيها المهملات تكديسا في غير ترتيب، فرأيت في أعلى كومة المهملات حقيبة أوراق، كنت قد استعملتها لآخر مرة منذ بضعة شهور في رحلة قمت بها إلى العاصمة، فلما عدت أفرغتها وألقيت بها جانبا، ففتحتها في غير قصد معلوم؛ لأني أردت ألا أدع مكانا من الدار لا أنظر فيه، ووجدتها فارغة فأقفلتها من جديد وكنت على وشك أن ألقي بها في الحجيرة كما كانت.
ثم ترددت لغير سبب معقول، وفتحتها مرة أخرى، ونظرت هذه المرة في كيسها الداخلي، فرأيت - إنها لمعجزة المعجزات! - رأيت مسودات الخطابات التي طلبنا بها الآلات والصور الكربونية التي كنت أنشدها، فحدجت النظر ذاهلا في هذه الأنصاف من «فروخ» الورق التي تثنت على شكل أذن الكلب وأصابها الوسخ والتلف، فعرفت عندئذ كيف تكون مشاعر الرجل حين يربح النمرة الأولى في أوراق اليانصيب الكبير.
وكان بين الأوراق نسخ تحتوى على عمليات حسابية قام بها أولو الأمر في رياسة صناعة البترول، على أساس خطط وضعوها بادئ ذي بدء ثم أنقصوا مداها ، فهذه العمليات الحسابية برهان قائم لكل ذي عقل سليم على أن الأجزاء البديلة والآلات الخاصة التي كنا طلبناها يبررها أوفى تبرير ما في هذه الأوراق من مواصفات وضعت أول الأمر قبل أن ينالها شيء من التعديل، وكانت الطلبات الأصلية معتمدة بإمضاء «فيشنف» كما رجحت، وبهذا الذي وجدته تحطمت المأساة كلها التي نشأت عن اتهامي.
لم أستطع بعد ذلك نعاسا لشدة ما أرقني من رغبة في حمل هذا النبأ السار إلى «براتشكو» ثم إلى «فيشنف» بصفة خاصة، وهو الذي ارتبط مصيره بمصيري في أرجح الظن، وجعلت زيارتي الأولى إلى مكتب «براتشكو» وألقيت بالأوراق على مكتبه متظاهرا بأني إنما زرته بطريق الاتفاق.
قلت: «وبعد، فهاك هذه الأوراق يا «بيوتر بتروفتش».» - «ماذا؟ أهي الوثائق؟» - «نعم، هي الوثائق عليها لعنة الله.»
نظر المدير إلى الوثائق التي قدمتها إليه فأطال النظر، وأخذ يلمع وجهه لمعة الإشراق كلما مضى في قراءتها، وأخيرا ابتسم ابتسامة النشوان. - «إنك أسعد الناس حظا يا «فكتور أندريفتش»! لا بد أن قد جاء مولدك تحت نجم ذي سعود، لا بد أن نحمل النبأ فورا إلى «فيشنف» المسكين، فإنه يكاد يجن جنونه، إني لشديد الغبطة من أجلك ومن أجل «فيشنف» ومن أجل نفسي.»
ولما ذهبت إلى «ورش» المصنع أخذ العمال يحملقون في بنظرات الدهشة الصريحة، إذ انتشرت شائعة عني أثناء الليل خلال المدينة كلها أن الشرطة قد أمسكت بي، فابتسم إلي كثيرون ابتسامة التشجيع، وانتهز كثيرون هذه الفرصة أو تلك ليعبروا لي عن إخلاصهم وودهم وأنا في طريقي أمر أمام أنضاد العمل.
صورت تلك الوثائق الثمينة وأرسلت مجموعة منها إلى «براتشكو» وأخرى إلى «فيشنف»، وأعطيت ثالثة إلى صديق حميم وأرفقت بها إقرارا عنيت بإنشائه فبينت فيه بإيجاز التهم التي وجهت إلي وكيف جاء الرد عليها في هذه الوثائق على نحو يقوضها من أساسها، وطلبت إلى ذلك الصديق أن يقدم أدلة براءتي تلك إلى اللجنة المركزية العليا في موسكو إذا ما حدث أن ألقي علي القبض.
وكتبت إلى الوزير «أورزنكدز» أنبئه بموقفي، كما أرسلت إلى «أيفانتشنكو» رئيس مجموعة الأنابيب لأبلغه كيف لفقت التهم علي تلفيقا جزافا، وبعدئذ قدمت استئنافا رسميا إلى اللجنة المحلية لتنقض ما قضت به علي لجنة المصنع، فدعا الرفيق «فيلين» إلى اجتماع من أعضاء اللجنة المحلية بغير إبطاء.
وكانت قضية «كرافتشنكو» قد شاع أمرها في نيقوبول، وكان من بين العوامل التي عملت على شيوعها أهمية منصبي باعتباري مديرا لأكبر مجموعة صناعية تقوم بصناعة الأنابيب، لكن عاملا آخر أهم من ذلك ساعد على جريان قضيتي في الأفواه، وهو عامل اكتسب أهميته من ندرة وقوعه، وأعني به ما أبديته في الدفاع عن نفسي من شدة وعنف.
وإني لأميل إلى الاعتقاد بأني مدين لهذا الشيوع الذي اكتسبته قضيتي بنجاتي التي ظفرت بها آخر الأمر، بل أنا مدين له بحياتي نفسها؛ ذلك لأنه لما كان اتهامي قد بدأ على ملأ من الناس، فقد بات مخزيا لرجال الشرطة ورجال الحزب أن يستأنفوا مراحل الاتهام تحت طي الكتمان، فقد كانت نية أولي الأمر أن يفتكوا بي علنا فتكا يقرهم عليه القانون، ظنا منهم أنهم قد أمسكوا بي متلبسا بالجريمة، جريمة أن يكون لي والد منشفي المبدأ، وجريمة أن يكون لدي ثروة مخزونة من أجزاء الآلات والعدد، وجريمة أن يكون تحت جناحي «جماعة من أعداء الشعب»، ولقد جاء ذلك منهم خطأ شنيعا في إحكام خططهم الحربية نحوي، وهو خطأ لم يسع «دوروجان» و«لوس» وأعوانهما إلا أن يعترفوا لي بأنهم آسفون لوقوعهم في مثله أسفا شديدا.
ومهما يكن من أمر فقد اجتمع كافة أعضاء مكتب اللجنة المحلية في بناء الحزب الواقع في الشارع الرئيسي من نيقوبول على شاطئ نهر دنيبر، وكان الأعضاء كلهم جددا ما عدا «دوروجان» و«براتشكو»، ففي أقل من شهرين، قضى التطهير على أعضاء أعلى هيئة للحزب في منطقة صناعية على جانب عظيم من الخطر.
قام «لوس» يعرض قضية اتهامي بادئا - بالطبع - بوالدي واعتناقه للمبدأ المنشفي، واستمع إليه «فيلين» حتى فرغ من حديث الاتهام، وعندئذ قرأ الخطابات والإقرارات التي كان والدي قد جمعها.
قال: «هذه إقرارات كتبها شيوعيون مخلصون لا يتفقون مع «كرافتشنكو» الوالد في وجهات نظره السياسية، مما يزيد من قيمة شهادتهم في صالحه، ولكني يا رفاقي من أعضاء المكتب، قد تسلمت كذلك في بريد اليوم بعض المخطوطات المحفوظة التي تثير الاهتمام، إذ جاءتني نسخ من تقارير كان كتبها رجال الشرطة السرية أيام القيصر، ومدونات من مدونات السجن خاصة بما قام به والد رفيقنا هذا من أعمال ثورية، وها هي ذي تلك المخطوطات لمن أراد أن يطالعها، ولقد درستها درسا دقيقا، فأيقنت يقينا لا يأتيه شك بأننا من هذا الرجل إزاء بطل عظيم من أبطال الثورة، لا إزاء تابع من أتباع المبدأ المنشفي.»
فعبس «دوروجان» وزفر زفرة غاضبة، ترى ماذا كان يدور في رأسه من خواطر وخطط؟ هذا سؤال لم يبرح طوال الاجتماع قائما في ذهني، إن اتهامي من أوله إلى آخره لم يكن لتجتمع عناصره بعضها إلى بعض بغير اشتراك القسم السياسي ورجاله، ليس في ذلك أدنى شك، أفيرضى «دوروجان» لنفسه أن تفلت فريسته من يديه؟
بعدئذ اتجه «لوس» بعنايته إلى الاتهام الرئيسي فقال: إن «كرافتشنكو» و«براتشكو» كليهما قد حدثانا عن وثائق تنفي عن المتهم تهمة التخريب والإتلاف، لكنه مجرد كلام لا تسنده الوثائق نفسها.
فقاطعه «براتشكو» قائلا: «لا، لا، يا رفيقي «لوس» لدينا وثائق الإثبات، هذه هي!»
ففزع «دوروجان» لذلك فزعا حتى وثب على قدميه، ولعله بعدئذ قد استعاد صوابه فجلس ثانية، أما «لوس» فقد لبث مفتوح الشفتين دون أن ينطق بكلمة، ونشر «براتشكو» الصور الكربونية على المنضدة وبين في إيجاز كيف تهدم تلك الأوراق ما وجه إلي من تهم، وبالتالي ما وجه إلي «فيشنف» كذلك.
ولم يخف «فيلين » علائم ارتياحه ورضاه.
قال: «في رأيي أن الأمر جلي واضح، فهذه الأوراق تبرئ كرافتشنكو.»
ظل الاجتماع قائما عدة ساعات، إذ أخذ «لوس» يقرأ قائمة طويلة من أسماء مهندسين وفنيين وموظفين قبض عليهم، وكانوا أصدقائي فيما قال وأكد، لقد بلغت حماسة هذا الرجل في محاولة إدانتي من الشدة والغلظة حدا جعل «دوروجان» يحس كأنما جرحت كبرياؤه المهنية، فتمتم قائلا: «ما هذا يا «لوس» إنك بمثابة من ينتزع اللقمة من فمي.»
وضحك الحاضرون جميعا إلا «لوس» الذي احمر وجهه خجلا، فها هو ذا أبعد مشروعاته «البوليسية» طموحا، قد بدت عليه علامات الانهيار، فأشقاه ذلك الفشل شقاء ظاهرا، فإذا كان قد رسم خطته هذه ليرفع بها سوقه في الحزب وفي القسم السياسي بأن يمسك لهم بسمكة كبيرة في ماء التطهير العكر، فهو في طريقه إلى الفشل الذريع.
أما وقد قدمنا «دليل الإثبات» فقد أخذ كثير من أعضاء المكتب يدلون بآرائهم في الموضوع، وكانت كثرتهم الغالبة في صالحي وترى «رد اعتباري»، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن تلك الوثائق التي تبرهن على براءتي، وتفاهة التهم الموجهة إلي، لم تكن هي العوامل التي حملت الأعضاء على تغيير رأيهم في قضيتي، بقدر ما أثر فيهم موقف «فيلين» حين نوه بكلماته عن براءتي فتبعه الباقون، وأخيرا نوديت لأقول كلمتي.
قلت: «ليس لدي ما أضيفه إلا قليلا يا رفاقي، نعم إن عددا كبيرا جدا ممن كانوا يشتغلون معي وبالقرب مني قد ألقي عليهم القبض، ولكني رغم ذلك لا أزجر الناس ولا أطردهم إلا بما عملت أيديهم، وليس في وسعي أن أراجع ماضيهم السياسي، فأنا في ذلك أعتمد على المختصين، أي رفيقي «دوروجان»، لينجزوا ما يلزم من أمور لا تمس ما نكله إلى هؤلاء الناس من عمل.
لكني أحب أن أتخذ مثلا من قضيتي، فماذا لو لم أجد هذه الوثائق؟ ماذا لو كانت محفوظات العهد القيصري قد أصابها التلف؟ إذن للقيت عقابي حتى وإن كنت بريئا، إني لآمل أن نكون أكثر من ذلك حذرا، وأشد من ذلك تحفظا، إذا ما أردنا أن نلقي بالتهم الخطيرة جزافا لتصيب أهدافها من رفاقنا.»
فأبدى «دوروجان» علامة استياء.
واقترح «براتشكو» في صورة رسمية أن يحكم بنقض القرار الذي اتخذته لجنة المصنع بشأن فصلي، فوافق الأعضاء إلا «دوروجان» و«لوس» فلم يصوتا، وهنا قدم عضو آخر اقتراحا آخر، وهو أن يوجه اللوم إلى كرافتشنكو، فعلى الرغم من أن التهم الخطيرة قد سقطت عني - هكذا قال - فقد جاوزت حدود اللياقة في مخاطبة موظفي الحزب ونقابة العمال، ولا بد من تأديبي، كان هذا الكلام نفاقا واضحا أريد به ترضية «دوروجان» لما أصابه من جرح في كرامته.
فلشد ما دهشت أن أرى حتى «فيلين» يصوت تأييدا لاقتراح تأنيبي، ولم أستطع تعليل ذلك إلا بما رأيته على وجه «دوروجان» الغليظ من عبوس أخذ يزداد تجهما، ولما كان «فيلين» شيوعيا محنكا، فقد رأى أنه ما دام قد أيدني في قضيتي، فواجبه الآن أن يسترضي رجال القسم السياسي، واحتججت على التأنيب، لكن بغير جدوى.
ركبت أنا و«براتشكو» سيارة معا في طريقنا إلى الدار، وكان سرورنا عظيما بالنتيجة التي انتهينا إليها، لكن التأنيب عكر من صفونا بعض الشيء، فهو وصمة في صحيفتي قد لا يكون من اليسير محوها.
قال لي «براتشكو»: «نشدتك الله يا «فكتور» أن تهمل الأمر كله إهمال المزدري، لقد نجوت بحياتك وهذه هي النقطة الهامة، الحمد لله على أنك ما زلت حيا طليقا!»
وجلست في ساعة متأخرة من الليل أكتب الرسائل لأصدقائي وأهلي ورؤسائي في خاركوف وموسكو أنبئهم «بحسن حظي»، لكني لم أكن قط مفرطا في تفاؤلي، فإنه لإيغال في الوهم أن تتوقع من القسم السياسي أن يخليني وشأني آمنا مطمئنا.
هذا الانحراف الذي عرج بقضيتي إلى النجاح يعد شذوذا، إذ كانت حركة التطهير في طول الروسيا وعرضها لا تزال تجمع لنارها وقودا، وكانت المحاكمات الصورية قائمة في موسكو بالنسبة لرجال أمثال «رادك» و«سروكولنيكوف» و«بياتاكوف» وغير هؤلاء من البلاشفة القدامى، ولبثت الصحف سبعة أيام تنشر صفحات بأسرها تفصل فيها «اعترافات» هؤلاء الناس التي تثير الفزع في النفوس، ثم أعقب ذلك ما لا بد منه، وهو الحكم بالإدانة فالإعدام.
وحدث في مصنعنا - كما حدث في كل مؤسسة ومنشأة أخرى في البلاد كلها - أن دعونا العمال جميعا إلى اجتماع ليحتفلوا بإعدام هؤلاء المخربين الجواسيس، هؤلاء «الكلاب المتوحشة»، وقدم «لوس» قرارا بلسان المجتمعين كان قد أعده قبل الاجتماع.
وكان نص القرار ما يلي: «نحن عمال مصنع التعدين في نيقوبول ومهندسيه ومستخدميه نؤيد قرارات المحكمة السوفيتية التي اتخذتها في شأن أعداء الشعب، إن يقظة الحزب والحكومة قد اجتثت الجواسيس والخوارج وأعوان الرأسمالية الذين كانوا يتهددون حياة شعبنا السعيدة في ظل دستور ستالين، فليحي زعيمنا ورائدنا المحبوب الرفيق ستالين.»
ورفع مئات الحاضرين من رجال ونساء أيديهم بالموافقة خانعين، وعزفت الفرقة الموسيقية «النشيد الدولي»، وكانت البيارق الحمراء حول جدران القاعة تعبر عن أمجاد «الحياة السعيدة» لهؤلاء العمال الذين أضناهم العمل وشفهم الجوع فراحوا لا يأبهون لشيء، لهؤلاء العمال الذين باتوا أجسادا بغير أرواح، فأخذ بعضهم يتثاءب، واستغرق بعضهم في نعاسه بينما كان الخطباء يرددون في خطبهم ما ملأت به صحف الصباح مقالاتها الافتتاحية، وهذه الصحف نفسها كانت قد رددت في مقالاتها تلك ما كانت صحف موسكو قد كتبته في مقالاتها الافتتاحية، وأخيرا انتهى الاجتماع الصوري الذي أشبهت أوضاعه شعائر العقيدة، وعاد الناس إلى دورهم أو إلى مصانعهم، دون أن يقتنعوا بصدق ما قيل، أو يحسوا لأنفسهم بمصلحة خاصة في الأمر يهتمون لها.
لو كان هنالك إنسان واحد في الروسيا قد آمن بصدق ما جاء في «الاعترافات» العجيبة، فأنا - على الأقل - لم أصادفه، ولم أعلم إلا بعد ذلك بسنوات كثيرة حين سافرت إلى خارج الروسيا، أن الأجانب - وبخاصة الأمريكيين «الأحرار» - قد تقبلوا في سذاجة هذه الأضحوكة السوداء، فصدقوا كل ما جاء فيها، وأن شركة سينمائية رأسمالية كانت قد أخرجت بالفعل شريطا ينطوي على جهل وبلادة ذهن، وتقوم قصته على افتراض صدق الحكايات الخرافية التي رواها لهم القسم السياسي في الروسيا!
كان أقرب المتهمين في محاكمات موسكو الأخيرة صلة بي، هو «بياتاكوف»؛ لأنه كان يشتغل مساعدا أول ل «أورزنكدز»، ولطالما زرته شخصيا في شأن من شئون العمل، واشتركت في اجتماعات كان يرأسها، فهو طويل القامة ذو وقار، وله لحية طويلة مستقيمة، وجبهة محدبة كجباه المفكرين، وكان دائما جادا أمينا فيما يتخذ من قرارات، سواء اتخذها بعد مداولة خاصة أو بعد اجتماع عام، وكان لا يكتفي أبدا بما يقال له عن الأمور الفنية من آراء، بل كنت تراه يتناول مسطرته الحاسبة ويأخذ في العد والحساب والمراجعة في عناية شديدة قبل أن يأذن بعمل أو بصرف شيء من المال.
لم يكن «بياتاكوف» الذي عرفته يشبه في شيء على الإطلاق ذلك «المجرم» الذي صورته المحاكمة، أو ذلك الهراء الذي قرأته عنه دهشا في قصة أمريكية عنوانها «بعثة إلى موسكو»، لقد كنت بطبيعة عملي وبسبب اتصالاتي الفنية أقابل مئات ممن لهم صلة وثيقة بالصناعة وبالمصانع المعينة التي زعموا أن «تخريب» «بياتاكوف» قد أصابها، ولم أجد من هؤلاء المئات بطبيعة الحال رجلا واحدا يصدق كلمة واحدة مما وجه إلى «بياتاكوف» من التهم، ولو أن كثيرين منهم كانوا يبررون تلك المحاكمات على أسس سياسية.
كان «التخريب» الذي اعترف به «بياتاكوف» عن نفسه يقع في الصناعة الإنشائية بوجه خاص، والموظف الذي يشرف إشرافا مباشرا على كل الصناعات الإنشائية تحت رياسة «بياتاكوف» هو رجل يدعى «س. ز. جنزبرج» رئيس الإدارة الرئيسية للعمل الإنشائي في الصناعات الثقيلة، فكانت تعرض على «جنزبرج» هذا كل تفصيلات هذا الضرب من العمل، وإذن فقد كان يستحيل استحالة مادية أن يقع التخريب على النطاق الواسع الذي قرره الأستاذ «فشنسكي» عاما بعد عام دون أن يكون «جنزبرج» على علم به فيغض عنه النظر.
ومع ذلك لم يقبض على «جنزبرج» وروعي ألا يرد اسمه أبدا في محاضر المحاكمة على الرغم من أن المشروعات التي كان يشرف عليها إشرافا شخصيا هي التي كانت موضع المناقشة المفصلة تفصيلا لم يترك شاردة ولا واردة، حتى إذا ما انتهت المحاكمة عينه «ستالين» رئيسا للصناعة الإنشائية، ولما رأيت «جنزبرج» آخر مرة وجدت صدره مثقلا بحمل من الأوسمة والأنجم والأنواط، وقد كان جميع من يعملون في دائرتنا الصناعية يعلمون علم اليقين أن «جنزبرج» هو الذي قام بأهم دور في توجيه الاتهامات، وأن هذا المنصب الممتاز الذي احتله في صناعة الإنشاء كان نتيجة ما أداه من شهادة في مجرى المحاكمات، فقد كان هذا الرجل هو الذي يحرك الأستاذ «فشنسكي » من خلف الستار.
وبرز في المحاكمات شخص آخر عرفته من أعوام كثيرة خلت، وهو «نيكولاي جوليوبنكو» الذي أعدم في «خاركوف» دون أن يلجئوا في ذلك إلى رسميات المحاكمة، إذ أسندت إليه تهمة هي وليدة الخيال، فاتهموه بأنه يرأس «جماعة إرهابية» أخذت على نفسها أن تغتال رجال الهيئة السياسية العليا، وزعموا عنه بصفة خاصة أنه اعترف عن نفسه بأنه دبر مؤامرة يغتال بها عضوا من أعضاء تلك الهيئة العليا، وهو «كوسيور»، وأن يغتال كذلك أمين الحزب الشيوعي الأوكراني «بوستيشيف»، ولم يمض طويل وقت بعد إعدام «جوليوبنكو» لهذه «الجريمة» حتى قبض رجال القسم السياسي على «كوسيور» و«بوستيشيف»، ولم يستطع رجال الحزب الذين أدهشهم القبض على هذين الرجلين أن يجدوا تعليلا لهذا سوى أن هذين الصديقين الحميمين لستالين قد تعاونا مع «جوليوبنكو» في إعداد مؤامرة قتلهما.
ظل «جوليوبنكو» حينا من الدهر مديرا لمجموعة «بتروفسكى-لينين» الصناعية في «دنيبروبتروفسك»، ولقد التقيت به وتحدثت إليه مرارا، فوجدت فيه رجلا جريئا صريحا، وجريمته الحقيقية أنه عارض استمرار إراقة الدماء، ولما قابلته آخر مرة - وكان عندئذ رئيسا لجماعة السوفيت في دنيبروبتروفسك - كان قد علم عن نفسه أن القضاء قد حم فيه وأنه لم يعد أكثر من جثة تتحرك بين الأحياء، ولولا ذلك لما كلمني بالصراحة التي كلمني بها.
قال لي ما ملخصه: إن هذه «المذبحة» التي تجري في الحزب الشيوعي لم تكن سوى خطوة أخيرة للقضاء على كل فكر حر، بل كل شعور حر في بلادنا. ثم أضاف إلى ذلك قوله: إن ستالين كان بأعماله تلك يرمي إلى مناهضة ما قامت به الثورة، إذ أراد أن يمحو ما بقي من سلطة في أيدى لجنة الحزب المركزية، وما بقي من سمعة ومنزلة قومية لأبناء الجيل الذي قام بالثورة، أراد أن يمحو ذلك كله ليكون للهيئة السياسية العليا - وهذه العبارة معناها ستالين نفسه - سلطان الحاكم الدكتاتوري المطلق.
لم يكن «جوليوبنكو» رئيسا ل «جماعة إرهابية»، ولو كان لمثل هذه الجماعة وجود لارتكبت عملا واحدا من أعمال الإرهاب على الأقل ، لكنه عارض هذه الحركة المعارضة للثورة واحتقر الحاكم المطلق، وإذن فاغتياله اغتيالا رسميا لم يكن بغير معنى مقصود أو دليلا على رعونة حمقاء، بل كان عملا حربيا قام به ستالين في حملته الأخيرة الدامية التي شنها ليظفر بالسلطان المطلق من القيود.
كان «جوليوبنكو» و«بياتاكوف» وربما جاز لنا أن نضيف إليهما «كوسيور» و«بوستيشيف» «مجرمين» بمعنى واحد، وهو أنهم أبوا أن يذعنوا في خنوع للحكم المطلق الذي أراده ستالين لنفسه، لا بل حتى هذه «الجريمة» لم يستطيعوا إثباتها على ملايين الأنفس التي لا تعرف أسماؤها، ممن كانت لقوم ينتمون للحزب الشيوعي أو لا ينتمون لحزب من الأحزاب، والتي لقيت حتوفها في حركة التطهير الأعظم، ولكم روعني بعد ذلك بأعوام أن أعلم أن هؤلاء الضحايا قد أسماهم المغفلون والحمقى في خارج الروسيا باسم «الطابور الخامس»، «طابور خامس» قوامه تسعة ملايين أو عشرة، بينهم من ستين إلى ثمانين في كل مائة من طليعة زعماء الحزب وقادة هيئاته الفرعية والقوات المسلحة ورجال الحكومة والصناعة والزراعة والثقافة القومية، إن مجرد ذكر هذا الهراء ليكفي لبيان ما فيه من خطأ فاحش.
وحدث في غضون محاكمة «بياتاكوف» أن اتهم رجل يسمى «شستوف» بالتآمر على قتل «ب. إيش» أمين الحزب في سيبيريا، وأعدم «شستوف» ثم لم يلبثوا بعد قتله أن قبضوا على من كانوا جعلوه ضحيته الموهومة، وهو «إيش»، ولقد قام «ماتولفتش» - المساعد النشيط الذي كان يعاون النائب العام فشنسكي - بفعلة تنم عن دهاء وغلظة قلب، حين قام بإعداد المتهمين لقتلهم رميا بالرصاص، لكن المحاكمة لم تكد تنتهي، حتى قبض على «ماتولفتش» نفسه، وكانت المحاكمة كلها من طبخ رجل لا يعرف الرحمة، هو «هنري ياجودا » رئيس القسم السياسي، لكن ما أسرع ما جاء دور «ياجودا» نفسه وكبار أعوانه فقبض عليهم وأعدموا، وكان معظم الذين ساهموا في إعداد «دستور ستالين» قد أصابهم الإعدام أو السجن إذ ذاك، ثم لم يلبثوا كذلك أن «حاكموا» أعلام قواد الجيش الأحمر، وبينهم الجنرال «توخاشفسكي» الذي طبقت شهرته آفاق العالم أجمع، حاكموهم في الخفاء وأعدموهم، ولم يمض وقت طويل بعدئذ حتى حان حين «قضاته» جميعا فأعدموا، فيظهر أن «الطابور الخامس» كان يشمل أبناء البلاد جميعا ما عدا «ستالين» و«مولوتوف» و«السفير الأمريكي ديفز».
فعلى الرغم من براءتي في تلك المحاكمات - إذا استثنينا ما وجه إلي من لوم - فقد عذب نفسي أن أرى هذه الأهوال من حولي، وهذا القبض يلقى على الناس، وهذا الإبعاد للرجال الذين يعملون في مصنعي ومكتبي، مما اتصل اتصالا لا ينقطع، عذب نفسي هذا الذي رأيته حولي فانغمست في العمل انغماسا، إذ كنت أواصل العمل أحيانا أربع عشرة ساعة أو ثماني عشرة أو عشرين، حتى أجنب نفسي التفكير فيما أرى فأصون صوابي، لم تكن لي إذ ذاك حياة خاصة، ولم أجد الرضى في عملي، ولم يكن لي أمل في مستقبلي أو مستقبل بلادي.
وهكذا أقبل اليوم المشئوم من شهر فبراير سنة 1937م، كنت يومئذ جالسا إلى مكتبي أكتب تقريرا عن إنتاج المصنع لأرفعه إلى «إيفانتشنكو» في «خاركوف» وإلى «أورزنكدز» في موسكو، وإذا مساعد من مساعدي يندفع إلى مكتبي والدمع ينهمر من مقلتيه.
قال في صوت متقطع بالبكاء: «فكتور أندريفتش، لقد مات «سرجو أورزنكدز» يا له من حظ أنكد!»
فجلست لا أتحرك ولا أتكلم كأنما صابني شلل، وانحدرت العبرات على وجنتي، فقد فقدت بفقده صديقا راعيا، وفي اليوم التالي بغير إبطاء، تلفن إلي «جرشجورن» قائلا: «يا لها من مأساة! «لقد مات راعيك في موسكو» قد يحسن أن نلتقي سريعا وأن «نسمر» بالحديث «في هذا وذاك» من الأمور.»
لقد انهدم حائط الخزان واندفعت تيارات الماء الداوية تدور من حولي.
الفصل السادس عشر
بحث عن العدالة
طلب إلي أن أتكلم في اجتماع عمال المصنع تكريما لذكرى «أورزنكدز»، فكانت هذه أول مرة أبعث فيها الكلام من سويداء قلبي في اجتماع سوفيتي، فلقد مضت سبعة أعوام مذ اختارني «أورزنكدز» للتدريب على أن أكون أحد «الصفوة المختارة من رجال الهندسة الصناعية في بلادنا»، ولبث خلال هذه الأعوام السبعة يشجعني ويحميني بعطف يدنو من عطف الوالد على ولده، وأتيح لي بطبيعة الحال أن أعرف أنني واحد من ألوف الرجال الذين وضعهم في حمايته واستخدمهم في صوالح الوطن.
ولا بد أن أكون قد نقلت إلى نفوس السامعين ما يضطرب في نفسي أنا من شعور بفداحة الخسارة؛ لأن عشرات منهم أخذوا يبكون في غير إخفاء، وإذن فهذه الجموع من غمار الناس، التي شهدت الجلسات الرسمية الصورية التي ووفق فيها على محاكمات أريقت فيها الدماء، وعلى دستور وهمي، أقول: إن تلك الجموع من غمار الناس التي شهدت تلك الجلسات في عبوس وتجهم، لم تكن تخلو من شعور شريف، وإذن فالينابيع الأولى التي كانت معينا تدفق منه الشعور الروسي لم تكن قد نضبت بعد.
ونشرت الجرائد رثاء طويلا ذكرت فيه مناقب الوزير الفقيد، ووقعه ستالين ومعه تسعة عشر آخرون من علية القادة، وعينت الهيئة السياسية العليا لجنة من سبعة أعضاء كلهم من رجال الصناعة ورجال الحكومة الممتازين لينظموا جنازة رسمية، وشهد أربعة من كبار الأطباء بأن موت الفقيد يرجع إلى «شلل في القلب»، ولقد رسخت في ذهني هذه الأرقام لما تنطوي عليه من إشارة إلى ما ساد ذلك العصر من مر الحوادث؛ ذلك لأنه قبل أن ينقضي عام واحد، لم يكن قد بقي من العشرين الذين وقعوا الرثاء في الصحف متمتعا بحياته أو بحريته إلا تسعة، وأما الآخرون فقد قضي على حياتهم رميا بالرصاص، أو أزهقوا أرواحهم بأيديهم، أو زج بهم في السجون حيث ينحدرون إلى الفناء رويدا، وكذلك لم يبق حيا أو طليقا إلا رجلان من السبعة الأعضاء الذين طلب إليهم إعداد الجنازة، وأما الباقون فثلاثة منهم أعدموا، وانتحر رابع ودفن الخامس حيا في إحدى مناطق الأشغال الشاقة، وكذلك لم يبق من الأطباء الأربعة إلا واحد أخذ ينفق أيامه في فزع لا ينقضي مما عساه أن يصيبه في حركة التطهير.
لماذا لزمت شهادة الأطباء بما فيها من تفصيل عن موت الوزير؟ لأن الشعب الروسي - وأعضاء الحزب بصفة خاصة - لم يعودوا يصدقون أن أصحاب المناصب العليا في الحكومة يموتون ميتات طبيعية ، إذ كان من أثر الحوادث الغريبة التي وقعت أن أخذ كثير من الناس ينظرون نظرة المرتاب لما يجري من أمور، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد موت زوجة ستالين قبل ذلك ببضع سنوات، إذ كانت لا تزال شابة صغيرة، وهي «نادزدا أللويفا».
فلقد بذلت مجهودات ضخمة إذ ذاك لإخفاء موتها المفاجئ، ومع ذلك فقد شاع في الناس كثير من الحقائق التي تثير المشاعر، أو هي على الأقل شاعت في الدوائر العليا من رجال الحكم.
كانت «أللويفا» ابنة رجل من رجال الثورة فيما قبل عام 1917م، ويظهر أنها قد ورثت عن أبيها بعض ميوله الإنسانية التي ذهب زمانها والتي تقشعر من الأعمال الإرهابية التي تنزل بالناس على نطاق واسع، فلم تحتمل الحركة الوحشية التي أدى إليها إنشاء المزارع الجماعية، لم تحتمل تلك الوحشية حتى من رجل هو والد طفليها، ولم تقصر التعبير عن جزعها على محيط الأسرة، بل ما فتئت تهاجم سياسة زوجها في اجتماعات الحزب التي كانت تنعقد في المعهد العلمي الذي كانت تتلقى فيه بعض الدروس في الهندسة الصناعية.
إن مجرد الإشارة إلى هذه الحقائق كان وحده كفيلا أن يلقي بالمذنب إلى أعماق السجون، ومع ذلك فقد أخذت تتقطر أنباؤها في المحيط الأعلى من أصحاب السلطان، حيث الفضائح والدسائس والحوادث المثيرة تملأ الجو بمثل ما كانت تملؤه أيام بلاط «رومانوف» الغابرة، فلما أعلن عن موت «أللويفا» إبان ثورتها التي قامت بها وحدها كان الشك الوحيد الذي اختلج في الرءوس هو هل قتلت نفسها بيدها أو دس لها السم بإشارة من ستالين.
لهذا أخذت الشكوك حول موت «أورزنكدز» تشيع في الناس على الرغم من بيان الأطباء الأربعة ، ومن المصادفات أني أعلم الصدق فيما يتصل ببعض ما أحاط بالأمر من ظروف، لكن الوقت لم يحن بعد للكشف عن مصادر علمي؛ لأن إعلان الأسماء معناه الفتك بأصحابها والقضاء على حياتهم، لكن لما كانت الأعوام الأخيرة من حياة هذا الوزير الفقيد مرتبطة بحياتي ارتباطا وثيقا، فإني أشعر أن من واجبي أن أسجل هنا في إيجاز بعض الحقائق.
لبث «أورزنكدز» أمدا طويلا يعاني من أزمة صدرية حادة ومن عطب في الكلية اليمنى، ولطالما جعل من أمراضه موضوعا لفكاهته، وحدث لي أكثر من مرة أن رأيته وقد أنهك نفسه بالعمل إنهاكا أسقطه من الإعياء بعد يوم مليء بالمجهود المتصل رغم ما يحسه من ألم شديد، ولما بدأت حركة التطهير الأعظم سنة 1936م تكتسح بموجتها ألوفا من أصدقائه الأقربين وزملائه في الحزب وفي الصناعات الثقيلة، رفع احتجاجه لستالين وأثار العواصف الحامية في اجتماعات الهيئة السياسية العليا، وقاتل رجال القسم السياسي قتال النمر فساءت صحته، ثم أعقبت ذلك صدمة القبض على «بياتاكوف» أقرب زملائه إلى نفسه، فأرقدته مريضا لا يرجى شفاؤه.
كان صديق من أصدقائي في مكتب الوزير لما جاءه رسول يحمل نبأ القبض على مهندس ممتاز كان رئيسا لإحدى الجماعات الصناعية الكبرى التي تقع تحت إشرافه، فاحمر وجه الوزير من الغضب وانتفخت عيناه وأخذ يرغي ويزبد بمقدار ما يبيح لنفسه رجل عاطفي من جورجيا أن يرغي وأن يزبد، وكان «ياجودا» رئيس القسم السياسي وأهم عامل في تنظيم حركة التطهير الأولى وما جرى فيها من محاكمات قد أعدم قبل ذاك، وحل محله «يزوف» في رياسة محاكم التفتيش السوفيتية، وهو رجل ممقوت كريه، فتلفن «أورزنكدز» إلى «يزوف» وأرسل لنفسه العنان في حديثه معه مطالبا بمعرفة السبب الذي دعا إلى القبض على المهندس دون أن يستأذن في أمره.
وسمع صديقي الوزير وهو يصيح قائلا: «كيف استبحت لنفسك أيها القذر الحقير أن تفعل ما فعلته؟ إني أطالبك بإرسال وثائق هذه القضية، أرسلها كلها بغير إبطاء!»
ثم تلفن إلى ستالين بالخط المباشر الذي يربط رجال القيادة في تلك الحكومة الدكتاتورية بعضهم ببعض، وعندئذ كانت يداه ترتعشان وعيناه محمرتين، وأخذ يضغط بيده ذلك الموضع من ظهره الذي جعل يحس فيه وجع الكلية المعطوبة. - «كوبا! لماذا تأذن لرجال الشرطة السياسية أن تقبض على رجالي دون أن أحيط بالأمر علما؟»
هكذا سمع صديقي الوزير يقول في صوت عال في حديثه التليفوني إلى ستالين، و«كوبا» هو الاسم الخاص الذي ينادى به ستالين من خلصائه.
وساد الصمت مدة طويلة كان ستالين يتكلم خلالها من الطرف الآخر، ثم قاطعه «أورزنكدز» قائلا: «إني أطالبكم بوقف هذا التحكم، فأنا ما زلت عضوا في الهيئة السياسية العليا! كوبا! إنني سأثيرها حربا شعواء حتى ولو أدى ذلك إلى موتي!»
وأنزل «أورزنكدز» السماعة بضربة قوية، وجلس إلى مكتبه في حالة من اضطراب الغضب الذي لا يجدي.
أمثال هذه المواقف كانت تحدث كل يوم حتى امتصت من ذلك الرجل عصارة حياته، ولقد كان هذه المرة عند تهديده فأثار الفضائح في اجتماع الهيئة السياسية العليا، وكان «كرسيور» و«رودزتاك» و«شوبار» و«أنتيبوف» يناصرونه عادة، ولقد ألقي القبض على أربعتهم واختفوا عن الأنظار خلال أيام التطهير، ثم ما هو إلا أن أعجز المرض «أورزنكدز» عن حضور الجلسات، لكنه لبث من غرفة مرضه يبعث بالرسائل التليفونية الثائرة بسورة الغضب التي ما انفك يطالب بها أن ترد الحرية أو الحياة لرجاله الذين كانوا يعملون تحت إشرافه وكانوا منه موضع ثقته.
لم يسمح لزوجة «أورزنكدز» - واسمها «زنيدا» - أن تزوره إبان مرضه الأخير، وقد كان يضمر لها أعمق الحب، فرجال الشرطة السياسية الذين تظاهروا بحمايته، كانوا في الحقيقة يحولون بين أصدقائه وبينه وهو في سرير المرض، ولم يؤذن لأحد بزيارته إلا ل «ميكويان» و«فوروشيلوف» وكلاهما عضو في الهيئة السياسية العليا، ولقد حاولا عدة مرات أن يحملاه على مهادنة ستالين بأن يعترف له بضرورة التطهير الأعظم، لكن هذه الزيارات كانت دائما تنتهي بمعارك حامية.
ولقد كان من العلة بحيث تستحيل عليه الحركة، إلا أن مرضه مع ذلك لم يبلغ به حافة الموت، فلم يكن ثمة ما يمنع أن يظل مقعدا عدة أعوام، وأخذ وهو في سريره يملي الرسائل للجنة المركزية والهيئة السياسية العليا يتهم فيها ستالين ويطالب بعقد جمعية عمومية للجنة المركزية للنظر في حالة البلاد وإيقاف هذا التيار الجارف من حوادث القتل والتخريب، فكان يملي رسائله تلك بعاطفة وإيمان، ولو سلمت تلك الرسائل من التلف لوجد مؤرخو العصور المقبلة اتهاما مفصلا للثورة المضادة التي أثارها ستالين، نطق به الرجل الذي قام بتنفيذ مشروعات السنوات الخمس في أول دور لها.
فما انقضى بعد ذلك يومان حتى مات «أورزنكدز» على غير توقع من أسرته ومن الأطباء الذين يشرفون عليه، وهناك من الناس من يرجح أنه جرع السم في لحظة من لحظات يأسه، ويعتقد آخرون أن دكتور «لفين» هو الذي أماته مسموما، ولفين هو الطبيب الذي اعترف فيما بعد بأنه دس السم ل «مكسيم جوركي»، فليس ثمة من سبيل إلى الشك - فيما أعلم - أنه مات غيلة، وأن نهايته لم تكن «طبيعية».
فلو صدق هذا الزعم، لكانت جنازته الحافلة، ونشر رثائه في طول البلاد وعرضها لذكر مناقبه، جزءا من مهزلة يمجها الذوق السليم، ونشرت صور للجنازة وقفت فيها أرملة الفقيد إلى جانب ستالين، وهي التي حرمت رؤية زوجها إبان مرضه، ثم أخذوا خلال الأعوام القليلة التالية يدفعون إلى النسيان اسم «أورزنكدز» شيئا فشيئا، حتى جاء وقت لا يكاد يذكره فيه ذاكر، وجعلوا يغيرون أسماء المدن والشوارع والمصانع التي كانت تحمل اسمه، حتى إن صغار الشباب الشيوعي اليوم يوشك ألا يعرف من هو «أورزنكدز».
وخلف «أورزنكدز» في رياسة الصناعة «فاليرين مزلاوك»، ولشد ما دهشت حين أرسل إلي رسالة خاصة يطلبني إلى موسكو، فالظاهر أن «مزلاوك» كان يجمع حوله من أمكنه أن يجمعهم من المهندسين الفنيين الذين أنقص التطهير عددهم بشكل ظاهر، وذلك حين وكل إليه أن يمسك بزمام الصناعة الثقيلة في البلاد.
كان قوي البنية وسيم الطلعة، عاش بعض وقته خارج البلاد، فكان له مظهر الرجل الأوروبي وأخلاقه على السواء، وعلى الرغم من قدرته في الإدارة، لم يكن له من القوة أو النفوذ السياسي إلا قليل، فلعل ستالين أراد ألا يقترف الخطأ مرة أخرى بأن يجعل رئيسا آخر «حر الرأي» في منصب رفيع.
قال: «إني أفكر في تعيينك رئيسا لمصنع من أكبر مصانعنا يا رفيقي «كرافتشنكو»؛ فصحيفتك في «نيقوبول» تبرر ذلك، فماذا ترى؟» - «اسمح لي أن أسألك يا رفيقي الرئيس من ذا الذي رشحني لهذا؟» - «ولماذا تريد أن تعرف ذلك؟» - «لأني محوط بكثير من المتاعب السياسية في نيقوبول، فلقد وجهت إلي تهمة الإتلاف المتعمد وغيرها من الذنوب، فلعله من المفيد أن تعلم عني هذا قبل أن ترقيني إلى منصب أهم من منصبي الحالي.»
وأخبرته في شيء من التفصيل عما صادفته حديثا من متاعب.
فهز «مزلاوك» كتفيه وقال: «هذا غريب، غريب أنهم لم يخبروني بذلك، إني أعلم أن «أورزنكدز» كان لك شديد التقدير، وقد تكون مصيبا في رأيك، فلنترك الأمر كما هو الآن مؤقتا.»
ولقد حدث فيما بعد ما جعلني أحمد نجمي السعيد الذي ولدت تحت سمائه، فما هو إلا أن ألقي القبض على «مزلاوك» فاختفى كأنما ابتلعته أمنا الأرض في جوفها، ثم سرعان ما أعقبه أخوه «إيفان»، فلو أنه نصبني في مكان هام لدفعت بغير شك ثمن هذا الفضل غاليا.
وفي الأيام الأولى من مارس ألقى ستالين خطابا ضافيا في اجتماع اللجنة المركزية، ونشر الخطاب كاملا، ثم أخذ مأجورو الحزب - كما هي العادة - يلوكون كلماته في اجتماعات حزبية وشعبية لا نهاية لعددها، وجعلت الصحف والإذاعة تقتبس من الخطاب نتفا تذيعها كل ساعة بلهجة الإعجاب، لكن هذه التغطية كلها لم تستطع أن تخفي عن الأنظار لب الخطاب، فلب رسالته هو أن التطهير - على بشاعة ما ظهر منه - لم يكن حتى الآن إلا بداية، وأن البلاء منه ما هو أشد وأفظع.
قال ستالين: «إن الإتلاف والتهاون قد شملا، أو كادا يشملان، كل نواحي العمل في بلادنا على اختلاف في الدرجة هنا وهناك.» ثم أخذ يؤنب الحزب قائلا: «إنه قد نسي أن سلطان السوفيت لم يغز من العالم إلا سدسه، وأن خمسة أسداسه لا تزال في أيدي الرأسماليين ... وطالما بقيت بلادنا مطوقة بالرأسمالية، فلن ينقطع من بيننا المتلفون والمتهاونون والجواسيس ...»
فكاد هذا الخطاب ألا يخفي ما وراءه من عزم، وهو إعلان الحرب على كل منظمات البلاد، وعلى كل من حدثته النفس اليوم أو غدا أن يعارض كلمته المطلقة، فالجد في العمل، بل النبوغ فيه لا يجوز أن يقبلا دفاعا - هكذا أنذر ستالين في خطابه - عن متهم أعوزه الإيمان، «إن المتلف الحقيقي لا بد حينا بعد حين أن يبدي علائم النجاح في عمله؛ لأن مثل هذا النجاح هو السبيل الوحيدة التي يستطيع بها أن يتابع إتلافه وراء ستار ... لا بد لنا أن نجتث هؤلاء الناس من جذورهم، وأن نسحقهم سحقا بغير إبطاء ويغير مداورة؛ لأنهم أعداء الطبقة العاملة، إنهم خائنون للوطن.»
فكان هذا التلميح بمثابة الإشارة لغلاظ القلوب ومشتعلي الصدور بالحماسة في كل مجتمع من أهل البلاد أن يبدءوا نشاطهم، وبهذا شق الطريق أمام القسوة لتبدأ سيرها، وأحسسنا بنتائج ذلك فورا في جماعتنا، فبعد أن أذاع ستالين خطابه بأيام عدة ألقي القبض على مدير مصنع كبير للآلات الزراعية، كما قبض على كل إخوانه، وقضي على الكثرة الغالبة من رجال الإدارة والهندسة في مناجم المنجنيز في نيقوبول، وفي كل مشروع آخر من مشروعات تلك المنطقة.
ولما ذهبت إلى المصنع ذات صباح وجدت «براتشكو» في انتظاري وقد أخذ منه الهلع.
قال في صوت حزين: «فكتور أندريفتش»، لقد قبض على أمين سر اللجنة المحلية الرفيق «فيلين» أثناء الليل.»
وخلال ذلك اليوم نفسه، ناداني الرفيق «لوس» ولم يكد يستطيع أن يخفي رنة النصر في حديثه.
قال لي مغتبطا: «لا بد لنا من عرض قضيتك من جديد أمام اللجنة المحلية، فأنت تعلم أنك نجوت في المرة الماضية بمعونة «فيلين»، وإنه لمن أعداء الشعب، ولكنك الآن تحت رعايتنا فلا تخف!»
وإذن فمحاكمتي التي حسبتها قد انتهت، لم تكن إلا بادئة.
لم يمض وقت طويل حتى دعيت إلى «الحديث القصير» الذي وعدني إياه «جرشجورن»، فلما وصلت بناء القسم السياسي في الساعة الحادية عشرة مساء كما أمرت، لم يكن هو قد جاء بعد، فانتظرته في غرفة الاستقبال التي ازدحمت بالزائرين، يضطرب رأسي بشتى الآراء الهوجاء، فأي فخ شيطاني قد نصبوه لإيقاعي يا ترى؟ أيكتب لي أن أغادر هذه الدار التي امتلأت بالمفازع؟
اقتربت الساعة من الواحدة حين جاء «جرشجورن» آخر الأمر بصدغيه السمينين وقد حلقهما و«بدرهما» لتوه، وبرأسه الأصلع المستدير في احديداب يلمع بالضوء، جاء منتعشا نشيطا مستعدا «للعمل»، فتبعته إلى مكتبه الفسيح الخالي من الأثاث، الذي كنت قد ألفته لكثرة ما اختلفت إليه، لم يكن في هذا المكتب من أثاث سوى نضد من خشب الكابلي المصقول وقليل من مقاعد وخزانة ضخمة وأريكة، فكان عري المكان من الأثاث ونظافته يوحيان إليك - على نحو ما - أنك في حجرة طبيب جراح.
بدأ الحديث رئيس القسم الاقتصادي وكان يتكلف المرح فقال: «استمع إلي يا «كرافتشنكو»، أنا أثق فيك وأود لو تفاهمنا في غير عناء، لقد استطعت حتى الآن أن تخلص بنفسك عند الحزب من مشكلتك بتلك القصاصات السخيفة التي قدمتها، لكن هذا الخلط والتهويش لا يجديان فتيلا في القسم السياسي، فسوف نغوص في الأمر حتى نصل إلى أعماقه فنعلم كل ما يتعلق بمسألة الآلات المخزونة ومبدأ أبيك المنشفي وعلاقاتك بأفراد نعرف عنهم أنهم أعداء الشعب.»
في هذه الليلة الأولى التي أعقبتها ليال كثيرة، استعرض «جرشجورن» كثيرا من النقط التي كانت قد استعرضت في المحاكمة العلنية، وأشار في حديثه إلى ملف أوراق مليء بالتقارير التي كتبها عني وكلاؤه الذين يحيطون بي أينما سرت، فأعاد ذكر حوادث كانت قد وقعت في المصنع، كما أعاد ذكر حالات لم نكن فيها موفقين في إنتاجنا بحيث نسد ما طلب إلينا، وكان كلما ذكر عني شيئا، وخصوصا فيما يمس علاقاتي ببعض أفراد ألقي عليهم القبض أو قضي في أمرهم على نحو ما، أقول: إنه كان كلما ذكر عني شيئا يحاول أن يشتم منه رائحة اتهامي بمحاولة الإتلاف، ثم يحاول في دهاء أن يوقعني في متناقضات واعترافات.
ودام استجوابي على هذا النحو حتى الساعة الرابعة صباحا، وكان معظم ما دار حوله الحديث شئون أفراد غيري ممن يشتغلون في صناعة التعدين، فلقد أراد القسم السياسي أن يعلم مني شيئا مما يصح أن يقوي وجهة نظره في اتهام هؤلاء الموظفين الذين كانوا تحت قبضتهم، كما أنه بغير شك كان لا يدخر وسعا في جمع معلومات وآراء عني تمكنه من تأييد اتهامي.
ولو كان أي من هؤلاء الناس الذين ساء حظهم قد جعل الإتلاف همه حقيقة، لرأيت منه ما يدل على ذلك؛ لأن ما رسموه من خطط وما أنتجوه وما أنجزوه وما اقترفوه من خطأ، كل ذلك كان منعكسا في مصنعي، لكني لم أشهد قط علامة واحدة من علامات الإتلاف المتعمد، نعم كان هناك دلائل كثيرة تنم عن عجز في القدرة واضطراب وتعطيل، لكن هذه كلها لم تكن سوى أمراض لا بد منها لصناعة وليدة كتلك الأمراض التي يتعرض لها الأطفال بحكم تكوين أجسادهم، ولم يكن في وسعي مهما بذلت من جهد أن ألوي الحقائق بحيث تظهر في صورة البراهين التي تدل على تخريب مقصود.
وضاق «جرشجورن» صدرا لما رآه من «عنادي»، وكنا كلما تقدمت بنا ساعات الليل، ازداد هو قلقا وازداد سخطا، وتبدل الأدب الظاهري الذي بدأ به في أول الليل وقاحة وإهانة صريحتين تدريجا، عطرهما بتوابل من الشتائم الروسية الخالصة، إذ خيل إليه أنه من قبيل الإهانة الشخصية له أن تبلغ بي الجرأة حدا أقاوم معه كل ما بثه في حديثه من تلميحات، وأفسد له كل ما بناه لنفسه من نظريات غريبة، لا بل إنه تصرف على نحو أراد به أن يبين أنه هو الضحية، وأنني أستغل طيبة قلبه بحيث أضطره اضطرارا إلى هذا الموقف الذي جعله يتندى بالعرق وينطق بالشتائم بسبب عنادي في رفض «التعاون معه».
تركت بناء القسم السياسي عند فلق صبح جديد، وكان سطح الماء في نهر دنيبر رخيا ناعما بموجاته الصغيرة كأنه الدمقس المتثني، فلماذا لا أغوص في جوفه فأتزمل إلى الأبد بدثار من النسيان؟ فقد كان يستحيل علي أن أغادر بناء القسم السياسي الكئيب مرة واحدة دون أن أحس في نفسي شوقا إلى أنعم الموت، «لماذا لا يدعونني وشأني؟ لست أريد إلا العمل وإلا أن أعطي خير ما أستطيع، لماذا لا يدعونني وشأني؟» هكذا كانت خواطري تترنح كما كان جسدي، فلم تستطع أن تطرد في خط مستقيم من التفكير، ولا إخال من رآني من الناس - وهم عدة - إذ كنت ماشيا في الطريق ذلك الصباح البارد ذا الضباب الكثيف، لا إخال هؤلاء إلا موقنين بأنني كنت إذ ذاك مخمورا.
ذهبت إلى عملي في المصنع ذلك النهار بعد نعاس قليل، فذهبت في غفوة النعسان، تكاد جبهتي تنشق عند جانبيها من الألم، وجعلت أرقب قدوم الليل لأجد فيه راحتي من عنائي، لكن العصر لم يتقدم بنا قليلا حتى دق التليفون من مكتب «جرشجورن»، وطلبت للذهاب مرة أخرى في الساعة الحادية عشرة لنستأنف «حديثنا» القصير، وذهبت هناك كما أمرت، ذهبت متعبا مضطرب الأعصاب ممرور النفس، ودام استجوابي على هذا النحو شهرا كاملا لم ينقطع إلا فترة قصيرة، فكان ذلك بداية محنة أصابتني من عدم النوم، وهي محنة يستحيل على إنسان أن يتصور مدى فداحتها إلا إذا أصيب بمثلها في جسده وأعصابه.
وعوت ذئاب نيقوبول تنشد دمي - وما ذئاب نيقوبول إلا «دوروجان» و«جرشجورن» و«لوس» ومن إلى هؤلاء - واشتد بهم القلق يريدون تمزيقي إربا إربا، فكنت تكاد ترى بعينيك لعابهم وهو يسيل من جوانب أفواههم اشتياقا للوليمة المرتقبة، لماذا؟ لماذا؟ ماذا يحرك نفوسهم ضدي ولم أسئ إلى أشخاصهم على أي وجه من الوجوه؟
كان لهذه الأسئلة ردود منطقية، فما داموا قد قضوا على عشرات من الناس في مصنعنا وغيره ممن كانت مناشطهم تتدخل في مناشطي تدخلا وثيقا، فالاطراد المنطقي يقتضي المطالبة بحياتي، فما دمت حرا طليقا فستظل صورة التطهير في المنطقة الخاضعة لإشرافهم شائهة؛ لأن «غمار الناس» سيعتورهم شك شديد في صدق ما وجه إلى هؤلاء الضحايا من اتهام، وسيزدهر هذا الشك في نفوسهم ولن يهدأ إلا إذا سدت هذه الثغرة الباقية في البناء الذي ركبوا أجزاءه بعضها إلى بعض، وفضلا عن ذلك فإنهم قد بدءوا قضيتي وأعلنوا عنها، وإذن فمن سوء السياسة أن يجعلوا لي طريقا أفلت منه؛ لأن ذلك مما «يزعزع نفوذهم» على حد التعبير السوفيتي الذي كان شائعا.
بيد أن الردود المنطقية تقف من الأمر عند ظاهره ولا تغوص إلى الأعماق لتجد الأسباب الحقيقية لهذا الاتهام المقصود في الحمأة الدنيئة الوطيئة من فطرة الإنسان التي تنحرف به عن جادة المنطق، فلقد انقلب الأمر إلى صيد يشوق النفس، ولن يطيب الصائد نفسا حتى تقع الفريسة بين يديه، ولا شك أنهم بدءوا بغير أن يكون في صدورهم عاطفة معينة إزائي، كائنة ما كانت، لكنهم لما أخذتهم حرارة التعقب لفريستهم، وفي اللحظات التي كانوا يصابون في صيدهم بالفشل، أخذت تتولد في نفوسهم كراهيتي، لقد أرادوا أن يكلل سعيهم بالنصر، بحيث يضيفون جلدي إلى سواه مما جمعوه من علائم النصر في كومة تسيل بالدماء.
ويظهر أن الصائدين أرادوا في الوقت نفسه أن يستمسكوا بقواعد الصيد على الأقل في الظاهر، وهي رغبة تدل أيضا على انحراف الفطرة البشرية، فإذا هم قبضوا علي ورموني بالرصاص في إحدى حجيراتهم الزلقة، ظهروا في أعين «نيقوبول» بمظهر يثير السخرية، ولقد أصبحت قضيتي من تلك القضايا التي لا بد فيها من صيد الفريسة علنا وعلى مرأى من الناس بحيث يعترف المجرم بجريمته فيسمع الجميع اعترافه.
لبثت عدة أسابيع لم يتح لي فيها أن أذوق للنوم طعما، ألاقي في غضونها من ألوان التعذيب والإهانة ما ألاقي في الجلسات السرية، وفي الوقت نفسه مضوا في إجراءاتهم العلنية في اتهامي، وأعادوا كل الخطوات التي اتخذوها حينما قضوا بفصلي أول مرة، كأنه شريط ملفوف يعودون إلى حله من جديد، فمن جديد ألفوا لجانا للتحقيق، ومن جديد أخذوا يجمعون الحزب للتداول وينشرون تجريحي في الصحف، ولقد جعلت أتلقى هذه الخطوات المتتابعة لا يؤرقني إلا شوق شديد للنوم والراحة، فأحيانا كنت أحس كأنما ملئ جسدي بالرصاص الثقيل الذي يقعدني عن الحركة بثقله الجسيم، وفجأة أحس به خفيفا كالريشة ويخيل إلي أنه وشيك السبح في الهواء، وأخذت موجات من الحرارة والبرودة تنتابني على التوالي، وأضافوا إلى قائمة اتهاماتي القديمة اتهامات جديدة، وسعوا في تهمة الإتلاف وعمموها إذ وجدوا أن حصرها في أنواع معينة ييسر دفعها، وكذلك غيروا نسبة اهتمامهم بالتهم المختلفة في القائمة الجديدة عما كانت عليه أولا ، فمروا سراعا على التهم الخاصة بأفعالي الشخصية، لكنهم أطالوا الوقوف عند تهاوني مع رجال ثبتت عليهم بالفعل تهمة الإتلاف، وإذا لم يكن ذلك تهاونا مني، فهو على الأقل تسامح غادر ونقص في يقظتي، وبالطبع كلما ازدادت التهم تعميما بغير تخصيص، ازداد دفعها عسرا.
فلما طال أمد تعقبي على هذا النحو، أنسيت بالفعل سبب هذا التعقب، ولم أعد أشعر بشيء أبدا سوى ما بي من تعب وبؤس ودوار وحيرة، ودفعني اليأس إلى اعتزام البحث عن العدالة في مكان آخر، لعلي بهذا على الأقل أغير مجرى الاتهام الرتيب الممل، أو لعلي على الأقل أنجو ولو إلى أمد قصير من هذه الجلسات الليلية مع «جرشجورن»؛ فعرضت خطتي على المدير براتشكو.
قلت: «لقد أنهكني التعب إنهاكا مميتا يا «بيوتر بتروفتش»، إن رأسي يدور وأعصابي تكاد تتمزق، فلا أنا أستطيع عملا ولا طعاما ولا نوما، ولا بد أن يكون ثمة مكان آخر أجد فيه أثرا باقيا من الصدق والعدل الخالص، وفي نيتي أن أحاول البحث عنه، فسألجأ إلى اللجنة الإقليمية، وإلى اللجنة المركزية العليا، وإلى أفراد معينين من الرفقاء، وسأقص مأساتي على كل من يعيرني أذنا مصغية، فقد أجد إنسانا واحدا في مكان ما يعينني بنصحه ومساعدته، فأنا رغم كل اتهاماتهم لي لم أقترف ذنبا، فلماذا يتعقبونني كما يتعقبون مجرما؟ لماذا يدفعون بي خلال هذه المفازع مرة ثانية فثالثة إذا كانت براءتي قد ثبتت في المرة الأولى؟ نعم، إني مصمم على البحث عن جواب لهذه الأسئلة.»
أخذ الهم «براتشكو» لما علمه من موقفي ومن نيتي، فلم يكن لديه أدنى علم بهذا التحقيق الذي يجري معي كل مساء، فلقد أخذوا علي تعهدا بالكتمان لقاء عقاب شديد، لكنه أحس مما قلته له أن ثمة ما يبرر يأسي هذا أكثر من هذه الأسباب الظاهرة.
فأكد لي قائلا: «إن هذا الذي تنشده سخيف ولا يجديك نفعا، فضلا عن أني لا أكاد أرى شيئا من الحكمة في سفرك الآن من نيقوبول؛ لأنهم سيستغلون غيابك استغلالا يفيدهم، ولكني أراك من ناحية أخرى متعبا إلى حد لا يحتمل، وربما كان الأفضل أن تخرج من هذا البلد بعض حين، فإذا أردت ذلك فسأدبر لك عملا تكلف بالقيام به في مكان ما.»
وهكذا بدأت رحلتي باحثا عن العدالة بحثا تحطم له فؤادي، فقد كان لزاما علي أن أقابل عشرات من الأفراد والهيئات، ولم يكن أحد من هؤلاء يعرف مكان إقامتي.
بدأت بمسقط رأسي في «دنيبروبتروفسك» حيث كان أحد زملائي في الدراسة أمينا ثانيا للجنة الإقليمية، ومعنى ذلك أنه رجل له وزنه السياسي وهو «سوشنيكوف»، وكان من بين مرءوسيه زميلان لي أيام معهد الهندسة: أحدهما يدعى «سوفوروف» الذي كان أيام الدراسة فقيرا إلى حد يستدر الإشفاق، ولطالما أخذته معي إلى دارنا لتطعمه أمي وتصلح له ثيابه المهلهلة، وأما الآخر فهو «بولاسفتش» الذي لم تهيئه الطبيعة للدراسة، فكنت مع غيري من الأصدقاء أجلس معه الساعات لأفهمه ما صعب عليه من الدروس.
كان هؤلاء الثلاثة جميعا يعملون في بناء الحزب الذي قصدت إليه، يفرغون حكمتهم إلى «السوقة»، إذن فقد يكون من المفيد أن آخذ إقرارات من مثل هذا الثالوث الذي يحتل مثل هذه المكانة العالية، حيث يشهدون لي باستقامة سيرتي في الحزب.
كان «سوشنيكوف» قد سمن وترهل في الفترة التي غبت فيها عنه، وجدته جالسا إلى مكتب ضخم في حجرة فسيحة مؤثثة بفاخر الأثاث ومفروشة بوثير البسط، وعلق فوق رأسه صورة باسمة للزعيم، ولبث دقيقة كاملة لا يرفع إلي عينيه مما كانتا تنظران إليه من أوراق أمامه، وهي علامة معهودة مألوفة لمن أراد من الموظفين أن يثبت أهميته وخطر مكانته، وأخيرا نظر إلي وقال في برود: «أهو أنت يا رفيق كرافتشنكو، ماذا تريدني أن أصنع لكم؟» واستعمل كلمة «لكم» بدل الكلمة المألوفة «لك». - «منذ متى قد أسقطت من حديثك كلمة «لك» إذ تحدث زملاءك في المعهد؟ بالله نبئني لماذا تتحدث على هذا النحو كأنك من السادة الأعلين؟»
ارتبك «سوشنيكوف» واعتذر بكثرة العمل وفداحة التبعات، فقررت أن أدخل في الموضوع بغير مقدمات.
قلت: «إنني في إشكال.» - «هكذا سمعت ...» - «قل لي في صراحة: هل شهدت مني علامة من علامات الإتلاف والتخريب أيام أن كنا معا في المعهد؟» - «كلا بالطبع، ما هذا الهراء؟» - «إذن فأحب أن تقرر لي هذا في إقرار مكتوب للجنة نيقوبول، توقعه أنت و«سوفوروف» و«يولاسفتش».
فتلوى في جلسته وعدل من أوضاع جسده السمين، ومسح ما تندى به من عرق جديد وحاول أن يغير الموضوع، وأخيرا دق الجرس يطلب زميليه الآخرين، والظاهر أنهما كذلك قد سمعا عن متاعبي، فكانت تحيتهما لي على شيء من الود لكنها تحية الحذر، الحذر الشديد، فاستمددت من حرجهم لونا من المتعة المرة، وبعد مداورات طرأت لهم فكرة أخرى وهي أنه لا بد لي من الصعود إلى طبقات أعلى منهم فألجأ إلى معونتها، وأنه ليس مما يليق برجال متواضعين في مثل منزلتهم أن يتدخلوا في أمور عظيمة تمس حياة الأمة وسلامتها. - «أشكر لكم نصيحتكم، وأعتقد أنكم واثقون مما أنتم عليه الآن من جبن وخسة.» قلت لهم ذلك وخرجت بغير توديع.
ولا شك أن هذا الثالوث قد عرف كيف يصون حياته من الخطر، إذ حدث فيما بعد أن عين «سوشنيكوف» رئيسا للقسم السياسي في إقليم «إتشليابنسك» وعين «يولاسفتش» أمين لجنة محلية في أوكرانيا الغربية، كما رقي «سوفوروف» إلى منصب أعلى من منصبه.
وبينما كنت في البهو أبحث عن مكتب الأمين الجديد الرفيق «مارجولين» إذ سمعت اسمي ينادى. - «فكتور أندريفتش» أهلا يا رجل! كيف حالك؟ ما أجمل أن أراك مرة أخرى!»
فدرت ببصري وإذا المتكلم «إيفان زولكين» الذي زاملته في العمل في مصنع «بتروفسكي-لينين»، فكان مما سرني أن ألتقي بزميل من زملاء تلك الأعوام الماضية، حين كان الشباب وكانت بساطة الحياة، وقبل أن أصبح مهندسا وعاملا «مسئولا» ويخيل إلي أنه اغتبط حقيقة لرؤيتي.
سألني: «كيف دنياك يا فيتيا؟ لماذا أراك شاحب اللون أعجف الوجه؟ هل كانت بك علة أو ما إلى ذلك؟»
فابتسمت قائلا: «كانت بي علة بمعنى من معانيها، إذ مسني الوباء القومي. تهمة الإتلاف وما إليها.» - «أواه يا عزيزى «فيتيا» ما أبشع ما تقول! يا له من موقف تشمئز منه النفوس! على كل حال، مع السلامة، فلا بد لي من الإسراع لأني على موعد، فأرجوك قبول المعذرة.»
واندفع مسرعا حتى غاب عني، ولقد حدث لي أن التقيت به بعد ثلاثة أعوام كاملة في الكرملن، فلم أدهش لذلك لأن هذا اللقاء القصير في البهو في «دنيبروبتروفسك» لم يدع لي مجالا للشك في أن «إيفان زولكين» سيشق طريقه بعيدا في بلادنا المباركة، وآخر ما عرفته عنه هو أنه رئيس قسم هام في اللجنة المركزية العليا للحزب، ولعله لا زال يتولى هذا المنصب حتى اليوم.
كان الحراس في حللهم الرسمية وغير الرسمية يحرسون غرفة الاستقبال العظيمة التي يشغلها الأمين «مارجولين»، وكان هؤلاء الحراس يرقبون الناس في جيئتهم وذهابهم، ولقد سألوني قبل الدخول هل أحمل معي سلاحا، وأخذوا يصعدون أبصارهم المدربة ويصوبونها ليروا هل في جسدي انبعاج يدل على شيء خبيء يدعو إلى الريبة. إن الموظفين السوفيت تقوم عليهم حراسة قوية - على الأقل قبل أن يلقى عليهم القبض - فقتل هؤلاء الموظفين السوفيت احتكار للقسم السياسي، وهو احتكار لا يقبل فيه رجال هذا القسم منافسا.
وبينما كنت جالسا أنتظر في غرفة كانت فيما مضى غرفة الانتظار للقاء «هاتايفتش» تذكرت أن «هاتايفتش» كان هو الآخر محروسا بهذه العناية الكبيرة لما رأيته آخر مرة في اجتماع الحزب في «نيقوبول» فأين هو الآن؟ إني أعلم أنه حينئذ كان مقبوضا عليه، لكن ألا يزال حيا يا ترى؟ لقد كنت أعرف الكثرة الغالبة من موظفي مكتبه، لكني لم أر واحدا منهم بين موظفي المكتب الآن، فلا شك أنهم عانوا ما عاناه رئيسهم من قضاء.
لم أكن أعلم شيئا قط عمن خلف «هاتايفتش» في منصبه، ولم أكن قد رأيته قط من قبل، ومهما يكن من أمر فقد هيأت أعصابي لصد جديد بعد الذي لقيته من صدود، ولشد ما دهشت حين وجدت «مارجولين» يلقاني لقاء إنسان لإنسان، ولم يكفه أن يحسن الإصغاء إلى حديثي حتى نهايته، بل زاد على ذلك أن عبر لي عن عطفه صريحا.
قلت راجيا: «أريد معونتك يا رفيقي «مارجولين»، لماذا يعيدون النظر في قضيتي لا لسبب سوى أن «فيلين» قد ألقي عليه القبض؟ ما علاقتي به؟ لقد برئت أول مرة على أساس من وثائق.»
فأجابني «مارجولين» في صوت خفيض: «اصبر يا رفيقي، فما يحدث لك إذا ما فكرت فيه وجدته هينا، فنحن في مرحلة انتقال دقيقة من مراحل الثورة، وواجبنا أن نساعد الحزب لا أن نتوجه إليه بالنقد، ومع ذلك فسأرسل تعليمات خاصة بقضيتك للجنة المحلية.» - «أشكرك، وسأحفظ لك الجميل إذا ما كنت عند وعدك.» - «لا تشكرني يا رفيقي، فليس يعلم أحد منا أين يكون غدا.»
قال العبارة الأخيرة في ملاطفة تنم عن سخرية بالحوادث، لكني نظرت إلى عينيه ولم أجد فيهما أثرا من آثار الفكاهة، ولما عدت إلى «نيقوبول» وجدت أن «مارجولين» كان عند وعده وأنه أرسل رسالة يوصي بها أن يراعى في شأني العدل والإنصاف، لكني ما كدت أصل إلى «نيقوبول» حتى كان قد قبض عليه، وإذن فتدخله في قضيتي سيكون عقبة في سبيلي أمدا طويلا، وسيتخذونه «برهانا» آخر خطيرا على اتصالي الوثيق بأعداء الشعب!
فجعلت «خاركوف» مرحلة ثانية في سبيل بحثي عن العدالة، واعتمدت اعتمادا كبيرا على معونة «إيفانتشنكو» إذ كان أحد النفر القليل البارز الذي يتولى قيادة الصناعة في البلاد، وقد كان على قسوته وشدته وعدم تهاونه في المطالبة بجودة العمل وفي معاقبة الجهل والتراخي، رجلا مرهف الحس طيب القلب، وكنت أعرف فيه هذا الجانب، كما كنت أعرف أنه لن يتردد في مؤازرة مرءوسيه إذا ما كان الحق إلى جانبهم.
لكنني حين ذهبت إلى رياسة صناعة الأنابيب وجدت روح الفزع سائدة، وكان «إيفانتشنكو» قد دعي إلى موسكو في شأن عمل رسمي فيما زعموا، و«إيفانتشنكو» هذا هو بطل من أبطال الثورة، ظفر بكل ما يستطيع الكرملن أن يهبه للناس من أوسمة وأنواط، ولبث عاملا في الحكومة أعواما طوالا، فلما وصل إلى موسكو، رأى في استقباله شرذمة من رجال القسم السياسي خطفته خطفا إلى السجن، وإنما جعلوا قبضه في موسكو؛ لأنه كان مرموقا من أهل «نيقوبول» بأعين الاحترام الزائد، وفي نفس الوقت الذي أمسكوا به فيه، قبض على زملائه الرئيسيين في المكتب الرئيسي لصناعة الأنابيب: «شبتلي» و«ستربتوف» و«سيرنج» وغيرهم، وكلهم من غير رجال الحزب.
لم أجد من الصحبة التي أستطيع معها الكلام إلا عددا قليلا، أما معظم المناصب فقد احتلها ناس جدد تلمح الخوف في نظراتهم، ومع ذلك فقد قصصت قصتي على مهندس عطوف، أنصت إلي ثم هز رأسه مؤنبا: «اسمع يا «كرافتشنكو»، إنك تظن أنك في عناء! فهل جاءك نبأ الذي جرى ل «قنسطنطين تشبلي» أو لصاحبنا الكهل «سبرنج»؟»
كان «تشبلي» و«سبرنج» مهندسين ممتازين، ولقد قرأت مؤلفاتهما ودرستها، وكان اسماهما محاطين بالسحر في مسامع رجال الصناعة الناشئين من السوفيت، وها أنا ذا قد علمت أنباء القبض عليهما، كيف انتزعا انتزاعا من مخدعيهما، وكيف أساء إليهما رجال الشرطة في وقاحتهم، وقذفوا بهما قذفا بين حمولة بشرية حملتها العربات إلى السجون، فغادرت رياسة صناعة الأنابيب كما يخرج الإنسان من فناء المقبرة ... مقبرة لا تزال بعض الجثث تتحرك في أرجائها زاعمة لنفسها الحياة.
ولما كنت في طريقي إلى رياسة اللجنة الإقليمية، مررت ببناء كأنه الخلية يموج بالطلاب الذين اتخذوه مسكنا، والذي كنت فيه ذات يوم شخصية يشار إليها بالبنان، فقررت أن أمر بداخله مرورا عابرا، فجست خلال قيعانه ونظرت إلى الغرفة التي سكنت فيها أيام الطلب، فلم أجد من النظافة والنظام اللذين كنت أعمل عليهما وأجاهد في سبيلهما إلا قليلا. كان المكان لا يزال على عهدي به منذ سبع سنوات، يموج بالطلاب الذين لا يختلفون كثيرا عما كانوا عليه في أيامنا، لم يحسن غذاؤهم وكساؤهم، لكنهم كانوا مع ذلك - بنين وبنات - مشغوفين بالعمل تلمع أعينهم ببريق الإيمان والطموح.
وذكرت «جوليا» لأول مرة منذ أعوام طوال، «جوليا» الفاتنة الذكية التي كانت فيما مضى حبيبة فؤادي، أين هي الآن؟ أهي حية بين الأحياء؟ أهي تذكر من حين إلى حين ذلك الشاب الشيوعي الذي عرفته في مسكن الطلاب ؟
ولما اقتربت من رياسة اللجنة الإقليمية سمعت صوتا ألفت رنينه. - «فيتيا! فيتيا! قف يا رجل، إلى أين أنت ذاهب؟» وكان المتحدث هو «سينيا فولجن»، «سينيا» بعينه الذي أخذ منذ أعوام كثيرة مضت، يجادل أبي بعد زيارة «راكفسكي» للمصنع، والذي كان يشاركني في تحرير جريدة المصنع، والذي وجهت إليه اللوم مرة في الجريدة لإقامته حفلا للشراب في أماكن السكن. - ««سينيا»! ما أشد غبطتي أن أراك بعد هذا الزمن الطويل!»
فألقى ذراعيه حول عنقي وقال: «إني لشديد الغبطة يا فيتيا، يا صديقي العزيز، دعني أقبلك!» - «حذار يا «سينيا» فقد تأسف على هذه القبلة، فأنا الآن ذو عدوى، إذ سارت أموري في طريق المتاعب ...» - «ماذا تقول يا أخي؟! لا بد أن تقص علي قصتك بكل تفصيل، فلست من هؤلاء الذين يفزعون فيهربون، اسمع! أتذكر ماذا كان يسميني أبوك؟ «كتكوت الربيع» الذي لا يستطيع أن يعلم دجاجة عجوزا مثله كيف تجري السياسة! ووالله لقد أصاب!»
جلسنا على دكة في متنزه كان يسمى «متنزه بوستشف» حتى أسابيع قليلة مضت، أما الآن ف «بوستشف» مقبوض عليه؛ ولهذا بات المتنزه بغير اسم. كان «سينيا» مرتديا حلة عسكرية، وفي يده حقيبة أوراق يدل منظرها على ارتفاع قدر صاحبها، وقد كان «سينيا» عندئذ قد شاب في عارضيه، ولم تكن الطهم الرسمية لتلائمه؛ إذ لم يزل ضئيلا ساذجا متواضعا.
أخذ كل منا يصور ما حدث له خلال الأعوام التي انقضت مذ كنا معا آخر مرة، ولقد علمت أن «سينيا» كان يشغل عندئذ منصبا رفيعا في اللجنة الإقليمية. - «نعم يا «فيتيا»، إنك تجالس الآن زعيما شعبيا ممتازا ... إنك تجالس رجلا يناصر ستالين بكل قلبه، هلا رأيت الذبائح عالقة في دكان جزار؟ وهلا رأيت على أفخاذها بصمات بهذه العبارة: «مفحوص وقابل للأكل»؟ هذا هو أنا يا «فيتيا»، فأنا مفحوص وقابل للأكل، أما هل يأتي الآكلون بالفعل، ومتى يأتون، فلست أدري.»
فقلت له: «ليس هذا وقت النكات يا «سينيا» لكنه وقت البكاء.» - «لقد بكيت أكثر من نصيبي في البكاء حتى لم تعد في مقلتي دموع، فهذا صديق آخر قد لقي قضاءه، ثم هذا ثالث يتلوه ... ثم هذا دوري آت بعد حين قليل ... ليس لي ما أزهى به عليك، إلا أن لي ملاذا للعزاء أركن إليه واثقا، وذلك هو زجاجات الشراب، نعم هذا حق، فقد أمعنت في الشراب حتى أسرفت، لكن صدقني إن قلت لك: إنني أشفق عليكم أيها الممتنعون عن شراب الخمر في هذه الأيام السود.»
وأخذنا معا نتذاكر معارفنا ونقارن ما يعلمه عنهم وما أعلم، فوجدنا أن كثرتهم الغالبة مقبوض عليها. - «وماذا نحن صانعون يا «فيتيا»؟ أنبكي؟ كلا، فلا خير في بكاء، تذكر الأغنية القائلة: «إن ما مضى فات ولن يعود، كما انقضى الصيف لغير رجعة»؟ أتذكر «جريشا» ذا الشعر الأحمر إذ كان ينشدنا هذه الأغنية؟ كان يغسل ثيابه التحتية بنفسه في النزل، فماذا يصنع إلى أن تجف سوى أن يغني إذ هو يرقب جفافها؟ كان يلبس معطفا ويجلس على مقعد وطيء وينقر على قيثارته ويغني، لقد ألقي القبض على «جيشا» هذا المسكين منذ أسابيع قلائل، وأما أنت وأما أنا فلا نزال في مرحلة الانتظار، فليكن لدينا من سلامة العقل ما يتيح لنا الغناء.»
وافترقنا بعد أن تعاهدنا تعاهدا مخلصا على عودة اللقاء بعد حين قريب، لكن هذا اللقاء قد استحال إذ أمسك رجال القسم السياسي ب «سينيا» بعد ذلك بنحو شهرين، ولقد أنبأتني أسرته أنه كان غارقا في سكره حين جاءته الشرطة السياسية لتقبض عليه، وكان يغني بأعلى صوته في جوف الليل، فأردت أن أعلم أية أغنية كان يغني إذ ذاك، فكان جوابهم أنها أغنية قديمة محببة إليه وهي: «إن ما مضى فات ولن يعود ...»
لم يكن القطار إلى موسكو ليقوم قبل ساعة متأخرة من ذلك المساء، وكنت قد اشتريت التذاكر، فعن لي أن أبحث عن «إلينا» لأرى هل ما زالت تسكن المدينة، فتلفنت دارها، وأجابت هي بنفسها، وأعجب ما عجبت له أن صوتها لم يحركني كما توقعت له أن يفعل، فالظاهر أن آلامي وما يجيش في صدري من يأس قد قضى على المشاعر الرقيقة من نفسي، فسألت نفسي جزعا على نفسي: أيكون هؤلاء الأوغاد قد أتوا على كل ما كان يعمر قلبك من مشاعر قديمة؟ أيكونون قد محوا فيك ذلك الخيط الرفيع من أحلام الخيال وقد كان جزءا من فطرتك؟
قابلتني «إلينا» في فندق، فوجدتها لم تزل على جمالها ورشاقتها المتناغمة العجيبة التي كانت تنفذ إلى قلبي كأنها السكين الماضية، لكن ترقيم السنين قد بدا عليها، وظهرت في عينيها أمارات الحزن أعمق مما عهدتها في أي وقت مضى، وأنبأتني أن زوجها قد قبض عليه وأرسل إلى معسكر اعتقال للمرة الثانية، وأنها تسكن مع أمها، وتشغل منصبا متواضعا في مكتب للهندسة المعمارية، فلم أسألها هل لا تزال تابعة للقسم السياسي.
وتنهدت قائلة: «آه يا «فيتيا»، لقد ساءت أموري ولم تسر بي الأيام إلى ما هو أحسن، وإني لأعلم ما أنت فيه من متاعب، فلعلك لا تدري أنني حيثما ذهبت إلى «دنيبروبتروفسك» - وذلك لا يحدث إلا نادرا - حاولت أن أرى أصدقاءك وأصدقائي، فلقد نسيتني ولكنهم لم ينسوني، فما أعجب أن ترى ناسا يقيمون على سلامة نفوسهم فلا يصيبها دنس في هذه السنين السود التي نعانيها، حقا إنها لمعجزة.»
ولما جاءت تودعني على محطة السكة الحديدية تواعدنا على عودة اللقاء، لكننا كنا على يقين أن مثل هذا الوعد لا سبيل إلى الوفاء به.
ما قضيت حينا في موسكو حتى أحببتها، وليست هي بالمدينة الجميلة أو الرشيقة، فهي لا تزال «أكبر قرية في الروسيا» على الرغم مما استجد بها من «ناطحات السحاب» وما اتسع من شوارعها، ويخيل إلي أن نهر موسكوفا الذي يتثنى مجراه خلال المدينة قد فرض ما فيه من صفة التثني على المدينة بأسرها بكل ما فيها من حارات ضيقة ملتوية، وميادين عليها طابع الريف، وما يفاجئك بها حينا بعد حين من لمحات بيزنطية، كلا، ليست موسكو بالمدينة الجميلة في مرأى العين، لكن جمالها يتبدى للروسي من خلال قلبه.
إن ما مس قلبي وما يمس قلب الروسي كائنا من كان إذ هو في موسكو هو هذا الذي تراه باديا فيها من أدلة عجيبة على قدمها واستمرار وجودها، لقد كانت قائمة قبل أسرة رومانوف، ولبثت قائمة بعد زوال تلك الأسرة، وكانت قائمة قبل الشيوعيين، وستظل قائمة بعدهم أمدا طويلا بالغ الطول، فإن لها لخصيصة يعز منالها على السياسة بل يعز منالها على ما يضعونه لها من تمدن حديث، ولست أدري كيف تتضاءل من الإنسان همومه الشخصية وتصغر أحزانه حتى لتكاد تمحى، إذا ما ألفى نفسه بين جنبات هذه المدينة الخالدة.
لم أشأ أن أسجل اسمي في فندق من فنادقها، فذلك أشد ما يكون شبها بوضع نفسي في إناء من آنية السمك على رف رخامي في غرفة القسم السياسي، وآثرت أن أطلب إلى رفيقي «ميشا» وزوجته أن يستضيفاني في دارهما بضعة أيام.
كان «ميشا» من رجال الثورة القدامى المعروفين، وكان عمله عندئذ متصلا بجمعية تعنى بالمسجونين السياسيين في العهد القيصري القديم، ولقد هيأت له الحكومة مسكنا مريحا وأجرت عليه راتبا يكفيه هو وزوجته في شيخوختهما، وكان قد حارب في الحصون مع أبي جنبا إلى جنب، وقضى في سجن «إسكندروفسك» أكثر من عشر سنوات مغلولا بالأصفاد حتى جاءته الثورة ففكت عنه أغلاله، ولطالما عاملني هو وزوجته معاملة الوالدين، واغتبطا أشد الغبطة لضيافتي، ولو أن شحوبي وهزالي الباديين قد أثارا في نفسيهما الفزع. - «وكيف حال صديقي «أندراي»؟ ألا يزال يسعى كعهدي به؟» - «نعم، إن أبي بصحة جيدة، تراه ناقما على الحياة وأوضاعها كما كان دائما.» - «إن جيلنا هذا جيل طويل العمر، ليتني أراه من جديد لنتذاكر العهد الذي مضى.»
ولما كان على مائدة العشاء أخذت أنبئه بما جاء بي إلى موسكو ، ولم أخف عنه شيئا، فالرفيق «ميشا» قد عرف «لينين» و«بخارين» وغيرهما من عمالقة الثورة معرفة شخصية، وكان لا ينادي زعماء العصر الحاضر من ستالين فنازلا إلا بأسمائهم الخاصة دليل ارتفاع الكلفة، وكثيرا ما كان يلتقي بأرملة «لينين»: «كروبسكايا»، وهكذا كان السادة الجدد يعاملونه كما يعاملون فردا منهم، على الأقل كان ذلك قبل التطهير الأعظم .
فلما قصصت قصتي، وبخاصة ما يتعلق منها بالتهم الموجهة إلى أبي، أخذ الغضب في صدر زميله الذي حارب معه في الحصون، وأعني «ميشا» الذي تقدمت به السنون، أخذ الغضب في صدره يزداد شيئا فشيئا، فدفع كرسيه إلى الوراء ساخطا، وخطا خطوة فسيحة صوب حجيرة هناك وجذب منها سلسلة ثقيلة صدئة، ورفعها وهي تجلجل بحلقاتها، رفعها بيديه فوق رأسه الأشيب وأخذ يهزها في غضب أفلت منه زمامه.
ثم صاح قائلا: «لقد كبلت بهذه الأغلال عشر سنين لأني آمنت بالحق والعدل ورجوت للناس حياة أسعد! وها هم أولاء الأوغاد - الذين يسمون أنفسهم رجال الثورة - يعذبون أبناءنا! لعنة الله عليهم! لعنة الله على هؤلاء القساة الذين يثخنون بلادنا الروسيا بالجراح.»
كان «ميشا» طويلا نحيلا عليلا، ألا ما كان أفظع منظره وهو واقف هناك رافعا بيديه أغلاله الصدئة، حتى لقد تعاونت مع زوجته على تهدئة نفسه.
ثم قلت له بعدئذ: «الذي لا أفهمه يا رفيقي «ميشا» هو لماذا يلزمهم كل هذا الإرهاب؟ يستحيل أن نكون جميعا جواسيس ومتلافين، أتكون البلاد كلها من جواسيس ومتلافين؟ أتكون كل البلاد على هذا النحو إلا أعضاء الهيئة السياسية العليا؟» - «كلام فارغ، ليس لك أن تستثني أحدا، فكثير من أعضاء الهيئة السياسية العليا قد قبض عليهم، وفصل أكثر من ثلاثة أرباع أعضاء اللجنة المركزية العليا، فلقد ألقي القبض على «كوسيور» و«زوروتاك» و«شوبار» و«بوستشف»، وقضي على كثيرين ممن كانوا على اتصال وثيق بالهيئة السياسية العليا: «أنتيبوف» و«مزلاوك» و«بوبنوف» وكثير جدا غير هؤلاء، وكذلك لحق هذا القضاء ب «ياكوفلف» و«ستستكي» وغيرهما من خيرة أعضاء اللجنة المركزية، فالمذبحة تريق من دماء الطبقة العالية بمقدار ما تريقه من دماء الطبقات السفلى.
إن ستالين وعصبته يريدون حزبا لا رأي له، فهو يريد لجنة مركزية تطيع الأوامر طاعة عمياء، كما يريد هيئة سياسية عليا تتفق معه في الرأي دائما، وهو مستطيع أن يجد ما يريد، فهو يعالج الأمر على النحو الذي كان يعالجه به بطرس الأكبر، أعني بجذ الرءوس .»
وجلسنا فترة المساء نتبادل الرأي فيمن عسانا نلجأ إليه ليتدخل في صالحي، بالطبع لا ينبغي أن نلجأ إلى «كروبسكايا»؛ لأنها لم تنج من القبض إلا لأنها أرملة «لينين»، وكرهها لستالين وأساليبه معروف للجميع، بحيث إذا قالت لأحد كلمة طيبة، كان عليه الوبال جزاء وفاقا لما سمع، وكذلك كان بعض أصدقاء «ميشا» الحميمين في مواقف لا يركن إليها لقلقلتها، ثم ما هو إلا أن هبط عليه شيء كأنه الوحي.
فقد صاح قائلا: «يارسلافسكي! نعم فإذا لم يكن أميليان قد لحقه الفساد فسيصغي إلى شكاتنا.»
كان «يارسلافسكي» هذا أحد البلاشفة القدامى الذين ما زالوا ذوي نفوذ - وهم قلائل - وكان يعد الفقيه الرسمي للحزب، وينظر إليه ستالين نظرته إلى قسيس رفيع المكانة، وكان رئيسا لجمعية الملحدين، وله مقالات عميقة يشرح بها ويبرر الغضبات التي يثور بها ستالين كلما غضب؛ ولذلك لم أكن كبير الرجاء في اتجاهنا إليه، لكن الرفيق «ميشا» كان يتكلم بلهجة المتفائل الذي يرجو من وراء ذلك شيئا عظيما، ألم يكن على صلة الصداقة بيارسلافسكي أعواما طوالا؟ ألم يقاتلا القيصر جنبا إلى جنب؟ ثم ألم يزج بهما معا في سجن واحد؟
وعلى ذلك تلفن إليه في الصباح الرفيق «ميشا» وحدد معه موعدا للقاء، وذلك في ذاته يعتبر نتيجة باهرة، فلما ذهبنا إلى مقر اللجنة المركزية كانت جوازات المرور تنتظرنا على الأبواب، ودخلنا فوجدت «يارسلافسكي» مرتديا قميصا روسيا، واستقبل الرفيق «ميشا» معانقا ومقبلا، وصافحني مصافحة ودية، لهذا تحرك في نفسي الأمل لحظة، فها هنا رجل صديق من الطابع القديم، ها هنا رجل من جيل أبي الذي استمسك رجاله بالمثل العليا.
لكن الرفيق «ميشا» لم يكد يفصح له عن الغاية من زيارتنا، حتى علت علائم الفزع وجه «يارسلافسكي» وجمدت هناك، وأخذ يعض بأسنانه شعرات شاربيه المتفرقات اللائي قد اصطبغن بصبغة التبغ، مدفوعا إلى ذلك بقلق عصبي أخذ يزداد معه شيئا فشيئا.
واختتم الرفيق «ميشا» حديثه قائلا: «هذه هي قضيتنا كاملة يا «أميليان»، فإذا مددت لنا يد المعونة أحببتك حبي لأخي الشقيق، أما إذا أحجمت عن المعونة فسأعلم أنك يا «أميليان» - حتى أنت - قد نال منك الفساد ...»
فأجابه «يارسلافسكي» في صوت أصحاب المناصب الرسمية: «اسمح لي يا ميشا أن أقول: إنك إذا جئت إلي كما يجيء صديق إلى صديق فهذا شيء، أما إذا جئتني باعتباري زعيما مسئولا عن قيادة الحزب فذلك شيء آخر يختلف عن ذاك، إن واجبي هو حماية الحزب وزعيمه من الأعداء، فليس ثمة من سبيل إلى صداقة أو مراعاة للخواطر، إننا لا نستطيع أن نمسك بزمام الأمر لو ضعفنا، هل تفهم ما أقول؟» - «نعم أفهمه، ولكن فيم هذه الخطابة كلها؟ لست أنا في اجتماع شعبي انعقد بين يديك، ولا أنا ساذج غر، أنا أسألك سؤالا أريد عنه جوابا صريحا، أأنت معيننا فيما جئنا من أجله أم لست بالمعين؟» - «لا يأخذنك اضطراب يا صديقي العزيز، هل لك يا رفيقي «كرافتشنكو» في تركنا لحظة لأستطيع الكلام في حرية أكثر؟»
فصاح الرفيق «ميشا» قائلا: «لا، لا، بل يبقى معنا يا «أميليان» فلن أفسح صدري لشيء من أسراركم ودسائسكم التي ابتدعتموها حديثا، أنحن رفقاء أم لسنا كذلك؟»
فهز «يارسلافسكي» كتفيه قائلا: «إذن فافعل ما بدا لك.»
وخرجنا من مكتبه برأسين مطأطئين وقلبين كسيرين، وغشيت عينا الرفيق «ميشا» بالدموع حتى لقد اضطر أن يمسك بإحدى ذراعي لأهديه الطريق. - «وإذن فحتى «أميليان» قد مات، وإنما أردت «أميليان» الصريح الجريء الذي كان ذات يوم رفيقي، إني أعوذ بالله يا «فيتيا»، لشد ما يسرني أنني شيخ كهل فلن يكون لي من أعوامي أمد طويل أرى فيه كثيرا من هذه البشاعة.»
ولقد أبدى «يارسلافسكي» علامة واحدة من علامات الصداقة، وتلك أنه أمدني بأسماء طائفة من كبار موظفي اللجنة المركزية وأرقام تليفوناتهم، كما أذن لي أن أستغل اسمه لأظفر بالدخول إليهم، فأنفقت الأيام القليلة التالية في مقابلة هؤلاء الناس، وقد استنتجت من الطريقة الرسمية التي قابلوني بها - فقد قابلوني جميعا مقابلة ودية باسمة لكنها مقابلة رسمية صارمة - استنتجت أن «يارسلافسكي» لا بد أن يكون قد اتصل بهم وأوصاهم أن يحسنوا لقائي دون أن يعملوا في أمري شيئا، فحتى هؤلاء الرجال الذين كانوا أشد ما يكون الناس صلة بستالين، لم يكن في مستطاعهم - فيما يظهر - أن يقدموا «للمتلاف» معونة أو طمأنينة.
وراجعت قائمة العنوانات التي كانت معي لمن أعرفهم بموسكو، أيكون بين هؤلاء شخص يجب أن ألجأ إليه؟ وقرأت الأسماء وأخذت أستبعد كثيرا منها، فهذا مات، وهذا انتحر، وهؤلاء الآخرون في السجن، وأخيرا انتهيت إلى اسم وقفت عنده وقفة قصيرة.
قلت لنفسي: «لازارف! سأذهب للقائه، فهو الرجل الذي قد يعد من العوامل التي دفعتني في طريق حياتي التي انتهت بي إلى هذه الخاتمة المغلقة، ألم يكن هو الذي شجعني - حين كنت لا أزال عاملا بمناجم الفحم في حوض الدونتز - على الالتحاق بهيئات الشباب الشيوعي؟»
دققت جرس بابه فجاء يفتح الباب امرأتان عجوزان، فما سألتهما عن «لازارف» حتى حدجا نظراتهما في جازعتين، وطفقت إحداهما تبكي. - «لقد مات ولدي المسكين ... مات منذ عام تقريبا ... ألم يبلغك ذلك؟ قالوا عنه: إنه عدو الشعب، هؤلاء الكفرة، هؤلاء الفجار.»
وهكذا عرفت أن أول من أدخلني في الحركة الشيوعية قد حشر هو أيضا في زمرة الخوارج، فلعله كان بذلك يدفع ثمن ظهور جانب منه في صورة تولستوي التي رسمها جنبا إلى جنب مع «لينين» و«كارل ماركس».
ولما أنهكني ما صادفته في تلك الأيام من الأسى وخيبة الأمل، وجدتني مضطرا إلى زيارة أسرة «أ»، وكنت دائما أثق في «زوجة أ» وأركن إليها هي وابنتها الفاتنة «تانيا» في قضاء ساعة أو ساعتين تبعثان السرور في نفسي، وذلك أنهما على الرغم مما أصابهما من مآس كثيرة قد لبثتا محتفظتين بقليل من متعة الحياة الطبيعية بالنسبة إليهما، فالرفيق «أ» كان قد فر مع زوجته وابن صغير إلى أمريكا بعد 1905م لينجو من الشرطة القيصرية، فولد لهما أبناء آخرون في الولايات المتحدة، إذ أنجبا ولدا وابنتين نشئوا كما ينشأ صغار الأمريكيين.
ثم عادت الأسرة إلى الروسيا بعد الثورة، ورحب بها «لينين» نفسه، وقام «أ» بدور هام في الحروب الأهلية، وبينما كان يقود كتيبة من المواطنين الحمر في وجه البيض واليابانيين في الشرق الأقصى، وقع أسيرا في أيدي الأعداء، وقطع جسده إربا إربا وألقي به في النار على مرأى من الأسرى جميعا، فلما وضعت الحرب الأهلية أوزارها انتقلت الأسرة الكسيرة إلى موسكو، حيث خصص لها «لينين» مسكنا وأجرى عليها راتبا اعترافا منه بخدمات «أ» التي شهدت ببطولته، وتخرج ابنهم الأكبر مهندسا، وعن طريقه عرفت العائلة، لكنه منذ أعوام مضت أرسل إلى معسكر اعتقال، وبقي الجانب النسائي من الأسرة وحده.
فقصدت دارهم خالي الذهن، وكانت دارا على جدرانها آثار البلى، فوجدت بابها مغلقا ومختوما بالشمع، واستطعت أن أتبين على الختم هذه الأحرف المخيفة التي تدل على القسم السياسي، وعندئذ أطلت جارة برأسها لترى من الزائر؟ - «أواه أيها الشاب، كان الله في عوننا، إن مواطنتي «أ» هي وابنتها قد ألقي عليهما القبض وأرسلتا إلى المنفى!»
وأسرعت إلى إغلاق بابها خشية أن تكون قد أفرطت معي في الحديث، فتركت مكان الدار وأنا أرتجف ارتجافا، فما سرت بضع خطوات حتى تبينت أن متعقبا يقتفيني، فنظرت نظرة إلى حذائه عرفت منها في يقين أنه من رجال الشرطة السياسية على الرغم من المعطف المدني الذي كان يرتديه، وإذن فالقطرة الواحدة التي بقيت لي بحيث تترع كأس أحزاني، هي أن يرفع عني تقرير بأني جئت لزيارة أسرة قضت الحكومة في أمرها!
ولحسن حظي مرت بي في تلك اللحظة سيارة خربة من سيارات الأجرة، فوثبت فيها ورجوت السائق أن يسرع بي إلى محطة السكة الحديدية زاعما أني تأخرت عن موعد القطار، فلما بلغنا المحطة دفعت له أجره واستأجرت عربة أخرى نقلتني إلى مكان يبعد عن بيت الرفيق «ميشا» بضع مبان، فلما أنبأت مضيفي الشفوقين نبأ الحادثة، طار عن عمي «ميشا» صوابه من جديد.
فصاح قائلا وهو يذرع الغرفة من قلق: «يا لهؤلاء الأوغاد! لسنا أحسن حالا من عصر القيصر، لا بل لقد ساءت حالنا عن عهد القيصر، ساءت حالنا ألف مرة عما كانت عليه إذ ذاك، فقد كان لنا في تلك الأيام الحق في المحاكمات واستخدام المحامين والدفاع عن أنفسنا في سبيل النجاة، وإذا ما أحاطت بنا في عهد القيصر مشكلات سياسية لم يجد أصدقاؤنا في أنفسهم دافعا لاجتنابنا، بل الأمر على عكس ذلك، فقد كان أصدقاؤنا يزوروننا ويملئون الدنيا صياحا من أجلنا، وكان الناس يجتمعون للاحتجاج، وترفع الاستئنافات للحكومة وللصحف، وتلقى الخطب في مجلس «الدوما»، أما الآن فلن تجد أنى سرت إلا صمتا فظيعا وخوفا وجبنا.
وأمر آخر يا «فيتيا»، كان العالم كله فيما يخيل إلي في صفنا عندئذ، كان أنصار الديمقراطية والحرية في إنجلترا وفرنسا وأمريكا يهاجمون بأقوالهم الطغيان، وكانوا بذلك يبعثون في نفوسنا شيئا من الطمأنينة المعنوية، أما اليوم فقد سدت دوننا الأبواب كأننا في السجن، إن العالم الخارجي - فيما يظهر - لا يعرف ماذا يجري ها هنا، إن نفس الأشخاص الذين كنا نتوقع أن يكونوا في جانبنا، غالبا ما تراهم يناصرون جانب الطغاة القساة، ويشاء القدر الساخر يا ولدي أن يسمي هؤلاء الأشخاص أنفسهم أصدقاء الاتحاد السوفيتي.»
فقلت: «لو أطلق هؤلاء الحمقى على أنفسهم اسم أنصار الاستبداد لكان ذلك أدنى إلى الصواب.» - «إني لأصادف أحيانا يا «فيتيا» صحفا فرنسية وإنجليزية في مكتبتنا الخاصة، وبالطبع هم لا يبيحون الدخول إلا لما يريدون له الدخول من تلك الصحف، فهل تصدق أن هذه الصحف تتحدث عن «الديمقراطية» و«الحياة الجديدة الرائعة» في الروسيا؟! أنا لا أقول لك هذا بقصد الفكاهة، لقد صادفني مرة كتاب أمريكي عن بلادنا، فقرأت منه صفحات ثم لم أصدق ما تراه عيناي، إن المؤلف المأفون جاء إلى الروسيا لكنه لم ير منها شيئا ولم يفهم عنها شيئا، فجعل يصف بلادنا التي تدمى من جراحها كأنما يصف فردوسا على الأرض، هؤلاء الحمقى! هؤلاء المهرجون!» - «لكن يستحيل أي عمي «ميشا» أن يكون العالم كله جاهلا حقيقة بهذا الذي يجري في بلادنا، إنه يستحيل أن يكون العالم كله قد جن جنونه.» - «نعم، إن ذلك من غير المعقول، لكني إذا فرضت أن في العالم الخارجي شخصا واحدا يفهم الحقيقة عنا، فلا بد لي أن أرى الدليل الناهض على صدق هذا الفرض، لقد حدث لي أن ساهمت في لجان كثيرة جدا مما كانت تشكله الحكومة لاستقبال الزائرين الأجانب، ومنهم الوفود عن العمال وعن رجال التربية وعن الطلاب، فكان يتضح لي من حماستهم ومن أسئلتهم الساذجة أنهم لا يعرفون شيئا عن الفظائع التي يعانيها الشعب الروسي، إنهم لا يعرفون شيئا عن رد الفعل المتمثل فيمن قبضوا على زمام أمرنا، «فيتيا» إن الأمر ليشيع الفزع في الصدور ...»
قال ذلك وجلس، ثم أدار وجهه عني وأخذ ينهنه بالبكاء.
وكان آخر ما فعلته في بحثي الفاشل عن العدالة، هو أن قصدت إلى رياسة الصناعة الثقيلة، فوجدت الجو الذي يملأ المكان روحا من البؤس الذي لا حد له، البؤس الذي لم يحاول أحد قط أن يخفيه، فقد وجدت هناك بعض الأحياء ممن كنت أعرفهم، ولما بثثت لهم متاعبي، أحسست أني أكاد أجاوز حدود اللياقة بذلك؛ لأني أفرض همومي على موظفين لم يخفوا أنهم هم أنفسهم إنما يقفون بين الأحياء على أساس متهافت، نعم أحسست أني أكاد أجاوز حدود اللياقة ببث همومي في مكان يضطرب هواؤه بأشباح من طاح بهم التطهير من كبار الموظفين وصغارهم، ومن الشيوعيين وغير الشيوعيين.
ولقد علمت من الموظفين القلائل الذين ما زالت لهم جرأة التحدث إلي، علمت من هؤلاء أكثر مما كنت أعلم عن مدى إغارات القسم السياسي على الصناعة السوفيتية، فقد فصل «م. بارينوف» ومرءوسوه ومساعدوه، وهو الرجل الذي كان له فضل توسيع مصادر البترول عند السوفيت، وكذلك فصل «البيروفيش» ومساعده «ستبانوف» وكانا يشرفان على صناعة مناضد الآلات، كما فصل غيرهما كثيرون جدا آخرون، وأودع السجن كل أعوان «أورزنكدز» تقريبا: مثل «إسكندر جورفيش» و«روخيموفيش» و«بافلنوفسكي»، ولقد كان «جورفيش» رئيس صناعة التعدين كلها في البلاد، وعلمت عنه بعدئذ أنه أصيب بالعمى في السجن ومات بين جدرانه، كذلك كان ممن قبض عليهم «أنطون توكنسكي» الذي يعتبر أحد قادة المهندسين الروس، ولم ينج من عاصفة الإرهاب إلا نفر قليل من كبار رجال الإدارة ورؤساء الأقسام ومديري الجماعات الصناعية والمعاهد.
ولكي أنقل للقارئ شيئا مما يدل على مدى المذبحة، أود أن أثبت قائمة بأسماء نفر قليل ممن أصابهم التطهير، وكانت لي بهم صلات شخصية، فأسماؤهم قد لا تعني شيئا لرجل يعيش خارج الروسيا، أما نحن الذين نشتغل بالصناعة الروسية، فهذه الأسماء معناها عندنا صفوة العقول الفنية في البلاد. «أ. بندارنكو» مدير مصنع الآلات بخاركوف، «قنسطنطين بوتنكو» رئيس المجموعة الصناعية في «كوزنتش»، «جانشين» الذي أشرف على صناعة استخراج البترول في الشرق، «جواخاريا» مدير مصنع «ماكايف» في حوض الدونتز، «أوسيبوف شمت» رئيس صناعة المطاط الصناعي، «مخايلوف» مساعد مدير سد «دينبروستروي» المشهور، «س. ماكار» المعروف الذي شيد «ماجنيتستروي»، «س. شوارتز» البلشفي القديم الذي هو في طليعة القائمين على صناعة الألواح الحجرية، «جيجل» مدير اتحاد «آزوف» لصناعة الصلب في «ماريوبول»، «أ. كوسيور» وهو شقيق عضو الهيئة السياسية العليا الذي تناوله التطهير هو المسئول عن صناعة الشرق الأقصى كلها، «م. فلاسوف» رئيس مصنع صهر الحديد في «شليا بنسك»، «ج. كرزمنسكي» رئيس صناعات المنجنيز في «نيقوبول»، «نيقولاي رادين» مدير أحد مصانع «ماريوبول» الكبرى، «فيودر لجيوكو» رئيس مصنع «نزنى-دنيبروفسكي»، «زفاين» مدير مصنع «لزفا» في الأورال، «إيزال رد جوشفسكي» مدير مصنع الصلب في «زاباروش»، «نيقولاي دنسكوف» رئيس مصنع الصهر في «شوسوفايا»، «خازانوف» رئيس صناعة الصهر في الأورال كلها، «تراختر» رئيس صناعات التعدين في «كريفوارج».
إني أختار هذه الأسماء اختيارا يكاد يكون جزافا، وأستطيع أن أمضي في قوائم الأسماء صفحات بعد صفحات من الذاكرة، ولكن الأسماء التي أختارها هي الأسماء اللوامع وحدها.
حدث وأنا في القطار عائد من موسكو، أن التقيت مصادفة بصديقي (يعقوب فسنك) الذي كان عندئذ مديرا لصناعة الصهر في «كريفوارج»، فلم آبه لكلماته بما كانت تستحق من عناية، لكنها رسخت في ذاكرتي لسبب لا أدريه، وأخذت تضخم في رأسي وتزداد مغزى كلما مر الزمن، و«فسنك» هذا كان من كبار رجال الثورة كما كان بناء له أهميته، وهو بلشفي قديم أبى أن يذعن لأساليب الاستبداد الجديدة، وهو ممن كانوا يحملون على صدورهم أعلى أوسمة الجيش الأحمر، فلما أن نقلوه إلى ميدان الصناعة كان وثيق الصلة «بأورزنكدز» و«مولوتوف» وغيرهما من قادة الكرملن، وكثيرا ما عهد إليه تمثيل بلادنا في الخارج في مهام اقتصادية خطيرة.
ولقد اغتبط لهذا اللقاء العابر، وتبين أنه كذلك كان في موسكو ليدفع عن نفسه ما كان يتهدده من قبض عليه، وكانت زوجته الجذابة «يوجينيا» التي امتازت هي الأخرى بما لها من صفات، قد رسمت صورتها وهي مع ستالين في الكرملن، فكان نشر هذه الصورة - فيما خيل للناس - ضمانا لحمايتها وحماية زوجها، أما «فسنك» فلم يذهب مع الناس في هذه الأوهام.
قال لي: «إني أتوقع أن يقبضوا علي عند عودتي إلى «كريفوارج»، ولقد وجدت أنا كذلك كما وجدت أنت أن موسكو لن تسعفنا فيما نحن فيه من خطر، بل لعل الخطر كله آت من القمة العليا، فنحن رجال «الحرس القدامى» الذين حاربوا تحت قيادة «لينين» نستهدف لهجماتهم بتهمة الخيانة وغيرها من المؤامرات الدولية التي تصورها لهم أوهامهم، فتراهم لا يتورعون عن تسميتنا بالخونة وبأعداء الشعب، ولا يغيبن عنك أن هذه الاتهامات الباطلة إن هي إلا ستار يخفون وراءه شيئا آخر؛ لأن ستالين والحزب لا يستطيعون أن يواجهوا سواد الناس بالحقيقة، وهي أن ثمة شقاقا بين صفوف الحزب؛ لأن الناس إن عرفوا ذلك انشقوا إلى أحزاب تناصر هذا الفريق أو ذاك، وإن ستالين ليخشى أن تظفر الأغلبية بالنصر عليه.»
هكذا مضينا في الحديث مدة طويلة، ولقد ذكر خلال حديثه رحلاته التي ارتحلها خارج البلاد، ثم نظر إلي محدجا وقال: «إذا أتيح لك يوما يا «فكتور أندريفتش» أن تنبئ العالم الخارجي عن الأهوال التي تشهدها بلادنا، فواجبك أن تفعل، ففي مثل المرحلة التي نجتازها، ليس في وسع روسي يحب أهله وبلاده أن يؤدي خدمة أعظم من هذه، ولا ينبغي أن نقف جهادنا في سبيل تحرر الروسيا، ولن نقفه.»
ولقد تحقق ما توقعه لنفسه من قبض عليه، وكذلك قبض على زوجته، على الرغم من مجدها القصير الأمد، الذي ظفرت به حين ظفرت برسمها في صورة واحدة مع الزعيم، ولقد جاء اليوم الذي وجدت كلمات صديقتي هذه ترن في أذني رنين النبوءة بما يكنه الغيب.
كان المساء قد أمسى حين وصلت «نيقوبول» بعد رحلة فاشلة، وأحسست عندئذ بخيبة الرجاء، فلما دنوت من بيتي، عجبت لماذا لا يضيء فيه مصباح، أين «باشا» يا ترى؟ لقد كتبت لها منبئا بقدومي وكان لا بد أن تكون في انتظاري، وأردت فتح الباب لكني وجدته مقفلا، فطرقته، وأخذت أزيد في طرقه شدة ولا مجيب، وما هي إلا أن أحسست أصابع الرعب قد امتدت إلى حلقي فشدت عليه.
اختنق صوتي حتى أوشكت أن أعجز عن الإفهام بما أردت حين ذهبت إلى بيت جاري - وقد كان موظفا في المصنع - ونظر إلي هذا الجار حين ذهبت إليه، نظر إلي في دهشة كأنه ينظر إلى شبح.
قال هامسا: «فكتور أندريفتش! أحقا هو أنت؟ ألا تزال حيا؟ ألم يقبض عليك؟ الحمد لله.» - «ماذا جرى؟ أين «باشا»؟ لقد كنت في موسكو أقضي عملا رسميا لا أكثر ولا أقل.» - «ألم يبلغك يا فكتور أندريفتش أنك فصلت من منصبك، وطردت من دارك، ولست أدري أين متاعك، فقد جاءت عربة ونقلته ...»
فاستأذنته أن أتلفن إلى براتشكو.
قال المدير: «كم يسرني أن أسمع بعودتك يا فكتور.» - «لكن ماذا جرى يا «بيوتر بتروفتش»؟ لماذا طردت من داري؟» - «لا يأخذنك الهم واملك زمام نفسك، فقد صدر إلي أمر اللجنة المحلية بأن أعفيك من مهام منصبك، فأسندت إليك الإشراف على القسم الفني من المصنع، ولعلك تقدر أني في ذلك غير مختار، وأني إزاء ذلك أشعر في قلبي بحسرة.» - «أنا أعلم ذلك بالطبع يا «بيوتر بتروفتش»، لكن أين أقضي ليلتي؟» - «لقد حجزت لك غرفة في فندق المصنع بنيقوبول، وليست هي بالغرفة اللائقة لكنها كل ما استطعت الحصول عليه.»
فعدت إلى المدينة حيث وجدت مدير الفندق في انتظاري، ولقد أبدى نحوي عطفه إذ كان يعلم مدى ما أصابني من تدهور بعد دار فاخرة بما لها من مرأب للسيارة وحديقة؛ لذلك جعل يعتذر لي حين أدخلني في الغرفة، بل في الحجيرة التي تشبه «غرف» السجون الضيقة، والتي كان يغطي جدرانها ورق تقشر في كثير من المواضع.
وقدر لتلك الغرفة أن تكون «داري» بقية إقامتي في «نيقوبول»، ولقد ألقي في أركانها بكتبي وسائر متاعي على غير نظام، وكان في الغرفة - عدا السرير - منضدة صغيرة وخزانة للملابس ومرآة صغيرة وصورة كالحة اللون لستالين علقت على الحائط، ولم يكن هناك غرفة للغسل بل لم يكن هناك حوض لهذا الغرض.
لكنني كنت متعبا، أنهكني التعب بحيث لم يعد لدي من القوة ما أفكر به أو أشعر، فنمت حتى ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي.
الفصل السابع عشر
تعذيب بعد منتصف الليل
سقط قلبي في جوفي حين سمعت صوت «جرشجورن» في التليفون. - «الله! الله! إذن فقد عاد الطائر الصغير بعد رحلته الطويلة ... لعلك مسرور بمقامك الجديد في الفندق ... تعال فقابلني في منتصف الليل.»
كان علي أن أنتظر قدومه كما هي العادة، وكان ذلك أول يوم توليت فيه منصبي الجديد رئيسا للقسم الفني من المصنع، وكنت قد ملأت يومي بالعمل حتى ساعة متأخرة واقفا على قدمي معظم الوقت، ومع ذلك فلم ينل مني هذا المجهود الجسدي بقدر ما نال من أعصابي ما أصابها من توتر انفعالي بسبب ما لقيته من حط في قدري وطرد من منزلي، ومهما يكن من أمر، فقد كنت متعبا يائسا في حالة شبيهة بالدوار، حين دعاني «جرشجورن» آخر الأمر للدخول في مكتبه.
فابتسم في خبث وقال: «هيه يا «كرافتشنكو»، آمل أن تكون قد نعمت برحلة مفيدة، إننا لا نحب لمجرى تحقيقنا أن يضطرب على هذا النحو.»
فقلت: «لقد استأذنت بما يقتضيه الواجب.» - «أعرف ذلك، أعرف ذلك، ولقد علمت أنك ذهبت بحثا عن رجل يحميك؛ فتشفعت بناس أمثال: «إيفانتشنكو» و«مارجولين» أليس كذلك؟ لكنهما وا أسفاه مقبوض عليهما الآن؛ لأنهما من أعداء الشعب!» - «نعم يا رفيقي «جرشجورن»، فقد أردت معونة من «إيفانتشنكو» ولم لا؟ لقد كان لي رئيسا عدة أعوام، وهو عضو في الحكومة، وأما «مارجولين» فقد كان أمين الحزب في ذلك الإقليم عندئذ، ومهما يكن من أمرهما فلم أكن أنا الرجل الذي عينتهما في منصبيهما.» - «بالطبع لم تعينهما أنت في منصبيهما، لكنها مصادفة عجيبة: أن يتبين أن كل أصدقائك وحماتك من الخونة: «فيلين» و«مارجولين» و«إيفانتشنكو» وكثير غيرهم، قل لي: كيف حدث أن كتب «مارجولين» خطابا في صالحك إلى اللجنة المحلية، طبعا باعتباره صديقا قديما لك؟» - «لم أر الرجل إلا مرة واحدة في حياتي، وذلك يوم رأيته ذاك النهار في مكتبه.» - «لست على يقين من صدق ما تقول ... لكن دع هذا الآن، فيهمني قبل ذلك هذا المتلاف القذر «إيفانتشنكو»، ولقد كان لك صلة بالخائن مدة طويلة ...» - «نعم، لكني لم أكن أعرف عنه أنه خائن.» - «ألم تلاحظ قط شيئا مما كان يفعله في سبيل التخريب والإتلاف، مع أنك كنت تشتغل معه عن كثب، وكنت شديد الصلة به؟» - «لا، لم ألاحظ قط شيئا.» - «ماذا تستطيع أن تنبئني به عنه فيما له علاقة بصناعة خراطة الأنابيب؟»
فأخذت أعيد له ما عرفته عنه، بل عرفته عنه الأمة كلها، فعلت علائم الغضب وجه «جرشجورن» السمين المتألق، وأخذ ينقر بأصابعه الغلاظ على منضدته نقرات تنم عن نفاد صبره، وقد لاحظت أن أصابعه قد شذبت أظفارها في عناية شديدة. - «كرافتشنكو، حذار من هذا الهذر، فأنت تعلم أن هذه المعلومات التي ترويها ليست هي ما أريد؟» - «لكنها هي كل ما أعلم.» - «أظن أننا مستطيعون إعانتك على تذكر كثير مما قد نسيت قبل أن تلجئنا الضرورة إلى «ترويضك»، فقد مر بنا زبائن كثيرون كان لهم مثل عنادك، والآن قل لي: ماذا تعرف عن علائق «إيفانتشنكو» ب «كابالوف»؟» - «كان «كابالوف» حتى يوم القبض عليه أمين الحزب في الأورال، وكان عضوا في لجنة الحزب المركزية العليا، وبالطبع كان لا بد ل «إيفانتشنكو» أن يقابله كثيرا، لكنني لا أعلم شيئا يستوقف النظر لشذوذه عن المألوف.» - «معنى هذا أنك لا تريد أن تصرح لنا بشيء.» - «كان يسرني أن أفعل، لكني لا إخالك مطالبي بتلفيق معلومات من خيالي.»
كانت تباشير النهار الجديد قد تبدت من النافذة، لكن «جرشجورن» لم يزد إلا صياحا وسبابا كلما ازداد تعبا، وجعل يدقني بمطرقته دقا.
ثم قال فجأة في وسط سؤال آخر كان يلقيه: «قل لي يا «كرافتشنكو»: لماذا تخشى أن يقبض عليك إلى هذا الحد؟ لماذا تتصيد المعونة من كل مكان حتى من الرفيق «يارسلافسكي»؟ ألا يكون ذلك لأنك تشعر في أعماق نفسك أنك على خطأ؟» - «أرجوك العفو، فالساعة الآن الخامسة صباحا، وعلي أن أكون في عملي الساعة الثامنة، فإذا لم أكن الآن في أيدي القبض، فالساعة لا تسمح بالبدء في مناقشات فلسفية.» - «هذا صحيح، هذا صحيح ... إن بيننا معا لأمسية كثيرة نجول خلالها في نواحي الموضوع لنستكشف نواحيه، فأنا رجل درس النفس الإنسانية، لكني درستها على طريقتي الخاصة، فأنت باعتبارك مهندسا تقيس مقاومة المعادن ودرجة مرونتها وما لها من خصائص تميزها، أليس كذلك؟ وأنا باعتباري شرطيا ماهرا، أخبر مقاومة بني الإنسان ودرجة مرونتهم السياسية وما إلى ذلك، إذن فاذهب مع السلامة حتى اللقاء الثاني.»
فنهضت واقفا، لكني كنت من الإعياء بحيث ترنحت في مشيتي، وأمسكت بحافة المكتب من شدة التعب، وخاطبته قائلا: «استمع إلي يا «جرشجورن»، لقد عرفتك أعواما طوالا وعرفتني، فهل تعتقد حقا وصدقا أنني متلاف؟ أرجوك أن تجيبني.» - «طبعا، ها أنا ذا أجيبك، نحن رجال الشرطة نبدأ بالعقيدة في صدق الاتهامات وإلا لما انتهينا إلى غاية أبدا، فبالنسبة إلي: كل إنسان مذنب حتى تثبت براءته، حسبنا هذا الليلة، لك أن تذهب الآن.»
وفي ساعة متأخرة من عصر ذلك اليوم كنت لا أزال جالسا إلى مكتبي في مكاني الجديد الذي لم أكن قد ألفته بعد، وعبثا حاولت أن أركز انتباهي في التقارير الفنية التي أمامي لما أصابني من خدر بسبب السهاد، وما ألم بي من ألم في عضلاتي كلها، ومن لذع محرق في عيني، وهنا دق التليفون وكان المتحدث «براتشكو» لكن صوته كان من الانكسار بحيث لم أتبينه. - «لقد جاء دوري يا فكتور أندريفتش، فها هي ذي لجنة المصنع قد فرغت لتوها من اجتماعها، وانتهت إلى قرار طردي من الحزب! طردوني بعد مدة تربى على عشرين عاما.» - «يستحيل ذلك يا بيوتر بتروفتش ...» - «نعم هذا صحيح، وستجتمع هيئة الحزب في المصنع هذا المساء اجتماعا سريا لتتم الأمر إلى نهايته، وأريد أن أطلب إليك - ماذا أقول؟ - لكني على يقين من أنك تفهم ما أريد، أريد أن أطلب إليك ألا تتحدث دفاعا عني؛ لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى تسويء الأمور.»
وذهبت إلى الاجتماع بعد بضع ساعات قضيتها في نعاس قلق، وكان الأمين الجديد للجنة المحلية هو «كندراشين» الذي كان مهندسا في القسم الذي كنت فيه، وقد عرفت فيه رجلا ماكرا حذرا، فكانت له تلك الموهبة التي لا حد لنفاستها في ظل النظام السوفيتي، ألا وهي اجتناب التبعة، ولقد ترك للرفيق «لوس» - ذلك الشاب الظامئ للسلطان - ترك له الإشراف على القضية المرفوعة ضد «براتشكو».
فأخذ «لوس» في خطاب طويل مشتعل بالعاطفة، بلغ الغاية من الخلط والتهويش، يلقي على «براتشكو» كل ما أثبته التطهير الأعظم في قائمته من خطايا، فاتهمه بسوء المساكن وارتفاع نسبة التلف، وانخفاض الأجور، والعدد الضخم الذي ألقي عليه القبض من رجال المصنع في كل أقسامه، كل هذا في منطق «لوس» الذي أشعله بعاطفته تقع تبعته على «براتشكو»، كل هذا برهان على إتلاف شيطاني مقصود!
فصاح صائح بالعبارة الآتية، وردد الصيحة آخرون: «اطردوه! لقد حان الحين لطرده، ليسقط المتلفون!» ولقد لحظت أن بين أكثر الصائحين صياحا فريق من العمال الذين يسكنون الثكنات، فيستحيل عليهم بطبيعة الحال أن يعلموا شيئا عن عمل المدير أو شخصيته، وهو مدير جماعة صناعية كبرى، إن هم إلا تروس ضئيلة فيها، فلم يكونوا إلا معبرين عن سخطهم الشخصي، ملقين غضاضتهم على أكبر موظف ممن كانت بيدهم الأمور، ففي ذلك راحة لنفوسهم، ولم يقفوا لحظة ليذكروا أن الأجور والأسعار وإعداد مساكن العمال إنما يقرر أمرها أولو الأمر في موسكو.
وسأل «لوس» قائلا: «هل يريد أحد الكلام؟»
فنهض يطالب بطرده عضو من الحزب في إثر عضو، وكلما نهض منهم واحد أضاف تهما جديدة إلى جبل الاتهامات الفارغة التي تكدست بالفعل، ثم وقفت للكلام عاملة لم يشك أحد في إخلاصها.
قالت: «أيها الرفاق، إني أشتغل في الجماعة الصناعية التي تقوم على صهر المعادن في نيقوبول، وها أنا ذا قد تبينت آخر الأمر لماذا نعيش في هذه المسغبة التي نعيش فيها، لماذا لا نجد نحن العمال بيوتا لسكنانا، ولماذا نسير لا تسترنا ثياب تليق بنا؛ ذلك لأن هؤلاء الناس الذين هم من طراز «براتشكو» يتقلبون في النعيم، فلا يصيبهم شيء من المحن التي يقاسيها سواد الناس، فاطردوا هؤلاء المتلفين، وكفانا ما لقينا منهم من استهتار الساخرين!»
فاستثار كلامها المركز عاصفة من التصفيق والهتاف.
وأخيرا وقف «براتشكو» يلقي كلمته، وكان يعلم أن قضيته خاسرة، وأن كلماته لن تفيد شيئا في هذا الاجتماع الهائج، فهؤلاء الناس جياع مما يشبعهم من انتقام، وهم يريدون متنفسا يصبون خلاله ما تضطرب به نفوسهم من أسباب السخط، بدأ «براتشكو» كلمته بأن ذكر لهم عشرين عاما قضاها شيوعيا مخلصا، وأنبأهم كيف استطاع قبل الثورة، أيام أن كان ضابطا يحارب في الصفوف الأمامية، وبلشفيا يعمل للبلشفية من وراء ستار، كيف استمال الجند إذ ذاك إلى جانب قضية العمال، لكنهم قاطعوه بكلمات ساخرة وعبارات قذرة: «لا تلعب بعواطف الناس! كفانا ما سمعناه من هذه القذارات! اطردوه!»
فانحدرت العبرات على وجنتي «براتشكو» الغائرتين، لكن أمثال هذه العبارات التي قيلت له، أثارت فيه روح القتال، فرفع صوته فوق أصوات المقاطعين، وما هو إلا أن ساد القاعة الفسيحة صمت الحائرين، صمت من أحسوا بما اقترفوه من ذنب، ورفع «براتشكو» قبضتيه فوق رأسه وقال: «أنا «براتشكو» حطمت بهاتين اليدين «قصر الشتاء» الذي كان مقرا لقياصرة الروس! لقد حاربت البيض كما حاربت كل من حاول الوقوف في سبيلنا! وها أنا ذا أحمل على جسدي اثني عشر جرحا تلقيتها إبان الثورة! ثم أنفقت بعد ذلك خمسة عشر عاما واصلت فيها العمل ليلا ونهارا، أنشئ ثم أنشئ ثم أنشئ رغم ما كان يعترض سبيلنا من عقبات كأداء.
وها أنا ذا الآن أقف بين أيديكم فأراكم تتحفزون لتمزيقي إربا إربا، لماذا؟ إنكم تلومونني على سيئات هي نفسها التي جاهدت في محوها جهادا لم أدخر فيه جهدا، إني لا أطلب إليكم شيئا ولا أتوقع منكم شيئا، فامضوا في سبيلكم وافرغوا من فعلتكم القذرة التي أنتم في سبيل إنجازها، إنني أعلم علم اليقين أنني قد انتهيت مهما يكن ما تقررونه في أمري ها هنا، لكنني أحب لكم أن تفكروا فيما أنتم صانعون، إني أترك أمري لضمائركم، فلن يغير شيء مما قلتموه، ومما قذفتموني به من سباب، لن يغير شيء من هذا حقيقة الواقع وهي أني من كل ذنب براء.
صدقوني أو لا تصدقوني يا رفاق، إنني أحب أهل هذه البلاد وإنها لوطني، لقد خاطرت بحياتي من أجلهم ألف مرة، فإذا ما أرادوا الآن أن يكافئوني بالقضاء على هذه الحياة بأيديهم، فسأتلقى جزاءهم بقلب الجندي الباسل، وهذا كل ما أردت أن أقول.»
وأخذت الأصوات فكادت تجمع على طرده، فتركت الاجتماع وسقت سيارتي إلى منزل «براتشكو»، حيث أدخلتني خادمته، وما هو إلا أن جاء كأنه الشبح تهتز كتفاه اهتزاز من ينهنه بالبكاء بغير دموع.
قال لي: «لقد أحسست أني سأجدك في انتظاري يا فكتور أندريفتش، وإني لأشكرك من أعماق قلبي، ولا تنس إذا ما سنحت لك الفرصة يوما، وإذا ما كتب لهذا الجنون أن تهدأ ثورته، لا تنس أن تنبئ كل من يعيرك أذنا مصغية أن ما رموني به لم يكن إلا أكاذيب رعناء.»
ولم يدعني أمكث في داره إلا بضع دقائق؛ لأنه لو رآنا رجال الشرطة السياسية معا؛ لساء حالنا معا، ولم يكن لديه شك في أنه سيقبض عليه، وكأن رجال القسم السياسي قد دبروا موافقة «شعبية» في هذه القضية قبل أن يبدءوها؛ لأن ذلك مما يسهل عليهم مهمتهم في نيقوبول.
ولم يحضر «براتشكو» لمزاولة عمله في الصباح التالي، وسمعت أنه قرر السفر إلى «دنيبروبتروفسك»؛ ليستأنف الحكم لدى اللجنة الإقليمية، لكنه لم يجاوز في رحلته مدينة «زاباروزهي»، إذ أخرجوه هناك من القطار، ولم أره قط منذ ذلك الحين، ولا أعلم حتى اليوم ما مصيره، وحدث بعد ذلك بيومين أن قبض على زوجته وأختها أمين سره، ولم ينج من القبض إلا أمه العجوز ومعها بنت أخته وهي طفلة في عامها السادس كانت تعيش معهم، لكنهما أخرجتا من الدار، وكان لهذه المأساة وقع شديد على نفس الأم العجوز، فراحت المسكينة تجوس خلال الطرقات في نيقوبول شهورا عدة، تسأل الناس: هل رأيتم «عزيزي بيوتر» الذي «ضاع»؟ ثم ما هي إلا أن اختفت هي الأخرى عن الأنظار.
وفي الأسبوع نفسه استأنفت اللجنة المحلية نظرها في «قضية كرافتشنكو» من جديد، وكان الرأي السائد عني أني وشيك الوقوع، لكن نجمي السعيد لم يزل له سحره، وإني لأذكر أن «براتشكو» هو أول من ذكر لي هذا النجم الأسطوري حين وجدت ما كنت أفتقده من وثائق، فقد حدث ذلك اليوم نفسه أن نشرت مقالة طويلة في الصفحة الأولى من جرائد نيقوبول، تتهم فريقا من المهندسين في مصنعنا بتهم سياسية مختلفة، وخصوصا بتهمة الإساءة إلى العمال، وكان على رأس المجرمين - بناء على ما ذكر في المقالة - «ماكاروف» و«شايكفتش» وهما في طليعة من رماني بالاتهام!
وهكذا أرادت المعجزات أن تنحرف عني الضربة التي سددت إلى نحري، ولا شك أن «لوس» قد أحس بأنه من غير اللائق أن يعود إلى اتهامي الذي طال عليه الزمن، بعد أن وجه الاتهام إلى أكبر من كان يعتمد عليهم من شهود، ونسيت اللجنة قضيتي بعد أن أدخلتها في برنامج عملها، وتوجهت بعنايتها إلى هذا المثير الجديد، وطرد من الحزب «ماكاروف» و«شايكفتش» كلاهما، ولقد نمي إلي فيما بعد أن نشر المقالة في ذلك اليوم بعينه لم يكن مصادفة، بل جاء تدبيرا أحكمه «سلنين» الكهل وغيره من أصدقائي.
كان القبض على «براتشكو» مبعث تيارات جديدة من الخوف في أرجاء المصنع؛ إذ لا مندوحة لهؤلاء الذين كانوا على صلة وثيقة به، هؤلاء الذين اتخذهم له أصدقاء، لا مندوحة لهؤلاء عن الوقوع في أيدي الشرطة، خذ لذلك مثلا رئيس المهندسين «فشنف» الذي أخذته حالة نفسية متشائمة سوداء، فلما أن قابلته ذات يوم في شأن مشكلة تخص العمل في القسم الذي كنت أشرف عليه، لم أكد أحادثه قليلا حتى تبين لي أن عقله لم يكن في حالة سوية، فقد جلس إذ ذاك إلى مكتبه مرتديا خير ما لديه من ثياب، ومرصعا صدر سترته بوسام «لينين»، وأخذ يبكي بكاء متصلا كما يبكي الصغار.
قال لي: «ألست ترى يا فكتور أندريفتش أنهم إذا ما جاءوا ليقبضوا علي، فسيقبضون بالتالي على «لينين»؟ لقد أمسك الناس عن التحدث إلي ولم يعد أحد يعترف بأني رئيس المهندسين، لم يعد يحدثني سوى لينين.»
وسمعت بعد ذلك بعامين من أحد أصدقائي أن عقل «فشنف» الذي اكتنفته سحائب الاضطراب، تفككت عراه تفككا لم يبق له على شيء من صوابه لما لقيه من ألوان التعذيب، وظن رجال الشرطة السرية أن جنونه «حيلة» احتالها ليجتنب «الاعتراف»؛ ولذلك واصلوا تعذيبه حتى آمنوا بأن جنونه حقيقي لا تصنع فيه.
وذات مساء بعد ذلك الحين ببضعة أسابيع، أيقظوني من نعاسي لأرد على التليفون في بهو الفندق وهو في طابقه الأسفل، فارتديت ثيابي ونزلت، وإذا المتحدث هو «جرشجورن» يأمرني بالذهاب إلى القسم السياسي على عجل.
فعاودت الجلوس في مكتبه الذي أشبه عيادة الجراح، وحسدته على ما بدا في وجهه من لمعة تدل على الصحة والراحة، فيا ليت حيويتي الجسدية التي كانت لي فيما مضى تعود ... فانقطاع النوم الذي بلغ حدته والهم والفوضى الموئسة التي ضربت أطنابها في المصنع، كل ذلك امتص قوتي وتركني في حالة من امتعاض النفس وضعف الجسد.
قال «جرشجورن» وكأنه يزهى أمامي بصحته ونشاطه: «لنبدأ في حديثنا القصير، وآمل أن تكون أكثر من المرات السابقة سداد رأي، وأكثر تعاونا.» - «ماذا تريد مني؟»
فضرب بيده على المنضدة ولوح بيده في وجهي وصاح قائلا: «نحن هنا نسأل الأسئلة، وليس لك إلا أن تجيب عنها، أتفهم ما أقول؟» - «أفهم ... ولكني أحب أن أذكرك أني لم يلق القبض علي بعد، وأني ما زلت عضوا من أعضاء الحزب، لي ما للعضو من مكانة ...» - «هذا لا يعنينا هنا، فأنت في نظرنا متلاف، وها أنا ذا أعيد السؤال عليك: ماذا تعرف عن مناشط «إيفانتشنكو» في سبيل الإتلاف؟ لقد أمهلتك وقتا يكفي للتفكير في الجواب.» - «لا علم لي بشيء.» - «اسمع يا «كرافتشنكو» إنه لخير لك، وأهون علي إذا ما استطردت معي في الحديث، إن لدينا لطرائق وأساليب تحمل الناس على الكلام بحيث تحيلهم إلى طراوة الحرير وليونة الزبد، أتفهم ما أقول؟» وهنا كان صوته يرن رنين الشهوة، وكدت أقول رنين الغزل. «لو أنك عرفت قيمة وجهك المليح - فلست بقبيح المحيا - لكنت لنا أكبر عونا من موقفك هذا ...» - «أنا أقول الصدق، ولا أستطيع أن أحدثك بأشياء لا أعرفها، أو بأشياء أفتريها عليك كذبا.» - «إذن فلست تريد الكلام؟»
هنا دق التليفون، وكان طالبه هو «دوروجان» - كما قال لي جرشجورن - ولذلك طلب إلي أن أتفضل بانتظاره في البهو، وخرجنا معا من غرفته، وسلمت إلى شرطي في حلته الرسمية.
قال جرشجورن: «خل هذا المواطن في انتظاري.»
وكان في البهو إذ ذاك أربعة رجال أو خمسة، أداروا وجوههم إلى الحائط وشبكوا أيديهم وراء ظهورهم.
فدفعني الشرطي دفعا تجاه أولئك الرجال وقال: «أيها المواطن، اذهب معهم وقف مثل وقفتهم.» - «لكنني لست سجينا، فأنا هنا بطلب من الرفيق جرشجورن.» - «اخرس، اصنع ما آمرك به، واجه الحائط وشبك يديك وراء ظهرك، وإياك أن تدور برأسك إلى خلفك، كلا، ولا تسند رأسك إلى الحائط.»
فوقفت بالقرب من هؤلاء الرجال، ولم يكن في مقدورنا أن يرى بعضنا بعضا في نور البهو الخافت، ولا كان في مستطاعنا أن نعلم شيئا عما يدور وراء ظهورنا، ووقفت هناك أربع ساعات، جاء خلالها ناس آخرون ووقفوا في الصف، وكنت قد سمعت بهذا الضرب من التعذيب، وهو من أهون ألوان التعذيب التي يحتويها قاموس القسم السياسي، وها أنا ذا أعانيه في جسدي عذابا.
ويستحيل على إنسان لم يرغم على مثل هذه الوقفة التي يواجه فيها عدما ساعة بعد ساعة، أن يتصور ما عساه شاعر به إذا ما وقفها، فيداك وذراعاك وقدماك تزداد ثقلا، وتزداد تصلبا كلما مرت عليك دقيقة وتحس كأن كل جزء من جسمك، كل إصبع فيه، كل مفصل من كل إصبع، كأنه شيء منفصل له ثقله عليك ... فتحس من الهموم التي تسحقك سحقا أحمالا فوق أحمال، وتشعر أنك لا تستطيع احتمال هذا العبء، ومع ذلك تظل حاملا إياه ...
وجاءت من الغرف التي تفتح على البهو صرخات تحطم القلب تحطيما، جاءت من تلك الغرف صرخات ولعنات، وصوت ضربات ووقع أجساد على الأرض، ففي تلك الغرف أشخاص يسألون ويضربون ويتهددونهم بالويل، ولست أدري كم وقفت وقفتي تلك حين سمعت وقع أقدام وأصواتا آتية من طرف البهو، وأخذ رجل يغني:
لقد أينعت في بستاننا شجرة التفاح
فامتلأت قوة وشذى ورقة.
فصاح شرطي: «سد حلقك هذا، تالله لأجعلن جسمك أنت يانعا إذا لم تسد هذا الحلق.» - «لا فائدة من صياحك له، فهو مجنون جنونا مطبقا.»
هكذا قال قائل للشرطي، إذ كانت تلك الجماعة من الناس تبعد عنا إلى حيث لا أدري.
تندى جسدي بعرق بارد، وسالت من عيني دموع الإذلال دون أن أشعر بها، وأحسست في جسدي كله إحساس من يريد لجلده حكا، حتى لم أعد أحتمل ما أحس به، فلما فككت يدي لأحك جلدي، أمرني الحارس أن أعيد يدي كما كانتا وإلا هشم لي رأسي تهشيما، وكأنما أراد أن يوضح لي ما أراد بتهديده ذلك، فسمعت عواء لا يشبه ما تسمعه على هذه الأرض من عواء، عواء يكاد يستحيل أن يكون مصدره إنسانا من البشر، وسمعت هذا العواء آتيا من خلفي من مكان لا أدري أين كان ... وأخذ ضوء النهار يتسلل إلى البهو فقد رأيته منعكسا على الحائط الرمادي. - «تعال يا كرافتشنكو، وإني لآسف على إطالة أمد انتظارك، فلدينا من الأعمال أكداس، لدينا منها أكداس.»
وكان المتكلم هو «جرشجورن»، كان يتكلم في صوت عذب مرح، فأدرت له وجهي ثم تبعته وكأني في غشية لا أعي، وجلست في مكتبه، لكني لم أحس في جلستي بالراحة تعود، بل كنت كأنني لا أزال واقفا، كأنني لا أزال مسمرا إلى الأرض بأحمال فوق أحمال من التعب، وأخذ «جرشجورن» يسألني أسئلة، فلم أسمع منها إلا كلمات متفرقة، لم تحمل إلي معنى مفهوما. - «حسن، اذهب الآن إلى دارك ونم قليلا فأنت في حاجة إلى النوم، وسأعود إلى طلبك من جديد ... بعد فترة وجيزة، ولا تنس أن هذه الأحاديث القصار ليست من شأن أحد غيرك وغيري، إنها سر مكتوم بيننا، فإذا ما أفلت منك شيء عنها لأحد؛ فستندم ولات ساعة مندم.»
فلما عدت إلى الفندق، غسلت جسدي بماء في برودة الثلج واستلقيت في غير نعاس على سرير لم يجد من ينظم فراشه حتى جاءت ساعة العمل، وهناك وجدت رسالة من القسم السياسي في انتظاري، تأمرني بالذهاب إليهم في منتصف الليل.
وكان «جرشجورن» في تلك الليلة مؤدبا على نحو لم أعهده، بل كاد في أول الأمر أن يكون إزائي كما يكون الصديق الصدوق إزاء صديقه، وذهب في ذلك إلى حد أن قدم إلي شايا وفطائر، لكني أبيت قبولها، فقال لي: إني أعامله في غير رأفة أو لياقة، وأضطره اضطرارا أن يسلك نحوي سلوك الوحش الكاسر، مثال ذلك: حين أطال أمد انتظاري في البهو، مع أنه في حقيقة أمره لم يكن أبدا هذا الوحش الكاسر، وسألني هل تظن منصبي هذا مما يبعث في النفس متعة؟ هل تظنني أستمتع بأداء مهمتي؟ ولكن ماذا يفعل إنسان خلقه الله ذا شعور قوي بواجبه؟
ثم قال: «إنك الليلة تستطيع أن تعاوننا بعض العون يا كرافتشنكو، وسيقدر لك القسم السياسي ما تقدمه له من صنيع، كما سيقدر لك الحزب هذا الصنيع ، ولن نطلب إليك فنسرف في الطلب.» - «وأي عون تريدون؟» - «لا شيء سوى توقيعك، توقيعك الذي تكتبه مخلصا حرا بوصفك مهندسا، ومديرا من رجال السوفيت، وعضوا في الحزب، وسترى أن الأمر خطير لأنه يتعلق بأمر الدفاع، فلقد أرسل مصنعكم أنابيب إلى مشروعات الدفاع الكيميائية في صناعتها شوائب، وليس الخطأ في ذلك خطأك أنت بالطبع، إذ لم تكن أنت الذي صنع المعدن، والأمر غاية في الوضوح، فهو تآمر منظم على الإتلاف بدأ في موسكو وأخذ يهبط حتى وصل إلى خاركوف ثم إلى «زابوروزستال» حيث مدير المصنع «روجوشفسكي» كان عدوا للشعب وهو الآن مقبوض عليه، وهنالك صهر المعدن الذي أرسل إليكم لصناعة الأنابيب.»
فلم ألبث أن أتبين أن الفكرة كلها وهم شنيع خلقه خيال الشرطة، فالمعدن الذي كان يرسل إلينا كثيرا ما كان معدنا من طبيعة رديئة، ولطالما بعثت في ذلك التقارير والاحتجاجات، وكان «براتشكو» و«فشنف» يشعران أحيانا بشيء من اليأس في إصلاح هذا الخطأ، لكن كان في الأمر أخطاء فنية بسيطة يعرفها كل المعرفة «أورزنكدز» و«بياتاكوف» و«إيفانتشنكو»، وهي أخطاء مبعثها قلة الخبرة عند العمال القائمين على صهر المعادن، لا سوء النية.
فقلت: «أولا يا رفيقي جرشجورن لست أبدا على يقين من أن شوائب المعدن ورداءة صنفه يرجعان إلى إتلاف مقصود، وثانيا أود أن أقرأ هذه الوثيقة التي تريدني أن أوقعها.» - «ها هي ذي اقرأها كما تشاء.» وناولني حزمة من أوراق تقرب من عشرين ورقة كبيرة ضربت على الآلة الكاتبة في أسطر متلاصقة.
فأخذت أقرؤها على مهل ساعة أو نحوها، وكلما مضيت في القراءة تعاورتني موجات من حرارة وبرودة، إذ وجدتها مزيجا عجيبا من أنصاف الحقائق والأكاذيب الصريحة، تألف بعضها مع بعض على نحو يدل على حرص وذكاء، بحيث كان منها في النهاية نموذج طيب «لمأساة مضحكة» حبكت خيوطها حبكا محكما، ولكي تتخذ الوثيقة صبغة الصدق، ذكرت فيها أسماء هنا وهناك، عرفت منها كثيرا، إذ كان بينها أسماء لأعلام المهندسين في صناعتي الكيمياء والصلب في بلادنا، وأخرى لمديري مصانع ورؤساء عمال؛ وكان بينها كذلك اسم «إيفانتشنكو» وأسماء موظفين يعملون في إدارات مختلفة، واسم «بياتاكوف»، وبالجملة كان فيها «مزيج» عجيب من قوم مشهورين وآخرين مغمورين.
كانت القصة المؤلفة في تلك الوثيقة تجري مع سياق منطقي خاص، إذ كانت أطرافها تتسق بعضها مع بعض، على شرط أن تسلم تسليما أعمى بصحة المقدمة التي بنيت عليها القصة، ألا وهي أن هؤلاء الناس الذين تمسهم حوادث القصة، من المشهورين الأعلام في الهيئات العليا في موسكو، إلى عمال الصهر في «زابارزهي» ورؤساء العمال في نيقوبول، كانوا جميعا يؤلفون مؤامرة واحدة، كل أعضائها تناولهم التدريب المتقن، وتميز أعضاؤها جميعا بالجرأة ومهارة الشياطين.
فلما فرغت من قراءتها قلت: «لا أستطيع توقيع مثل هذه الوثيقة، لقد صنعت أنابيب من الصلب الذي أرسل إلي، وكان الصلب أحيانا مشوبا بشوائب، هذا كل ما أعرفه وهذا كل ما يمكنني أن أوقعه.» - «جد جميل، لماذا إذن وقعها رجال هم من خيرة الأساتذة في البلاد أو في الطليعة بين مديري المصانع، هل تضع نفسك في منزلة فوق منزلة هؤلاء في الخبرة والتخصص؟»
والحق أن الوثيقة كانت تحتوي على توقيعات لطائفة من علماء السوفيت البارزين والمهندسين النابهين، وكان الحكم الذي أجمع عليه رأيهم هو «الإتلاف المقصود»، لكني لم أجد عسرا في أن أصور لنفسي كيف حصلوا من هؤلاء الناس على توقيعاتهم، غير أني في هذا الصدد لم يكن في وسعي سوى أن أكرر أنني لن أشهد على شيء ليس لي به دراية شخصية.
فقلت: «لا مانع عندي من الشهادة بأن المعدن كان مشوبا، إذا أردت مني مثل هذه الشهادة!» - «هل تهاذرني بنكاتك الآن يا «كرافتشنكو»؟ أنسيت أين أنت الآن؟ شوائب! لسنا نريد منك شهادة على ذلك، وإنما نريد منك إثباتا لتهمة الإتلاف؛ لأن إنتاج الأنابيب كان تحت إشرافك.»
فلبثت صامتا، وأخذ «جرشجورن» يحاج ويصرخ في وجهي حتى مطلع الفجر، وأخذ يقرأ لي فقرات ويبين لي كيف أن الأمر من «البداهة» بمكان، وهو أن المتهمين كانت عندهم نية الإتلاف، لكني لم أر إلا شيئا واحدا رؤية البداهة - على الرغم مما كان يغشاني من تعب - وهو أن القسم السياسي في نيقوبول قد أمر أن يحصل مني على توقيع هو في حقيقة الأمر بمثابة اعتراف مني غير مباشر، إذ كانت شهادتي تلك حلقة مفقودة في سلسلة الحلقات التي فرضها لهم خيالهم الجامح، فإذا ما وافقت على سد هذه الثغرة الشاغرة بحيث تتم للسلسلة حلقاتها، فقد أوقعت نفسي في شباكها، وإذن فلم أصدر عن بطولة حين رفضت التوقيع، لكني رأيت في جلاء أن توقيعي معناه إمضاء تصريح بموتي.
وأخيرا طلب إلي الخروج وشيعني بالشتائم التي أخذ يلحق بعضها بعضا، وتوعدني الويل إذا لم أفكر في الأمر مليا.
وعلى هذا النحو مضت شهور طوال، فأستدعى إلى رياسة القسم السياسي ليلة بعد ليلة، حيث يعاودون استجوابي وتوعدي ووعدي بأساليب الإغراء، ولقد دبروا لي هذه المحنة - محنة انقطاع النوم عني - ليحطموا كياني، فكنت أعمل طيلة النهار فلا أسمح لنفسي بالتراخي في منصبي الجديد؛ لأن أي خطأ أو فشل سيفسرونه بأنه «دليل» جديد على تهمة الإتلاف التي رموني بها، ثم كنت أنفق معظم الليل في مثل ذلك التعذيب.
وأخذ دولاب العدالة في الحزب يدور بعجلاته إبان ذلك الوقت، إذ رفعت لجنة تحقيق جديدة تقريرها وهي كارهة بأن التهم الموجهة إلي تدحضها الأسانيد، وأيد رئيس اللجنة «كوندراشين» ما كان «فيلين» قد حكم به في قضيتي، وعلى الرغم من أن هذا الأمين الجديد كان وصوليا جبانا، فإنه لم يأسف لهذه النتيجة التي انتهت إليها لجنة التحقيق، فانتظر حتى خلا المكان من الناظرين وضغط على ذراعي مهنئا، وكنت حينئذ لا أزال معدودا من أعضاء الحزب، بل كنت من الوجهة النظرية معدودا من «خيرة الخيرة» ومن الصفوة الممتازة بين حكام البلاد.
لكن هذا التعذيب الليلي البغيض لم ينقطع عني، وأخذوا يقذفونني بتهم جديدة كل مساء، فمثلا: ما صلاتي بهؤلاء «الكلاب الوحوش»: مارجولين وبراتشكو وفشنف وإيفانتشنكو وفيلين وروزنجولتز؟ ألم يحدث أني وقفت إلى جانب دوبنسكي «الجاسوس المنشفي»؟ ألم أهيئ أسباب المعونة والراحة ل «الجاسوس الفاشي» زلمان؟ وكان كل اسم جديد من هذه الأسماء وكل موضوع جديد من هذه الموضوعات يتيح لجرشجورن مادة جديدة يظل فيها ساعات مستجوبا ومهددا، حتى لقد دار رأسي دوارا وأصاب حواسي الخدر وأحسست بالألم في كل أعصابي وعضلاتي.
إن من حارب في حومات القتال من الجنود ليعلم كيف يكون أثر اليقظة التي لا يتخللها النعاس، فقد شعرت بما يشعر به السابح على الماء وقد أبعده الجزر عن الشاطئ مسافة طويلة، فأخذ يحرك أطرافه في تهافت، ولبث سابحا على سطح الماء، لكنه كلما لطمه الموج لطمة آلمته، تدفقت من جسده آخر قطرة من قطرات قوته.
وحدث ذات مساء أن تركوني واقفا في البهو أربع ساعات أو خمسا أواجه الحائط، وبعدئذ أذن لي جرشجورن بالعودة إلى منزلي بغير استجواب، قائلا: إنه يأسف إذ لم يجد في وقته فسحة للمضي في «محادثتي»، ثم رماني في الليلة التالية بتهمة جديدة لم تذكر قط من قبل. - «ألم يسكن معك يا كرافتشنكو رجلان أمريكيان؟» - «نعم، كانا يعاوناننا في تشغيل بعض الآلات الأمريكية.» - «ولماذا أسكنهما الخائن «براتشكو» معك أنت بالذات، ولم يختر سواك؟» - «ربما كان ذلك لأني أعزب وكنت أسكن وحدي في منزل كبير.» - «قل لي: ألم يحدث قط أن شكوت لهذين الأجنبيين من نظام الحكم السوفيتي؟» - «كلا بالطبع لم أشك لهما شيئا، وهما لا يزالان في الروسيا وتستطيع أن تحقق ذلك.» - «لا تقل لي ماذا أستطيع أن أصنعه، فقد سئمت وقاحتك، ماذا كان يربطك بهذين الأمريكيين من صلات سياسية؟» - «لم يكن بيني وبينهما أية صلة سياسية، ولقد عاملتهما معاملة رقيقة كما كان يحتم علي واجبي أن أفعل.» - «لكن إيفانتشنكو هو الذي أمر بتوريد تلك الآلات من الولايات المتحدة.» - «نعم.» - «وإذن فمن الجائز أن يكون إيفانتشنكو والمصنع الأمريكي قد دبرا معا خطط الإتلاف.» - «لا علم لي بشيء من ذلك.» - «لا علم لك؟ فأنت في براءة الحمل وسذاجته، ولكن ...»
وهنا أخذ يتكلم في هدوء وفي نغمة المنذر بالويل كأنه على وشك أن يفصح عن حقيقة تحطم بنياني تحطيما، «لكنك زرت هذين الأمريكيين في خاركوف، أليس كذلك؟» - «نعم، لاقيت أحدهما مصادفة في الطريق فألح في أن أذهب معه إلى فندق كرازنايا، ولم أستطع رفض دعوته دون أن أخرج على حدود اللياقة.» - «ثم قابلتهما مرة أخرى في فندق بموسكو؟» - «كلا، فقد كنت آكل في فندق متروبول وحدي، وكان الأمريكيان على منضدة أخرى في الجانب الآخر يشربان مع فتاتين، فناديا باسمي في قاعة الأكل، ولم يكن أمامي سبيل سوى أن أذهب إليهما وأقبل ما قدماه لي من شراب، فجلست معهما خمس دقائق أو نحو ذلك ثم انصرفت.» - «ولماذا طار أحد صاحبيك الأمريكيين في رحلة مفاجئة إلى استوكهلم؟ ولماذا أحضر لك هدية؟» - «كل ما أعلمه هو أنه ذهب هناك لشئون خاصة، ولم يكن ثمة ما يبرر أن ينبئني بأسباب سفره، وأما عن الهدية فقد كانت قطعة من الصلب الخاص ومواد أخرى خاصة بقياس الحرارة مما لم يكن في وسعنا صناعته في بلادنا، فكان ذلك منه فضل أسداه إلي وإلى مصنعنا.» - «لكنه إلى جانب ذلك أحضر إلى «إيفانتشنكو» تعليمات في مناهضة السوفيت، أحضرها من دوائر تقاوم تعاليم الثورة في استوكهلم، أليس كذلك؟» - «لا علم لي بشيء من ذلك.»
استغرق استجوابي عن الأمريكيين بضع ساعات، وإذا الباب يفتح فجأة ويدخل «دوروجان» بجسمه القبيح وهو في سورة الغضب، وكانت شفتاه الغليظتان منحرفتين في هيئة بغيضة، ووقف له «جرشجورن» احتراما. - «جرشجورن، كم من الوقت تبغي أن تنفقه في تركك لهذا المتلاف فرصة أن يلفك حول خنصره؟ أأنت شرطي من القسم السياسي أم خرقة بالية قذرة؟ لقد أخطأنا كل الخطأ في عدم القبض عليه منذ عام مضى، بدل التهاون مع اللجنة المحلية بحيث تركناها تخبط في قضيته.»
فبدت علامات الفزع على «جرشجورن» ولم يكن خافيا أنه يرتعش في حضرة رئيسه. - «يا رفيقي الرئيس، لقد بذلت كل وسعي، وجعلته مادة عملي كل ليلة مدى شهر كامل، فإذا أردت أن نستخدم معه أساليب أشد صرامة ...»
فأهمله «دوروجان» وجعل ينظر إلي من عليائه. - «حذار يا كرافتشنكو وإلا نزلت بك الإصابة في الصميم!»
قال ذلك وخرج وهو يضرب الباب من خلفه ضربة قوية، فلما أطلق «جرشجورن» سراحي بعد ذلك بساعة أو نحوها، قررت بيني وبين نفسي أن أتحدث إلى «دوروجان» إذ أردت لهذه المحنة أن تنتهي على أي وجه من الوجوه، فأعطيت اسمي للحارس الواقف عند بابه، وجاءني الإذن بالدخول.
فصاح بي دوروجان: «هيه، ماذا تريد من لعنات الجحيم؟» - «أردت أن أسألك ماذا تريدون مني، لقد قاسيت العذاب أمدا طويلا ... وفي كل ليلة يطلعون علي باتهام جديد من نسج خيالهم، إنك يا رفيقي «دوروجان» عضو في مكتب اللجنة المحلية، وتعلم أني برئت مرتين، وإني لألتمس منك باعتبارك شيوعيا ...» - «باعتباري شيوعيا!» صاح بهذه العبارة وهجم علي كأنه الثور الهائج، ولطمني بكفه على خدي لطمتين، وجذبني من حلقي وجعل يضغط بأصابعه حتى أختنق، وجعل في الوقت نفسه يهزني هزا عنيفا ذات اليمين وذات اليسار، وكان رجلا قويا فكانت يداه مقابض من حديد زرت على حلقي شيئا فشيئا واشتد زرها، حتى أخذ كل شيء يسود في عيني ... - «اخرج قبل أن أفتك بك!» سمعته يقول هذه العبارة قبل أن يدفعني من باب غرفته دفعا.
فترنحت حذاء الحائط وظللت هناك بضع دقائق حتى تراخت عن عنقي قبضة الحديد، ولا أكاد أدري كيف استطعت الرجوع إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه، وصعدت السلم في ألم ثم ارتميت على السرير واستغرقت في نعاس عميق.
وذات يوم حول الساعة الواحدة بعد الظهر، انفتح باب مكتبي ودخل «جرشجورن» وهو ينفض الثلج عن معطفه، فقلت لنفسي: «لقد جاء ليمسك بك!» - «أهلا يا كرافتشنكو.» هكذا قال فجاءت كلمة «أهلا» باعثا على الاطمئنان «أين المهندس فالنتين بتشكوف رئيس معملكم الكيميائي؟» - «هو الآن في قسم الصب إذ يشتغلون الآن في الصاهر الكهربائي.» - «ابعث في طلبه حالا، حالا، ولا تقل له السبب.»
فطلبت «بتشكوف» على المسرة واستدعيته للقائي، فقال: إنه لا يستطيع أن يترك عملية الصهر، وتوسل أن أمهله حتى يفرغ من مهمته. - «أنا آسف، فاترك كل شيء لأن الأمر هام.» قلت ذلك وأنزلت السماعة.
وسألت جرشجورن: «هل لي أن أعرف لماذا جئت تطلب بتشكوف؟ لأنه على كل حال ممن يقعون تحت رياستي.» - «اسمع يا كرافتشنكو، ألم يكن ما أنزله بك دوروجان تلك الليلة درسا كافيا لك؟ إنك عسير الترويض، تعال إلى مكتبي الليلة في الساعة الحادية عشرة.» - «ألا يمكن أن أستريح ليلة واحدة فأنام؟» - «وقع ما نريدك أن توقعه، وتعاون معنا قليلا، تنم ملء جفنيك.»
وجاء «بتشكوف» وهو لا يتوقع لنفسه شرا، وكان مرتديا ملابس العمل، يتصبب عرقه ويلوث وجهه الرماد. - «نهار سعيد يا فكتور أندريفتش.» قال لي ذلك محييا ثم لحظ زائري ولم يكن بعد يتوقع لنفسه شرا، فأضاف إلى تحيته تحية أخرى: «نهار سعيد يا رفيقي جرشجورن.» ومد بده ليصافح جرشجورن، لكن جرشجورن أغضى عن يده. - «لا تخاطبني بكلمة «الرفيق» أيها المتلاف!» - «ما الخطب يا رفيقي جرشجورن؟ ألست تعرفني؟» - «أعرفك جيدا، ما اسمك؟» - «بتشكوف.» - «وما أسماؤك الأولى؟» - «فالنتين إيفانوفتش.» - «أنت مقبوض عليك بتهمة التخريب، تعال معي!» - «لكن ماذا جرى؟ لست أفهم شيئا.»
فأخرج جرشجورن مسدسه وصوبه نحو سجينه وقال: «اعتدالا! إلى الأمام سر.»
فسار المهندس الشاب وهو في حيرة من أمره، يتبعه موظف القسم السياسي.
فأقفلت باب مكتبي إذ لم تعد لدي ذرة من قوة، أليس من الخير أن أوقع على أي شيء وكل ما يريدونني أن أوقعه؟ ما فائدة العصيان؟ أي فرصة أرجو إزاء هؤلاء الغلاظ الذين أسكرتهم القوة؟
ولم تمض بعد ذلك ساعة حتى جاءت زوجة بتشكوف الشابة تريد لقائي مستصحبة معها طفلتهما التي كانت في عامها الثاني من عمرها؟ جاءت زوجة بتشكوف - وإنها لذات جمال - جاءت تبكي بكاء من مسها جنون، وكانت ابنتها تبكي كذلك، فأردت أن أسكتهما وأن أنزل الطمأنينة عليهما ... فلما كان الليل، كنت مزدوج التعب لما شهدته من حوادث اليوم فضلا عما كنت أعانيه من متاعبي الخاصة، ومع ذلك قضيت جلسة استجوابية طويلة كانت شديدة الوقع على أعصابي فزادتها توترا على توتر.
وجاءتني زوجة بتشكوف مرة أخرى بعد ذلك بثلاثة أيام أو أربعة، فيظهر أن قد ضاع من مكتب زوجها آلة تصوير وساعة توقيت وغير ذلك من أدوات المصنع مما كان زوجها يحتفظ به في مكتبه، فأبى القسم المالي أن يدفع لها استحقاق زوجها السجين حتى ترد الأدوات الضائعة، فناديت مساعد بتشكوف، وسألته فأقسم إنه لا يعلم من أمرها شيئا، لكني شككت شكا قويا في أنه سرقها، واضطررت أن أتصل بجرشجورن مدفوعا إلى ذلك بحالة المرأة وطفلتها. - «أرجوك أن تسأل بتشكوف أين وضع آلة التصوير والساعة وغيرهما من أدوات.» هكذا قلت لجرشجورن متوسلا.
فأجابني جرشجورن قائلا: «سله أنت، تعال من فورك وسآذن لك بالحديث معه.»
ولم أدر لماذا أراد أن يدبر هذا اللقاء بيني وبين المهندس الكيميائي السجين، ولم تمض ساعة حتى كنت في القسم السياسي، فدق جرشجورن الجرس للحارس وأمره أن يحضر السجين «من الزنزانة»، وما هو إلا أن عاد شرطيان وبينهما «بتشكوف» لا تكاد تعرفه من هيئته، فاهتز جسمي لرؤيته، كان وجهه متورما مليئا بالكدمات، وإحدى عينيه مقفلة، وكانت حلة شغله - وهي الحلة التي قبض عليه وهو مرتديها - ممزقة ملوثة بالدماء، ويداه كانتا مضرجتين بالدم، وفاحت منه رائحة كريهة، هي رائحة السجن والمرض، فلم أصدق أن هذا المخلوق المحطم هو بعينه ذلك المهندس الشاب الوسيم الذي جاء إلى مكتبي منذ أيام قلائل.
وعرفت لماذا طلب إلي جرشجورن الحضور، فقد أراد أن يطلعني على لمحة مما يحدث لأولئك الذين يرفضون «التعاون» معه.
فقلت وأنا أميل بنظراتي عن هذا المنظر الموئس: «أين تركت آلة التصوير وساعة التوقيت وغيرهما من أدوات المصنع يا فالنتين إيفانوفتش؟»
فأجاب في صوت متهدج، صوت الرجل وهو يعاني من ألم: «كل هذه الأشياء يا فكتور أندريفتش تركتها عند مساعدي، فقد كان يستخدمها في العمل.» - «شكرا، فذلك كل ما أردت أن أسألك عنه.» - «فكتور أندريفتش ... زوجتي وابنتي ... حبيبتي المسكينة ماريوزا ...» قال ذلك وأخذ يبكي بصوت مسموع.
فضرب جرشجورن على سطح مكتبه بقبضة يده التي يغطيها الشعر وقال: «حسبنا هذا يا بتشكوف، لسنا نريد هذه الحركات المسرحية وإلا بدأنا ترويضك من جديد، فما أظنك قد بكيت حين سممت العمال الذين يشتغلون في قسمك، اخرج من هذا المكان.»
وإذن فتلك كانت التهمة التي وجهت إلى «بتشكوف»، فقد كنا منذ عهد قريب نشتغل في صناعة أنابيب من صلب ساذج وكان لا بد من نقشه بحامض النيتروس في أحواض من الخشب لم تعد لذلك، فبين بتشكوف للعمال ما يجب أداؤه وفقا للتعليمات التي تتبعها كل المصانع ، فحدث لأربعة من العمال أن خالفوا تعليماته فأصابهم تسمم ونقلوا إلى المستشفى، وها هم أولاء - فيما يظهر - يتهمون بتشكوف «بتسميم» العمال عن عمد! فكانت هذه أحدث التهم ابتكارا، والغاية المقصودة منها هي حشد العمال لمناهضة المهندسين، ولم تكن التهمة غير معقولة فحسب، بل كانت ضربا من الجنون.
ولما عدت إلى المصنع استدعيت مساعد «بتشكوف» الذي كان رجلا من رجال الحزب، في حين لم يكن «بتشكوف» من رجاله، فأنذرته بإرساله إلى القسم السياسي بتهمة السرقة إذا لم يرد الأشياء المفقودة إلى مكتبي في عشر دقائق، فما مضت دقيقتان حتى كانت تلك الأدوات على مكتبي، ولما جاءت زوجة بتشكوف لتأخذها فتسلمها إلى مكتب الإدارة أنبأتها أني رأيت زوجها.
وكذبت قائلا: «فالنتين بخير وتبدو عليه علامات الراحة، وبالطبع قد استوحش لغيابك عنه، لكنه طلب إلي أن أطمئنك فلا تأخذنك الهموم، وهو يرسل لك ولابنتك حبه وقبلاته.»
وماذا أقول غير ذلك لتلك المرأة المنكودة؟ فشكرتني وانصرفت، ولم أرها قط بعدئذ، ولست أدري ماذا أصاب زوجها.
ظللت معظم أيام الخريف لا يؤرقني القسم السياسي أثناء الليل إلا في فترات متقطعة، فلما اقترب عام 1937م من ختامه، استأنفوا محاكمتي على نحو موصول غير مقطوع، ولم يتعذر عليهم قط أن يجدوا موضوعات جديدة ل «التحدث» معي فيها، فكلما قضي بالفصل على طائفة جديدة من رجال الصناعة استتبعت مضاعفات كان لا مندوحة لهم عن طلب شهادتي فيها، وعندئذ فقط خطوت الخطوة التي طالما اجتنبتها خشية الإساءة إلى رجال التحقيق.
كتبت لهيئة المراقبة من اللجنة المركزية العليا في مقر فرعها الكائن بمدينة دنيبروبتروفسك، أشكو لها ما يصيبني من مطاردة بتهمة الإتلاف التي لا يؤيدها دليل، ولم أذكر في شكواي القسم السياسي؛ لأنهم أنذروني مائة مرة أن أحفظ هذه المحاكمات الليلية سرا مكتوما حتى عن الحزب، فهيئة المراقبة - من الوجهة النظرية على الأقل - من واجبها أن ترعى حقوق أعضاء الحزب وتحافظ لهم على كرامتهم، وبنيت طلبي من الوجهة الشكلية على التأنيب الذي وجهوه إلي وأثبتوه في صحيفتي، فطلبت إلى الهيئة أن تمحو عني هذه الوصمة.
فجاء محقق بعد أيام قلائل، فقال لي: إن اللجنة المحلية قد برأتك فلماذا تشكو؟
فقلت له: «لا يزال ثمة تأنيب مثبت ضدي وينبغي أن يزول، وأحب أن تراجع هيئة المراقبة ما يوجه إلي من تهم.» ولخصت له التهم الرئيسية التي يقذفونني بها ليلة بعد ليلة.
فأنفق المحقق عدة أيام يتنقل فيها من هنا إلى هناك ويقابل هذا وذاك في إدارة الحزب وفي المصنع، ثم سافر، لكن استجوابي الليلي مضى في طريقه لا ينقطع إلا نادرا، فنحل جسدي والتهبت عيناي التهابا دائما، ولم يكد أصدقائي الذين غابوا عني مدة طويلة يعرفونني إلا في مشقة.
وكانت نيقوبول في ذلك العهد غاصة باللافتات عن «الانتخابات الديمقراطية» الأولى في الروسيا في ظل الدستور السوفيتي، فكان المفروض أن يباشر أهل الروسيا في الثاني عشر من ديسمبر عام 1937م حقهم الذي يفاخرون به، وهو انتخاب أعضاء الهيئة السوفيتية العليا بطريقة الاقتراع السري، وكانت الإعلانات المعلقة على الجدران والصحف ومكبرات اللاسلكي في شوارع نيقوبول وفي مصانع التعدين ومناجم المنجنيز تنشر هذه الأخبار السارة نشرا يهتز له الفضاء. «اجتمعوا حول الحزب وأيدوه! صوتوا في جانب الحياة الاشتراكية السعيدة! لا ينبغي لأحد أن يتهاون في استعمال حقه في الاقتراع السري! أمعن الدساتير في روحه الديمقراطية! فليحي رائدنا وزعيمنا المحبوب الرفيق ستالين!»
فكان كل هذا يلوح لي مهزلة ساخرة من آلامي وآلام ملايين الناس غيري، وبالطبع لم ينظر أحد إلى هذه «الانتخابات» نظرة الجد، فشأنها شأن الاجتماعات الشعبية وما يتخذ فيها من قرارات، هي عبارة عن شعائر شكلية ينفذها الناس كما رسمت لهم، مدفوعين إلى ذلك بالخوف، فتراهم يذهبون وعليهم علامات الملل ظاهرة لا يحاولون إخفاءها، بينما ترى القائمين على الحركة وتسمع أبواق اللاسلكي مدوية بالعبارات الجوفاء، وفي ذلك الوقت نفسه كان يلقى القبض على آخرين من جماعتنا الصناعية، فقبض على رئيس قسمنا المالي «ب» وعلى كبير الكهربائيين «رومانتشنكو» وغيرهما.
وفي اليوم الثاني عشر من ديسمبر وقفت في صف طويل في المدينة حتى تسلمت آخر الأمر «بطاقة الاقتراع السري»، فوجدتها تحتوي على قائمة واحدة من أسماء كتبها الحزب، ولم يكن على البطاقة من الفراغ ما يسمح حتى بكتابة «نعم» أو «لا»، ولا كان فيها فراغ لكتابة أسماء أخرى، وقالوا لنا: إننا إذا كنا لا نوافق على اسم من هذه الأسماء المكتوبة فلنا الحق في حذفه، فدخلت الحجيرة المقفلة وثنيت قطعة الورق ورميتها في صندوق الاقتراع، وأظن أن أحدا من الخمسة الآلاف الذين ذهبوا من مصنعنا لإعطاء أصواتهم، لم يجرؤ على حذف اسم واحد، وراحت الصحف تزهى بهذه الموافقة الإجماعية على «الحياة السعيدة».
جعلوا يوم الانتخابات عطلة عامة، فكان يوما يجتمع فيه الناس وينعشون أنفسهم بما شاءوا، أما «جرشجورن» فقد جعل احتفاله بذلك اليوم أن يتركني واقفا في البهو عدة ساعات، وأن يشتط في وحشيته وهو يستجوبني، وفهمت من أسئلته أن «إيفانتشنكو» متهم بالإتلاف في صناعة خراطة الأنابيب، فلكي يتمموا صورة الاتهام التي رسمها القسم السياسي كان لا بد من «اعترافي» بالتعاون معه على اقتراف ذلك الجرم.
فما فتئت أكرر له قولي: «بصراحة لا أستطيع أن أنبئك أكثر مما أعلم.» - «إلى الجحيم بهذه الصراحة، إن ما أريده منك هو الحقائق ولست أريد هذه الصراحة الملتوية، يا لها من خسارة، إننا لم نوقعك في الفخ في الوقت الملائم، إذن لكنت الآن لينا مرنا بما نشتهي.»
كانت مقاومتي في طريقها إلى التراخي؛ لأنني كنت أتحرق شوقا لنهاية هذا العذاب الطويل، وأوشكت أن أقبل لهذه النهاية ما شاءوا من شروط، وكنت أحيانا أحلم في يقظتي حتى يجرفني الحلم في تياره فأرى نفسي وقد وقعت اسمي بأحرف كبيرة عريضة ... وأسمع صوت النشيد الشيوعي العالمي يعزف لي ... وأرى نفسي وقد أخذوا بيدي في مجد الظافر إلى سرير وثير حيث تلفني بالغطاء أمي وجدتي «ناتاشا» ... وسواء أدرك ذلك مني من كانوا قائمين على تعذيبي أو لم يدركوه، فقد عرفت في نفسي أنني في حالة نفسية تميل إلى التسليم، فأسبوع أو أسبوعان آخران من هذا التعذيب الأليم، وعلقة أو علقتان مما أعانيه، ثم أسلم ولتكن نتائج التسليم ما تكون، فوا أسفاه لم يخلقني الله من صلب صليب.
وبينما أنا في ذلك الموقف، جاءني «سلنين» الكهل ليزورني في فندقي، ترى هل دله حدسه على أنني أدنو من نهاية احتمالي وأنني ربما أسلمت لأعدائي؟ ترى هل كان يرقبني من بعيد فرجح بظنه ما كان يحدث لي، وعرف أني بحاجة إلى من يشد من أزري؟
بدأ الشيخ حديثه معي قائلا: «لماذا أرى العلة بادية عليك؟ قل لي حقيقة أمرك وكن صريحا، وعلى كل حال فأنا أقدر الأمر على أسوأ احتمالاته، وتستطيع أن تثق بأمانتي.»
ولم أكن في حاجة إلى إلحاف منه في الرجاء، فقد كان شوقي لحكاية أمري إلى إنسان بحيث أنفض ما يعتلج في قلبي الجريح، كأنه ظمأ الصادي إلى الماء، فقصصت عليه كل شيء، قصصت عليه قصة هذه الأشهر الكثيرة كيف قضيتها بغير نوم، وكيف قدمت لي أوراق مختلفة تحتوي على اتهام أشخاص لكي أوقعها لهم.
فقال سلنين: «أرجوك يا رفيقي ألا توقع لهم شيئا، لقد صمدت طويلا فاصمد إلى النهاية، إن إمضاءك لن ينجيك من الأذى، بل سيكون بمثابة الفخ الذي تقع فيه فتضيع إلى الأبد.» - «لكن إلى متي؟! إلى متى يستطيع الجسم البشري وتستطيع أعصاب الإنسان أن تتلقى هذا العذاب؟» - «نعم، نعم يا عزيزي، فما أكثر ما شهدته في حياتي الطويلة، وما قاسيت من ألم، لكني أرى حركة التطهير تهون شدتها، إذ لم يعد أمامهم كثيرون ممن يريدون تطهيرهم، فلقد تناولت الحركة ما يقرب من أربعين في كل مائة من مجموع الشيوعيين في منطقة نيقوبول، تناولتهم طردا وقبضا، وكان يقابل كل عضو من أعضاء الحزب يصيبه التطهير ثمانية على الأقل من غير رجال الحزب يلقى عليهم القبض، لكني علمت من شخص يشتغل في اللجنة المحلية - ولو أنني لا أملك ما أحقق به الخبر - أن قد جاءتهم تعليمات جديدة مؤداها ألا يقبض بعد الآن على شيوعيين دون موافقة الحزب، فنشدتك الرحمة أن تصمد قليلا، فلقد اقترح «دوروجان» موضوع القبض عليك خمس مرات على الأقل أمام اللجنة المحلية، وهو يغلي نقمة، فإذا استسلمت لهؤلاء الأوغاد الآن، خيبت رجاءنا جميعا.»
فوعدته ألا أفعل، وإنما ردني عن الاستسلام وقد كنت على وشك الوقوع فيه إيمانه بي، لا نصحه الذي أسداه إلي ولا تفاؤله بانفراج الضيق.
قال سلنين: «والآن فلنشرب نخب العام الجديد.»
ولم أكن تبينت حتى تلك اللحظة أننا كنا في ليلة اليوم الأول من العام الجديد، فقد لبثت في القسم السياسي ذلك المساء من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الثالثة صباحا واقفا في البهو المعتم، أواجه الحائط الذي كلح لونه، وأستمع إلى صيحات الضحايا وما يوجهه إليهم معذبوهم من سباب، ولم يأتني لا جرشجورن ولا دوروجان، فهما لا شك كانا يحتفلان ببداية عام 1938م مع أسرتيهما وأصحابهما.
وفي الأيام القليلة التالية نشطت حركة القبض على رجال المصنع من جديد، ففي كل مرة يبدو لنا أن المذبحة آخذة في الزوال، يتبين لنا بعد قليل أن فتور نشاطها لم يكن سوى استعداد لهجمة جديدة، فكأن موت «أورزنكدز» كان بمثابة ترك الحبل على الغارب، فلا كابح ولا ضابط، إذ لم يكن لخلفه «كاجونوفتش» شيء مما كان لأورزنكدز من دقة ومحاسبة للضمير، ولم يمانع في «التعاون»، ولهذا أخذ القبض على رجال الصناعة والهندسة يزداد زيادة سريعة، وكان بين من أبعدوا عن مصنعنا «ميرون راجوزا» المدير التجاري لجماعتنا الصناعية، وأخرجت زوجته وابنته المتبناة من مسكنهما.
وحدث في الأسبوع الأول من يناير أن قدم لي جرشجورن وثيقة جديدة، وكانت هذه الوثيقة هي إقراري الذي تطوعت بكتابته، والذي هو بمثابة اعتراف مني، ولقد كان إقرارا طويلا مليئا بالاستطراد وبه كثير من الغموض والإبهام، سجلت فيه جرائم أصدقائي ورؤسائي ومرءوسي بجرأة، ولم يمس نصيبي من التبعة إلا مسا رفيقا وبصفة عابرة، إذ ذكر متضمنا ولم يذكر في عبارة صريحة، فظنوا أن هذه الوثيقة ستهون استسلامي لهم وتزيد من إغرائي بالإذعان.
قال لي جرشجوون وأنا أقرأ صفحة في إثر صفحة من هذه الحكاية الخيالية الفنية: «أرجوك أن تفهم أن هذا هو الحد الأدنى الذي يتوقعه منك القسم السياسي، ولم يعد بعد ذلك مجال للمساومة، فإذا لم توافق على هذه الوثيقة كان ذلك منك بمثابة إعلان الحرب على القسم السياسي ولن تنجو من براثنه، واعلم أن هذا التحقيق الذي استطال على هذا النحو قد أتعبني كما أتعبك، فكن معقولا هذه المرة، هل توقع بقلم الرصاص أو قلم الحبر؟» - «لا بهذا ولا بذاك، إن الأشياء التي أعرفها مما ورد في هذه الوثيقة لم تذكر على وجهها الصواب ... وبقية ما ورد فيها لا أعرف عنه شيئا، أنا لم أعترف بشيء مما أجريته على لساني هنا.» - «وأنا أقول: إنك ستوقع أيها المتلاف، ستوقع كما وقع بتشكوف وكما وقع إيفانتشنكو.» - «افعل ما بدا لك، لن أعترف بجرائم أنا منها بريء.»
فوقف جرشجورن في غضبة مفاجئة وهجم علي صارخا: «أيها المتلاف المخرب، أيها الوغد! خذ هذه اللطمة وهذه.»
وأخذت قبضتاه الكبيرتان تطيحان بوجهي كأنهما ذراعا آلة حلت ضوابطها، وانبثق الدم من أنفي وملأ فمي سائلا دفيئا تقززت له نفسي، «والآن هل لك أن توقع؟» ومن جديد، عاد فأمطرني لطمات ورفسات، فسال الدم في عيني حتى غشيتا.
وسمعت - أكثر مما رأيت - «دوروجان» يذرع أرض الغرفة داخلا، فقد مرنت أعصابي على إدراك خطوته القوية، فما بلغني حتى جعل هو كذلك يدقني دقا بقبضتيه، فسقطت على الأرض وتدحرجت إلى البهو كأنني كنت أنكمش حابيا داخل إهابي، وعندئذ أخذت أربع أقدام لبست أحذية ثقيلة قاسية ترفسني وتركلني.
أننت من وقع الألم، وأحسست بالحراس يحملوني، فلا بد أن قد دق جرشجورن لهم جرسه ليحضروا.
وزعق بهم دوروجان: «أبعدوا هذا الوغد! اقذفوه في الخارج.»
وبينا كانوا يجذبونني جذبا خلال الباب ، شعرت بقبضته تضرب قفاي، وساقني الحراس إلى حجيرة حيث تركوني أضمد جراحي، وهناك لبثت جالسا نحو ساعة أو ساعتين، فكان الزمن يمضي كأنه ألم بغير أبعاد، ولم أستطع أن أتبين في رأسي أفكارا معينة، بل لم أتبين في نفسي شيئا من الغضب.
ثم دخل جرشجورن: «والآن هل فكرت في الأمر مليا أو لا تزال في حاجة إلى إقناع جديد ؟ فلدينا من وسائل المحاجة ما هو أشد إقناعا من هذا الذي ذقت مرارته هذا المساء.» - «كلا لن أوقع، اقتلوني إذا شئتم لكني لن أوقع.» - «سأمهلك ثلاثة أيام تفكر فيها، أما الآن فاخرج.»
وخرجت على هذه الحال، وكانت تذكرتي الحزبية ما زالت في جيبي ...
وألفيت نفسي في الطريق أتعثر في عاصفة ثلجية قاسية، وأخذت العاصفة تضرب وجهي الممزق بألف سوط، فحبوت داخل الفندق، حتى إذا ما كنت في بهوه، وقعت عيناي بطريقة آلية على كلمات فوق لافتة كبيرة كانت من بقايا الانتخابات: «آزروا ستالين في سبيل الحياة الاشتراكية السعيدة.»
رقدت على سريري دون أن أنضو ثيابي، وكنت أينما قلبت جسدي على السرير وقعت عيناي على صورة ستالين فوق ورق الجدران المقشور، فما فكرت في الألم الجثماني بل حصرت ذهني في هذا الإذلال، ووجهت الخطاب إلى صورة ستالين قائلا: «والآن يا رفيق ستالين، لقد تم التعارف بيني وبينك، ولم يعد بيني وبينك سر تكتمه أو أكتمه، إذ وضح بيننا كل شيء، فتحياتي إليك يا رفيقي ستالين.»
وملأني حزن عميق، حزن لم يكن منصبا على شخصي، بل هو حزن من أجل الإنسانية كلها، فقد شعرت بإذلال في سبيل البشر جميعا: «إنني أتألم في سبيل وطني وشعبي ... في سبيل وطني المسكين روسيا الاشتراكية.»
وأحسست بالألم كأنه يتناقص، فالإشفاق كان لجراحي بلسما، الإشفاق الذي فاض على روحي، والذي لم يكن إشفاقا على نفسي، بل رحمة بالعالم كله.
إنك يا جرشجورن، وأنت كذلك يا دوروجان، وزعيمكما القائم في الكرملن، ليس في وسعكم الآن إيذائي، إنكم لا تفهمون أني لن أوقع؛ لأني ما دمت صامدا لكم فثمة شعاع من أمل، إنكم لا تفهمون أن مصير بلادنا، بل ربما كان مصير العالم كله، موقوفا على مقاومتي هذه ... لست رخوا مطواعا، بل إني كقطعة الصلب تلين ولا تنكسر، وفي وسعي أن أبادلكم ضربة بضربة، وسأبادلكم ضربة بضربة ...
وأخذتني حينا سنة من النوم حملتني فيها الأحلام بعيدا على ظهر سحابة كبيرة لينة، ثم صحوت لأجد الألم قد تدفق تياره ثانية في جسدي الممزق، ونظرت إلى عيني ستالين الباردتين وهما عالقتان هناك على الجدار فكرهته وكرهت نظامه بدرجة لم أكره بها أحدا أو شيئا من قبل، وها هنا عاودني الخيال القديم الذي ما انفك يعاودني، ذلك الخيال الذي امتزجت فيه الحلاوة بالمرارة، وأعني به فكرة الانتحار التي تسلطت عندئذ على عقلي وجسدي، لكن جسدي أبي علي الحركة، وكنت من الإعياء بحيث لا أستطيعها إلى حيث كانت حقيبة ملابسي فأفتحها وأستل منها مسدسا فأحرك زناده، فعلت كل هذا بعقلي، أما جسدي فقد ظل راقدا لا يتحرك فوق سرير لطخ بالدماء.
وغرقت في نعاس تظللني عينا ستالين وهما ترقباني، لكن جانبا من عقلي لم يزل يقظان يستمع إلى وقع خطوات في البهو، سيحضرون الليلة ليأخذوني، ها هي ذي تلك! إني أعرف وقعها، ورنت الخطوات بوقعها في نومي، وسمعت طرقا على بابي، وفتحت عيني، ونهضت متألما وتعثرت في طريقي إلى الباب، وأمسكت بمقبض الباب بضع لحظات، لعلها آخر لحظات أكون فيها طليقا ... ثم فتحت الباب.
وإذا أمامي امرأة واقفة بشعرها الأشيب ومعطفها الشتوي غطاه الثلج، تبينتها في الضوء الخافت، ورأيت في يدها حقيبة ملابس، ولم أفهم بادئ ذي بدء من كل ذلك شيئا، حتى لقد ظننت أني في حلم من أحلام اليقظة، لكني تبينت موقفي. «أماه! أماه يا عزيزتي!» صحت بهذه الكلمات وارتميت بين ذراعيها.
غسلت أمي جراحي وضمدتها، وأمسكت عينيها عن البكاء، بل أمسكت لسانها عن السؤال، وأخذت بدل ذلك تحكي عن نفسها، فقد عرفت بغريزتها كيف تصرف إشفاقي عن نفسي وهمومها بحيث توجهه إلى ما كانت تصادفه هي من هموم، حقا لقد كانت امرأة ذات إرادة بلغت من القوة حدا بعيدا.
قالت لي: «معذرة يا «فيتيا» أن جئت إليك على هذا النحو دون تبليغ سابق بقدومي، فقد أحسست أن في الأمر شيئا، ولعله قلب الأم يهدي، ومشيت على قدمي أربعة أميال من المحطة خلال هذه العاصفة الفظيعة؛ لأني لم أجد عربة للركوب، بل لم أجد عربة فلاح أركبها، ومرت بي سيارات كثيرة ، لكنها لم ترنى حين صحت بها أن تقف، وأربعة أميال في هذه العاصفة مسافة طويلة إذا مشيتها وأنت تجر حقيبة ملابسك في يدك، فما أظنك يا «يافتينكا» كنت تحسب أمك العجوز بقادرة على مثل هذا المجهود، لكننا نحن النساء الصغيرات الأجسام، أشد الأمهات أجسادا.»
وكانت قد جاءتني بجوارب من الصوف و«بطانية» وقمصان صوفية ... وهي الأشياء التي قد يحتاج إليها المرء في السجن أو معسكر الاعتقال، فعلى الرغم من أني لم أنبئ أسرتي بشيء من محنتي، فإن أمي قد أدركت ما هنالك، ولم يكن بها حاجة إلى أسئلة توجهها لتعلم ... وسرعان ما تسلل في الغرفة ضوء النهار الجديد منعكسا على الثلج المكوم فوق عتبة النافذة.
تنهدت أمي وهي تفرغ الحقيبة وقالت: «نعم يا فيتيا، فقد علمتني التجارب؛ إذ كنت أعد هذه الأشياء عينها لأبيك لما اعتقلوه سجينا ... إن الأعوام لتمضي، أما السجون فباقية، هاك هذا القفاز من الفراء، وكان الله في عوننا.»
وأخيرا سالت من عينيها الدموع على خديها.
ونسيت ستالين لما أخذتني نشوة اللقاء بأمي، لكنه لم يزل هناك ينظر إلي من عل، وما هو إلا أن طفح قلبي بغضبة اختنقت لها، حتى إذا ما غادرت أمي الغرفة حينا، نزعت صورة ستالين عن جدارها، نزعتها على مهل وفي ثبات المتعمد، كأنني كنت أؤدي شعيرة دينية صعبة الأداء ورهيبة الأداء في آن معا، وأخذت في جد المتعبد، أخذت أمزقها قطعة قطعة، ولم يكن بي فرح لما أصنع بل كان بي أسف وغم، ثم أخذت أمزق القطع الصغيرة قطعا أصغر، ثم حملت هذه القطع الصغيرة من الورق في عناية كأنها كانت ذخرا نفيسا ثمينا، حملتها إلى دورة المياه في البهو، وقذفت بها في جوف المرحاض وجذبت السلسلة.
ووقفت أسمع غرغرة الماء، وأيقنت عندئذ أنني لن أشعر إلى أبد الآبدين بما كنت أشعر به إزاء الحزب وإزاء الزعيم وإزاء قضية البلاد، فقد قطع إلى الأبد ذلك الحبل السري الذي كان يربطني بتلك الأفكار والرموز رغم كل شيء، فلن أرفض ما أكلف به من عمل للحكومة، وسأقبل ما يناط بي من مهمات الحزب، وسأخطب إذا طلب إلي أن أفعل، لكني سأفعل ذلك كله فعل الممثل على المسرح، أو فعل الجندي يضع لنفسه خطة للقتال، مرتقبا في صبر فرصة تسنح للفرار: الفرار! لقد فكرت في الفرار لا ليكون خاتمة جهادي، بل ليكون فرصة أبدأ فيها الجهاد جادا.
حاولت في المصنع أن أرد عني سيل الأسئلة الودية التي كانت توجه إلي استفسارا عن عيني المتورمتين وجسدي المكدوم، بحكاية لفقتها عن حادثة وقعت لي، لكني رأيت في أعين القوم أنهم لم يؤمنوا بصدق ما زعمت لهم من سبب، ولقد وجدت في انتظاري إعلانا جاءني من دنيبروبتروفسك بأن هيئة المراقبة هناك ستنظر في قضيتي بعد باكر، وأنها لذلك ترجوني الحضور؛ لكن الرفيق «شالاكوف» - مدير المصنع الجديد - رفض أن يأذن لي بالغياب، فقررت بيني وبين نفسي أن أذهب بغير إذنه.
ودعت أمي على المحطة ذلك المساء، وطمأنتها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وأنبأتها بأني سأذهب إلى زيارتهم بعد يومين.
وسافرت إلى دنيبروبتروفسك دون أن أنبئ أحدا بشيء عن نظر قضيتي أمام هيئة المراقبة، وكانت تلك الليلة التي سافرت فيها هي ختام الأيام الثلاثة التي أمهلنيها جرشجورن فظل ينتظرني عبثا، لقد استمتعت بالنوم ليلتين كاملتين متعاقبتين، فاسترددت بذلك شيئا من قوتي، واسترجعت مع قوتي المردودة أملا جديدا.
رأيت شرطيا يقوم بالحراسة في غرفة الاستقبال التي كانت لهيئة المراقبة في مكتب الرياسة للحزب في ذلك الإقليم؛ ووثب إلى ذهني خاطر أفزعني، وهو أن وراء ذلك الباب العريض ذي المصراعين ستقرر مصيري جماعة لا تعرف من أمري شيئا، وكان في غرفة الاستقبال سواي ثمانية رجال أو عشرة، جلسوا على دكة عليها حشية، امتدت ما امتد الجدار، ومن نظراتهم الحزينة أدركت أن لكل منهم مشكلة لا تختلف عما أنا فيه، وعندئذ خرج من قاعة الجلسة محقق الحزب الذي كان قد جاء إلى نيقوبول، فعرفني.
فقال وهو يبتسم ابتسامة هدأت من روعي قليلا: «آه، يسرني أنك ها هنا يا رفيقي كرافتشنكو.» ثم خرج عضو آخر من القاعة وصاح باسم، فقام مضطربا رجل طويل ملتح وسيم المحيا في نحو عامه الأربعين، ذو شعر خشن على رأسه، فأدخله العضو إلى القاعة الداخلية، ومضت خمسون دقيقة أو نحوها، عاد بعدها مصفرا اصفرار الموت، يمسح عرقه ويضطرب اضطرابا ظاهرا، واستأنف جلسته بين المنتظرين على الدكة ذات الحشية.
وفجأة دخل غرفة الانتظار رجلان من رجال القسم السياسي بحلتيهما الرسميتين، وفي بديهما مسدسان مشهوران، ونادى أحدهما الاسم نفسه الذي كنا سمعناه قبل، فوقف الرجل الملتحي مبهوتا.
فأعلن رجل الشرطة السياسية قائلا: «أنت مقبوض عليك، تعال معنا.» - «لكن ذلك مستحيل ... لا بد أن يكون في الأمر خطأ ... إن هيئة المراقبة تنظر في قضيتي ...» - «تعال معنا وتعال بسرعة، وإلا حملناك حملا.» وخرج الشرطيان ومهما السجين، ولبث الباقون في الغرفة صامتين، لا يجرؤ أحد منهم أن ينظر إلى أحد.
وأخيرا نوديت للدخول إلى حيث هيئة المحاكمة، فوجدت نفسي في غرفة فسيحة يسطع ضوءها، ورأيت خمسة رجال جالسين خلف منضدة طويلة فرش سطحها بغطاء أحمر، وكنت من اضطراب الأعصاب بحيث لم أستطع أن أدرك كل ما حولي دفعة واحدة، غير أن أول ما أدركته هو أنه لم يكن بين الحضور أحد على وجهه ابتسامة، فكل ما حولي عبوس لا مرح فيه.
قال لي من يظهر أن قد كانت له الرياسة: «نهارك سعيد يا رفيقي كرافتشنكو، اجلس، أجب عن الأسئلة إجابة مختصرة وواضحة ولا يأخذنك الهم.»
فلما جلست نقلت عيني في الوجوه الخمسة، وفجأة لحظت بينها رجلا يبتسم ويومئ برأسه إيماءة من يعرفني «الحمد لله، إنه جريجوريف.» وكان جريجوريف بلشفيا من القدامى من صنف ما قبل الثورة، وقد عرفني منذ الطفولة، واشتغل مع أبي في مصنع «بتروفسكى- لينين» (وهو الآن ما يعرف بمصنع «لينين» فقط، أما «بتروفسكي» فقد حذفت)، فانزاح عن صدري كابوس لأن ثمت رجلا واحدا على الأقل سيفهم موقفي؛ لأنه يعرف أنني لم أكن من قبيل الرجال الذين يدبرون الإتلاف، ويعرف أن كرافتشنكو الكبير (أبي) لم يكن قط منشفيا، فذلك كان لي بمثابة الدعامة التي يستند عليها عقلي وقلبي ليثبتا ما فيهما من راجف، فكانت لي بعدئذ شجاعة الكلام في صراحة أكثر ووضوح أجلى.
وأخذت أجيب عن أسئلة مدة أربت على ساعة، وكان بين السائلين رجل أسمر اللون من جورجيا، له وجه الرجل الممعود وصوته رفيع حاد، هذا الرجل كان فيما يبدو يقف مني موقفا معاديا، أما الرئيس وأما العامل «جريجوريف» فقد كانا فيما يظهر في جانبي، وكان بين ما أجبت عنه أسئلة عن أبي، وعن الآلات «المخزونة» وعن صلاتي بقائمة طويلة من «أعداء الشعب»، ولما كنت لا أريد أن أخفي شيئا، فقد كنت أجيب بغير تردد، وفي الموضوع الذي يسأل عنه.
وفي موقف من المواقف، نزع «جريجوريف» عن نفسه مسوح المحققين الرسمية وقال بغتة: «رفيقي كرافتشنكو، لقد عرفتك وعرفت أسرتك زمنا طويلا، قل لنا في صراحة ما شعورك إزاء الحالة في جملتها؟»
فقلت: «إني أقول لكم في صراحة أيها الرفقاء، إني أشعر شعور الناقم، فأنا أعاني ألوان العذاب لمدة زادت الآن على حول كامل، أنا أعاني العذاب ألوانا، أتفهمون ذلك أيها الرفقاء؟» وهنا ارتفعت يدي لا شعوريا إلى وجهي المكدوم، «ويجب أن تعلموا أني جئت إلى هنا بغير إذن، ولست أدري ماذا ينتظرني حين أعود.»
فسألني الرجل من جورجيا في صوته الحاد: «ومن ذا الذي ينزل بك العذاب؟» - «لا أستطيع الجواب ...»
فتدخل الرئيس بسرعة وقال: «لا عليكم، لا عليكم، فلنمض في تحقيقنا.»
وسرعان ما عدت إلى غرفة الاستقبال، فجلست حيث جلس الرجل الذي كان ألقي عليه القبض، وأشعلت لفافة وبدأت أدخن، وكلما انفتح الباب الخارجي أيقنت أن رجال القسم السياسي جاءوا ليقبضوا علي، لكن لما مضت خمس عشرة دقيقة أو نحو ذلك، عانيت فيها ما عانيت، دعيت أمام هيئة المحاكمة من جديد.
فأعلن الرئيس وهو يبتسم ابتسامة عريضة: «أيها الرفيق كرافتشنكو، قررت المحكمة تأييد ما قررته اللجنة المحلية في نيقوبول، وفضلا عن ذلك، قررت أن تلغي ما وجه إليك من لوم، فتستطيع أن تعود إلى عملك، ولن يتدخل بعد ذلك أحد في أمرك، لكني أقترح أن تغير مكان عملك، فتبدأ بداية جديدة في مكان آخر، ولتكن قوي الإيمان بحزبنا وبزعيمنا، مع السلامة أيها الرفيق، وأتمنى لك حظا سعيدا.»
وبالطبع لم يكن يدري إذ ذاك أنه سيقبض عليه هو و«جريجوريف» بعد شهرين على اعتبار أنهما «من أعداء الشعب»!
وصافحني الرجال الخمسة وخرجت، لكني لم أشعر بمثل ما شعرت به أيام التطهير الأول وأنا طالب في المعهد من فرح شديد ببراءتي، نعم كنت عندئذ حرا آمنا، لكني فقدت ما كان في قلبي من إيمان، وحل محله مقت وكراهية.
وقضيت تلك الليلة في منزل أسرتي حيث نمت نوما عميقا ليس فيه أحلام، فلما أن كان الصباح تلفنت لأحد رؤسائي في مركز صناعة الأنابيب موسكو، وشرحت له كيف برأتني هيئة المراقبة براءة تامة، وأفهمته أنني بناء على اقتراح تلك الهيئة أود الانتقال إلى مدينة أخرى، فوافق على وجهة النظر وأبرق إلى مدير نيقوبول بأني مطلوب فورا إلى اجتماع استشاري في العاصمة.
ولم يعد جرشجورن يطلبني إذ كنت في نيقوبول، وتجاهل «شاكالوف» مدير المصنع خروجي على النظام في سفري بغير استئذانه، إذ أرعبته الرسالة التي جاءت عني من موسكو، وبعد أن نظرت في بعض الأمور المعطلة في قسمي، سافرت إلى العاصمة.
كان الذي خلف «أورزنكدز» في منصبه «لازار كاجانوفتش» عضو الهيئة السياسية العليا، الذي عرف عنه أنه بين أصحاب ستالين أكثرهم نصيبا من ثقته، وكان الطريق إلى مكتبه مفتوحا أمامي، وذات مساء في ساعة متأخرة من الليل، بعد أن قضيت بضع ساعات منتظرا كما هي العادة، أدخلوني في حضرة الرئيس الرهيبة.
كنت قد رأيت «كاجانوفتش» مرات عدة قبل ذلك في سيرة حياته، فكان يرخي لحية سوداء قصيرة وكاد يكون نموذج الرجل المثقف في هيئته، أما الرجل الذي التقيت به إذ ذاك فقد تغير عن عهدي به تغيرا شديدا، فاللحية ليس لها وجود، وحل محلها شارب من طراز شارب ستالين، وازداد وجهه ثقلا وغلظا ووحشية، ولم يكن التغير كله في البدن، بل إن الرجل الكامن في إهابه قد اختلف عما كان، وتحول الرجل المثقف فيه إلى رجل يحب مظاهر النفوذ، وأخذ أثناء حديثي معه ينفس عن حركة أصابعه العصبية بلعبه في خيط من الكهرمان، وكان ذلك بدعا فاشيا بين الموظفين إذ ذاك، كأن ذلك الخيط الكهرماني بمثابة المسبحة للبلاشفة.
ورويت له رواية موجزة عن متاعبي في نيقوبول التي بلغت عندئذ ختامها فيما يبدو.
قال كاجانوفتش في نغمة يظهر بها أهميته: «إن الحزب والشعب معا ينظفان جسديهما من الأعداء، ولا مناص من وقوع الضربات أحيانا في المواقع الخطأ، فإذا ما اقتلعت أشجار الغاية لم يكن لك مندوحة عن تطاير الشظايا من الخشب.» - «لكن ذلك لا ييسر لي الصعب يا لازار مويسفتش.» - «إن البلشفي يجب أن يكون قويا شجاعا صليب العود، مستعدا للتضحية بنفسه في سبيل الحزب، نعم يجب أن يكون مستعدا لا للتضحية بحياته فحسب، بل كذلك للتضحية بكرامته وحساسية شعوره، فلا تنس أننا محاطون بسباع الرأسمالية، ولا بد لنا من آن إلى آن أن نفحص عن صفوفنا لنستبعد منها أنصار الرأسمالية، نستبعدهم بالنار والسيف إذا دعت الضرورة إلى ذلك.»
لم أناقشه فيما قال، فلو كان ذلك «أورزنكدز» لقدر ما أعانيه من ألم، ولقال لي كلمة اعتذار ومواساة، أما هذا الرجل «كاجانوفتش» بعينيه الباردتين اللتين كانتا كأنهما خلقتا من الصلب، وبكلامه ذلك الممجوج، فأين هو من ذاك؟ ألا ما أشد سأمي بأمثال هذا التهريج في القول، هذا الاستحثاث الورع، هذا اللغو السقيم الذي يغطون به آلام البشر.
واقترح الرئيس بادئ ذي بدء أن أكون كبير المهندسين للجماعة الصناعية في نيقوبول، لكنني استطعت آخر الأمر أن أقنعه بأنني لا يمكنني بذل وسعي كله في ذلك المكان الذي يثير في نفسي أسوأ الذكريات، فقال: إنه سيترك الأمر إلى رياسة صناعة الأنابيب، ولما خرجت من عنده تذكرت العبارة التي أشاعها هو في العامين الماضيين، وهي قوله: «إننا سنهشم رءوسهم.» قالها في كلامه عن أعداء الشعب والمتلفين.
وقبل مغادرتي لموسكو، نيطت بي رياسة مصنع «أندربيف» للتعدين في تاجانرج.
ولما عدت إلى نيقوبول ذهبت إلى مكاتب اللجنة المحلية لأنقل تبعيتي للحزب من فرع نيقوبول إلى فرع «تاجانرج»، فكان مما رأيته أن تودد إلي كاتم السر «كندراشين» توددا سمجا، فأنبأني بهمسة في الأذن أنه قاوم مقاومة الأبطال ما كان يتلقاه من ضغط «دوروجان» في شأن القبض علي، وأراد بذلك أن يحملني هذا الفضل منه، فمن يدري؟ فربما جاء يوم لهذا الرجل المحطم «كرافتشنكو» بحيث يكون فيه ذا منصب ينجيه من خطر ليرد جميلا بجميل، ففي الروسيا الحديثة لا بد للإنسان من ادخار أفضال يقدمها للناس لعلها تفيده في يوم أغبر من أيام السياسة المتقلبة.
ولما خرجت من مكتب رئاسة اللجنة المحلية قابلت «دوروجان» وجها لوجه.
فقال ساخرا: «وهكذا لذت بالفرار إلى «تاجانرج»؛ لا تزأط فرحا فلن تبعد عن متناول أيدينا أنى ذهبت، فليس على وجه الأرض مكان تستطيع فيه أن تنجو من قبضتنا إذا أردنا ذلك.»
فقلت له: «هذا شأنك ولا دخل لي فيه.» - «لشد ما آسف أني لم أقذف بك في السجن فورا بدل أن أسمح للحمقى باتخاذ إجراءات فصلك على صورة علنية ...» - «لكن قل لي يا «دوروجان» لماذا تمقتني كل هذا المقت ولم يصبك مني سوء أبدا؟»
فقال مستنكرا ومضى غاضبا: «هذا شأني ولا دخل لك فيه.»
وذهبت إلى المصنع حيث ودعت عمالي، ولقد تأثرت أبلغ الأثر لما أبدوه من سذاجة وإخلاص، فهم وإن لم يعلموا شيئا من تفصيلات ما حدث لي، كانوا يحسون عمق ما أعانيه من عذاب، وكانوا يشاركونني بعطفهم، وأما «سلنين» فقد ضمني ضمة عبر بها عن شعور حقيقي، وكذلك فعل «جوشين»، ثم لمحت «كيريوشكين» ينشف يديه في غطاء ثيابه، فذهبت إليه وأمسكت بيده وصافحته ضاغطا عليها لأدله على شعوري الصادق، ولم يكن بيننا ما يستلزم أن نتبادل الألفاظ في تبادل المشاعر.
قال لي: «مع السلامة يا فكتور أندريفتش، ولحظتك رعاية الله، ومهما يكن من أمر، فاذكر أن ملايين الناس من أمثالي هم مؤيدوك، مؤيدوك دائما ... ولو أننا بغير حول أو قوة.»
كنت قد جئت إلى نيقوبول في أوائل عام 1935م يحدوني الرجاء ويحفزني التحمس أن أبدي البراعة في أعمالي باعتباري مهندسا وموظفا من هيئة التنفيذ الصناعية، وذلك خدمة لبلادي وشعبها، وها أنا ذا أتركها بعد ثلاثة أعوام تقريبا، مجردا من الأمل خاليا من الطموح، جريح القلب مما لقيته من إهانة، ولم أكن لأتردد لحظة في أن أستبدل براتبي الكبير وما يسمونه بمزايا، لم أكن لأتردد في أن أستبدل بهذه المزايا وذلك الراتب حياة مغمورة في صفوف العمال.
وإذا سألت: ما أهم عمل عملته في هذه الأعوام الثلاثة، إذا ما وزنت الأمر بنتيجته الختامية، أجبت بأن أهم عمل هو أني بقيت طليقا حيا بينما الملايين من الناس الذين كانوا في مثل براءتي قد وردوا الموت أو حكم عليهم بالعمل الشاق في سبيل دولة لا ترحم، أو طردوا من مناصبهم.
لقد مضى يوم على بلادي كانت فيه حركة التحول الصناعي بمثابة المحرك لنفوس الشباب، ولقد أحببت الهندسة واهتزت نفسي لحركة الإنتاج الصناعي في نغماتها وشدتها ونظامها وجرأتها، اهتزت نفسي للمادة الخامة يلقى بها في طرف، فتخرج مصنوعات في الطرف الآخر، أما الآن فقد استل من نفسي هذا الحافز نحو الخلق والإبداع، وحل محل الرأي الفني الجريء خوف وحذر وارتياب، فلقد بات تدريبي الفني ومواهبي فخا أتعثر في شباكه، ووقعت في ذلك الفخ إلى الأبد، وكتب علي أن أتحمل التبعات التي تعرضني للخطر لكنها لا تعود علي بغبطة.
الفصل الثامن عشر
العمال أحرارهم وعبيدهم
«تاجانرج» - في إقليم روستوف - تقع على بحر آزف، وهي مدينة نظيفة كانت تأخذ أمور الحياة على مهل، وكانت بها الحدائق والبساتين الفسيحة، أما الآن فقد غصت بمشروعات السنوات الخمس، وأصبحت مدينة يغبرها الدخان والرماد وروائح السمك المنبعثة من مصانع الطعام المحفوظ، أصبحت مدينة تمتد أميالا بعد أميال من البيوت والثكنات الجديدة التي بنيت حول مصانع الطائرات والدراجات ومصانع التعدين والأحذية.
كان بها مصنع «أندريف» - وقد سمي باسم أحد أعضاء الهيئة السياسية العليا - وهو يقوم بصناعة عجلات السكك الحديدية وصفائح المدن والأنابيب وغيرها من منتجات الصلب، وكان قسم الأنابيب بالطبع هو الذي سيقع تحت إشرافي، وخصصت لي «شقة» مريحة في مبنى الإدارة، حيث كانت مساكن الصفوة الممتازة.
ترى هل كان القائمون على بناء المدينة منصرفين باهتمامهم إلى إبراز مسافة الخلف التي تباعد بين طبقتي السوفيت العليا والدنيا؟ لا أظن ذلك، ومع هذا فقد كان هذا الفارق بارزا صارخا بحيث يؤرق جنبيك، كان هنالك صفوف من الشجر البديع أخفت وراءها المصنع وما حوله من ثكنات، وكانت تمتد على الجوانب مماش من حصباء تحفها شجيرات البنفسج، وتمتد إلى بركة ماء للسباحة وللتنزه بالزوارق (كانت خاصة بالموظفين بالطبع)، حيث كان الشاطئ على أحسن ما يكون تمهيدا، وكان هناك كذلك ملاعب التنس وغرفات البليارد وغرفة للطعام جميلة لا يستعملها إلا الخواص.
لم يكن ينقص هذه الأبهة كلها إلا وجه باسم أو طلعة بهيجة، فلئن كانت أسوأ مراحل التطهير قد زالت بجنونها، فقد تلكأت خلفها أعقاب من دخان، فنصف موظفي الإدارة تقريبا - من رجال الحزب وغيرهم - اكتسحتهم موجة التطهير، وأما من ظلوا منهم بمنجاة فقد كانوا في حالة من القلق والجزع، يكادون يحسون في أنفسهم استحياء؛ لأنهم أفلتوا من براثن الخطر كل هذا الزمن، وألقي بزمام لجنة رستوف الإقليمية في يد أمين جديد هو «دفنسكي» الذي كان فيما سبق في مكتب ستالين نفسه، جاء من موسكو مباشرة لتولي منصبه، وكذلك جاء مدير جديد لمصنعنا، هو «سميون رسنيكوف»، لكن أشباح القادة الذين أصابهم التطهير كانت لا تزال تحوم حولنا.
كان من عادة «أورزنكدز» أن يسدي النصح للمهندسين فيقول: «عليكم بدراسة الثقافة والنظافة في الأعمال الهندسية الفنية من بوريس كولسنيكوف.»
وقد كان مصنع التعدين في «تاجانرج» الذي ظل كولسنيكوف مديره عدة أعوام، تحفة للناظرين بفضله؛ ذلك لأنه عاش في الولايات المتحدة وكان لا يدخر وسعا في إدخال النظام الأمريكي وكفاية الأمريكيين حتى لقد بلغ بهذه «الأمركة» حدا ظنه أصحابه إسرافا يتعذر معه لأعوانه أن يتابعوه فيه، ومع ذلك كله فقد ألقي القبض على «كولسنيكوف» هذا وزوجته، وشاعت الشائعة أنه هو وزوجته قتلا رميا بالرصاص، وأن أبناءهما زج بهم في سجن خاص بالأحداث في خاركوف.
ولما وصلت المصنع لم يكن قد مضى على فصل كولسنيكوف ومعظم أعوانه إلا أشهر قلائل، ومع ذلك فلم يبق من آثار «الأمركة» التي صبغ بها المصنع في حماسة مشتعلة إلا القليل، وهكذا لم يبق من عمله الذي ظفر بسببه بحمل من الأوسمة وعلام التقدير إلا أنقاض خربة، وشاع في أرجاء المصنع الخمول والفوضى، وتعطلت حركة الإنتاج حتى لقد روعني وروع المدير «رسنيكوف» ما كان ينتظرنا من عمل.
وتبين لي من مقابلتي لموظفي الحزب في لجنتيه الإقليمية والمحلية أن سمعتي قد سبقتني إلى مقري الجديد، إذ أرسلت اللجنة في نيقوبول وأرسل «دوروجان» معلومات وافية عني كأنهم أبوا علي أن أبدأ بصحيفة بيضاء، وسرعان ما أوحى موظفو الحزب في الإقليم إلي شعورا بأنني تحت الرقابة وأنني في قبضة يدهم، وأخذوا يتحسسون خواطري وميولي تحسسا كثيرا ما كانوا فيه غلاظا بغير تهذيب، لعلهم يجدون مواضع ضعف تمكنهم من مهاجمتي دون أن أكون منهم على حذر.
والحق أن بدايتي هناك لم تكن بداية تبشر بأمل كبير، وفضلا عن ذلك، لم أكد أجد هناك ما يطمئنني بالا؛ لأن أعمال السخرة هناك كانت أبرز ظهورا منها في نيقوبول بدرجة واضحة، فطائفة كبيرة من أرقاء القسم السياسي كانت هي التي تقوم بالعمل الشاق في شحن أثقال مصنعنا وتفريغها، وكانوا يشتغلون تحت الحراسة من عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة كل يوم، وكذلك كانت طائفة أكبر من هذه عددا تشتغل في أعمال الإنشاء الجديدة في مصانع التعدين بسولنسكي المجاورة لنا، وكثيرا ما كنت أصادف هؤلاء الأرقاء زرافات في الطريق الرئيسي الممتد بين تاجانرج ورستوف.
إن منظر هذه المخلوقات الذاوية في أسمالها البالية بحيث يكاد يستحيل عليك أن تحشرها في زمرة البشر، قد أخمد من قلبي كل ما قد يكون باقيا فيه من شرارة من التحمس شاردة بين جنباته، فما كان أشده ألما على نفسي أن أعلم أن ألوف الألوف من هؤلاء العبيد كانوا يعملون ويألمون ويموتون كما يتساقط الذباب المتهافت في طول الروسيا وعرضها؛ لذلك لم أزل أدفع بهذه الحقائق إلى مؤخرة ذهني حتى أنصرف لسواها؛ لكني كلما صادفت مثلا جديدا من هذه الحقائق المرة كانت لي بمثابة الصدمة الجديدة، ولعل ما زاد في مرارتها على نفسي كلما أبصرت بمثل منها، شعوري بأنه لولا المصادفة العمياء لكنت أنا كذلك بين هذه الزمرة من البائسين، وعلمي علم اليقين أني على كل حال سأكون واحدا منهم بعد حين قصير.
وذات مساء في ساعة متأخرة من الليل دعيت إلى رئاسة القسم السياسي في تاجانرج، ولم يكن قد مضى على إقامتي في ذلك الإقليم إلا أسبوعان لم أكد خلالهما أفرغ من الإحاطة بما يتطلبه منصبي وما يقتضيه من تنظيم، واستقبلني في مكتب القسم السياسي مساعد رئيس الجانب الاقتصادي من ذلك القسم، وهو رجل لا أذكر اسمه الآن، وكان رجلا لا تشوبه شائبة، ومتحفظا على طريقة خاصة به، ولم أكد أرسل بصري على الأوراق المنشورة على مكتبه حتى تبينت من فوري أنها «المادة» التي أعدها له عني زملاؤه في نيقوبول.
فقال لي: «إن مهمتي الخاصة هي أن أرقب مصنع خراطة الأنابيب الذي يقع تحت إشرافك، فعن لي أنه من المستحسن أن يتعرف أحدنا بالآخر، إذن فقل لي شيئا عن نفسك.» واستند إلى كرسيه كأنه طفل هيأ نفسه لينصت إلى حكاية تروى له قبيل النوم. - «لست أدري ماذا أقول لك عن نفسي، فيخيل إلي أنك تعرف الآن عني كل شيء.» - «لا، لا يا عزيزي كرافتشنكو، يستحيل على إنسان أن يعرف عن إنسان كل شيء، فهل لك مثلا أن تقول لي منذ متى عرفت المهندس «نيقولاي م...؟» وما المناسبة التي عرفته فيها؟»
وكان م... مساعد كبير المهندسين في المصنع، وكنا قد تزاملنا في العمل في مناسبات كثيرة، وفكرتي عنه طيبة، وسألني الشرطي السياسي قائلا: «ما الدور الذي قام به في تعيينك هنا؟» - «لم يقم في ذلك بشيء على الإطلاق، بل إني لم أكن أعلم أنه يشتغل ها هنا.» - «ولماذا إذن تحدث عنك م... إلى رسنيكوف، بل تحدث حديث المتحمس؟» - «لا أدري عن ذلك شيئا قط، ولكنه ربما كان من الطبيعي أن يذكر له صلته بي ما دام يعرفني.» - «نحن هنا في القسم السياسي لا نرى ذلك من الطبيعي أبدا، بل الأمر على عكس ذلك تماما، فالأمر عندي يدعو إلى غاية العجب، إذ كيف يحدث - وأنت عضو في الحزب - أن يحتضنك رجل لا ينتمي إلى الشيوعية، وولاؤه - بيني وبينك - مشكوك فيه؟»
ثم غير موضوع استجوابه إلى مدير المصنع السابق وهو كولسنيكوف.
فقلت له في شيء من الحرارة: «استمع إلي يا رفيقي، لقد أجبت عن هذه الأسئلة مئات المرات في مدة تقرب من عام ونصف عام إذ كنت أعاني عملية التطهير، لقد أجبت عنها في محاكمات القسم السياسي، وأمام اللجنة المحلية ثم لجنة المراقبة، حتى مللتها وسئمتها، لقد أرسلتني موسكو إلى هذا البلد لأعمل، إن براءتي قد نهض عليها البرهان، هلا تركتني وشأني؟»
فنظر إلي نظرة ارتباك كأنني حشرة سامة وضعت أمامه في زجاجة، وقال: «ماذا جرى؟ اضبط أعصابك يا رفيقي كرافتشنكو، وأرجوك أن تتذكر بأنه من الجائز أن يقوم البرهان على براءة إنسان من كل شائبة، وبعدئذ - هب! - تراه مقبوضا عليه لشيء جديد.»
ففهمت ما يعنيه، وجعلت في سأم أثبت له ما أثبته مرارا، وأنفي ما نفيته مرارا خلال العام المنصرم، إذ كان عقلي وذاكرتي المكدودين يعتصران اعتصارا بهذا النفي وذلك الإثبات، وأخذ هذا الموظف يلعب بي ساعة بعد ساعة كما يلعب الطفل الخبيث بخنفساء، ولم يكن له - فيما بدا لي - قصد محدد واضح، فكنت تراه يترك موضوعا يستجوبني فيه ثم يعود إليه فجأة، وهي حيلة قاسيتها فيما مضى مرات عدة.
والشيء الذي فهمته من أسئلته أن الأمر هنا - كما هو في نيقوبول - هو أن كل مهندس وكل مدير يحيط به الجواسيس في عمله وفي داره على السواء، ومما لا شك فيه كذلك أن القسم السياسي في تاجانرج كان عاكفا على طبخ قضية يتهم فيها هذا الرجل «م ...» ورجحت أن المسكين على الرغم من حريته الظاهرة، لا بد أن يكون في محنة من «الترويض» الليلي الذي ذقت مرارته بنفسي.
وبعد نوم لم يطل أكثر من ساعتين أو ثلاث، كنت في أقسام مصنعي مع الصباح، أصدر القرارات في إنتاج يكلف الملايين من الروبلات، يا لها من سخرية مريرة!
ولم تدم إقامتي على شطئان بحر آزف إلا أمدا جد قصير، فقد دعاني المكتب الرئيسي لصناعة الأنابيب إلى موسكو دون أن يبين لذلك سببا، وقال لي رئيس تلك المؤسسة «ميركلوف» على مسمع من مساعده «كوزفنكوف»: إن الرئيس الأعلى «كاجارنفتش» والحزب على وشك أن يثنيا علي ثناء عظيما.
قال لي: «إن مصنع الأنابيب الجديدة في أورال ما فتئ مباءة تخريب وإتلاف، وقد طهرناه من معظم هؤلاء الأوغاد، وسنقبض على بقيتهم بيد من حديد، ونود أن ندعم إدارته بأشخاص قادرين مؤهلين ممن نعتمد عليهم في الناحية السياسية.»
فابتسمت قائلا: «ولست من هؤلاء، فأنا آثم يا رفيقي مركلوف، إذ نالتني حركة التطهير ثم ظهرت براءتي، ولا تزال التهم الخطيرة تكتنفني من قمة الرأس إلى أخمص القدم.» - «نحن نعرف كل شيء، لكننا نثق فيك.»
وأضاف إلى ذلك كوزفنكوف قائلا: «دع هذا يا فكتور أندريفتش، ولا تحفظ في نفسك شعورا بالإساءة على ما فات.»
ثم استأنف ميركلوف الحديث فقال: «وعلى كل حال فقد قضينا بتعيينك رئيسا لأكبر مصنع فرعي لصناعة الأنابيب، وهو ليس أكبر مصنع في اتحاد السوفيت وحده، بل في أوروبا بأسرها.» - «لكني لا أحب الذهاب إلى أورال، فأنا متعب وليس بي حاجة إلى ذلك المكان الفظيع.»
لم يكن أحد من المتصلين بالصناعة في بلادنا يجهل بشاعة مصنع الأنابيب الجديدة في برفولوفسك، وهي تبعد أربعين ميلا عن سفردلوفسك، فهو مصنع أنشئ في مكان مهجور، تقطع فيه أميالا بعد أميال دون أن يصادفك شيء من العمران، وهو يقع في قلب منطقة من المستنقعات وسهول من الطين، وتكتنفه غابات الصنوبر ومعسكرات الاعتقال، وقد أداروا هذا المصنع ليأخذ في الإنتاج قبل الوقت الملائم بسنوات، إذ أداروه قبل أن تتم أقسامه الرئيسية وقبل أن تهيأ له القوة الكافية لإدارته، فكان ما ينتجه في هذه الظروف قليلا رديئا، ومن يسوء حظه بحيث يرسل لإدارة هذا المصنع يفقد في العادة حريته لقاء أخطاء لم يقترفها سوى أولئك الذين وضعوا للمصنع تدابيره في موسكو.
فقال لي ميركلوف: «نحن على يقين مما يكتنف مصنع برفولافسك من فوضى، ولذلك سنؤيدك بكل وسيلة ممكنة، وسيكون الرفيق كاجانوفتش نفسه ظهيرا لك، وسندفع لك أكبر ما يدفع من مرتبات، ثم نكافئك بعلاوة عن كل نسبة معلومة مما تدخله من تحسين، وسنعطيك سيارة جديدة، بل سنعطيك كل ما تريد.» - «لست أطلب سوى بقائي في تاجانرج.» - «أنا آسف، فقد توقعت أن تبدي علامة ارتياح لما وضعه فيك الحزب من ثقة وتعيينك أمر محتوم، إذ قضت في أمره اللجنة المركزية العليا.»
وكنت بعدئذ وحدي مع كزهفتيكوف فلم يسعني إلا أن أقول له: «إذا حسبت أن الحب القهري يؤتي ثمرة، وما دمت تتهددني بإجراءات تأديبية إذا رفضت منصبي ذاك، فسأقبله وسأبذل فيه قصارى جهدي.»
فضحك وقال: «هذا جميل، لعلك تدري أن الحب عادة تكتسب، فالقسر يأتي أولا، ثم تتلوه العادة، ثم يتلوها الحب آخر الأمر، وعلى كل حال فقد تم بيننا الاتفاق، والآن فلنأخذ في العمل.»
وقابلت المدير الجديد للجماعة الصناعية كلها في إقليم أورال واسمه «أوسادش» وهو رئيسي الأوحد في ذلك الإقليم، كما قابلت غيره ممن عينوهم حديثا للعمل معنا هناك، وهكذا اجتمعت في موسكو هيئة جديدة بكل أعضائها لإدارة ذلك المصنع، لكن لم يرد اسم واحد لمهندس أو لموظف ممن سيقومون بالعمل في الجماعة الصناعية، وكنت أرقب مهام عملي الجديد بقلب تملؤه وساوس الناقم، وقد كان مصنع الأنابيب الجديدة ذاك لا ينتج سوى كمية تتراوح بين 35 و40 في المائة من الإنتاج الشهري الذي فرض له، وما فتئت الصحافة وما فتئ أولو الأمر في خطبهم الرسمية يذكرون ذلك المصنع مثلا من أسوأ الأمثلة التي تساق على سوء الإدارة والإتلاف، وإذن فقد كنت بمنصبي ذاك بمثابة من ورث صداعا في الرأس هو من أفظع ما يتصدع به رأس الصناعة التعدينية في البلاد كلها.
وفضلا عن ذلك فقد كان الجو في موسكو وقتئذ كأنما أعد إعدادا محكما ليزيدني تشاؤما، كنا وقتئذ في الأسبوع الثاني من مارس سنة 1938م، وهو الوقت الذي وقعت فيه حركة التطهير الثالثة، وهي أشد من سالفتيها تحريكا للمشاعر وإزهاقا للأرواح بمحاكماتها، وقد كانت البلاد حينئذ قد ألفت أن تسمع أبشع الاتهامات توجه إلى آباء الثورة، بل ألفت أن تسمع ما هو أبشع مما يسمونه ب «الاعترافات»، ومع ذلك فقد وقفت البلاد دهشة مرتابة؛ ذلك لأن المتهمين كان من بينهم «بخارين» و«رايكوف» و«كرستنسكي» وغيرهم ممن ترتبط أسماؤهم ارتباطا وثيقا باسم لينين.
كان «نيكولاي بخارين» رجلا ذكيا زاهدا من الطراز الأول، أو قل كان «قديسا بلشفيا»، فكان للشباب الشيوعي في أيامي وثنا يعبدونه، ولقد عادت إلي ذكريات لقائي به أول مرة في مكتب أورزنكدز، ثم مقابلاتي له بعد ذلك في مكتبه الخاص، وكانت له مكانة بحيث ظل الناس حتى بعد طرده من الهيئة السياسية العليا وبعد أن عرف عنه أنه فقد منزلته، ظل الناس يهتفون له كلما ظهر في الاجتماعات العامة هتافات لا يفوقها إلا هتافاتهم لستالين، وأما «ألكسي رايكوف» فهو الذي خلف لينين في رياسة مجلس وكلاء الشعب، وكان يتعصب لمبادئه إلى حد الهوس، وله لحية مشعثة وعينان تلفظان الشرر، وعلى الرغم مما عرفه عنه الناس جميعا من إدمانه الخمر، فلم ينقص ذلك شيئا من حبهم له، هؤلاء هم الرجال وأمثالهم الذين اعترفوا على أنفسهم والذين خرجوا على مكانتهم المعبودة من قلوبنا، هؤلاء هم الرجال الذين رموهم الآن بالرصاص؛ لأنهم يعملون لصالح الرأسماليين والخونة!
أشهد أنني ما قابلت في موسكو أحدا ينظر إلى اعترافاتهم نظرة الجد، فلقد قبل هؤلاء الرجال على أنفسهم أن يقوموا بأدوار الدمى في مسرحية تعليمية لا تصور الحق الواقع بأي وجه من الوجوه، كان ستالين يفتك بأعدائه الشخصيين، ونجح في إلزامهم بالمساهمة في إذلال أنفسهم وإعدام أنفسهم، ولشد ما دهشنا للأساليب التي استخدمها ليصل إلى غايته، لكن أحدا حتى من أعضاء الحزب أنفسهم لم يكن لينظر إلى ما ورد في المحاكمة من أقوال نظرته إلى الشهادة التي يوثق بصدقها حرفا بحرف، فلو آمنت بصدق هذه الأقوال لكنت في عرف الشيوعيين بمثابة من يعترف على نفسه بالبلاهة الفطرية، وأكثر ما نتوقعه منك في هذا الصدد هو أن تأخذ هذه الأشياء بمعانيها الرمزية المجازية.
كان لهذه الحوادث أسوأ الأثر على رفيقنا الكهل ميشا الذي زرته أثناء رحلتي، فلقد عرف هؤلاء القتلى من الزعماء معرفة الصديق لأصدقائه، عرفهم قبل الثورة وبعدها وقد كان له شرحه الخاص لاعترافاتهم، وهو شرح لم يكن ليقنعني، لكنه كان مع ذلك أقرب ما سمعته من شروح لسلامة المنطق في تفسير تلك الظاهرة، وقد بنى ميشا شرحه على أساس معلومات سمعها من أصدقائه الكثيرين في الكرملن.
قال لي: «أولا اعلم يا فيتيا أن الأكذوبة تظل أكذوبة بغض النظر عمن يعترفون بصدقها، ولندع جانبا فصاحة الكلام، إن «بخارين» و«رايكوف» وغيرهما رغم ماضيهم المجيد، لم يكونوا سوى كائنات بشرية من لحم ودم، ولقد قلت لي بنفسك كيف كدت توقع على طائفة من أكاذيب تحت تأثير الضغط في نيقوبول، وما عانيته أنت من ألم هو لعب أطفال إذا قورن بما وقع على هؤلاء الزعماء من ضغط أدبي ومن ضغط جسدي كذلك في أغلب الظن.» - «لكن هؤلاء الرجال أنفسهم يا رفيقي ميشا قد صمدوا للاضطهاد والتهديد الذي وقع عليهم من شرطة القيصر في عهدهم.» - «لسوء الحظ لا سبيل إلى المقارنة، فالشرطة السرية القيصرية كانت لم تزل بدائية في أساليبها إلى حد بعيد، ولم تكن تقيم عملها على أساس علمي كهذا الذي تصطنعه شرطة اليوم ، ولم يكن رجال الشرطة حينئذ من مهارة الشياطين التي نراها في نظام اليوم في شيء، ولست أدري كم منا نحن الثائرين القدامى كان يستطيع الصمود إذا كانت الشرطة السرية عندئذ تنزل بنا ما ينزله رجال الشرطة السياسية اليوم من ألوان التعذيب.
وشيء آخر لا يقل عن ذلك أهمية يا «فيتيا»، كان هؤلاء الرجال في الأيام الماضية يستمدون القوة من إيمانهم العميق، فأنت تعلم أن الناس لا يترددون في التضحية بأنفسهم، بل بما هو أشق من ذلك، أعني بالتضحية بمن يحبون، في سبيل إيمان بمبدأ عظيم أو رجاء تعلقت به عواطفهم، لكن ماذا يمدهم بالقوة إذ هم يعانون عذاب القسم السياسي اليوم أو عذاب السجن المنفرد؟ لا أمل لهم يرجونه ولا إيمان، لقد زال عنهم خداع الأوهام، إذ نظروا حولهم فإذا بالبناء الذي أنفقوا أعمارهم في تشييده محطم يعز على الإصلاح، فلماذا يلعبون دور البطل من أجل قضية ميتة؟ لماذا يواصلون القتال بعد أن لم يعد أمامهم أمل يرجى؟ قدر هذه الظروف تجد من الهين عليك أن تفهم لماذا انقلب أبطال الأمس رجالا ذوي ميوعة وطراوة ولم تعد لهم ذرة من كرامة.» - «وهل تصدق الحديث الذي يروونه عما دار بين المتهمين وبين هيئة الاتهام من مساومات؟» - «أعتقد أنه صحيح، واعلم أنني إنما أقيم عقيدتي هذه على أساس من المعلومات الموثوق بصدقها، فأنت تعرف أن القسم السياسي يندر أن يفصل في أمر رجل دون أن يفصل كذلك في أمر أسرته، فهل تظن حقا أنه من المصادفات أن تظل ابنة «رايكوف» طليقة على قيد الحياة، مع أنه كان ينزلها من حبه منزلة فوق سائر الناس؟ وأنه من المصادفات ألا يمس بأذى والد «بخارين» وزوجة «روزنجولتز» وبعض أقربائه الأقربين؟ أما أنا فلا أتردد في العقيدة بأن هؤلاء الرجال قد لوثوا صحائف أنفسهم - فقاموا بتمثيل الأدوار التي طلب إليهم تمثيلها في المهزلة الباكية - لكي ينقذوا أحباءهم أولئك.
واسمح لي أن أنقل إليك ما أعلمه من رفقائي الذين يتصلون ب «يزوف» الذي كان يصرف هذا الأمر القبيح منذ فصل «ياجودا»، فقد أعدت بطانة الصورة المسرحية على أيدي رجال القسم السياسي بأمر من ستالين شخصيا، وحفظ كل ممثل دوره حرفا حرفا قبل أن يرفع الستار: من رجال النيابة والمتهمين والشهود والقضاة، فأما المتهمون الذين أبوا أن يتعاونوا في تمثيل المسرحية فقد قتلوا في الظلام، وأما من تعاونوا معهم فقد كان جزاؤهم ألا يقتل أبناؤهم وزوجاتهم ووالدوهم وأصدقاؤهم الأقربون، ثم وعدوهم فوق ذلك أن يكون لهم حق الاستئناف لمحاكم عليا، بل للهيئة السياسية العليا نفسها، وفي مثل هذه الظروف ترى الأمل الضئيل يحفز صاحبه إلى أمد بعيد.
وكانت المساومات أكثر تحديدا في حالة «إيكوف» و«بخارين» و«كرستنسكي» وآخرين غيرهم، إذ وعدوهم بأن يخفف حكم الإعدام إلى نفي في جهات نائية إذا هم مثلوا أدوارهم كما كتبوها لهم، بل إن ستالين حرك فيهم شعور الكبرياء، فقال لهم: إنه لن يسمح بقتلهم وهم الذين لأسمائهم ما لها من وزن في صحائف التاريخ.
وهكذا قام هؤلاء الضحايا بتنفيذ ما أريد لهم أن ينفذوه، لكن ستالين لم يف بوعده، وواضح أنه لم يكن ينوي الوفاء بوعده، فما انقضت بضع ساعات بعد المحاكمة حتى نفذ الإعدام ومات «بخارين» و«رايكوف» وهما يستنزلان اللعنة على ستالين، لقي هؤلاء الناس حتوفهم وهم وقوف، ولم يموتوا وهم يتمرغون على أرض سجنهم يسفحون عبراتهم كما فعل «زينوفيف» و«كامايف».
وهاك خبرا آخر آتيك به ممن يعلمون دخائل الأمور، وهو أن ستالين ألف لجنة لتكتب للحزب تاريخا جديدا، وبذلك سيعيدون كتابة التاريخ وسيلوون الحقائق بحيث تتفق مع شطحات الخيال التي جرت في هذه المحاكمات، ولئن أضحكتك هذه التشويهات في كتابة حقائق التاريخ وأضحكتني، أو أبكتك وأبكتني، فإن جيلا جديدا ينشأ وليس في ذاكرته وعي بحوادث الماضي، وهم الآن قائمون بتنظيف المكتبات من كل كتاب أو مقالة قديمة تناقض هذا الذي ابتكره خيالهم السخيف في هذه المحاكمات، وستصبح هذه الأكاذيب المفجعة هي الحقيقة الرسمية، وبذلك سيكتب النصر للكذب، يا إلهي يا فيتيا، ومن أجل هذا أنفقت عشر سنوات مغلولا بالأصفاد في حجيرات السجون القيصرية.»
تلك كانت الحالة في موسكو حين خلفتها إلى مصانع أورال بكل ما يكتنفها من قاذورات وأوساخ.
قابلني موظف من موظفي مصنع «الأنابيب الجديدة» على محطة السكة الحديدية في «سفردلوفسك» (وهي ما كانت تسمى قبل بإكاترنبرج وشهرتها هي أن آخر القياصرة قتل فيها هو وأسرته)، ومن حسن حظي أن ذلك الموظف كان ممن أعرفهم معرفة جيدة، فشجعه ذلك أن يكون في حديثه معي صريحا، فأخذ يروي لي أحداث المصنع حتى أحدثها وقوعا إذ نحن في السيارة نقطع الأربعين ميلا التي كانت تؤدي بنا إلى «برفولارسك»، وعلى الرغم من أنه لم يقل لي كل شيء، فإن ما قاله كان كافيا لتأييد أسوأ ما دار في وهمي من ظنون.
كانت مهمتي أن أنظم الإنتاج في مصنع تسوده الفوضى المادية كما يسود عماله انهيار معنوي، فقد كان هنالك عدد يقرب من ستة آلاف عامل وأسراتهم، فكان المجموع سبعة عشر ألفا أو ثمانية عشر ألفا، يعيشون جميعا في حالة يرثى لها، ولم يكن بينهم من تستطيع أن تثق في عدم جنوحهم للفرار سوى هؤلاء الذين ولدوا في ذلك الإقليم والذين يعملون بالسخرة في المشروعات الإنشائية، أما الموظفون الفنيون أو من بقي منهم بعد حركات التطهير، فقد كانوا بغير قوة معنوية، وكانوا بطبيعة الحال يجتنبون تحمل التبعات، ولقد أحسوا أنهم بمثابة المنفيين بسبب ما كانوا يعيشونه من حياة بغيضة، وما كان يحيط بهم من ظروف سيئة في العمل، وكان كل أملهم أن ينقلوا إلى مكان آخر.
ولما كنت على مسافة سبعة أميال أو ثمانية من «برفورالسك» رأيت فجأة سور الأسلاك الشائكة يحيط بمعسكر الاعتقال على بعد بضع مئات من الأمتار عن الطريق، فأوقفنا السيارة لأملأ البصر من هذا المنظر، فرأيت المعسكر يشغل رقعة فسيحة وتقع في بقعة من الغابة اقتلعت أشجارها، وقامت فيها ثكنات كئيبة، ويخيل إليك إذا ما نظرت إلى المعسكر أنه مهجور يسوده صمت القبور، والسور المحيط به مسدس الأضلاع، يقوم في كل ركن من أركانه الستة برج للحراسة مجهز بالأنوار الكاشفة والمدافع الرشاشة.
فسألت زميلي: «أين المعتقلون؟»
فقال: «هم الآن في العمل، كثير منهم يعملون في مصنعنا، وبقيتهم تعمل في مصانع أخرى ومناجم ومشروعات إنشائية، إني أراك يا فكتور أندريفتش حديث عهد بأورال، فخير لك أن تدرب عينيك على منظر المسجونين أينما أدرت البصر.»
واستأنفنا المسير، فيا لها من بداية جميلة لحياتي الجديدة! كان «أوسادشي» - المدير الجديد - قد سبقني إلى هناك، ورأيته فإذا هو رجل متجهم؛ لأن نظرة واحدة إلى المجموعة الصناعية في ذلك المكان كانت تكفي لإخماد جذوة الحماسة التي أشعلها في نفسه إذ كان في موسكو.
وسرنا معا خلال الأبنية المختلفة وأجزاء المصنع، فتنهد قائلا: «اسمع يا رفيقي كرافتشنكو، لا شك أن أمامنا مهمة علينا أداؤها، وإن هذا المصنع ليحتاج إلى أعوام طوال قبل أن يقوم على قدميه، فليس لدينا هنا أفران كهربائية لصناعة الآلات، والقوة الكهربائية أقل كثيرا مما نتطلب، ومحطة الغاز بعيدة جدا عن تمامها، وليس لدينا وسائل لطلي الآلات بالكرونيوم، ومجمل القول أن هذا الذي نراه ليس مصنعا على الإطلاق، بل هو بداية لمصنع ليس غير.»
وأكدت عيناي قصته، إذ رأيت القسم الميكانيكي أضحوكة ضاحك، ولم يكن مصنع الكهرباء الغلوانية جديرا باسمه، ولم يتم إعداد مخازن الحديد بعد، فتركت في العراء ألوف الأطنان من الصلب ومن غيره من المعادن، وتكدست المعادن أكواما فيها خليط من كل صنف ومن كل طراز دون أن يبذل في سبيل تنظيمها أقل مجهود، وأما آلات خراطة الأنابيب نفسها فقد كانت من آخر طراز أمريكي وألماني، وأنفق في شرائها ملايين الروبلات، لكن ما فائدتها بغير لواحقها الضرورية؟ بل إن هذه الآلات التي استوردوها من الخارج، قد علتها طبقة من الوسخ وأصابها العطب، وأينما وجهت بصري ألفيت أكداسا من الأدوات الثمينة وأجزاء الآلات الغالية بارزة من الطين مغطاة بالصدأ.
وتم يأسي حين زرت حي العمال، فما كانت الثكنات التي لمحتها وراء الأسلاك الشائكة قائمة تحت فوهات المدافع الرشاشة تختلف كثيرا عن تلك الصناديق الخشبية الكئيبة المرطوبة القذرة التي اكتظت بعمال مصنعنا الأحرار.
وجعلت أتحدث إلى بعض النساء فوجدتهن ساخطات، ولا شك أنهن كن ينظرن إلينا على اعتبار أننا المسئولون عن حالتهن السيئة، لا على أننا زملاء العمل، ولم يكن بمنطقة الأورال من الأراضي المزروعة إلا قليل؛ ولذلك لم يستطع أن يظفر بمئونة كافية من «سفردلوفسك» إلا نحو ستة رجال هم كبار الموظفين بسياراتهم تحت تصرفهم، أما العمال فغذاؤهم الرئيسي هو الخبز والخضر المحلية والبضائع المحفوظة، وإذا ما جاء فصل الصيف القصير حميت تلك المساكن كأنها الأفران، وكانت معظم سقوفها مخرمة بحيث يتسلل المطر فينفخ بمائه الجدران الخشبية، حتى إذا ما أقبل شتاء الأورال الطويل لم تكن تلك المنازل وقاية من البرد القارس.
وبعد أن قضيت ساعة في مساكن العمال، حمر وجهي خجلا حين عدت أنظر إلى شقتي ذات الغرف الأربع التي تقع في طابق من أحد المنازل ذات الطوابق الثلاثة المشيدة بالطوب الأحمر، والقائمة وسط أشجار في الناحية الأخرى من المصنع، نعم، إن مسكني ذاك كان يعد في أي مكان آخر - حتى في نيقوبول أو تاجانرج - مسكنا قذرا أشعث، أما في برفورالسك فقد كان يبدو كأنه آخر ما يصل إليه الترف، ويكفي أن يكون فيه حمام خاص، وأن تكون أرضه مفروشة بالبسط، وأن يحتوي على أثاث جيد ومطبخ جيد، ولقد ورثت عن سلفي في هذا المسكن «دونيا» وهي امرأة فلاحة نصف لا تعرف حسن الترتيب، وكانت مهمتها الطهي والغسل.
كانت السيارة الفخمة التي وعدوني إياها تنتظر قدومي، كذلك كانت لي سيارة صغيرة من طراز «فورد»، وهذه كانت أنفع من الأولى في الأيام التي يكثر فيها الوحل، كذلك خصصت لي طائفة من الجياد الكريمة، وكان راتبي الأساسي ألفا وخمسمائة روبل في الشهر، لكنه كان يصل إلى رقم قريب من ثلاثة آلاف إذا أضفت العلاوات والزيادات التي يصرفونها للتشجيع، وتستطيع أن تفهم معنى هذه الأرقام إذا عرفت أن العامل العادي يتقاضى مائة وخمسين روبلا، وأن العامل الميكانيكي الحاذق يتقاضى نحو مائتين وخمسين، وأن المهندسين ذوي المؤهلات يتقاضى الواحد منهم راتبا يبلغ نحو ستمائة روبل.
إذا أراد مهندس أن يشتري حلة عادية كان لا بد له من دفع مرتب شهر كامل، غير أن هذه الحسبة نظرية صرفة؛ لأن «برفورالسك» لم يكن بها ملابس تباع، بل إن سفردلوفسك نفسها لم يكن فيها ما يباع من الملابس إلا نزر يسير، ولم يستطع شراء الأحذية والثياب إلا الأقلون الذين كان في مقدورهم بحكم أعمالهم الرسمية أن يذهبوا إلى موسكو أو لننجراد حينا بعد حين، وأما البقية فلا يصيبها إلا قدر ضئيل تتصرف فيه الإدارة، فكنا نوزعه بين من يستحقونه من المهندسين ورؤساء العمال بل والعمال أنفسهم.
ولم أكن قد قضيت في عملي أسبوعين حين جاءني رئيس الحسابات بكشف المرتبات عن نصف شهر لأوقعه، فلما درست ما به من أرقام، استوقف نظري بند عجيب وهو مبلغ ضخم «لرجال القسم السياسي».
فسألت في حيرة: «فيم صرف هذا المبلغ؟» - «هذا بمقتضى العقد الذي وقعناه لاستخدام العمال المائة والستين الذين خصوا مصنعك من العمال المسخرين، فنصف رواتبهم من حق رجال القسم السياسي.» - «هل ينتمون إلى أحد معسكرات الاعتقال؟» - «لا، لا، يا رفيقي كرافتشنكو، فهذا قسم آخر من أقسام الشرطة السياسية، فالعمال الذين تم عليهم التعاقد يسكنون هنا كما يسكن العمال الأحرار، غير أن لهم ثكناتهم الخاصة، وهم رجال جيء بهم إلى هنا لشتى الجرائم.»
ولقد أنبأني بعدئذ مديرو الأقسام الأخرى أن في كل قسم من أقسام المصنع طائفة من هؤلاء العمال المسخرين، ففي قسم مائتان وخمسون، وفي آخر ثمانون، وفي ثالث خمسون، ولم يكن العمال الأحرار يخالطونهم، ولم يكن يتعذر عليك في أي مكان من أرجاء المصنع أن تخرجهم من صفوف العمال لما يتميزون به من منظر يستثير الإشفاق.
وحدث ذات يوم أن تحدثت إلى واحد من هؤلاء المسخرين كان يشتغل في آلة خراطة الأنابيب، وكان قصيرا على وجهه سيما الأموات، فلم يكن يسيرا علي أن أجر الرجل إلى السير في الحديث، إذ لا بد أن يكون هؤلاء المنكودون قد أمروا بشدة ألا ينبسوا ببنت شفة، لكني عرفت منه أنه كان رئيس عمال في مصنع بلننجراد، وقد أصابه التطهير قبل ذلك بثلاثة أعوام.
فسألته: «وما الذي يمنعك من الفرار؟»
فهز رأسه هزة تنم عن حزن وقال: «فرار! وإلى أين يكون الفرار؟ أين تختفي وإلى متى؟ وأحب أن أنبهك أيها الرئيس أن هذا الحديث ليس محمود العواقب لأي منا.»
بدأنا في مهمتنا الفادحة وهي أن نشق لأنفسنا طريقا نخرج به من تلك الفوضى الضاربة بأطنابها، فأفران الكهرباء كانت ملقاة في أرجاء المكان لا يلتفت إليها أحد، فأخذنا في تنظيفها، وواصلنا المجهود المضني أسابيع متعاقبة، وكان اليوم الذي نعمل فيه أربع عشرة ساعة بمثابة يوم العطلة، وبعدئذ أمكننا أن ندير واحدا من تلك الأفران، وأنشأت قسما ميكانيكيا كبيرا وطلبت إلى العمال ذوي المؤهلات أن يعلموا زملاءهم كيف يديرون الفرن الكهربائي، وكذلك أنشأت قسما لقياس الحرارة ورتبت سبيلا لتعليم العمال المبتدئين كيف يديرونه، واستطعت بناء قسم لطلي المعادن بالكروميوم وإعداده بالأدوات اللازمة، جمعتها نتفا من هنا وهناك، ولما كان الإنتاج في الأعوام الماضية بطيئا لانعدام الاتصال التليفوني بين أجزاء المصنع وبين المصنع والخارج، فقد أنشأت ما سد هذا النقص على الرغم مما قام في وجهي من عقبات لا يستطيع تقديرها إلا فني، وفضلا عن ذلك كله فقد أقمنا ما لم يكن لنا غنى عنه من أفران ومناضد للعمل.
وفضلا عن هذا الحد الأدنى من المنشآت التي تقتضيها الضرورة الفنية، كلفت مئات من الرجال والنساء بالتنظيف ومسح الأرض ودهان الجدران وإزالة الأقذار المتجمعة؛ لأني كنت على يقين أن لا أمل في زيادة الإنتاج بغير أساس من نظام ونظافة، إنهم يتهمون هذا المصنع بالإتلاف والتخريب! ورأيي أنها معجزة من المعجزات أن هذا المصنع استطاع أن ينتج حتى هذا الذي أنتجه، أي 35 إلى 40 في المائة من المقادير التي قررتها مكاتب الرياسة.
ولم يمض غير شهرين حتى تبدل المكان بحيث كادت تتعذر المقارنة بينه وبين ما كان، وسرت عدواي إلى زملائي فيما كنت عليه من عزم، ثم سرت عدوى زملائي في إقبالهم على العمل إلى صفوف العمال حتى بلغت أدناهم مرتبة ممن يقفون على مناضد العمل أو يكنسون الأرض، حتى إذا ما أقبل علينا شهر مايو، كنا قد استطعنا رفع الإنتاج إلى 80 في المائة - وهو عمل كان يبدو لي أول قدومي أنه مستحيل - وليس ذلك فحسب، بل وفقنا كذلك إلى تجويد النوع، وهبطت نسبة الشوائب فيما نصنعه من أنابيب إلى مقدار يتراوح بين خمسة في المائة وستة، بعد أن كان متوسطها 12 في المائة.
وطبيعي ألا يترك لي هذا المجهود الجبار فضلا من الوقت أنفقه في حياتي الخاصة، ففضلا عن إشرافي على الإنتاج، كنت مسئولا شخصيا عن المساكن والغذاء والتدريب الفني والعلاج الطبي للألفين من العمال وأسراتهم الذين كانوا تحت إشرافي المباشر، وعلى الرغم من أن عددا كافيا من الموظفين كان يقوم بمساعدتي في تلك المهام، وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء المساعدين كان قديرا، فإن التبعة في نهاية الأمر كانت تقع على عاتقي، وكاد ألا يمضي يوم لا تنحرف فيه مجهوداتي عن صميم العمل إلى مشكلات لا تتصل اتصالا مباشرا بالإنتاج.
ولم تكن «هستيريا» التطهير قد دنت من ختامها، فجاء وبالها ضغثا على إبالة؛ ذلك لأنهم كانوا يتخطفون مني رجالا أكفاء حين كنت أحوج ما أكون لعملهم، وحتى أولئك الذين لم تصبهم ضربات التطهير إصابة مباشرة، كانوا يحيون ويعملون في جو من الفزع الذي لا يعرف للطمأنينة طعما، وكنت عندئذ قد دربت نفسي تدريبا على تجاهل ما يحيط بي من تجسس وشكاوى مما لا يقع تحت الحصر، ودربت رأسي وأعصابي على تركيز الانتباه في المهمة التي بين يدي دون أن أبعثر مجهودا عصبيا في غضبات لا تجدي فتيلا، ومع ذلك كله فقد كان يهزني هزا، بل كان يشلني شللا تاما عن العمل أحيانا في مواقف عصيبة أن أعلم أن القسم الاقتصادي من مكتب الشرطة السياسية قد عرف بعض تفصيلات العمل، وتفصيلات القرارات الفنية حتى قبل أن يجيئني نبؤها، فبث ذلك في نفسي شعورا بأني عار مكشوف لا وقاية لي تحميني.
كان القسم الخاص في مصنعنا برياسة الرفيقين «كلبين» و«ستوفين» بمثابة أعين الشرطة السرية وآذانها، ففضلا عن أنهما كانا يتلقيان نسخات من كل ما يصدر من أوامر وتقارير فنية، فقد كان لهذين الرجلين بما لهما من إرادة قوية أعوان في كل مكتب وكل جانب من جوانب المصنع، وعلى كل حال لم يكن ذلك سوى المجرى المألوف للرقابة والتجسس، لكن بالإضافة إلى هذا كله، كانت جماعتنا الصناعية ترتج ارتجاجا وتترنح ترنحا تحت العبء الفادح الذي كانت تعانيه من لجان التحقيق الخاصة التي لم يكن لعددها حصر، ومن حملات المراقبين ومن المفتشين يأتون إلينا فرادى، وكان هؤلاء وأولئك يأتون إلينا - في هدوء حينا وفي ضجة الطبول الرسمية حينا - من اللجنة الإقليمية ومن اللجنة المركزية العليا في موسكو ومن رياسة صناعة الأنابيب في موسكو، ومن رياسة الصناعة الثقيلة ومن هيئات غير هذه تعد بالعشرات.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل إن الأوامر التي كانت تصدر بصناعة الأنابيب، والتي كانت الهيئات العليا في موسكو تعمل على اضطراب تنفيذها، كانت تصدر عادة من القائمين بصناعات أخرى، وعلى ذلك كان هؤلاء يرسلون لجانا من عندهم تشرف على خطوات سيرنا، فكانت تلك اللجان تقذف رءوسنا المنهوكة باتهامات التقصير والإتلاف، فقد كنا نصنع الأنابيب للدبابات وللطائرات وللمدفعية وللسفن ولمنشآت البترول وللمصانع التي تدور آليا، ولغير هذه من الأغراض الكثيرة، ولما كانت الطلبات التي ترد إلينا دائما أكثر مما نستطيع إنتاجه بما تحت أيدينا من وسائل، ثم لما كان إنتاجنا النهائي قليلا ما يطابق الأوصاف المطلوبة مطابقة دقيقة، فقد كنت ترى القائمين على تلك الصناعات التي تطلب الأنابيب، مضافا إليهم ممثلو الهيئات العسكرية، يرسلون إلينا سيلا من الاحتجاجات ثم يتبع الاحتجاجات تفتيشات وتحقيقات كما يتبعها بالطبع وباء جديد من أوبئة «اليقظة» الشرطية من رجال القسم السياسي.
ولم يكد يمضي أسبوع بغير سلسلة طويلة من المراقبين والمندوبين يرسلهم هذا المكتب أو ذاك، وفي أيديهم سلاح من التفويض يبعثون به الفزع في النفوس، فيتشممون بأنوفهم في أرجاء المكان لعلهم يجدون أثرا من آثار العاملين على الإتلاف والتعطيل، فكانوا يشغلون وقتي، ويدخلون مكتبي ويملئونه بألفاظهم النابية، ويعقدون فيه اجتماعات لا تنتهي، وقد كان يصيبهم ضيق بملل الحياة في ذلك المكان النائي، وضيق بما في مهمتهم التي كلفوا القيام بها من سخف، فكنت ترى كثيرين منهم يزيحون عن أنفسهم شعورهم بالأسف بشراب الفودكا أو بألعاب الورق يقامرون فيها بمبالغ طائلة.
حتى إذا ما أويت آخر الأمر إلى مخدعي بعد يوم من عمل طوله يتراوح بين أربع عشرة ساعة وست عشرة ساعة، لم أكن لأطمئن إلى نعاس لا تقلقه المزعجات، فآنا أدعى على التليفون لأجيب متكلما من موسكو، يكلمني في العمل راجيا مرة ومهددا مرة، وآنا أدعى إلى الشرطة في شئون تتصل بحركة القبض التي لا تنتهي، وبعد ذلك كله لا أكاد آخذ في نعاسي حتى يدق لي التليفون من أحد العمال الذين يعملون في نوبة الليل ينبئني بحادثة وقعت أو آلة أخطئ تركيبها أو إنتاج أصابه التلف.
ولقد استطعت - مستعينا بما سمعته من حديث يدور في الأفواه من حولي - أن أرسم لنفسي صورة عن الفوضى البشعة التي أحدثها التطهير قبل قدومي إلى مصنع الأنابيب الجديدة، وهي فوضى تناولت ذلك المصنع كما تناولت كل منجم وكل مصنع آخر في الإقليم، ولا تزال القصة التي سمعتها عن «سميون ماجريلوف» - وهو مدير مصنع آخر لصناعة التعدين في مدينة برفورالسك نفسها - عميقة الأثر في نفسي بحيث يستحيل نسيانها.
فقد كان المصنع الذي يشرف عليه من أقدم المصانع في الروسيا على الأرجح، إذ تروي الأساطير عند أهل ذلك الإقليم أن منشئ ذلك المصنع هو بطرس الأكبر نفسه، وكان عماله رجالا خلفوا فيه آباءهم وأجدادهم، وكانوا يسكنون في منازل خاصة صغيرة نظيفة، ولهم فيها حدائق يفلحونها وخنازير يرعونها وطيور دواجن، حتى لقد أوشكوا أن يصلوا بمستوى عيشهم ما كان معروفا في عهد ما قبل الثورة، وإذن فحين أرسل الحزب «ماجريلوف» لإدارة هذا المصنع، كان ذلك في حقيقة الأمر بمثابة مكافأته بمنصب يتقاضى مرتبه ولا يقتضيه عملا؛ ذلك أنه كان من أعضاء الحزب ذوي المكانة التي دامت أمدا طويلا، وكان على طول السنين وثيق الصلة بأرملة لينين وأخته «ماري إليانوفا»، وكان لذلك معدودا من أكثر الرجال نفوذا في ذلك الإقليم.
لكن عاصفة التطهير الجنونية لم تخطئه، فراح القسم السياسي المحلي يتعقبه بالاتهامات، فاتهمه بالإتلاف وبحماية غيره من المتلفين، ولما دام تعقبه بضعة أشهر على هذا النحو؛ استسلم لليأس، وأغلق من دونه باب مكتبه وصوب مسدسه نحو حلقه وجذب الزناد ... وترك خطابا طويلا يعلن فيه براءته ويوجه حملة نحو الإرهاب، وعلى الرغم من أن رجال القسم السياسي قد استولوا على الخطاب، فقد ذاع نبؤه على نحو ما بين عمال المصنع وعرفوا فحواه، ولما دارت الشبهة حول عدد ممن كانوا على صلة بماجريلوف بأنهم قرءوا رسالة المنتحر، «اختفوا» عن الأنظار ولم يتركوا وراءهم أثرا.
ولم يكن في مأساة ماجريلوف شذوذ عن المألوف إلا لمكانة من ألمت به المأساة، فلقد سمعت أنباء مئات - وأقول مئات وأقصد الكلمة بمعناها - مئات من الناس ألقي عليهم القبض أو أصابهم التعذيب في جلسات أقيمت لذلك أو أزهقوا أرواحهم بأيديهم، لكني لم أدع هذا الذي سمعته يؤثر في عملي؛ لأني تعلمت بالتجربة الطويلة أن أمحو من نفسي أثر الأنباء المزعجة، وليس ذلك بالسهل اليسير، لكنه فن لا بد من اكتسابه إذا ما أراد رجل من رجال الصناعة أن ينجو من الشر في روسيا السوفيتية، وأما الذين لا يستطيعون أن يكبحوا جماح عواطفهم بجماح قوي، الذين لا يستطيعون أن يكتموا عواطفهم في صندوق مغلق محكم الإغلاق من نفوسهم، فلا مندوحة لهم عن انهيار يقضي عليهم أو جنون.
ولحظت موسكو ما أصاب مصنع الأنابيب الجديدة من تحسن ظاهر، وانعقد في موسكو اجتماع من أنصار الحزب العاملين في بناء الرياسة العليا، حضره كاجانوفتش، فنوه بعملي وأثنى عليه، وجاء في صحيفة «في سبيل التصنيع» أن المصنع كان يتدهور حتى أدركه «كرافتشنكو وهو مهندس شاب نشيط وعضو في الحزب» فغير الموقف.
زارني الرفيق «بارشين» رئيس القسم السياسي في برفورالسك الذي كنت قد قابلته قبل ذلك في اجتماعات الحزب ، وأسرف في الثناء على «المعجزات» التي قمت بها في زيادة الإنتاج، ولما كان طبع الشرطي يغلب عليه، فقد أنفق ساعات أضاعها من وقتي في أسئلة عن الطلبات التي كان المصنع يشتغل لإنجازها، وعن «اللون السياسي» الذي يصبغ أفرادا معينين ممن كانوا يشتغلون تحت إشرافي، ولم يكن يسيرا علي أن أخفي ما أحسست به من ضيق نفسي لهذا المدى البعيد الذي امتدت إليه معرفته بتفصيلات عملي؛ لأن ذلك كان بمثابة البرهان القاطع على أن ثمة عددا كبيرا من المخبرين من حولي.
وقال لي آخر الأمر: «لا شك أنك تمحو آثار الإهمال الذي اقترفه أسلافك.» فكان هذا القول منه أكبر ما يمكن أن يتصوره الخيال من ثناء؛ «ولذلك فإني أكره أن أضيع عليك وقتك يا فكتور أندريفتش، لكني أطلب إليك الليلة مكرمة، وسأتصل بك بعد حين لأنبئك متى يطلب إليك الحضور.»
وضرب لي الموعد أن أذهب في الساعة الثانية صباحا، وكان القسم السياسي في بناء جميل ذي طابقين هو أكثر الأبنية لفتا للنظر في الطريق الرئيسية المغطاة بالوحل في برفورالسك، وعلى الرغم من أن الوقت كان في الهزيع الأخير من الليل، فقد رأيت ضوءا في كل نافذة من النوافذ، مما يدل دلالة واضحة على أن العمل قائم على قدم وساق، ولما وصلت حياني الرئيس تحية ودية وصحبني إلى مكتبه.
قال لي: «خذ راحتك في جلستك فإني أخشى أن يطول بك المقام ها هنا بعض الشيء.» - «وماذا تريدون مني؟» - «اسمع القصة إذن، لقد قبضنا على أحد أعداء الشعب وهو متلاف من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، إذ اتضح لنا أنه مسئول عن كثير من الفوضى التي وجدتها في مصنعك، لكنه رجل عنيد، وخطتي الليلة أن أستجوبه في حضورك؛ لأن وجود أخصائي مثلك يسد عليه طريق التضليل في الإجابات عما أوجه إليه من أسئلة.»
فقلت له في صوت حزين: «أصارحك بأني لا أحب هذا التكليف إطلاقا.» - «هذا غريب منك، وإني لأدهش لهذا القول تقوله أنت، ألم يقل لينين: إن كل شيوعي صالح ينبغي أن يكون شرطيا؟ إذن فلنبدأ العمل.» ودق الجرس لكاتم سره وقال له: «قل لرجال الحراسة أن يأتونا بالسجين من الحجرة الانفرادية رقم 7.»
وأخذ الرئيس يستعد لمثول السجين بين يديه، فجذب من خزانة ضخمة عددا من الملفات المنتفخة بأوراقها، ووضع مسدسا بشكل ظاهر فوق مكتبه، ولما جلس يرتقب قدوم سجينه بدت عليه علامات التوتر كأنه النمر على وشك أن ينقض على فريسته، وما هو إلا أن انفتح الباب ودخل حارسان شاهرا السلاح وبينهما حطام كان ذات يوم إنسانا من الناس، ثم انسحب الحارسان وتركا ثلاثتنا في الغرفة.
وتلفت السجين حوله كأن به دوارا، وقال في صوت خافت: «أحييكم.»
ولم يرد بارشين التحية، لكني رددتها، ولم يكن السجين يزيد إلا قليلا عن هيكل عظمي غطته أسمال، ووجهه رمادي لزج كأنه قناع الموت، وامتد على صدغه من جانب جبهته إلى ما يقرب من ذقنه جرح حديث العهد أرجواني اللون بما تكثف عليه من دماء، وقف ويداه وراء ظهره ورأسه منحن.
وجعل الشرطي يتلو اتهام السجين؛ لكي يطلعني على حقائق القضية، وعرفت وقتئذ أن السجين قد لبث في سجنه ما يربى على ثلاثة عشر شهرا، ولم يكن في سنه يزيد على الحلقة الرابعة لكنه بدا وكأنه في الستين من عمره، وقد كان رئيس المهندسين الإنشائيين في مصنع الأنابيب الجديدة إلى أن بدأ المصنع في مرحلته الإنتاجية، ولما نظرت إلى الرجل لم يسعني سوى أن أقول لنفسي: «لولا رحمة الله لكان هذا الواقف أمامك هو فكتور كرافتشنكو.»
قلت في صوت منخفض: «رفيقي بارشين، هلا أذنت للسجين بالجلوس؟»
فأجابني قائلا: «هذا عملي، نحن في القسم السياسي ولسنا في مصيف نستجم فيه.»
ولما فرغ بارشين من قراءته خاطب السجين بصوت جهوري: «سأوجه إليك أسئلة عما قمت به من أعمال تخريبية في مصنع خراطة الأنابيب، فلتكن في إجابتك واضحا دقيقا ولا تخلط الأمور بعضها ببعض، فأنت الآن في حضرة مهندس محنك يعرف المصنع ولا تستطيع بعد أن تضللني، والسؤال الأول هو: باعتبارك رئيس لجنة الإنشاء الرئيسية في المصنع، لماذا أقمت سقوفا خشبية فوق الأفران، وهي سهلة الاشتعال؟»
فأجاب السجين في رقة مدهشة بالنسبة إلى حالته الجسدية: «كان ينبغي للسقوف أن تكون من الحديد وفقا للخطة الموضوعة، لكن جاءنا أمر رسمي وقعه الرئيس أورزنكدز نفسه باستعمال الخشب بسبب ما كان في الحديد وقتئذ من نقص شديد، وقد طبق الأمر على مصنعنا وعلى عشرات غيره، وإن مكتب الرياسة ليستطيع إثبات هذا في غير مشقة بما لديه من وثائق، لقد كان ذلك الأمر في رأيي خطأ فنيا، لكن لم يكن لي من النفوذ ما أعارض به تعليمات الرئيس الصريحة، خاصة وأنا أعلم بقلة المعادن الموجودة.»
فالتفت إلي الرئيس وقال: «ما رأيك؟»
فبدأت في الجواب: «إن المواطن ...» - «ليس هو بالمواطن ولكنه عدو الشعب.» - «إذن فالسجين على صواب تام، فقد أقمنا سقوفا خشبية في مصنع نيقوبول وللسبب عينه، ولو أن مكانها الآن سقوفا من حديد، ولقد تصادف وجودي في اجتماع عقد في مكتب الرفيق جنزبرج حين وافق على السقوف الخشبية في كل المصانع ما عدا مصانع الصهر ومصانع مارتتز، وكانت موافقته تلك بإذن من أورزنكدز.»
فضاق صدر الشرطي بعض الشيء وقال: «أرجو أن تتذكر أنك ستكون مسئولا عن شهادتك.»
فقلت: «أنا أعلم ذلك حق العلم.»
ثم التفت ثانيا إلى السجين وقال: «السؤال الثاني: لماذا أقمت مصنعا كبيرا لصناعة الأنابيب بغير أن تنشئ معه أقساما كهربائية وحرارية وميكانيكية، وبغير إعداد للإصلاحات، وبغير تهيئة الوسائل لصناعة الآلات اللازمة لدقة القياس؟»
فأجاب السجين قائلا: «كان المشروع أن تنشأ مجموعة صناعية حديثة كبرى، وكل الأقسام التي ذكرت كان لا بد لها أن تكون خارج جوانب المصنع الأساسية بحيث تتركز في مصانع أخرى لإجراء الخدمات الخاصة، ولم توفق لجنة التصميمات الرسمية ولا رياسة الصناعات العليا إلى توفير المال أو المواد والأدوات الضرورية لهذه المصانع الخاصة بتلك الخدمات الملحقة بالمصنع الرئيسي، وهكذا حدث أن فرغنا من إعداد المصنع الرئيسي قبل أن تخطو المصانع الملحقة أكثر من خطوة البداية، ثم جاءنا أمر أثار دهشتنا، وهو أن نبدأ الإنتاج، وكان ذلك عندي أمرا بعيدا عن الصواب كل البعد، ثم بعدئذ ألقي علي القبض.»
قل ما شئت في أثر الثلاثة عشر شهرا التي قضاها ذلك الرجل في العذاب الأليم على قواه العقلية، لكنه لم يزل سليم التفكير في المسائل الفنية، حتى لقد قلت عنه لنفسي حينئذ: إنه عقل هندسي من الطراز الأول.
وسألني الرئيس: «ماذا تقول في هذا؟» - «السجين على أتم صواب، فقد بدأ المصنع عمله قبل الوقت المفروض بزمن طويل، بل إنه الآن أبعد ما يكون عن التمام، فلو كنا لننتظر حتى نفرغ من كل شيء حسب الخطة الأصلية، لما كان في مستطاعنا أن ننتج شيئا لمدة عام كامل، ورأيي الشخصي أنه كان من الخطأ ألا ينشئوا أقسام الخدمات الملحقة في داخل المصنع الرئيسي نفسه، لكن ذلك كان من شأن موسكو أن تقرره، ولست أشك في أن إتمام المنشآت قبل الأقسام الملحقة لم يكن أبدا من قبيل الإتلاف المقصود.» - «هل أنت على يقين تام مما تقول؟» - «على أتم يقين ... هل لي أن أعطي السجين لفيفة تبغ؟» - «لك ذلك.»
فناولت الرجل علبة اللفافات كلها، لكن الرئيس لم يسمح لي بذلك، وصاح قائلا: «لفافة واحدة تكفي، لو وقع على إتلافه واعترف به لكان له أن يدخن كما يشاء.» ولما مد المهندس يده من وراء ظهره رأيتها ملفوفة في خرقة ملوثة بالدماء.
ودام الاستجواب بضع ساعات، وكنت في كل مرة أراني مؤيدا للمهندس مخالفا لضابط الشرطة، ولم يكن يحدوني في ذلك إلا كل إخلاص، ولما كانت الساعة الخامسة والنصف، سقط السجين من الإعياء وسط ما أخذ بارشين يلفظه من شتائم وزعيق، ولحظت السجين إذ هو يهوي إلى الأرض رويدا كأنما كنت إزاء شريط سينمائي في حركة بطيئة، وبعد أن استعاد وعيه بصب ماء بارد عليه، جاءه الحراس بمقعد، ثم استؤنف استجوابه، ولم يخلوا سبيل هذا المنكود إلا بعد أن جاوزت الساعة السادسة، ولن أنسى ما حييت ما لمحته في عينيه من نظرات الاعتراف بالجميل إذ هو ينظر إلي من عند الباب.
قال بارشين: «سأكتب تقريرا عن هذه المحاكمة وسأرسله إليك بعد أيام قلائل لتوقعه، وإني لآسف أن عطلتك كل هذا الوقت.»
فقلت له: «ما دام الوقت لم يعد يسمح لي بنوم، فهلا صحبتني في أرجاء هذا المكان لأراه؟»
فتردد حائرا إزاء هذا الطلب الغريب، ثم قال آخر الأمر: «ليس ثمة ما يستوقف النظر بحيث يستحق الرؤية، لكن إذا أردت ... فربما حملك ما ترى على تقدير التبعة التي تحملها بإجاباتك الصادقة الصحيحة ...»
ومشط شعره ولبس القبعة المسطحة التي يلبسها الضباط بتاجها الأحمر وقمتها الزرقاء، وغرز المسدس في جيب سراويله الخلفي، ولبس كلانا معطفه، وسرنا يصاحبنا حارس فرأيت ما يستحيل أن تبلى جدته في ذاكرتي ما حييت، دخلنا فناء، وفتح لنا باب من حديد، ثم هبطنا سلما إلى طابق تحت سطح الأرض، وهنا لفحتني رائحة كريهة فكانت صدمة أحسست بها في كياني كما لو أهوى علي ضارب بعصاه، وكان في البهو مصباح كهربائي ضئيل.
ولاحظت أن الحارس الذي وثب ليقف وقفة الانتباه حين دخلنا، كان يقرأ حلقة من «تاريخ الحزب» الذي كانت تنشره جريدة برافدا في سلسلة متتابعة، وأذكر أني وقتئذ عجبت لهذا الرجل يعيش محاطا برائحة المذهب الستاليني الكريهة فعلا، ومع ذلك لم يفت ذلك في عزمه على دراسته نظريا ...
وبدأت حركة في صفي الزنزانات اللذين كانا يمتدان على جانب البهو إذ صاح صائح: «ضيوف ذوو شأن!» وفتح الحارس أحد الأبواب وصاح «قف!» فوقف شبان في العشرين من عمرهم، وكانوا طوال اللحى يستدرون العطف لدرجة تعز على كل وصف، وعلى كثرتهم الغالبة علامات الضرب في أجسادهم، وكل ما كان في الغرفة من «أثاث» دلو فيه ماء ربط فيه كوز من صفيح، وكان في ركن الغرفة القصي دلو آخر لقضاء الحاجة، وكذلك رأيت في الغرفة ألواحا غليظة من خشب، هي الأسرة للمسجونين، ورف خشبي وضع المساجين عليه أسمالهم ولفائفهم، ولو وضعت في تلك الزنزانة خمسة لغصت بهم فماذا تقول في عشرين؟
ولم تكن الزنزانات الأخرى بأقل من تلك فظاعة حتى لقد فقدت كل رغبة في رؤية ما تبقى منها، وكان من الزنزانات عدد خصص للنساء.
قال الرئيس للشرطي الشاب الواقف عند الباب ونحن خارجان: «التهوية عندكم هنا ليست سليمة، حتى ليظن من في داخل المكان أنه في قبر.»
وقال لي في ابتسامة المرح: «إذا ما فرغت من عملي في هذا المكان كل يوم ذهبت إلى الحمام العام وإلا منعتني زوجتي من الدخول في البيت، فأدوات التهوية هنا معطلة منذ أمد طويل.»
ولما خرجت من البناء وجدت سائق سيارتي نائما وهو جالس إلى جانب عجلة القيادة، فأيقظته.
قال لي: «لقد طال بك المكث في هذا المكان يا فكتور أندريفتش حتى بدأت أسائل نفسي ... إننا إذا ما نقلنا في سياراتنا رجالا لهم قيمتهم إلى هذا المكان، فيستحيل أن نكون على يقين هل نرجعهم أو أنهم سيدخلون بغير أوبة.» - «أنا جد تعبان يا «بتيا» لكن امض بنا فورا إلى المصنع فلا نوم لي هذا المساء.»
وفي عصر ذلك اليوم جاءني رئيس المساعدين ليستأذن في غيابه ثلاث ساعات، وبعد بحث قليل عرفت أنه مطلوب للقسم السياسي.
فقلت له: «لا أستطيع الاستغناء عنك أثناء ساعات العمل، فاتصل بهم تليفونيا وقل: إنك ستكون هناك بعد الساعة السادسة، ولا تنس أن تعود إلي بعد أن تفرغ من زيارتك هذه.»
وجاءني في ساعة متأخرة من ذلك المساء، لكنه لم يستطيع أن ينبئني بما حدث له هناك لأنهم أنذروه بالكتمان، غير أني خلال حديثي معه لمحت ما دعاني إلى افتراض أنه إنما دعي لاستشارته في القضية نفسها.
فسألته كأنني أسأل عرضا: «هل كنت تعرف رئيس مهندسي الإنشاء قبل أن يلقى عليه القبض؟» - «نعم، لكني يا فكتور أندريفتش لم أستطع أن أتعرفه ...» وسكت فجأة عن الكلام لأنه أدرك أنه بذلك يفشي السر الذي أراد كتمانه.
ومضي يومان ثم جاءني ستوفين - موظف القسم الخاص - بالتقرير الذي قيل لي إنهم سيرسلونه لي.
قال لي: «أسرع ووقعه لأني عجلان في طريقي به إلى برفورالسك.» - «أولا لن أوقعه قبل قراءته قراءة دقيقة، وثانيا لن أعطل عملا هاما من أجله؛ ولذلك فسأقرؤه بعد ساعات العمل.» - «لكن الأوامر الصادرة لي هي ألا أتركه بعيدا عني، كلا لا أستطيع ...» - «تلفن رئيسك الآن وقل له هذا الذي قلته لك، وهذا يبرئك.»
فتلفن القسم السياسي وهو يرتعش من خوف، وثارت ثائرة بارشين، فأشفقت على ستوفين الذي بلغ منه الخوف مبلغا اهتزت له أوصاله، فأخذت منه سماعة التليفون.
فصرخ لي بارشين قائلا: «كرافتشنكو ينبغي أن تكون أكثر احتراما للقسم السياسي وخصوصا بعد زيارتك لزنزانات المسجونين!»
فأجبته: «وأنت ينبغي لك أن تكون أكثر احتراما لرئيس هذا المصنع، فإذا لم توقف هذا العنت الذي تلقيه في طريقي فسأتصل بكاجانوفتش فورا لأبلغه عمن يحول دون اطراد الإنتاج.»
ونجحت في تهديدي إياه؛ لأن بارشين لم يلبث أن أعتذر قائلا: إنه منهوك بكثرة العمل ويستحق مني شيئا من الرفق، ثم قال إنني بالطبع لا بد أن أقرأ التقرير قبل توقيعه، وأن أقرأه في الوقت الذي يناسبني بطبيعة الحال.
وفي نهاية ساعات العمل، جلست أقرأ ما فرضوا أنه تلخيص للشهادة التي أدليت بها ليلا في القسم السياسي، وكان ستوفين ينتظر فراغي من قراءتها بوجه عابس في مكاتب القسم الخاص، فما أن قرأت حتى وقف شعري من الفزع، إذ وجدت أن كل ما قلته قد قلبوه إلى نقيضه عمدا، ونسبوا إلي عبارات لم أقلها في اتهام السجين ببعض الجرائم، وتناولوا إجابات المتهم وتعليقاتي عليها بالتعديل والتحريف بحيث تجيء في صورة تؤيد مزاعم التخريب المقصود.
وكان على كل صفحة من صفحات التقرير تحذير بالخط العريض أن التغيير لا يجوز، ورغم ذلك فقد غمست قلمي في المداد الأحمر وأخذت أراجع في عناية عبارة بعد عبارة حتى كتبت الوثيقة من جديد، وحدث في كثير من الحالات أن أعدت صياغة الأسئلة نفسها التي أصابها التحوير حتى تبطل الإجابات، وفي كثير من الحالات أيضا لم يكن بي حاجة إلى التغيير أكثر من إضافة كلمة النفي «ليس»؛ لأن المعنى بغيرها يكون كذبا صريحا.
فلما دعوت ستوفين وناولته التقرير الذي رقمته ترقيما جعل المداد الأحمر في كل صفحة أكثر من المداد الأسود، برزت عيناه من الفزع، فما عهد قط في حياته شيئا أكثر كفرا بقواعد النظام من هذا الذي يرى، وشحب لونه شحوبا بينا.
وقال في صوت باك: «لكن هذا لا يجوز يا رفيقي المدير، هذا فظيع.» - «أعطه لرئيسك والتبعة على عاتقي أنا.»
ولم أسمع شيئا بعد عن هذا الموضوع، لكني كلما التقيت ببارشين بعدئذ لوى شفتيه وعلا وجهه الذي يشبه وجه الحصان شيء من تجهم الغضب، وشاع خبر في أرجاء المصنع بعد ذلك بنحو ثلاثة أسابيع أن مهندس المنشآت السابق قد أطلق سراحه بعد أن قضي في زنزانات القسم السياسية الكريهة الرائحة أربعة عشر شهرا، ومما لا شك فيه أن تدخلي في الأمر لم يكن هو العامل على إطلاق سراحه، فلا بد أن يكون كثيرون غيري قد أدلوا بمثل ما أدليت به من إجابات، والمهم في الأمر هو أن هؤلاء الموظفين بكل ما أبدوا من حماقة ووحشية، بحيث أذلوه وعذبوه أمدا يزيد على عام، لم يصبهم لقاء ذلك حتى كلمات اللوم على ما فعلوا إزاءه، بل ظلوا في مناصبهم يحكمون بأنوف شامخة ويقبضون على من شاء لهم هواهم أن يقبضوا عليه.
كان المهندس الشاب «بانوف» - الذي نيطت به نوبة الليل - من أكثر زملائي شعورا بدافع ضميره في عمله، وقد كان يترك فيمن يقابلهم من الناس أثر حسنا بما له من ملامح معتدلة وتواضع وكبح للنفس فيما يقول وما لا يقول، ومما كان ينغص عليه العيش أن نوبته في العمل لم تكن لتنتج مقدارا يتعادل مع المنسوب المطلوب، فزاد من ساعات عمله لعله يزيد من إنتاجه.
والذي أثار تطلعي في أمر «بانوف» هو ما كان يبدو على محياه من علائم البؤس الشديد، فشحوب وجهه يدل على قلة غذائه، وحلته الواحدة كاد يبليها الاستعمال، ولم يكن ينتعل إلا خفا من قماش مهما تكن حالة الجو من صيف أو شتاء، فلما استفسرت الأمر لم ألبث أن ألممت بسبب فقره، فلم يكن ليتبقى له من مرتبه البالغ خمسمائة وخمسين روبلا في الشهر إلا أربعمائة ، وتذهب المائة والخمسون في الضرائب والقروض وغيرهما مما كان عليه أن يؤديه، وكان يعيش على ما يتبقى له من مرتبه ذاك هو وزوجته وطفلته وأمه العجوز التي كانت تسكن معه في شقة قوامها غرفتان في منازل الإدارة.
فأمرت أن يصرف لبانوف حذاء وحلة للعمل من مخازن المصنع، فلما تحركت نفسه شكرا على ما أبديته نحوه من عناية، استجمع شجاعته وأخذ يحدثني عن متاعبه.
فجلس في مكتبي وسألني: «هل لي أن أتكلم إليك في صراحة يا فكتور أندريفتش؟» - «بالطبع.» - «إذن فقد جئتك لأتوسل إليك أن تنقذني من هذا الجحيم، وإن لي لبعض الوسائط التي تزيد من أملي في أن أظفر بمنصب هندسي في الجيش، لكني أريد معونتك.» - «ولكن ما الذي يزيد من سخطك ها هنا يا بانوف؟ إنك شاب ولك هنا فرصة التدريب في ظروف عصيبة، وإنها لفرصة نادرة، أتدري بماذا يسمون هذا الفرار من العمل الصعب بلغة أتباع الحزب؟» - «نعم، نعم ... يسمونها انتهازا للفرص، وجبنا وما إلى ذلك من أسماء، لكن انظر إلى وجهة نظري إلى الأمر، لقد قضيت في معهد الهندسة خمسة أعوام قاسيت خلالها البرد والجوع، وكانت زوجتي التي تزوجت منها أيام الدراسة ترقب في شغف هذا الوقت الذي تراني فيه مهندسا كاملا، ولكن ماذا كسبت وقد أصبحت مهندسا كما تمنت؟ زادت جوعا ووحشة وفقرا مدقعا، وإني لألحظ فتور حبها لي في هذه الظروف القاسية، وأود لو استعدت ذلك الحب قبل أن يزول، أريد أن أنقذ طفلتنا التي لا يصيبها ما يكفيها من اللبن، فهل تلومني على محاولتي إنقاذ حياتي العائلية؟» - «إن كان الرأي رأيي يا بانوف، فلست ألومك على ذلك، وأستطيع تقدير ما تقول.» - «إنني إذا ما التحقت بالجيش مهندسا فسأتقاضى سبعمائة وخمسين روبلا فضلا عن حلة ومسكن وغذاء بالمجان، وبهذا يمكنني أن أخصص مرتبي كله تقريبا لأسرتي، زد على ذلك أني سأخصص نفسي للدفاع، وهو عمل له خطورته كذلك.»
فوافقت آخر الأمر على معاونته في تركه للمصنع، ولقد علمت من الصحف بعد ذلك بأعوام أنه أبدى براعة ممتازة في القتال، ولو بقي في الأورال بما كان يسودها من ظروف لاستحال إلى رجل مهدم ممرور النفس بعد حين قصير، وقد كنت أوقن أن غيره من الناس الذين طابت سرائرهم كانوا يفسدون بفعل هذا الضغط الأحمق الذي كانت تضغطه الحكومة لزيادة الإنتاج متجاهلة ما وراء هذا الإنتاج من كائنات بشرية لها راحة يجب أن تتوفر وعافية ينبغي أن تراعى.
وزيادة على المتاعب الجسدية الفتاكة التي كان يعانيها الناس، فقد كانوا يعانون ما هو أشد فتكا، وأعني به الريبة في إخلاصهم ريبة لا تنقضي ولا تنفك تسيء إلى مشاعرهم، ومهما بلغنا من الجد والنشاط في العمل، فقد كان النظام كله يهدف إلى غاية واحدة وهي الافتراض أننا خونة أوغاد نعمل على تخريب ما صنعناه بأيدينا لولا ما سلط علينا من رقابة تدوم كل يوم أربعا وعشرين ساعة.
حدث ذات مرة أن جاءتني لجنة خاصة بشأن طلب أرسلته إدارة الصناعات الدفاعية رقم 14 تطلب فيه أنابيب على درجة بالغة من الدقة حدها الأقصى، ولم تكن في الحقيقة على استعداد تام لإنتاج ذلك النوع من الأنابيب الدقيقة، حتى لقد رفضته مصانع كثيرة أخرى على أساس أن ليس في مقدورها صنعها، فجمعت اجتماعا من رؤساء المصنع وعرضت عليهم المسألة بحضور ممثلي إدارة الدفاع، وانتهينا إلى قرار بأننا سنحاول إجابة الطلب، لكننا في القرار توقعنا كثيرا من الصعوبات تقوم في وجوهنا مما قد يؤدي إلى الفشل، وتنفيذ المشروع كان يتطلب إعداد الآلات إعدادا جديدا سريعا وتهيئة أنواع من الصلب الخاص، ثم العمل المتواصل الذي لا يعرف هوادة ولا راحة.
ولم أقبل الطلب إلا بعد أن تعهدوا لي كتابة أنهم يعلمون مقدما بأن النتائج ليست مؤكدة الضمان، وتسلمت مبلغ عشرين ألف روبل توزع علاوات إذا ما أتممنا العمل في الوقت المحدد، وأدرك الموظفون الفنيون والعمال على السواء خطورة العمل وما فيه من تحد فصبوا فيه أفئدتهم ونفوسهم صبا.
وأتممنا المطلوب في خمسة عشر يوما، ولقد مرت بي أيام كنت أقضي في المصنع ثلاثة أيام أو أربعة متواصلة آكل وجباتي في المكتب وأتخطف سويعات نومي بين طنين الآلات، ولم يكن المساعدون أقل مني جهدا، بحيث يستحيل أن يدور في رأس إنسان أدنى خاطر بالشك في إخلاصنا، ومع ذلك لم يكن يمضي يوم واحد دون أن يأتينا مفتشون من القسم الخاص أو من إدارة الدفاع يتشممون آثار إهمال وتعطيل، حتى لقد أوذيت إلى حد الثورة كرامتنا الإنسانية وكبرياؤنا الفنية ، فلا العلاوات ولا فيضان الرسائل البرقية الذي جاءنا بالتهنئات استطاع أن يمحو المرارة التي خلفتها تلك الريبة في نفوسنا.
وكنت ترى «كلبين» و«ستوفين» وموظفي الفرع الاقتصادي من القسم السياسي، بل وأمين اللجنة المحلية «دفبنكو»، كنت ترى كل هؤلاء منتفخين زهوا بأنفسهم لهذا «النصر» الذي ظفروا به في إجابة ذلك الطلب، وحاولوا أن يظهروا بذلك أن العامل في النجاح لم يكن مهارة العمال والمهندسين وما صبوه من عرق الإجهاد، بقدر ما قاموا به هم من رقابة تحرك السخط في النفوس.
وسألت بارشين: «فيم كل هذه الريبة؟ فيم كل هذا الفرح بأن أحدا لم يحاول الإهمال والتعطيل؟»
لكنه لم يفهم لهذه الأسئلة معنى أو كاد، فالتجسس عنده أمر طبيعي، بل هو عنده أهم جانب في العمل مهما يكن نوع العمل!
وقال لي قول الواثق بإخلاص من يتحدث إليه: «وفضلا عن ذلك يا فكتور أندريفتش فإن نجاحنا في هذه المهمة يضع مهمة أخرى أمام الفرع الاقتصادي من قسمنا، إذ واجبنا الآن أن نبحث عن الأسباب التي من أجلها رفضت المصانع الأخرى أن تقوم بهذا العمل! لقد أقمنا الدليل على أن العمل ممكن فلماذا إذن أبى هؤلاء المديرون أن يمسوه؟ ربما كانوا مخلصين في رفضهم ذاك، لكن يجوز أيضا أن يكون في أنفسهم نية الوقوف في سبيل الصناعة الدفاعية، ولعلك ترى الآن مقدار ما لمنصبنا من خطر ...»
وأمثال هذه المهمة الخاصة كثير كان يتم في جو من التوتر - يسوده دائما شكوك وتهديد وتجسس يتغلغل في كل شيء - وحسنت سمعة مصنع الأنابيب الجديدة وأخذت تزداد بسرعة في حسن سمعتها، وكتب مراسلو «في سبيل التصنيع» وغيره من الصحف مقالات وصفية حماسية يصفون فيها كيف أزيلت من مصنع الأورال كل آثار التخريب، لكن إنتاجنا لم يزد على ثمانين في المائة، وظلت موسكو تطالبنا بمائة في المائة لتظهر ما لها من «عزم بلشفي»، فكان معنى ذلك أن ما أصبناه من نجح كان جزاؤه في نفوسنا غما وكمدا.
ما أكثر ما كانت تدعوني الظروف إلى تذكر النصيحة التي أسديت إلي يوم وصولي، وهي أن أهيئ نفسي لرؤية المسجونين أينما سرت، ومعسكرات الاعتقال وعمال السخرة جماعات جماعات؛ ذلك لأننا في بروفورالسك وما يحيط بها إنما كنا في وسط إقليم فسيح من أقاليم العمل المسخر في روسيا «الاشتراكية»، فيستحيل عليك أن تسير بعيدا عن السكة الحديدية الرئيسية في أي اتجاه دون أن تصادف هذا الفزع.
لو كان ذلك في مكان آخر لجاز أن يحاط الموضوع بشيء من التكتم الذي تمليه الحكمة، أما ها هنا فالحقيقة أكبر وأقرب إلى البصر من أن يتكتمها المتكتمون، فتراك تقول في حديثك العابر بغير أدنى تكلف «هنالك مكان جميل لصيد السمك في نهر تشاسوفايا، يبعد كيلومترا واحدا أو نحو ذلك من عمال السخرة التابعين للقسم السياسي وأنت سائر في هذا الاتجاه.» أو تقول: «خير لك أن تتابع ذلك الطريق نحو اليسار مارا بمعسكر الاعتقال.»
كنا نستعمل وقودا لمحطة الغاز من حطب تمدنا به جماعة مختصة بذلك في الأورال، فإذا ما سنحت لي فرصة الشكوى من نقص كميات الغاز، بادر موظفو تلك الهيئة إلى تلفنة الجماعة العاملة في حطب الأورال، وهذه تعود بدورها فتتلفن القسم السياسي لتشرح السبب لموظف ذلك القسم المختص، ذلك كان هو الطريق الطبيعي عندهم للاتصال الرسمي؛ لأن ألوف السجناء من رجال ونساء كانوا يشتغلون بقطع ذلك الحطب وضغطه في إقليم سفردلوفسك، وكذلك كان هذا اللون من الحطب هو مادة الوقود لمحطة القوة في أورال، وهي المحطة التي كانت تمدنا بالقوة الكهربائية.
وكنت أحاول جهدي أن أجتنب رؤية هذا المنظر؛ لأني إذا ما رأيته أشاع في نفسي الغم مدى أسابيع، فقد كنت أصاب بما يشبه الغثيان إذا ما ثار في نفسي الخوف من احتمال أن أرى نفسي ناظرا بعيني إلى عيني شخص ما أكون قد عرفته وأحببته؛ ذلك لأن مئات ومئات من أصدقائي قد ابتلعتهم موجة التطهير الأعظم، وحدث ذات يوم إذ أنا في رحلة خارج البلد مع زميل، أن مررنا بمسطح فسيح كئيب من المستنقعات، كان يشتغل فيه ما يقرب من ثلاثمائة سجين معظمهم نساء، وكان هؤلاء المناكيد كلهم في درجة من القذارة يعز وصفها، وكلهم يرتدي أغلظ الثياب، ويخوض إلى ركبتيه في ماء وطين، وكانوا جميعا يشتغلون في صمت لا تسمع فيه صوتا، ولم تظهر عليهم علامة اهتمام بهذين الغريبين القادمين.
كان المنظر مما يصح أن يرد في جحيم مثل الجحيم التي وصفها دانتي، لم أستطع أن أمحوه من ذاكرتي شهورا عدة، وأصبحت كلمة «حطب الوقود» تحدث في نفسي قشعريرة الجزع.
ولما كنت أركب سيارتي في سفردلوفسك وإليها، فقد ألفت عيناي منظر المعسكر الكبير الذي وقفت لأراه يوم وصولي هنا، كان مدخله الرئيسي في ضلع السور السداسي المواجه للطريق، يعلوه إفريز خشبي دقيق الصنع يميل في فنه إلى الذوق الحديث، وفيه ركبت صورة بيضية الشكل لستالين، وكثيرا ما كانوا يكتبون بعض العبارات الدائرة على الأفواه بقطع من قماش الأعلام يعلقونها على ذلك الإفريز، حتى إذا ما أظلم المساء أناروا بعض المصابيح الكهربائية الملونة لتلقي ضوءا على صورة ستالين وعلى تلك العبارات المكتوبة بالرايات.
ولو سار غريب في سيارته مارا بالطريق في ذلك المكان؛ لظن أن مؤسسة اشتراكية سامية الأغراض كانت تقيم وراء هذه البوابة المزخرفة، أما نحن الذين كنا نعيش في المنطقة فقد كنا نعلم أن ذلك البناء السداسي المخيف كان يحصر ألفين وخمسمائة رجل فيقطعهم عن عالم الأحياء، وكانت الأنوار الكاشفة المنبعثة من الأبراج الستة تدور بأضوائها على المعسكر طوال الليل دورانا آليا واحدة بعد واحدة كأنها منارات السفن، وكانت تلك الأعمدة الضوئية التي تحرك أضواءها عبر السماء في ظلمة الليل، ترسم أشكالا زخرفية رائعة لمن لا يعرف ما وراءها.
وكان هؤلاء السجناء يشتغلون في المصانع والمناجم والمشروعات الإنشائية في الإقليم المحيط بهم؛ لذلك كان معظمهم يمشي ستة أميال أو سبعة كل يوم وفي كل ألوان الجو، في طريقه إلى مكان العمل ومنه، وهذا معناه أنهم بالإضافة إلى عملهم اليومي الذي يمتد عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، كانوا يمشون حول ثلاث ساعات، وقليل منهم من كانت له أحذية ملائمة لمثل هذه المشيات الطويلة المفروضة عليهم فرضا.
كانت مدينة «رايفدا» - وهي مقر مصنع آخر للتعدين - تقع على مقربة من برفورالسك، فكلما ذهبت إلى هناك مررت بمعسكر اعتقال يسع نحو ألفي سجين، يشتغل منهم عدد كبير في المصنع إذ كانت عملية الإنشاء لا تزال قائمة، أما بقيتهم فكثرتها الغالبة كانت تشتغل في رصف الطرق أو في مناجم النحاس القريبة.
ومعسكر آخر لا يحتوي على أكثر من ألف سجين أو نحو ذلك، كان يقع على شاطئ نهر تشاسوفايا، وهو نهر جميل سريع الجريان في بقعة رائعة تكثف فيها غابات الصنوبر على سفوح التلال المتماوجة، وكان موظفونا ومهندسونا أثناء شهور الصيف يستصحبون عائلاتهم إلى شطآن نهر تشاسوفايا للسباحة أو السماكة أو الاستحمام، فكانوا يحرصون على أن يبعدوا بمسافة طويلة عن المعسكر، حتى لا يعكروا صفو رحلتهم بما يثير في رءوسهم أسوأ الذكرى.
فلما سمعت ناسا كثيرين يحلمون بجمال هذا النهر، قررت آخر الأمر أن أستكشفه، وكان يراسلني اثنان كلاهما مثلي حديث عهد بالإقليم، وإذن فلم يكن أحدنا يعرف شيئا عن هذا المعسكر المعين، وبينا نحن سائرون في سيارتي «فورد» نتحدث في شئون المصنع، إذ نحن نجد أنفسنا بغتة على رأس تل صغير يشرف على سور الأسلاك الشائكة الذي يحيط بمنبسط من الأرض أزيلت عنه أشجار الغابة ويبعد عن حافة النهر ببضع مئات من الياردات، وكان هناك - كما هي العادة دائما - أبراج أربعة قائمة في أركان المكان الأربعة، وعلى مرأى البصر وقف الحراس شاهري السلاح، وقد كان بضع مئات من السجناء رجالا ونساء يشتغلون ساعتئذ في الطرف الأبعد من مكان المعسكر، يبنون صفا جديدا من الثكنات.
فانتهت رحلتنا فورا، إذ غاضت في نفوسنا الرغبة في رؤية أجزاء أخرى من النهر، وعدنا بالسيارة إلى برفورالسك صامتين. إن الحقيقة الواقعة هي أن أخلص الشيوعيين إيمانا وأصفاهم طوية يحتقرون في أعماق قلوبهم هذا النظام القائم على التسخير في العمل، بل ويرونه وصمة عار تدعو إلى الخجل، وحتى إن تحمس بعض الرفاق في دفاعهم عن ذلك النظام، فكثيرا ما كنت ألحظ شيئا من القلق يساور نفوسهم، إذ هم في أحمى درجات حماسهم، فهم حين يسبون الضحايا بشنيع الشتائم - المستغلون المخربون المناجيس القذرون - إنما كانوا يحاولون أن يفرقوا بتلك الشتائم ما كانوا يحسونه في أنفسهم من ازدراء للنظام القائم، وكل منهم يعلم علم اليقين أنه إذا ما دارت عجلة السياسة دورة، وطغت موجة التطهير على البلاد مرة، فما أهون أن يكونوا هم كذلك بين طريدي القانون الذين يبنون لنا بسواعدهم هذا البناء الاشتراكي العجيب.
الفصل التاسع عشر
بينما يدون التاريخ
حين أعود بذاكرتي إلى مدة إقامتي في الأورال - بما يتخللها من ذكريات كريهة على نفسي - أجد بينها حادثة برزت بين سائر الحوادث حتى طغت عليها.
وخلاصة القصة أنها خدعة ضللوا بها الرأي العام الروسي، هي خدعة كبرى اشترك في حبكتها صغار الموظفين وكبارهم في موسكو وبرفورالسك على السواء حتى يخدعوا بها الناس، ولقد حبكوها حبكا محكما وركبوا الأكاذيب في بناء واحد متسق على نحو لا يستطيعه إلا خبراء، وذهبوا في هذه البراعة حدا مكنهم حتى هذا اليوم من ذكر «النجاح العظيم الذي أصابه مصنع الأنابيب الجديدة» على أنه مثال للمعجزات التي تتم بفضل «الحماسة الاشتراكية».
وبدأت القصة بقدوم كتيبة من أعوان الحزب المتحمسين من موسكو إلى حيث كنا، وهو مكان يقع في مدخل الأورال، ويمتد على مساحة واسعة في غير نظام، جاءت تلك الكتيبة من موسكو مزودة بالتعليمات أن تبث في مصنعنا القائم بخراطة الأنابيب معايير الإنتاج الإستاخانوفية، فقد كنا عندئذ ننتج خمسة وثمانين في المائة من ذلك المعيار، وإذن فلا بد لنا - في رأيهم - من دفعة تأتينا من موسكو لعلنا نصعد إلى قمة الإنتاج بحيث ننتج مائة في المائة من ذلك المعيار المثالي أو نزيد عليه، فإذا ما صحت العزيمة وجدت سبيل الوصول إلى الغاية المنشودة، وليس لدينا نحن البلاشفة ما يستحيل أداؤه، فالمستحيل يتم مع التعاون، فاعملوا معا يا رفاق في سبيل زعيمنا ورائدنا.
وقبل أن تغادر هذه الكتيبة الملهبة للحماسة في العمال، قبل أن تغادر موسكو ، ذهب أفرادها فقابلوا «لازار كاجانوفتش» بحضور ممثلي الصحف، وجاءوا إلى برفورالسك مسلحين بقوة عظيمة، مزهوين بأنفسهم في جهل تام بمشكلاتنا، وما هو إلا أن تحطم نظام الإنتاج الذي كدحت كدحا حتى هيأت أسبابه، فقد جمعت تلك الكتيبة اجتماعات حضرها العمال، والمهندسون الفنيون، وأخذوا يصبون في أسماعنا خطبا طويلة كلها تهريج، وكنت ترى جدران مصانعنا ومكاتبنا كلها، وجدران المطاعم وقاعات الجلوس في أوقات الراحة، مليئة بعبارات حمراء من عبارات الدعاوة، وبغتة سكت الجميع عن الكلام، وطفق الجميع يصيحون.
فهز العمال أكتافهم وأغلقوا نوافذ رءوسهم حتى لا يهوشها ذلك الصياح، أما المهندسون والموظفون الإداريون فقد اكتسحتهم تلك الموجة إلى حد الجنون، لقد هنأونا بالأمس القريب على بلوغنا خمسة وثمانين في المائة من معيار الإنتاج المثالي، ثم جاءت عوامل الضغط الخارجي اليوم تلهبنا لنبلغ مائة في المائة، وبلغ الألم أعماق نفوسنا لهذا العبث، وأخذ المدير «أوسادشي» يطوف أرجاء المكان بوجه عابس.
قال لي وهو يتحسر: «لا بد لنا من عمل جريء يا فكتور أندريفتش، إن الصحف في موسكو تطنطن بهذا التهريج الذي يقومون به ليبلغوا بالإنتاج إلى المعيار الإستاخانوفي، ولا أحسبنا مستطيعين أن نقصر دون ذلك المعيار، إن حياتي - وحياتك أيضا - مصيرها إلى العدم في حالة التقصير.»
كان «أوسادشي» مثلا من مديري المصانع الشائع جدا في بلادنا، وأعني به ذلك النمط الذي بطبيعة تكوينه العقلي يقدم الجانب السياسي منه على الجانب الهندسي الفني، ويهمه الثناء الرسمي أكثر مما يهمه الإنتاج الحقيقي، إنه يعنى بالأرقام الإنتاجية أكثر مما يعنى بجودة الإنتاج، فقد كان يعوض نقصه في المعرفة الفنية «باتصالاته الهامة» بكبار القوم خير العوض، وكان مما يميزه ميل قليل نحو الإسراف في اشتهاء النساء، وكانت له جاذبية يقنص بها غواني سفردلوفسك.
فقلت له ردا على كلامه: «لكن ماذا في وسعنا أن نصنعه؟ إنك تعلم كما أعلم أنا أننا لا نستطيع أن نعتصر المصنع اعتصارا ينتج لنا أكثر مما ينتجه الآن، فالخطابة الفصيحة لا تغني شيئا عن الآلات والمعادن.»
لكن «أوسادشي» كان قد أغرق نفسه بالفعل إلى عنقه في مشروع يخلب العين ببريقه، فطلب إلي أن أزوده بقائمة مفصلة من الأنابيب التي تم صنعها والتي كانت مخزونة في مخازن المصنع، وقد كانت كمية تلك الأنابيب فيما يظهر عظيمة، إذ كان هناك مقادير منها أنتجت في العام السالف دون أن يكون لأحد بها حاجة، فزودته بالأرقام التي أراد.
ولم أعلم إلا بعد ذلك بأيام لماذا طلب تلك الأرقام، فلما علمت السبب جزعت له، فقد تآمر «أوسادشي» مع أعضاء الكتيبة وأرسل من لدنه رسولا خاصا إلى موسكو، اتفق سرا مع «كوزفنكوف» الذي كان عندئذ رئيسا لصناعة الأنابيب، وكان من نتائج ذلك الاتفاق السري أن دبر «كوزفنكوف» أمورا مع الإدارة المركزية التي من شأنها تزويد الصناعات بما تحتاج إليه من معادن، وعاد رسولنا إلى برفورالسك ومعه حزمة من الطلبات التي تأمر بصناعة أنواع مختلفة من الأنابيب ترسل إلى مخازن الأنابيب في طول البلاد وعرضها.
وجاءت الطلبات مطابقة تطابقا عجيبا للأنابيب المخزونة عندنا مقدارا ونوعا، وما علينا سوى أن ننظفها ونزينها ونرصها في صناديق، ثم نسجلها في قائمة الإنتاج الجاري! وبشيء من تلفيق الدفاتر تلفيقا بارعا أمكن إنقاذ الموقف شهرا كاملا.
وكانت هذه أكذوبة عارية مكشوفة، ومع ذلك فكنت ترى «أوسادشي» واللجنة المحلية واللجنة الإقليمية، بل كنت ترى كل إنسان فرحا بها، وأغضى كل إنسان عن هذا الاحتيال، إلا رجال الشرطة السرية فقد شمروا عن سواعدهم؛ إذ علموا أن هذا الخداع يتيح لهم سوطا يسلطونه على طائفة أخرى من صفوة رجال الصناعة في إقليمهم، بهذا كله كان النصر في متناول أيدينا، ولا أقصد النصر بالحصول على إنتاج مائة في المائة فحسب بل بالحصول على أية نسبة مئوية أردنا.
وبدأ الشهر الأعظم شهر يونيو، وأخذت أرقام الإنتاج تظهر كل يوم على المعيار «الإستاخانوفي» الخلاب، وجاءت لي الرسائل من موسكو تستحثني قائلة: «حافظ على هذا المستوى بغير هبوط»، لكن أحدا لم ينبس ببنت شفة عن الحقيقة الواقعة وهي أننا في بعض الأيام كنا نضيف خمسة وعشرين في المائة إلى إنتاجنا المزعوم من الأنابيب المخزونة عندنا، وبالطبع لم تجز هذه الخدعة على العمال ورؤسائهم، فكانوا يقرءون الأرقام التي تحصي إنتاجنا كل يوم وكل أسبوع ... لكنهم كانوا يعرفون الحقيقة.
وكلما تقدم الشهر أخذت غبطة المتآمرين يمازجها شيء من القلق إذ دب في نفوسهم قليل من الخوف مما صنعت أيديهم، خاصة وأن «نجاحهم» قد أحدث ضجة عظمى في الصحف والإذاعة، وتبينوا أن حيلتهم قد ينكشف عنها الغطاء يوما فترتد إلى نحورهم اتهاما «بأنهم خدعوا الحكومة والحزب» فوحد بينهم جميعا - كتيبة موسكو والموظفين المحليين - شعورهم بالاشتراك في جريمة واحدة وفي الاستهداف لخطر واحد.
ورفضت رفضا قاطعا أن أساق إلى عصاباتهم، وانتهيت مع نفسي إلى قرار هو أنني - إذا ما وضعت في اعتباري كل الظروف - آمن جانبا إذا لم أساهم في هذه الحركات البهلوانية التي تتلاعب بالأرقام، وبخاصة لأني كنت أعلم أن هذه الأرقام المصطنعة عن شهر يونيو ستضع لي معيارا يستحيل علي تنفيذه في الأشهر المقبلة.
لذلك لما دنا الشهر الإستاخانوفي من ختامه، جمعت الوثائق الهامة وكتبت عن هذه الأرقام القياسية تقريرا وافيا أكشف فيه عن الخدعة، وأرسلته إلى الرئيس الأعلى كاجانوفتش وإلى «كوزفنكوف» في رياسة صناعة الأنابيب، وإلى «أوسادشي» وإلى الرفيق «دفنبكو» أمين اللجنة المحلية في برفورالسك، كما اختزنت من التقرير نسخا تحوطا مني لما عسى أن تأتي به الأيام.
ودب دبيب الخوف في «أوسادشي» و«دفبنكو» فتلفنا من فورهما - فيما علمت - لشركائهما في موسكو من رجال رياسة صناعة الأنابيب، ولما طمأنهما ما سمعاه من تلك الرءوس العليا استدعياني للجنة المحلية.
فانفجر دفبنكو صارخا: «هل جن جنونك يا كرافتشنكو؟ إن كل شيء يسير على خير ما يرجى، و«كاجانوفتش» في أشد الغبطة لسيرنا في العمل، وها أنت ذا تريد أن تلقي في عملنا ما يسيء سمعته، ماذا علينا لو اصطنعنا حيلة أو حيلتين إذا كانت غايتنا المنشودة هي رفع الروح المعنوية بين صفوف العمال؟ أليس لديك من ضميرك ما يحفزك على أداء واجبك؟»
وكان إذ ذاك يذرع أرض مكتبه غاضبا، وأما «أوسادشي» فقد لبث يعض شفتيه ليكبت في نفسه ثورة غضبه.
قلت: «يؤسفني أن أختلف وإياك في الرأي، إنني لم أساهم في الموضوع، ولن أحمل شيئا من تبعته، وإني لأنذركم أننا بعد أن تتلاشى أصداء هذه الضجة سنعود إلى نسبة الإنتاج القديمة، وسيلوموننا على التقصير بالقياس إلى شهر يونيو.»
فقال دفبنكو: «ألا لعنة الله! إننا إذا ما وصلنا إلى هذا الموقف المشكل فسنعرف كيف نجتازه، إنك يا كرافتشنكو تسير على أرض خطرة وتسبق بأفكارك أفكار سواك، إنك تحط من شأن الكتيبة التي أرسلها رئيسنا الأعلى، وهو عضو في هيئة الحكم العليا! إنك بهذا تلعب بالنار.»
وتدخل أوسادشي فقال: «إن الإسراف في الإخلاص أحيانا معناه إسراف في الغباء، فيلزمنا قليل من حكمة تنفع في هذه الحياة الدنيا.»
لكني رفضت سحب تقريري.
وسرعان ما انتهى الشهر العظيم، بإنتاجه الجليل الذي بلغ مجموعه 114 في المائة من المعيار المثالي! ورنت جوانب موسكو وسفردلوفسك وبرفورالسك بأصداء النصر، وفاضت أنهار الصحف بأنباء «النصر العظيم الذي ظفر به مصنع الأنابيب الجديدة»، وجاءتني برقية من موسكو في صبيحة اليوم الأول من يوليو هذا نصها:
نهنئك على نصرك العظيم، ونشاطرك السرور به، ونخول لك صرف مكافآت للعمال، ويقيننا هو أن الخطة ستوفى بما يزيد على تمامها من الآن فصاعدا.
وقدم إلينا مراسلو الصحف طائرين من موسكو وراكبين سياراتهم من سفردلوفسك ليصفوا معجزة الإنتاج على المعيار الإستخانوفي، فمصنع الأنابيب الجديدة الذي كانت مؤامرات الإتلاف قد انحطت بإنتاجه إلى 35 في المائة أو أربعين منذ أشهر قلائل، قد صعد الآن فخورا بنفسه إلى 114 في المائة بإشراف رئيسه البلشفي الجديد الأمين الرفيق كرافتشنكو، وجاءت وفود من مصانع برفورالسك الأخرى لتهنئ رفاقهم الظافرين.
كان الفرح يرفرف في كل مكان إلا قلبي فقد ساده اليأس؛ لأني جعلت - كارها - جزءا من تدليس مدبر، ودفعت دفعا إلى قبول الشكر والمكافآت المالية على ما قمت به من نجاح، لكني أخذت من وراء ستار وبمعونة مساعدي الثلاثة ورئيس الحسابات، أحسب الإنتاج الحقيقي إبان ذلك الشهر، فوجدته بعد طرح الإنتاج المزيف الذي أخذناه من المصنوعات المخزونة، قد بلغ سبعة وثمانين في المائة، وهو مقدار أكثر بقليل جدا من الإنتاج المعتاد، وأثناء قيامي بهذه العملية الحسابية التي أحزنت قلبي، دعيت ست مرات لأتلقى تهنئات من موسكو، وأخذت برقيات الثناء تتراكم، وبينها برقية من «كاجانوفتش» نفسه.
وبدأت تلك الليلة في إعداد تقرير دقيق مفصل جدا عن التدليس الذي حدث، ورفعته إلى «كاجانوفتش».
وفي الوقت نفسه دعي العمال جميعا إلى اجتماع ليحتفلوا بنجاحهم العظيم، وأقيمت منصة ملفوفة بالقماش الأحمر في فناء المصنع، وزينت بصور ضخمة لزعماء الكرملن، وطفقت فرقة موسيقية تعزف في مزاميرها النحاسية بغير انقطاع، وحشدت ألوف من العمال والموظفين - وكثير منهم كان على علم بالخدعة - أمام المنصة، ولا أحسبني مخطئا إذا قلت: إنهم كانوا يسخرون سخرية مقصودة إذ صفقوا تصفيقا حارا وهتفوا هتافات عالية «لأوسادشي» و«دفبنكو» وممثلي الحزب الإقليمي وأعضاء الكتيبة التي جاءتنا من موسكو حين ألقوا خطبهم على هذا التعاقب.
وقرأ «أوسادشي» بعض رسائل التهنئة، وقال: إن العمال بما أظهروه هذا الشهر من نجاح قد أخرسوا ألسنة المتشككين والمهاجمين، وأجابوا إجابة مدوية على أفعال المتلافين المناجيس والمنشقين على الحزب، وها هنا صرخ هاتفا: «ليحي حزبنا وليحي زعيمه المحبوب، ليحي رائدنا ووالدنا ورفيقنا ستالين! صيحوا بالهتاف يا رفاق.»
فهتفت ألوف الحناجر وعزفت الموسيقى نشيد الشيوعية الدولية.
ووقفت على المنصة مهنئا نفسي على الخلاص من محنة إلقاء خطبة في تلك الظروف، لكن يظهر أن «دفبنكو» أراد متعمدا أن يورطني علنا في الاشتراك في «النصر» فأعلن قائلا: «والآن نريد أن نسمع كلمة الرفيق الذي كان لرياسته الفضل في بلوغ الغاية المظفرة وهي إنتاج 114 في المائة، الرفيق كرافتشنكو!»
نهضت ولم أشر أبدا إلى إنتاج يونيو، بل جعلت أتحدث عن المشكلات التي تنتظرنا في طريقنا، وضرورة بذل المجهود المنظم المطرد، وشكرت العمال على ما صنعوه، وأكدت أن فورة واحدة من فورات المجهود لا تكفي؛ لأن الإنتاج لا بد له من الاستمرار، وقوبلت بتصفيق حاد وتركت المنصة شاعرا بأن بعض المستمعين - على الأقل - قد أدرك ما أردت أن أقول .
وختم الاجتماع بأن قدم ممثل الحزب في الإقليم راية حمراء لمصنعي تقديرا له، وتسلمت منه الراية بغير ابتسام، ولما عاد أعضاء الكتيبة إلى موسكو، قابلوا الرئيس على مرأى من مندوبي الصحف هذه المرة أيضا، وقد ظفر هؤلاء الأعضاء بأوسمة وامتلأت جيوبهم بالمكافآت المالية، وخصصت صحيفة «في سبيل التصنيع» صفحة كاملة لمعجزة مصنع الأنابيب الجديدة، وكتبت صحف أخرى في افتتاحياتها عبارات المدح والثناء، وكانت برقيات الثناء لا تزال تنهال علي حين قذفت في البريد بتقريري إلى «لازار كاجانوفتش».
ومضت أسابيع قلائل بعد ذلك، فانتحلت عذرا للذهاب إلى موسكو آملا أن أجتذب إلى جانبي رياسة صناعة الأنابيب فيما خشيت أن ينفجر دويه في البلاد من فضيحة وطنية، فأما «كوزفنكوف» فلم يخف استياءه مني؛ لأن سيرته في منصبه كانت في خطر بوصفه عضوا من مدبري المؤامرة.
قلت له راجيا: «حاول أن تفهم وجهة نظري، كيف أستطيع مواجهة العمال وهيئة المهندسين إذا ما عرفوا جميعا أو إذا ما داخلهم الريب أن النصر العظيم لم يكن إلا أكذوبة كبرى؟ إنك على يقين أننا في الأشهر القادمة لن نستطيع أن نساير هذا الرقم القياسي المصطنع، إذن فلن يفيد العمال شيئا، فما معنى هذه الحركة كلها؟»
فأجابني في برود: «هون على نفسك يا فكتور أندريفتش، إن موقفك هذا - اسمح لي أن أقول - غاية في السذاجة، فينبغي في مثل هذه الأمور أن ترمي ببصرك إلى بعيد، إن الحزب إذا ما رأى ضرورة الترويج لضرب معين من ضروب النشاط - وهذا الضرب هو في هذه الحالة الحركة الإستاخانوفية - أصبح من الضرورات السياسية أن يتم هذا الترويح الذي تبرر الغاية فيه كل وسيلة، فجزعك الآن لا معنى له.»
فأكدت له قائلا: «لقد أخطأت، فيستحيل أن نبني على أساس الأكاذيب؛ لأنها قمينة أن ترتد إلى نحورنا.»
هنا كاد كوزفنكوف يفقد زمام صبره. - «سأسدي إليك نصحا يا رفيقي كرافتشنكو، أمسك عن الكلام في هذا الموضوع وإلا أوذيت في سبيلك.»
عندئذ قصدت إلى محرر «في سبيل التصنيع» الذي تظاهر بالجزع حين بسطت أمامه حقائق التدليس الذي حدث، واستحثني على كتابة مقال قبل مغادرتي موسكو، ففعلت ما أراد، وأرسلت نسخة من المقال إلى صحيفة برفدا، لكني لم أسمع قط شيئا من هذه الصحيفة أو تلك، كما لم أسمع كلمة من كاجانوفتش.
ولما عدت إلى المصنع وجدت العمال ورؤساءهم والطبقة الدنيا من المهندسين في حالة امتعاض شديد، ودار بينهم نقاش كثير حول المكافآت التي صرفت، فهؤلاء الناس كانت تدفع لهم أجورهم على أساس الكمية التي أنتجوها وفقا لما تقرره القواعد الرسمية لذلك، ولما كانوا لم ينتجوا في الواقع إبان ذلك الشهر أكثر من إنتاجهم العادي، فقد كان جزاؤهم الوحيد قسطا من الضجيج وشطرا من الراية الحمراء، أما الموظفون الإداريون بما في ذلك «أوسادشي» وأنا نفسي، فقد تقاضوا مكافآت لا بأس بها، إذ تقاضى كل منا مائة وخمسين في المائة من مرتباتنا الأساسية، فلو أضفت هذه المكافأة إلى مرتبي عن شهر يونيو، كان مجموع ما تقاضيته عن ذلك الشهر أربعة آلاف روبل، وهو جزاء طيب لأكذوبة كنت أحاول عبثا أن أكشف عن سرها.
وتردد في جنبات برفورالسك صدى ما بذلت في موسكو من مجهودات، فثارت نفوس أولي الأمر هناك بالغضب الشديد، فاتهموني في اللجنة المحلية بحضور بارشين ضابط القسم السياسي، ولهذا ما له من مغزى؛ اتهموني أمام تلك اللجنة «بالإساءة إلى سمعتهم» وإلا فلماذا أحاول خلق مشكلات لهم جميعا؟ لماذا أحاول «أن أشعل نارا قد خمد بالفعل أوارها؟»
ومضت شهور قبل أن ينسى هؤلاء الموظفون وقبل أن ينسى زملائي في المصنع ما قدمت إزاءهم من «خيانة» بحيث عادوا فابتسموا لي من جديد، لكني لم آسف قط لما فعلت، فمهما يكن من أمر ما حدث، فقد كانت صحيفتي بيضاء، والواقع الذي لا تشوبه شوائب الهوى، هو أنه لم يحدث شيء، إذ اشترك في هذه الفعلة التهريجية عدد كبير جدا من كبار الموظفين ذوي النفوذ، وأصبح «النصر العظيم» تاريخا يروى رواية الحق الصحيح.
كان نشر «تاريخ جديد للحزب الشيوعي» عام 1938 بمثابة إسدال الستار على حركة التطهير الأعظم.
ولست أقصد بهذا أن الإرهاب قد امتنع، وأن عربات الأفاعي السود قد بطل استخدامها، فالقبض «العادي» على ألوف الناس، والإعدام بغير محاكمة، والنفي التعسفي «للعناصر البغيضة» الذين كانوا بحاجة إلى عملهم في الأقاليم النائية المهجورة، وألوان التعذيب ومحاكمات التفتيش، كل ذلك ظل قائما كما كان، بل تضاعف عدد معسكرات الاعتقال وجماعات السخرة على نحو لم نعهده قط من قبل، فكنت تسمع من الشيوعيين المتصلين بعرش الكرملن همسا بأن عدد من يسخرون كالعبيد قد زاد على خمسة عشر مليونا، وسيبلغ العدد عشرين مليونا في السنوات القليلة القادمة.
إنما الذي قصدته بقولي هو أن الحملة الخاصة التي شنوها لتطهير الحزب وهيئة الحكم عقب اغتيال «كيروف» قد أوشكت على نهايتها، فما كنت لترى مكتبا واحدا أو مشروعا واحدا، وما كنت لتصادف هيئة ثقافية أو اقتصادية واحدة، وما كنت لتجد قسما واحدا من أقسام الحكومة أو الجيش أو الحزب، إلا وجدت زمامه قد ألقي في أيد تكاد أن تكون كلها مستحدثة، فلو فرضنا أن غازيا أجنبيا تسلم مقاليد الحياة السوفيتية ونصب أعوانه في مراكز الإدارة كلها، لما كان التغيير الناشئ عن مثل هذا الانقلاب أشمل ولا أقسى من التغيير الذي أحدثته حركة التطهير.
إن العالم الخارجي لم يدرك قط مدى ما عانته البلاد من فزع، بل ربما كان ذلك الفزع أوسع مدى من أن يتاح للعالم إدراكه بأية وسيلة من الوسائل، فقد كانت الروسيا حومة بعثرت في أرجائها جثث القتلى، وانتثرت في أنحائها حظائر حبس فيها الملايين ممن ساء حظهم من «سجناء الحرب» فأخذوا يشقون هناك بعملهم ويعانون الآلام ويلاقون الحتوف، ولكن أيمكن لعين الخيال أن تمتد لترى كل هذا المدى الفسيح؟ إن كل ما يستطيعه الإنسان هو أن يرسل بصره إلى هذا الركن أو ذاك، ثم يعمم الحكم بناء على هذه الأجزاء، ولقد استطعت أن أظفر من الكرملن على أرقام رسمية قليلة لا تصور الواقع كله، لكنها تدل بعض الدلالة على مدى ما امتد إليه ذلك الواقع ومقدار فداحته.
لم يبق من أعضاء مجلس «وزراء » الشعب إلا «مولوتوف»، وأما الباقون فقد أصابهم القتل أو السجن أو الطرد، واللجنة المركزية للحزب - التي تعد نظريا قلب الهيئة الحاكمة ورأسها المفكر، والتي تتألف من مائة وثمانية وثلاثين عضوا - لم يبق من هؤلاء إلا نحو عشرين عضوا بعد أن تمت حركة التطهير الأعظم، وأما اللجنة التنفيذية المركزية التي يصفونها في الخارج أحيانا بقولهم: إنها «برلمان» الروسيا، والتي قوامها سبعمائة وسبعة وخمسون عضوا، فلم يبق من أعضائها بعد العاصفة إلا بضع عشرات من الأعضاء.
ثم كان الخراب أعمق فداحة فيما يسمونه «بالجمهوريات» المستقلة أو الأقاليم القائمة على حكم نفسها بنفسها، فتستطيع أن تقول بغير استثناء: إن رجال الحكومة وأعضاء الهيئات الحزبية قد انمحوا على بكرة أبيهم بأوامر موسكو، وذلك دليل كاف على مدى استقلالها المزعوم، وقل مثل ذلك في الصناعة والهيئات الهندسية الفنية، والفنون والتعليم والصحافة وقوات الجيش، فكل هاتيك الجوانب قلبت رأسا على عقب وقتل زعماؤها وخيرة رجالها الموهوبين رميا بالرصاص، أو زجوا في السجون أو طوح بهم في مطارح النفي، أو جردوا من نفوذهم على أحسن تقدير.
إن المستعرض للحوادث ليغريه أن ينظر بين أكداس الأهوال إلى الضحايا البارزين ذوي المكانة الممتازة، مع أن الذبائح قد امتد نطاقها بحيث شملت سكان البلاد جميعا، فالحزب الحاكم طرد من أعضائه وطالبي العضوية فيه مليون وثمانمائة ألف، أي أكثر من نصف المجموع، وكان الطرد في معظم الحالات معناه معسكر اعتقال أو ما هو أسوأ من ذلك حالا، وقضي في أمر ثمانية ملايين على الأقل غير هؤلاء، من أعضاء هيئات الشباب الشيوعية ومن غير المنتمين للحزب؛ فكل من هؤلاء قد أصابه موت أو نفي أو طرد من منصبه.
وهذه الأرقام على جسامتها لا تلخص المأساة تلخيصا وافيا، فهي أرقام جسيمة حقا، لكنها أرقام باردة، بل إن جسامتها في ذاتها تخلع عليها شيئا من الخيال غير الواقع، فعليك أن تفكر في هؤلاء الضحايا بغير لغة الأرقام التي لا تعني ناسا من البشر، بل على أنهم أفراد، وعليك أن تتذكر أن كل فرد من هؤلاء الأفراد الكثيرين له أقاربه وأصدقاؤه وأبناؤه ممن كانوا يشاطرونه آلامه، وأن لكل فرد منهم آماله وأمانيه وأعماله التي يصيبها الهدم والتحطيم، هذه إحصاءات لمؤرخ الغد وللعالم الاجتماعي اليوم، أما بالنسبة لي - أنا الذي عاش في غمرتها - فهذه الأرقام لها عندي أبدان وعقول وأرواح، كل منها أصيب بالأذى أو بالاعتداء أو بالإذلال.
بل إني لأعلم فوق ذلك أن ملايين ممن تخلصوا من التطهير قد أصاب عقولهم خلل ونفوسهم أذى لما صادفهم من مخاوف ومفازع وحشية عاشوا خلالها، ولست أعلم في التاريخ البشري كله ما يقرب في مداه ما بلغه هذا الاضطهاد العنيف المدبر الذي اكتوى بناره عشرات الملايين من الروس بطريق مباشر أو غير مباشر، إن جنكيز خان لم يكن بالقياس إلى ستالين إلا بمثابة الهاوي إذا قيس إلى المحترف، أو المبتدئ اللاهي إذا قورن إلى من مهر في صناعته، إن عصابة الكرملن قد أثارتها حربا شعواء على بلادها وعلى بني وطنها.
كان ظهور هذا التاريخ الجديد دالا على ختام تلك الحرب الطويلة، وإن هذا التاريخ لوثيقة قد لا يكون لها مثيل سابق، فقد روجع فيه نصف قرن من تاريخ الروسيا مراجعة جريئة لا تعرف الحياء، بل لا تكلف نفسها عناء التعليل لما تقول، ولست أريد بهذا أن أقول: إنه تاريخ كل ما فيه من عيب هو أنه زيف بعض الحقائق أو أنه فسر الحوادث تفسيرا جديدا، بل أريد أن أقول إنه قلب التاريخ رأسا على عقب، وحذف حوادث حذفا وأضاف أخرى اخترعها اختراعا، وحرف الماضي القريب - وهو ماض لا يزال حيا في ذاكرات الملايين - بحيث صبه في صورة جديدة مهوشة ليتفق مع تفسير الحوادث كما ظهر في محاكمات التطهير الدموي، وفي الدعاية التي سايرت تلك المحاكمات.
جاء هذا التاريخ بمثابة القصة الخيالية الجريئة في خيالها التي لم يكن للضمير أو الحقائق ذرة من اعتبار عند كاتبيها، ولا شك أن فيها ما يروع ويبهر وهو ما يشيع فيها من روح السخرية ومن تحد لسلامة إدراك الشعب الروسي، ففي هذه القصة شاهت أعمال الزعماء البارزين أو محيت محوا واختلقوا لهم مكانها أعمالا أخرى، فهذا «ليون تروتسكي» الذي كان أحد المنشئين للجيش الأحمر، صوروه في صورة الخائن المنجوس الذي أخذ يعين الرأسمالية الأجنبية، وجاهد في سبيل بيع بلاده، وكان معه في ذلك «رايكوف» و«بخارين» و«زينوفيف» و«كامنيف» و«ببنوف» و«كرستنسكي» و«بياتاكوف»، وإن شئت فقل كل آباء الثورة البلشفية، وبالطبع خلصوا إلى نتيجة أن «جوزيف ستالين» كان هو الزعيم الأوحد في الروسيا قبل الثورة، وأنه الرجل الوحيد الذي صادق لينين صداقة حميمة جعلته موضع ثقته بعد الثورة، واختفت من البلاد كلها كافة الكتب والمقالات والوثائق ومعروضات المتاحف التي كان من شأنها أن تناقض هذا الخيال الشاطح العجيب الذي نحلوه وقالوا: إنه التاريخ، ومعنى ذلك أن اختفى معظم المطبوعات والوثائق التاريخية والسياسية.
ثم حدث ما هو أكثر من هذا، وذاك أن أزيل من الوجود كل الشهود الأحياء.
فأزيل أصحاب الرأي والتدبير في معهد «ماركس» و«إنجلز» و«لينين» في موسكو، وهم الذين اختزنت رءوسهم نظريات الثورة على حقيقتها، ثم أخذوا أبرزهم وسجنوهم أو قتلوهم رميا بالرصاص، وكذلك حدث شيء كهذا في فروع المعهد في كافة أنحاء البلاد، ولقد شاءت لي المصادفة أن أعلم علم اليقين قصة واحد من أعلامهم البارزين في المعهد، وهو الأستاذ «سورين» وهي قصة يخيل إلي أنها تلخص كل هذا العهد القذر المفجع، عهد الأكاذيب والأباطيل.
كان «سورين» قد وجه إليه اتهام علني من ستالين؛ لأنه لم يخش أن يكتب قائلا: إن «دكتاتورية الشعب» لم تكن في الروسيا سوى «دكتاتورية الحزب»، ثم «اعترف» المجرم «بأخطائه »، فنصبه ستالين واحدا من أعوانه في انتحال الأكاذيب عن نظرية ماركس، وجعل يطبخ له الخطب والمقالات التي يذيلها ستالين باسمه، ثم جعله مساعدا لمدير معهد «ماركس- إنجلز-لينين» حيث أخذ يبحث في نشاط عن الوثائق والشواهد التي تؤيد أية سياسة شاء ستالين أن يفرضها على البلاد، وبهذا عاش «سورين» هانئا سعيدا فيما يظهر.
لكن بلغ الأمر حدا لم يعد «سورين» المذعن بعده يصبر على إذعانه، نعم، إنه لم يمانع أن يجد لهم ما شاءوا من نصوص، لكنه فرق بين «تلفيق» النصوص وبين «تزييفها»؛ لذلك جاءت إحدى عربات القسم السياسي ذات ليل من ليالي الشتاء إلى مسكن الأستاذ سورين، وكان مسكنا جميلا، وحملته إلى حيث لم يعد، ولم يبق له أثر، وأخرجت زوجته وابنه من البيت حيث تركا ليلتمسا سبيلا إلى مسكن آخر، وشحنت كل كتب الأستاذ ووثائقه ومذكراته في عربة إلى مركز القسم السياسي.
وكذلك سجنوا غير «سورين» من أساتذة المعهد الذين كانوا أدق علما بتاريخ الشيوعية وآرائها النظرية من أن يغضوا عن الشروح الخاطئة لتلك الآراء، وكان بين من سجن رئيس إدارة المعهد «أدوراتسكي»، كما قبض على «ستتسكي» مدير قسم الدعاوة في الحزب وألوف غير هؤلاء من «جبهة» المؤرخين ورجال السياسة والأدب، قضي عليهم بأن يسيروا في الطريق الواحدة التي تنتهي بصاحبها إلى النسيان الأبدي، وهكذا أزيلت عن الطريق كل عقبة عساها أن تعرقل تزييف الحقائق تزييفا لا يقف عند حد، وبذلك أصبح «التاريخ» الجديد في أعين الناس صورة جائزة الوقوع.
ولكي يغوصوا بهذه الوصمة إلى أعماق عقولنا، جعلوا «دراسة» هذا التاريخ في صورته الجديدة فرضا لازما على كل مسئول من أعضاء الحزب، فكانت دروس التاريخ تلقى كل ليلة تقريبا من ليالي ذلك العهد، وكان يأتي إلى مدينتنا محاضرون من سفردلوفسك ليعينوا على غرس هذه الأكاذيب في نفوس السامعين، بينما كانت كثرتنا الغالبة تغلي من الغيظ، هكذا أذلوا كل ما عسى أن يكون قد بقي في نفوسنا من آثار الكرامة الإنسانية، وإن أضخم أكذوبة لقمينة أن تمتد بجذورها في العقول إذا ما اطرد تكرارها، هذه حقيقة أدركها ستالين قبل أن تنكشف لهتلر، ونظرت فإذا بأبشع الأباطيل تفرض على الناس بادئ ذي بدء بتأثير الضغط والقوة، ثم تصبح «حقائق» لا يأتيها الباطل، وخاصة بالنسبة للناشئين الذين لم يكن في تجارب حياتهم ما ينقض لهم صواب هذه الحقائق فينغص عليهم هدوء العيش.
وإن ما يعني العالم الخارجي بصفة خاصة من هذا التاريخ الزائف لهو الإرشاد الذي ذكروه في مقدمة الكتاب، والذي جاء فيه: «إن دراسة تاريخ الحزب الشيوعي من شأنها أن تقوي يقيننا بالنصر النهائي الذي سيكلل مجهودات حزب «لينين-ستالين» وهو نصر للشيوعية في العالم كله»، فعلى الرغم من الاتجاه الجديد الذي يتجهونه نحو القومية الروسية، فهذه المقدمة التي تعلن الأمل في الشيوعية العالمية لا تزال في صدر الكتاب، بل إنهم حين زعموا أن «الشيوعية العالمية» قد أقلع عنها إقلاعا تاما، لم يشاءوا أن يراجعوا أو يتخلوا عن رأيهم في ثورة ستالينية عالمية، وإذن فهذا التاريخ لا يزال تاريخا رسميا، لا بالنسبة للشيوعيين في الروسيا وحدها بل كذلك بالنسبة للشيوعيين في أمريكا وإنجلترا والصين وغيرها من بلاد الأرض.
ولقد كلفوني ذات مرة أن ألقي «محاضرة» في إحدى مراحل هذا التاريخ الذي يؤرخ للحزب، على أعضاء الحزب المسئولين في إقليم برفورالسك، وبالطبع لعبت دوري في هذه المهزلة؛ لأن الأمر صدر لي من اللجنة المحلية فلم أملك رفضه، وكان موضوع محاضرتي هو «الحزب الشيوعي في نضاله نحو تحويل الزراعة إلى جماعات اشتراكية»، فحظفت عن ظهر قلب عبارات تلائم الموضوع اقتبستها من التاريخ الرسمي، وقرأت خطب ستالين في الموضوع، ثم وقفت في قاعة مليئة بالناس وجعلت ألقي عليهم أكاذيب مدة تزيد على ساعة تنفيذا للأمر.
كانت كل أكذوبة نطقت بها تفتق الجروح التي لم تكن قد اندملت بعد، الجروح التي أثخنتها في حياتي الماضية إبان حملة «المزارع الجماعية» وما أعقبها من مجاعة، لقد طاف برأسي خاطر وأنا ألقي تلك الأكاذيب، وهو أنني إنما أسخر من أولئك الأطفال ذوي البطون المنتفخة الذين كنت أراهم حولي أيام أن كنت أعمل في الريف، وأنني أهزأ بالجثث التي رأيتها مكدسة أكواما في القرى، ولم يخامرني شك إذ كنت ألقي خطبتي أن الحاضرين كانوا يعلمون كذلك أني أفتري كذبا، فكانت كلماتي وتصفيقهم زيفا في زيف، وكنا جميعا ممثلين يلعبون أدوارهم المقررة لهم في المهزلة السياسية المفجعة.
فلماذا استسلمت واستسلم الحاضرون لهذه المهانة؟ للسبب عينه الذي يجعلك تناول كيس نقودك إلى قاطع الطريق الذي يصوب نحوك غدارته، فيا أيها الناس خارج البلاد الروسية، يا من تنعمون بحقوقكم البشرية، حذار من ازدراء الروس إذا ما سمعتم أنهم يضطرون إلى «المحاضرة» كما فعلت أنا، أو أنهم يضطرون إلى التصفيق كما فعل من كانوا يستمعون إلى محاضرتي.
كان الدعاة الرسميون يعتمدون في نشر دعاوتهم على «تربية» الحزبيين وغير الحزبيين بما يتفق مع هذا التاريخ الملفق المنحول، كما كانوا يعتمدون إلى جانب ذلك على ناحيتين أجنبيتين لهما كل الأثر: أولاهما وصف مشوه ناقص للحياة في البلاد الرأسمالية وبخاصة في الولايات المتحدة وإنجلترا، فكنت ترى المحاضر يعرض على مستمعيه صورا مجذوذة من الصحف تبين العمال المضربين ورجال الشرطة يضربونهم بالهراوات، أو تبين المتظاهرين من المتعطلين وقد صوبت عليهم خراطيم الحريق تغرقهم بمائها، أو تبين جماعات الشعب وقد ألقيت عليهم قنابل مسيلة للدموع، وكانت هذه الصور التي تعرض على الناس على أنها صورة دقيقة كاملة للرأسمالية، تترك في النفوس أعمق الأثر؛ لأنها كانت توهم بأنها مستندة إلى مصادر وثيقة، معتمدة على شواهد ثابتة، صحيحة لا يأتيها الباطل.
وثانيتهما ذكر هجمات الأعداء الأجانب على اتحاد السوفيت، هجمات يكيلون فيها الإهانة والاحتقار للشعب الروسي، فهذه الهجمات النقدية لا يفرق أصحابها بين الشعب الروسي وبين النظام السوفيتي؛ ولذلك كانت تثور في صدور الناس كرامتهم الإنسانية وعزتهم القومية في آن معا.
ومما يستحق الذكر كذلك من نتائج التطهير الأعظم، أن كل شيوعي كان يحمل تذكرة الحزب التي تكون له بمثابة جواز المرور أو شهادة بحقه السياسي، وكان ذلك الدفتر الصغير يحتوي على معلومات شخصية عن حامله كما يحمل على غلافه إمضاءات موظفي اللجنة المحلية للحزب الذين أصدروه، فلما كان معظم القادة من موظفي الحزب قد أصابهم التطهير، قيل: إن معظم الشيوعيين يستندون في عزة موقفهم على شهادة أعداء الشعب، ولم يحتمل الكرملن أن يسمع هذه الإشاعة بما فيها من سخرية لاذعة، فصدرت الأوامر أن يعاد تسجيل الشيوعيين في أواخر عام 1938م بغية القضاء على كتابة هؤلاء الذين لاقوا حتوفهم أو زجوا في السجون، والقضاء على ما لهم من ذكرى، فصدرت تذكرات جديدة لمن كانت تذكراتهم موقعا عليها من «أعداء الشعب» الذين تناولهم التطهير.
وسرعان ما تحولت هذه العملية إلى تطهير جديد، وإن يكن تطهيرا أصغر؛ لأن كل شيوعي كان عليه أن يظهر أمام لجنة مكونة من ثلاثة أعضاء، لتستجوبه في شئونه استجوابا دقيقا، أضف إلى ذلك أن التذكرات الجديدة لم تعد بالبساطة التي كانت عليها من قبل، إذ تطلبوا هذه المرة صورا شمسية، وفضلا عن ذلك فقد أعد لكل شيوعي دفتر صغير من نسختين يحتوي على معلومات عن سيرة حياته وعن أوجه نشاطه وما نال من جزاء أو عقاب، وكانت إحدى النسختين تحفظ في اللجنة المحلية التي يتبعها العضو، والأخرى ترسل إلى موسكو لحفظها في اللجنة المركزية، وبهذا اتخذ الوضع في جملته شكل وثائق التحقيق التي تستخدمها الشرطة أكثر منه تسجيلا لأعضاء هيئة سياسية، فقد أسقطوا من حسابهم كل ما يدل ولو ظاهرا على أننا أعضاء جمعية واحدة من الرفقاء اجتمعوا بمحض اختيارهم.
وخشية أن يكون الوهم لا يزال يزين لأحد ما ليس بواقع في هذا الصدد، صدر قانون جديد يحتم على العضو الذي يريد أن يغادر مدينة أو إقليما ليقيم في مدينة أخرى أو إقليم آخر - حتى لو كان الانتقال بأمر من هيئة عليا - أن ينتظر أولا حتى تتخذ اللجنة المحلية قرارا رسميا يبيح له هذا الانتقال، وإذن فقد أصبح الحزب الحاكم في حقيقة الأمر سجنا آخر، سجنا زود بوسائل الراحة وبآلاف المزايا التي لا يتمتع بها نزلاء السجن الأكبر الذي يسمى الروسيا، لكنه مع ذلك سجن بكل ما يعنيه هذا اللفظ.
وحدث ذات يوم شعرنا فيه بأول أنفاس الشتاء في الأورال، أن أنبأني كاتم السر دفبنكو بأنني سيكون لي شرف القيام بمهمة كبرى في «الانتخابات» القادمة لمجلس السوفيت الأعلى؛ ذلك أن اللجنة المركزية للحزب قد انتخبت الرفيق «كوزمين» ليكون مرشحا في الانتخاب عن إقليم برفورالسك لعضوية السوفيت الأعلى، وإنه لحسن حظي قد وكل إلي أن «أرشح» هذا الرجل بصفة رسمية في اجتماع عام للناخبين.
فسألته: «ولكن لماذا أرشح كوزمين؟ إنه لم يقم قط في هذا الإقليم ولا يعرفه أحد، إنه بحكم كونه نائبا لرئيس الصناعات الثقيلة يقيم ويعمل في موسكو، أضف إلى ذلك أني لا أكاد أعرفه.»
لكن اعتراضاتي صادفت أذنا صماء، فما دام مصنعي يحتل الآن مكانا من انتباه الرأي العام لظفره بالراية الحمراء، إذن فأنا الرجل المناسب لتقديم «كوزمين» للناخبين أصحاب السيادة، وبالطبع لن يكون في الإقليم مرشح سواه، فليس مما يجول قط بخاطر إنسان كائنا من كان أن يكون للمعارضة مرشح ينافس مرشح الحزب، فذلك أمر لم يسمع به قط أبناء الجيل الجديد.
وزودوني بملف أوراق فيه معلومات عن الرجل الذي سيكون مرشحي أنا، فعكفت عدة ليال على دراسته لأعد خطبة الترشيح التي أثنيت فيها على كوزمين بعبارات التهريج السوفيتي المكرورة المعادة، فقلت: إنه «ابن حقيقي للحزب وللشعب» لما قدمه من خدمات للثورة وما أبداه من الولاء للزعيم، وقرأ «دفبنكو» وزملاؤه مخطوط الخطبة وأجروا فيها بعض تعديلات، ثم أعربوا بعدئذ عن قبولهم إياها.
وبعد ذلك بأيام وصل رتل من السيارات الأنيقة أمام مصنعنا، وخرج من سيارته «مرشحي» الذي لم أكن قد سمعت بوجوده إلا على صورة غامضة قبل ذلك الأسبوع، وكان يحيط به حراسة من رجال الشرطة السرية وأتباعه من رجال الحزب، كان «كوزمين» يستوقف النظر بمظهره، فهو قوي البنية ولم يحلق لحيته ذلك اليوم، وملابسه رثة خلقة، وكان في قميصه الروسي المرقع عند الرقبة، وعلى رأسه طاقية العمال وفي قدميه حذاء الجيش الأحمر، واختصارا فقد جاءنا متنكرا في قناع رجل من غمار الشعب !
فاستنكرت منه هذا التقنع الهازل واحمر وجهي خجلا حين طاف في رأسي أنني شريك في هذا الخداع، ولما بلغت الساعة الرابعة، التأم اجتماع الناخبين في الميدان الرئيسي في برفورالسك، وجاءت وفود من كل المصانع المجاورة، يحملون راياتهم في أيديهم، وأقبلت كتائب من الشباب الشيوعي ينشدون بأصواتهم الشابة أناشيد حماسية، نشر فوق المنبر قماش أحمر، وزينت المنصة بصور «ستالين» و«مولوتوف» و«كالنين» و «فورشنوف» وغيرهم، وجلست أنا على المنصة مع «دفبنكو» و«أوسادشي» و«كوزمين» وغيرهم من علية القوم، وعزفت فرقة موسيقية نشيد الشيوعية الدولية وغيره من الترانيم.
ولما آن الوقت المضروب ألقيت الخطبة التي أعددتها ومدحت «كوزمين» قائلا: إنه «صفوة الصفوة»، فهتف الشعب وعزفت الموسيقى عزفا قويا لتدل على القبول، وقام بعدي آخرون وألقوا خطبا مما تعودتها الأسماع، وأخيرا نهض «كوزمين» وخطا إلى الأمام خطوة ليشكر الناس على «ثقتهم» به ويؤكد لهم إخلاصه في خدمتهم «إذا هم انتخبوه».
وختم كلامه قائلا: «ليحي رأس الحزب وقلبه وقوته، ليحي رأس الشعوب السوفيتية وقلبها وقوتها، زعيمنا ورائدنا المحبوب الرفيق ستالين!» وهنا عزفت الموسيقى مرة أخرى لتضيف إلى التصفيق قوة على قوة.
وبينا نحن نغادر المنصة في طريقنا إلى العشاء الرسمي الذي أعد لكبار الموظفين، أمسك «كوزمين» بيدي وقال: «لقد أجدت في كلمتك يا رفيقي كرافتشنكو، فشكرا ثم شكرا، لا بد أن تزورني إذا ما جئت إلى موسكو، وسيسرني دائما أن أقدم لك بعض المعونة.»
ولم يسعني أن أتغافل عن ملاحظة أظفاره وأنا أصافحه، فقد كانت مزينة أجمل الزينة.
وسرعان بعد ذلك ما ألجأتني ظروف العمل إلى الذهاب إلى موسكو، وكان في وسع «كوزمين» أن يعاونني في مهمتي إذا أراد، وذهبت إليه لأجد مكتبه ذا غرف فسيحة فاخرة الأثاث، ولم أستطع لقاءه إلا بعد طول انتظار مما أثار دهشتي، حتى إذا ما دخلت غرفة مكتبه آخر الأمر، رأيت رجلا لا يكاد يشبه في شيء ذلك الصعلوك الذي رأيته واقفا على المنصة في برفورالسك، فكان يرتدي حلة أوروبية ورباط رقبة ناصع اللون، ولم أجد أقل أثر يدل على إهمال في ثيابه ينم على تبعيته لغمار الناس، كلا لم أجد أقل أثر من ذلك في هذا السياسي الذي أسمنه حسن الغذاء، والذي عني بتمشيط شعره وتجميل وجهه مما جعله نموذجا للسياسي في بلادنا. - «ماذا تريد يا رفيقي؟ من أين جئت؟» قال لي ذلك بصدر ضيق إذ هو ينظر إلي نظرات باردة.
فتبينت وقتئذ - والدهشة ملء نفسي - أنه قد نسي نسيانا تاما الرجل الذي أيده وقدمه إلى «دائرته الانتخابية»، فكان ذلك عندي بمثابة اللمسة الأخيرة التي لمستها أنامل الفنان في صياغة المهزلة، مهزلة الحزب الواحد والمرشح الواحد في الانتخابات التي تتم في ظل «أكثر دساتير العالم إيغالا في الروح الديمقراطية».
لم أذكر لك إلا قليلا عن حياتي الخاصة في الأورال، وقبل ذلك في تاجانرج ونيقوبول، وأحس هذا النقص في نفسي أنا، فكأني بالقارئ يسأل: «أيكون مديرو الصناعة من السوفيت - إذن - مجرد آلات وليس لهم حياة خاصة بهم؟»
ولو أني أجبتك بالإيجاب لكنت مسرفا، فنحن الروس شعب يحب الاجتماع وتملأ العواطف قلوب أفراده، وهم يثرثرون بالحديث، وسرعان ما تشتعل في نفوسهم روح الود والصداقة حتى لكأننا نضع قلوبنا على أكمامنا، ولست ممن لا تنطبق عليهم هذه القاعدة.
والحق أني صادقت عشرات الناس بل مئاتهم إبان تلك السنين، ولا يغيبن عن ذهن قارئي أني كنت شخصا له منزلته؛ لأني كنت من صفوة رجال الحزب، فكان في قدرتي أن أنفع، كما كان في بيتي وفرة من الطعام ووسائل الراحة مما كان يتحرق له الناس كلهم شوقا - إذا استثنيت نفرا قليلا - نعم إن مستوى معيشتي كان متواضعا بل خشنا غليظا إذا ما قورن إلى من هم في مثل منصبي في أمريكا، لكني مع ذلك كنت في نيقوبول وتاجانرج وبرفورالسك بل وفي موسكو من الارتفاع في مستوى العيش عن طبقة العمال بحيث خيل إلي أني أعيش في عالم وحدي، وما أقل بين هؤلاء الذين كانوا يحسدون سادتهم الجدد الذين يتقاضون أجورا كبيرة، أو الذين تتاح لهم نظرة سريعة يعلمون منها ما نحن فيه من عيش فاخر كئيب، أقول: ما أقل بين هؤلاء من كان يعلم فداحة الخوف وانعدام الحرية الشخصية والاستقلال المهني الذي كنا نعانيه، وعدم الاستقرار فيما نحن فيه من حياتنا التي يرونها ممتعة.
نعم، كونت لنفسي أصدقاء، بل كان العشق يتردد على داري آنا بعد آن مجازفا بالخطر، لكني إذ أستعيد هذه الأشياء بالذاكرة، أراها من الضآلة بحيث تستثير الإشفاق بضآلتها، إن الروابط الإنسانية في هذا العهد لرجل في مثل منصبي، ليس لها إلا أتفه القيمة إذ يطغى عليها فيغرقها طنين العمل المتواصل وعواء كلاب السياسة التي لا تسكت عن نباحها، إن الشرر الضئيل الذي يشعله الغرام لا يمكنه أن يظل على اشتعاله في عاصفة الخوف، ولم يكن منا من يشعر بالاستقرار وثبات القدمين إلا قليلون، وتبدت لنا أيامنا مسرعة كأنها ظلال عابرة، تبدت لنا أيامنا كأنها محطات في الطريق إلى تكليف بعمل جديد أو إلى زوال مفاجئ، فإذا ما ارتبط الواحد منا بروابط الصداقة مع صديق، فإنه يحس اليأس الذي يحسه المسافرون يتلاقون لحظة قصيرة على رصيف المحطة قبل أن يستقلوا قطرهم إلى وجهات مضادة.
على أن هذا لا يروي لك القصة كلها، فلئن بدت تلك الأعوام فارغة رغم ما يملؤها من الحوادث الصخابة؛ فذلك لأني عشت في خلاء روحي، ولم يعد لي ما تتعلق به آمالي بعد أن فقدت إيماني في «التجربة العظمى»، لم يعد أمامي سوى العمل والأمل الغامض البعيد التحقيق، أعني الأمل في الفرار، فكيف يستطيع إنسان أن يحتفظ لنفسه بكرامة نفسه إذا كان المزاج المتقلب لغر في موسكو، أو هوس موظف في مكتب الحزب أو مكتب الشرطة التابعين للإقليم، يكفي للقضاء على أي إنسان كائنا من كان بغير إهماله دقيقة واحدة؟ كيف تستطيع أن تتعهد في نفسك الشعور بالكرامة حين ترى ألوف الأعين يترصدك بها الجواسيس الغلاظ الذين كثيرا ما يكونون ذوي أنفس شريرة؟
لقد مرت بي لحظات غبطت فيها الحياة الزوجية التي كان يحياها بعض زملائي، وتساءلت ألا تكون حياتي أسعد مع زوجة وأبناء، لكن سرعان ما كان يزيل عني ذلك الحسد لغيري تصوري لما لا بد أن يسببه القبض من فزع مخيف للزوج والولد، وكنت في فراغ وقتي القليل أذهب إلى سفردلوفسك حيث الأوبرا والمسرح، وكذلك كنت أقرأ في بعض الفراغ، أقرأ الأدب لمتعة نفسي، كما أقرأ المؤلفات السياسية الاقتصادية؛ لأنها فرض واجب أمام الحزب، فليس لإنسان أن يقصر في متابعة العلم بمبادئ لينين وستالين وماركس وإنجلز.
كانت أسرة «كولبوفسكي» وقوامها قنسطنطين ميخايلوفتش الذي كان في مصنعنا كبير المهندسين، وزوجته الجميلة فيرا وابنتهما نينوتشكا وعمرها سبعة أعوام؛ كانت تلك الأسرة مما يثير في نفسي الحنين إلى حياة زوجية عادية، لأنهم كانوا - فيما يظهر - أسرة متماسكة الأفراد تماسكا طبيعيا ليس فيه الحب العنيف، حتى إنه ليستحيل عليك أن تفكر في واحد منهم دون أن يثب إلى ذهنك الآخران، وكنت أزورهم آنا بعد آن، وأصبحت أدعى عند نينوتشكا الصغيرة بالعم فيتيا، بما يتبع هذه العمومة العاطفية من حقوق وواجبات.
ولما ذهب «كولبوفسكي» إلى موسكو في شأن عمله قرب نهاية الصيف، طلب إلي أن أرعى له أسرته، وفي الليلة السابقة ليوم عودته كانت فيرا وابنتها في منزلي يشربان الشاي ويتسليان بأكل «الزاكوسكي»، وكان قنسطنطين ميخايلوفتش قد غاب ما يقرب من أسبوعين فلم تستطع أسرته إخفاء الغبطة والسرور بالتئام الشمل في غد، ولم يدر الحديث إلا في هذا.
وكنت قد دعوت المدير «أوسادشي» ليمر علينا حينا قصيرا، فوصلنا بعد قليل، وحيا زوجة كولبوفسكي والابنة الصغيرة تحية بدا فيها اضطرابه العصبي بعض الشيء، بل بدا فيها شيء من النفور، كأنما وجودهما قد أثار في نفسه قلقا، ولم أهتم بحالته النفسية تلك وحسبتها أمرا تافها ربما نتج عن متاعب العمل، لكنه سرعان ما انتحل عذرا وانفرد بي في الشرفة، وكانت الليلة لطيفة الجو يعبق في هوائها عطر الصنوبر القوي الذي يفوح من الغابات المحيطة بنا.
فسألني بصوت منخفض فيه حدة: «لماذا لم تنبئني أن أسرة كولبوفسكي ستكون في دارك؟» - «يا له من سؤال عجيب! وما أهمية ذلك؟» - «أنت لا تعرف حقيقة الأمر يا فكتور أندريفتش، فالموقف فيه ما يشبه الشذوذ، لأن كولبين قال لي في تكتم شديد ...» - «قال لك ماذا؟» - «إن أنبأتك فلا تفش السر لأحد، وقد يكون من المستحسن أن أحيطك بالأمر علما، فسيذهب كولبين وعدة من رجال الشرطة السياسية في سفردلوفسك ليلاقوا القطار السريع القادم من موسكو إلى سفردلوفسك غدا، إذ صدرت لهم الأوامر أن يقبضوا على كولبوفسكي.» - «هذا مستحيل! مسكينة يا فيرا، مسكينة يا نينوتشكا، لكن ما السبب؟ ما السبب؟» - «أما عن السبب فلست أعلم عنه ما لا تعلمه أنت، فأنت تعرف كيف تسير الأمور ... ويحسن بنا أن نعود إليهما الآن خشية أن يظنا بالأمر سوءا.»
ولم تمض إلا لحظات وتمتم أوسادشي ببعض العذر وانصرف، ولبثت فيرا ونينوتشكا بعده ساعة، وكانتا زائطتين فرحتين قلقتين في انتظارهما للغد، تعدان العدة لرحلتهما بالسيارة إلى سفردلوفسك.
وقالت فيرا ضاحكة: «إن قنسطنطين ليتظاهر لنا دائما بأنه لم يتوقع مقابلتنا وأنه دهش أشد الدهشة للمفاجأة.»
وقالت نينوتشكا وهي تضمني من فرط سرورها: «وهل تدري يا عمي فيتيا أن أبي سيحضر لي معه بلا شك عروسة جميلة وكتبا مصورة وحلوى وغير ذلك من أشياء كثيرة؟ إنه خير أب في هذه الدنيا وسأهيئ له طاقة من زهرات الحقول، أنتقيها بنفسي.»
فحاولت أن أحتفظ بتماسكي وتظاهرت بمشاركتي لهما في سرورهما، حتى استنفد ذلك المجهود كل قوتي، حتى إذا ما غادراني ارتميت في مقعدي مجهدا؛ لأنني تصورت ما ينتظرهما في الغد، فأحسست بالطعنة حادة في فؤادي، ولم أكن لأفيدها شيئا بإنذاري لهما بما هو واقع لهما في غد، بل ربما عاد ذلك بالضر على أوسادشي وعليهما وعلي جميعا.
ودق لي التليفون حول منتصف الليل: «فكتور أندريفتش، هذا كولبين يحدثك، هلا أعرتني سيارتك الفورد غدا؟ لا بد لي من الذهاب إلى سفردلوفسك لأمر عاجل.» - «آسف يا كولبين لأني أريدها لنفسي.» أجبته بهذا الجواب في غير مجاملة؛ لأنني لم أرد أن تستخدم سيارتي لمثل هذه الغاية البغيضة. - «لكن لك سيارة أخرى جديدة، أرجوك لا تخلق في الأمر إشكالا، وعلى كل حال فهذا الاتصال التليفوني بك من قبيل المجاملات؛ لأني استأذنت في ذلك أوسادشي.»
فكان علمي بأن سيارتي قد نقلت ضابطا من الضباط الذين سيقبضون على صديق في المحطة، مما زادني حسرة على حسرة في صباح اليوم التالي، ولم أستطع أن أبعد عن خيالي ذلك المنظر الحزين حتى وأنا منهمك في العمل، ولم يكن خيالي قد شطح بعيدا عن الواقع ؛ لأن كولبين نفسه أخذ يصف لي ما وقع وصفا لم يخف فيه غبطته.
وصل القطار إذ كانت الأم وابنتها منتظرتين، وكانتا ترتديان خير ما لديهما من ثياب، تبتسمان في فرح، وتحملان في يديهما طاقات الزهور. - «هذا هو أبي!» صاحت نينوتشكا بهذه العبارة، ثم أسرعت مع أمها للقاء كولبوفسكي ساعة نزوله من القطار يحمل حقيبتيه، وكان رجلا وسيم المحيا عريض الكتفين ذا شعر كثيف أسود، ولمع وجهه بابتسامة الفرح حين رأى «فتاتيه» - كما كان يسميهما دائما - تقتربان منه.
لكن توسط بين الرجل و«فتاتيه» ثلاثة رجال من الشرطة السرية في ملابسهم العسكرية ومسدساتهم في أيديهم، وأبلغوا المهندس أنه مقبوض عليه، فبهت الرجل لما سمع، وأخذوا منه حقيبتيه وعجلوا به إلى عربة مغلقة كانت في انتظاره، ولم يمهلاه حتى يحيي ويقبل زوجته وابنته، فبكت الزوجة وبكت الطفلة بكاء بلغ بهما حد الجنون، وصاحبهما في السيارة رجل من الشرطة السياسية ليفتش الدار قبل أن تتمكن «فيرا» من تغيير المعالم.
ولم يجرؤ أحد بعد ذلك على مخالطة زوجة «كولبوفسكي»، وجعل زملاء نينوتشكا يعيرونها بالقسوة المعهودة في الأطفال، قائلين لها: «إن أباك عدو الشعب ولن نلعب معك بعد الآن» في صوت غنائي جمعي، وإني لأذكر والألم يحز في نفسي حين كان الصغار في أيام مضت منذ أمد طويل، يعاكسونني إذ كنت طفلا في «يكاترينوسلاف»؛ لأن أبي كان سجينا، وبالطبع أخرجت أسرة كولبوفسكي بعد ذلك من مسكن المصنع.
كان لخبر القبض على رئيس المهندسين أثر عميق في هيئة الموظفين الفنيين جميعا، وأخذت تشيع الشائعات بشتى ضروبها في أنحاء المصنع كلها، فلأني وثيق الصلة في العمل بكولبوفسكي فقد توقعوا القبض علي بعد قليل، والحق أني لأعجب كيف نجوت، ولست أدري حتى يومنا هذا ماذا وجهوه إليه من تهم، فعمله كان يجمع بين الإتقان والإخلاص، وكان مهندسا قبل كل شيء، فعلى الرغم من أنه كان عضوا في الحزب، فقد كان لا يأبه للسياسة.
وعلمت بعدئذ أن «كولبوفسكي» قد رد له اعتباره، بعد أن قضى في السجن بضعة أشهر ، بل أعيد إلى عضوية الحزب، وارتقى في مهنته رقيا عظيما حتى لقد أنعمت عليه الحكومة بالأوسمة حين آن الأوان لذلك، غير أن فترة العذاب التي مر بها قد هدت منه العافية، ولم تعد له حيويته القديمة كما لم يعد له فرحه السابق بالحياة.
إن الأجنبي خارج بلادنا إذا ما أراد أن يجسم سيرة الحياة الشخصية لموظف سوفيتي بحيث يكسبها مظهر الحقيقة البارزة، لا بد له أن يتصور بطانة تلك الحياة في غير غموض ولا خوف، وإنما قصدت البطانة التي قوامها شعب نصف جائع تكسوه الأسمال ويعاني مر العذاب ومرارة الازدراء، شعب حرم حرياته الأولية سياسية واقتصادية.
قلما يمضي يوم دون أن يأتي إلي عامل أو زوجته يشكو لي فقرا أو مرضا، وكنت أبذل في ذلك وسعي وإنه لضئيل ضآلة تدعو إلى الإشفاق، فكنت أوفق أحيانا إلى تحطيم الإجراءات الرسمية لأظفر بزوج من الأحذية أو بحلة من ثياب العمل فأعطيها لمن يستحقها بشكل لا يحتمل إبطاء، كما كنت بين آونة وأخرى أحرك رجال المستشفى تحريكا إذا ما كانت حياة طفل معرضة للخطر، لكن الشرور كانت أكثر عددا وأعمق أثرا من أن يحد منها - ولا أقول يمحوها - موظفون ذوو قدرة محدودة هنا وهناك، وإني إذا ما استعدت صورة الماضي، وجدت أن أسوأ هذه الشرور هو أن آلام الناس كانت أمرا مفروضا كأنه ختم مكتوب ليس إلى اجتنابه من سبيل، فهو في ذلك أشبه مثلا بالطين والبرد القارس اللذين يتبعان المناخ في الأورال.
وعلى الرغم من الإجراءات الرسمية التي كانت تتخذ لربط العمال بأعمالهم حتى لا تضطرب فقد كان ما يحدث من قلقلة في هذا الصدد أكبر من أن يتصوره خيال، ففي مصانعي كان يختفي في كل شهر من العمال البالغين نحو ألف وسبعمائة عدد يتراوح بين مائتين وثلاثمائة، ولست بحاجة إلى ذكر ما كان يحدثه ذلك في استمرار عمليات الإنتاج وكفايتها من الوجهة الفنية.
ولم يكن ليحل المشكلة إلا تحسن حقيقي في ظروف العيش، فليس يدفع العامل إلى حزم متاعه القليل والضرب في مناكب الأرض ليجد عملا آخر في مكان آخر إلا اليأس، فربما قال له قائل: إن أسرته في مكان ما غير هذا تستطيع أن تظفر بأجر أعلى وقسط من الطعام أوفر، ومسكن أنظف تقيم فيه، لكن سادتنا الجدد آثروا أن يغضوا الطرف عن الأسباب في معالجتهم للمسببات، وكانت الدعاوة الحكومية تقذف بالشتائم هؤلاء المواطنين الذين يبحثون لأنفسهم عن حياة خير من حياتهم، فكانت تدعوهم بالنفسيين الهاربين من جبهة العمل، وتقول عنهم: إنهم عناصر قلق واضطراب، والعلاج عندها هو مضاعفة الجرعة من الدواء السوفيتي الذي لا دواء سواه لكافة العلل الاجتماعية: القوة.
واتخذ العلاج صورة «دفتر للعمال» جديد نشروه بين العمال جميعا، وبدءوا في توزيعه قبل منتصف يناير سنة 1939م بعدة أسابيع، ولو أن قائمة المطبوعات الرسمية قد حددت لتوزيعه هذا التاريخ، وطنطنت الصحف بهذا الدفتر وعدته دليلا على «نمو الطبقة العاملة ونجاحها وإخلاصها للوطن الاشتراكي الذي ينتمون إليه»، وقد كانت الهيئة السياسية العليا هي التي قررت هذا الدفتر وفرضته على صفوف العمال فرضا، هؤلاء العمال الذين لم يروا فيه إلا غلا جديدا يضيق عليهم سجون حياتهم، ومع ذلك فقد صوروه على أنه سهم شهره العمال أنفسهم ليقاتلوا به «هؤلاء الكسالى الذين يعرقلون مجرى الإنتاج».
وأصبح دفتر العمال للعامل من الصفوف الدنيا بمنزلة تذكرة الحزب لأعضاء الشيوعية، إذ لم يعد له حق ترك وظيفته دون أن يكتب له في دفتره هذا ما يخول له تركها، بحيث لا يكون له الحق في عمل آخر إلا إذا تبين من دفتره إخلاء طرفه من عمله السابق، أضف إلى ذلك أن دفتر العامل كان يحتوي على ما أصاب صاحبه من لوم أو عقاب أو تأخير أو أخطاء في الإنتاج أو غير ذلك من ضروب الخطايا، وبهذا قضي على العامل أن يحمل معه وزر ماضيه أينما ذهب، فلا أمل له بعدئذ في بداية جديدة في مدينة أخرى أو صناعة غير صناعته.
ولقد تحدثت إلى عشرات من العمال والعاملات في مصنع الأنابيب الجديدة أيام توزيع هذه الدفاتر الجديدة ، فوجدتهم يمقتونها بإجماع الآراء، وأكثر العمال سذاجة وقلة شأن كان ينظر إلى هذا الدفتر على أنه أحبولة نصبتها لهم الحكومة، فحتى الذين لم يكن لهم نية ترك أعمالهم أخذهم الآن إحساس من وقع في فخ منصوب.
فكنت تسمعهم يقولون لي: «من الذي يفكر في ترك مصنعه إذا وجد حياته على شيء من الراحة؟ ماذا يفرق بيننا الآن وبين عمال الاعتقال الذين يعسكرون ها هنا على مقربة منا؟»
لكن أساليب السوفيت المألوفة لم يكفها أن تفرض هذه الأغلال الجديدة بحيث يتكلف العمال «قبولها عن طيب خاطر»، بل كان لا بد لهم من «التحمس لها»، لم يكفها أن يعاني العمال ضربات السياط، بل كان لا بد لهم من تقبيل السوط قبل أن يهوى عليهم وأن يصيحوا له بالهتاف مهللين، وقامت نقابات العمال «بحملة تعليمية» تبين للناس جمال هذا «النظام» الجديد، فكان رجالها يجمعون العمال ويطلبون إلى من يختارونهم من بين عمال المصنع الذين ينتمون للحزب أن يمدحوا حسنات النظام الجديد، فترتفع أصوات صارخة بالقبول، أصوات أعدتها اللجنة المحلية بالروح التي أملتها عليها موسكو، فيوافق ذلك قبولا إجماعيا لدى الحاضرين.
وقدمت إلى مصنعنا لجنة تفتيشية لتستوثق من أن توزيع دفاتر العمال الجديدة التي أمر بها ستالين قد تم على الوجه المطلوب، فوجدت بين أعضائها رجلا كان يزاملني في الدراسة أيام المعهد، ودعوته للعشاء في منزلي الخاص، وبينا نحن نتحدث على مائدة العشاء، عرجنا بالحديث على دفاتر العمال، فوجدت زميلي متأثرا أعمق الأثر لما لمسه في مصانع كثيرة زارها من شعور النفور بين العمال.
قال لي في حسرة: «نعم، إني أخطب خطبا من نار عن هذه الآية السوفيتية الجديدة، لكني يا فيتيا لا أخرج الكلام من صميم قلبي، فقد بدأ الأمر بتذاكر بوليسية تصرف لأعضاء الحزب، وها هم أولاء يعقبون عليها بتذاكر صفراء للعمال!»
والعجيب أني سمعت هذا الوصف نفسه من رجل آخر، إذ جاءني في المكتب مساعد من مساعدي ليقضي شأنا من شئون العمال، فقال لي وهو يبتسم: «تستطيع يا فكتور أندريفتش أن تهنئني، فقد تسلمت الآن تذكرتي الصفراء كأني عاهرة من العاهرات ...»
ولما وثقت الحكومة الآن من أن أفراد الشعب لم يعد في مقدورهم الفرار، اتخذت خطوة أخرى تجاه «الاشتراكية»، إذ أمرت بمراجعة عامة شاملة للبلاد كلها فيما يختص بمعايير العمل والإنتاج، وكلفت نقابات العمال هذه المرة أيضا بإثارة الحماسة في النفوس، وبالطبع كان معنى المراجعة في كل الحالات الارتفاع بأرقام الإنتاج، فاجتمع عمال الأقسام المختلفة من جديد، ومن جديد اتخذوا قرارات «بمحض اختيارهم» أن يزيدوا من مقادير إنتاجهم، ولم يكن معنى ذلك سوى انخفاض أجورهم، وراحت الصحف في برفورالسك تتغنى بوصف الحماسة العظيمة في هذا الاجتماع، مع أن الحاضرين لم يروا فيه إلا رفعا آليا للأيدي في أخذ الأصوات، وتصفيقا آليا للقرارات.
أما وقد فرغنا من ربط العمال إلى آلاتهم وابتززنا منهم عملا أكثر لقاء الأجور نفسها، فقد تأهبنا لبرهان آخر هو أكثر الخطوات إذلالا للنفس ودليلا على ما وصلت إليه كرامة العمال في ظل الدكتاتورية الشعبية، فقد ثارت عاصفة الدعاوة أول ما ثارت على النفعيين والمتأخرين من العمال، فأعدت محاكمات تأديبية لمحاكمة «النفعيين»، ولو قد هبط من المريخ إنسان في ذلك المكان وذلك الزمان، لما خامره الشك في أننا نحن الروس أمة من المهرجين الكسالى، نظل في مخادعنا الوثيرة حتى ترتفع الشمس عالية في قبة السماء، ولأيقن أن هذا التهريج الذي نبديه فيه تعليل النقائص كلها الضاربة في أحشاء البلاد.
ثم عقبت الدعاوة على ذلك بمرسوم آخر بشأن «تقوية أواصر النظام بين العمال الاشتراكيين»، وأحب أن يدرس هذا المرسوم أولئك الذين يتوهمون أن في الروسيا «ديمقراطية اقتصادية» و«مجتمعا عماليا»، أحب أن يسألوا أنفسهم هل يمكن لعمالهم المظلومين في بلادهم المظلمة أن يحتملوا مثل هذه المعاملة التي جاء بها ذلك المرسوم.
جاء في القانون الجديد أنه إذا تأخر كائن من كان عن عمله أكثر من عشرين دقيقة فإنه يقدم إلى النيابة المحلية بغض النظر عن أي ظرف، ثم يحاكم حتى إذا تبينت إدانته حكم عليه بالسجن أو السخرة، وخشية أن يتهاون الموظفون «الطيبون» و«أحرار البرجوازية الفاسدون» ممن يتولون الأمر في المحاكم المحلية، فقد نص المرسوم على عقوبة بالسجن والتعذيب للموظفين وغيرهم الذين لا يبلغون عن العمال المجرمين، أو الذين يتسترون على «مجرمي» التأخير! ولم يكن من الأعذار ما يقبلونه لغياب العامل إلا مرضه الخطير الذي يشهد عليه أطباء المصنع، أو موت أحد أفراد أسرة العامل، أما أن يكون العامل قد تأخر في نومه، أو عطلته وسائل المواصلات، فليس ذلك من الأعذار المقبولة.
ألا ما أكثر المصائب التي رأيتها تهوي على رءوس العمال التعساء في الأعوام التي اشتغلت فيها بإدارة الصناعة، لكني ما رأيت واحدة منها قد بلغت ما بلغته هذه الضربة من مجاوزة للمعقول ومن إثارة للدهشة العميقة، حتى لقد ظن الناس بادئ ذي بدئ أن هذا المرسوم يبلغ من الجرأة في فظاعة الإجراءات ما يستحيل معه أن ينفذ، لكن سرعان ما رأينا أن ستالين لم يكن هازلا، وأن عشرين دقيقة كانت هي الحد الفاصل بين عبودية محدودة يعيش فيها العمال «أحرارا» وبين عبودية كاملة يحشر فيها العامل في زمرة المسخرين.
فكنت أجد على مكتبي كل صباح قائمة بأسماء المتأخرين مع ذكر عدد الدقائق التي تأخرها كل منهم، وكانت ترسل نسخ من هذه القائمة إلى مكاتب الحزب ومكاتب نقابة العمال الكائنة في المصنع، فلم يكن بد إذا من أن أوقع القائمة وأبعث بها إلى المدير الذي يرسلها إلى وكيل النيابة، وما هو إلا أن يستدعى «المجرمون» إلى التحقيق في المحكمة، ولقد تعذر علينا أول الأمر أن نصدق أن الرجل يكون عماد أسرته يكسب لها قوتها ، فيحكم عليه بسنة أو أكثر يقضيها في السخرة بعيدا عن أسرته من أجل هذه الأسباب التافهة، لكننا كنا على خطأ شنيع، فعلاوة على التحذير الذي تضمنه القانون نفسه موجها لرجال المحاكم، جاءتهم تعليمات شديدة ألا يعرفوا للرحمة سبيلا، وقام هؤلاء بواجبهم، ولو أنه لم يستطع إلا قليلون من هؤلاء القضاة ورجال النيابة أن يخفوا شعورهم بعار ما يصنعون.
وكان عدد من حكم عليهم في الروسيا إبان الثلاثة الأشهر الأولى نحو مليون من العمال والموظفين، حكم عليهم بتهمة النفعية أو بتهمة مجاوزة الدقائق العشرين في تأخرهم عن العمل، فكان الآباء والأمهات ينتزعون انتزاعا من منازلهم تاركين وراءهم رضعا يموتون جوعا أو يعيشون في ملاجئ الأيتام، وكل الجريمة أن العامل قد تأخر في نومه أو أن الطبيب لم يوافق على أن مرضه من الشدة بحيث يعوقه عن العمل، وعلى هذا النحو كان عشرات من العمال في مصنعي يحكم عليهم كل يوم، حتى لقد ارتفعت صرخة عالية من أنين الأسى واليأس، ارتفعت من الثكنات والمنازل التي احتواها الغم، لكنها لم تبلغ من ارتفاع صراخها حدا تصل به آذان الهيئة السياسية العليا في موسكو، بل إنها لم تصل بعد آذان هؤلاء الحمقى الذين يسعون جهدهم لنشر النعيم الذي تقتضيه هذه «الديمقراطية الاقتصادية» بحيث يشمل بلادا أخرى وشعوبا أخرى.
جاءني عامل خراط تقدمت به السنون، وكنت أعلم أنه عامل كفء نشيط، جاءني باكيا فعرفت شكواه قبل أن ينطق بكلمة واحدة، إذ كنت قد رأيت اسمه في القائمة الحزينة اليومية.
قال لي معترفا: «تأخرت ثلاثين دقيقة لكني رجل كهل، لقد عملت هاتان اليدان أربعين عاما، فما مصير زوجتي وأبنائي؟ العون العون يا رفيقي المدير!» - «ولماذا تأخرت؟» - «كان بي وجع شديد في أسناني سهدني طول الليل، ولم أنم إلا قرب الصبح، فلم أستيقظ في الموعد المضروب، وهرولت إلى المصنع لم أكد أتم ارتداء ثيابي كأنما الشياطين كلها تتعقبني لتمسك بي، ومع ذلك فقد أخطأت الموعد!» - «أنا أصدقك فيما تقول يا رفيق، لكن ليس لي في الأمر خيار ؛ لأني إذا ما حذفت اسمك من القائمة، كان عقابي السجن، وكل ما أستطيعه أن أبعث بمذكرة للطبيب لعله يعينك.»
وكتبت المذكرة للطبيب، لكن الطبيب بالطبع لم يشأ أن يلقي بنفسه في التهلكة؛ ولهذا أرسل العامل الكهل إلى المحكمة.
وجاءت عاملة ودفعت أمين السر من طريقها واندفعت داخل مكتبي وهي تبكي على نحو ما يبكي نساء الريف في صوت مرتفع.
فقلت لها محسنا لقاءها: «اجلسي واملكي زمام نفسك.» وتبين أنها تأخرت نحو ساعة كاملة وأنها استدعيت بالفعل إلى المحكمة، وكانت أرملة تعول طفلين: ابنة عمرها أحد عشر عاما، وأخرى عمرها عامان، تعولهما بعملها في المصنع، وكانت كبرى الابنتين مريضة كما روت لنا، واستدعت لها الطبيب، فما فرغ الطبيب من فحص المريضة إلا وقد فات موعد العمل.
فوعدتها أن أتصل بالطبيب في هذا الشأن، لكن الطبيب لسوء الحظ لم يكن رأيه أن البنت كانت من حدة المرض بما توهمته أم تحب ابنتها؛ ولذلك لم يكن في وسعه أن يشهد مخلصا أن مرض الابنة يبرر تأخير الأم عن العمل، وصدر الحكم على الأم بأن تظل عاملة في مصنعنا، لكن على أساس السخرة.
وفي حالة أخرى قال العامل مدافعا عن نفسه أنه لا يملك ساعة منبهة، وأنه يستيقظ في العادة على ضوء الشمس، ولما كان اليوم شاذا في ظلمته وكثافة سحابه فقد انتهى به الأمر إلى زلته، لكن هذا الكلام لم ينجه من جريمته.
ولم يخامرني شك في أن مقاومة التأخر عن العمل لم تكن سوى غاية واحدة من الغايات التي يرمى إليها المرسوم الجديد، أما غايته الأخرى التي ربما كانت أهم وأخطر، فهي أن يزيدوا من العاملين بالسخرة، فكانت لدى المحاكم تعليمات خاصة، وأخذت عجلة «العدالة» تدور في نشاط لا يفتر، بحيث كان يدخل العمال الأحرار ساحاتها من طرف، يدخلونها بعشرات الألوف ومئاتها، ثم يخرجون من طرفها الآخر وقد وسموا بميسم السخرة.
وشاءت الأقدار أن تجيء هذه الإجراءات التنظيمية القاسية التي اتخذوها إزاء أفراد الشعب فحطموا بها آخر أثر بقي لهم من كرامتهم الإنسانية، شاءت الأقدار أن تجيء هذه الإجراءات القاسية في شتاء بلغت قسوة زمهريره حدا جاوز المألوف، وجعل العمال العبيد التابعون لجماعات الشرطة السياسية في إقليم أورال يعملون في العراء رغم هذا البرد الشديد، يأكلهم الصقيع، وتفري العلة أجسامهم، وينالهم ما ينالهم من تشويه، وكثيرا ما لاقى الرجال والنساء في معسكرات الاعتقال القريبة منا حتوفهم بفعل البرد إذ هم يعملون في الغابات أو يقيمون في ثكناتهم أو أكواخهم الطينية وراء الأسوار الشائكة، وهي ثكنات وأكواخ ليس فيها من عوامل التدفئة شيء، ولقد بلغ العذاب في ثكناتنا مبلغا شديدا، وعلى وجه الجملة لم تكن برفورالسك بالمكان الذي تبدو فيه علائم البشر بما نزهى به من «عمل اشتراكي».
لذلك رحبت بما علمته من نية أولى الأمر في موسكو أنهم ربما نقلوني إلى مهمة أخرى، فلم يكن يفارق الإنسان وهمه بأن الحالة في غير مكانه - إن لم تكن أحسن - قد تكون أقل حلوكة وسوادا.
لبثت صناعة التعدين عدة أشهر ترتج ارتجاجا بما يجيئها من تقارير عن مشروع ضخم لخراطة الأنابيب يقام في سيبيريا - وعلى وجه التحديد في ستالنسك (التي كانت تسمى كوزنتسك) - حيث كانت بالفعل بعض المشروعات الجديدة الضخمة قد بدأت عملها، وهذا المشروع الجديد قد يكلف مبلغا يزيد على مائة مليون روبل، وكما هي العادة في السوفيت أخذت أبواق الدعاوة تملأ الدنيا ضجيجا عن المشروعات قبل إنشائها بزمن طويل، ولقد تصادف أني سمعت بتلك التقارير وقرأت بعض ما تقوله الدعاوة، لكني كنت أسمع وأقرأ دون أن أهتم للأمر اهتماما شخصيا، ثم ما هو إلا أن تركز الأمر كله في بؤرة تمس شخصي من قريب؛ ذلك أن رياسة الصناعة العليا في موسكو واللجنة المركزية للحزب قد وقع اختيارهما علي - بغير استشارتي فيما أحب وما لا أحب - لأتولى إدارة المنشآت الجديدة كلها للمصنع الذي سيقيمونه في ستالنسك.
الفصل العشرون
أكذوبة سيبيريا
أعلنت صحيفة «في سبيل التصنيع» بموسكو في اليوم الثامن عشر من شهر فبراير سنة 1939م تقول: «قرر الرئيس الأعلى لصناعة تعدين الحديد أن يكون الرفيق «ف. أ. كرافتشنكو» مديرا لمصنع التعدين الذي تقرر إنشاؤه في مدينة ستالنسك.»
وكان المقصود بذلك هو المشروع الجديد في ستالنسك بسيبيريا الذي وضعت خطته على أساس أن ينتج مائة وسبعين ألفا من أطنان أنابيب الصلب كل عام، والمشروع من الضخامة بحيث أشار إليه مولوتوف نفسه إشارة تستلفت النظر في خطابه الذي أعده للمؤتمر الثامن عشر الذي سيعقده الحزب الشيوعي، والذي قال فيه: إن إنشاء ذلك المشروع سيبدأ بعد قريب وستبدأ أول أقسامه في عملية الإنتاج عام 1941م.
ولأن يذكر اسمي مقرونا بهذا المصنع الجبار الذي اختصه مولوتوف بالإشارة - وإذا قلنا مولوتوف فقد قلنا كذلك ستالين - فذلك أحاطني بهالة من المجد بين عشية وضحاها، وأعلن تعييني على الناس باعتباره جزءا من المشروع الذي سيقدم لهيئة «المؤتمر»، وذلك الإعلان في ذاته أهم من المنصب نفسه؛ لأن معناه أني قد «وصلت» وأصبحت في المراتب العليا من أرستقراطية الاقتصاد والسياسة، وسرعان ما تذكر أصدقائي ومعارفي الذين كانوا يجتنبونني أيام محنة التطهير، سرعان ما تذكروا أنهم كانوا يعرفونني فتسابقوا إلى التعبير لي عن زهوهم بنجاحي، وكان أمامي عمل كثير أنجزه في موسكو استعدادا للعمل في سيبيريا، فخصصت لي غرفة جميلة في موسكو بفندق متروبول على نفقة الحكومة، وصرف لي مبلغ كبير من المال، وكان في وسعي أن أظفر بما شئت أن أظفر به، الله! ما أعظم أن يكون الإنسان مقربا لدى اللجنة المركزية العليا! الحق أن أوضاع الدكتاتورية كلها تبدو لعينك في صورة مغايرة، إذ تبدو أقل كآبة وأقل طغيانا إذا ما نظرت إليها من مكان تختاره إلى جانب القمة.
لا شك أن هذه هي الفكرة التي كانت تطوف برأس والدي حين حذرني جادا بعض الشيء ساخرا بعض الشيء ألا أفقد الصلة بغمار الشعب ما دمت قد أصبحت واحدا من «العلية أصحاب النفوذ»، إذ قال لي في خطابه: «لا تدعهم يشترونك بالألقاب والأوسمة»، فكان مما أدخل الطمأنينة إلى نفسي أن أرى هذا البرهان قائما على أن الأيام لم تضعف من موقفه إزاء أصحاب النفوذ ، ولو أنه غير موقفه لأن ابنه قد بات واحدا منهم لأيأسني ذلك من أبي.
ولما نشرت الصحف المحلية في بلدي خبر تعييني، عرفت أمي معرفة اليقين أن محنة اضطهادي قد أدبرت عني إلى غير عودة.
وكتبت إلي تقول: «أدعو الله يا ولدي العزيز أن يهبك العافية وحسن الحظ والتوفيق، وحاول أن تنسى ما قد صادفته من إساءة، أرسل ناظريك أمامك، وابذل وسعك يا ولدي العزيز في سبيل وطننا المحبوب وبني وطننا، أما نحن فنعيش كما عهدتنا دائما، ولا تؤاخذني إن طلبت إليك - إذا ما شاءت الصدفة أن تجيئنا زائرا - أن تحضر لنا معك ما استطعت إحضاره من موسكو من المواد الدهنية والسكر والشاي والسمك ... ليس هنا شيء من ذلك وا أسفاه! وما كنت لأذكر هذه الحقيقة لولا ما وصلت إليه الحالة من سوء بشع فظيع.»
وجاء خطاب أبي مؤيدا لخطابها، فقال في عرض حديثه كأنما يقول عرضا: «لقد قيل لنا يا بني إننا قد خلقنا لأنفسنا «حياة سعيدة»، ولكن لا تضللنك هذه الأقاويل بحيث تتردد في إحضار زوج من الأحذية لأمك إن وجدت، فلعل «الحياة السعيدة» قد أخطأت دنيبروبتروفسك.»
على أن منزلتي الجديدة بوصفي موظفا وثقت به الدولة، لم تنجني طبعا من الإجراءات المألوفة التي يقوم بها رجال الشرطة السياسية، فما أكثر ما أرى عند عودتي للفندق علامات تدل على أن حقائبي وخزانة ملابسي قد فتشت تفتيشا دقيقا مرة أخرى، ولقد حاول معارفي الجدد - كما هي الحال دائما - أن يورطوني في مناقشات سياسية خطرة، لكن لحسن حظي كنت قد تعلمت كيف أشم رائحة الخطر، وهي حاسة سادسة نشأت في طبيعتي خلال الجلسات الليلية التي عانيتها في نيقوبول، وأصبحت هداية لي تجعلني أزم شفتي عن الحديث إذا ما بدت على الناس شدة الرغبة في فتح آذانهم.
كذلك تعلمت أن أصون عزوبتي من أنظار النساء اللائي يقمن في الفنادق الغالية واللائي أطلقنا عليهن «سيدات ليوبيانكا» - وليوبيانكا هو اسم مقر الشرطة السياسية في العاصمة - فهؤلاء الغانيات قد اختارهن خبراء بأجسام النساء، ووضعن هناك في ثياب أنيقة، منها معاطف الفراء الفاخرة، على حساب أفراد الشعب الذين لا يرتدون إلا هلاهيل، ومن كانت تستطيع من هؤلاء النساء أن تتمتم ببعض اللغات الأجنبية تخصصت في غواية الأجانب من ساسة ومهندسين أمريكان وألمان ومراسلي صحف، وأما الأخريات فقد كن يسقطن على من يرونه وحيدا من رجال الحكم الذين بلغت بهم المنزلة العالية حدا يسمح لهم بالسكنى في الفنادق الكبرى.
ولأضرب لك مثلا ليلة كنت قد أويت فيها إلى غرفتي لأقرأ صحيفة صناعية، فدق التليفون وكان المتكلم صوت امرأة تعاتب: «يا بيوتر إيفانوفتش، لماذا لم تحيني عند انصرافك؟ أنا في غاية الشوق إليك يا حبيبي.»
فأجبتها في برود: «آسف لأن هذا الاسم الذي تذكرينه ليس في هذه الغرفة.» - «كفى مزاحا يا بتيا، كأنني لم أعرف صوتك!» - «لست أنا «بتيا» الذي تقصدين، عني نشدتك الله.» - «صحيح! لا بد أن تكون في صحبة فتاة سواي، وإذن فسأحضر إليك لأرى بنفسي.»
وطرق الباب طارق بعد عشرين دقيقة، وإذا بي أرى عند الباب غانية ممشوقة ضامرة شقراء تستوقف النظر بلونها الأشقر، وكانت تلمع قطرات الثلج على قبعتها الفرائية المغرية، ولما رأتني تظاهرت بالدهشة لكنها ابتسمت ابتسامة حلوة وقالت: «هل عاد بيوتر إيفانوفتش إلى بلده؟» - «اسمعي يا زغلولتي، إني أسكن ها هنا وليس في المكان من يدعى بيوتر إيفانوفتش فهلا تركتني؟» - «لكن فيم هذه القحة يا عزيزي؟ إن رجلا وسيم الطلعة مثلك يجب أن يكون أكثر أدبا في حديثه مع امرأة جذابة مثلي.» - «أنا مشغول فاعذريني، ولا بد لي من أن أقول لك اذهبي مع سلامة الله.» - «أعوذ بالله! ما أكثر ما تخدع المظاهر ... إنك لتبدو بمظهر السيد الرقيق الأصيل ومع ذلك فلا تكلف نفسك العناء بحيث تقدم لسيدة مقعدا.» - «اذهبي مع السلامة.» قلت لها ذلك في حزم وأنا أقفل الباب، ثم لم أملك سوى أن أقول لها: «إن أساليبك لم تبلغ بعد حد الإتقان ويلزمك كثير من مران.»
وأتيح لي أن أزور أسرتي في دنيبروبتروفسك على حساب الحكومة؛ لأني اضطررت إلى الذهاب إلى هناك للتشاور مع بعض موظفي صناعة التعدين في ذلك البلد، وحجز لي ديوان خاص في عربة الدرجة الأولى، وهي ما يسمونها بالعربات «الدولية»، وكنت حسن الهندام أتمتع في سفري بما يتمتع به رجال الطبقة الممتازة من وسائل الراحة، فيستحيل أن يراني أحد من أهل بلادنا إلا ويدرك من لمحة واحدة أنني بيروقراطي ذو منصب رفيع، ولهذا وقف مني فارز التذاكر موقف الذليل الضارع، فضاق صدري لذلك إذ رأيت نفسي رمزا للتفاوت بين الناس، وهو نفس الشيء الذي كنت أمقته وأزدريه.
وكانت العربات «الناشفة» أو عربات الدرجة الثالثة في الطرف الآخر من القطار، فيما وراء عربة الأكل «الدولية» التي كنا بها، مزدحمة بأجساد بشرية تكتلت على مقاعد الخشب، ودفعني حب الاستطلاع إلى السير خلال تلك العربات، فرأيت في أعين الناس نظرات التقريع، بل نظرات الكراهية لما ترى في من علامات الاحترام، وكلما وقف القطار في محطة على الطريق، وخرجت أريح ساقي، خيل إلي أني ألمح نظرات الكراهية عينها من الفلاحين المهلهلين الذين كانوا يبيعون الخضر والسمك المقدد واللبن.
وما مضى طويل وقت حتى دخلنا أوكرانيا وهي موطني، فخيل إلي أن سهول الأرض نفسها كانت أحنى قلبا من أقاليم الروسيا في الشمال، لكن قلبي كان يتقلص من الألم كلما وقعت عيني على مشاهد البؤس والفقر بادية في كل مكان.
ولما دخلنا محطة بعد خاركوف كنت في عربة الأكل إذ ذاك فأفزعني أن أرى وجوها صغيرة كثيرة تسترق النظر خلال النافذة بأعين حاسدة جائعة حزينة، وإن كانت تلك الوجوه لأبناء السبيل من أولاد وبنات في خرقهم البالية المرقعة، تنظر محدجة في أحد «أعمامهم الاشتراكيين»، إذ هو مطمئن في بحبوحة السادة مستظل بدكتاتورية الشعب.
هذا يحدث في أوكرانيا، التي كانت في ماضي السنين لا تكفي أهلها بطعامها فحسب، بل كانت ترسل الطعام إلى شطر عظيم من أوروبا! فدفعت حسابي مضطربا، إذ اشتملني غم مفاجئ، وأسرعت خارجا من عربة الأكل، فما أبعد الهوة بين الروسيا كما تصورها الدعاوة وأرقام الإحصاء، والروسيا كما هي لحما ودما! ما أغرب العقل البشري من آلة في مقدورها أن تقيم بينها وبين الواقع سدا منيعا من انتصارات مكتوبة على الورق وعبارات خالية من المعنى!
وخرجت مرة أخرى في محطة سنلنكوفو لأمشي قليلا في البرد الذي يبعث القوة والنشاط، فلاحظت عند باب غرفة انتظار الدرجة الأولى شرطيا يقذف منها أسرة ريفية، الرجل وزوجته وبضعة أطفال، وكلهم مثقل بحمل من المتاع المحزوم، قائلا لهم: «مكانكم هناك أيها المواطنون، في غرفة انتظار الدرجة الثالثة.» فساروا عن المكان في خضوع الأذلاء، فما خطر ببالهم، ولا خطر ببال الشرطي، إن ناسا كهؤلاء الذين يراهم العمل قد يجوز لهم أن يقتحموا حرم الدرجة الأولى، في مجتمعنا هذا الذي «لا يعرف الطبقات».
وجاء عدد من الفتيات في طليعة الشباب، عليهن ملامح الريف وجماله، يغطي وجوههن النضرة شيلان ملونة، جئن ليقابلن القطار، فلا شك أن مرور القطار كان من غرائب الحياة التي تهز النفس في بلد ريفي مثل سنلنكوفو، فأخذت الفتيات في اضطراب المشدوهات تتطلعن خلال نوافذ الدرجة الأولى، تتضاحكن وتتغامزن، فربما كان يطوف برءوسهن أحلام بأن أميرا جذابا من ركاب الدرجة الأولى ذوي المكانة الممتازة قد تقع عيناه على إحداهن، فيقع في غرامها من فوره، فيخطفها إلى موسكو أرض الأحلام.
كانت محطة دنيبروبتروفسك نظيفة مرتبة، وكان في انتظاري على الرصيف المزدحم الصاخب أخي قنسطنطين وزوجته، ولم أكن قد رأيتها - وإنها لعضو أضيف حديثا إلى أسرتنا - لأني غبت عن البلد فترة تزيد على عام كامل، فضممتهما وقبلتهما، وقد ساعداني في حمل اللفائف الكبيرة التي جئت بها من العاصمة بما تحتوي عليه من طعام وثياب، وسرعان ما كنا في طريقنا إلى الدار، المتاع في عربة، وثلاثتنا في عربة أخرى، فما أحلى أن تقع عيناي من جديد على ما ألفنا من شوارع المدينة وميادينها ومبانيها وقد غطتها طبقات من الثلج، وسأظل إلى الأبد أذكرها في هذه الصورة.
وضحك قنسطنطين وقال: «ما شاء الله يا فيتيا، إنك لتبدو في مظهر نسر حقيقي من موسكو، مظهر ستالين صغير التزم الدقة ليبدو في مظهر مقصود، ألم أقل لك يا «كلافا» إن أخي رجل له أهميته وسطوته؟»
وخيل إلي أني ألمح نغمة الجد وراء هذا المزاح، فقد كان أخي كلما تقدمت به السنون يزداد شبها بأبي؛ إذ كان له مظهره الوسيم الجميل القسمات الضامر الجسد، كما كانت له طريقته في السخرية. - «فيم قولك هذا يا كوتيا؟» - «لا يسيئن قولي إليك يا أخي الصغير، فأنت تبدو في مظهر فاخر باهر في عيني الريفيتين، أو ماذا أقول؟ ربما كان ما أراه نظرة الطمأنينة التي تبدو على زعماء الشعب بعد أن ينفقوا أعوامهم في إنكارهم لذواتهم ...»
وهنا قاطعته زوجته قائلة: «كفى يا كوتيا، إنك تنتظر قدوم فكتور أندريفتش كأنك ترتقب بقدومه حبيبة فؤادك، حتى إذا ما جاء كان أول ما تصنعه إزاءه أن تهاجمه.» - «اذكري أي حبيبتي كلافا أن هذه أول مرة، وقد تكون آخر مرة، تتاح لي فيها فرصة الهجوم على ستالين صغير على مسمع منه!»
وضحكنا جميعا، ولما كنت أعرف أخي بطنا لظهر فلم أستخف بمزاحه كما استخفت به زوجته، وقد كنت أعلم أنه يحبني حبا عميقا، فنظر إلي وكأنه قرأ ما يدور في رأسي من خواطر، فضغط على ذراعي ضغطة الحب كما كان يفعل حين كنا في مدارج الطفولة، ولم تكن سخريته المرة مسددة نحوي أنا، بل نحو فصيلة البيروقراطيين التي تشعر بعلو مكانتها وتستمتع بالحياة المترفة ولا تسمح لشعاع من عاطفة أن يتسلل إلى قلوبها الباردة، وإنه ليخيل إلي أن أخي إنما كان يردد روح التشاؤم الساخر الذي تغلغل في حياة الطبقات العاملة.
كان قنسطنطين في ثباته الرزين يمثل من وجوه كثيرة الرجل الروسي المثقف، فقد قاوم كل ما لقيه من ضروب الضغط التي كانت تغريه بالانضمام للحزب، لكنه كان عميق الحب للوطن وبنيه، حتى لقد أصر بعد ذلك بأعوام حين هاجم الألمان بلادنا، أن يكون في طليعة من يذهبون إلى ميدان القتال، وانتهى به الأمر - وهو في رتبة الضابط - أن يسلم روحه دفاعا عن روسيا، فلتقل الصحف ما شاءت من بسالة أمثال هؤلاء الرجال، ولكني كنت على يقين - حين سمعت بالخبر وأنا في موسكو - أن أخي لم يقاتل ولم يسلم الروح في سبيل ستالين ونظامه، بل في سبيل أمته وبلاده ما قاتل وما أسلم الروح.
ترى هل كان يتنبأ بما كتب له وللملايين في لوح القدر؟ لقد قال لي إذ نحن نتحدث أثناء زيارتي تلك: «إن الوطن يا «فيتيا» شيء، وما يسوده من نظام سياسي شيء آخر ... فلا يخلطن أحد بين هاتين الحقيقتين.» ولم آبه إلا قليلا بقوله هذا حين قاله - ولو أنه قول فيه تعبير عما كنت أحسه أنا أيضا - لكن هذا القول أخذ يعاودني بعدئذ آنا بعد آن ولم ينقطع عني.
وجدت والدي كليهما قد بدت عليهما الكهولة مذ رأيتهما آخر مرة، ولقد كانا أحسن حالا من جيرانهما؛ لأن ثلاثة أبناء يمدونهما بالمعونة المالية، ومع ذلك فقد تعذر عليهما العيش، إذ استحال عليهما - حتى مع وجود المال - أن يحصلا على نوع الغذاء الذي يصلح لهما في سن الشيخوخة، أضف إلى ذلك أن أبي كان يحس الألم في بدنه وأعصابه كلما سمع بضربة من الضربات التي أخذت تتوالى على العمال: دفاتر العمال، ومرسوم التأخير، والمعايير التي ارتفع منسوبها، وازدياد السخرة في العمل، فقد ظل أبي طوال حياته يدمج نفسه في غمار الشعب دمجا تاما بحيث إذا ما أصاب صفوف الشعب أي إذلال أحس الألم هو كذلك في صميمه، على الرغم من أنه كان بمنجاة من الخطر.
وبدا الهزال على أمي أكثر مما بدا على أبي حتى لقد تحطم قلبي من أجلها؛ لأن طيبة قلبها كادت تبرز حتى تلمسها الأيدي، ولقد أشرق وجهها بطيبة قلبها، وازداد جمالا بها على نحو يستحيل على الألفاظ أن تعبر عنه، ولطالما راقبتها بغير ملل وهي مشتغلة بإعداد طعامنا أو معنية بأفراخ عشها وكلهم رجال راشدون، وكم سرني أن أرى المصابيح لم تزل مضيئة تحت ما علقته على جدرانها من رموز دينية؛ لأني ما فتئت محتفظا بذكرياتها منذ الطفولة، فكأنما تنهض تلك المصابيح المضيئة دليلا على أن أمي لها مصدر عزاء لا ينضب معينه، لقد كانت شديدة الإيمان بأن دعواتها هي التي أنقذتني من التطهير الأعظم ولم أشأ أن أنقض لها رأيها.
وصل مع المساء أخي يوجين وزوجته، فكان التئام شملنا جديرا بأن يظل مذكورا على الدهر، وأما أبي الذي لم تعلمه الأيام أبدا أن يسترخي للراحة استرخاء تاما ناسيا الدنيا ومتاعبها، فقد حاول مرة بعد مرة أن يحدثنا في السياسة، لكن أبناءه الثلاثة الأصلاب استطاعوا أن يكبحوا فيه هذا الاتجاه يومئذ، وكانوا في ذلك على حق؛ لأن ما يستحق الحديث غير السياسة كثير، فزوجة قنسطنطين مهندسة وزوجة يوجين معلمة، وهكذا كنا جميعا نمس الحياة اليومية الغليظة عن كثب.
وفي اليوم التالي ذهبت لقضاء عملي في مصنع لينين، فوجدت هيئة الموظفين الإداريين فيه جديدة كلها، ولم أكن من الغفلة بحيث أذكر «بيرمان» أو «إيفانتشنكو» أو غيرهما ممن كانوا في الماضي على رأس هذا المشروع الصناعي العظيم، لا بل إن «بتروفسكي» الذي كان اسمه مرتبطا باسم لينين في تسمية هذا المصنع، قد أصبح اليوم اسما لا يجوز ذكره، لكني وجدت بين عمال المصنع رجالا عرفوني من عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، فحيوني تحية الود وتجمعوا حولي.
قال لي أحدهم: «لقد خلفت لنفسك اسما يا فكتور أندريفتش، وإني لفرح لك من كل قلبي.»
وضحك آخر وقال: «نعم، إن ابن كرافتشنكو الكبير سيظل يرقى حتى يصبح وزيرا للشعب مع الزمن.»
لكني قبل أن أغادر المكان تحدث إلي رجلان ممن تقدمت بهم السن في لهجة الجد؛ لأنهما لم يكونا مغمومين بالقوانين الجديدة فحسب، بل أحسا إهانة شخصية عميقة الأثر.
وتنهد أحدهما «لارين» وقال: «إننا اليوم مغلولون إلى آلاتنا كما كان أجدادنا مغلولين إلى الأرض في ظل عبودية النظام الإقطاعي، إن الحياة مرة يا فيتيا، وهي سائرة في كل يوم إلى ما هو أسوأ.» - «نعم قل لنا - وقد أصبحت اليوم من علية القوم - متى نبدأ آخر الأمر في العيش كما يعيش البشر؟ لقد طال بنا الانتظار الآن مدى اثنين وعشرين عاما.»
فماذا كان في وسعي أن أصنعه لهم سوى أن أكرر العبارات المكرورة التي تنشرها الصحف في افتتاحياتها كل يوم؟ على أنه من حسن حظي أن هؤلاء الناس لم يكونوا يسألونني لأجيب؛ لأنهم كانوا يعلمون أنني مكتوف اليدين مثلهم، فلم أكن سوى ترس آخر في الآلة نفسها التي هم من تروسها، والفرق هو أني ترس أكلف الدولة مالا أكثر.
ولما عدت إلى الدار وجدت أبي في انتظاري، فما كان ليرضى أن يحرم نفسه متعة حديث جدي نظري مع ابنه الذي ورث دون سائر أبنائه قليلا من حماسته للسياسة، وفضلا عن ذلك فأظن أنه اعتبره واجبا أبويا مقدسا أن يهديني سواء السبيل، فقد كان خوفه الأكبر أن تستهويني السلطة بإغرائها كما استهوت سواي، بحيث أخون الطبقة التي نشأت منها لأغذي بلحوم أبنائها أجواف الدكتاتورية.
فطمأنته في هذا الصدد، وأخذنا نتحدث ساعات؛ لأنه كان في حقيقة الأمر واحدا من عدد قليل جدا من الناس أستطيع أن أنقض لهم جملة نفسي الجريحة دون أن أخشى الوشاية، كان شعور أبي إزاء الحوادث التي أخذ يرقب مجراها شعور من خاب رجاؤه، أما أنا فقد جاوزت ذلك الحد بشعوري؛ لأن ريبتي قد تبلورت في كراهية عميقة للحكام الجدد، وازدراء شديد لما يثرثرون به من أحاديث الاشتراكية، وخوف من آلات إرهابهم التي يصبون بها ميلهم إلى إيقاع الأذى. - «ولست وحدي أشعر هذا الشعور يا أبت، إن حركات التطهير التي قام بها ستالين لم تكسبه شيئا، نعم إن فئة كبيرة من الطامحين قد اندفعوا إليه يقسمون بين يديه الولاء والإخلاص؛ كي يملئوا المقاعد الوثيرة التي خلت بموت من مات وسجن من سجن، وإذن فهم مدينون بمناصبهم هذه إلى حركات التطهير، لكن أعداء ستالين لا يزالون كثرة بين أعضاء الحزب، نعم، حتى لتراهم منبثين في كل مكتب وكل مصنع بل في الكرملن نفسه؛ لأنك يستحيل أن تقتل كل هذا العدد من الناس دون أن تترك أثرا داميا يدعو إلى الكراهية ويحفز على الرغبة الشديدة في الانتقام.
ولا شك كذلك أن حول ستالين الآن جيلا جديدا من الشيوعيين الذين يعتقدون حقا أن كل أسلافهم كانوا خونة وأعداء للحزب؛ لأنهم لا يعرفون إلا هذا، ولا يجرؤ أحد أن يصحح لهم ما يعلمون، هؤلاء هم الذين يحبونه ويثقون فيه ولا يترددون في المغامرة بأنفسهم في الأهوال من أجله، إنهم قوة ستالين، لكنهم مأساة الروسيا.»
وهنا عادت الذكريات بأبي إلى شبابه الثائر، وتساءل: ماذا جرى للشعب الروسي؟ ألم يعد في الروسيا شباب تلتهب صدورهم بالمثل العليا وتدفعهم الشجاعة إلى الاحتجاج؟
فقلت له: «إن منا لعددا كبيرا يود لو استطاع أن يفصح عما في نفسه ويصيح للعالم بما يدور في رأسه، لكننا نعلم أن ذلك مستحيل؛ لأن الموت يسارع إلى من يحاول ذلك فلا يمهله حتى ينجز ما يريد، ولا يستطيع أن يقول الحق إلا القليلون الذين يفرون إلى خارج البلاد، أما هنا في بلادنا فالإرهاب شامل كامل بحيث لا يدع ثغرة لمثل هذه المحاولة.»
وهنا وقفت عن الكلام برهة ونظرت إلى عيني أبي، ثم قلت: «إذا كتب الله لي أن أغادر البلاد يوما يا أبت، وصممت على التعبير عما يجيش في نفسي بأعلى صوتي، فهل تعلم ماذا يحدث لك ولأمي؟»
كان حلم الفرار يتزايد في عقلي وقلبي.
لقد تاقت نفسي إلى اطراح النير عن عاتقي، لا من أجل نفسي فحسب، بل كذلك في سبيل الوطن الذي أحببت وفي سبيل بنيه، أإذا استطعت أن أنبئ العالم الخارجي بالحقيقة المخيفة كاملة، أيمتنع عن الإنصات إلى ما أقوله واستيعابه؟ إني لأشك في أن حلمي قد اتخذ صورته المحدودة في تلك اللحظة، ومع ذلك فهذا السؤال الذي ألقيته على أبي يدل على أن الأمر كان لا يزال يتخمر في أعماق نفسي.
وأجابني والدي: «لا يأخذنك الهم إشفاقا علينا، إننا شيخان قد عاشا ما كتب لهما من حياة، فاعمل دائما ما تراه واجبا يا فيتيا، ولا شيء غير هذا ينبغي أن يكون له عندك حساب، إن من التوافه أن تحس أنت الألم، فآلم منه أن تعلم أنك سبب في إيلام الناس الذين يقعون من قلبك موقع الحب، وإني على ما أقول يا بني لشهيد، وإلا فهل تظن أن قد كان هينا علي أن أذهب إلى السجن تاركا ورائي زوجة عزيزة وأطفالا يعبث بهم الجوع؟»
ولما غادرت دنيبروبتروفسك صحبتني أمي إلى موسكو، ولم توافق على صحبتي هذه إلا بعد نقاش طويل ومحاولة الأسرة كلها إقناعها بالرحلة، إنها لم تر العاصمة قط، وقد سرني جد السرور أن يتاح لي مرافقتها في زيارة العاصمة زيارة الوجهاء، وكذلك قصدت باصطحابها أن أهيئ لها عطلة تستريح فيها من واجباتها في الدار، وعلى الرغم من تأكيدي لها أننا واجدان في عربة الأكل بالدرجة الأولى وفرة من طعام، فقد شحنت حقيبة ملابسها بمئونة من زاد للرحلة.
وكادت تصعق أمي لما في العربة «الدولية» من ألوان الترف، وللغرف الأنيقة التي حجزت لنا في فندق موسكفا، ومكثنا قرابة أسبوعين، جعلت خلالهما أنظر إلى موسكو بعيني أمي اللتين لم تفسدهما العادة، فرأينا مسرح الفن في موسكو ومسرح مالي، والغناء والرقص، ومشاهد الرياضة في ملعب دينامو، ومعارض الفنون، ومتنزه الثقافة والاستجمام وكانت «إيرينا» تصاحبنا عادة، وهي سيدة عرفتها منذ شهور.
وسألتني أمي بغير مناسبة ذات مساء إذ نحن جالسان في مطعم الفندق: «لماذا أصررت على إحضاري معك إلى موسكو يا فيتيا؟» - «يا له من سؤال يا أمي! إنها منحة مني إليك أردت بها أن أبين لك مقدار حبي إياك.» - «طبعا، طبعا، لكن ربما ...» - ونظرت إلي بابتسامة لها ما وراءها من معان - «ربما جئت بي كذلك؛ لأنك أردت أن تريني إيرينا، لا، لا، لا تحمر خجلا يا فتينكا، فأستطيع أن أرى الحب في عينيك.» - «أعترف لك يا أماه أنك على صواب، ولكني لست على درجة الجنون في حبي لها وكل ما في الأمر أني أشعر بوحشة شديدة وأجد لإيرينا في نفسي إعجابا قويا.» - «كل ما أقوله لك هو أنك تدل بذلك على ذوق جميل، فهل سجلت زواجك؟» - «لا، لم أسجل بعد، فإيرينا لديها عمل لا تستطيع تركه وأنا مسرور لذلك ؛ لأني لا أحب أن أبدأ حياة الزوجية في بلاد سيبيريا النائية.»
كانت إيرينا طويلة وسيمة لها عينان زرقاوان نجلاوان وشعر بني فاتح، وهي ابنة لوالد فرنسي وأم روسية، وتكسب عيشها من ترجمة كتب أدبية من الألمانية والفرنسية لبعض الهيئات في موسكو، وقد قابلتها في حفلة خاصة غص فيها منزل المضيف بالزائرين، وإنما ذهبت هناك بصحبة صديق ذي مكانة عالية، فلما رأيت إيرينا تأثرت لرؤيتها أثرا عميقا ، وقد يكون ذلك لحلاوة عبارتها أو لنبرة صوتها أو لمشيتها الهادئة الطبيعية، وقلما تبادلت معها الحديث تلك الليلة، لكني كنت شاعرا طول الوقت بوجودها، حتى أنني حين عرضت عليها أن أرعاها إلى دارها لم تدهش لهذا الغرض، كأنما كانت تتوقع ذلك منذ اللحظة الأولى.
ولم يكن في لقائي لها من المظاهر المسرحية قليل أو كثير، فلم يكن هناك شيء من التوتر المحموم، ولا شيء من التفاني في التعبير بعبارات متلاحقة عن ثقتي بها، كالذي حدث لي حين التقيت بجوليا أو بإلينا منذ أعوام طوال، ومع ذلك لم يمض إلا أسابيع قلائل حتى تبين لنا أن حياتينا سترتبطان في وحدة، إذ كانت علاقتنا عميقة الغور بغير اضطراب على السطح، ولقد شاهدتها وهي تلتقي بأمي لأول مرة في غير ارتباك، واثقة أنهما سيتبادلان الإعجاب والتقدير، وخيل إلي أن إيرينا جاءت من نفس الأرومة التي جاءت منها أمي، على الرغم من اختلافهما الشديد في البطانة الثقافية والتعليم والتكوين العقلي، فيظهر أن ما كان مشتركا بينهما طيبة قلبية لا شعورية ومتفانية في التضحية، أضافت مجالا روحيا إلى كل كلمة نطقتا بها أو كل فعل قامتا به.
ولما اتصلت بنا إيرينا بعد العشاء - لأننا اعتزمنا الذهاب في تلك الليلة لمشاهدة مسرحية «الأمير إيجور
» الغنائية - أقبلت عليها أمي ضما وتقبيلا فلم يكن هناك ما يدعو إلى الكلمات.
كانت أمي بادئ الأمر مهتزة النفس لرؤية موسكو كما تهتز نفس الفتاة الصغيرة، لكنها ما لبثت أن ازدادت عمقا في تفكيرها، بل ازدادت كآبة في نفسها، إذ بدا لها أنه من الإجحاف أن ننفق - كما ينفق آخرون - مئات الروبلات أجرا لغرف الفندق وللأكلات الفاخرة وألوان الفسحة، مع أن غيرنا كثيرون لا يجدون ما يأكلونه بحيث يشبعون، ولقد اشتريت الثلاث التذاكر «للأمير إيجور» من «سمسار»، فلما أنبأت أمي بثمنها قالت في دهشة: «مائة وعشرين روبلا! إن هذا المبلغ هو ما تتقاضاه امرأة محصلة في سيارة عمومية في دنيبروبتروفسك مدة شهر كامل، ليس هذا عدلا يا بني، كلا، ليس هذا عدلا ، ثم انظر إلى النظارة، إني ما رأيت جماعة أفرطت في ثيابها وسمنت من إفراط غذائها بلغت كل هذا العدد في مكان واحد منذ أيام الثورة، لقد كنت أتوهم طوال هذه السنين أن قد قامت في بلادنا ثورة.»
فتأتأت إيرينا وقالت: «كفى يا أمي حديثا في السياسة واستمتعي بالأوبرا.» - «لكن تدفعان مائة وعشرين روبلا!»
وأخذتها ذات أصيل إلى المعرض الزراعي، فجعلت تفحص عن كل شيء بشغف شديد: الآلات الزراعية، والجياد الأصيلة والفصائل الفائزة بجوائز المعرض من الأبقار والخنازير، ورفعت منظارها ذا الإطار المعدني عن أنفها الصغير لتقرأ العبارات والإحصاءات التي ألصقتها الدعاوة على كل جدار.
ثم سألتها إذ نحن في السيارة عائدين إلى الفندق: «ما رأيك فيما شهدناه يا أمي؟ لماذا تجلسين صامتة؟» - «فيتيا، سمني امرأة عجوزا بلهاء إذا أردت، لكني لست أرى في كل ما شهدته إلا خداعا مقنعا، من ذا الذي يستفيد بشيء من هذا؟ إذا كان في البلاد كل هذا العدد من الأبقار، فلماذا انعدم اللحم من دنيبروبتروفسك؟ وإذا كان هناك كل هذا المقدار من القطن، فلماذا يتعذر علي شراء قميص لأبيك؟ إنه خداع مقنع يا فيتيا، وهؤلاء الذين تنكروا بهذا القناع يجب أن يخجلوا من أنفسهم.»
فسكت ولم أحر جوابا.
ثم استأنفت أمي حديثها: «لولا أن مجيئي إلى موسكو كان فرصة رأيت فيها إيرينا، لقلت: إنه ربما كان من الخير أن أثوى في قبري قبل أن أرى موسكو، إنها مدينة ذات وجهين، ففيها عدة من الفنادق الفخمة والمسارح والمتاحف والمطاعم، لكن اترك الشوارع الرئيسية تر فقرا كالذي تراه في الريف، نعم لها وجهان! فمن أبراج الكرملن تصيحون بالثورة العالمية، حتى إذا ما بعدتم عنه بضعة أمتار كان الناس بغير حقوق ويحيون حياة الحرمان.» - «أماه، لقد ازددت علما بالسياسة في أسبوعين ... لا تقولي هذا لأبي؛ لأنه يصدم نفسه صدمة قوية، فأنا أعتقد حقيقة أنه يحيك فوق كل شيء؛ لأنك في السياسة قديمة التفكير ساذجة النظر.»
الإقليم الغربي من سيبيريا حيوي للدفاع الوطني، لأنه بحكم موقعه إما أن يساعد روسيا الأوروبية أو روسيا الأسيوية إذا ما نشبت الحرب في هذه الجبهة أو تلك؛ ولذلك فقد قامت وزارة الحرب بدور لا يقل عن الدور الذي قامت به وزارة الصناعة في سبيل العناية بتقدم ذلك الإقليم، واعتبرت ستالنسك مركزا هاما تدور حوله الخطة المرسومة للدفاع، فكنت ترى سبل التصنيع الجديد بمختلف أنواعه قد انعقدت في سيبيريا الغربية: صناعة الآلات، والمحركات والصناعة الخاصة بفنون الطيران والكيمياء والتعدين.
ولما كانت الرموز في روسيا الحاضرة أهم بكثير من دلالاتها، فقد كان من الحوادث الهامة جدا أن يتغير اسم المدينة المركزية القديمة في سيبيريا الغربية «كوزانتسك» الواقعة على نهر توم ليصبح ستالنسك، فيستحيل أن يتبرك الناس عبثا باسم ذلك الإله القوي الجورجي (من إقليم جورجيا) وهو في سمائه الكرملينية، فتسمية مكان بذلك الاسم معناها أن ذلك المكان قد اختصته العناية الربانية بالمجد، والحق أن العمل القليل في ستالنسك كان أحيانا يرن صداه في الدعاوة القومية رنينا أوسع نطاقا من الأعمال الكبرى في مكان آخر.
لهذا رأوها زندقة مني أن أطالب بفحص المكان الذي اختاروه في خطتهم الموضوعة ليكون مصنعا لخراطة الأنابيب في ستالنسك قبل أن أتولى إنشاءه، فقد أغضب هذا الطلب رفيقنا «كوزفنكوف» الذي كان وقتئذ رئيس صناعة الأنابيب، فدفعني دفعا إلى الرفيق «مركلوف» الذي أصبح رئيسا أعلى لصناعة تعدين الحديد.
قال مركلوف: «ماذا تبغي وراء ذلك يا فكتور أندريفتش؟ هل تريد أن تراجع بنفسك قرارا أقرته الوزارة، ولجنة التصميمات الرسمية ومعهد مشروعات التعدين ووزارة الحرب واللجنة المركزية للحزب والهيئة السياسية العليا؟ هل أنت محتفظ بقواك العقلية؟»
والحقيقة أن اقتراحي حين وضع في هذه الصورة بدا اقتراحا مسرفا في الحمق، لكن التجربة علمتني درسا في الحرص، وهو أن المدير الصناعي في الروسيا إذا ما قبل التبعة قبولا أعمى كان يقذف نفسه بذلك في أقصر الطرق إلى دماره، ولو فعل ذلك إنسان في بلد رأسمالي لكان كل ما يقامر به هو ماله ومنصبه، أما في ظل السوفيت فقد كنت أخاطر بحياتي.
فقلت دفاعا عن نفسي: «ما دمتم قد عهدتم إلي إنشاء مشروع يكلف مائة وخمسين مليونا من الروبلات، فلا أقل من أن تسمحوا لي بفحص المكان الذي سيقام عليه المشروع وسهولة الحصول على العمال والمواد، وبالاختصار أريد أن أفحص الحالة التي سيتم فيها بناء المشروع بوجه عام.» - «لقد أعددنا ما يلزم المصنع من أموال، ولبث معهد المشروعات في لننجراد عاكفا على دراسة التصميم عدة شهور، ولكن ما دام الأمر لا خطر فيه، فسآذن لك بالرحلة التي تريد، على شرط أن تنسى يا فكتور أندريفتش أننا لا نستطيع أن نستخف بقرار اتخذه الحزب.»
وصلت إلى ستالنسك بعد رحلة استغرقت أربعة أيام في القطار، وكان يصحبني فيها كبير مهندسي «جراردف»، فما وجدت في محطتها القذرة الصغيرة ما يجعلها تتناسب مع سمعة البلد التي ملأت الآذان، والواقع أن القذارة والفوضى كانتا فيما يظهر متأصلتين في طبيعة هذه المدينة التي هي في مدخل سيبيريا، وجعلت أسير حول المدينة أميالا بعد أميال، حيث رأيت كثيرا من المنشآت التي كانت على درجات متفاوتة فيما وصلت إليه من تمام، وكما هي العادة في سائر الأجزاء، بدءوا العمل هناك في مشروعات صناعية كبرى دون أن يفكروا إلا قليلا - إن كانوا قد فكروا إطلاقا - في إعداد العدة للعمال حتى يعيشوا عيشا على شيء من اللياقة.
وجدت مائة وخمسين ألفا من العمال قد احتشدوا في مدينة لم تسع قبل ذلك بسنوات قلائل سوى ثلاثين ألفا، أضف إلى ذلك أن «ستالنسك» اعتمدت إلى حد كبير على السخرة، فكانت تستعين بثمانية آلاف عبد يستدعونهم من معسكر قريب، ورأيت بعض المباني الجديدة التي أقاموها للإدارة ولسكنى الطبقة العالية من العمال أخذت بالفعل تتشقق؛ لأنهم استخدموا فيها السجناء واستحثوا بناءها فأقيمت في وقت جد قصير، وكنت ترى كل بيت وكل حجر في المدينة القديمة يموج بالأجسام البشرية، فوراء الأبنية الفخمة التي أعدت للإدارة ووراء البيوت الجديدة التي أقيمت للعمال ذوي المؤهلات، مباءات تفوح بالروائح الكريهة، لم تكن في قذارتها وفي امتلائها بسكانها خيرا من أسوأ بلد شرقي مما يتكدس فيه الناس كما يتكدس النمل في أعشاشه.
وأخذت تظهر الثكنات الجديدة ظهورا سريعا في حواشي المدينة القديمة، وأما بقية السكان وهي تتألف من ألوف الأسر فقد عاشت في جحور رطبة تحت الأرض، وكانت هذه الجحور الغليظة المحفورة في الأرض والمسقوفة بأسقف مصنوعة بالأيدي، منظرا مألوفا حول المشروعات الجديدة التي ينشئها اتحاد السوفيت، حيث يستحيل على بناء المنازل أن يساير في سرعته زيادة السكان، والجحر الواحد من هاتيك الجحور طوله في العادة ثماني عشرة قدما وعرضه ثماني أقدام أو عشر، وعمقه ست أقدام أو ثمان؛ وبهذا يتسع لنوم شخصين، وكانت الأسقف تصنع من عوارض خشبية تشدها بعضها إلى بعض غصون الشجر وأعواد القش والطين المحروق وغير ذلك من مواد مما عسى أن يقع في متناول الأيدي، وقد يتاح للمحدودين من سكان تلك الجحور أن يظفروا ببعض الألواح الخشبية يقيمونها على طول الجدار من الداخل فيمنعوا بها تساقط التراب، ويغطون بها الأرض اللزجة بما يشبه الوحل.
والطريقة المتبعة عند السوفيت هي أن يبنوا المصانع ودور الإدارة أولا، وألا يقيموا منازل العمال إلا آخرا، فقلت لنفسي إذ كنت أجوس خلال ستالنسك: ما أبعد الفرق بين هذه الجحور البشرية، هذه «البيوت» الطينية، وبين ما تنشره الدعاوة من صور في أشرطة السينما وفي المجلات! وما أقل الشبه بين ما تدعيه الدوائر الرسمية وبين ما تعلنه الحقيقة غير الرسمية!
استقبلنا شيوخ مدينة ستالنسك استقبالا وديا بلغ حد الحماسة، فقد كانوا يزهون بمدينتهم «المزدهرة» ويسرهم أن يروا وحدة صناعية جديدة تضاف إليها، لكني منذ اللحظات الأولى، حين أخذت في مقابلة من أردت أن أقابل، لاحظت علامات القلق لما ناقشت تفصيلات المنشآت التي كنت مكلفا بالإشراف عليها، وسرعان ما تبين لي ولجراروف أن هذه الربكة البادية على من كنا نناقشهم لها ما يبررها.
كانت الظروف التي تحيط بمشروع خراطة الأنابيب في تلك المدينة مما يجعل التنفيذ مستحيلا، ولا أقول صعبا أو متعذرا، فالمصانع التي كانت تبنى بالفعل هناك، قد تعطلت لنقص في الخشب والأسمنت والطوب والوقود، وعلى الرغم من العمال الذين جاءوا من معسكرات الاعتقال، لم يكن عدد العمال كافيا ولا كان هناك مكان يسكن فيه العمال، وكان أولو الأمر هناك يتخذون أقوى الإجراءات ليمنعوا مديري الأعمال المختلفة من سرقة العمال بعضهم من بعض، وإذن فلم تكن الأيدي العاملة الموجودة لتكفي المنشآت القائمة بالفعل، فكيف تكون الحال إذا ما أضفنا المشروعات التي وضعوا الخطة لإنشائها؟
وما أشد فزعنا حين وقعت أبصارنا على المكان الذي أعد لبناء مصنعنا، فقد كان مكانا فسيحا عاريا يغطيه الوحل على شاطئ النهر، ويبعد مسافة طويلة عن المدينة، فلا خطوط للكهرباء أو الغاز، ولا قضبان للقطارات ولا طريق للسيارات العامة، بل لم يكن هناك طريق يمكن السير فيه، فكان الأمر أقرب إلى بناء مصنع في الصحراء، منه إلى إضافة مصنع جديد إلى منطقة صناعية، وإذن فلم يكن في حدود الإمكان أن ننجز المنشأة بما خصصوه لها من مال ولا فيما خصصوه لها من زمن.
وشر من هذا كله أن الأرض لم تكن تصلح قط لمنشأة يراد بها صناعة التعدين، فلم يكن بك حاجة إلى أن تكون مهندسا للمباني لتدرك أن الأرض لا تحتمل البناء الضخم ولا الآلات الثقيلة التي تتطلبها صناعة خراطة الأنابيب، فنظرت إلى جراردف ونظر إلي، وهز كل منا كتفيه هزة الشك والريبة، كيف أمكن لهذا العدد الكبير من المهندسين واللجان أن توافق على هذا الموقع، وعلى هذه الخطط؟ من ذا الذي غشي على أبصار الوزارة واللجنة المركزية؟ من ذا الذي أذن لملايين الروبلات أن تنفق مقدما في سبيل مشروع مصيره إلى فشل محتوم؟
ولم نعرف كيف نجيب عن هذه الأسئلة، لكن الذي أيقنا من صحته هو أن قبولنا لهذا المشروع معناه الانتحار، فلما زرنا بناء معهد كان قائما على مقربة منا وعلى نوع الأرض الذي أريد لنا أن نقيم مصنعنا عليه، تبدد كل شك في احتمال خطئنا، إذ وجدنا الحجيرات السفلى في ذلك المعهد مليئة بالماء، وجدرانه مرطبة إلى حد التشبع، وكان البناء كله آيلا للسقوط مع أنه بني منذ عامين.
فجمعنا ما أردنا جمعه من صور شمسية وخرائط وغيرها من المستندات، وعدنا إلى موسكو، فما كان أشده على النفس من موقف ذلك الذي وقفته عند عودتي، وهو أن أخيب رجاء الحكومة في مشروع روجت له ترويجا واسع النطاق، وظفر بموافقة الطبقة العليا من أولي الأمر، ومس سمعة كثيرين جدا من الموظفين كبارهم وصغارهم، بل ربما أدى إلى هدم حياتهم، أولئك الموظفين الذين كان استهتارهم البيروقراطي أو جهلهم الفني هو أساس هذا المشروع الفج.
فكان لتقريري الذي رفعته إلى مركلوف وهيئة موظفيه - وبينهم كوزفتكوف - رجة كأنها الزلزال، فنظر كل منهم كأنما مسته صاعقة، وخيل إلي أنهم جميعا لم يفكروا إلا في طريقة يخلصون بها أنفسهم من مشكلة قد تضخم حتى تصبح كارثة سياسية؛ لأني رسمت لهم صورة من الوضوح ومن دقة التفصيلات بحيث يستحيل الإغضاء عنها، أضف إلى ذلك أنه سرعان ما تبين أن فئة معينة كانت قد رفعت صوتها منذرة بسوء المشروع، لكن أصواتها كتمت بعوامل الخوف، ونظر إلي الموظفون المسئولون نظرات الغضب والاتهام، كأن ما اكتشفته من دقائق الموقف - لا جهلهم - هو السبب في هذا الإشكال.
وأعقب ذلك عدة أسابيع انعقدت فيها اجتماعات عاصفة، تهددوني في غضونها سرا - مرة بعد مرة - أن موتي محقق إذا أكثرت من الحديث في هذا الأمر، لكني قاومت كل ضغط أريد به أن أقوم بتنفيذ المشروع رغم ما قد يضيع فيه من ملايين الروبلات، وما يضيع فيه من مجهود، وأخيرا وصلوا إلى حل يمثل لك العقلية السوفيتية أصدق تمثيل، فهو حل يستر الموظفين من الفضيحة، ويخفي معالم تلك الغلطة الشنيعة بحيث لا يتسع مداها.
وذلك أن مركزا صناعيا آخر له أهميته، كان في طريق التكوين في مدينة «كمروفو» التي تبعد مائة وستين ميلا عن ستالنسك، والتي تقع كذلك على نهر «توم»، وكان مشروع ذلك المركز الصناعي وقتئذ قد وضعت تصميماته، وذكر على أنه مكان يليق أيضا لصناعة خراطة الأنابيب، فما هو إلا أن رأيت الخوف قد دب دبيبه في الآلة الحكومية بحيث أسرعت في دوران عجلاتها، ناقلة بؤرة حماستها من ستالنسك إلى «كمروفو».
وراح من بيدهم الأمر جميعا: مكاتب التصميمات والعلماء وموظفو الحزب وأولو الأمر من الفنيين، راح هؤلاء يعلنون فجأة أن «كمروفو» يجب أن تكون لها الأفضلية على ستالنسك، وزعموا أن «الموقف السياسي» في الخارج - وهو عبارة كان معناها عندنا علاقاتنا المتوترة مع اليابان - ومصلحة تصنيع سيبيريا بصفة عامة، يقتضيان أن تكون لكمروفو الأفضلية، وأما ستالنسك فيمكن أن يرجأ مشروعها، وهذا الإرجاء لا أشك قط في أنه إرجاء إلى الأبد، ولو أنه ليس بينهم رجل واحد وجد الشجاعة التي يعلن بها ذلك على الملأ.
وهكذا شاع في الناس - في الاضطراب الذي لا محيص عنه فيما يظهر إذا ما كان تصميم المشروعات يجري على مثل هذا النطاق الواسع - شاع أن تعييني في ستالنسك قد قذف بي إلى «كمروفو»، وطلبت هذه المرة أيضا أن أفحص عن الموقع الذي تقوم عليه المنشأة، فلم يمتعض من طلبي هذه المرة رجال الوزارة ولا رجال الرياسة في صناعة الأنابيب.
ولحسن الحظ وجدت «كمروفو» ملائمة كل الملاءمة، وهي مدينة سكانها نحو مائة وخمسة وعشرين ألفا، شوارعها واسعة ومتنزهاتها فسيحة، وبها عمارات ضخمة للسكن، ومبان جميلة للموظفين ورجال الإدارة، نعم كان هنالك ما تعودنا رؤيته من ثكنات قبيحة في طرف المدينة، بل كان هنالك ما هو شر من ذلك من مباءات للبؤس، لكن الحالة بصفة عامة كانت طيبة إلى درجة تعلو على المستوى المألوف، فلم أر إلا منزلا واحدا من المنازل التي يصح أن نقرنها إلى مساكن الشرق، وكنت ترى في الأسواق - حيث يحضر فلاحو المزارع الجماعية نتاج حدائقهم الخاصة - كنت ترى وفرة من الخضر الطازجة واللحم واللبن والزبد والطيور، والأسعار أقل منها في موسكو كثيرا، فإذا قارنت الحالة هنا بالحالة في الأورال؛ وجدت هذا المكان بشيرا بالفردوس.
ولا بد أن قد كان الموقع الذي اقترحوه مكانا لمصنعنا مخصصا لمشروع آخر صرفوا عنه الآن النظر، فوجدنا بعض المباني التي تم بناؤها، وسلسلة أخرى من المباني تم وضع أسسها، كما وجدنا خطا حديدا وأنابيب وأسلاكا للغاز والكهرباء والماء وغيرها من الإعدادات التي من شأنها أن تيسر العمل تيسيرا عظيما، وفضلا من ذلك فقد كنا في داخل المدينة ذاتها، وهذا يجعل مشكلات السكن والنقل لعمالنا أيسر كثيرا؛ لهذا كله اغتبطت واغتبط «جرادوف» غبطة شديدة.
وأبدى موظفو كمروفو استعدادهم للمساعدة؛ لأن مجيئنا إلى بلدهم معناه أن مائة وخمسين مليونا من الروبلات ستنفق في المدينة، وصرخت الصحافة المحلية هناك صراخا عالميا معلنة عن زهوها بما هو مقبل عليها من منشآت، وعلى الرغم من أن كمروفو كان بها مصنع للفحم ومناجم له، ومصانع لمعدات الحرب، فإن شهرتها الأساسية (إذا استثنينا ما اكتسبته من سمعة سيئة بسبب المحاكمات الدموية التي جرت في موسكو والتي سأشير إليها فيما بعد) أقول: إن شهرتها الأساسية كانت بصناعتها الكيميائية، ولم يكن سرا أن الجماعة الصناعية الكيميائية هناك - وهي من أكبر مثيلاتها في العالم - إنما كانت الغاية منها أن تنتج ما يلزم للضرورات الحربية.
استقبلنا الرفيق سفوروف استقبالا حارا، وهو مهندس لكنه يشتغل الآن أمينا لسر اللجنة المحلية للحزب، وكان موظفو القسم السياسي حاضرين في استقبالنا، متظاهرين بأن حضورهم جاء مصادفة بحتة، لكني عرفت من أسئلتهم أنهم يلمون إلماما دقيقا بالفضيحة المكتومة التي تكمن وراء انتقالنا المفاجئ بمنشآتنا من ستالنسك إلى مدينتهم، وسواء عرف مركلوف وكوزفنكوف وغيرهما أنهم كانوا محاطين بأعين الشرطة وآذانها طوال الوقت أو لم يعرفوا، فهذه هي الحقيقة الواقعة، وقدمت تقريرا لمكتب اللجنة المحلية في كمروفو بإنشاء مشروعنا في بلدهم فوافق على ذلك.
عدت إلى موسكو وبعدئذ ذهبت إلى لننجراد حيث أنفقت عدة أسابع أتعاون في العمل مع معهد المشروعات التعدينية الذي غض النظر عن مشروع ستالنسك وجعل يواصل العمل بسرعة ليفرغ من تصميمات مشروع كمروفو، ووضعت في بنك كمروفو مبالغ كبيرة من المال لحسابنا، وأخذت سمعتي صوب منصبي الجديد ترافقني هيئة الموظفين الجديدة التي ستكون في معونتي.
وجاءت إيرينا إلى محطة موسكو لوداعي، وكان مما خفف حزننا على فراقنا أننا كنا عالمين بأن طبيعة عملي ستقتضي ذهابي إلى العاصمة على فترات قصار.
العمل المتصل هو الدواء المسكن لخيبة الرجاء، أو قل أن الأمر كان كذلك في حالتي على الأقل، فقد انهمكت في المهمة الشاقة التي كلفت بها في كمروفو انهماكا شديدا كان مرده - إلى حد كبير - ما كان يخامرني إذ ذاك من يأس، وكلما قسوت على بدني في العمل نهارا، أسرع النعاس إلي بالليل، وهكذا نجحت في محو الخواطر المزعجة التي كانت تجثم على ذهني فيما يختص بالبؤس الشامل الذي خيم على بلادنا، نجحت في محو هذه الخواطر الخطيرة بشغل رأسي بما هو أقل منها خطرا من هموم عملي المباشر وما يتبعه من تفصيلات، والحق أني كلما ازددت مقتا لنظام الإرهاب السائد في بلادنا، ازددت إخلاصا في تركيز جهودي في العمل الذي أباشره.
وعلى الرغم من أني كنت موضع ثقتهم في مشروع سيكلف في النهاية ملايين كثيرة من أموال الحكومة، فإني لم أؤتمن على اختيار الموظفين الإداريين الذين سيعملون تحت إشرافي، فقامت وزارة الصناعة ورئيس صناعة الأنابيب في موسكو بتعيين كبار الموظفين عندي دون استشارتي على الأقل، ومن شأن هذا النظام أن يتجسس الموظفون بعضهم على بعض وألا يثق أحد في أحد ممن اجتمعوا للتعاون على أداء عمل واحد، بيد أن حسن الحظ قد شاء لي أن يكون كبير مهندسي جرادوف كفئا في عمله ومحببا في عشرته في آن معا، لكننا - أنا وهو - كان ينغص علينا ويعرقل سيرنا ناس لا هم أكفاء في عملهم ولا هم ممن يخف وقعهم على النفس باعتبارهم الإنساني المحض، وكان مما لا يخفى أن بعض من عينوهم من أهل البلد إنما عينوهم لا لشيء سوى أن يكونوا عيونا مرصودة تعمل لحساب اللجنة الإقليمية في نوفوسيبرسك، وحساب اللجنة المحلية في كمروفو، وحساب القسم الاقتصادي من الشرطة السياسية، وحساب الرياسة العليا لصناعة الأنابيب.
ومن أول خطوة من خطواتنا في العمل أخذت الإجراءات الرسمية والحماقة الحكومية تقف في سبيلنا أحجارا نتعثر عليها، كان العمل يقتضي أن أعد أكداسا من المواد والأدوات وأن أهيئ لها سبيل النقل والخزن ، وكان لا بد لي من آلاف العمال الفنيين وغير الفنيين، وبالتالي لزم أن تعد لهؤلاء العمال مساكنهم وضروراتهم الأولية، ولو كانت الظروف سوية لما كان أداء هذه المهمات مما يستحيل إنجازه، أما في ظل النظام السوفيتي، فقد كانت كل خطوة تحتاج إلى موافقات صورية لسلسلة من المكاتب لا ينتهي عددها، كل منها حريص ألا ينتقص من حقوقه شيء، وكل منها يخاف أفزع الخوف من تحمل التبعة في قرار جديد؛ لذلك كنت ترانا حينا بعد حين وقد قيدتنا هذه الصعوبات الصغيرة المتكررة حتى أعجزتنا عن الحركة بفداحة أغلالها التي لا يمكن حلها إلا بأوامر تأتي من موسكو، فقد كنا نعيش ونعمل فيما يشبه الغابة الكثيفة التي قوامها استجوابات واستمارات وتقارير تكتب من سبع نسخات.
وسأوفر على القارئ عناء التفصيلات الفنية، لكني سأكتفي بأمثلة قليلة أسوقها لأصور له روح العمل على غير خطة موضوعة، ذلك العمل المتخبط الذي يسمونه بعبارة سهلة على الأفواه، إذ يسمونه «بالاقتصاد الذي رسمت له الخطط».
كنا في مسيس الحاجة إلى طوب، فكانوا يسوقون مئات المسجونين من معسكراتهم البعيدة ليعملوا أربع عشرة ساعة كل يوم ليسدوا حاجة الجهات المختلفة في كمروفو لهذه المادة، ومع ذلك فقد كان هناك محرقان للطوب كبيران كاملا الإعداد، لم يشتغلا لأنهما تابعان لوزارة أخرى احتفظت بهما من أجل حاجتها التي ربما دعت إليها الظروف في المستقبل، وما هذه الظروف المستقبلة إلا خيال في خيال، فرجوت رجاء، ثم تهددت بالشر، ثم أرسلت الرسل إلى موسكو محاولا أن أحرك هذه الأفران الجامدة، لكن الإجراءات الحكومية انتصرت آخر الأمر على الإدراك الفطري، ولبث الفرنان ميتين طول إقامتي في المدينة.
وفي الوقت الذي كنا نبذل فيه جهد الجبابرة لإعداد المساكن لعمالنا كانت هناك عمارة كبيرة كأنما أقيمت لتحرك الغيظ في النفوس، فظلت قائمة في ضاحية المدينة لا يتممون بناءها ولا يعود على أحد منها نفع، فالظاهر أن الاعتماد المالي الذي تقرر لهذه العمارة قد نفد قبل تمامها، وكان عندي مال يكفي لإتمامها فتستفيد بمساكنها، لكني لم أوفق قط إلى تحطيم أغلال الإجراءات الحكومية، فالهيئة التي بدأت البناء كانت على استعداد للنزول عنه، بل لم يكن هناك شخص واحد يمانع في هذا، وكان يبدو دائما أن التصريح الرسمي بهذا يوشك على الصدور والنفاذ، وكل ما في الأمر أنه لا صدر ولا وجد سبيله إلى التنفيذ.
وكان خلال منطقتنا من المدينة خط للترام عظيم الأهمية أوشك على التمام، يكفي لإتمامه بضعة عشرات من آلاف الروبلات، وكان هذا الرصيد موجودا، لكن أولي الأمر في المدينة لم يستطيعوا التصرف في ذلك الرصيد بغير استئذان هيئة أعلى؛ لأن الأمر كان يكتنفه صعوبات إجرائية في الميزانية، فتدخلت في الأمر وأرسلت عشرات الخطابات المستعجلة أستحث أولي الأمر فيها أن يتمموا المشروع، فكانت تجتمع لذلك لجنة الحزب المحلية ولجنة كمروفو السوفيتية فيدور بين الأعضاء نقاش حاد حول الموضوع، دون أن ينجزوا عملا واحدا على مر الشهور شهرا في إثر شهر في الوقت الذي كان ألوف العمال والعاملات المتعبين يضيعون فيه من وقتهم ساعتين أو ثلاثا كل يوم في سيرهم المضني إلى العمل ومن العمل.
هذه المنغصات وأمثالها كانت لا تقع تحت الحصر، يتراكم بعضها على بعض، حتى لقد حولت كل عمل صغير إلى مشكلة كبيرة، وعطلت مئات الموظفين عن أداء عمل مفيد، لاشتغالهم بهذا العبث، فكانوا بمثابة من أجرتهم الدولة ليوسعوا من نطاق الاضطراب والفوضى، أضف إلى هذه المضايقات والحوائل الإجرائية، ما زاد الطين بلة من جاسوسية حامية الوطيس وعرائض اتهام وتحقيقات.
والحق أني لم أستطع أن أعلل هذه المتاعب والعراقيل بما يكمن في النفوس من حقد، ولو أنني كنت أشاهد اشتغال المتناقشين في مهاجمة بعضهم بعضا وفي سب بعضهم بعضا، فالتعليل الصحيح لهذا كله هو الخوف الضارب بجذوره في النفوس مما شل الناس أفرادا وهيئات.
وشاءت المصادفة لمدينة كمروفو أن تعاني من حركة التطهير أكثر مما كان ينتظر لمدينة في حجمها؛ ولذلك كانت أبطأ سيرا في استعادة نشاطها، فقليلون من كبار رجالها الفنيين والإداريين هم الذين استطاعوا عندئذ أن يتخلصوا مما ألم بهم من جزع بسبب ما أريق من دماء؛ ذلك أن هذه المدينة كان لها مكان بارز في محاكمات موسكو؛ لأنه قيل: إن مصانعها الكيميائية ومناجم فحمها كانت أهدافا رئيسية لنشاط المخربين، وقيل كذلك أن «مطبعة سرية» أقيمت في كمروفو ليستخدمها زعماء المعارضة.
وكان في طليعة «المتآمرين» في هذه المدينة - فيما زعموا - الرفيق نوركين الذي كان أحد المتهمين في محاكمة بياتاكوف والذي أعدم لذلك بعد المحاكمة بساعات قلائل، وكان نوركين في مدينة كمروفو ممثلا لوزارة الصناعة الثقيلة، فكتب علي الآن أن أجلس في نفس المكتب الذي كان نوركين يدبر فيه جرائمه - إذا أخذنا باعترافه الذي يستحيل على عقل سليم أن يؤمن بصحته - ولذلك كنت على صلة دائمة ببعض الموظفين الذين عاونوه في العمل، وبكثيرين ممن شهدوا عليه في المحاكمة.
فلما توثقت أواصر المعرفة بيني وبين هؤلاء الناس، كان من الطبيعي أن يرد اسم نوركين في محادثاتنا آنا بعد آن، فكانوا كلما جاء ذكر اسمه أخذتهم الحيرة وغلبهم - فيما خيل إلي - شعور عميق بالخجل، ولم تكن بهم حاجة أن ينبئوني - ولو أن أحدهم على الأقل قد أنبأني صراحة - بأنهم افتروا على رئيسهم كذبا تحت ضغط من رجال الشرطة السياسية إنقاذا لأرواحهم، وكثيرا ما كانت ضمائرهم تسيطر عليهم فتتغلب فيهم على ما تمليه الحكمة من وجوب الخلاص بأنفسهم.
وحدث ذات يوم على إثر حادثة خطيرة وقعت في المصانع الكيميائية، أن وجدت نفسي في خلوة مع شيوعي نابه موظف هناك، وبعد أن حدثني ببعض تفصيلات الحادث، قال فجأة بصدر ضيق: «وهذا على وجه الدقة مثل من أمثلة ما أعدم من أجله نوركين وكثيرون غيره! إن «المتلافين» و«المخربين» قد قضوا، لكن ها هي ذي الحوادث ما زالت تقع للآلات فتعطلها، من يدري، لعلهم يدبرون هذا التخريب من قبورهم التي لا يعرف لها مكان ...» - «ولكن ما رأيك في اعتراف نوركين نفسه على نفسه يا رفيقي ل...» - «لا تكن ساذجا يا فكتور أندريفتش، لو أراد هؤلاء المهندسون حقا أن يحدثوا في العمل اضطرابا لاستطاعوا أن يدمروا المصنع كله من أساسه فيتطاير في الهواء رمادا، لماذا يحصرون أنفسهم في نطاق الذوق وحسن اللياقة فلا يحدثون إلا تلفا تافها أو عرقلة مؤقتة لمجرى الإنتاج؟ لماذا يسممون العمال؟ اعترافات! يا لها من حكايات خرافية ينسجونها نسجا للأجانب المغفلين!»
لم يخف على مهندس كائنا من كان أن المصانع الكيميائية - شأنها في ذلك شأن كثير جدا من المشروعات السوفيتية الصناعية الجديدة - كانت تعمل في ظروف مليئة بضروب العراقيل، فإنشاء المؤسسات الصناعية يتم على صورة شائهة، وفي كثير من الحالات لا يتم أبدا، والإعداد ناقص والعمال لم يكمل تدريبهم، فالحق الصراح هو أن عدم الخبرة والأخطاء التي لا تنطوي على نية شريرة هي أساس ما كان يحدث هناك من حوادث قبل حركة التطهير، وما زالت تسبب الحوادث بعد أن أزهقت أرواح «أعداء الشعب».
قال لي الرفيق «ل...»: «إن ملفات الأوراق في وزارة الصناعة الثقيلة مفعمة بالتقارير التي تصف هذه الحالة التي قد تؤدي إلى وقوع الحوادث، وكثير من هذه التقارير رفعها بعض هؤلاء الذين اعترفوا على أنفسهم فيما بعد بأعمال التخريب، أمن المعقول أن يحذر المهندسون أولي الأمر من كوارث هم الذين يدبرون وقوعها؟» - «لا أظن ذلك.» - «ثم ضع في اعتبارك هذه النقطة الآتية: ماذا يكون وقع الأمر على الرأي العام لو أن الحكومة كشفت عن هذه التقارير في المحكمة؟ يا الله! خير لي أن أمسك عن الكلام، إن القلب إذا أفعم فاض بما فيه.»
وما كان يصدق على المشروعات الكيميائية، يصدق كذلك على مناجم الفحم، ولقد دعاني أمين السر سفروف ذات يوم إلى مكتبه في لجنة الحزب ؛ لأنه حدث ذلك الصباح أن فاض الماء فأغرق منجما، وشاع النبأ في المدينة بحيث اضطرب له سفروف اضطرابا شديدا.
قال لي: «لا بد لنا يا رفيقي كرافتشنكو من بضع مئات من أزواج الأحذية المصنوعة من المطاط ليلبسها العمال في تفريغهم الماء الذي فاض على المنجم، وقد قيل لي: إن لديك كمية مخزونة من هذه الأحذية وأريد منك التعاون.»
فوافقت بالطبع على إعارته الأحذية، ثم جذبته جذبا إلى مناقشة حول حادثة فيضان الماء في المنجم، وسألته هل هي الأخرى مؤامرة على المخربين، فأجابني سفروف قائلا: «لا داعي للتسرع إلى مثل هذا الاستنتاج، أرني منجما للفحم أنى شئت من جهات الأرض، في بلادنا أو خارج بلادنا، لا يتعرض حينا بعد حين للانفجار أو الهدم أو فيضان الماء، إن ذلك جزء لا يتجزأ من طبيعة العمل نفسها، خاصة هنا؛ لأن معداتنا لا تزال بدائية إلى حد كبير.»
فأعدت الرأي قائلا: «ومع ذلك فقد سمعنا من مجرى المحاكمات والاعترافات أن مناجم كمروفو ينبث في أنحائها المخربون.»
فنظر إلي أمين السر وأطال النظر، ثم ابتسم ابتسامة ماكرة وغير موضوع الحديث.
وحدث بعد ذلك بأيام أن اجتمعت للتشاور مع موظف ربطتني به أواصر الود، في مكاتب الرياسة المحلية لاستخراج الفحم، وقد طالت المفاوضة بيني وبينه حتى جاوزت مواعيد العمل اليومي، وسرعان ما وجدنا أنفسنا وحيدين في المكان، فما هو إلا أن نهض لغير غرض مقصود، وذهب إلى خزانة حفظت بها ملفات الأوراق، وجذب منها ملفا متين الغلاف، ناوله إلي وهو صامت، ففتحت الملف وأخذت أقرأ - كلما اتفق - نسخات كربونية من تقارير رفعت إلى إدارة الفحم في موسكو.
رفعت هذه التقارير قبل حدوث الانفجارات وغيرها من الحوادث التي سميت فيما بعد بأعمال التخريب بزمن طويل، وكانت هذه التقارير تستحث أولي الأمر، استحثاثا صب أحيانا في عبارة اليائس، منذرة بوجوب اتخاذ الإجراءات الوقائية بغير إبطاء إذا ما أريد اجتناب الخسارة في الأرواح والأموال، ومغزى هذه الإنذارات واضح، وهو أن أعوان التخريب لا يعقل أبدا أن يتوسلوا بكل هذه القوة إلى أولي الأمر أن يتخذوا من الإجراءات ما عساه أن يعوق تنفيذ جرائمهم التي دبروها.
لقد تأيد اعتراف نوركين بوجود مطبعة سرية بما قاله أثناء المحاكمات التي جرت في «كمروفو» و«نوفو سيبرسك» معتقلون آخرون، ثم ازداد تأييدا بصورة شمسية للمطبعة، ونسخات من المنشورات التي أخرجتها المطبعة لمحاربة السوفيت؛ لهذا كان اعتراف نوركين من الاعترافات القليلة التي ظهرت مؤيدة بالوثائق التي تثبت صحتها، حتى لقد خدعتني القصة أول ما سمعتها وظننت بها الصدق؛ لذلك انتهزت كل فرصة سنحت لي إذ أنا في المكان الذي وقعت فيه حوادثها لعلي أعرف الأمر على حقيقته.
أقمت في كمروفو ما يقرب من عام، استطعت خلاله أن أرسم لنفسي صورة للحقيقة كما وقعت، حتى إذا ما تكاملت صورتها في ذهني لم أجد فيها قط ما يحمل على الاتهام، وليس في وسعي أن أكشف عن السبيل التي سلكتها في الحصول على معلومات جزءا جزءا خلال مدة طويلة، خشية أن أضر بذلك ناسا كرام النفوس، وسأقتصر على بسط الحقيقة المروعة بسطا موجزا صادقا، وإنها لحقيقة بلغت من فظاعتها أني لم أصدقها أبدا حتى ثبتت لي صحتها بالدليل القاطع.
كان هنالك بالفعل مؤسسة سرية للطباعة، فقد دخلت مكانها السري عدة مرات، وكنت في كل مرة أرى آثارها لا تزال باقية، وطبعت بالفعل منشورات تهاجم ستالين وتدعو إلى الثورة، لكن الذي أقام المطبعة، والذي كتب تلك المنشورات، هو القسم السياسي نفسه!
ولكي يضمنوا عدم إفشاء هذه الأكذوبة القبيحة، عمل أصحابها على استخدام عمال يستحيل عليهم الإفشاء استحالة مادية، إذ استخدموا طائفة من المسجونين الذين حكم عليهم بالإعدام وينتظرون الموت، أو حكم عليهم بالسجن أعواما طوالا، ودبرت المؤامرة تحت ستار الليل، وأقيمت الحراسة بالطبع على المسجونين، وقام بالإرشاد الفني جماعة من الشرطة السرية تخصصت في مثل هذه الأمور.
وسألت رجلا ممن كانوا يعلمون هذه الحقائق: «وماذا جرى للمنشورات المطبوعة ألم توزع منها ألوف في المدينة كما زعموا؟»
فأجابني قائلا: «كلام فارغ، فأنت تعلم يقينا أن من يضبط ومعه مثل هذه المطبوعات يقبض عليه، ومع ذلك فما سمعت بحادثة واحدة قبض فيها على إنسان واحد بتهمة كهذه، كلا ولا سمع بذلك أي إنسان هنا، فما أظن أحدا من العمال قد رأى هذه المنشورات المشهورة أو سمع بها حتى علمنا بها من المحاكمات، فربما طبعها المتآمرون لغرض واحد هو أن يتسلوا بها إذا ما أووا إلى مخادعهم.»
ومهما يكن من أمر، فيكفي أن كمروفو - مناجم فحمها ومصانعها الكيميائية وإداراتها التي تشرف على المباني - يكفي أن تكون كمروفو قد شرفت بدور خطير قامت به في المؤامرة، ليخيم عليها جو كثيف من المخاوف، فما كان لإنسان أن يتحرك من مكان إلى مكان دون أن يصرح له بذلك تصريحا يوقعه ويبصمه بكل ما يضمن الأمان من الخطر ذوو السلطان في نوفوسيبرسك وموسكو، وإني إذا ما استعدت بذاكرتي كل هذا، لا أكاد أصدق أننا استطعنا رغم ذلك أن ننجز ما أنجزناه قبل أن تصدر الأوامر بترك المشروع كله جانبا لتغير في السياسة لم تعرف أسبابه، ولو ذكرت قصة هذا التغير السياسي في هذا الموضع من الكتاب لسبقت مجرى حوادث قصتي.
الفصل الحادي والعشرون
والقتال ناشب في أوروبا
إن معاهدة الصداقة بين أدولف هتلر وجوزيف ستالين، تلك المعاهدة التي عجلت بالحرب في أوروبا ستظل إلى الأبد مرتبطة في ذهني بالبلد السيبيري الخانق الذي كنت أعمل فيه إذ ذاك، فقد كنت في كمروفو حين رأيت التعاقد يلمع ضوءه فجأة عبر سمائنا ويقحم نفسه إقحاما سريعا في عقول أعضاء الحزب وضمائرهم، فكنا جميعا إزاءه كالمدهوشين المبهوتين المترنحين من شدة ما نرتاب في صدق ما نسمع.
وكان الصيف القصير المغبر بالتراب في سيبيريا يدنو من ختامه بأخلاط من إشاعات عن مصادمات مع اليابان عند الحدود، ولم تكن نذر الحرب التي هدأها اتفاق ميونخ في العام السابق قد صمت صوتها صمتا تاما، بل إن كل من أدار في ذهنه هذه المسائل لم يسعه إلا أن يدرك العوامل التي تهدد بالحرب في الجانبين معا، أما أن تقوم الصداقة الحقيقية بين ألمانيا الفاشية والاتحاد السوفيتي وأن تنصرف جهود السوفيت العسكرية وجهة أخرى تبعا لتلك الصداقة، فذلك ما لم يخطر ببال روسي واحد؛ لأننا لبثنا أمدا طويلا نسلم تسليما لا يقبل الجدل بأن للنازيين لهم عدوا حقيقيا واحدا هو النظام السوفيتي.
لكن الكرملن كان في رأيي قادرا على الخروج على الأوضاع مهما تكن صورته، إذ لم تكن أساليبه عندئذ - فيما بدا لي - تختلف كثيرا عن أساليب النازيين، خصوصا في معاملته لشعبه وفي تنظيمه لقوته، حتى لقد كنت أسأل نفسي كلما قرأت أو سمعت دعاوة ضد هتلر: «أين يا ترى الفرق بين أساليب هتلر وبين فظائعنا السوفيتية؟» وعلى كل حال لم أصدق ما سمعته من أخبار التعاهد السوفيتي الذي أطلق الحرية لهتلر في إعلان الحرب على بولندا وغيرها من بلاد أوروبا، وقلت لنفسي: إنه لا بد أن يكون في الأمر خطأ ما، وكان كل من حولي يرتاب مثل ريبتي.
ولا عجب فقد بثت فينا كراهية النازية على مر الأعوام، فرأينا قادة قواد جيشنا - ومن بينهم توخاتشفسكي - يعدمون بالرصاص لمؤامرة قيل: إنهم يدبرونها مع هتلر وحكومته، ومحاكمات الخيانة العظمى التي قضت على أصدق أصدقاء لينين إنما ارتكزت على أساس أن ألمانيا النازية وحلفاءها من دول المحور - إيطاليا واليابان - كانت تعد العدة لمهاجمتنا، ولم تكن هذه الأمم في رأينا إلا بمثابة سنان الرمح الذي يستتبع وراءه اتحادا عالميا من دول الرأسمالية غايته تحطيم وطننا الاشتراكي؛ ولذلك كان أقوى ما يبرر حركة التطهير الأعظم وما تضمنته من أعمال وحشية، هو الهجوم الوشيك الوقوع علينا بقيادة النازيين.
هكذا سادت بلادنا عقيدة لها قوة العقائد الدينية، بأن فجور هتلر حقيقة لا تحتمل شكا ولا ريبة، كما أن نقاء سريرة ستالين حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وكنت ترى صبيان السوفيت يلعبون حربا «بين الفاشيين والشيوعيين»، وكانوا دائما يطلقون على الفريق الفاشي منهم أسماء ألمانية، وهو الفريق الذي يمنى بالهزيمة في كل مرة يلعب فيها الصبيان هذه اللعبة، ثم يأخذ الفريق الظافر في نشيد «ترنيمة الرائد الصغير» «كن مستعدا دائما»، وكذلك كانت الأهداف في ملاعب الرماية في معظم الحالات صورا لنازيين في قمصانهم البنية اللون وعلى صدورهم شارة الصليب المعقوف.
كنا قد استمعنا قبل إمضاء التعاقد بأسابيع قليلة إلى محاضرة عن الموقف العالمي في اجتماع من اجتماعات الحزب، ولم يكن فيها إلا الحدث المألوف المملول، فصور المحاضر هتلر - كما هي العادة دائما - في صورة شيخ المجرمين، الذي اتخذته البلوتوقراطية العالمية لها صنيعة وأداة، فأخذ يعد العدة لضربتنا، ولما قال الخطيب: إن هتلر وحزبه طغاة مستبدون، وإن الفوهرر وعصابته ينزلون أنفسهم منازل الأرباب، وإن ألمانيا النازية لا تعرف حرية الكلام ولا حرية الصحافة، وإن كل إنسان في ألمانيا يعيش في خوف ورعب، لما قال الخطيب ذلك لم يسع كثيرين منا أن يتساءلوا: أليس الخطيب بهذا القول يصور نظامنا نحن تصويرا دقيقا؟
وكانت دار السينما في شارع كمروفو الرئيسي لا تزال تعرض شريطا قديما يناهض النازية، واسمه «الأستاذ مملوك»، يصور هتلر وحكومته في صورة القساة الغلاظ اللصوص الذين استولت عليهم فكرة لا ينثنون عنها وهي كراهية الاتحاد السوفيتي.
ولم نصدق المستحيل إلا حين رأينا في أشرطة الأخبار في السينما، وفي الصور التي تنشرها الصحف، رأينا ستالين في ابتسامته يصافح فون ريبنتروب، ورفرفت في موسكو أعلام الصليب المعقوف وأعلام المطرقة والمنجل جنبا إلى جنب! وسرعان ما أخذ مولوتوف يشرح لنا الموقف قائلا: إن أمر الفاشية على حقيقته لا يزيد على كونه «مسألة ذوق وميل»! وجعل ستالين يحيي زميله في الدكتاتورية بكلمات حارة تصف ما بينهما من «صداقة عليها خاتم من دماء»!
وإذا أردت أن تعرف مدى دهشتنا لهذا الانقلاب، فينبغي أن تعلم ما كانت تقوله الشيوعية الرسمية عن النازية والفاشية بصفة عامة حتى جاء هذا التعاقد، فقد أفهمونا أن الفاشية لا تختلف عن الرأسمالية في النوع، وإنما تختلف في الدرجة وحدها، فهي رأسمالية لا أكثر ولا أقل، تنتهي إلى ما تنتهي إليه الرأسمالية من خنق وموت، وهي رأسمالية ليس لها ما للرأسمالية من قناع «الديمقراطية» و«الخدعة البرلمانية»، نعم أفهمونا من قبل أن النظام في إيطاليا وألمانيا رأسمالية اضطرت اضطرارا إلى خلع «قناعها الديمقراطي»، هي رأسمالية تركت ذئابها تنهش العمال علانية، فاختلفت بذلك عن الرأسمالية في أمريكا وإنجلترا وغيرهما في أن الإرهاب لم يعد يتخفى وراء أستار، ولا بد - في الواقع - من أن يحدث على مر الزمن أن يصطدم العالم الرأسمالي كله على صخرة خطاياه، فيخلع هو الآخر قناع الديمقراطية الخادع ويتردى في مهوى الفاشية .
لقد علمونا أن الهتلرية إن هي إلا اليد الحديدية للعالم الاستعماري الاستبدادي كله، وإذن فالحرب بين ألمانيا النازية وبين رعاتها من الدول الرأسمالية لا يقبلها عقل؛ لأنها لا تتفق والمنطق، أما وقد نشبت بالفعل هذه الحرب التي استبعدوها بالعقل والمنطق، فقد ظنناها ضربا من الجنون، لكنه لا يقل جنونا عن اتفاق ودي يبرم بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا، ذلك الاتفاق الذي يجب أن يسمى بأسماء ستالين وأعضاء هيئته الرسمية العليا لا باسم الاتحاد السوفيتي، إذ لم يؤخذ فيه رأي الحزب ولا رأي الشعب، لكن الحكومة التي سيطرت على الصحافة سيطرة تامة، كما سيطرت على الإذاعة والمدارس والمنابر، وفرضت بقوة شرطتها على الناس إجماعا في الرأي، مثل هذه الحكومة لا يستحيل عليها أن ترتكب أية فضيحة منطقية كائنة ما كانت، فسرعان ما تمضي الأيام ويخف على الناس وقع الصدمة، فيقبلوا بصفة عامة ما اتخذته الروابط العالمية من أوضاع جديدة، وعلى ذلك أخذنا إذ ذاك نقول ونعيد ونكرر أن أنصار الاستعمار من الفرنسيين والبريطانيين، تؤيدهم النزعة الاستغلالية التجارية الكبرى لدى الأمريكان، وكبار الملاك الزراعيين من البولنديين، نهضوا يقاتلون الألمان ليكبحوا نزعتهم الاستعمارية، ونتيجة هذا الصراع لا تهمنا باعتبارنا الأمة «الاشتراكية» الوحيدة في العالم، وكان منا من أخذته الوساوس بصدق هذه الصورة التي صوروا العالم بها، لكننا كتمنا شكوكنا في أعماق صدورنا حتى لا يستطلعها المخبرون، وإنهم ليموجون حولنا زرافات زرافات.
وتوارت عن شاشات السينما أفلام الدعاوة ضد النازية مثل «الأستاذ المملوك» وغيره، كما طهروا المكاتب من المطبوعات التي تحارب الفاشية، وتراءت لجمعية «الروابط الثقافية بالبلاد الأجنبية» بين عشية وضحاها أعاجيب في «الثقافة» الألمانية، وتصادف أن زرت موسكو في شأن عملي إذ ذاك، فعلمت أن قد أقيم بها معارض للفن النازي وللمجهودات الاقتصادية النازية، وللمجد العسكري النازي، وأن غيرها من المعارض في طريق الإعداد.
وأخذت مسارح العاصمة تزداد إقبالا على المسرحية الألمانية، والواقع أن الجو قد امتلأ بكل ما هو ألماني، وجعلت الدعاوة تعرض صورة وحشية لإنجلترا في هيئة «جون بل» ولأمريكا في صورة «العم سام» وقد أجلستهما على أكياس الذهب، أما النازيين فلم يصبهم عندئذ شيء من هذه الدعاوة الساخرة، وأصبحنا نرى مئات من الألمان عسكريين وتجاريين في فنادق موسكو ومتاجرها، مشغولين ببرنامج ضخم مؤداه أن تقدم الروسيا معونة اقتصادية إلى هتلر يستعين بها في حملته على «الديمقراطيات المتهافتة».
إن جماعة السوفيت لا تحتاج إلى حجج قوية تتقدم بها إذا ما أرادت أن تفرض رأيا يراه الحزب، وإنما وسيلتهم في ذلك أن يحركوا في الناس غريزة حب البقاء، فلكي يجتنب الإنسان الخطر تراه لا يكتفي بالإيمان، بل يؤمن إيمانا عميقا حارا بكل الأباطيل التي تهبط عليه من عل، إن ستالين العظيم لا يخبط خبط الأعشى بل إنه ليهتدي في سيره بغاية يعرفها ويقصد إليها، هذا هو ما يستجيب به الحزب في النهاية كلما جد في الأمر جديد.
وأخذنا نتحدث عن الانقلاب الجديد في مجرى الحوادث، نتحدث عنه في اجتماعات رسمية لهيئات الحزب المختلفة، ونتحدث عنه حديثا خاصا في بيوتنا ومكاتبنا، وكنت تسمعنا نقول في غضون الحديث صراحة أو ما معناه: كيف يتاح لنا نحن الذين نقيم في كمروفو أن نفهم مثل هذه الأمور الخطيرة، إن مهمتنا هي أن نبني المصانع ونديرها، وأن نسير بعمال تلك المصانع في طريق يأمنون فيها على عقيدتهم بأن «زعيمنا المحبوب» لا يخطئ، وإذن فلم يفكر في الأمر إلا أقلية ثائرة النفوس، أما بقية الناس فسرعان ما طرحوا المسألة من حسابهم لا يأبهون لها، شأنهم في ذلك شأن أهل البلاد جميعا، فمن المستحيل أن يكون في البلاد رأي عام بمعنى الكلمة الصحيح، بعد أن خضعت للحكم الدكتاتوري اثنين وعشرين عاما.
على أن ما علمناه يومئذ علم اليقين هو أن بلادنا قد جنبت نفسها حربا دموية كانت تحطم بقية أنحاء أوروبا تحطيما، وكان ذلك حسبنا فضلا نعترف به ونشكر عليه، هذا إلى أننا كنا نكسب جانبا من أسلاب الحرب - نصف بولندا وبسارابيا وبعدئذ كسبنا دول البلطي الثلاث - مكافأة على ما أبداه الكرملن من مهارة سياسية في موقف الحياد.
وقل منا من تنبأ بأن الروسيا ستدفع آخر الأمر إلى الحرب دفعا، بله أنها ستصاب بخسائر في الأرواح والأموال أكثر مما تصاب به سائر الأمم مجتمعة، إذ آمنا إيمانا لا يقبل الجدل بأن البلاد المتحاربة سيفني بعضها بعضا ويبقى الاتحاد السوفيتي سيدا حقيقيا على أوروبا، وإذا وضعت هذا القول في صيغة سياسية قلت: إنه بينما يعاني الرأسماليون حر القتال، سنعكف نحن على تقوية أنفسنا وتكديس أدوات القتال مستفيدين بتجارب الحرب عند الآخرين، حتى إذا ما أضعفت الرأسمالية والفاشية إحداهما الأخرى ألقينا في وجه التاريخ بعشرين مليونا من رجالنا المدججين بسلاحهم، وفي نفس الوقت تكون الثورات في كثير من أقطار أوروبا قد جاوزت مرحلتها النظرية وبدأت شوطها العملي.
وأطلق زعماؤنا اسم «الواقعية البلشفية» على هذه النظرة المتشائمة السوداء، التي رأى فيها بعضنا ما يتنافى مع الكرامة والطمأنينة، فليس من خلقنا الفطري أن نلعب دور العقاب الذي يعيش على أشلاء قارة صريعة، وكنا نؤثر على ذلك أن نحيي في أنفسنا شيئا من النخوة التي أبديناها في أعوام الثورة الماضية، وأخذ كثيرون منا يطمئنون أنفسهم بأنه إذا ما سارت الحرب بعض شوطها، فسيثور العمال على مستغليهم، ويومئذ تنقلب الحرب الاستعمارية إلى حرب أهلية، وتثور أوروبا كلها ثورة واحدة قد تعيد لنا روح الثورة والشوق إلى المثل العليا الذي عرفت به بلادنا.
وعلى الرغم من أن الناس جميعا تقبلوا صداقتنا الجديدة مع النازيين، كما تقبلوا ما يبلغهم من الهجمات العنيفة على البلاد الأوروبية الأخرى، فإني أشهد أن لم يكن بين هؤلاء الناس أحد يحس حماسة نحو هذه الأمور، وكل ما ساد الناس إزاءها شعور حاد بحيرتهم، حتى لقد كانت اجتماعاتنا السياسية التي كان خطباؤها يجيئون إليها موفدين من الهيئة المركزية لشرح الموقف تتصف بالتوتر والقلق، وخاصة بعد ما غزت الروسيا فنلندا في آخر نوفمبر، فإذا ما قاتل «داود» «جالوت» - أي إذا ما قاتل القزم عملاقا - فإنك قد تجد بين أنصار جالوت أنفسهم من يعطف على داود الضئيل في بسالته، فكيف يمكن لأشد عمالنا سذاجة أن يصدق الحكاية الخرافية التي أذاعوها على أنها تصف الحقيقة، وهي أن فنلندا الضئيلة قد هاجمت جارتها القوية دون أن تستثير تلك الجارة غضبها؟ ثم زاد الناس سخطا على هذه المغامرة أن قد دفعت فيها الروسيا مئات الآلاف من أرواح أزهقت وأجساد جرحت أو عضها الصقيع وأفراد وقعوا في الأسر، وكل ذلك من أجل شريحة من الأرض الفنلندية كلها مستنقعات.
ولو حكمنا على الأمور في ضوء ما تمخضت عنه الحوادث من نتائج لتبينا في وضوح أن ستالين كان جادا حين تعاقد مع هتلر، فلو كان الكرملين يعتقد أننا لا بد محاربون ألمانيا في نهاية الأمر مهما تكن الظروف، لحاولوا أن يحتفظوا ببعض كراهية الناس نحو الألمان، ولما نفضوا أيديهم نفضا تاما من الدعاوة ضد الفاشية، ولتحولوا إلى الدعاوة ضد الاستعمار (وعبارة «ضد الاستعمار» معناها ضد البريطانيين والأمريكان)، أو على الأقل لظل موظفو الحزب الموثوق بهم في الكرملن نفسه، والذين عرفت منهم كثيرين معرفة وثيقة، يتلقون تعليمات تدل على أن الخطر النازي ما زال قائما.
لكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل حدث عكس ذلك تماما، فقد كانت كل همسة ضد ألمانيا وكل كلمة تدل على عطف القائل على ضحايا هتلر، تعد ضربا جديدا من ضروب مناهضة آثار الثورة، وفي الوقت نفسه كان السباب يكال كيلا «لتجار الحروب» من فرنسيين وبريطانيين ونرويجيين.
وإذن فالنظرية القائلة بأن ستالين إنما كان «يلعب لعبة يكسب بها مهلة من الزمن»، وبأنه كان في الواقع يسلح نفسه تسليحا جنونيا ليتأهب لقتال النازيين، هذه النظرية اخترعوها اختراعا في زمن متأخر ليعالجوا بها الغلطة الشنيعة التي تعثر فيها الكرملن حين وثق في ألمانيا وعاهدها، وكان التلفيق هنا تلفيقا «مكشوفا» حتى لقد سكت الناس عن الخوض فيه داخل الروسيا إلا قليلا، ولم يتبين لي أبدا أن مثل هذه الفكرة قد تقال في سبيل الجد بحيث تصادف عند الناس تصديقا إلا حين خرجت من الروسيا إلى حيث العالم الحر، وإنها لفكرة يتجاهل الآخذ بها أهم جوانب الاتفاق الذي تم بين ستالين وهتلر ، وأعني به ما تعهدت به الروسيا من معونة اقتصادية ضخمة استنزفت من الاتحاد السوفيتي محصولاته ومواده الخامة وكفايته الإنتاجية التي كان في أمس الحاجة إليها في استعداده للدفاع عن نفسه.
والحقيقة الواقعة هي أن النظام السوفيتي لم يستغل تلك الفترة في تسليح نفسه تسليحا ذا أثر فعال، ولقد كنت وثيق الصلة بالصناعات المتعلقة بالدفاع بحيث يتاح لي أن أعلم ما حدث من تراخ في المجهود الحربي بعد الاتفاق، وكان الشعور العام الذي ساد أعلى الدوائر الرسمية هو أننا قد نجونا من الخطر بفضل المهارة السياسية التي أبداها ستالين، ولم يدخل الريب نفوس الناس في هذا الصدد إلا بعد أن سقطت فرنسا، ويومئذ فقط ارتفع منسوب الجهد الحربي من جديد.
خصص لعملي في كمروفو عام 1940م مبلغ قيمته سبعة وأربعون روبلا، ذلك أنه في ختام 1939م كنا قد فرغنا من الاستعدادات الرئيسية بحيث لم يعد ما يمنع البدء في إقامة المباني الرئيسية لمصنعنا الذي وضعت خطته.
ووكل أمر البناء نفسه - حسب الإجراء المتبع في روسيا السوفيتية - إلى موثقة خاصة تعاقدوا معها على إقامته، وكانت الموثقة في هذه المرة هي موثقة «كمروفوستروي»، وكانت هذه الجماعة مسئولة كذلك عن جمع العمال، لكنني بطبيعة الحال اشتركت في كل ما دار من مفاوضات بشأن حشد العمال؛ لأنني كنت المكلف بسرعة إنجاز العمل وبالإشراف على جودته.
وتعهد رجال القسم السياسي بالنيابة عن رؤسائهم في ذلك الإقليم بأن يمدونا بألفي عامل من المسجونين بادئ ذي بدء، وأن يزيدوا هذا العدد في الربيع، حين تتهيأ الظروف للعمل في نطاق أوسع، وتم الاتفاق على التفصيلات في عدة جلسات عقدت في مكاتب المقاولين وفي مقر رياسة القسم السياسي، وكثرت المساومة إبان تلك الجلسات عن أوصاف العمال الأرقاء التي يشترط توفرها فيمن يقومون بالعمل وفي الأجور التي تدفع لهم، وكانت مساومة لا تعرف لهؤلاء العمال قيمة إنسانية على الإطلاق، حتى لو دخل أجنبي أثناء المناقشة لما تبادر إلى ذهنه قط أنها كانت تدور على رجال ونساء، ولما تطرق إليه شك في أن موضوع المساومة جماعة من خيل وبغال.
أصغيت في الاجتماع الأول ولم أتكلم إلا قليلا، ولم يسعني إلا أن أدير في رأسي هذا الخاطر: إذن فهذه هي الاشتراكية في صورتها العملية وفي مجتمع الحياة السعيدة التي لا تعرف التفاوت بين الطبقات ... إذن فهذه هي الحياة الجديدة التي نحاول أن نفرضها بالقوة على فنلندا في هذه اللحظة عينها ... واعترتني رجفة لا بد أن تكون قد هزتني هزا، فقد تخاذلت قواي، ونظر إلي سفروف تعلوه علامات الدهشة وقال: «ألست موفور الصحة يا فكتور أندريفتش؟» - «بلى، فليس بي من مرض أشكوه ... كل ما في الأمر أني لم أنم نوما كافيا خلال هذا الأسبوع.»
وشرح مندوب القسم السياسي حقيقة الموقف فقال: إن عدد المسجونين موفور، بما في ذلك النسبة المطلوبة من العمال الفنيين ورؤساء العمال، وأن في مقدوره أن يمدنا بخمسة آلاف أو عشرة آلاف أو أي عدد شئنا، وكان في صوته إذ هو يقول هذا رنة الفخر بأداء مهمته على الوجه الصحيح، كأنه تاجر جياد يفاخر بإصطبله المليء بصنوف الخيل، ولا يجد صعوبة إلا في أن يجد لهم مكانا ينصرفون إليه، فمعسكرات الاعتقال الكثيرة في إقليم كمروفو المجاور كانت تحتوي على ما يقرب من خمسة عشر ألفا والمنتظر أن تفد إليها جموع أخرى.
ودار النقاش هل نبني معسكرا جديدا ثم نسارع إلى ملئه بالمعتقلين بحيث نوفي بأغراضنا أو هل الأفضل أن نقيم ثكنات جديدة في المعسكرات القائمة؟ وأخيرا انتهينا إلى قرار وهو أن نخبر حظيرة هي من أوسع الحظائر المحلية مساحة، قبل أن نحسم في الأمر بكلمة نهائية.
وركبنا سيارة فاخرة في صباح يوم شديد الريح قارس البرد؛ لنفحص عن المكان، وكنا أربعة: موظفا من القسم السياسي ومندوب جماعة المقاولين وكاتم سر اللجنة المحلية وأنا، وسرنا بالسيارة الهوينا نشق طريقنا في الثلوج، لكننا بلغنا غايتنا بعد فترة لا تزيد على عشرين دقيقة.
كان المعسكر قائما على نشز من الأرض يطل على مجرى ماء يتفرع من نهر توم، وكاد أن يكون مربعا في شكله يحيط به سور عال تمتد على حافته العليا أسلاك شائكة، وفي أركانه الأربعة أبراج للحراسة، وعند مدخله مقصورة خشبية للخفراء، وها هنا نزلنا من سيارتنا، وكانت الثكنات الخشبية تمتد موازية لجدران الحظيرة، وتكون مربعا في وسطه فناء يشبه أن يكون أرضا خصصت ليصطف فيها الجنود ساعة التمرين، وكان هذا الفناء في مرمى المدافع الرشاشة التي ركبت على قمم الأبراج، بحيث إذا ما حدث ما يدعو إلى استخدام تلك المدافع أطلقت نيرانها على الفور، وتقوم بالقرب من المدخل عدة دور جميلة البناء، فيها مكاتب الإدارة ومنازل الحراس.
كان القائمون على الأمر هناك في انتظارنا، فما أن وصلنا حتى أدخلونا فورا إلى المكتب الرئيسي حيث استقبلنا رئيس المعسكر، فلم ألمح فيه علائم الود الصادق فحسب، بل رأيت فيه كذلك ما ينم على خضوع، وهو رجل قصير بدين أشقر، ملامحه أميل إلى الوسامة قد تأثرت من فعل الجو، ولم يكن ليخفى على أحد أنه وقف إزاءنا يرتعد خوفا من مندوب اللجنة المحلية وموظف القسم السياسي الذي كان بمثابة الرئيس لجماعتنا، ثم تبين لي سبب ذلك فيما بعد، وهو أن هذا الرجل كان شيوعيا معروفا ونفي من موسكو، فعلى الرغم من أنه عين هنا رئيسا للمعسكر، فقد كان هو نفسه في حكم المنفي الذي وضع في مكانه ذاك ليكون ولاؤه السياسي تحت رقابة دائمة، وإذن فموظف الحزب وموظف القسم السياسي في كمروفو كانا يراقبانه ويقدمان عنه التقارير في فترات منتظمة، يصفون فيها سلوكه في إدارة المعسكر.
لقد حدث لي مرات عدة أن دخلت معسكرات الاعتقال، لكني لم أكن قد ألفت الإحساس بها بعد، وما زلت مدفوعا بحب استطلاع عجيب أن ألم بكل تفصيلات الحياة في المعسكر، ويستحيل على إنسان أن يفهم هذا الإحساس الذي كان يعتورني، إلا إذا كان مثلي يفحص عن سجن ويتوقع أن يكون فيه ذات يوم سجينا.
نظرت من النافذة فرأيت ما يقرب من خمس عشرة امرأة من المسجونات قد تزملن بالخرق البالية ليتقين لذعة البرد، وأخذن يكومن حطبا بالقرب من أحد الأبنية المقامة بالطوب المحروق، إحداهن غطت رأسها بكيس من الخيش، ولفت الأخريات أيديهن في أسمال بالية بدل القفازات، وما هي إلا أن جاء أربع نساء أخريات يحملن دلاء يصعد منها سحاب من بخار.
فسألت الرئيس: «ماذا يصنعن؟»
فقال: «إنهن يطعمن الخنازير والطيور.» ثم أضاف في زهو: «إننا هنا نربي الحيوان والطير لننتج طعاما من اللحم بأنفسنا.» - «تنتجون اللحم للمسجونين جميعا؟» - «المسجونون!» وضحك كأنه قال فكاهة تثير الضحك. «هل تحسبنا نطعم أعداء الشعب لحما؟ ليس هذا مصحة أو مطعما، ومع ذلك فصدقني إن قلت: إن مشكلة طعامنا نحن وطعام الحراس ليست بالمشكلة الهينة.» - «ومن هؤلاء الرجال الثلاثة الكهول؟»
وأشرت بإصبعي إلى ثلاثة رجال ملتحين يرتدون معاطف بالية ويلفون رءوسهم بلفاعات، كانوا يشتغلون على كومة من الحجر. - «هم قسيسان وحبر من أحبار اليهود، لا تسعفهم قواهم أن يمشوا ثمانية كيلومترات حتى يبلغوا مصانع كمروفو، فكلفوا ببعض الأعمال هنا في المعسكر ليكسبوا بها القوت.»
فقال مندوب شركة المقاولين الذي جاء معنا: «هذا عجيب، فما أيسر على القساوسة والأحبار أن يمتزج بعضهم ببعض إذا ما اجتمعوا وراء الأسلاك الشائكة لمناهضتهم الثورة، لقد لحظت هذه الظاهرة في معسكرات كثيرة.»
فوافقه رئيس المعسكر قائلا: «هذا صحيح، وقد استوقف نظري كذلك.»
جلسنا بعدئذ في المكتب وأخذنا نناقش ما جئنا من أجله، وقال رئيس المعسكر: إنه على الرغم من أن المكان يحتوي الآن على ثلاثة آلاف سجين تقريبا، يزحمونه فوق طاقته، فإن من الممكن أن نقبل ألفا رابعا، ولو أن ذلك ليس باليسير، وبين لنا أن بعض الثكنات يستخدم بالفعل استخداما مضاعفا، فينام فريق في الوقت الذي يعمل فيه فريق آخر، ثم يتبادل الفريقان النوم والعمل، ولم يكن هذا الترتيب لسوء الحظ ممكنا في جميع الحالات؛ لأنه يعتمد على نوع العمل الذي تم التعاقد على أن يقوم به المسجونون، وكان من رأيه أن من الحلول الممكنة أن يبنى صف ثالث من «الأسرة». - «نعم، إن هذا الصف الثالث سيزحم المكان بعض الشيء، لكن الصف الأوسط سيكون أكثر دفئا على أقل تقدير.» وضحك مرة أخرى.
ولكي يوضح لنا فكرته، دعانا إلى زيارة بعض الثكنات، فلبسنا قبعاتنا ومعاطفنا وتبعناه.
رأينا في طريقنا جنود الحراسة شاكي البنادق شاهري السلاح، ووقفوا على مسافات متساوية، وكانت الثكنات مصنوعة من ألواح خشبية غير مطلية بدهان، سدت فتحاتها بنشارة الخشب، وغلقت أبوابها بالمزاليج والمفاتيح من خارجها.
سألت الرئيس قائلا: «كم تسع كل ثكنة من هذه الثكنات؟» - «يختلف العدد باختلاف الظروف، والمتوسط يقع بين ثلاثمائة وثلاثمائة وخمسين.»
ثم قال رئيس المعسكر، والحارس يفتح باب واحدة منها: «هذه الثكنة تئوي ثلاثمائة وعشر من النساء.» - «وقوفا!» صاح الحارس بهذه الكلمة في القاعة الطويلة المعتمة ذات السقف الوطيء، فلبت المسجونات النداء في خفة، ومن كن منهن على الرفوف العليا هبطن إلى الأرض مسرعات في خوف وفزع، ولم يبق على الأسرة إلا ثلاث أو أربع، والظاهر أنهن كن مريضات لا يستطعن النهوض، وكان النساء اللائي رأيت هناك من شتى الأعمار، وكن خليطا من قوميات مختلفة، ومنهن العجائز والفتيات الشواب، ولم يتفقن جميعا إلا في الخرق التي ارتدينها وفي التعب البادي على وجوههن، وتقززت بعض الشيء لرائحة العرق الكثيفة المنتنة ورائحة حشرات البق المفقوع، ولم يكن يتسلل خلال النوافذ القذرة ذوات القضبان إلا قليل جدا من ضوء النهار، ورأيت بضعة مصابيح كهربائية صغيرة مدلاة من السقف، لكنها لم تكن موقدة حينئذ.
كانت الثكنة من البرودة بحيث رأينا أنفاسنا عالقة في الهواء، ومع ذلك فكثيرات من المسجونات لم تكن تغطي الثياب إلا أنصافهن، وقد لحظت واحدة هنا وواحدة هناك أخذتها زيارتنا على غرة وراحت في ربكة تحاول أن تغطي ثدييها بقطعة من ثياب، أما كثرتهن الغالبة فلم يأبهن للأمر وعلاهن الوجوم، فقد استنزفت منهن آخر قطرة من قطرات الحياء الطبيعي، وكان بين النساء بضع فتيات صغيرات السن جدا، وبضع عجائز تغضنت وجوههن، وأما أغلبهن فتتراوح أعمارهن بين العشرين والثلاثين، ولم يتعذر علي الحكم على كثيرات منهن بملامح وجوههن وبأسمال ثيابهن بأنهن من المثقفات، فلا تزال آثار الثقافة والتعليم بادية على وجوههن بالرغم مما كن فيه من قذارة وإعياء.
كانت «الأسرة» ألواحا خشبية عارية، عرض الواحد منها يقرب من أربع أقدام، وركبت على قوائم غليظة في صفين أحدهما فوق الآخر، لا شيء سوى صفين من الرفوف الخشبية لا يغطيها أي شيء من الفراش، وعلى هذه الرفوف كانت تنام المسجونات، كل منهن على رف من هاتيك الرفوف، لا تغطيهن إلا ثيابهن، وتحت رءوسهن وسادات من بعض أسمالهن لففتها ووضعتها هناك مكان الوسائد، وفي وسط القاعة رأيت موقدا صغيرا من الخشب المحترق، لا يسعك إذ ترى صغره بالنسبة إلى حجم المكان سوى أن يأخذك العجب والإشفاق، ولو استثنيت قليلا من دلاء وضعت قرب الباب ليقضي النساء فيها حاجاتهن الطبيعية، لما وجدت شيئا من وسائل الحياة، فلا مقاعد ولا مناضد ولا شيئا على الإطلاق.
كان المسجونون إذا ما وصلوا إلى المعسكر يجردون مما يحملونه معهم من خطابات وصور شمسية لأقاربهم وأصدقائهم وكل ما عساه أن يذكرهم بالعالم الحر خارج أسوار السجن، وكذلك تؤخذ منهم أغطية الفراش، بل تؤخذ منهم أيضا حتى البسائط التوافه من أدوات العيش مثل فراجين الأسنان والمقصات، ثم يعطي كل منهم كوبا معدنيا وقدحا معدنيا كذلك، وملعقة من خشب، فكانوا يضعون هذه الأشياء على أسرتهم أو يعلقونها بجوارهم على الجدران، ولا يؤذون لهم قط بقراءة كتاب أو باستخدام أوراق وأقلام، وبالطبع لم يكن هناك أجهزة لاسلكية للإذاعة، وهكذا كان تراسلهم مع ذويهم محرما عليهم من جهة ومستحيلا من جهة أخرى.
لكني نسيت أن أذكر أن قد كان إلى جانب جدار من الجدران الوطيئة حوض من حديد فوقه حوض للغسل ركبت عليه أنابيب تقطر الماء، وأشار دليلنا إلى هذا الحوض قائلا: إنه «معدات الغسل»، ثم راح يشرح لنا فكرته بأنه من الممكن أن يضاف صف آخر من الرفوف بين الصفين، وبهذا يمكن أن يزداد العدد مائة أخرى في تلك القاعة وحدها، كان يتكلم كأنه يدير الكلام على ماشية، لا يأبه مطلقا لشعور المسجونات اللاتي وقفن هناك صامتات مصغيات إلى حديثنا، وقد لمحت وقتئذ على أحد الجدران قطعة من راية حمراء كتبت عليها بالدهان الأبيض عبارة من عباراتهم التي يصوغونها في صيغ الحكم: العمل، إنه طريق العودة إلى الحياة الحرة.
وبينا نحن خارجون سألت قائلا: «أكل هؤلاء المسجونات مجرمات؟»
فأجاب رئيس المعسكر: «كلا، هؤلاء هن المعتقلات السياسيات ممن يناهضن شيوعية الأرض الزراعية أو يقاومن تعاليم الثورة، في ثكنات الرجال وضعنا كل الأصناف معا، أما في ثكنات النساء فقد رأينا من الأفضل أن نفصل المجرمات والعاهرات عن السياسيات، إن حفظ النظام مشكلة أعقد بين النساء منها بين الرجال.»
ثم أدخلنا الشرطي الحارس ثكنة أخرى، أصغر من الأولى قليلا، وكان نساء هذه الثكنة جميعا من المجرمات، وبعضهن من العاهرات، كما أنبأني رئيس المعسكر الذي أخذ يزودني بالمعلومات عن معسكره لما تبين أني أكثر اهتماما بها مني بأمر المفاوضات التي جئنا من أجلها.
وحدث هنا ما حدث في الثكنة الأولى إذ وقفت المسجونات احتراما للقادمين، ولا أظن أن في الدنيا منظرا أفظع في عيني الرجل السوي من منظر بضع مئات من النساء القذرات العليلات الممزقات الثياب؛ لأن مثل هذا المنظر يستثير نخوة الرجل إزاء المرأة، وإنها لنخوة عميقة الجذور في جبلته.
وأمر رئيس المعسكر إحداهن قائلا: «ستاروستا، تعالي هنا.»
وخطت إلى الأمام «ستاروستا» - ومعناها ملاحظة الثكنة - وكانت تبدو بين الثلاثين والأربعين من عمرها، ترتدي ثوبا ممزقا مرقعا، كان ذات يوم فيما مضى ثوبا أنيقا، كما دلت قسماتها على أنها كانت ذات يوم فيما سلف امرأة وديعة، وقفت أمامنا مستقيمة، ويداها إلى خلفها.
قالت في صوت واضح النبرات، لكنه بغير روح: «كل شيء على ما يرام هنا يا حضرة الرئيس، امرأة واحدة مريضة وأما الباقيات فمستعدات لوجبة الطعام ومتأهبات للعمل.» - «هذا جميل، انصرفي.»
ولمحت بعيني لوحة سمرت إلى الجدار بالقرب من الباب الذي وقفنا إلى جواره، وقرأتها فإذا هي قائمة مطبوعة تشتمل على القواعد التي يجب أن تراعى بصدد النظافة والطاعة العمياء، وقرأت في ختامها ما كتب بالخط العريض من ألوان العقاب: فأولا يومان بغير قوت، فإن تكرر خروج السجينة على القواعد حبست في زنزانة حبسا منفردا مدة لا تقل عن أسبوع، فإن اقترفت ذنبا ثالثا، مد أجل السجن بما يتراءى لأولي الأمر، أو حكم عليها «بأقصى الإجراءات لحماية المجتمع»، وهي الصيغة السوفيتية التي يعبرون بها عن الإعدام رميا بالرصاص.
ولما غادرنا هذه الثكنة سألت رئيس المعسكر هل اضطر ذات مرة إلى تنفيذ حكم الإعدام في سجينة؟ - «لم أضطر إلى ذلك منذ ثورة العام الماضي.» أجابني الرئيس بهذا القول ظنا منه أنني لا بد أن أكون عالما بالحادثة التي يشير إليها ما دمت موظفا في كمروفو.
واستصحبنا بعدئذ إلى ثكنات الرجال التي كانت شبيهة أتم شبه بثكنات النساء، هذه في جانب، وتلك في جانب آخر، ولما كنت قد ألفت المناظر والروائح، فقد أتيح لي الآن أن أدرس المسجونين أنفسهم دراسة أدق، كان معظم المسجونين من الروس، لكن بعضهم كان من جنسيات أخرى، فمنهم الأزابكة والأتراك والتتار والأرمن واليهود والبولنديون بل والصينيون أيضا، وعلى الرغم من أنهم جميعا لم يكونوا حليقي الوجوه، وأنهم كانوا في حالة يستحيل وصفها من العلة والتمزيق، فقد استطعت مع ذلك أن أتعرف بينهم إلى بعض الوجوه التي نمت عن ذكاء وامتياز، وقلت لنفسي: لعلهم مهندسون وأساتذة وأدباء وزعماء حزبيون أصابهم الحظ المنكود، ولحظت بينهم رجلا طويلا عريض الكتفين مستقيم الوقفة، نظر محدقا في عيني، فأيقنت أنه لا بد أن يكون عسكريا، ولم ينقص من يقيني ذاك أنه لم يكن في بزته العسكرية، لكن الكثرة الغالبة كانت - طبعا - من سواد الفلاحين والعمال.
كان الملاحظ في إحدى الثكنات رجلا قوي البنية أجدع الأنف ذا عينين صغيرتين لامعتين بالدهاء.
قال رئيس المعسكر مشيرا إليه: «هذا هو كاسر البندق.»
فسألته: «وفيم تسميته بكاسر البندق؟» - «مشهور بكسر الخزائن، وقد عرف بهذا اللقب في كثير من الأقاليم.» وضحك الرئيس ثم قال: «المجرمون أمهر في ملاحظة الثكنات من السياسيين؛ لأنهم لا يضعفون كما يضعف السياسيون.»
وقال رجل الشرطة السياسية مبتسما: «إن معظم المجرمين من السجناء يحتقرون المعتقلين السياسيين، إن هؤلاء المجرمين ليسوا من أعداء الشعب ... إنهم لا يزيدون على كونهم أوغادا خرجوا على طاعة القانون.»
وسأل منا سائل: «ما نسبة المجرمين إلى السياسيين؟» - «المجرمون في هذا المعسكر لا تزيد نسبتهم في العادة على رقم يتراوح بين عشرة وخمسة عشر في كل مائة، وهذا العدد يشمل العاهرات، لكننا بالطبع لا نفرق بينهم في المعاملة.»
ولما كنا في طريقنا عائدين، جمعت معلومات أوفى من ضابط الشرطة السياسية، إذ علمت منه أن المسجونين لا يسمح لهم بالتدخين في الثكنات، وفي العادة لا يعرف أقارب المسجون في أي معسكر يكون، والقاعدة الجارية هي أن يوضع الذين صدر عليهم الحكم بمدة قصيرة في السجون أو يحشرون في زمرة الجماعات العاملة بالسخرة بحيث تخصص المعسكرات - إلى حد كبير - لمن صدرت عليهم أحكام بخمس سنوات أو ثمان أو عشر أو أكثر، ومن صدر عليهم الحكم بالسجن المؤبد.
والواقع أن طول مدة السجن التي حكم بها على السجين لا أهمية لها؛ لأن الذين يطلق سراحهم منهم قليلون جدا، فليس يطلق سراحهم عند نهاية المدة باعتبار ذلك إجراء طبيعيا، بل لا بد من استصدار أمر خاص في كل حالة من رياسة القسم السياسي في موسكو، وهذا القسم في العادة يزيد من مدة الحكم على غير أساس أو مبرر إلا أنه يريد أن يحتفظ بعدد العمال المسخرين كاملا، وحتى من أطلق سراحهم قلما يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم الأصلية - إن سمح بذلك لأحد منهم على الإطلاق - بل كانوا يؤمرون أمرا أن يستقروا في أقاليم تعين لهم تعيينا في الأجزاء النائية من سيبيريا في معظم الحالات في الشرق الأقصى أو الشمال الأقصى؛ ولذلك ترى مجتمعات بأسرها يكاد يتكون أفرادها الكثيرون كلهم من خريجي السجون.
ففي أشد المعسكرات سوءا من حيث سمعتها - أعني معسكرات الشمال الأقصى والشرق الأقصى وفي أعماق سيبيريا - كان يحتوي كل معسكر على ثلاثين ألفا أو أربعين ألفا من المسجونين، ولما كانت نسبة الوفيات هناك عالية إلى حد مخيف فقد خصص في تلك المعسكرات من بين المسجونين أنفسهم فرق لا عمل لها سوى دفن الموتى تقضي فيه اثنتي عشرة أو أربع عشرة ساعة كل يوم.
كانت كمية الخبز التي تصرف للمسجونين في المعسكر الذي زرناه لتونا - والخبز هو طعامهم الرئيسي - تتراوح بين ثلاثمائة أو ثمانمائة جرام (أي من إحدى عشرة أوقية إلى ثلاثين) كل يوم، وإنما تزيد الكمية أو تقل تبعا لنوع العمل الذي يكلف المسجون بأدائه ولنوع الجريمة التي اقترفها ولمقادير الإنتاج التي أنتجها، ثم كان يصرف لهم فوق ذلك حساء رقيق من البطاطس أو الخضر مرتين في اليوم، وكذلك طبق من البليلة، كما كان يصرف لهم سمك مقدد آنا بعد آن، فإذا ما عجز المسجون عن إنتاج المقدار الذي طلب إليه إنتاجه، عوقب بتخفيض هذه الكميات؛ لذلك شاعت في المعسكرات الأمراض التي تنشأ عن قلة الغذاء مثل الإسقربوط والدوسنتاريا وغيرهما، كما شاع تآكل الأجساد بالصقيع، ولم يكن بين من شهدت من المسجونين إلا عدد قليل خلا من القروح الدامية والعيون الملتهبة وغير ذلك من الأدلة الظاهرة على الصحة المتدهورة، إنه إذا ساد بلدا من البلاد نظام الرق على صورته الحقيقية، كالذي ساد الولايات المتحدة - مثلا - قبل الحرب الأهلية، فإن العبيد في هذه الحالة يمثلون نظاما اقتصاديا؛ ولذلك يكون لهم على الأقل حق في كل شيء من الرعاية والحماية اللتين لا نبخل بهما على الحيوان الذي يعيننا في العمل، أما الرقيق السوفيت فأسوأ من ذلك حالا بدرجة لا تقاس، فموردهم يكاد لا ينفد، ومالكهم - وهو الدولة السوفيتية - يفضل من الوجهة الاقتصادية - فيما يظهر - أن يلقي بهم إلى الموت زرافات على أن يتكلف نفقات غذائهم وكسائهم.
سألت: «ما هذه الثورة التي ذكرها؟»
فتطوع بالجواب كاتم سر الحزب وقال: «تلك الثورة حدثت في أواخر عام 1938م حين رفض بعض المسجونين أن يخرجوا من معسكرهم للعمل ... وكانت شكواهم من سوء الطعام، فوقفت الإدارة منهم بالطبع موقف الحزم الشديد، ورمي بالرصاص أربعة عشر من زعماء الحركة، منهم اثنا عشر رجلا وامرأتان، وتم القتل في المعسكر على مرأى من جميع المسجونين الذين صفوا ليشهدوا، ثم اختير من كل ثكنة من الثكنات من يمثلها في حفر المقابر لهؤلاء ملاصقة لسور الأسلاك الشائكة من خارجه، وليس هنالك احتمال بوقوع فتنة أخرى ما دامت ذكرى تلك الحادثة حية في الأذهان، وطبيعي أن يخول رئيس المعسكر حق إعدام من شاء من مسجونيه، فلسنا في زمن يسمح بأي قدر من التهاون السمج في معاملة أعداء الشعب.»
وواضح أن العبارة الأخيرة كان الغرض منها أن يؤمن القائل على سلامته من الوجهة السياسية، نعم، إن ضابط الشرطة السياسية الذي كان يصحبنا صديقي حميم لكاتم سر الحزب، لكن فيم التعرض للخطر؟
وقبل أن نصل إلى حل لمشكلة تهيئة المساكن لعمالنا العبيد وعددهم ألفان، أرجئ المشروع كله أو «حفظ» بلغة رجال الدواوين.
لم أكن أظن أن كل ما بذلت من مجهود في «كمروفو» قد طوح به في كومة القمامة؛ لذلك سرني أن تجيئني دعوة مفاجئة إلى موسكو في آخر ديسمبر؛ لأن ذلك من شأنه أن يتيح لي فرصة الاحتفال برأس السنة الجديدة مع «إيرينا»، نعم كنت أظن أن خطورة الأمر لا تعدو مشاورة نهائية في مشروعاتنا لعام 1940م، لكني وجدت الرفيق كوزفينكوف شديد التجهم!
قال لي: «عندي لك خبر يا فكتور أندريفتش، وهو أن قرارا أصدرته اللجنة المركزية العليا يأمر بوقف العمل مؤقتا في مشروع صناعة خراطة الأنابيب في «كمروفو»، فقد اكتفوا بمليون روبل تنفق على ذلك المشروع، وهو مبلغ لا يكفي أكثر من الاحتفاظ بما أتممناه منه.»
فنظرت إليه نظرة المبهوت. - «هذا مستحيل، لقد بذلنا جهد الجبابرة حتى بلغنا بالأمر حدا يستثير الإعجاب بكل شيء، كيف يمكن لهذا القرار أن ينفذ؟» - «لا تسلني، فلست إلا رئيسا للهيئة العليا لصناعة الأنابيب، ولم تطلب مشورتي، اكتفوا بتبليغي فحوى قرارهم، بيني وبينك، إنني لست أقل حيرة منك.»
فاستأنفت حديثي قائلا: «لقد أنفقت ملايين الروبلات في الإعداد، وهناك كميات هائلة من مواد البناء معدة للعمل، وكل من له إلمام بالصناعة في سيبريا يعلم أن المشروع لا غنى عنه، فماذا يا ترى وراء هذا كله؟» - «كل ما أستطيع زعمه أن الباعث إلى ذلك هو الموقف الدولي الجديد، فما دمنا قد أصبحنا الآن على صداقة مع ألمانيا، فليس ما يدعو إلى العجلة في مشروع الدفاع؛ لأننا نستطيع أن نؤجلها مؤقتا.» - «لكن ألم يكن مشروع «كمروفو» متصلا قبل كل شيء بأخطار الشرق الأقصى؟ إن اليابان لا تزال هناك.» - «نعم، لكن هذه أمور تتعلق بالسياسة العليا، وخير لنا ألا نخوض فيها، وظني هو أن التعاهد الألماني السوفيتي يجعل الخطر الياباني كذلك ليس قريب الوقوع.» - «وما مصيري أنا يا رفيقي كوزفنكوف؟ فمهما يكن من أمر فأنا المدير المسئول، ولقد أنفقت ملايين الروبلات في أعمال التحضير، أليس من واجبي أن أبلغ الحزب رأيي في قرارهم؟»
إن حركة التطهير الأعظم قد علمتني أن أتحسس مواضع الخطر، وكنت أعلم أنه من أسهل الأمور أن يقع في الفخ موظف بريء فتنصب عليه اللائمة على الأخطاء الفاحشة التي يزل فيها أولو الأمر من رجال الدوائر الحكومية العليا، ووقف العمل في «كمروفو» يبدو لعيني غلطة من أفحش الغلطات. - «أقترح عليك الصمت يا فكتور أندريفتش، كل ما تعمله هو أن تنهي أعمالك في «كمروفو» وتعود إلى هنا، ولقد أمرت هيئة المقاولين في «كمروفو» بالفعل أن نقف العمل.»
ترى هل أستمع إلى نصحه بقبولي القرار صامتا؟ ظللت أعترك مع نفسي في هذه المشكلة أسابيع عدة، فلو عبرت عن رأيي لعد ذلك إساءة إلى أولي الأمر في الدوائر العليا الذين اتخذوا القرار، ولأثرت بذلك العداوة ضدي، ولكني من جهة أخرى إذا وقفت موقفا سلبيا إزاء هذا الأمر، قد أواجه بموقفي في تطهير قادم على أنه دليل استهتاري وبرودة حماستي تجاه البلشفية، فمهما يكن من أمر هذا المشروع، فإن له لأهمية عسكرية عظمى، وكان من حقي أن أخاف تغير الموقف الدولي، فيبحثون حينئذ عمن يصبون النقمة على رءوسهم تنفيسا عما يصيبهم من خسار في تركهم الاستعداد والتأهب، وينزلون العذاب بهذه الطائفة الجديدة من «أعداء الشعب»، وحينئذ لا تلام الهيئة المركزية العليا ولا رجال الحكم في الدوائر العليا؛ لأنهم بحكم التعريف لا يخطئون، إنما يلام أمثالي ممن يقفون في براءة يشاهدون، أضف إلى هذا كله أن تفكيري في الموضوع كان مصطبغا بصبغة عاطفتي الشخصية إذ ذاك، إذ كنت أحس خيبة الرجاء في وقف المشروع.
إن الإنسان ليميل بطبعه إلى أن يدمج نفسه في عمله، حتى في ظل النظام المميت الذي يتجاهل طبائع الإنسان ويضع الحياة تحت تصرف الدولة ونظامها؛ لذلك قذفت بكل ما في نفسي في مشروع «كمروفو»؛ لأنني اهتممت به اهتماما كبيرا لجسامته أولا ولعظيم خطره بالنسبة لمستقبل سيبيريا ثانيا، فكنت تراني أجاهد وأضع التصميمات وأعارك كل صنوف الموظفين في سبيل هاتيك الآلات الشامخة التي رأيتها بعين الخيال ناهضة في ذلك المكان، ولم يعد يسيرا علي أن أعلم أن كل ذلك الجهد قد ذهب أدراج الرياح.
وما عدت إلى «كمروفو» حتى انجابت عني الوساوس فيما يختص بالطريق الذي ينبغي أن أسلكه؛ ذلك أني وجدت شيوخ المدينة في حالة من الغم للانقلاب الذي حدث، وأعدت اللجنة المحلية واللجنة الإقليمية في نوفوسيبرك تقريرين رسميين اعتزمتا إرسالهما إلى موسكو تتوسلان بهما إعادة النظر في القرار الذي اتخذ، وذكرتا في تقريرهما أن المشروع قد خطا خطوات فسيحة، وأن هنالك عددا كبيرا من المصانع الحيوية قد رسم خطته على أساس هذا المصدر الجديد الذي يمدهم بأنابيب الصلب، ثم امتدح التقريران إدارة المشروع واختصاني بالثناء على الأسلوب الذي أدرته به.
فوجدت ألا سبيل أمامي سوى أن أؤيد اللجنتين فيما طلبتا، ولقد تبين بعدئذ أنني بذلك أخطأت خطأ لازمتني لعنته أمدا طويلا؛ ذلك أني رفعت تقريرا إلى اللجنة المركزية للحزب وإلى الرفيق «مركلوف » وزير صناعة تعدين الحديد، ألتمس فيه الاستمرار في منشأة كمروفو.
ولما عدت إلى موسكو، لم ألبث أن وجدت أن تصرفي قد أثار علي من السخط ما لم أتوقعه، فكل هيئة سوفيتية إن هي إلا ميدان للحزازات الشخصية وللطوائف المتنافسة وللغيرة المتقدة، وتوشك أن تكون هذه الحالة نتيجة محتومة إذا ما كان للمهارة السياسية والنفوذ السياسي الكلمة في تقرير الأمور، فهذا «كوزفنكوف» قد ثارت ثورته؛ لأني لم آخذ بنصيحته، وهذا مساعده «جولوفاننكو» الذي عارضته في كثير من المسائل الهندسية كان فيما يظهر يضمر لي العداء منذ زمن طويل، وها هو ذا قد وجد المتنفس الذي يخرج فيه كل مشاعر غيظه نحوي.
والظاهر أن رئيسنا الأعلى «مركلوف» كان هو الرجل الوحيد الذي يتفق معي في وجهة النظر، لكنه لم يكن في الموقف الذي يتيح له أن يؤيدني، أو كاد ألا يكون، ولقد أنبأني سرا أن صناعة المعادن كلها كانت موضع البحث أمام لجنة خاصة شكلتها اللجنة المركزية للحزب، وعلى رأسها «مالنكوف»، وكان بين أعضائها «إيفان تيفوسيان» وهو أرمني يحظى بالثقة الشديدة لدى ستالين، وقال لي «مركلوف»: إنه لا يشك في أنه قد اتجهت النية إلى اتخاذه ضحية لما تراكم في صناعة التعدين من سيئات، وذلك ما حدث، إذ لم يلبث أن نقل من منصبه ليحل محله «تيفوسيان».
ومضى أكثر من شهر دون أن يبلغني شيء عما رأته اللجنة المركزية إزاء تقريري، فأخذني القلق، ونصحني أصدقاء ممن يتصفون بالحذر في الأمور السياسية أن أرسل نسخة من تقريري ذاك إلى مكتب ستالين الشخصي، على أن هذا الإجراء إذا كان من شأنه أن يقيني شر العقوبة المباشرة التي قد تهبط علي من رجال وزارة صناعة التعدين إذا كانوا قد رأوا في تصرفي إهانة لهم أو مصدرا من مصادر الخطر، فلا شك أن من شأنه كذلك أن يزيد من شناعة جريمتي في أعينهم.
وقد انتقموا مني انتقاما مضاعفا دفعهم إليه صالحهم الخاص؛ ذلك أنهم لفقوا علي قضية عجيبة - سأتناولها بالتعليق فيما بعد - وبذلك نجحوا في شغلي مدى عامين كاملين بأمور قضائية تثير الضحك لغرابة تفصيلاتها، ومع أنهم لم يوفقوا إلى سجني؛ لأني ظفرت ببراءة تامة في المحكمة العليا آخر الأمر، فقد وفقوا إلى أن يبعثوا القلق في نفسي شهورا عدة، وأن يتيحوا لي فرصة أكبر مما يشتهي أي إنسان للاتصال الوثيق بدقائق التشريع السوفيتي.
لبثت أتقاضى مرتبي من رياسة صناعة الأنابيب في الفترة التي قضيتها منتظرا تعييني في منصب جديد، وما كان أحلى الفراغ الذي لم أتعوده، فاصطحبت «إيرينا» كل مساء إلى المسرح وحفلات الموسيقى والأوبرا والمرقص، وإني لأحب موسكو أكثر ما أحبها - شأني في ذلك شأن الكثرة الغالبة من الروس - حين يسودها جو من الصمت أيام الشتاء حيث يقصر النهار ويلمع الليل كأنه البلور، حين تكتنف الحياة فيها أطباق فوق أطباق من الثلج.
كانت موسكو إبان الأشهر الأولى من عام 1940م إحدى العواصم الأوروبية القليلة التي لم تضرب الحرب عليها حصارا، ولطالما أعلنوا هذه الحقيقة وأعادوها برهانا على ما أوتي زعيمنا ورائدنا المحبوب من حكمة بالغة، وكانوا لا ينشرون أخبار الحرب إلا بالخط الصغير في الصفحات الأخيرة من الجرائد كأنما هي أخبار لا تعنينا في شيء، ومع ذلك فقد كان الناس يبدءون قراءة الصحف بقراءة تلك الأخبار، وكانوا يقرءونها في تفهم، واهتدوا بغريزتهم إلى الشك في صدق ما تزعمه الدوائر الرسمية بأن بلادنا يمكنها أن تظل إلى النهاية بمنجاة من ذلك الوبال المنتشر، ومن يدري؟! فلعل الشعور بأن حالة السكينة لن يطول بنا أمدها هو الذي أكسب الحياة الاجتماعية والحياة الفنية في العاصمة لونا خاصا ذلك الشتاء؛ إذ أكسبها حيوية لم تهدأ لها حركة.
زادت الحفلات يعقدها الناس في البيوت عما ألفنا في الأعوام الماضية، وخيل إلي أن أضواء الطريق واللافتات الكهربائية القليلة ازدادت توهجا، واصطبغ المنظر بصبغة عسكرية لوجود الموظفين والضباط الألمان في العاصمة، وبخاصة في كبريات الفنادق والمطاعم.
وكذلك ظهرت بوادر الحرب في هذه العاصمة المحايدة على صورة أخرى؛ وذلك أن ما يسمونه بالمتاجر المفتوحة - حيث تبيع الدولة سلعا معينة لمن كان في وسعه أن يؤدي أثمانها التي لم تحدد لها الحكومة حدودا قصوى - قد غصت فجأة بصنوف السلع الأجنبية التي لم نألف رؤيتها: حلل وأثواب وأحذية وسجاير وشكولاته وجبن وطعام محفوظ، ومئات غير هذه من السلع التي لا ريب في استيرادها من غير بلاد السوفيت، فاضت علينا هذه السلع من مناطق الحدود التي احتلها الجيش الأحمر، وكانت هذه الكماليات تأتينا بادئ الأمر من الأراضي البولندية والفنلندية، ثم لما تقدم العام، بدأنا نعرض الغنائم التي غنمناها في دول البلطي ثم في بسارابيا.
ولو أخذنا بما كانت تقوله الدعاوة، لقلنا: إننا كنا «نحرر» هذه الأراضي من استغلال الرأسماليين ومن براثن الفقر، أما من الوجهة العملية الواقعية فقد اهتزت نفوس أهالي موسكو حين رأوا هذه الأعاجيب التي تنتجها البلاد الرأسمالية في متناول أيديهم داخل بلدهم «الاشتراكي»، وكنت ترى ألوف الموظفين السوفيت وقد ازدانوا بهذه الرشاقة المسلوبة، كما أخذت أعجب الحكايات التي كانت تسرف في المبالغة أحيانا بغير شك، والتي تقص عن الأشياء الفاخرة التي كان يستولى عليها المحررون السوفيت من المناطق التي يغزونها، أقول: أخذت أعجب الحكايات عن مثل هذه الأشياء تدور على الأفواه في أنحاء العاصمة.
كانت رياسة صناعة الأنابيب تبحث لي عن منصب ملائم، والمواطن السوفيتي كائنا من كان ليس في وسعه بالطبع أن يرفض أي عمل يكلف به في أي مكان يعينونه له جزافا وبغير سابق إنذار، ولكنهم مع ذلك يشاورون صاحب الأمر بقدر المستطاع إذا ما كان المنصب ذا مسئولية خطيرة؛ لأن رضاه عن عمله شيء تقتضيه الحكمة، وقد عرضت علي الوزارة أن يكون لي الإشراف التام على مصنع من مصانع التعدين في منطقة ما وراء بيكال في شرق سيبيريا، وكذلك استشاروني في منصب كبير المهندسين في مصنع بأورال، وحدث أيضا أن فكروا في تعييني مديرا لمصنع للتعدين في منطقة جوركي، لكن شيئا من هذا كله لم يجد سبيله إلى التنفيذ.
أما إن سألتني عما أردته لنفسي، فقد سئمت الأيام التي أنفقتها متجولا وتحرقت شوقا من أعماق نفسي إلى حياة عائلية مستقرة، كنت أتمنى لو بقيت في موسكو؛ لأنها بدت أمام عيني جنة بالقياس إلى سائر أنحاء البلاد، ولقد اقتضاني السعي إلى تحقيق هذه الغاية بعض مناورات لبقة وشيئا من نفوذ سياسي استخدمت فيه «أندريف» عضو الهيئة السياسية العليا، حتى تهيأ لي آخر الأمر أن أعين في منصب بموسكو، في مصنع تعديني في «فيلي» وهي في ضواحي العاصمة، وكان منصبا متواضعا يقع أدنى بدرجتين من المناصب التي شغلتها من قبل، لكني رضيت به لأنه كان في العاصمة.
كان هذا المصنع مما أنشئ قبل الثورة، لكنهم وسعوه وأدخلوا فيه الأساليب الحديثة في السنوات الأخيرة، وبه نحو ألف عامل، وهو يسمى بنفس الاسم الذي يطلق على الاتحاد الصناعي كله «جلافنر بستال» - أي رياسة صناعة الأنابيب - وأهم ما يصنع فيه شرائط وأنابيب من الصلب، ولما كان منصبي فيه مساعدا لكبير المهندسين، فقد وقعت على عاتقي تبعة الإنتاج فعلا.
كان كبار الموظفين الإداريين يعملون معا في هذا المصنع، ولبثوا في صحبتهم هذه أمدا طويلا؛ ولذلك تكونت منهم عصبة وثيقة العرى، أما مدير هذا المصنع فهو «مانتروف»، وهو رجل طويل أحمر الشعر قد انتثر وجهه كله بالبقع الجلدية، قوي البنية غليظها، علم نفسه بنفسه، وهو يميل إلى إخفاء جهله التام بكل ما يتصل بالجانب الفني من العمل، يميل إلى إخفاء جهله هذا بما يثيره من ضجة وعجيج، وكانت له بعض الشهوة اكتسبها في قتاله إبان الحرب الأهلية، ولم يزل يعيش على هذا الرصيد السياسي، فعلى الرغم من أنه قام برياسة مشروعات صناعية مدى أعوام طوال، فقد لبثت هذه المشروعات وكيفية سيرها لغزا لا يفهمه، بل كان أحيانا يرفض المهندسين الذين تكون لهم دراية بدقائق مثل هذه الأعمال.
كان صديقه الحميم وسنده الأول هو الرفيق «يجوروف» الذي كان أمين سر الحزب فيما يمس المصنع من شئون، كما كان رئيسا للقسم المخصوص بذلك المصنع، وهو رجل قصير مليء في منتصف عمره، له حاجبان كبيران منفوشان، يعتز بمكانته لاتصاله بالقسم الاقتصادي من الشرطة السياسية، فإذا ما اختال في مشيته خلال أجزاء المصنع ومكاتبه، مبديا ما استطاع أن يبديه من علامات النفوذ، تهامس العمال وراء ظهره قائلين: «ستالين الصغير»، أنفقت في جواره عاما كان لحاجبيه الهائشين خلاله أثر سيئ في قتل روحي كأنما ألقيا علي ظلا أطفأ سراج نفسي، وثالث أعضاء هذه العصبة الداخلية هو رئيس قسم النقابة، الرفيق «بابا شفيلي» وهو من أهالي جورجيا، قاتم اللون، في جبلته ميل نحو حبك الدسائس، أضف إلى هؤلاء الثلاثة محرر صحيفة المصنع ونفرا من أنصار الشيوعية العاملين، كل هذه الطائفة كانت تلعب معا، وتكون ما يشبه أفراد الأسرة الواحدة.
وفي عهد الوزير الجديد، «تفوسيان» صديق ستالين، بذلت جهود جبارة لزيادة الإنتاج، فكانت تصرف علاوات كبيرة جزاء على الوفاء بما يطلب صناعته في الموعد المطلوب، ثم تصرف مكافآت مالية زيادة على ذلك لمن بيدهم الإدارة على كل نسبة مئوية يزيدون بها على الإنتاج المطلوب، ولما كانت العصبة الداخلية في مصنعنا لا تستطيع أن تقرر لنفسها مكافآت دون أن يمتد نطاق تلك المكافآت بحيث تشمل كبار الموظفين الفنيين، فقد زودوني بوفرة من المال، حتى مرت شهور بلغ فيها مرتبي مضافا إليه العلاوات ما يزيد على أربعة آلاف وخمسمائة روبل، وعلى ذلك كانت مكاسبنا في الشهور الرابحة يساوي دخل العامل العادي عشرين مرة أو خمسا وعشرين.
لكن رغم هذه الثروة، كانت «الشقة» التي نسكنها تتألف من غرفتين صغيرتين في الطابق الأعلى من بناء ذي طوابق ثلاثة يقع في قلب المدينة، وهو رقم 5 شارع روز درفنكا الذي كان ذات يوم فندقا، وكانت طائفة من الأسر تحتل البهو بأثاثها وخدمها ومشاكلها المختلفة، فمن جيراني راقصة سابقة وابنتها وهي في سن الشباب، ورئيس عمال في مصنع وزوجته، وأرملة تاجر سابق وهي مترهلة الجسم ممرورة النفس، إذ لم يبق لها من ثياب سوى هلاهيل أثوابها الفاخرة فيما مضى، وموظف رفيع المنصب في إحدى الوزارات، وكان لبعض الأسر خدم، أما نحن فلم يكن لنا سوى خادمة لا تقيم معنا، لكنها تجيء لخدمتنا كل يوم.
وعلى الرغم من إقامتنا في جيرة ملاصقة لهذه المجموعة المتنوعة من أهل موسكو أعواما عدة، إذا اشتد التلاصق بيننا حتى ما فتئنا نشتبك ونضايق بعضنا بعضا؛ على الرغم من هذه الجيرة الملاصقة أعواما عدة لم نستطع التغلغل في نفوس هؤلاء الناس بحيث نعرفهم حق المعرفة، فقد كانت تكتنفنا موجة الريبة التي كانت تكتنف كل جماعة من هذا القبيل، اضطرت اضطرارا أن تعيش في مثل هذا التلاصق الذي يحرج الصدور، فمن كان يوهمه خياله أن الاشتراك في الشدائد يجذب قلوب الناس بعضهم إلى بعض، فإنه لم يعش قط في شقة في موسكو بالاشتراك مع سواه اشتراك الشيوع، بحيث يسكن المكان عدد أكبر مما يسعه المكان، كنا جميعا على كثرة أفرادنا نقتسم مطبخين وحماما واحدا ودورة مياه واحدة، كما كان لنا تليفون واحد في البهو المشترك، فكنا نصم آذاننا عن المشاجرات التي تنشب وعن أحاديث الغزل التي تدور وعن المناقشات التي ما فتئت قائمة حولنا، إذا ما دق التلفون سارع كل منا إليه، ولك أن تضيف إلى كل هذا ما ساورنا من شك في أن يكون بين هؤلاء الجيران مخبرون.
ولقد تبين لي بعدئذ بزمن طويل إبان الحرب، أن مخبر القسم السياسي في شقتنا هو أبعد السكان عن ريبتنا، فقد كان ذلك المخبر هو «سلينا» أرملة التاجر، فكانت تنصت إلى محادثاتنا التليفونية وتتسمع إلى كلامنا عند أبواب الغرف، ثم تقدم تقريرها بانتظام إلى القسم السياسي، ولا شك في أن ما دفعها إلى هذه الحرفة هو خوفها من أن يبعدوها إلى مكان قصي باعتبارها «معادية للشيوعية»، وكثيرا ما تساءلنا كيف يتاح لها أن تظفر بكميات إضافية من مواد التموين، لكن هذا التساؤل عرف جوابه حين عرفت فيما بعد مهمتها في مجتمعنا الذي كان يعيش في بهو واحد.
ولو استثنيت هذه المرأة، ووجدنا رغم كل المصاعب جماعة تربطها روابط الجيرة، فكنا سرعان ما ننسى خصوماتنا العابرة، شأننا في ذلك شأن أهل الروسيا الصميمين، وإذا ما هبط على أحدنا شيء من أسباب النكد، كنا جميعا على استعداد لمعونته.
ولا يتوهمن قارئ أننا - على الرغم مما أسلفت له - كنا نعيش عيشة الضيق بالقياس إلى ظروف الحياة في المدن الروسية، فقد كانت «إيرينا» مجدودة إذ ظفرت بمثل هذه الشقة في حي ممتاز بموسكو، وقاسمتها ذلك الحظ الجميل، حتى أوفق إلى مسكن في أحد المنشآت التي كانت إذ ذاك في طريق البناء، فكنت لا أنقطع عن الرجاء مرة والتحايل مرة لعلي أصيب ذلك التوفيق، وكان لنا في شقتنا تلك بيان وأثاث من خشب الكابلي الجيد وبسط ثمينة وبضع صور زيتية، فكان إذا ما زارنا من أصدقائنا من لم يسعدهم مثل حظنا، أخذوا يغبطوننا غبطة صادرة من قلوبهم على ما نحن فيه من حياة رغدة.
أقمت في هذا المكان ما يزيد على ثلاثة أعوام، استثن منها المدة التي قضيتها في الجيش الأحمر، فكانت هذه الأعوام الثلاثة أقرب ما عشته من أيام في حياتي العملية إلى الحياة العائلية المستقرة، كنت أشتغل في مصنع الأنابيب في «فيلي» ساعات طويلة من النهار، فكنت أشتغل من منتصف الساعة الثامن صباحا إلى العاشرة أو الثانية عشرة مساء، لكني في أيام العطلة، وفي الأمسيات التي أعود من العمل فيها في ساعة مبكرة نوعا ما، كنت أشعر مع «إيرينا» أننا قد ظفرنا آخر الأمر بحياة عائلية سعيدة.
وكنا نستقبل أضيافنا آنا بعد آن، أما أصدقائي فمعظمهم من أعضاء الحزب ومن موظفي الكرملن واللجنة المركزية العليا، ومن الأخصائيين الفنيين، بينما كان أصدقاء «إيرينا» من الدوائر الفنية والأدبية في موسكو، فلم يكن من اليسير على طائفة أصدقائي وطائفة أصدقائها أن تمتزجا امتزاجا تاما؛ لذلك باعدنا بينهما ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وربما كانت هذه المباعدة بين الطائفتين رمزا يدل على زواجنا الذي لم يؤد قط إلى اندماج تام عميق بيننا، حتى لقد تبين لي أن الفردين من الناس يستطيعان أن يتبادلا كل حب واحترام دون أن تندمج حياتهما في حياة واحدة.
وكانت مناشطي في المصنع وعملي في الحزب ومحاضراتي السياسية واجتماعاتي واهتماماتي الهندسية، كل هذه الأشياء كانت مما لم تألفه «إيرينا» في نوع حياتها واهتماماتها، فكانت دنياي ودنياها تتماسان لكنهما قلما تدخلتا، أضف إلى ذلك أن الموظفين السوفيت - حرصا على سلامتهم - يميلون إلى إبعاد زوجاتهم عن شئونهم الخارجية، مهنية كانت أو سياسية، إذ علمتهم التجربة أنه كلما قل علم الأسرة بعمل عائلها ومشاكله، كان ذلك آمن لسلامتهم في نهاية الأمر، فالموظفون في الدولة المطلقة السلطان، وسيوف التطهير والسجن مسلطة دائما على رقابهم، يحاولون أن يؤمنوا من يحبون، بألا يطلعوهم إلا على قليل من شئونهم، ذلك إن صارحوهم بشيء منها إطلاقا.
ومهما يكن من أمر، فالواقع هو أني قلما تحدثت إلى «إيرينا» في شئون عملي الصناعي، ولم أحدثها قط عن شيء من خواطري ووساوسي السياسية، على الرغم من أنها امرأة ذكية متقدة العواطف، وما أكثر ما كنت أتوق إلى التخفيف من عبء متاعبي بالحديث فيها، كنت أتوق إلى «إفراغ ما يضطرب في فؤادي كلاما»، لكن خوفي من أن تشاطرني خواطري السياسية «الخطرة» كان دائما يلجم لساني عن الحديث.
وكثيرا ما كانت تتوسل إلي قائلة: «قل لي يا عزيزي فيتيا، ما همومك الجاثمة على صدرك؟ ما الذي يشقيك؟ أيشقيك خطأ اقترفته أنا؟ أليس في وسعي أن أعينك على همومك؟ نشدتك الله إلا ما أنبأتني!» - «كلا يا حبيبتي، ليس لك في الأمر يد ولا إصبع، كل ما في الأمر أني أجهد نفسي في العمل فوق ما أطيق، فليس ثمة ما يدعو إلى القلق ...»
كيف يمكن لإنسان أن يطمع في حياة منزلية سوية في ظل ما تلقيه الحكومة المستبدة من عوامل الإرهاب في الرءوس؟
تسلمت ذات يوم في شهر يونيو خطابا من رياسة صناعة الأنابيب يستفسرني بعض المبالغ التي صرفها مساعدي للشئون التجارية أيام أن كنت في كمروفو، فاحترت في أمر هذا الخطاب، لكني لم أفزع له بادئ ذي بدء؛ لأني لم أدرك للوهلة الأولى أن هذا الخطاب كان نتيجة مؤامرة محبوكة للانتقام مني، دبرها «جولوفاننكو» وآخرون ممن أسأت إليهم إساءة لم أراع فيها شيئا من اللباقة.
إنه بمقتضى القانون السوفيتي، يخول لطوائف معينة ممن يشغلون مناصب عالية في أجزاء نائية من البلاد مثل الشرق الأقصى وسيبيريا، أن يتقاضوا مبالغ إضافية كبيرة عند تعيينهم في مناصبهم، لقاء ما يتكلفونه من نفقات الانتقال وغيرها، وإنما تتحدد مقادير هذه المبالغ وفق اتفاقات شخصية رسمية بين كل فرد على حدة وبين إدارة المشروع الذي يستخدمه، ولقد حدث في حالات كثيرة أنه لم يكن هناك مثل هذه العقود لتحديد المبالغ التي اقتضتها الأعمال في مصنعي.
ولذلك رأى مساعدي كما رأى كبير المحاسبين أن هذه العقود لم تكن ضرورة، فحسبنا - في رأيهما - قانون ممهور بتوقيع «كوزفنكوف»، والواقع أنني - شخصيا - لم أستخدم هؤلاء الناس الذين أثير حولهم السؤال، ولم أصرح لهم بصرف شيء من المال، ولكن ذلك لم يكن لينجيني من التبعة، فباعتباري رئيسا للمشروع، عدوني مسئولا من الوجهة الفنية عن هذا السهو، واتهموني بصرف مبالغ من الرصيد لا يقرها القانون، وتلك جريمة عقابها ثلاثة أعوام كاملة تقضي في غيابة السجون.
وظاهر أن المؤامرة التي حبكت لإيقاعي في هذا الاتهام الذي لا يسيغه عقل سليم، قد دبرت بغير علم من «كوزفنكوف»؛ لأنني حين أسرعت إليه بالخطاب بدت عليه علائم الارتباك والدهشة، وقال لي: إن الاتهام لا يستند على أساس، ولا ينبغي أن يكون له في نفسي صدى، لكنه أحس أنه إذا ما تدخل في الأمر كان بمثابة من يتصدى للدفاع عن إهمال في العمل وقع في الهيئة التي يشرف عليها.
واقترح علي قائلا: «لا تزد على أن ترد على الخطاب بما استطعت من حيطة، ولا تفكر في الأمر بعد ذلك، فلست أتصور أن الأمر سيخطو بعد ذلك خطوة، لأنه أوهى أساسا من أن يفعل.»
لكنه أخطأ الظن، فقد مضى شهر وحسبت أن «الجرائم» التي وجهت إلي قد أهملت، غير أني ما لبثت أن جاءني إعلان بأن وزارة التعدين قد رفعت أمري - باسم إيفان تفوسيان نفسه - إلى محكمة الشعب، وهكذا وجدت نفسي متهما في قضية جنائية خطيرة في المحاكم المدنية العادية، وتهمتي هي «جريمة» لم تكن لي بها أدنى صلة على الإطلاق، إلا إن كانت صلتي بها قد وقعت بغير علم مني، وكان شريكي في هذه التهمة هو «مانفيف» كبير المحاسبين في مشروع كمروفو، ولم يكن بين المتهمين مساعدي للشئون التجارية الذي قام فعلا بصرف تلك المبالغ.
وحاولت أن أصل إلى كثير من الموظفين في المحكمة لعلي أبطل القضية من أساسها، وكانوا جميعا يتفقون معي على أن القضية ظاهرة البطلان، لكن مهما يكن من أمر بطلانها فهي اتهام آت من «تفوسيان» نفسه، الذي لم يكن وزيرا من وزراء الشعب فحسب، بل كان ما هو أهم من ذلك، إذ كان نجمه صاعدا في سماء ستالين، وإذن فيستحيل على عجلة «العدالة» أن تقف، ولا بد لي من السير في إجراءات المحاكمة كلها، لا بل أن كل من علم بالموقف تشاءم بنتيجته؛ لأنه إذا ما اتهم مواطن مواطنا آخر فله أن يؤمل في محاكمة حقيقية في المحاكم السوفيتية، أما إن كانت الحكومة هي التي تتهم فردا من الأفراد، فالأغلب ألا تكون أمامه فرصة كبيرة للنجاة، إذا لم تكن الغاية الأساسية التي يرمي إليها التشريع السوفيتي هي بتحقيق العدالة المجردة، بل غايته «الدفاع عن الدكتاتورية الشعبية» وهي عبارة معناها الدفاع عن نظام الحكم القائم.
بدأت المحاكمة بسلسلة من التحقيقات كانوا خلالها يستحثونني على الاعتراف بجريمتي.
قال لي مرة أحد رجال النيابة التابعين للقسم السياسي: «لا تكن أحمق يا رفيقي كرافتشنكو، تجنب المحاكمة وعالج الأمر بنفسك، فذلك قمين أن يخفف عنك العقوبة كثيرا.» - «ولكن كيف أعترف بجريمة لم أكن أعلم عنها شيئا؟ يستحيل علي أن أسجل على نفسي جريمة بسبب إجراءات سخيفة، إن المبالغ صرفت بموافقة رسمية موقع عليها من رياسة صناعة الأنابيب.»
لم يكن ليدور بخلدي أن التحقيق في مثل هذه القضية يتم على أيدي رجال الشرطة السياسية لا قاضي المحكمة، إذ لم يكن في الاتهام شيء يتعلق بالسياسة، لكنه حيثما يكون في البلاد حزب هو الذي يسن القانون وهو الذي يقوم على تنفيذه أيضا، فتوقع كل شيء ولا تعجب لشيء. - «إذن ففي هذه الحالة لا بد لك أن تواجه المحاكمة.»
وقبل موعد المحاكمة بأربعة أيام، طلبت من «هيئة محامي الدفاع الرسمية» محاميا؛ لأنه ليس في بلادنا نظام قضائي فردي خاص، فعليك أن تخاطب هيئة المحامين الرسمية المختصة بالإقليم الذي تقيم فيه، وهي التي تعين لك محاميا لا بد أن تقبله، ثم تدفع له الرسوم التي تقررها هيئة المحامين، وبالطبع ما دام المحامي لا يؤجر كل شهر إلا راتبا ضئيلا، فالذي يحدث هو أن تدفع له من عندك جزاء إذا استطعت أن تصل إليه في هذا الصدد، على ألا يعلم أحد بذلك الأمر بينكما.
قابلت في هذا الشأن امرأة أخذ منها الملل كل مأخذ، تثاءبت في وجهي وأصغت إلى طلبي إصغاء ما أظنها فهمت به مما أقوله كثيرا.
ثم صاحت عبر الغرفة إلى رجل دفين في أكداس من أوراق: «بتروف! هذه قضية تقع تحت بند 109، والمحاكمة بعد أربعة أيام، فهل تستطيع الاضطلاع بها؟»
فصاح بتروف مجيبا: «كلا، لا فراغ عندي لها.»
فقالت: «لا بأس فسأبحث عن محام آخر.»
وأخيرا عينت لي محاميا، لم أكد أتصل به حتى أحسست بخيبة الرجاء، كان لا بأس بأدبه، ضئيل الجسم، له عينان زائغتان وخدان غائران، كسير النفس يعتذر إذا ما بدرت هفوة منه، فما أن سمع أن التهم وجهت إلي من «تفوسيان» حتى تغيرت ملامح وجهه في تعبيرها، فرأيت فيها معنى اليأس بعد أن كنت ألمح شيئا من الفلق؛ ذلك لأن المحامي عند السوفيت لا مندوحة له إذا ما أراد أن يكون بنجوة من الخطر عن مناصرة الحزب والدولة على موكله؛ لهذا لم يطمئن محامي الضئيل الفزع لما كلف به من معارضته وزيرا من وزراء الشعب، لا بل صمم ألا يلعب هذا الدور الخطير.
اجتمعت محكمة الشعب في غرفة مشعثة رديئة التهوية، تقع في الطابع الثاني من بناء كان من قبل - فيما يظهر - مدرسة، وعلى جدرانها ذات الطلاء الأصفر الشاحب انتثر الذباب إلا حيث تقشر الطلاء، وبالطبع امتلأت الغرفة في كل أرجائها بصور لستالين وغيره من الزعماء، انتظرت وإلى جانبي «مانفيف» ومحاميانا، وكان معنا نيف وعشرون شخصا كانت قضاياهم مسجلة في جدول المحاكمات ذلك اليوم.
وصاح حاجب بأعلى صوته: «المحكمة آتية، وقوفا.»
ووقفنا لما دخل رجلان وامرأة من الباب الخلفي وجلسوا إلى منضدة ملفوفة بغطاء أحمر قائمة على منصة عالية، ولبثت عدة ساعات أرقب إجراءات المحكمة في قضايا من سبقوني إلى المحاكمة، فالقاضي - وهو رئيس الجلسة - موظف قضائي دائم، وهو الذي يقوم بتوجيه معظم الأسئلة، وأما الاثنان الآخران «فيمثلان الشعب»، وهو نظام شبيه بنظام المحلفين في الأقطار الأنجلو سكسونية، وفي هذه الحالة بالذات كان ممثلا الشعب عاملا شابا قلقا في جلسته شديد الإحساس بنفسه لما ألقي عليه من شرف حمله فادح لقواه، وامرأة تقدمت بها السن رجحت أن تكون كاتمة سر في أحد المكاتب، ولم ينبس أي منهما ببنت شفة.
وبعد أن يفرغ القاضي الرئيس من استجواب المتهم، يأخذ وكيل النيابة ومحامي الدفاع في إلقاء خطب مشتعلة بالحماسة العاطفية - فالخطابة العاطفية من تقاليد القضاء السوفيتي - وبعدئذ ينسحب القضاة الثلاثة، ثم يعودون بعد لحظات قصار لينطقوا بالحكم.
ولما جاء دوري ودور «مانفيف» في الاستجواب، وجدت أن استجوابنا يسير في نفس الاتجاه الذي سار فيه التحقيق المبدئي، وكنت قبل ذلك لا أصدق أبدا أنه من الجائز أن يزج بي في السجن فعلا على مثل هذا الأساس الواهي، لكني لما رأيت مجرى المحاكمة هوى قلبي إلى أعماق جوفي، إذ وجدت أن عقيدتي في براءة نفسي ليس لها بجوهر الأمر شأن كثير أو قليل، فالوضع كما يبدو لعين المحقق هو أني «بددت أموال الحكومة»، هذا ما يقوله الوزير وما يظهر من كل ظروف القضية.
ولما فرغ القاضي من توجيه الأسئلة إلي، أحسست كأنما أطبقت علي جدران السجن، ثم تناولني وكيل النيابة، وكان رجلا بدينا ذا شعر كث على رأسه، فشعرت أنه ينظر نظرة المقت لشخصي إذ رآني مرتب الهندام، كأنني مسئول بوجه من الوجوه عن كونه مطالبا بإعالة أسرة براتب قدره ستمائة روبل كل شهر.
سألني في عرض حديثه: «كم كنت تتقاضى في كمروفو؟» - «كان متوسط راتبي في الشهر ألفين وخمسمائة روبل، وقد أزيد أحيانا.»
فهز رأسه المشعثة هزة من عثر على دليل قوي يؤيد اتهامه لي، ونظر إلى القضاة نظرة لها معنى: «وكم تتقاضى الآن؟» - «ثلاثة آلاف أو أربعة، بل قد تبلغ خمسة آلاف ... الأمر يختلف.»
فهز وكيل النيابة رأسه مرة ثانية ليدل على أن كلامي قد بلغ صميم نفسه، وزم شفتيه ساخرا متهما، ويخيل إلي أنه اشتم في ذلك أساسا غامضا يبني عليه اتهامه، مع أنه أساس يتصل بحالته المريرة بسبب فقره، ولا يتصل أبدا بالقضية التي بين يديه. - «انظروا يا حضرات القضاة في أي رغد يعيش!»
هنا لم أستطع أن أظل على كتمان ما بنفسي، فسألته: «لكن ما علاقة هذا بالتهم، إنني أدير مصنعا كبيرا وأتقاضى مرتبي وفق القانون.» - فأمرني القاضي الرئيس قائلا: «أرجو من المتهم ألا يقاطع المتكلم، إننا نثق بوزارة الشعب التي توجه الاتهام - كما قال وكيل النيابة - أكثر مما نثق بك.»
كانت كلمة وكيل النيابة عالية الصوت شديدة الركون إلى الهوى، وكان المتكلم يحرك جسده مع الكلام حركات عنيفة، ولقد نقب في صفحات الأدب تنقيبا، كما بحث في خطب «الزعيم» ليستخرج الأصباغ القاتمة التي يلطخ بها هذين «الوحشين» اللذين «بددا أموال الشعب»، ولو سمع الذي قيل أجنبي لا علم له بالحقائق لما تردد في افتراض أن «مانفف» المسكين وأنا قد نهبنا الملايين ثم ختمنا الجريمة باغتيال المنهوب، وطلب الخطيب من المحكمة أن تعاقبنا بالسجن ثلاثة أعوام ونصف عام، ولم يبين لماذا تكون المدة ثلاثة أعوام ونصف عام، لماذا لا تكون خمسة أعوام؟ بل لماذا لا تكون العقوبة إعداما؟ كان الموقف كله عندي بمثابة حلم مخيف، ولم أدر متى أستيقظ منه.
والحق أن محامي قد بذل في الدفاع عني جهدا جبارا، إذا تذكرنا ما تقتضيه منه عضويته للحزب من واجبات، ومع ذلك فما كان يسعك إلا أن تحس إحساسه، وهو إحساس بالهزيمة قبل أن يبدأ المعركة، وأنه إنما يتناول الأمر إتماما للصورة الشكلية، لم يناقش نقطة الاتهام - فحتى محامي قد سلم بصحته تسليما - لكنه التمس تخفيف العقوبة نظرا لحسن نيتي فيما صنعت يداي!
غاب القضاة نحو عشر دقائق ثم عادوا بالحكم: السجن سنتان مع حق الاستئناف خلال سبعة أيام، وهكذا حكم علي «بالإجرام»؛ لأن شخصا ما في مكان ما من ديوان صناعة الأنابيب في موسكو قد عقد إجراءات العمل! وزير وقع على قطعة من الورق وضعها على مكتبه مرءوس متحمس، وبعدئذ تتابعت فصول الملهاة تتابعا آليا من تلقاء نفسها، إني لعلى يقين من بشاعة هذه الصورة التي أرسمها، لكنها وا أسفاه صورة الواقع كما جرى، كان القاضي الرئيس ووكيل النيابة قبل كل شيء عضوين في الحزب، ثم كانا فوق ذلك يعالجان اتهاما لم يقدمه وزير فحسب، بل هو كذلك عضو في لجنة الحزب المركزية، فأين ملاذ العدالة في مثل هذه الظروف؟
وقدم محامي استئنافا نيابة عني، وبهذا أرجئ القبض علي، ولبثت بضعة شهور أستدعى للتحقيق حينا بعد حين أمام هيئات قضائية مختلفة، حتى إذا ما جاءت أوائل الربيع من عام 1941م عقدت جلسة في محكمة المدينة الرئيسية، وللمرة الثانية أبيت أن أعترف بجريمتي، وتداولت المحكمة في قضيتي، وبعد ثلاثين دقيقة أعلنت حكمها وهو يقضي بتخفيض الحكم الأول إلى عام واحد «أقضيه في عمل بالسخرة في المنصب الذي أعمل فيه الآن».
هذا ابتكار قضائي سوفيتي فريد، ومؤداه أن يظل المتهم الذي ثبتت إدانته طليقا في حياته وعمله، وكل ما في الأمر أن يقتطع من كسبه عشرة إلى عشرين في المائة تصبح من حق القسم السياسي، وقد حدد ما يقتطع مني بعشرة في المائة، وهكذا يضطر عشرات الألوف من الروس بهذه الحيلة العجيبة أن يدفعوا شطرا من دخلهم جزية للشرطة السرية تحت ستار العقاب على جريمة.
وجاء إعلان بحالتي الجديدة إلى قسم الحسابات في المصنع، فأخذوا يقتطعون من راتبي وعلاواتي عشرة في المائة كل شهر، يضيفونها إلى خزانة القسم السياسي، وظلوا كذلك منذ ذلك التاريخ حتى قضت المحكمة العليا ببطلان القضية من أساسها.
وأريد الآن أن أغض الطرف عن تتابع الحوادث؛ لأختم قصتي في الفترة التي كنت فيها «مجرما»، ذلك أني استأنفت فورا إلى المحكمة العليا، ولو أنه لما حان حين النظر في قضيتي كانت الحرب قد ظللتنا وأصبحت موسكو هدفا للمدافع النازية، وانتقلت المحكمة إلى جبال أورال، فأدى هذا الانتقال إلى اضطراب الأوراق المحفوظة في المحكمة اضطرابا كان من نتائجه أن ضاع استئنافي ولم يعثروا له على أثر.
وحدث أن التحقت بالجيش الأحمر في رتبة اليوزباشي بإحدى الوحدات الهندسية، مع قيامي في الوقت نفسه بعمل سياسي رئيسي، لكن «إيرينا» تولت أمر قضيتي، ولم تكن العشرة في المائة هي التي تحفزنا للعمل، بل حافزنا هو أن نمحو هذه الوصمة من صحيفتي، ولم ألبث بعد تركي خدمة الجيش في الجزء الأول من عام 1942م أن راجعت المحكمة العليا قضية كرافتشنكو، ونقضت أحكام المحكمتين الأوليين، وقضت ببراءتي التامة، وبهذا أسدل الستار نهائيا على قضيتي.
ولولا هذه البراءة لكان من الجائز ألا يؤذن لي قط بالعمل ممثلا لمجلس وزراء الشعب، ولكان من المحتم ألا يسمح لي بترك البلاد، ومضت الأيام ونسيت العداوة التي كانت مبعثا لتوجيه تهمة «الإجرام» إلي، حتى لقد صادفت «جولوفاننكو» في ديوان صناعة الأنابيب، فكاد ألا يذكر أنه غضب مني ذات يوم، لكن الشر لما فك عقاله، مضى في طريقه مدفوعا بغير دافع من خارجه، حتى أوشك أن يقوض من حياتي بنيانها.
الفصل الثاني والعشرون
حرب لم تكن في الحسبان
في صباح اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة 1941م كانت الطائرات تلقي قنابلها على المدن والمطارات السوفيتية كما كانت الجيوش السوفيتية قد استولى عليها الذعر وبدأت تتقهقر أمام فرق الهجوم النازية في جبهة عظيمة الطول، ونشرت صحف العالم كله في صفحاتها الأولى أخبار الهجوم الألماني المفاجئ على الروسيا بحروف ضخمة، وقبل أن تشرق شمس الصباح في ذلك اليوم كانت الشرطة السوفيتية السرية تلقي القبض على عشرات الآلاف من «غير المرغوب فيهم» في طول البلاد وعرضها.
ولكنني لم أكن أعرف شيئا عن الكارثة التي نزلت على رءوس المائتي مليون من أهل بلدي، ولم يكن أحد من رجال المصنع الذي أعمل فيه أكثر مني علما بها حين وصلت إلى مكتبي في الصباح الباكر من ذلك اليوم، وسبب هذا أن أخبار اليوم السابق كانت لا تزال تشيد بفعال جيوش هتلر الباهرة وبالهزائم التي مني بها أعداؤه «الذئاب الرأسماليون» و«تجار الحرب البلوتوقراطيون».
وظلت الدعاوة الرسمية في الأشهر السابقة لهذا الهجوم مباشرة - كما كانت من قبل - لم يطرأ على نغمتها أقل تغيير، ولم تكن فيها كلمة عطف واحدة على الأمم التي اجتاحها النازيون، ولم يجرؤ أحد على أن يوجه كلمة لوم إلى الغزاة الهتلريين؛ ذلك أننا لم نكن نستطيع أن نجهر بما نشعر به من العطف على ضحايا الاعتداء النازي وإن كان آلاف الروس قد أحزنهم وآلم قلبهم ما حل بهؤلاء الضحايا من بلاء عظيم، وكنت أنا نفسي قبل بضعة أيام من ذلك الصباح المشئوم أتحدث إلى جماعة في مصلحة استيراد الآلات التابعة لوزارة التجارة الخارجية، وكنا وقتئذ نتناقش في موضوع آلات اللحام الكهربائية المرسلة من ألمانيا إلى الاتحاد السوفيتي.
وقد ألقيت أنا نفسي خطابا عن «الحرب الاستعمارية» قبل الغزو بيومين - أي في وقت 20 يونيو - على جماعة من العمال والموظفين في اجتماع سياسي عام، وسرت في خطابي هذا على الخطة المرسومة، فأعدت على مسامع المجتمعين ما كان يقوله غيري من الخطباء، وهو أن ألمانيا قوية الرغبة في السلم رغم انتصاراتها الباهرة، ولكن دعاة الاستعمار البريطانيين تؤيدهم الأموال الأمريكية يصرون على إطالة أمد الحرب.
ولم أكن أنا ولا أي إنسان آخر خارج دائرة الكرملن الداخلية يعرف أن وزارة الخارجية في واشنجتن قد لفتت أنظار قنسطنطين أو مانسكي سفيرنا في أمريكا إلى أن هتلر يستعد للانقضاض على الروسيا، وأن هذا التحذير قد كرر مرة أخرى مستر سمنر ولز بعد خمسة أسابيع من ذلك التاريخ وأيدته المصادر البريطانية، ولكن ولاة الأمور الروس أشاحوا بوجوههم عن هذه النذر قائلين: إنها من دسائس الرأسماليين التي يقصدون بها القضاء على الصداقة المتينة التي أحكم عراها ميثاق هتلر-ستالين.
وكان عيون السوفيت في ألمانيا قد أرسلوا بمثل هذه النذر إلى رؤسائهم، فأبلغوهم عن حركات بالغة الخطورة تقوم بها الجيوش الألمانية في اتجاه الحدود الروسية على مدى واسع لا يمكن أن يكون القصد منه مجرد حفظ الأمن في البلاد، وكان لي أنا نفسي معارف كثيرون بين موظفي المصانع وإدارات التموين التي تنتج البضائع لآلة الحرب النازية، فكنت لهذا السبب على اتصال دائم بالممثلين التجاريين العائدين توا من برلين، وكان هؤلاء كلهم قد حذروا من نوايا هتلر، فقد قال لهم الألمان بصريح العبارة في إحدى المناسبات أن لا مفر من الصدام بين الروس والألمان، ولكن ستالين وبطانته أبوا أن يصغوا لهذه النذر أيضا، وقالوا إنها كلها ألاعيب ودسائس خبيثة لا يقصد بها إلا السوء، كأنهم جميعا قد استناموا لدعاوتهم.
لقد كان كل ما يسمح لجمهرة الشعب الروسي أن تعرفه عن العلاقات الروسية الألمانية هو أن التعاون بين السوفيت والنازيين نعمة من أجل النعم، وأن الذين يرتابون في هذا إنما يرتابون في عصمة ستالين من الزلل، وكان التحدث بأن الألمان قد يغدرون بالزعيم لا يقل شناعة عن الحديث ضد الثورة، وكان الذين يجهرون بالعطف على ضحايا الإجرام النازي يعرضون أنفسهم للاعتقال والتشريد.
وهكذا اقترب اليوم التاريخي المشهود دون أن تسبقه أقل شائعة تعرقل سيره السهل الرتيب، وكان العمل في مصنعنا قائما على قدم وساق حين طلب إلينا أن نقفه لكي نسمع خطبة خطيرة يذيعها الرفيق مولوتوف، ولم يكن ذلك من الأعمال المألوفة، فسرت في المصنع بسببه موجة من الرعب، وأخذ كل منا يحزر ما عسى أن يكون موضوع خطبة وزير الشئون الخارجية، ولكن لم يكن منا من صدق حدسه فتنبأ بهذا الخبر الرهيب.
فلما سمعنا الألفاظ التي نطق بها مولوتوف بلسان متلجلج وصوت تخنقه العبرات طار صوابنا من هول ما سمعناه، وماذا عسانا أن نستنتج من هذا النبأ الذي أثار مشاعرنا واضطربت له قلوبنا؟ لقد أطلق الفهرر المخادع الغادر الوغد الغبي كلابه الضارية على البلاد التي ظلت قرابة عامين تضن على نفسها بالطعام الذي هي في أشد الحاجة إليه، وبالوقود والمعادن والزيت والذخائر الحربية لتعينه على إخضاع أوروبا، لقد كنا حريصين أشد الحرص على الوفاء بعهودنا والتزاماتنا، فلم نقدم للنازيين ما يلزمهم من البضائع فحسب، بل أعناهم أيضا بالدعاوة الواسعة في أنحاء العالم وبالضغط الدبلوماسي؛ فكان جزاؤنا منهم ذلك الغدر الشنيع.
وما هي إلا ساعات قلائل حتى قبل علينا خطيب من خطباء الحزب، فدعونا العمال كلهم للاجتماع في عطلة الغداء، وجلست على المنصة مع منتوروف مدير المصنع ومع بجوروف رئيس لجنة الحزب فيه، وأخذت أتفرس في وجوه عمالنا المتعبين المكتئبين بينما كان الخطيب يندد بغدر الطاغية الألماني ويمجد أمانة الطاغية الروسي، فلم أبصر في وجوه القوم سوى الغضب والفزع إلى جانب الإعياء والحيرة والحزن الشديد، وأخذ بعض العمال يبكون من فرط التأثر.
وخطبنا منتورف وبجورف فكررا على مسامعنا في عبارات ضعيفة سمجة النداءات الجديدة العجيبة، ولم يكن من السهل علينا ما بين عشية وضحاها أن نذكر «الدول الديمقراطية» من غير أن نسخر منها، ولا أن نهاجم الألمان الذين كانوا بالأمس فقط ضحايا دعاة الحرب الاستعماريين، وبدا لنا أن وصف إنجلترا وفرنسا على هذا النحو الفجائي بأنهما شريكتان لنا في قضية عامة من أعظم الأمور غرابة، بعد أن ظللنا أمدا طويلا نرى فيهما أعظم المهددين لسلامتنا القومية.
وذهل العمال لهذه الأنباء وطار صوابهم، فكانوا يصفقون للخطباء في غير حماسة عند الوقفات المناسبة، ثم عادوا بعد سماع الخطب وهم ذاهلون إلى مخارطهم ومكاتبهم ولوحات رسومهم، وأخذنا نعمل كمألوف عادتنا إلى آخر النهار، على أن الحرب والجيوش الغازية قد أيقظت على ما يظهر بعض العقول من سباتها الطويل، وشاهد ذلك أن سرجي جلفليوف أحد المهندسين الكهربائيين وأحد أعضاء الحزب أقبل علي بعد الاجتماع وقال لي: «ها نحن أولاء قد جاء دورنا الآن، لقد كنا يا فكتور أندريفتش طوال السنين الماضية نحيا حياة شاقة ملؤها الحرب والثورة والدمار، ومشروع الخمس سنين، والجوع والتطهير، وها نحن أولاء قد عدنا الآن إلى الحرب؟ ألم يأن لنا أن نعيش كما يعيش غيرنا من الآدميين ؟»
فأجبته قائلا: «إن علينا أن نعمل يا رفيق جلفليوف وألا نمل العمل، وليس لنا من سبيل غير هذه السبيل.» - «هذا حق لا شك فيه، إن علينا أن نعمل وأن نحارب، ولكن الإنسان لا يسعه إلا أن يفكر ...»
فقلت له في لهجة رسمية حتى لا أعرض نفسي لشيء من الخطر: «خير لك أن تعود إلى عملك، إن لهذا الحديث وقتا غير هذا الوقت.»
وأبلغت وأنا في مكتبي بعد ظهر ذلك اليوم أن فاديم ألكسندروفتش سمليا نينوف ملاحظ النوبة متغيب عن عمله، وأنهم لم يستطيعوا الاتصال به تليفونيا، فأمسكت بسماعة التليفون وطلبت رقمه.
وسألت: «هل هذه شقة سمليا نينوف؟»
فرد علي بعضهم ردا صارما: «هذه شقة سمليا نينوف سابقا.» - «أرجو أن تدعو سمليا نينوف ليكلمني.» - «من أنت؟» - «أنا مساعد كبير المهندسين في المصنع الذي يعمل فيه.» - «إنه ليس هنا، ولن يعود بعد الآن.» - «من الذي يخاطبني؟ إني أتكلم بصفة رسمية.»
وأنا أيضا أتكلم بصفة رسمية وأنا من رجال القسم السياسي (ن. ك. ف. د.
N. K. V. D. ).
فألقيت السماعة من يدي، إذن لقد اعتقل صديقي سمليا نينوف واختتمت حياته الثورية الطويلة! لقد كان سمليا نينوف مهندسا قديرا غزير العلم جم النشاط في الحركات الثورية، وقد أهلته هذه الصفات كلها لأن يكون أمين سر لينين، ثم عين فيما بعد رئيسا لمكتب رياسة الوزراء ثم رئيسا لمصلحة التعمير في مجنى تستروي، ثم رئيسا للوفد التجاري السوفيتي في الولايات المتحدة، ثم مديرا لمعهد جيروفير العظيم للصناعات المعدنية، وجملة القول أنه كان من أعظم الشخصيات البارزة في العهد السوفيتي، فلما كانت حركة التطهير الكبرى أخرج من الحزب، وأنزل إلى مرتبة مساعد لرئيس العمال في مصنعنا، ثم ارتقى أمين سر لينين السابق حتى صار على مر الأيام رئيس عمال، ثم وصل أخيرا إلى منصب ملاحظ النوبة، وأعيد إلى الحزب منذ زمن قريب، وكان ابنه الوحيد جاويشا في الجيش الأحمر، وكان وقتئذ في ميدان القتال، والآن قبض على سمليا نينوف.
ولكنه لم يكن إلا أول من عرفت من ضحايا عهد الإرهاب الجديد الذي بدأ في الأيام الأولى من الحرب، والذي امتلأ بضروب من القسوم منقطعة النظير، فقد اختفى بعده من حولي عشرات من الناس في الأيام التالية.
وكان صديق لي من رجال القسم السياسي قد أخبرني قبل هذا الوقت بزمن طويل أن جميع «العناصر الخطرة» سيقضى عليها إذا نشبت حرب، وأن قوائم سوداء طويلة قد أعدت في كل قرية وبلدة ومدينة، وأن مئات الآلاف من الأهلين سيقبض عليهم، ولم يكن في هذا القول شيء من المبالغة، فقد كانت تصفية «أعداء البلاد من أهلها» حقيقة لا ريب فيها، وكانت هي الجزء الوحيد من الجهود الحربية التي أنجزها القوم على عجل وعلى أتم وجه في المرحلة الرهيبة الأولى من مراحل الكفاح المرير، لقد كانت هذه عملية تطهير للمؤخرة، سار فيها القوم على خطة محكمة، وضعت مقدما بناء على أوامر ستالين نفسه.
ولقد أتيح لي بعد عدة سنين من ذلك الوقت أن أستمع إلى ذلك القول السخيف الذي لا معنى له، والذي يصدقه على ما يظهر أصحاب العقول المستنيرة من الأمريكيين أنفسهم، وهو أنه لا أثر في الروسيا ل «الطابور الخامس»؛ لأن عمليات التطهير الدموية الحكيمة قد استأصلت كل «الخونة» مقدما، لقد قرأت هذا السخف البذيء في كتاب عجيب يمت إلى الأدب ببعض الصلة، كتبه جوسف ديفز السفير الأمريكي السابق، كما قرأته في كتابات صغيرة لغيره من الكتاب الذين يظنهم الناس على جانب عظيم من العلم بهذا الموضوع، وهم أشد الناس جهلا يخطط ستالين السياسية وبأساليب حكمه، وما كان أشد عجبي من نجاح هذه الدعاوة الصبيانية المصدرة من موسكو بلا ريب.
وأقول «مصدرة»؛ لأن حكومتنا قد سلكت في داخل الروسيا مسلكا يناقض هذا كل المناقضة، فقد أعلنت على الملأ أن أمتنا يتغلغل فيها الطابور الخامس، ولم تكد تعلن الحرب حتى أخذت الصحافة والإذاعة والخطابة تنادي بإعدام الخونة من أهل البلاد، والجواسيس، والذين يعملون لإشاعة الفوضى في أنحائها ويروجون الشائعات الكاذبة، ويعطلون الإنتاج القومي، وعلى صنائع الفاشيين وأمثالهم، وكان جواب القسم السياسي على هذا النداء هو اعتقال الناس جماعات وإعدامهم، حتى لقد انطبع في ذهني في الأيام الأولى من الحرب على الأقل أن الكرملن لم يكن يرهب رعاياه أقل مما يرهب الأعداء المغيرين.
والحق أن البلاد لم يكن فيها طابور خامس إذا قصدنا بهذا اللفظ الخونة والمناصرين للألمان، على الرغم من حوادث التطهير التي أغرقت البلاد في بحر من الدماء، ولكن كان فيها آلاف الآلاف من الوطنيين الذين يمقتون طغيان ستالين وما جره على أهلها من ضروب الشر والفساد ، ومن هذه الناحية وحدها كان خوف العصبة الحاكمة خوفا له ما يبرره.
ذلك أن الوحشية التي نفذ بها نظام المزارع الجماعية، والقحط الذي حل بالبلاد بين عامي 1931م، 1933م والذي كان من صنع حكامها، وما حدث في سني التطهير من قسوة يعجز عن وصفها البيان، كل هذا قد ترك في صدور أهل البلاد جروحا متنسرة لا تندمل، لقد كانت البلاد كلها لا تكاد توجد فيها أسرة واحدة لم تفقد أحد أبنائها في الحرب التي شنها حكامها على أهلها، ولم يكن ما يشغل بال ستالين ورفاقه هو ولاء الأهلين لروسيا، بل كان الذي يقلقهم ويقض مضاجعهم هو ولاء البلاد لهم دون غيرهم، وكان من حقهم أن يقلقهم ذلك ويقض مضاجعهم، ولعلهم في أحلامهم المزعجة رأوا عشرين مليونا من العبيد قد حطموا فجأة جدران السجون، وقطعوا الأسلاك الشائكة المنصوبة حول حظائر الاعتقال، وساروا في جحافل جرارة يدمرون ويخربون، تغلي في صدرهم مراجل العداوة والانتقام.
ومهما يكن من شيء فإن قمع كل معارضة يمكن أن تنشأ في المستقبل بلا رحمة ولا هوادة كان له المكان الأول في خطط الحكومة، وكان لأعمال القمع السبق على وسائل الدفاع العسكري عن البلاد، وعملا بهذه الخطة قبض على المواطنين السوفيت الذين هم من أصل ألماني، مهما يكن هذا الأصل بعيدا، ولم يترك منهم فرد واحد من غير اعتقال، وأخرج سكان جمهورية الفلجا الألمانية على بكرة أبيهم، وكانت عدتهم نحو نصف مليون من الرجال والنساء والأطفال، من البلاد التي ظلوا يعيشون فيها من أيام كاترين الكبرى، وشتتوا في أنحاء سيبيريا والشرق الأقصى، ثم جاء من بعدهم دور البولنديين وسكان البلاد الواقعة على البحر البلطي، وغيرهم من السكان الذين لم يتعرض لهم أحد بسوء قبل نشوب الحرب، وامتلأت المعتقلات ومعسكرات السخرة بمن جاءوا إليها من الملايين الجدد، وملاك القول: إن حكامنا كانوا في ذلك الوقت أشبه بقطيع من الذئاب المروعة.
وعقدت بعد بضعة أيام من نشوب الحرب «محاكم عسكرية» في موسكو برياسة الرفيق فزنيف كبير قضاة محكمة المدينة السابق، وسرعان ما تفرعت من هذه الأداة الإرهابية الجديدة فروع في العاصمة وضواحيها، وحذت حذوها سائر المدن الروسية، وتغلغلت الأداة الجديدة في جميع نواحي الحياة السوفيتية وخولت سلطات واسعة، فكان لها أن تأمر باعتقال الناس، وأن تحاكمهم سرا، وتقضي عليهم بالإعدام، وأنشئت أيضا محاكم خاصة للسكك الحديدية، وأخرى للنقل النهري وغيرها للجيش، وكانت كلها تعمل تحت سلطان أخصائيين من رجال القسم السياسي، وتضطلع بذلك الواجب النبيل، واجب إخماد روح التذمر وسحق المتذمرين، إن هذا العهد قد استولى عليه الفزع بلا ريب.
وقد لخص ستالين نفسه بعد اثني عشر يوما من بداية الغزو واجبات هذه الهيئات الجديدة التي أنشئت لتعاون الهيئات القائمة من قبل في أعمال الرقابة والقمع، لا لتحل محلها في هذه الأعمال فقال: «إن علينا أن نقضي بلا شفقة ولا هوادة على جميع الذين يشيعون الاضطراب في المؤخرة، وعلى جميع المنشقين، والذين ينشرون الفزع في البلاد، والجبناء ومروجي الشائعات الكاذبة.
ولا بد لنا من أن نرسل من فورنا إلى المحاكم العسكرية كل الذين يعرقلون بجبنهم وبإشاعة الفزع في النفوس وسائل الدفاع عن البلاد أيا كان شأنهم.»
ولست أدري أي سبب يدعو إلى هذا الخوف الشديد ممن «يشيعون الاضطراب» في المؤخرة في بلد قد وحد من عهد قريب بأشد وسائل التحري والتطهير، وقيل عنه أكثر من مرة أنه أصبح كله صفا واحدا لا ثغرة فيه؟ أليست تهديدات ستالين للذين ينشرون الفزع في طول البلاد وعرضها كافية لأن تصور لنا الأمة الروسية على بكرة أبيها في صورة الأمة التي ينتشر فيها الفساد والغدر والجبن؟ أليس هذا دليلا على أن أعداءها من أبنائها قد بلغوا من الكثرة حدا يعجز عن الإحاطة به مئات الآلاف من جواسيس القسم السياسي حتى اضطر ولاة الأمور لإنشاء هذه المحاكم الجديدة؟ وكيف يحدث هذا في بلد لا يزال يتغنى بنشيد «الحياة السعيدة» في ظلال دستور ستالين؟
لعل في استطاعة رجال من أمثال دفيز ودورنتي أن يرشدونا إلى حل لهذه الألغاز، ولكنني حين استمعت لتهديدات ستالين التي كان يذيعها بأعلى صوته ويذيعها على مهل بلهجته الكرجية، لم أكن أعرف إلا أنها لا تلتئم مع صورة الأمة التي طهرت من الخونة في بحار من الدماء، وكانت الأعمال التي أعقبت هذه الألفاظ تناقض تلك الصورة أشد من مناقضة ألفاظ ستالين نفسها.
فقد أعدم في موسكو وحدها آلاف من أبنائها رميا بالرصاص في الستة الشهور الأولى بعد إعلان الحرب تنفيذا لأحكام المحاكم العسكرية، وكثيرا ما كانت كلمة واحدة ينطق بها الشخص وتشتم منها رائحة الشك أو الخوف أو توقع الخطر كافية لأن يساق قائلها الأثيم إلى المحاكم العسكرية، وانتشر آلاف الجواسيس في صفوف طالبي الخبز والكيروسين، وفي الأسواق والحوانيت والملاهي وعربات الركوب ومحطات السكك الحديدية، مفتحي الأعين والآذان لعلهم يلتقطون كلمة يهمس بها إنسان، ويمكن تفسيرها بأنها تدل على اليأس أو الريبة أو الانتقاد، وكانت كل لجنة من لجان البيوت عينا على سكانه، وكل خادمة عينا على مخدومها، وبلغ هذا التجسس حدا كان الناس معه يخشون أن يقولوا: إنهم جياع، لئلا يتهموا بأنهم ينكرون حكمة ستالين أو يتجاهلون صعاب أوقات الحرب.
وأصبح من المعروف في الدوائر الشيوعية في موسكو أن الآلاف من الرجال والنساء الذين كانوا معتقلين في السجون أو في معسكرات السخرة في العاصمة من عدة سنين قد أعدموا كلهم رميا بالرصاص ومن غير محاكمة حين اقترب العدو من المدينة، وكان هؤلاء هم المعتقلين السياسيين من الرجال البارزين في أحزاب اليسار من الاشتراكيين وأنصار بوخارين والثوريين الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين الأقدمين، وكانوا هم الذين يخشاهم الكرملن أشد خشية ؛ لأن في وسعهم إذا نشبت الثورة أن يتولوا زعامة الجماهير الغاضبة، وتراءى للعصبة الحاكمة مرة أخرى منظر العشرين مليونا من العبيد يحطمون أغلالهم.
ولم يكن خافيا على أحد أن أداة التعبئة العسكرية كانت هي الأخرى تستخدم للقضاء على من لم يكونوا قويي الإيمان بالحكم السوفيتي، وقلبت ملفات القسم السياسي، وشكلت لجان في كل ناحية من نواحي البلاد لحصر أسماء المشكوك في أمرهم والذين لم ير ولاة الأمور ضرورة للقبض عليهم، فأما الذين أشارت بأن يقضى عليهم قضاء سريعا فقد أرسلوا من فورهم إلى أشد الأجزاء خطرا في جبهات القتال من غير أن يدربوا التدريب الكافي أو من غير أن يدربوا على الإطلاق، وكان هذا في رأيهم نوعا من التطهير ولكنه تطهير إجرامي شنيع.
والحق أن الفزع الذي عم البلاد كان فزعا منقطع النظير، لقد كان في واقع الحرب «حربا من داخل حرب» على حد تعبير سادة الكرملن عن ضعف ثقتهم بالشعب الروسي، وثمة تعبير آخر رجع فيه سادة البلاد بين يوم وليلة عن المبادئ «الاشتراكية» التي عشنا في ظلها وعانينا الأمرين من جرائها عشرين عاما كاملة؛ ذلك أن الحكومة بعد أن ظلت ربع قرن من الزمان تلقن الناس المبادئ الشيوعية عادت في ساعة المحنة فاستغاثت - كما كان يستغاث من قبل - بالوطنية القومية والولاء للجنس وحب الأرض التي نشأنا فوقها، بل إنها لجأت آخر الأمر إلى الدين فلم تدعنا وقتئذ لأن ندافع عن أرض «الاشتراكية» بل دعتنا لنصد المغيرين على الأراضي الروسية وعن تراث الصقالبة وعن دين الله القويم.
وليس في وسع المرء أن يتصور انقلابا في القيم التي كنا نعيش في ظلالها - وإن كان انقلابا مؤقتا أرغمنا عليه إرغاما - أعظم من هذا الانقلاب، لقد سكتت الألسنة عن ذكر الاشتراكية والأنظمة الجماعية، والمجتمع الخالي من الطبقات والثورة العالمية، وكلما توغل الألمان في البلاد قل ذكر الناس لتلك المبادئ التي فرضت عليهم فرضا، وأرغموا على اعتناقها بأشد أنواع العذاب، ولم يعد الناس إلى الشعائر السوفيتية المألوفة إلا بعد هذا الوقت بزمن طويل حين صد تيار الغزو الألماني، وما من شك في أنه كان في البلاد ملايين من الروس العاديين لم يتزعزع إيمانهم بالمجتمع السوفيتي الطراز، ولكن يلوح أن سادة الكرملن لم يكونوا من هؤلاء.
ولنعد الآن إلى اليوم الأول من أيام الحرب.
دخلت مكتب المدير في مساء ذلك اليوم فرأيت فيه مانتروف نفسه ويجوروف ولريونوف مدير أحد المصانع الفرعية، وأخذنا نتباحث في أثر الحرب، وكان المذياع مفتوحا لأنا كنا نتوق إلى سماع الأخبار، فسمعنا على حين غفلة صوتا شديدا يدوي في أثناء الإذاعة الموسيقية العسكرية، وقال هذا الصوت باللغة الروسية القحة: «يا أهل الروسيا! يا شعب الروسيا! اسمعوا! اسمعوا! هذا هو مركز قيادة الجيش الألماني.»
ونظر بعضنا إلى بعض وهم واجمون.
وقال مانتروف: «أليس من الخير أن نغلق المذياع حتى لا نسمع صوت هذا اللعين؟»
وقال يجوروف: «فليخسأ هذا الوغد، دعنا نسمع ما عنده!» - «لقد ظللتم عشرين عاما كاملة تحيون حياة الجوع والخوف، لقد وعدوكم الحياة الحرة ولم تنالوا إلا الاستعباد، ووعدوكم الخبز فلم تنالوا إلا القحط، فأنتم عبيد مجردون من حقوق بني الإنسان، يموت الآلاف منكم كل يوم في معسكرات الاعتقال وفي مجاهل سيبيريا المتجمدة، ولا سلطان لكم على بلادكم ولا على أرواحكم، وسيدكم ستالين يسوقكم بالسياط كما يساق العبيد، ومنكم ملايين في هذه الساعة ألقي بهم في غيابة السجون أو في معسكرات الأشغال الشاقة، وقد قضى حكامكم على دينكم واستبدلوا به عبادة ستالين، وماذا أصاب حرية الكلام والصحافة في بلادكم؟ الموت لمن يمتصون دماء الشعب الروسي، أسقطوا حكومة المستبدين!»
ثم تلت هذه لعنات وعبارات معادية للسامية وغيرها من الوقاحات التي تمتاز بها الدعاوة الألمانية.
وصاح يجوروف قائلا: «أسكتوه!»
وأسرع منتروف فأدار المفتاح، وكان الصمت الذي تلا هذا صمتا رهيبا، لم نجرؤ في خلاله على أن ينظر أحدنا إلى وجه صاحبه، وما هي إلا لحظة حتى افترقنا ونحن في أشد حالات الارتباك.
وعدت بعد ساعة أو نحوها إلى مكتب منتروف لأستشيره فيمن يخلف سمليا نينوف بعد أن قبض عليه، ودخلت عليه كعادتي دون أن استأذن يدق الباب، وما كاد أشد دهشتي حين وجدته هو ويجوروف يستمعان مرة أخرى إلى إذاعة من العدو، وكنت أفهم تشوفهم حق الفهم، فقد كانت هذه أول مرة في خلال عشرين عاما أمكن فيها سماع صوت يطعن جهرة على الحكم السوفيتي ولا يسمع فيها رجال هذا الحكم يطعنون على غيره.
وكان صوت المذياع ينادي حين دخلت عليهما: «تعالوا إلينا وهذه النشرات في أيديكم وستكون هي جواز المرور إلينا، لم تحاربون لتنصروا الاستعباد والإرهاب بينما الألمان يأتون إليكم بالحياة الحرة؟»
وعاد منتروف يسب ويلعن وهو يدير مفتاح المذياع ليسكته، وخرج يجوروف من الحجرة وقد بدا عليه بسبب دخولي من الارتباك ما بدا على رفيقه، وتحدثت في موضوع سمليا نيتوف وغيره من الموضوعات العاجلة المتعلقة بالعمل، وقاطعني منتروف في وسط إحدى العبارات بقوله: «اسمح لي يا رفيق كرافنشنكو أن أخرج عن موضوع حديثنا لأقول لك: إن من الخير ألا تذكر أننا استمعنا إلى الدعاوة الألمانية في المذياع إذا ذكر شيء عنها، إن الله يدافع عن الذين يدافعون عن أنفسهم.»
فقلت له: «لست أشك في أن نصف موسكو كانت تستمع إليها.» - «إنهم لن يستمعوا إليها غدا، لقد تلقيت الآن إشارة تليفونية تقول: إن جميع أجهزة الإذاعة ستصادر غدا.» - «تصادر؟ ولماذا؟» - «أظن أنها ستصادر ليحتفظ بها في مكان أمين.»
وكان هذا هو الذي حدث بالضبط في اليوم الثاني في موسكو وفي جميع أنحاء البلاد.
فقد أسلم جميع السكان - بعد أن هددوا بالعقاب الصارم - جميع أجهزتهم إلى رجال الشرطة المحلية، وأبصرت بعد زمن قليل أكداسا من الأجهزة محملة على عربات النقل كما يحمل الخشب لتنقلها إلى المخازن، وظل الروس طوال زمن الحرب لا يسمح لهم إلا بمكبرات الصوت متصلة بمحطات الإذاعة الرسمية، ولقد كان الألمان في بلادهم وفي البلاد التي استولوا عليها يحرمون على الأهلين أن يستمعوا إلى إذاعات الأعداء ويعاقبون من يستمعون إليها، أما الروس فلم يكونوا يؤتمنون إلى هذا الحد، ومن أجل ذلك صودرت أجهزتهم.
وكانت هذه هي الخطوة الأولى في سبيل منع الأنباء عن الشعب الروسي منعا لم يلبث أن أصبح كاملا، فالرقابة على البريد لم تقتصر على الرسائل الواردة من ميدان القتال أو المرسلة إليه، بل شملت فوق ذلك جميع المراسلات المدنية، وكانت البلاغات الحربية التي تصدرها الحكومة في الأسابيع الأولى من الحرب مضللة إلى حد جعل الروس لا يصدقون كل ما صدر بها بعد هذه الأسابيع، فلا عجب بعدئذ إذا كان ولاة الأمور قد أقض مضاجعهم ما كان يذاع من الأنباء التي كانت تشيع الفزع في أنحاء البلاد، ولم تكن هذه إلا دليلا على ما كان يعتقده الشعب من أن حكومتهم كانت تكذب عليهم.
وكنا نعمل في المصنع في جو يسوده التوتر المطرد بالزيادة، فقد نقصت الأيدي العاملة نقصا شديدا بسبب التعبئة العامة، وحرمنا بسبب اضطراب المواصلات من المواد الضرورية، وكانت البلاد قد نعمت من الوجهة النظرية باثنين وعشرين شهرا من شهور السلم، كان في وسعها أن تعد فيها عدتها لهذا الخطب المدلهم، ولكن الواقع أنها لم تعد له شيئا وأن الاضطراب كان يشيع في كل ناحية من نواحي الحياة.
ولم يكن في وسعنا أن نصدق الأنباء التي كان يهمس بها الناس خفية والتي تقول: إن تيار الهجوم الألماني كان يتدفق نحو الشرق بسرعة مروعة، ترى ماذا أصاب الجيش الأحمر الجبار الذي كنا نفخر به على جميع الدول؟ وماذا أصاب خطوط الدفاع العسكرية الفنية التي كانوا يدعون أننا قد وصلنا إليها حين دفعنا بحدودنا إلى قلب بولندا ورومانيا وفنلندا ودول البحر البلطي الثلاث؟ وماذا جرى للمزايا التي قيل لنا أنا حصلنا عليها في زمن حيادنا الطويل؟
أما البلاغات الرسمية فلم تفصح لنا عما يشفي غليلنا، أو أنها على الأصح لم تفصح لنا عن شيء على الإطلاق، فزادت بذلك الاضطراب الناشئ من تيار الشائعات الجارف، وكان نطاق قوي من رجال الشرطة يمنع اللاجئين من الوصول إلى موسكو ليحافظ بذلك على روح أهلها المعنوية.
ولكن هذا النطاق القوي لم يمنع عددا منهم أن يتسرب إليها فيشعرنا بهول الكارثة التي أخذت تقترب منا، ومع ذلك فإن البلاغات الرسمية أبت أن تعترف بالهزيمة، بل إنها كانت بعكس هذا توحي بأنا منتصرون، غير أن أسماء الأماكن التي كانت الجيوش تحارب فيها كان دليلا قاطعا على أن القتال يقترب من العاصمة يوما بعد يوم.
ومما جاء في واحد منها صادر في أول يوليو: «نشبت في الليلة الماضية معارك في اتجاه مرمانسك ودفنسك ومنسك ولوتسك، وقاومت جيوشنا قوات العدو مقاومة عنيفة في مرمانسك وكبدته خسائر فادحة ... ونشبت في دفنسك ومنسك معارك قضت على الوحدات الأمامية من فرق دبابات العدو ...»
ولكن ستالين وقف لأول مرة أمام لاقطة الصوت في اليوم الثالث من شهر يوليو وأسمع الأمة الروسية المروعة نبأ المجزرة البشرية العامة تنتشر مسرعة في اتجاه العاصمة.
قال ستالين: «إن جيوش هتلر قد استطاعت أن تستولي على لتوانيا وعلى قسم كبير من روسيا البيضاء، وعلى جزء من أوكرانيا الغربية، وإن بلادنا مهددة بأعظم الأخطار.»
وعجبنا من هذه الأنباء حتى لم يكن في وسعنا أن نصدق آذاننا، ولكن ستالين واصل حديثه قائلا: «إن الهدف الذي ترمي إليه هذه الحرب ضد المستبد الفاشي هو تحرير شعوب أوروبا التي تئن تحت أقدام الفاشية الألمانية، وسيكون لنا في هذه الحرب أحلاف أوفياء من شعوب أوروبا وأمريكا ... وستشترك في هذه الحرب التي نبغي بها حرية بلادنا شعوب أوروبا وأمريكا التي تجاهد في سبيل استقلالها وفي سبيل الحرية الديمقراطية ...»
وهكذا سمعنا لأول مرة ستالين نفسه ينطق بألفاظ مثل الحرية والديمقراطية بمعناهما القديم يقولها من عنده ولا يقتبسها من كلام غيره في معرض السخرية والاستهزاء، وخيل إلينا أن كل شيء قد تحول من النقيض إلى النقيض، فقد ارتبط بقاء العهد البلشفي بين عشية وضحاها بانتصار «الديمقراطيات المنحلة»، وتعهدت الدول الرأسمالية الكبيرة بأن تقدم لاتحاد الجمهوريات السوفيتية كل ما تستطيع تقديمه من عون، وسرعان ما انبعث في قلوب الكثيرين من الروس أمل جديد في الحرية كانت شعلته قد انطفأت فيها من زمن بعيد، وخيل إلينا أن عزلتنا عن عالم الأحرار سيقضي عليها، وإن كانت هذه المعجزة لن تتم إلا بعد حرب عوان.
وقال ستالين في إحدى إذاعاته: «أيها الإخوة وأيتها الأخوات! إني أتحدث إليكم أيها الأصدقاء.» وكانت هذه أول مرة في الستة عشر عاما الماضية تحدث إلينا ستالين فيها بهذه اللهجة، وقد أنطقت الحماسة صديقا لي في المصنع فقال لي بصوت خافت حينما سمعها: «ما من شك في أن الرئيس قد أنزله الزمان إلى الحضيض قبل أن يدعونا إخوة وأخوات.»
ولم يكن في وسعنا أن ندرك سبب هزائمنا، لقد ظللنا عشرين عاما نجوع ونعذب ونساق بالعصا باسم الاستعداد الحربي، وكان زعماؤنا يفخرون بتفوقنا في عدد رجالنا المدربين وعدتنا الحربية الهائلة، وها هم أولاء الآن يعزون هزائم جيوشنا الساحقة المذلة لنقص المدافع والطائرات والذخائر، ولقد اجتزنا «بنجاح» ثلاث مشروعات متعاقبة من مشروعات السنوات الخمس، ضحينا في كل منها بالطعام والكساء والحاجيات المنزلية في سبيل الصناعات الحربية، وها نحن أولاء في أول امتحان لقواتنا نرى بلدنا الذي يبلغ عامره مائتي مليون من الأنفس يحاول صد فرق دبابات العدو المهاجمة بقنينات البنزين! لقد كان عشرات الآلاف من الروس تسحقهم عجلات الدبابات الألمانية؛ لأننا لم يكن لنا مدافع مضادة للدبابات بعد عشرين عاما مضت كلها تقريبا في الاستعداد الحربي، إن التضحية بالخبز من أجل المدافع أمر قد نفهمه، ولكننا في هذه المحنة لم يكن لدينا خبز ولا مدافع.
والحق أنا لم نجد تفسيرا معقولا للهزائم التي منيت بها الجيوش السوفيتية، ولم نجد شيئا يخفف عنا آلام المذلة، لقد أخذت بولندا على غرة، وطعنتها من خلفها جارتها الشرقية، وكانت فرنسا أصغر رقعة وأقل قوة من عدوها المغير عليها، ولكن كيف تسلك روسيا الضخمة بعد عامين من اندلاع نار الحرب مسلك دولة متأخرة صغيرة تؤتى من مأمنها، وقد كانت تمتاز من غيرها بكثرة عددها، وفسحة الوقت أمامها، وتركيز جهودها للاستعداد الحربي؟ ولو أن بلادنا لم تكن أوسع رفعة من فرنسا لاكتسحت أربع مرات في الأربعة الأشهر الأولى من الحرب.
ولم تنج من الدمار إلا بفضل اتساع رقعتها وكثرة سكانها وبطولة الروس وتضحيتهم التي لا نظير لها في جبهات القتال وفي المؤخرة على السواء، وبإنشاء الصناعات الجديدة ونمو الصناعات القديمة وتقدمها في داخل البلاد، واستخدام آلات المصانع التي أخليت في إقامة مصانع أخرى جديدة، هذه هي الوسائل التي مكنت الجيوش الروسية من أن تتقهقر هذا التقهقر الواسع النطاق الذي تكبدت فيه أفدح الخسائر في الوقت الذي كانت البلاد تجمع فيه مواردها للقيام بهجوم مضاد، هذا إلى أن هذا العهد قد أفلح في إيقاظ الروح القومية والوطنية وبعثها قوية في نفوس الروس، ثم بدأ العتاد الأمريكي يرسل إلى البلاد بعد ستالينغراد.
وكانت التعبئة العامة لا نظير لها في سرعتها واضطرابها، فكانت القوات الاحتياطية ترسل إلى ميدان القتال دون أن يتمكن أفرادها من توديع أسرهم، وكان العمال يساقون من حوانيتهم إلى الصفوف دون تدريب، كان هذا كله يحدث في حين أن جيشنا العامل من أكبر جيوش العالم، وأنه قد ضرسه غزو البلاد المجاورة، وحرب عوان شنت على فنلندا.
وقد أخذت الحكومة في غفلتها حتى لم تجد ما يكفي الجند من الملابس، فكان الضباط أنفسهم يلاقون الموت في جلابيب مؤقتة ومن غير تدريب كاف، وكان ملايين من الجنود الجدد يدلفون في الوحل في أحذية من الخيش، وأقبل الشتاء وهم يرتدون ملابس الصيف، وأبصرت مجندين جددا يدربون بأيدي المكانس بدل البنادق.
وكانت لجان التجنيد تعمل من طلوع الفجر إلى غسق الليل، تحصي أسماء الذكور من سن السابعة عشرة إلى الخمسين، وقد علمت من بعد أن هذه اللجان لم تكن تسترشد بالقوانين القائمة، بل كانت تتبع أوامر سرية تصدرها إليها لجنة الدفاع تلقتها بعد بداية الحرب، وكان لا بد من إعفاء طوائف معينة من العمال لم يكن في وسعها الاستغناء عن أعمالها، وقد أعفت أيضا في بداية الحرب كل من يعول فردا أو فردين عاجزين عن العمل، أما فيما عدا هؤلاء وأولئك فقد سار التجنيد سيرا شديدا لا رحمة فيه ولا هوادة، ولم يكن الكشف الطبي على المقترعين يستغرق أكثر من دقيقتين أو ثلاث دقائق ، وقد رأيت بعيني رأسي رجالا عورا وعرجا ومسلولين، ومصابين بأمراض في القلب وقروح في المعدة، وعمالا ملتحين يزيدون على الخمسين من العمر، منهوكي القوى لا تكاد تحملهم أرجلهم؛ رأيت هؤلاء جميعا يقضى بأنهم صالحون لأن يرسلوا إلى جبهة القتال، ولم يكن يرفض من المقترعين لأسباب صحية إلا واحد أو اثنان في المائة.
وكانت الصحف تفاخر بأن هذا دليل على ما بلغته صحة الأهلين في ظل الحكم السوفيتي.
وقبل أن يمضي على نشوب الحرب بضعة أسابيع دعا الحزب إلى إنشاء جيش من المواطنين المتطوعين، وبدا لكثيرين منا أن هذه الخطوة الجديدة اعتراف خطير بنقص الاستعداد، وعاد إلى ذاكرتنا وقتئذ ما قاله فوروشيلوف وزير الحربية في سبتمبر من عام 1939م بعد أن بدأت الحرب في أوروبا: «لقد أثبتت تجارب الجيوش القيصرية بالدليل القاطع أن ما يسمونه جيش المواطنين المتطوعين جيش عاجز ليس لديه شيء من الدربة، وهو دليل على أن الاستعداد العاجل في وقت الحرب لا يجدي نفعا، فقد كان الجنود يرسلون إلى ميدان القتال من غير تدريب، وأنتم جميعا تعلمون ماذا كانت العاقبة.»
وها نحن أولاء نعمل العمل نفسه، بل إننا نعمل ما هو أدهى من ذلك وأمر، لقد كنا نلجأ إلى نظام التطوع في بداية الصراع، على حين أن العهد القيصري لم يفعل هذا إلا بعد بدايته بزمن طويل، وكان مما قاله فوروشيلوف أيضا: يجدر بي هنا أن ألاحظ أن الزيادة العددية في الجيش الأحمر والأسطول زيادة تستلزمها الأحول الدولية التي لا تغفل حكومتنا ولجنة حزبنا المركزية، ولا يغفل الرفيق ستالين، عن دراستها دراسة دقيقة، ولكن ما هي قيمة هذه الدراسة إذا كانت «حكومتنا ولجنة حزبنا المركزية» وإذا كان «الرفيق ستالين» يرسلون الجموع تلو الجموع من السكان المدنيين إلى المجازر والهلاك المحقق من غير تدريب، وذلك بعد أسابيع قليلة من الغزو الألماني؟
واستدعيت إلى مكتب لجنة الحزب في مصنعنا صباح يوم من أيام شهر يوليو، وكلفني يجروف أن أدعو إلى اجتماع لنشر الدعوة إلى التطوع، وأصررت على أن يقوم هو بهذا العمل بوصفه من زعماء الحزب فقال لي: «لا، لا، يا فكتور أندريفتش، يجب أن يتولى هذا العمل رجال من الشعب لا من الحزب نفسه، وأنت محبوب من العمال وهذا يجعل العمل أسهل عليك منه علي.»
وبدأ الاجتماع العام وأبصرت أمامي وجوه زملائي العمال الكالحة، وتحدثت إليهم كما يتحدث الروسي لمواطنيه، وحرصت على ألا يجري على لساني لفظ الشيوعيين والاشتراكيين، وقلت لهم: إني أحب بلادي كما يحبونها كلهم، وأني أعرف أنها تختلف عن العصبة التي تحكمنا وتروعنا ، واستطعت أن أدعو العمال دعوة ملؤها الحماسة والإخلاص إلى التطوع في الرديف، ومن أراد أن يعرف السر في أن الشعب الروسي قد حارب وأحرز النصر في النهاية فليبحث عنه في مقدرتي أنا وأمثالي على استثارة حماسة الروس ورغبتهم الصادقة في النصر وكراهيتهم للمغيرين على أوطانهم، على الرغم من بغضهم للحكم الشيوعي، فالروس لم يحاربوا من أجل ستالين بل حاربوا على الرغم من ستالين، ولم يكن أحد يعرف هذه الحقيقة أحسن مما تعرفها عصبة الكرملن نفسها، كما تدل على ذلك كل دعوة يوجهونها إلى الجهاد الوطني.
وأردت أن أضرب لهم المثل بنفسي، فكنت أول من تطوع، وحذا حذوي عشرات من عمال مصنعنا وموظفي مكاتبه ورجاله الفنيين، ولكن الطبقة العليا من رجال الإدارة لم يتطوع منها أحد، فكانوا إذا نظر إليهم العمال نظرات الاستفسار تهربوا من هذه النظرات ولم يبدوا أقل استعدادا لتسجيل أسمائهم في كشوف المتطوعين.
وذهبت في آخر النهار لأقابل منتروف وتظاهرت بأني لا أشك في أنه سيتطوع وقلت له في مرح: «متى تسجل اسمك بافيلاسلاف إيفانوفتش؟»
فاحمر وجهه حتى صار كلون شعره الملتهب، وحرك جسمه الثقيل حركة قلقة، وأخذ يقلب عينيه الصغيرتين في أركان الحجرة، ثم تنحنح وقال: «إن ما سأقوم به في الحرب الكبرى مسألة تقررها لجنة الحزب الإقليمية فهي التي تعرف ما علي من التبعات، وسيكون من الواجب بعد زمن قليل أن نجلو عن المصنع ...»
فأجبته ملحا عليه في أن يتطوع: «إن من واجبك أن تتطوع مهما تكن الظروف، إن العمال يتحدثون عنك، وإذا أراد الحزب أن يستبقيك هنا فسيفعل ذلك سواء تطوعت أو لم تتطوع، فلم إذن لا تسجل اسمك حتى يقرر الحزب ما يقرره بشأنك؟»
ولكن منتروف لم يشأ أن يترك أمره رهن الظروف، وكذلك فعل يجروف، ومع هذا فقد نال كلاهما بعد انتهاء الحرب أكبر الألقاب وأفخمها، وأعظم أوسمة الشرف؛ لأنهما حرصا كل الحرص على أن يظلا أبعد ما يكونان عن نيران العدو، على أنهما لا يصح لومهما على هذا العمل؛ لأنهما كانا يسيران على خطة اختطها لهما رجال الكرملن، فقد اعتزم ستالين أن يحتفظ بعصبته بالبيروقراطية التي يعتمد عليها آخر الأمر نظام الحكم السوفيتي، وكانت هناك طائفة من الموظفين «لا يمكن الاستغناء عنهم» ومن بينهم رجال القسم المخصوص من وزراء الشئون الداخلية، وحرس الزعيم الخاص ممن ادخروا جميعا للمظاهرة الأخيرة أمام الشعب الروسي، وهي مظاهرة لم يقدر لها أن تكون.
ولم توافق لجنة الحزب المحلية على تطوعي، وكان يسر منتروف ويجروف بطبيعة الحال أن أرسل إلى جبهة القتال من فوري؛ لأنهما لم يغفرا لي قط محاولتي أن أحملهما على أن يتطوعا، وإشاعة هذا بين جميع من في المصنع، وكان الذي أنقذ موقفهما في هذه المرة أن كرافتشنكو وغيره من كبار الموظفين الذين تطوعوا لم يؤذن لهم بترك أعمالهم والانخراط في سلك الجندية.
استولى الألمان بعد إعلان الحرب بزمن وجيز على الشريط الضيق من المناقع الفنلندية الذي بذل الروس في الاستيلاء عليه عام 1940م مئات الآلاف من الأرواح؛ ولهذا باءت مغامرة ستالين العدوانية بالفشل الذريع، ولم تسفر إلا عن تعجيل الفنلنديين الاندفاع في أحضان الألمان المغيرين، كذلك لم يكن لانقضاض السوفيت على بولندا ولا لاختطافهم دويلات البحر البلطي إلا أثر ضئيل في تأخير الزحف الألماني؛ ذلك أن «الأمن الاستراتيجي» الذي تتذرع به بعض الدول لاغتصاب الأراضي المتاخمة لها قول لا معنى له في عصر الحرب الآلية ومدافع الطائرات البعيدة المرمى.
ولكن الأساطير التي نبتت في منابت الدعاوة الشيوعية لم يكن بينها كلها ما هو أدنأ ولا أكذب من الأسطورة التي تقول: إن ستالين قد انتفع بالاثنين والعشرين شهرا التي كسبها باسترضاء النازيين في إعداد العدة لقتالهم، تلك أسطورة ما أكذبها، وهي في الوقت نفسه إهانة موجهة إلى آلاف الآلاف من الروس الذين عذبوا وقتلوا؛ لأن حكومتهم أضاعت هذه المهلة ولم تفد منها أقل فائدة، فلما شبت نار الحرب كانت كل حصوننا مهدمة، ولم تكن لدينا خطة معقولة لإنقاذ الأهلين أو العتاد الحربي الثمين في طريق المغيرين.
وليس على الذين يشكون في صدق هذا القول إلا أن يطلعوا على محاضر جلسات المؤتمر الثامن عشر للحزب، وهو المؤتمر الذي عقد في شهر فبراير من عام 1941م قبل بداية الغزو الألماني بأربعة أشهر لا أكثر، فقد كانت جميع الخطب التي ألقيت في هذا المؤتمر تصور ما تواجهه البلاد من صعاب وإخفاق في شئون الصناعة، وخاصة في فروع الاقتصاد المتصلة بحاجات الحرب، وقد تجمع لدي في أثناء عملي الرسمي في سني الحرب من الأدلة القاطعة ما يؤكد لي أن هذه الخطب لم تتعد الحقيقة حين صورت الحال بهذه الصورة الحالكة السواد.
ولم يمض أسبوع على بداية الحرب حتى لم تكن موسكو، وهي خير مدننا تموينا، تجد حاجتها من الخبز، وحتى وقف الناس في صفوف طويلة ينتظرون مخصصاتهم الضئيلة، والمتأخرون منهم في هذه الصفوف لا يثقون بأن هناك من الخبز والكيروسين وغيرهما من المواد الضرورية ما يكفي جميع الواقفين.
ولم يكن في عاصمة الاتحاد السوفيتي مخابئ صالحة للوقاية من الغارات الجوية، ولم يخل مصنع واحد من المصانع الحربية الهامة في غرب روسيا وجنوبها، بل لم تتخذ العدة لإخلاء مصنع من هذه المصانع قبل الهجوم؛ ذلك أننا لم نستعد إلا للحرب الهجومية عملا بنظريات الكرملن، ومن أجل هذا عجزنا عن أن نجلو في الوقت المناسب عن مساحات واسعة من البلاد، استحالت من فورها ميادين قتال، وبقيت ملايين الأطنان من المواد الغفل والعتاد الحربي والحبوب والوقود - وبقي ما هو أهم من هذا كله وهو عشرات الملايين من الرجال - في أكثر أجزاء الأقاليم الغربية تعرضا للغزو، فسقطت كلها في أيدي الألمان.
وكنت على اتصال دائم في كل يوم بالوزارة المشرفة على المصانع والذخائر الحربية والعمال في الأقاليم المعرضة إلى الغزو، وسرعان ما تبين لي أن أحدا في الكرملن لم يعن في مهلة الاثنين والعشرين شهرا بوضع خطة للجلاء عن هذه الأقاليم، وإخلائها من المؤن والعتاد الحربي، ولم يكن في مقدور أحد بطبيعة الحال أن يخطو الخطوة الأولى في هذه السبيل إلا الرؤساء الكبار، ولو أن أحدا غيرهم أثار هذا الموضوع لعرض نفسه لأن يتهم بأنه من «دعاة الهزيمة» وممن يعملون على «إضعاف الروح المعنوية في البلاد»، وإذا ما أشار أحد إلى أن الجيش الأحمر المظفر قد يضطر إلى التقهقر ولو كان تقهقرا مؤقتا عدت إشارته مساسا بقدسية هذا الجيش يستحق عليها أقصى العقاب.
وفي السنين التي شغلت فيها مراكز إدارية في الأعمال الصناعية كنت أحضر في كثير من الأحيان والاجتماعات الخاصة بوضع الخطط السرية للتعبئة العامة، وأشترك في وضع هذه الخطط، وكنا ننظر في كل ما تحتاجه التعبئة من معادن غير حديدية وزيوت وفحم وآلات ورجال، وفي مسائل تخزينها ونقلها، وجمعت الحكومة على أساس هذه الخطط المحكمة البعيدة النظر مقادير هائلة من حاجيات الحرب والمواد الاحتياطية الضرورية لها، ولكن ولاة الأمور كانوا مقيدين بالقيود التي فرضوها على أنفسهم، والتي كررها ستالين في جميع المناسبات، فكانت من أجل ذلك أرقى من أن يتطرق إليها الخلاف، وهي أن ميادين الحرب ستكون في خارج البلاد.
فلما واجهتنا الحرب الدفاعية بأعبائها الفادحة أصبحنا عاجزين كل العجز، فلم يكن لنا من سبيل إلا أن نرتجل كل شيء على عجل، نرتجل الجلاء والتعبئة وحرب العصابات الدفاعية خلف جيوش العدو، وأفلح هتلر وعصبته في تخدير ستالين وإنامته حتى عجزت جهود البريطانيين والأمريكيين عن أن يفتحوا عينيه على الحقائق، ولو أنه اتعظ بالنذر الأولى التي وجهتها إليه وزارة الخارجية الأمريكية في شهر يناير؛ لكان لديه من الوقت خمسة أشهر يستطيع فيها أن ينقل ملايين من الأهالي وعشرات من المنشآت الصناعية وكميات هائلة من المؤن والمواد الاحتياطية.
لكن الكرملن أضاع هذه المهلة فغنم هتلر مغانم كثيرة بذل الشعب السوفيتي فيها دماءه وعرقه ودموعه مدى خمسة عشر عاما قضاها في تصنيع البلاد، وبذلك حصل النازيون القساة على مصانع ومحطات لصنع الجرارات وآلات لتوليد الكهرباء من مساقط المياه وأكداس من المؤن، هذا إذا ضربنا صفحا عن عشرات الملايين من العمال الذين تركتهم الحكومة في أوكرانيا وروسيا البيضاء تحت رحمة النازيين الغلاظ الأكباد.
وكان الخوف قد تأصل في البيروقراطية الروسية بعد التطهير الكبير فلم يجرؤ أحد على أن يقوم بعمل من الأعمال، حتى بعد أن وجه النازيون ضربتهم القاصمة إلى البلاد.
واستولى الهلع على الموظفين المحليين والمؤسسات الصناعية الكبرى، فوضعت خططا لنقل الآلات القيمة والمؤمن وإجلاء السكان، ولكن أحدا لم يجرؤ على أن يتحمل تبعة أبسط الأعمال، فاكتفوا بكتابة التقريرات وإرسالها بالطرق العادية لتفصل فيها «الجهات العليا»، ثم انتظروا مكتوفي الأيدي حتى يتلقوا أوامر هذه الجهات، وظلوا في معظم الحالات ينتظرون حتى وهمهم الألمان.
وكان الكرملن قد أنفق أموالا طائلة قبل استيلاء هتلر على أزمة الحكم، وأموالا أكثر منها بعد استيلائه عليها، للحصول على المعلومات السرية من ألمانيا ومقابلة نظام التجسس الألماني في الروسيا بنظام يعارضه، وتجمعت لدى الروسيا بفضل هذا النظام معلومات كثيرة عن النظم السياسية والحربية في تلك البلاد، ثم حدث في أثناء التطهير الكبير في عام 1939م أن قبض على معظم رجال إدارة المخابرات السرية وسجنوا وأعدموا، وفر كثير من الباقين إلى ما وراء الحدود الروسية، ولم تفد البلاد من جهودهم كلها؛ لأن ولاة الأمور حسبوها «أعمالا مخربة مضادة للثورة»، فلما قامت الحرب تبين بوضوح أن إدارة المخابرات الجديدة ضعيفة عاجزة عن أداء مهمتها عجزا جر على البلاد أوخم العواقب، وأخذت البلاد وقتئذ تكفر عن قسوتها الوحشية في تلك السنين.
وأنشئت هيئة عليا لمواجهة هذه الأزمة، وهي لجنة الدفاع عن الدولة، واستحوذت هذه الهيئة على أكبر قسط من السلطة في الدولة والحزب، وأصبحت هي العقل المحرك واليد الفعالة في جميع أعمال الدفاع وفي جميع أنحاء البلاد وفي ميادين القتال، كما سيطرت هي على جميع أعمال المخابرات السرية في الشئون الداخلية والخارجية، فحلت بذلك في واقع الأمر محل مجلس السوفيت الأعلى صاحب السلطة العليا من الوجهة النظرية في البلاد كلها، ولم يكن مجلس الوزراء بالنسبة لها إلا أداة تنفيذية يصدع بأوامر اللجنة الجديدة، ويشرف على الوزارات المختلفة، وكان ممثلو هذه اللجنة في الأقاليم يتمتعون بسلطات لا حد لها، وبذلك أصبحت هذه الهيئة أعظم القوى التي أنشئت في روسيا السوفيتية وأوسعها سلطانا، وأكثرها مرونة وأشدها قسوة ، وكان أعضاؤها كلهم يختارون من أقوى أعضاء الهيئة السياسية العليا أو من أقوى أعضائها السابقين.
ولم يكن قد وجد للقوات الحربية قواد جدد قادرون، بعد أن قضت أعمال التطهير على قوادها الأولين، أما فوروشلوف وبودني وغيرهما من القواد الذين اشتهروا بعجزهم، والذين وكلت إليهم القيادة في جبهات القتال في بداية الحرب، فقد كانوا عديمي النفع، لا بل عظيمي الضرر، ومع ذلك فإنهم لم يعزلوا من القيادة ولم يستبدل بهم غيرهم إلا في شهر أكتوبر، وكان ذلك أيضا دليلا على عجز ستالين عن التأهب لساعة الخطر.
وكان الألمان ملمين بدقائق الآلات في تلك المصانع، يعرفون مواضع أجزائها ووظيفتها؛ وذلك لأنهم قد اشتركوا في بناء معظم المصانع الهامة في أوكرانيا وتجهيزها بالعدد اللازمة لها؛ ولذلك كان في وسعهم أن يلقوا قنابلهم على مراكز القوى الكهربائية، وخزانات المياه ونقط الاتصال الهامة، فيعطلوا الإنتاج ويؤخروا أعمال الجلاء والإخلاء التي لم يبد بها إلا في آخر الوقت.
وسوف تشيد الدعاوة السوفيتية فيما بعد بجهودها العظيمة في نقل المصانع إلى سيبيريا من روسيا البيضاء ومن أوكرانيا، مع أن هذه المصانع لم ينقل منها في الحقيقة إلا عدد قليل، وستسكت الدعاوة عن ذكر مئات المصانع التي تركت غنيمة لهتلر، وحسبي أن أقول: إن كل مصنع عملت فيه أو كانت لي صلة به في دنييروبتروفسك وكريفوي رج وزبرزهي وتجانرج قد وقعت كلها في أيدي العدو سليمة، أو لم يصبها إلا ضرر يسير، وهذا القول يصدق أيضا على مصانع كيف وأودسا وخاركوف وماريو بول وستالينو ولجانسك، وكان الخطأ الذي وقع فيه ستالين بثقته بهتلر هو الذي اضطرنا إلى أن نترك للعدو مصانع للصلب في مقدورها أن تخرج في العام الواحد نحو عشرة ملايين من الأطنان ونحو طنين من الأدوات المصنوعة من الصلب، وعادت إليها هذه كلها بعد وقت قصير في صورة دبابات ومدافع وقنابل تحصدنا حصدا، ولم تكن مآسي الصناعات الأخرى نقل عن هذه المأساة.
وكان ستالين في أيام الميثاق قد أعان هتلر على فتح أوروبا بما قدمه له من المعادن والفلزات والزيت والحبوب واللحم والزبد وما يحتاجه من المواد طبقا لميثاقهما الاقتصادي، أما بعد الغزو فقد أعانه بما تركه له من الثروة التي لا حصر لها على شكل عتاد حربي وقدرة هائلة على الإنتاج، وعشرات الملايين من الرجال، وآخرها أكبر سبة تبقى في الأعقاب.
وسيبقى عجز ستالين عن الاستعداد للغزو الألماني وصمة يصم بها التاريخ حكمه رغم ما ناله من النصر آخر الأمر، لقد جثم هذا الحكم على البلاد فأزهق أرواح الملايين من أبنائها من غير ضرورة، وجلب على أهلها ما لا يستطاع وصفه من البؤس والشقاء، وإلا فلم لم يجل أهل لنينغراد عنها؟ إن هذا «السهو» سيضرب عنه صفحا أولئك الذين يسبحون بحمد ستالين وإن كان أكثر من 1300000 من أهل هذه المدينة هلكوا من الجوع والبرد حتى أول يوم من مايو سنة 1943م، وإن كان الباقون من أهلها سيحملون معهم إلى قبورهم كثيرا من الشواهد الناطقة بما لاقوه من العذاب في سني الحصار المروع الذي قاسوا ويلاته ثلاثة فصول شتاء موالية، إن هذه المدينة من المدن الشديدة التعرض للغزو؛ ولذلك كان من الواجب أن تؤخذ الأهبة لوقاية أهلها قبل الحرب بزمن طويل، ولكن هذه الأعمال لم تبدأ حتى بعد أن أعلنت الحرب، وتقع تبعة ما قاسته لنينغراد من عذاب يجل عن الوصف على كاهل عضوين من أعضاء الهيئة السياسية العليا هما فوروشيلوف قائد جبهة لنينغراد وقتئذ وزادانوف الحاكم الأعلى لإقليم لنينغراد.
وهذا الحكم نفسه يصدق على أولئك اليائسين الذين وقعوا في الأسر في كيف وأودسا وسبستبول ومئات غيرها من المدن الغاصة بالسكان، ومنها مسقط رأسي أنا، فقد أسرت في دنيبروبتروفسك أمي وكلافا وزوجة أخي قنسطنطين وابنها الصغير، ولم يحفظ على أمي المسكينة المنهوكة القوى حياتها وينجيها من محنتها المروعة إلا ما كان لها من إرادة قوية، فقد تعقبها الألمان من مكان إلى مكان ثم سجنوها في أحد معسكرات الاعتقال القذرة، ولكنها نجت هي وكلافا من الموت، أما أبي فلست أعلم هل مات أو لا يزال على قيد الحياة .
وفي روسيا آلاف من أولئك الآباء والأمهات والأطفال أزهقت أرواحهم أو لاقوا أشد العذاب بسبب هذا «السهو» الإجرامي الذي اقترفه سادة الكرملن، ولما تنبه السادة إلى ضرورة الجلاء والإخلاء في آخر الأمر تجلت الخطة السوفيتية الجديدة - خطة امتياز الطبقات - في أبشع صورها، فقد احتفظ «لمن لا غنى عنهم» من الأفراد بالحق الأول في الرحيل وفي استخدام وسائل الانتقال، وهؤلاء الذين لم يكن ثمة غنى عنهم هم الزعماء البيروقراطيون، ورجال الحزب السياسيون، وموظفو نقابات العمال، وموظفو إدارة الشرطة، وهم الذين تتكون منهم جميعا «الأداة الحكومية»، ولم يسمح للآدميين العاديين بأن يحملوا معهم إلا حقيبتين من حقائب الملابس، فاضطروا بذلك إلى أن يتركوا كل ما لم يستطيعوا حمله فيهما من متاعهم، أما أفراد الطبقات العليا فقد استطاعوا أن يحملوا معهم كل متاعهم حتى أضخم أثاث بيوتهم، وأجلى مهرة العمال وغيرهم من الرجال الذين تمس الحاجة إليهم في تشغيل الآلات المنقولة من المصانع التي أخليت، فقد رحلوا مع هذه الآلات ولكنهم اضطروا في كثير من الأحيان لأن يخلفوا أسرهم وراءهم، أما الموظفون المحظوظون فقد صحبهم أقاربهم الحقيقيون وغير الحقيقيين حتى الذين لا تجمعهم بهم أبعد الجدود.
وأكرر هنا ما قلته من قبل وهو أن الحجة الكبرى التي يبرر بها القوم صفقتهم التي عقدوها مع النازيين - وهي كسب الوقت - أسطورة دنيئة وقصة خرافية ودعاوة باطلة ساخرة.
لقد انقضت شهور طوال لاقى فيها الشعب الروسي ما لاقى من وحشية الألمان قبل أن يستطيع التغلب على الرغبة في القعود عن قتالهم، فقد كان لا بد أن يعرف هذا الشعب كيف يمقت النازيين بعد أن ظلت الدعاوة الروسية تصور لهم هتلر في صورة صديق روسيا وصديق السلام، وجدير بنا ألا ننسى أن فرقا كاملة من الجيش الأحمر وقعت في أسر العدو في الأشهر الأولى من الحرب دون أن تقاتل قتالا يستحق الذكر.
ولو أن المغيرين أثبتوا أنهم آدميون، وأظهروا في حربهم شيئا من الحكمة السياسية؛ لجنبوا أنفسهم كثيرا من حرب العصابات الوحشية ودفاعها المستميت ليلا ونهارا، وهي تلك المقاومة التي لاقى منها الألمان الأمرين، ولكنهم لم تكن لهم هذه الحكمة فعمدوا إلى التقتيل والتعذيب والحرق والنهب والاستعباد مدفوعين إلى هذه الأعمال بأفكارهم العنصرية الخيالية، وعملا بهذه المبادئ السخيفة فرض الغزاة على المزارع الجماعية البغيضة إلى معظم الروس رقابة ألمانية لا يطيقونها واستبدلوا الجستابو الرهيبة بالشرطة السرية الروسية، وبهذا أفاد الألمان ستالين أعظم فائدة؛ لأنهم عملوا على إيقاظ روح العداوة في قلوب الكثرة الغالبة من الشعب الروسي في الأراضي المحتلة وفي مؤخرة الجيش، وأذكوا نار الحقد في قلوب أفراد القوى المسلحة، وهيئوا للكرملن أحسن الوسائل لإثارة روح البغضاء القومية للمغيرين.
لقد كان اللاجئون والأسرى الهاربون يذيعون الأنباء الرهيبة عن فظائع الألمان وإسرافهم في القسوة الحمقاء، وكان هؤلاء البرابرة يعاملون جميع الصقالبة معاملة الأجناس المنحطة، وقد كان حقدي أنا نفسي على الألمان سببا في إزالة ما كنت أشعر به من الكراهية لنظام الحكم الروسي، وجملة القول: إن جحافل هتلر كان لها من الأثر الناجح في إيقاظ روح الوطنية الروسية أكثر مما كان لجميع النداءات الحربية الجديدة التي أصدرها الكرملن لإثارة الروح العنصرية والقومية.
ولو أننا كنا نحارب بلدا ديمقراطيا رحيما مستنيرا، يحمل إلينا نعمة الحرية والسيادة القومية في نطاق أسرة الأمم الحرة، لتغير الموقف تغيرا تاما، ولكن الروس لم يكن لهم إلا أن يختاروا بين استبدادهم الذي ألفوه وبين استبداد أجنبي يكتوون بناره، وليس من حق الطغاة الروس أن يفخروا بأن الشعب قد فضل الأغلال الوطنية على النير الأجنبي.
وكان الكرملن يؤكد فيما كان يذيعه من الدعاوة بين القوى المسلحة وبين الأهلين بوجه عام أن المغيرين يعتزمون إعادة الأملاك الكبيرة إلى ملاكها ورءوس الأموال العظيمة إلى أصحابها، وكانت هذه وسيلة يقوون بها روح الشعب المعنوية؛ لأنها في حقيقة أمرها مبدأ مشترك يلتقي عنده الشعب وحاكموه؛ ذلك أن الروس على بكرة أبيهم - اللهم إلا أقلية لا يؤبه بها - لم يكونوا يرغبون في عودة الملاك والرأسماليين في أية صورة كانت، مهما كان من بغضهم للطغيان السياسي والاقتصادي الذي فرضه عليهم نظام الحكم السوفيتي، وكانت التربية المعادية للرأسمالية وما غرسته في قلوب الروس من كراهية لهذا النظام في ربع قرن من الزمان قد أثرت أعظم الأثر في العقلية الروسية.
ولكن ملايين من الرجال الذين كانوا يبذلون أرواحهم في حرب النازيين في جبهة القتال أو في حرب العصابات كانوا يحلمون بأن روسيا جديدة محررة من طغيان حزب واحد أو رجل واحد تنعم بالحرية الديمقراطية ستبعث من رماد هذا اللهب، وكانت الحكومة تقوي في نفوسهم هذا الأمل الكاذب وبخاصة في الأقاليم التي اجتاحها العدو طالما كانت الدائرة تدور علينا، ومن أجل ذلك نشرت صحافتنا نص ميثاق الأطلنطي وحريات روزفلت الأربع، ولكنها نشرتها دون أن تعلق عليها بشيء، على أن هذا النشر المجرد قد بعث فينا آمالا جديدة قوية، أما في الأقاليم المجتاحة فقد استغلت الدعاوة هاتين الوثيقتين إلى أقصى حد، حتى أيقن الناس في تلك الأقاليم أنهم يحاربون من أجل روسيا الجديدة لا من أجل روسيا التي غدرت بهم وسلطت عليهم العذاب وطغيان الحزب الواحد، وكان الأهالي لشدة ما هم فيه من بأس وعذاب يتنسمون دخان الحيرة والقلق يظنونه نسيم الحرية.
وكذلك كان الشعب والحكام يحاولون جميعا إنقاذ البلاد، ولكن آمال هؤلاء وأولئك وأهدافهم كانا على طرفي نقيض، فأما رجال الحكم فقد كان همهم الأكبر أن ينقذوا أنفسهم ونظامهم ليواصلوا بعد ذلك مغامراتهم الشيوعية في داخل البلاد وخارجها، وأما الأهلون فقد كان يحركهم حبهم الخالص لبلادهم وأملهم في أن يحصلوا على شيء ولو قليل من الحرية السياسية والاقتصادية.
ولقد صور بعض الكتاب الخياليين حرب العصابات وتخريب البلاد أمام الجيوش الغازية في صورة خطة نفذها الشعب من تلقاء نفسه، ولكن الحقيقة أنها كانت خطة مدبرة ومرسومة بعناية تشرف عليها موسكو في جميع الأوقات، فقد قال ستالين في خطبة له أذاعها في 3 يوليو:
يجب أن تنشأ في الأقاليم التي يحتلها العدو فصائل مسلحة راكبة وراجلة، كما يجب إنشاء جماعات مهمتها تحويل العدو عن أهدافه الرئيسية بقتال وحدات جيشه، ويجب أن تنشب هذه الحرب المسلحة في كل مكان، وأن تنسف الجسور والطرق، وتحطم طرق المواصلات بالبرق والمسرة، وتحرق الغابات والمخازن وقوافل التموين، ويجب علينا أن نعمل لنجعل مقام العدو ومن يساعدونه في الأقاليم التي يستولي عليها مستحيلة كما ينبغي تعقبه وقتله في كل خطوة يخطوها، وتدمير كل منشآته.
وأمر كذلك بأن تدمر بلا قيد ولا شرط في أثناء تقهقر الجيش كل الممتلكات القيمة التي لا يمكن نقلها، ولسنا نذيع سرا إذا قلنا الآن: إن كثيرين من الفلاحين وسكان المدن كانوا يقاومون هذه الخطة أشد المقاومة ويضحون في سبيل ذلك بحياتهم في بعض الأحيان.
ونظمت رياسة قوة المقاومة المسلحة في العاصمة نفسها، فعين الرفيق بونومارنسكو - أمين سر لجنة الحزب المركزية في روسيا البيضاء - رئيسا لأركان حرب فرق المقاومة المسلحة في هذا الإقليم، وعين دميان كوروتشنكو - أمين سر اللجنة المركزية في أوكرانيا - قائدا لأعمال المقاومة في أوكرانيا، وعين رجل يدعى الرفيق لتسيس لهذا الغرض عينه في الدويلات البلطية، وكان هؤلاء كلهم من زعماء الحزب القدامى وإن كانت الدعاوة قد رفعت إلى مكان القيادة فيما بعد أناسا مغمورين من بين الذين كانوا يتنازعون سرا على مقاليد السلطة.
وبقيت وحدات من الجيش الأحمر في مؤخرة الجيوش الألمانية لتكون مراكز لحركات العصابات المسلحة بناء على خطة مرسومة، وانضم إلى الفرق المسلحة بطبيعة الحال أولئك الجنود الذين انفصلوا عن وحداتهم فألفوا أنفسهم مقطوعي الصلة بهذه الوحدات، وزاد عدد فرق المقاومة بمن انضم إليها من آلاف الموظفين السوفيت الذين لم يكونوا من أعضاء الحزب، ومن رجاله العاملين وأمثالهم ممن تخلفوا وراء الصفوف وعرفوا أنهم لن يصيبهم على أيدي النازيين إلا القتل والتعذيب، وتكفل الألمان أنفسهم بقسوتهم وفظائعهم بمن لم نذكرهم من قوة المقاومة المسلحة.
وثمة ناحية أخرى من نواحي المقاومة المنظمة لم يذكرها أحد غير مؤلف هذا الكتاب، وأعني بهذه الناحية أعمال رجال القسم السياسي الذين تركوا عمدا وراء الصفوف في كل إقليم احتله الأعداء، ليراقبوا - قبل كل شيء - سلوك المواطنين السوفيت في مؤخرة الجيوش الألمانية، فلما عادت هذه الأقاليم إلى حظيرة الوطن السوفيتي فيما بعد أعدم عشرات الآلاف من الرجال والنساء السوفيت، وحكم على مئات الآلاف منهم بالأشغال الشاقة بناء على التقارير التي رفعها هؤلاء الرجال إلى ولاة الأمور، وانضم رجال القسم السياسي أنفسهم إلى حركة المقاومة المسلحة فترعرعت بفضلهم حركة التجسس السوفيتية بين السكان الروس الذين وقعوا تحت سيطرة الاحتلال الألماني، ونقلت أسر الذين تركوا وراء الجيوش الألمانية ليقوموا بهذه الأعمال وأمثالها إلى الأقاليم السوفيتية غير المحتلة ليتخذوا فيها رهائن ضمانا لولاء أرباب هذه الأسر.
على أننا لا يحق لنا أن نؤمن بأن سكان الأقاليم المحتلة كانوا كلهم موالين لحركة المقاومة المسلحة، فقد كانت طائفة كبيرة - وإن شئت فقل أغلبية كبيرة - من سكان الدويلات البلطية تستقبل الألمان بطبيعة الحال استقبال من جاءوهم ليحرروهم من النير السوفيتي البغيض، فانضم هؤلاء إلى القوى الألمانية المسلحة في مطاردة العصابات السوفيتية، بل حدث أكثر من هذا إذ بقيت حركة المقاومة المسلحة في بلاد الروسيا الأصلية وبخاصة في أقاليم الدن وكوبان حيث كان للقحط ونظام المزارع الجماعية أفظع الأثر على السكان؛ نقول: بقيت حركة المقاومة المسلحة في هذه الأقاليم ضعيفة قليلة الأثر وكثيرا ما كانت تلقى مقاومة من السكان.
وكثيرا ما انفجرت في أوكرانيا أيضا مراجل الغيظ التي كانت تغلي في صدور أهلها من زمن بعيد على حكم ستالين، على أن الموقف في أوكرانيا كان معقدا تعقيدا يتطلب منا فصلا طويلا برمته إذا أردنا التحدث عنه في إيجاز، وحسبنا أن نقول هنا: إنه قامت في البلاد حركات كثيرة مناصرة للألمان يتزعمها مهاجرون من أهلها دربوا على الاضطلاع بواجبهم من زمن بعيد، وكانت فيها فوق ذلك حركة وطنية شريفة قوية واسعة النطاق لا يقل عداؤها للنازيين عن عدائها للسوفيت، وكان مبعث كثير من أعمال البطولة التي قامت بها العصابات المسلحة في هذه البلاد هو حقد الأهلين على ستالين وعلى هتلر سواء بسواء، وحتى الذين تعاونوا مع موسكو مخلصين، وتلقوا أوامرهم من كرنشنكو، كانت تحركهم آمال خداعة تبث فيهم عن قصد بأن أوكرانيا سيطلع عليها عهد جديد، تنال فيه حقها في الاستقلال الذاتي حين يطرد الغزاة من البلاد، يضاف إلى هذا وذاك أن عصابات مسلحة كانت تعمل سافرة لتنفيذ خطة مدبرة للانفصال التام عن الاتحاد السوفيتي، وترمي في آخر الأمر إلى إنشاء دولة أوكرانية ذات سيادة كاملة الاستقلال.
وما من شك في أن أعمال المقاومة السرية الأوكرانية ستمجد عن جدارة في تاريخ الروسيا، فقد برهنت هذه الحركة على ما يتصف به الأوكرانيون من شجاعة وعزيمة وروح وطنية متأصلة في قلوبهم، وصبر في أحرج الأوقات وأشدها خطرا، ولكن من أسخف الأشياء وأعظمها ضررا أن تشوه هذه الأعمال كلها وتتخذ دليلا على حب الشعب لطغيان ستالين، كما كان يوحى إلى السذج من الكتاب الأجانب، وجدير بنا أن نسجل هنا خدمة للحقيقة أن كثيرا من الأعمال التي كانت تحدث وراء خطوط الأعداء كانت تقوم بها قوى خاصة من بين رجال القسم السياسي دربوا تدريبا خاصا على حرب العصابات، وتحويل قوى العدو عن أهدافها الرئيسية، وجهزوا بكل الوسائل التي تعينهم على هذا العمل، وثمة عمل آخر جدير بالتنويه، وهو أن عددا كبيرا من الجنود الذين أعدوا لأعمال التخريب كانوا ينزلون بالهابطات وراء الخطوط الألمانية.
وأصدرت الحكومة في الثامن عشر من سبتمبر قرارا يقضي بتدريب جميع الرجال بين سن السادسة عشرة والخمسين ممن لم يدعوا قبل إلى التجنيد، فأما الذين لم يتجاوزوا سن السادسة والخمسين فكانوا يجندون في صفوف القوات المحاربة، وأما الذين كانوا بين هذه السن وبين الثامنة والخمسين فكانوا يؤخذون للعمل مع غير المحاربين، والواقع أن جميع الرجال مهما تكن سنهم وحالتهم الجسمية قد طلب إليهم أن يسجلوا أسماءهم ليدربوا تدريبا عسكريا بعد انتهاء عملهم اليومي الذي كان يطول في معظم الأحيان حتى يبلغ اثنتي عشرة ساعة، ولم يعف من هذا التدريب إلا من كانوا عاجزين فعلا عن العمل، وامتلأت ميادين موسكو ومتنزهاتها بالرجال المنهوكي القوى العمص العيون، الخمص البطون، الممزقي الثياب، يتدربون على الأعمال الحربية بالعصي بدل البنادق، فإذا أريد تدريبهم على إطلاق النار أعطيت كل فصيلة من الجند بندقية واحدة أو اثنتين، ولم يكونوا يعفون من هذا العمل وإن هطل عليهم المطر، أو خاضوا في الوحل، بل لقد كان مما يدربون عليه أن يسيروا في الوحل أو فوق الثلج ورءوسهم وبطونهم أقرب ما تكون إلى الأرض.
فلندع الكتاب القصصيين يقولوا عن هذا التدريب ما شاءوا ويتخذوا منه دليلا آخر على حماسة الشعب وتعطشه للقتال، أما الصورة الحقيقية فلم تكن بهذه الروعة، فقد كان التدريب إجباريا، وكان الامتناع عنه يعد فرارا من الصفوف ويحاكم الممتنع أمام محاكم الثورة التابعة للقسم السياسي، ولو عرف العالم حقيقة النظام المعمول به في الجيش الأحمر، وأن أقل مخالفة لهذا النظام يعاقب عليها بالإعدام من غير محاكمة، لما تغالوا إلى الحد الذي رأينا في مديح القوات المحاربة نفسها، ولسنا ننكر أن الجنود الروس أقدموا على كثير من أعمال البطولة، وثبتوا في مراكزهم أمام قوات تفوقهم عددا، وضحوا بحياتهم لينقذوا بلادهم ومواطنيهم ورفاقهم، فالحقيقة أن رعايا ستالين كانوا يحاربون هتلر بنفس الشجاعة التي كان الرقيق الإقطاعيون من رجال القيصر إسكندر الأول يحاربون بها نابليون، ولكن الذين يسيئون فهم عزيمة الروس القومية، وقدرتنا على الحرب والموت في سبيل بلادنا، فيصورونها على أنها فضيلة خاصة حديثة العهد تنطق بفضل الطغيان السوفيتي؛ إن الذين يفعلون هذا قوم مخادعون أو مخدوعون.
فالناس في الخارج يعلمون أن فصائل خاصة «لصد المتقهقرين» كانت توضع خلف صفوف الجيش الأحمر في ميادين القتال، وهي فصائل مؤلفة من جنود «الأمن الحكومي» التابعين للقسم السياسي تعمل بالتعاون مع الإدارة السياسية للجيش، وكان واجب هذه الفصائل أن تعترض طريق الجنود الفارين، وأن تمنع التقهقر الذي لم تقرره القيادة العليا، وكان من حق هذه الفصائل أن تطلق النار على كل من يخرج من الصفوف من غير إذن مهما يكن سبب خروجه منها، ولم تكن تتردد قط في استخدام هذا الحق، على أن الذي كان يحصل عادة أن هذه الفصائل كانت تسوق الجنود الذين تقبض عليهم إلى المحاكم العسكرية.
وكان من المناظر المألوفة أن ترى عربات محملة بالفارين من ميادين القتال يحرسهم رجال الشرطة السرية، يخرجون من السجون، ولعلهم كانوا يؤخذون إلى مكان منعزل ليعدموا جميعا، وكانت رءوسهم حليقة ووجوههم ممتقعة وأجسامهم ضعيفة هزيلة، يرتجفون في حلل عسكرية بالية، وأنا أعلم من مصادر وثيقة أن نسبة هؤلاء الفارين كانت جد عالية.
ومما يعيننا على فهم هذه الظاهرة - ظاهرة الفرار من الجندية - أن ملايين من الرجال الذين لا يليقون للجندية إذا قيسوا بأي مقياس من مقاييس الأمم المتمدنة كانوا يعبئون للخدمة العسكرية دون تمييز، ويرسلون إلى حيث يواجهون النار في ميادين القتال، دون أن يعدوا لذلك الإعداد الواجب، وكان من أسباب هذا الفرار أيضا ما استولى على الجنود من خوف وهلع، إن في مقدور فلاحينا السذج أن يواجهوا ما ألفوه من الأخطار ويصمدوا لها، أما الأسلحة الحديثة من دبابات وقاذفات لهب وقنابل تصب عليهم من السماء فقد تركت الكثيرين منهم قبل أن يألفوها في حيرة وهلع، ولما كان هؤلاء تنقصهم الأسلحة التي يستطيعون بها مقاومة أسلحة العدو الفتاكة وكانوا يضطرون إلى استعمال «خليط مولوتوف» بدل المدافع المضادة للدبابات، فإن الكثيرين منهم عجزوا عن تحمل هذا العبء الشديد، وكان من أسهل الأشياء على الحكومة أن تعد فرارهم الذي كان نتيجة محتومة لعجزها الإجرامي جبنا منهم، ولما كانت لا تعبأ بحياة الأهلين فقد قنعت بأن تواجه الحديد الألماني بلحم الروس، والوقود الألماني بدماء الروس.
وقد ذكرت الخسائر الهائلة التي منيت بها الجيوش السوفيتية آلاف الآلاف من المرات واتخذت دليلا لا ينقض على ما يتصف به الروس من بطولة، ولا أقل من أن تذكر مرة واحدة دليلا على وحشية الكرملن وأخطائه الشنيعة.
وبدأ الجلاء عن موسكو في شهر أغسطس، وظل جاريا في مجراه خلال الجزء الأكبر من عام 1942م، حتى زال الخطر عن العاصمة، وقضيت أنا نحو شهر من الزمان قبل أن أنضم إلى الجيش الأحمر أعمل في فك عدد مصنعنا وإعدادها للنقل بالطريق المائي إلى جبال أورال.
ولما اشتدت الغارات الجوية الألمانية أخذ عدد من الأهلين يخلون مساكنهم طائعين، وأخذ بعض الحمقى والمتفائلين يرمون هؤلاء بالجبن وبالفرار من الميدان، فلما ازدحمت الطرق العامة والسكك الحديدية حول العاصمة بهؤلاء الفارين أحزننا وحز في نفوسنا أن ولاة الأمور أنفسهم لم يعنوا بتنظيم هذا الجبن وذاك الفرار من بداية الأمر.
وكان من أشق الأعمال وأكثرها إجهادا لرجالنا ونسائنا الجياع أن يرفعوا الأجهزة عن قواعدها وينقلوا الآلات الضخمة من أماكنها، وكان أصعب من هذا على نفوسهم علمهم بأنهم يقتلعون ويخربون أشياء ضحوا في إقامتها بالنفس والنفيس، وكانت عزيزة عليهم بعد أن أصبحت رمزا للرخاء الذي طال انتظاره، وكنا نقوم بهذا العمل في ظلام حالك، ولم يكن أحد من الناس حتى أشدهم طعنا في النظام السوفيتي يظن أننا سنضطر إلى الجلاء عن العاصمة ولما يمض على بداية الحرب أكثر من ستة أسابيع.
وخفت ضجيج الآلات وجعجعتها في مصنعنا ثم سكن، وخيم السكون على العاصمة كأنها استحالت قبورا، وكان العمال وهم بطبيعتهم أوداء طيبو القلوب يحيون حياتهم اليومية وهم صامتون واجمون، يخادعون أنفسهم بالأمل الكاذب في أن الخطر قد يكون مبالغا فيه، وخيل إلينا مرة من المرات أن هذا الأمل سيتحقق، فقد تلقينا أمرا من وزير الشئون الصناعية أن نقف حل الآلات، وما أن ثارت حماستنا لهذا النبأ حتى تلقينا أمرا يناقضه ويطلب إلينا أن نعجل بأعمال الجلاء.
واختبر عدد من الصناع الأخصائيين ليصحبوا الآلات إلى شرق البلاد، أما بقية العمال فقد سرحت جموعهم بعد أن أعطوا ما يعادل أجر أسبوعين، واتبع مثل هذا الإجراء في المؤسسات الصناعية الأخرى القائمة في موسكو، فكانت فظائع البطالة بعد فظائع الغارات الجوية، ونقص الطعام والبرد، واضطراب عمليات المياه والكهرباء، ضغثا على إبالة.
وأصبح الجو المحيط بالعاصمة في أواخر شهر أغسطس جو المكان المقضي عليه بالسقوط وإن كان النازيون لم يبلغوا ضواحي المدينة إلا بعد شهر من ذلك الوقت، وأخذ كبار الموظفين ينقلون أسرهم ومتاعهم إلى سفرولفسك وغيرها من مدائن جبال أورال في السيارات والقطر الحديدية والطائرات، وقبع مئات من زعمائنا في مكاتبهم وإلى جانبهم حقائبهم والسيارات الحكومية في انتظارهم استعدادا للفرار العاجل، وكنا نحن نعمل طول النهار، وندرب على القتال في أوائل الليل، ونقاوم آثار الغارات الجوية حتى مطلع الشمس.
وصدرت الأوامر بأن يعد جميع الموظفين المسئولين في مصنعنا وفي جميع المؤسسات الصناعية في العاصمة «مجندين»، وظللت عدة أسابيع لا أذهب إلى منزلي، بل أطعم وأنام في مكان عملي، وإن أنس لا أنس قط منظر الرعب والهلع - والبطولة - حين بقينا أمام آلاتنا جامدين في أماكننا، والقنابل تتساقط من حولنا، والطائرات الألمانية تئز فوق رءوسنا، والنساء والشبان يصرخون صراخا جنونيا في بعض حوانيتنا، لقد كان هذا المنظر امتحانا لأعصابنا أظهر فيه الشعب الروسي ما يتصف به من قوة وجلد.
وفرج كربي انضمامي إلى الجيش الأحمر، فقد شعرت وقتئذ أني وضعت في موضعي الصحيح، وتلقيت في أوائل سبتمبر أمرا من لجنة المجندين بأن أقدم نفسي للفحص الطبي، وكانت فترة من الزمن قد انقضت منذ أن أزيل اسمي من ثبت المتطوعين، ومحا يجوروف ومنتروف اسمي من بين أسماء من لا يستطاع «الاستغناء عنهم»، ولم يتطلب فحصي الطبي أكثر من دقيقتين.
وأرسلت إلى كلية الهندسة الحربية في بلشيفو على قيد عشرين ميلا من موسكو برتبة كبتن (يوزباشي) وهي الرتبة التي كنت أحرزها من قبل، وانضممت إلى فرقة خاصة كان ضباطها يعدون إلى الترقي لمناصب أعلى من مناصبهم، وتلقيت مع مئات غيري من المهندسين في مختلف المهن دراسات واسعة في الهندسة العسكرية بالإضافة إلى التدريب العسكري نفسه.
وكانت بلشيفو هذه قريبة من العاصمة، فلم أشعر أنا وإيرينا حتى ذلك الوقت بألم الفراق.
الفصل الثالث والعشرون
الذعر في موسكو
وعينت منظما للحزب في بلشيفو فأصبحت بفضل هذا المنصب ذا مركز سياسي رئيسي بين الضباط الذين كانوا زملاء لي في المدرسة، وكنت في جميع الأعمال الحربية أتلقى أوامري بطبيعة الحال من أمير الألاي فافاركين ومساعدين، وألفت بين قلوبنا المأساة المروعة التي كانت تجتازها بلادنا، وكان لدينا جماعة من الأولاد في العقد الثاني من عمرهم يتلقون منهجا دراسيا، لكن الغرفة التي أشرف عليها كانت تتألف من رجال ناضجين ضرستهم التجارب القاسية في الأعمال الصناعية والسياسية السوفيتية، رجال لا تؤثر فيهم الأوهام، ولم أدخر جهدا في مواساة رفاقي جميعهم وتخفيف المصائب عنهم.
وكنت في خبيئة نفسي عدو نظام الحكم الألد، أمقت وحشيته، وزاد من مقتي إياه ما كان يتجمع حولي وقتئذ من دلائل عجزه، وكان من هذه الدلائل تلك الصفقة التي عقدها ستالين مع هتلر والتي نخجل كلنا من ذكراها حتى أشد الناس تعصبا لستالين، ولكنني رغم هذا كنت أحب بلادي، وأعطف أشد العطف على بني وطني، وأعرف الكثيرين ممن يشعرون بنفس هذا الشعور، وكنا جميعا نكظم غيظنا من ولاة أمورنا، ولا يتردد واحد منا في أن يضحي بحياته لتخرج بلادنا من هذه الحرب منتصرة.
وكان تدريبنا العسكري في بلشيفو تدريبا ضعيفا لا يليق بأمة من الدرجة الثالثة، فما بالك بدولة عظيمة قضت عشرين عاما تبذل كل جهودها لتصنيع بلادها؟! وكانت العدد التي سلمت لنا لبناء القناطر وحظائر الطائرات من طراز بدائي ولا تكاد تزيد على فأس ومجرف، ولم نكن ندري أين ذهبت المهارة الصناعية التي طالما تغنى بها الخطباء الشيوعيون، وطالما استمعت إلى ألفاظ السخرية اللاذعة واللوم الصريح.
من ذلك ما قاله أحد الضباط المدربين وهو يسخر: «يجب أن نعتز بتلك العدد التي أعطيت لنا لنبث بها الألغام اعتزازنا بآثارنا القومية فقد ورثناها من الماضي السحيق.»
وقلت أنا بعد أن استمعت إلى محاضرة وانفردت بالمحاضر: «ألن يصيدنا الألمان صيد الطيور ونحن ننشئ أمثال هذا الجسر العوام الثقيل؟»
فأجابني المحاضر وهو يتحسر: «يؤسفني يا رفيق كرافتشنكو أن أقول إن هذا صحيح، ولكن ماذا نفعل وليس لدينا من العدد إلا ما رأيت؟»
ومن سوء الحظ أيضا أن المعلمين أنفسهم كانوا من البساطة كما كانت العدد التي يعملون بها، فقد كان «القائم مقام» الذي يحاضر في إنشاء الطرق ممن يصح أن يتلقوا دروسا من أي رئيس لطائفة من الفعلة يقومون بهذا العمل ويفيد من هذه الدروس أكبر فائدة، ولكن حسبه أنه كان شيوعيا موثوقا به، فكان يقضي كل وقته في أن يعيد على مسامعنا ما قام به من أعمال مجيدة في أيام الحرب الأهلية، يضاف إلى هذا أننا بوصفنا ضباطا كان مفروضا علينا أن نقضي كثيرا من الوقت في قراءة الكتب المختارة من مؤلفات لينين وستالين ومناقشة ما نقرؤه منها، كأن ولاة أمورنا يفترضون أننا لا نستطيع بث الألغام أو إقامة الجسور من غير أن نلم بشرح ستالين المشوه لمبادئ لينين.
ولم نتوان عن الدراسة بجد رغم ما يعترضنا من عراقيل وما يحيط بنا من مضايقات، فقد كنا جميعا ندرك خطر هذه الدراسة وهذا التدريب، ونشعر في أعماق أنفسنا بأنا سنكون مسئولين عن حياة الجنود الذين سوف تعهد لنا قيادتهم، وعن حل كثير من المشاكل الحربية الشائكة العظيمة الخطر.
وكنت بحكم منصبي - منصب منظم الحزب - على اتصال دائم بالشئون الهامة في وحدتنا الهندسية وفي العاصمة أيضا، أشهد جميع اجتماعات لجنة الحزب في المدرسة مع كبار الضباط، وكنا بذلك نستمع إلى التقارير السرية، وكلها تقارير متشائمة، فتحز في نفوسنا بحق أكثر مما تحز في نفوس الضباط من غير أعضاء الحزب.
وكنت كثير التردد على موسكو نفسها، فكنت لذلك معرضا لموجة اليأس التي تغطي عليها، ولما جد ولاة الأمور في إخلاء المدينة لاقتراب الألمان منها سادها الاضطراب والذعر، وكلما زاد الاضطراب والذعر زاد ضغط الشرطة وعسفها، وكان هذا العسف نفسه سببا في انتشار الذعر، فأصبحنا بذلك في دائرة مفرغة من العسف والاضطراب والذعر والنهب حرص المسئولون على إخفائها عن العالم الخارجي، وما كاد شهر سبتمبر يقترب من نهايته حتى أوشك الخوف والاضطراب أن يؤديا إلى الانفجار، فقد غلت مراجل الغيظ في قلوب أهل موسكو لما صحب عمليات الإخلاء من محاباة صارخة، فأصبحت أسمع لأول مرة منذ عشرين عاما اللعنات تصب على الموظفين الرسميين، وأخذ كل مكتب من مكاتب الإدارة الحكومية يعد كشوفا بأسماء من يحق لهم أن يستخدموا القطر الحديدية للسفر إلى كوبيبشف وسفردلوفسك وغيرهما من مدن اللاجئين، وكان أساس الاختيار نظريا إمكان «الاستغناء» عن الناس أو عدم الاستغناء عنهم، أما في الواقع فقد كانت القرابة والصلات السياسية هي الحكم الأخير.
واستطاع كل من له صلة بذوي السلطان والمتطفلون عليهم أن يحصلوا على أماكن لأثاث منازلهم، وخزائن ملابسهم، وعشيقاتهم وأقاربهم، على حين أن آلافا من الأسر التعسة بقيت معسكرة بين حقائبها ومتاعها المحزوم في محطات السكك الحديدية ترجو عبثا أن تجد مواضع لأقدامها في أي قطار متجه نحو الشر، وكانت هذه الأسر نفسها أسعد حظا من سواها، فهي التي أذن لها بالهجرة، وكان ثمة آلاف من الأسر فرت من وجه الأعداء سيرا على الأقدام.
وكان كل يوم يمر يزيد في عدد الفارين المجتمعين حول محطات السكك الحديدية وفي ذعرهم وجلبتهم، وامتلأت المدينة بأقذارهم وفضلاتهم، وشهدت عدة لجان لبحث هذه المشكلة المنذرة بأوخم العواقب، ولو أن هؤلاء السكان كانوا حيوانات لا بشرا لعنينا على الأقل بأمر طعامهم في سفرهم الطويل، ولكن أحدا من المسئولين لم يفكر في إثارة موضوع توفير الطعام للفارين أو في الطريقة التي يصلون بها إلى الملاجئ التي يقصدونها، وكيف يعيشون بعد أن يصلوا إليها.
ولما زادت الجموع المكدسة حول محطات السكك الحديدية وتعذرت السيطرة عليها، جيء لها بعربات الحيوانات وعربات الفحم غير المغطاة، وحشر فيها المواطنون السوفيت دون أن يعني أحد بتطهيرها، وبدأنا رحلتنا البطيئة الرهيبة بين البكاء والعويل، وكم من طفل ضل عن ذويه، وكم من أسر تشتت أفرادها، وكم من الناس اضطروا إلى ترك متاعهم العزيز عليهم، وكثيرا ما كانت مشاعر هؤلاء تضطرب حتى تصل إلى حد الجنون حين تنقض عليهم طائرات العدو؛ ذلك أن محطات السكك الحديدية كانت من أحب الأهداف إلى النازيين.
وكأنما كان ولاة الأمور يسخرون عن قصد بهؤلاء الفارين، فقد كانت قوافل من السيارات الرسمية المريحة تخرج من موسكو محملة بأسر الصفوة المختارة وبأمتعة بيوتها، كأن الحرب وأخطارها قد وسعت ما بين الطبقات من هوة وزادتها بشاعة على بشاعتها.
وبدت العاصمة في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر وكأنها قد فقدت جميع نشاطها وحيويتها؛ ذلك أن المدن كالأفراد تتحطم أعصابها في بعض الأحيان، فكانت مركبات الترام والسيارات العامة لا تعمل إلا في فترات متقطعة غير منتظمة والحوانيت خالية، ولكن الناس الجياع كانوا يقفون صفوفا في كل مكان ولو لم يكن فيها ما يطلبون، وحتى «إيرينا» نفسها كانت لا تجد الطعام أحيانا مع أنها كانت لها صلات أحسن مما لغيرها، ولديها من المال أكثر مما لدى معظم الناس، وكانت المنازل ومكاتب الموظفين لا تدفأ، والماء والكهرباء لا يصلان إليها إلا في فترات متقطعة لا يركن إليها.
أما منازل رجال القسم السياسي والمحكمة العليا ووزارة الشئون الخارجية وعدة معاهد أخرى، ومركز القيادة العامة للحزب، أما هذه الأماكن كلها فلم يكن الدخان ينقطع منها ليلا أو نهارا، وبادر زعماؤنا إلى إتلاف السجلات ومحو كل ما يستدل منه على جرائمهم الرسمية التي دامت عشرات السنين، وأكبر الظن أن الحكومة تلقت أوامر من الجهات العليا بأن تمحو آثار هذه الجرائم حتى اسودت الثلوج التي تساقطت في شهر أكتوبر من رماد الأوراق المحترقة.
وحدث في إحدى الليالي أن فتح رجال القسم السياسي التابوت المحتوي على الآنية التي كانت فيها جثة لينين المحنطة في الميدان الأحمر، واستخرجوا منه هذه الجثة سرا وحملوها على عربة يد ثم وضعوها في سيارة خاصة سارت بها إلى مدينة تيومين في سيبريا حيث بقيت إلى نهاية الحرب بعد أربع سنين من ذلك الوقت.
ونقلت كذلك إلى داخل البلاد أثمن كنوز الكرملن ودور الآثار؛ وذلك لأن الغارات الجوية على موسكو أخذت تزداد عددا وهولا، وإن لم تبلغ من التدمير ما كنا نتوقع.
وفي الثاني عشر من شهر أكتوبر أمطر الألمان منطقة بلشيفو منشورات مطبوعة، وسرت على رأس فرقة موثوق بها من الضباط الشيوعيين لجمع تلك المنشورات الألمانية، وكانت الأوامر الصادرة إلينا تأمرنا ألا نقرأها بطبيعة الحال، وكان كل إنسان يعثر معه على منشور منها عرضة للاعتقال على الفور، ولكننا رغم هذا حاولنا أن نقرأها سرا في أثناء عملنا، ولم يكن لها فينا أثر ما اللهم إلا احتقارنا للأعداء، فقد بدت لي الدعاوة الألمانية غاية في الغباوة، وكان ما تفيض به من كبرياء وغطرسة مما تشمئز منه النفوس، ومن أكبر الأدلة على غباوتها أنها خلطت بين حب البلاد وحب ستالين.
وفي تلك الليلة نفسها صحونا من نومنا على أصوات الإنذار، وما هي إلا نصف ساعة حتى سيقت ثلاث فرق من الضباط الشبان الذين لم يتم تدريبهم بعد بكامل أسلحتهم إلى أطراف موسكو الغربية، وبعد ثمان وأربعين ساعة من إرسالهم رجع ثلثهم مثخنين بالجراح، يرتجفون من البرد ويكادون يهلكون من الجوع، وقد استولى عليهم الجزع وضعفت روحهم المعنوية، أما بقيته فلم تعد إلينا أبدا، وكان معظم هؤلاء الضباط من لجان الشباب التابعة للحزب ومن أشد الشبان تحمسا وتعصبا، وقد ذهبوا إلى الميدان وهم ينادون: «من أجل ستالين، ومن أجل الحزب.»
وظللنا جميعا منذ 13 أكتوبر معسكرين وسط الثلوج في غابات بلشيفو نحرس قطاعا من الطرق الموصلة إلى العاصمة من تلك الجهة التي ظن ولاة الأمور أن الجنود الألمان سيهبطون فيه من طائراتهم، وكانت ملابسي الداخلية هي ملابس الصيف، وكان في قدمي حذاءان من الخيش الخفيف، وعلى رأسي قلنسوة صيفية، وفوق ملابسي معطف عسكري مهلهل، وذلك كله في جو درجة حرارته أقل كثيرا من درجة الصفر، أما أسلحتي فلم تكن تزيد على بندقية من بنادق التدريب وثلاث طلقات، ومع أننا كنا جميعا ضباطا فلم يكن فينا إلا عدد قليل لهم من الملابس التي تقيهم البرد أحسن من ملابسي، وكان أسعدنا حظا من أعطوا خمس طلقات؛ ذلك أن ما وعدتنا به القيادة العامة من الذخائر الحربية لم يصل إلينا شيء منه، وكان مع الكثيرين منا بطبيعة الحال ملابس مدنية مدفئة، فقد كان لدي أنا مثلا حذاءان جيدان وملابس داخلية من الصوف وغيرها من الحاجيات، ولكننا أمرنا ألا نستخدم شيئا من هذه الملابس، وهكذا تجمدت أطرافنا من البرد وقاسينا الأمرين لكي نرفع إلى ذروة المجد رياستنا العسكرية الغبية.
وستظل ذكرى تلك الأيام والليالي التي قضيناها بين الثلوج، والتي خرج منها كثيرون من رفاقي متجمدي الأطراف محمومين، منقوشة أبد الدهر في مخيلتي، على أن حاجتنا إلى الملابس الصالحة والعدد والذخائر الحربية لم تحزنا بقدر ما أحزننا منظر السيارات المملوءة بالطفيليين وأمتعتهم تجري بأقصى سرعتها من موسكو، وصاح ضابط كان يرقد إلى جانبي في خندق يملؤه الثلج: «إذا رأيت سيارة أخرى يركب فيها أولئك البيروقراطيون فسأطلق الرصاص على هؤلاء الأوغاد وأمزق جلودهم.»
فأجبته قائلا: «خير لك أن تدخر رصاصاتك الثلاث لتطلقها على الألمان.»
وعدنا من بلشيفو بعد ليلة قضيناها في العراء متعبين جياعا متجمدي الأطراف ونحن نغني هذه الأغنية الموضوعة لنا:
هيا إلى القتال في سبيل الأوطان
هيا إلى القتال في سبيل ستالين
إن شرف القتال عزيز على نفوسنا
وإن جيادنا الأصيلة لتضرب الأرض بحوافرها
ونحن نهاجم أعداء ستالين.
ولم يكن قلبي ينطوي على شيء من الحب لستالين في تلك الأوقات، ولم تكن حوافر الخيل هي التي تضرب الأرض في فصل الشتاء بل كان يضربها حذائي المصنوع من الخيش والذي كان ينزلق بي على الأرض، ولكنني رغم هذا كنت أغني مع المغنين، ولم تكن ألفاظ هذه الأناشيد الحربية تتناغم على الدوام مع العواطف التي تنطوي عليها قلوبنا.
وأرسلت في مساء اليوم الخامس عشر من ذلك الشهر فرقتان من المهندسين أصحاب المؤهلات العلمية في مهمة سرية إلى موسكو، وأبلغت أنا حقيقة هذه المهمة بوصفي منظما للحزب، على أن تكون هذه الأخبار سرا لا تصح إذاعته، واتفق على أن تتبع هاتين الفرقتين فرق أخرى من الوحدات الهندسية التابعة للقسم السياسي، وكانت المهمة الموكولة إلى هذه الفرق جميعها هي بث الألغام في مدينة موسكو، وبناء على هذه الأوامر السرية وضعت الألغام تحت طرق المدينة والمباني الرئيسية في الكرملن ومحطة توليد الكهرباء ومحطة المياه ومحطات السكك الحديدية والمتاحف والملاهي ومباني المصالح الحكومية الرئيسية ووسائل الاتصال والمواقع المحصنة، وقصارى القول: إن كل شيء قد أعد لنسف العاصمة، ولو تم هذا لقضي على حياة عدد كبير من الألمان، وعلى حياة عدد أعظم منهم من الروس، ولم ترفع هذه الألغام إلا في صيف عام 1942م.
وأرسلني أمير الألاي فارفاركين إلى موسكو في صباح اليوم السادس عشر من ذلك الشهر، فلما وصلت إلى المدينة وجدتها في أشد حالات الذعر والاضطراب تملأ جوها الشائعات المروعة، فقيل مثلا: إن انقلابا سياسيا مفاجئا قد حدث في الكرملن، وأن ستالين قد قبض عليه، وأن الألمان وصلوا فعلا إلى فيلي في أحد أطراف المدينة، وأكد بعض من ذهب الروع بلبهم أنهم أبصروا الألمان ينزلون بالهابطات في الميدان الأحمر، وقال بعضهم للبعض الآخر: إن الألمان كانوا بيننا في زي رجال الجيش الأحمر، وأخذت الجموع تموج من شارع إلى شارع ثم تعود إلى الجهات التي بدأت منها وهي في أشد حالات الفزع.
وبدأت وقتئذ الاضطرابات وأعمال السلب والنهب، وأخذ الغوغاء يهاجمون الحوانيت والمخازن وهم في أشد حالات الجنون، وانتشرت في المدينة شائعة تقول: إن المدينة قد خلت من الحكومة، وإن ملايين من أهل موسكو قد تركوا وشأنهم من غير طعام ولا وقود ولا سلاح، وقصارى القول: إن النظام أخذ ينهار.
واكتظت فنادق سافوي ومتروبول وغيرها من فنادق الطبقات الراقية بالنساء اللاتي تملكهن الرعب وبالعاهرات، وأخذن جميعهن يحرضن على الفسق كبار الموظفين الذين لم يغادروا المدينة بعد، وجرى النبيذ والفودكا من غير حساب، ولعل أخبار هذا التهتك كان مبالغا فيها ولكنها في حد ذاتها دليل على ما أصاب الناس وقتئذ من انحلال.
ولقد تبين لي مما عرفته من الأخبار المفصلة أن بعض ما كان يذاع وقتئذ على الأقل كان صحيحا، مثال ذلك أن كبار الموظفين في مقر مجلس الوزراء القائم على طريق سدفايا -كرتنايا أحاطوا بالفتيات الموظفات وأسكروهن وظلوا يستعمون بهن عدة ساعات، وسلك غيرهم من الموظفين في مئات من مكاتب الحكومة وفي مساكنهن الخاصة مسلك من يعتقد أن الساعة قد أزفت، وزادت الشائعات والغارات الجوية الشديد من ذعر الأهلين حتى استحال هذا الذعر جنونا.
واستطعت أن أعود إلى بلشيفو في أثناء الليل، فوجدت طائفة كبيرة من الرعاع الصاخبين خارجة من دارنا، وكان النهب قد بدأ بعيد خروجي واستمر عدة ساعات، وسرعان ما انضم إلى أهل المدينة كثيرون من القرويين أقبلوا من القرى القريبة، وفر الضباط القواد، وما أن اقتحم القوم المخازن العسكرية حتى انضم إلى الفرق النهابة كثيرون من الضباط لكي يحصلوا من هذه المخازن على بعض ما يلزمهم من الملابس الثقيلة، وسرعان ما اختطف الغوغاء النهابون كل ما وجدوه أمامهم من بطاطين وأغطية الفراش وحلل عسكرية وأحذية وأغذية، وبدا المكان كأنه مجزر، وتناثر على الثلوج المحيطة به ما لم يعن الناس بانتهابه.
وأمكنني أن أصل إلى أمير الألاي فارفاركين بعد وقت قصير، وما من شك في أنه قد وصلت إليه طائفة كبيرة من التقارير، وأنه كان عاجزا عن تدارك الشر، واستمع إلى ما قصصته عليه في ضجر وغضب، وكان هو نفسه يمثل ما في العاصمة من ذعر، ويعتقد أن بلشيفو ستخلى بطريقة ما، وأن الأفضل في هذه الحال أن ينهب الأهالي ما فيها بدل أن تترك غنيمة للنازيين ... وما أن انتصف الليل حتى عاد هو وغيره من الضباط بعد أن ترك الناهبون المدينة وعاد إليها شيء من النظام، ولم يمض إلا القليل حتى كنا نجثو فوق الثلج في الغابة المجاورة ونحن موقنون أن ليس لدينا من القوة ولا من الإيمان ما يعيننا على مقاومة الألمان إذا أقبلوا من هذه الجهة.
وفي هذا الوقت عينه كانت جموع الخلائق من رجال ونساء وأطفال تموج في موسكو مضطربة حائرة تنتقل في الشوارع وتحاصر محطات السكك الحديدية، وفي السابع من أكتوبر عاد الغوغاء إلى اقتحام المخازن والأسواق والحوانيت طلبا للقوت، ووقف رجال الشرطة مغلولي الأيدي ، وهجمت الجموع على محال بيع اللحوم في ملكويان فلم يبقوا فيها رطلا من اللحم الطازج أو المحفوظ، واقتحم الخلائق الجياع الذين تركتهم الحكومة وشأنهم مصانع الحلوى في ميدان ميكوفسكي واقتسموا فيما بينهم أطنانا من الحلوى والسكر والزبد وغيرها من المواد غير المصنوعة، وحدث هذا بعينه في عشرات من المنشآت الأخرى.
ودام الاضطراب طول الليل وطول اليوم الثامن عشر من أكتوبر، واعتقد آلاف من الشيوعيين أنهم قد سدت في وجوههم سبل النجاة من هذه المدينة الموشكة على السقوط، فأتلفوا ما لديهم من بطاقات الحزب والمطبوعات السياسية، وصور ستالين وغيره من الزعماء، وفي وسعي أن أقرر هنا حقيقة رهيبة أكدها لي فيما بعد مئات المرات رجال من المطلعين على خفايا الأمور.
لقد كان في وسع الألمان أن يستولوا على المدينة في ذلك اليوم دون أن يلقوا فيها أي مقاومة، ولو أنهم أنزلوا فيها فرقتين أو ثلاث فرق بالهابطات لسقطت المدينة في أيديهم.
ولم تكن فيالق العمال التي جندت على عجل والتي انتشرت في أطراف المدينة حسنة التدريب أو جيدة التسليح، وكان ولاة الأمور داخل العاصمة عاجزين لا حول لهم ولا طول، ولم تلق طلائع الدبابات الألمانية التي وصلت إلى همكي مقاومة تستحق الذكر، ولا يعرف أحد سبب ارتداد الألمان عن العاصمة فذلك سر لن يعرفه التاريخ إلا من الألمان أنفسهم، ولعلهم قد قدروا منعة حصون موسكو فوق قدرها، فقرروا أن ينتظروا حتى يأتيهم المدد في الربيع، ولا يبعد أنهم حسبوا أن ضعف وسائل الدفاع عن موسكو إن هو إلا شرك نصبه لهم الروس ليوقعوهم فيه، ثم ينقضوا عليهم كالصواعق، تلك كلها أمور لا تعرف حقيقتها، وكل ما نعرفه يقينا أنهم لم يدر بخلدهم أن العاصمة تكاد تكون خالية من وسائل الدفاع، وأنها من الوجهة النفسية قد استسلمت لهم.
وبدأت الأمور تتحسن ابتداء من اليوم التاسع عشر، فقد أخذت طلائع جيوش سيبيريا وجيوش الشرق الأقصى الحسنة التدريب تصل إلى المدينة، ونفض رجال الشرطة ورجال القسم السياسي غبار الكسل والتراخي عن أبدانهم، وأصدر ستالين في ذلك اليوم أمرا وقعه بإمضائه، وأرسل إلى جميع الموظفين، ونفذ لساعته وإن لم ينشر على الجمهور إلا بعد يومين، وتدل لهجة هذه الوثيقة على أن الزعيم يعلم أن موسكو كانت تخوض غمار ثورة غير منظمة.
واستهل الأمر بالصيغة الآتية: «رغبة في تأمين الدفاع عن موسكو من خلفها، وتقوية مؤخرة الجيوش المدافعة عنها، ووضع حد للأعمال المخربة التي يقوم بها الجواسيس والمنشقون وغيرهم من دعاة الفاشية الألمانية.» ثم أخذ يعدد أنواع العقاب العاجل الصارم الذي يحل بمختلف الطوائف، وقال: إن «مثيري الفتن والجواسيس وغيرهم من عمال الأعداء الذين يعتقلون لمخالفة القانون والنظام سيعدمون في الحال رميا بالرصاص.»
وكانت الأوامر موجهة إلى سينيلوف قائد حامية موسكو وجاء فيها أن «سيكون تحت تصرفه جميع جنود الدفاع الداخلي من فرق القسم السياسي، والرديف وفرق العمال المتطوعين.» والعبارة الأخيرة لفظ كان يطلق على رجال الحزب الشيوعي، وقد رأى ستالين ألا يعهد هذه الأعمال إلى رجال الجيش الأحمر، فقد كان يخشى أن يرفض الجنود النظاميون أن يطلقوا النار على مواطنيهم، كما حدث منذ خمس وعشرين سنة، وفضل أن يعتمد على الرعب الذي يقذفه في قلوب الأهلين اسم رجال القسم السياسي، كما احتمى مستشارو القيصر في العهود الماضية بفرق القوزاق المروعة ورجال الدرك.
وكانت المحاكم العسكرية جادة وقتئذ في عملها لا تنقطع عنه لحظة، واعتقل آلاف من أهل المدينة وأعدموا، ولكن الرعب الذي كانت تقذفه هذه المحاكم في القلوب لم يكن الذي قضى على الذعر، بل الذي قضى عليه هو ما وصل إلى الأهلين من أخبار ارتداد الألمان تحت الضربات التي كان يكيلها لهم الجنود الجدد القادمون من سيبيريا والشرق الأقصى، ومن أنهم يعتزمون إعادة تنظيم قواتهم وحشدها لحصار المدينة في فصل الشتاء المقبل.
هذا ما كان يحدث في موسكو، أما في بلشيفو فقد تلقينا أمرا بإخلاء المدينة، ونفذنا ما أمرتنا به القيادة العليا من إحراق الأوراق السياسية والبطاقات العسكرية والمحفوظات، ولم نكد نعد العدة للرحيل حتى تلقينا أوامر مضادة للأوامر السابقة، ثم تجدد الأمر بالانسحاب إلى الشرق بعد بضعة أيام، وكانت هذه الأوامر الأخيرة في هذه المرة أوامر جدية.
وزاد من متاعبي الشخصية أن أصبت وقتئذ بألم شديد في أسناني، وعالجني طبيب حدث من أطباء المستشفى العسكري، فحشى لي أحد الأضراس بقطن غمسه في دواء ما وغطاه بالأسمنت، وظن الطبيب أن هذا الحشو سيبقى حتى أصل إلى المكان الذي أنا مرسل إليه والذي لم يكن أحد منا يعرفه، لكنني قضيت الشهر التالي في آلام مبرحة كادت في بعض الأحيان أن تذهب بعقلي، وقد قضيت من هذا الشهر سبعة عشر يوما مسافرا في عربة من عربات البضائع مزدحمة بالجنود، أعقبتها رحلة دامت ستة أيام مشيا على الأقدام، في حذاءين من الخيش لهما نعلان من المطاط، وأخذ خدي في كل يوم يزداد تورما والألم يزداد شدة كادت تتحطم منها أعصابي.
أخذت جيوش الشرق الأقصى التي ضرسها قتال اليابانيين على الحدود الشرقية، وجيوش سيبيريا التي تعودت القتال في زمهرير الشتاء، أخذت هذه وتلك تتدفقان إلى غرب القارة لتصد المغيرين، وأخذت فصائل أخرى أقل من الفرق الأولى عددا تنتقل انتقالا بطيئا في اتجاه مضاد للاتجاه الأول، فاخترقت إقليم الفلجا وجبال أورال لتتدرب على القتال، وكانت معظم هذه الفصائل من مجندين جدد، ولكنها كانت تحتوي أيضا على جنود نجوا من القتل في الهزائم الساحقة التي منيت بها القوات الروسية في سائر الميادين، وضرستهم النكبات، وأرسل هؤلاء كلهم ليدربوا تدريبا جديدا ويسلحوا تسليحا جديدا، وكان هذا العمل بداية الاستعداد الصحيح لمقاومة الأعداء.
وتكشفت هذه الصورة عن بطء في الاستعداد الحربي يعد في واقع الأمر كارثة من أشد الكوارث، واستطاع هتلر بسببه أن يجتاح من أراضي الروسيا أكثر مما اجتاحه نابليون أو غيره من الغزاة القادمين من الغرب، ويزهق أرواح الملايين، ويشوه أجسام ملايين غيرهم من الروس، وكان الثمن الذي دفعناه نظير أخطاء سادتنا وانهماكهم في مسراتهم ثمنا باهظا تنوء البلاد بعبئه، ولكن القوات التي سيعاد تنظيمها ستصد فيما بعد تيار الحرب المتدفق، وسيكون من سخريات التاريخ أن يحظى المخطئون الذين كانوا سببا في هذه الكوارث بالشرف والتقدير.
وكانت الوحدة الهندسية التي أنا تابع لها من الفرق التي سيرت إلى الشرق بعيدة عن مناطق الخطر لتنال قسطها من التدريب، ولقد كان منظر القطر الحديدية الكثيرة العدد في كل يوم بل كل ساعة تقريبا مما يقوي الأمل في النفوس، ويبعث فيها الثقة بالنصر النهائي، ولكنها كانت إلى جانب هذا تبعث فينا الحسرة والأسى؛ لأن معظمنا كان يخالجه شعور بالإجرام لا يستند في الواقع إلى أساس صحيح، ولكنه كان مع ذلك مؤلما للنفس ومعذبا لها، فقد بدا لنا أن من العار أن نبتعد عن نيران القتال المتأججة وإن كنا لم نبتعد عنها إلا إطاعة لأوامر عسكرية، وكنت أنا فعلا قد طلبت أن أرسل إلى جبهة القتال، وحذا حذوي معظم رفاقي.
وأرسلت سرية من الضباط إلى محطة السكك الحديدية لتتفقد القطار المخصص للجلاء، فوجدت أنه قد أعدت لنا خمسون مركبة من مركبات النقل، وأن هذه المركبات كلها تقريبا قد ملئت إلى سقفها بملفات ضخمة من ورق الصحف، وكانت نتيجة هذا أن قضى عدد من المهندسين الفنيين الذين يحملون ألقابا عسكرية كبيرة الليل كله حتى صباح اليوم الثاني يلقون بهذه الأوراق على الثلوج، ولما تم لنا هذا تفرقنا جماعات لنستولي على كل ما عسى أن نجده من المواقد والمصابيح والألواح والمناضد الخشبية مما يعيننا على احتمال مشاق سفرنا، وعهد إلى بعضنا خرق ثقوب في أسقف العربات ليخرج منها الدخان، وأخذ بعضنا يعاون الحمالين على وضع أدواتنا في الأماكن المعدة لهذا الغرض.
وأقبلت في المساء أمهاتنا وزوجاتنا وأطفالنا لوداعنا، وشهدت المحطة المناظر المألوفة في مثل هذه الظروف، ولكنها مناظر يذوب منها القلب حسرة، وشغلت «إيرينا» بورم خدي وملابسي غير الصالحة فألهاها ذلك عن البكاء.
وكانت عربات السكك الحديدية السوفيتية تتسع حسب نظم أوقات الحرب إلى أربعة وعشرين راكبا، لكن عرباتنا حملت خمسين راكبا أو أكثر حتى لم نجد فيها متسعا للجلوس بله التمدد في وقت واحد، ولم يكن فيها أسرة للنوم ولا مناضد ولا أجهزة للغسيل ولا قضاء الحاجة، وكنا ننام فيها بالتناوب.
وكان في عربتي موقد صغير يشع حرارة ضئيلة على ما حوله مباشرة، فأخذنا نتبادل الجلوس حوله لندفئ أجسامنا، وكانت العربة خالية من وسائل الإضاءة، وكان بعضنا قد استولى على فانوس من كوخ في بلشيفو، ولكن الشمعة التي كانت موقدة فيه ما لبثت أن انطفأت، ولم تمض إلا بضعة أيام حتى كان نصف عدد رجالنا قد أصيبوا بنزلات البرد الحادة، والاضطرابات المعدية والمعوية، وغيرها من الأمراض، وظلت حال فكي تزداد سوءا يوما بعد يوم.
وعلى هذه الحال قضينا في سفرنا سبعة عشر يوما اجتزنا منها مرحلة تقطعها قطر الركاب العادية فيما لا يزيد على أربع وعشرين ساعة، وكنا نتحول إلى خطوط جانبية عدة مرات في اليوم لنفسح الطريق لقطر الجنود والعتاد الحربي المسافرة إلى جبهة القتال، أو إلى قطر المدنيين الفخمة الغاصة بالموظفين الذاهبين إلى ملاجئ أمينة على نهر الفلجا أو ما وراءه من الأقاليم.
ولم يكن أحد يعرف مستقرنا إلا كبار الضباط والوزراء، وكنت أنا ممن يعرفون ذلك المستقر، كنت أعرف أننا ذاهبون إلى بلدة منزلنسك الصغيرة في جمهورية التتار، وعاصمة هذه الجمهورية هي مدينة قازان القديمة، وتقع منزلنسك هذه على نهر كاما أحد روافد الفلجا الشرقية.
وكنا نطعم كل يوم مرتين وثلاث مرات في بعض الأحيان في المحطات الكبيرة، ومع أن قطارنا كان يقف فترات طويلة في المحطات الصغيرة وبين المحطات أحيانا فإنا لم يكن يسمح لنا مطلقا بأن نخرج من العربات إلا بإذن صريح من رئيس العربة، وقلما كان يؤذن لنا بالخروج إذا طلبنا هذا الإذن، وقد سبب لنا هذا التعنت الذي لا معنى له بل قل هذا التعنت المهين كثيرا من الآلام، وولد في نفوسنا أشد الحقد؛ ذلك أننا لم نجد قط ما يدعو إلى وضع الضباط المسافرين إلى داخل البلاد تحت هذه الحراسة الشديدة، ومن أجل هذا أخذ غضبنا يزداد كلما طالت الرحلة.
وطلب صديقي الضابط نومدوف أن يؤذن له بالخروج من عربة في إحدى المحطات الصغيرة، فلما رفض طلبه قال في غضب مكبوت: «ليس هذا قطارا يقل ضباطا سوفيت بل هو سجن!» ولم يسمعه قائد العربة، ولكن عددا قليلا من الضباط الآخرين سمعوه ويقيني أن واحدا من الأوغاد الذين معنا - وأظنه أحد الشيوعيين الذين كانوا يطمعون في منصبي وهو منصب الوكيل السياسي - نقل الخبر إلى كبار ولاة الأمور من غير أن يكشف عن شخصية «المجرم» الذي نطق بذلك القول، وما من شك في أن التهمة ألصقت بي بوصفي أحد منظمي الحزب بدل أن تلصق بنومدوف، ومهما يكن من شيء فقد استدعيت في المحطة التالية إلى المثول أمام الرئيس الكبير «ل...».
وصرخ في وجهي قائلا: «لقد حدثت في عربتك مظاهرة مضادة للثورة، فلم لم تبلغ عنها، وهذا من واجبك بوصفك منظما للحزب؟»
فأجبته: «إني لا أعلم أن مظاهرة ما قد حدثت.» - «إن غيرك يعلمون بحدوثها، وإن عليك أن تبلغ عن العدو الذي قال: إننا نسافر كما يسافر المذنبون.» - «إني لا أعرف القائل، وفضلا عن هذا فلسنا إلا بشرا، وقد يتفوه الإنسان في ساعة غضبه بعبارات دون أن يقصد بها إيذاء أحد.» - «إنك يا كرافتشنكو رجل رقيق القلب أكثر مما يجب، إننا في حرب وكلما عجلت بفهم هذا الموقف كان ذلك خيرا لك، هيا بنا إلى العربة ودعنا نتعرف على هذا الوغد.»
وصار الرفيق «ل...» إلى عربتي وعليه سيماء الرغبة الشديدة في الانتقام، وخطب فيها خطبة غاضبة وطلب أن يبلغ فورا عن «الجاسوس الألماني»، وألقيت نظرة على نومودوف بينا كان الرئيس يغلي من الغضب ويتوعد، فرأيته ممتقع اللون وعضلات وجهه ترتجف، وخشيت أن يعترف على نفسه، وكنت أعرف قصته بطريق الصدفة، فقد كانت له زوجة وطفلان يحبهم حبا يقرب من العبادة، وقد وقعوا أسرى في يد الألمان، وكان يبغض المغيرين أشد البغض، وها هو ذا الآن معرض لخطر الإعدام رميا بالرصاص بتهمة أنه «عدو الشعب»، وأنه «جاسوس ألماني»؛ لأنه جرؤ على انتقاد قاعدة سخيفة، وكان من حسن حظه أن أحدا لم يبح باسمه.
وتكررت هذه الحادثة نفسها في اليوم الثاني، وكانت في هذه المرة أوخم عاقبة منها في المرة السابقة؛ ذلك أن ملازما شابا في عربتنا من الذين عادوا منذ قليل من جبهة القتال ثار غاضبا حين منع من الخروج لقضاء بعض حاجته، ولم يتمالك نفسه من شدة الغيظ فصاح بصوت عال: «هذا ظلم صارخ! لقد كنت في الميدان أؤتمن على قيادة كتيبة لقتال الألمان، أما هنا فإني لا أؤتمن على الخروج لقضاء حاجتي!»
فلما وصلنا إلى المحطة الثانية أقبل علينا القائم مقام سرجيف - وكان قد بلغ عن هذا «التمرد» - ليعاقب المذنب، وقبض على الضابط وكان شابا نحيل الجسم وسيم الوجه أشقر الشعر، وانتزعت منه شارة رتبته وحزامه، وحكم عليه بأن يقف تحت الحراسة في مكان مكشوف عشرة أيام كاملة، فلما صدر هذا الحكم سرى الغضب في نفوس جميع الضباط الذين كانوا معنا.
وأرغم الضابط على الوقوف في عربة مكشوفة في قطار مسافر في شتاء روسيا القارس من الساعة الخامسة صباحا حتى منتصف الليل، وكان حراسه يتغيرون في كل محطة، وكان إذا عاد إلى عربتنا ليقضي فيها فترة الراحة القصيرة في أثناء الليل بادرنا إلى إظهار عطفنا عليه بتدليك أطرافه المتجمدة، وتقديم الطعام له، ولفه بأثقل ما عندنا من الملابس وأكثرها تدفئة له، وأنذرنا حراسه فضلا عن هذا بأنهم إذا شاءوا أن ينجوا بحياتهم فإن عليهم أن يسمحوا له بأن يدخن ويلتف بالمشمع ليتقي به البرد بين المحطات حين يكون بعيدا عن عين الضابط الكبير.
فلما مضى يومان على هذا المنظر الوحشي، لم أستطع أن أمسك لساني عن الكلام وسرت إلى الرفيق ل. وطلبت إليه أن يتدخل في الأمر.
وقلت له: «إنا جميعا ندرك قيمة النظام الدقيق، ولكن أليس من واجبنا جميعا أن نحكم عقولنا بعض الشيء؟ وسيطلب إلينا في يوم ما أن نقود الجنود في ميدان، وسنكون وقتئذ في حاجة إلى السلطة وإلى احترام النفس، إذن فما معنى هذه الحراسة الشديدة التي يخل إلينا معها أننا نتحين الفرص للفرار من الجندية؟ إن غدا هو اليوم السابع من نوفمبر، وهو عيد الثورة، ولست أشك في أن كل رجل في وحدتنا سيعد العفو عن هذا الضابط الصغير هدية شخصية تقدم له في هذا العيد.»
وبعد هذا الإلحاح الشديد رضي الرفيق «ل...» أن يقابل سرجيف، ثم عاد وأبلغني أن الحكم قد أجل حتى نصل إلى المكان الذي نحن ذاهبون إليه، ثم قال لي: «ولكني أرجوك ألا تزج بي في مثل هذه الشئون بعد الآن، إننا في حرب ولسنا في نزهة.»
وكان الضابط المؤمر علينا يرى أن من واجبنا لكي نحتفظ بأجسامنا قوية نشيطة أن نمارس ضروبا من الألعاب الرياضية في كل صباح، حين يقف بنا القطار، وكان يفضل أن يكون ذلك قبل شروق الشمس، وأن نعري النصف الأعلى من أجسامنا رغم البرد القطبي الشديد، وإطاعة لهذا الأمر نادانا النفير إلى الرياضة البدنية عند أول محطة، فخرجنا من عرباتنا ونحن نرتجف من شدة البرد ولم نفق بعد من النوم، وحتى المرضى منا لم يعفوا من هذا الواجب، ولم تنقطع هذه الألعاب حتى في الأيام التي كانت تعصف فيها الريح فتحيل البرد وابلا من الإبريدوم في الجو ويضرب أجسامنا، وما من شك في أننا قد ورثنا فكرتنا عن النظام من قياصرة العصور الوسطى.
وحاول من كان معهم نقود منا أن يبتاعوا ما يحتاجونه من الفلاحين الجائلين في المحطات التي كنا نطعم فيها، ولكننا وجدنا مع الأسف الشديد أن أثمان الحاجيات التي كانت من قبل مرتفعة قد بلغت في أشهر الحرب القلائل حدا لا يمكن تصوره، فقد بلغ ثمن الزجاجة من أردأ أنواع الدخان أربعين روبلا، والزجاجة هي المقياس الذي يبيع به الفلاحون الدخان، وبلغ ثمن كوب اللبن خمسة وعشرين روبلا، والفرخة الصغيرة 1200 روبل أو ما يعادل مرتب الضابط منا شهرين كاملين، أما الجندي البسيط الذي يتراوح مرتبه بين ثمانية روبلات واثني عشر روبلا في الشهر فكان عليه أن يعمل تسع سنين حتى يستطيع شراء دجاجة صغيرة بثمن السوق في شهر نوفمبر سنة 1941م.
وسمح لنا أن نلين أرجلنا حين وقف القطار بنا في ملتقى الخطوط الحديدية قبل قازان ليمر صف طويل من عربات الجند الذاهبين إلى ميدان القتال، وذهبت مع بعض رفاقي الضباط إلى غابة قريبة لأرى أشجارها تقطع، فلما وصلناها خيل إلينا أن من يعملون فيها من رجال ونساء - وكانوا في حال يرثى لها - لم يكونوا من الروس؛ ذلك لأن جميع ملابسهم عدا أحذيتهم الروسية المصنوعة من الألياف، كانت تبدو غير روسية في مظهرها، وإن كانت قد تلطخت كلها بالأقذار، وتمزقت كأحسن ما تتمزق الملابس السوفيتية، وخيل إلينا كذلك أن هؤلاء القوم لم يتعودوا العمل القاسي في زمهرير الشتاء الروسي.
وسألنا في هذا أحد رجال الشرطة المكلفين بحراستهم، فعلمنا منه أنهم في واقع الأمر من غير الروس، وأنهم من أهل لتفيا ولتوانيا وإستونيا وبولندا ومن اليهود، وأنهم نماذج من أعداء «الطبقة العاملة» «وغير المرغوب فيهم» الذين يعدون بالملايين، والذين رحلوا من الأقاليم التي اغتصبها الاتحاد السوفيتي تحت ستار ميثاق موسكو-برلين ليقوموا بأشق الأعمال، وعدنا إلى القطار صامتين واجمين، فقد كان كل ما يذكرنا بهذه الصفقة النازية يحز في نفوسنا ويجرح العزة الروسية القومية.
وكانت طائفة من الأطفال المشردين قد تجمعت في غيبتنا حول عرباتنا، وقد جاء هؤلاء الأطفال القذرون ذوو الثياب المهلهلة، والأجسام المتجمدة من شدة البرد، والأعين الغائرة الذابلة قبل الأوان في وجوه صغيرة كالحة، جاءوا ليطلبوا الخبز وهم ينشدون نشيدهم المحزن، وقد بدا هؤلاء أسلس قيادا وأكثر حزنا وأقل سلفا من الأجيال السالفة من المشردين، ولعل منشأ هذا أنهم حديثو العهد بهذه الحياة التي لم تتأصل بعد في طباعهم.
وتجمعت طائفة أخرى من يتامى الحرب المساكين حول جذوة نار من قاطرة واقفة، وكانوا هؤلاء يغنون غنية الأطفال المشردين التي ألفنا سماعها في أيام الحرب الأهلية منذ عشرين عاما، والتي أخذ يعيدها على أسماعنا أولئك الأطفال الذين يتمتهم الحرب.
آه، سأموت، سأموت،
وسأدفن،
ولن يعرف أحد
مكان قبري.
وأعطينا هؤلاء البائسين ما استطعنا أن نستغني عنه، ولم يكن هذا بالشيء الكثير، وكان من حسن الحظ أن كان لدينا الشيء الكثير من الخبر ، ولم يكن أحد من الروس يقسو على هذه الطوائف الأفاقة المشردة وإن ألجأها الجوع إلى التلصص والإثم؛ لأنها لا تجد سبيلا للارتزاق غير هذه السبيل الضالة، وقد كان وجود هؤلاء الأطفال الضالين دليلا حيا ينطق بقسوة الكبار من بني الإنسان.
وكانت آخر المرحلة الأولى من سفرنا محطة تدعى أجريز وصلناها في اليوم السابع عشر من هذا السفر، وقضينا الليلة في حجرات قذرة غير مدفأة في مدرسة مهجورة، وأمرنا في الصباح أن نبلغ عن أنفسنا في منزلنسك قبل مضي ستة أيام، ولكن كيف السبيل إلى الوصول إلى هذا البلد؟ لقد ترك لنا نحن تدبير هذا الأمر، وكل ما أمرنا به أن نصل إليه سيرا على الأقدام بعد ستة أيام، وقيل لنا: إننا إذا واتانا الحظ قد يعيننا بعض الفلاحين الخيرين فيقدمون إلينا دواب نقطع عليها بعض الطريق، فتفرقنا جماعات يشرف على كل جماعة منا رئيس.
أما كبار القواد فقد سبقونا في سياراتهم، وما من شك في أنهم لم يروا شيئا من التناقض يبين التضييق علينا في القطار فيما مضى من الأيام وبين تركنا وشأننا في بلاد التتار القارسة البرد المكسوة بالثلوج.
وسار اثنا عشر رجلا منا وأسرعوا في مشيهم ليدفئ المشي أجسامهم، وكنا نحمل حاجتنا من العتاد والطعام الذي يكفينا ستة أيام، وكان هذا عبثا يزداد ثقله يوما بعد يوم، وكان في قدمي حذاءان من الخيش لهما نعلان من المطاط لا يصلحان للسير على الثلج والجليد، فلم ألبث إلا قليلا حتى كانت كل خطوة أخطوها تزيد آلام أسناني، ثم أخذ بعضهم يغني أغنية شعبية حزينة روسية في نغمتها خففت قليلا من تعبي وآلامي.
وأبصرنا في سيرنا حقولا واسعة من القمح لم تحصد بعد، وأكداسا عظيمة من القمح المحصود يغطيها الثلج، فكان ذلك مثارا لدهشتنا حتى أخبرنا فلاح بحقيقة الأمر فقال: إن جميع الرجال الصالحين للعمل قد جندوا للخدمة في الجيش، وإن جميع الخيول قد سيقت إلى جبهة القتال فلم يبق «سوى النساء والأطفال والأبقار»، ومن أجل ذلك ظلت كميات كبيرة من المحصول لا تجد من يحصدها أو ينقلها من أماكنها.
وأدركتنا بعد وقت ما مزلجتان من مزالج الفلاحين لم تتسعا لأكثر من عشرة منا، وأصررت أنا على السير راجلا بوصفي من رجال الحزب العاملين، وتطوع بمصاحبتي دمتريني وهو رجل في بداية العقد الرابع من عمره صادقته في بلشيفو، وقضينا على هذه الحال يوما أغبر مقبضا نسير فوق أرض تتباين مناظرها ولكنها كلها يكسوها الثلج، ولا يخفف من وحشتها وعزلتنا إلا نفخة من دخان بعيد، أو نباح كلب تحمله الريح من عالم الأحياء.
وأخذنا ونحن نسير سيرا وئيدا في أواخر النهار نتحدث عن الحرب وأهوالها، وكنت قد بدا لي وأنا في بلشيفو أن دمتري كان ساخطا على سياسة الحكومة بقدر ما أنا ساخط عليها.
وكان مما قاله لي: «إني أقول لنفسي كل يوم يا فكتور أندريفتش بأني أخوض غمار هذه الحرب من أجل الشعب الروسي الصالح الساذج، الطيب القلب البريء، لا من أجل ستالين، وأقسم لك أنه لولا هذا لضقت ذرعا بالحرب، وما من شك في أن سادة الكرملن يعلمون ذلك حق العلم، وإلا كانوا أشد الناس غباوة، فهل يعتقد هؤلاء بحق أن أبناءنا مستعدون للموت دفاعا عن ستالين وبريا وغيرهم من وحوش القسم السياسي؟»
فأجبته: «ليس هذا أوان الشكوى والضجر، إن الحزب والقسم السياسي ووطننا قد امتزجت كلها بعضها ببعض سواء أردنا ذلك أو لم نرد، وليس ثمة وسيلة لفصل أحد هذه العناصر عن الآخر حتى يطرد النازيون من البلاد، هل قرأت يا دمتري كتاب تولستوى عن «الحرب والسلم»؟» - «نعم، قرأته بطبيعة الحال.» - «وهل تظن أن رقيق الأرض في بلادنا الذين واجهوا مدافع نابليون كان لديهم من الأسباب ما يحملهم على حب أبيهم الصغير
1
في بطرسبرج؟ ولكنهم مع ذلك حاربوا وماتوا وانتصروا، ولسنا نحن في هذه الأيام مضطرين إلى أن نحب أبانا الصغير في الكرملن لكي نحارب ونموت وننتصر.» - «ولكن ستالين لا يبالي قط بحياة الروس.» - «نعم، إنه لا يبالي بحياتهم، ولو أن التاريخ قد عزا انتصار الروس مرة أخرى إلى ستالين لكان هذا من سخرياته.»
ووصلنا في المساء إلى قرية من القرى الساكنة المزدحمة، ونحن منهوكو القوى من فرط التعب، فطرقنا باب أول بيت في الطريق، وفتحه فلاح ملتح، وبدا الرجل في حال من البؤس الشديد، ولكنه خشي على ما يظهر أن نتهمه بالبخل، فقال إن أطفاله مرضى، ودلنا على كوخ قائم إلى جانب الطريق، وأكد لنا أن من فيه سيرحبون بنا، وأننا سنستمتع فيه بالراحة ونجد حاجتنا من الطعام الطيب.
ولم يكن الرجل مبالغا فيما قال، فقد كان البيت المكون من حجرتين دفيئا مريحا، تغطي نوافذه ستر ملونة، وعلى أعتابها أصص من الأزهار، واستقبلنا فلاح نحيل الجسم نظيف الثياب وزوجته شمطاء الشعر أحسن استقبال كأنهما كانا ينتظران قدومنا من زمن طويل، وكانت بقية الأسرة مكونة من ابن لهما لعله في الثانية والعشرين من عمره، وابن آخر في الخامسة عشرة تقريبا، وابنة حيية في العاشرة ذات غدائر طويلة، وأسرعت الأسرة كلها لتعنى بالضيفين، ولما خلع أكبر الولدين سترته رأينا أن إحدى ذراعيه مقطوعة.
وقال الأب وهو يتحسر: «لقد قطعت ذراع فانيا بالقرب من كيف.»
وأعاننا الولد الثاني وأخته على خلع حذاءينا المثقلين بالجليد، وأخذ الرجل وزوجته يدفئان الماء، ثم أتيا لنا بحوض كبير من خشب، واغتسلنا لأول مرة منذ ثلاثة أسابيع، وبينا كان كلانا يغسل جسم صاحبه بالصابون اطلعنا من الباب المفتوح بعضه فأبصرنا المرأة تغير غطاء المائدة وتعد لنا ملابس ابنها النظيفة، ثم أخذت البنت الصغيرة تضع طعام العشاء على المائدة.
وهمس دمتري في أذني قائلا: «هذا ما أعنيه بقولي، وهؤلاء هم القوم الذين أرضي أن أموت وأنا أحارب الألمان دفاعا عنهم.»
وكان مذاق حساء الكرنب وإن خلا من اللحم كأنه الرحيق بعد سيرنا الطويل، وخيل إلي أن فطير الذرة مع العسل أشهى ما طعمت في حياتي، أما الخبز فقد قطع قطعا صغيرة رقيقة، وهذا التقطيع عند الفلاحين دليل على الحاجة الشديدة، وأخرجت أنا ودمتري مما معنا رغيفا أسمر وسمكة مجففة وشايا وسكرا، وقابلت الزوجة عملنا هذا بأن أحضرت خيارا وفلفلا، ولم يشأ زوجها أن يكون أقل منها كرما فجاء بزجاجة صغيرة من الفدكا لندفئ بها جسمنا، وكانت هذه وليمة لم ننسها أمدا طويلا.
ورفعت مضيفتنا كأسها وقالت: «اشرب هذا وأرجو أن يرسل على هتلر الطاعون لا قدر الله.»
وسألتها: «ولم تقولين لا قدر الله يا أماه؟» - «إني أقول هذا بحكم العادة.»
وقال الرجل الكبير: «لا يا أماه، إن هذا الكلب لا ينال جزاءه الحق إذا مات بالطاعون، إني أريد أن أمسك به حيا، وأضعه في قفص، وأعرضه على العالم كله، وأدعو الناس أن ينظروا إلى هذا اللعين.» ثم قرب كرسيه من المائدة وأخذ يخاطب ضيفيه قائلا: «إن الذي يهمني هو هذا: ماذا تظنون أننا نحارب في سبيله أيها الضباط الطيبون؟»
فأجابه دمتري بقوله: «من أجل بلادنا، من أجل روسيا بطبيعة الحال.» - «من أجل بلادنا الروسيا بطبيعة الحال ... إذن سأرسل ولدي المقطوع الذراع إلى الميدان مرة أخرى، وسأذهب أنا نفسي لأدافع عن الروسيا، ولكن أي روسيا؟ أهي الروسيا التي سلبتنا أرضنا وجوعت أطفالنا، أم هي روسيا جديدة؟»
فقلت له لأشجعه على أن يزيدني من حديثه: «إني لا أفهم ما تقول يا والدي.» - «أي شيء تريد أن تفهمه؟ لقد كنت أنا نفسي في الميدان في الحرب العالمية الأولى مع الألمان، وحاربت وجرحت، وأكلني القمل حيا، ثم قامت الثورة، وقالوا: إنها الحرية، وقالوا: إن الأرض للفلاحين، ورفع كل إنسان عقيرته وقال: إننا سنكون ملاك الأرض لأن بأيدينا بنادق، ومرت بعدئذ اثنتان وعشرون سنة ولم نجد حرية ولا أرضا وكل الذي وجدناه حرب جديدة، وها هم أولاء يتملقوننا من جديد ويتحدثون إلينا بألفاظ معسولة.»
فقاطعه فانيا قائلا: «لكنها الآن قوتنا لا قوة القيصرية.»
فنظر إليه والده نظرة أسكتته، ولم نجد نحن صعوبة في أن نعرف من هو المسيطر على البيت. - «لا تقاطعني بألفاظك الجوفاء يا فانيا، لقد أمسكت لساني سنين طوالا، أتقول: إنها قوتنا؟ إذن من هم الذين أخذوا الخبز من أيدينا بمختلف الأساليب وبالنهب الصريح؟ قوتنا! ومن هم الذين قضوا على أسرة من كل خمس أسر في قريتنا ونفوها إلى سيبيريا في أثناء حركة المزارع الجماعية؟ إن كل ما أريد أن أعرفه هو هذا: أنحن آدميون أم غير آدميين؟ أريد أن أعيش كما أحب لا كما يأمرونني أن أعيش.» - «هذا صحيح يا والدي، وأنت محق في شكواك، ولكن كيف كنت تعيش قبل الثورة؟»
فالتفت إلي مسرعا وقال: «خير من هذه المعيشة ألف مرة، إن الحقائق لا تخفى على إنسان، لقد كان لي قطعة من الأرض وكنت أملك جوادا طيبا، ومهرة وبقرة وعجلا وخنزيرا وإوزا، وكنت أربي النحل، ولا تنس أننا كنا من فقراء الفلاحين، ولكنا كنا نجد على الدوام ما نأكل وما نلبس، ومن أجل هذا أسألك في سبيل أي روسيا بترت ذراع فانيا؟ وفي سبيل أي روسيا تذهبان أيها الرجلان الوسيمان الذكيان لتقتلا الناس وتقتلا لا قدر الله؟ إذا كان ذلك في سبيل روسيا نفسها التي نشاهدها في هذه السنين الأخيرة فذلك ما لا خير فيه، إني رجل طاعن في السن كثير الكلام، ولكن من الخير أن يروح الإنسان عن نفسه بأن ينطق بالحق أحيانا.»
وقال الولد المبتور الذراع الذي كان ينصت إلى والده: «إنك يا أبت تتحدث عن الماضي كأنك تريد أن يعود كبار الملاك ليستغلونا نحن الفلاحين كما كانوا يستغلوننا من قبل.» - «لا، ليس هذا ما أريد يا فانيا، إنك من لجان الشباب الشيوعيين، ولا علم لك بالحياة الماضية، وأنا لا أريد أن يعود كبار الملاك، ولكنني لا أريد أيضا أن أسعى لأدنى معيشة بالعمل في المزارع الجماعية، ولم يكون لنا سادة جدد يرهقوننا ويستبدون بنا؟ فلتبق المزارع الجماعية التي تحسن العمل وتستطيع البقاء، ولكن يجب ألا يرغم الناس على الانضمام إليها، فليس من حق أحد أن يرغمهم على هذا.»
وطال بنا الحديث وقال مضيفنا أكثر من مرة أن كل ما يطمع فيه هو أن «يعيش كما يعيش الآدميون»، وإنه لم يعد يطيق الحياة في ظل الكبت والقسر، وكانت ربة الدار قد ظلت صامتة شأن الزوجات الصالحات، فلما وصل بنا الحديث إلى هذه المرحلة لم تستطع السكوت فقالت: «ولم أخذت منا الكنائس قوة واقتدارا وحولت إلى مخازن؟»
فأجابها دمتري بقوله: «لست أعرف يا أماه، ولكني أعتقد أن هذا لن يحدث بعد الآن.» - «لو أنني كنت واثقة من هذا لدعوت إلى ستالين ست مرات في كل يوم، ثم قل لي لم يريد أن يدخل كل إنسان في دينه؟»
وضحكنا كلنا من هذا القول وبخاصة ابنها الأكبر.
وقال الأب محتدا: «اسكت يا فانيا، إن حكمة أمك أعظم من حكمتك، ولو أنها لم تدع لك كل يوم لما فقدت ذراعك بل لفقدت رأسك، وأظنك تقول: إن الشباب الشيوعي كان يدعو لك.»
فأجابه دمتري قائلا: «ولكن ما مضى فات يا والدي، وليس في مقدورنا أن نرجع الأيام الماضية.» - «لست أريد أن أرجع الماضي اللعين يا أبنائي، ولست في حاجة إلى القيصر، ولكني مع ذلك لا أريد قياصرة جددا، بل أرغب في أن أعيش إنسانا حرا أعمل في أرضي وأعبد ربي، إن إلهكم السوفيتي بعيد عني بين جدران الكرملن من وراء أقفال كثيرة وحراس.»
ونمنا نوما عميقا هادئا في تلك الليلة كأننا ننام في بيوتنا وفوق فراشنا، وإن كنت قد حلمت أنني عدت إلى ألكسندروفسك، وأنني أسبح في نهر الدنيبر وأستمع إلى جدي وهو يقص علي قصصا عن الأتراك والأكراد، وعد لنا في الصباح فطور ساخن، وعرفنا أن المرأة العجوز ظلت طوال الليل مستيقظة تغسل ملابسنا وتنظفها وتصلحها، لقد غسلت قمصاننا ومناديلنا وكوتها ورقعت جواربي، وأثرت في هذه العناية حتى كدت أبكي من فرط التأثر، فعانقت المرأة وربت على شعرها الأشمط وقبلت خديها.
وقلت لها: «شكرا لك يا أماه، أمد الله في عمرك ومتعك بالسعادة.»
ولم يكن دمتري أقل مني اعترافا بجميلها، ونزل مضيفنا من فوق الفرن وصاح وهو يتكلف الغضب: «ويحكم لا تطلقوا العنان لعواطفكم مع زوجتي العجوز.»
وحاولنا جهدنا أن نعطي مضيفينا بعض المال ولكنهما رفضا ذلك بتاتا، وكل الذي رضيا أن يأخذاه هو قطعة من الصابون وبكرة من الخيط، وخرجت الأسرة كلها لتودعنا وأحسسنا وقتئذ كأننا نفارق أهلنا.
وقال دمتري وقد ثارت عواطفه وهو يقبل أصدقاءنا واحدا بعد واحد: «لن آسف إذا مت في ميدان القتال دفاعا عن أمثالكم، إنكم قطعة مما أسميه روسيا، وأنتم قطعة صالحة، جد صالحة.»
واتخذنا أماكننا في مزلجة أعدها فانيا ورحلنا في الصباح الباكر، وظلت المرأة العجوز ترسم علامة الصليب في اتجاهنا بيمناها وتمسح الدموع في عينها بيسراها، حتى وصلنا إلى منحنى في الطريق وغابت عن أنظارنا، فلما صرنا على بعد عشرة كيلو مترات من المدينة أقنعنا فانيا بأن يعود، وأعطيناه شارة مهندسي الجيش المكونة من المفتاح والمطرقة، وكانت عيناه لا تنفكان تنظران إليها مذ حللنا بداره وطلبنا إليه أن ينوب عنا في شكر أسرته.
وصلنا في مساء اليوم الثالث إلى بلدة كرزني بور الصغيرة القائمة على نهر كاما، وقالت لنا الأسرة التي حللنا بدارها في تلك الليلة - وكانت أسرة من الصيادين - إن هذه البلدة كانت تسمى قبل الثورة «بياني بور» أي «الغابة السكرى»، أما الآن فهي «كرزني بور» أي «الغابة الحمراء»، ولكن سواء أكانت سكرى أم حمراء فإن الحياة فيها ليست خيرا مما كانت، واستطاع دمتري أن يتحمل مشاق السفر، أما أنا فقد ساءت حالي كثيرا إذ تجمدت أصابع قدمي من شدة البرد وامتلأت قدماي بالفقاقيع، ولم أعد أطيق آلام جسمي وبرح بي ألم أسناني.
ولم يطرق النوم عيني في تلك الليلة، فلما طلع النهار سرت وسط عاصفة ثلجية إلى صيدلية المركز على بعد ثلاثة أميال من كرزني بور.
وتكشفت تلك الصيدلية - رغم اسمها الطنان الرنان - عن طائفة من البيوت الخشبية الحقيرة تشرف عليها طبيبة كهلة من أهل موسكو، وأظنها قد جاءت منفية إلى هذا الإقليم، وسرها لهذا السبب أن ترى إنسانا قادما من العاصمة، وكانت تتلهف على سماع أخبارها، وساءها في الوقت نفسه أنها عاجزة عن أن تفعل لي شيئا يخفف عني ألم أسناني.
وقالت بعد أن فحصت عن أسناني فحصا دقيقا: «إنك تشكو التهابا في عظام الفك، وقد انتقل المرض من السن إلى عظم الفك كله، وعليك أن تذهب إلى منزلنسك بأسرع ما تستطيع، وتتصل بالمستشفى لتعالج فيه، إذ ليس في مقدوري أن أفعل لك هنا شيئا.»
وقلت لها: «ولكن في وسعك أن تخلعي لي السن المريضة.» - «لا، ليس عندي مخدر، والحقن التي وجدتها في هذا المكان قد مضى عليها عشر سنوات على الأقل، ولست أشك في أنها عديمة النفع، وفوق هذا فليست لدي إبر أضعها في المحقن.»
ولكني رغم هذا ظللت ألح عليها حتى رضيت بأن تخلع سني، وقد فعلت هذا بأن شقت اللحم الملتهب ، وخلعتها بكلابة قديمة رديئة، وظللت خمس عشرة دقيقة في آلام مبرحة لا أجد من الألفاظ ما أستطيع وصفها بها، ثم استلقيت على الفراش نحو ساعة تناولت في أثنائها جرعة من النبيذ ردت إلي بعض قواي، فعدت ماشيا إلى كرزني بور، وأحسست بعد أن خلع الضرس الذي كان يؤلمني أن الضغط الواقع على أعصابي قد خف قليلا، وأشار علي دمتري أن أستريح في ذلك اليوم في بيت الصيادين ففعلت، وفي اليوم التالي وهو اليوم الخامس مذ غادرنا القطار عبرنا نهر كاما المتجمد، والتقينا بعدة مجموعات أخرى من ضباط وحدتنا، ووصلنا في اليوم السادس إلى منزلنسك.
وكانت هذه البلدة نموذجا للطراز التتاري، ذات أزقة ضيقة ملتوية تفوح منها الروائح التي تمتاز بها المدن الشرقية، وأوينا إلى مدرسة قديمة لا ماء فيها ولا نور، وصودرت عدة مواقد حديدية من أهل البلدة، ولكنها لم تفد كثيرا في تخفيف حدة البرد، وكانت أقدامنا جميعا متجمدة من البرد مجلة من طول المشي، ينزف منها الدم أحيانا، وقد أعياني المشي والألم فلم أستطع حراكا، وأمكن دمتري أن يحصل لي على حشية ومخدة من القش، فلما استلقيت عليهما خيل إلي من فرط الألم أن جسمي قد ثقل حتى أصبح كالجبل، وسمعت وأنا أحس بهذه الآلام المبرحة من كان حولي من الناس يسبون ما يقدم لهم من الطعام والمأوى وما صارت إليه حالهم بوجه عام، واستولى عليهم الغم والكآبة حين شعروا بما ستئول إليه حالهم في منزلنسك، وكان الضباط الكبار في هذه المرة أحكم من أن يعتقلوا الساخطين، وظلوا بعيدين عن المعركة.
وبقيت يومين كاملين في فراشي أتلوى من شدة الألم، ثم نقلت في اليوم الثالث إلى مستشفى منزلنسك الحربي، وقد أصابتني حمى شديدة، ثم خفت حدة الألم، واستطعت أن أدرك ما حولي فرأيت طبيبة وسيمة الوجه رقيقة القلب تقيس درجة حرارتي.
وتبسمت لي وقالت بلهجة الواثقة: «ستشفى يا رفيق كرافنشنكو، ولا بد لك من العودة إلى موسكو لتعالج فيها حين تقوى على تحمل متاعب السفر، وإلى أن تستطيع ذلك سنبذل نحن كل ما في وسعنا في سبيل راحتك.»
وعادت إلي قواي ببطء، وكان دمتري ونومدوف وغيرهما من رفاقي يأتون لي بالطعام الشهي؛ ذلك بأن المستشفى نفسه لم يكن يقدم للمرضى إلا قطعا من الخبز الأسود اللزج، والشاي من غير سكر، والحساء والذرة المطبوخة مرتين في كل يوم، وكنا نفترش حشيات من القش، ونغطى بأغطية من أغطية الجيش الخشنة، ولكن يوجينيا فلاديميرفنا طبيبة القسم الذي كنت فيه كانت تعوض بعطفها وذكائها ما نرزح تحته من أعباء، وكان الذين يشغلون الرواق الذي أنا فيه خليطا عجيبا من مختلف الطبقات، كان منا جندي قروي طاعن في السن، وضابط سياسي برتبة أميرالاي، وعدد من الجنود العاديين، وكنا نقتل الوقت نناقش كل ما يمكن تصوره من الموضوعات، ولم يكن منا من يختلف عن زملائه حبا للطبيبة وإخلاصا لها.
وكنا كلنا في أحط درجات اليأس، فقد كان هذا في شهر ديسمبر حين كان مصير موسكو في كفة القدر، ولم يكن في المستشفى جرائد ولا مذياع، ولكني أنا والضابط الكبير كنا نعرف الأخبار ممن يزورنا من الأصدقاء، حتى صار رواقنا وكأنه مركز الاستعلامات في المستشفى بأكمله.
وبعد أن مضت علي بضعة أسابيع في المستشفى جاء خادم إلى رواقنا قبيل منتصف الليل يحمل مصباحا، ثم أقبلت الطبيبة بعد بضع دقائق من مجيئه في ملابس مدنية وتبدو عليها مظاهر الرشاقة، وقد عقصت شعرها عاليا فوق رأسها على أحدث طراز، مع أنها فيما مضى كانت تعقصه وراء عنقها، واتكأ المرضى على مرافقهم وحدقوا جميعا في وجهها وهم مندهشون، ولم يكن ملبسها وحده هو سبب دهشتنا، بل إنني شممت رائحة ذكية تنتشر حولها وهي تضع أمامنا أطباق اللحم والفاكهة المحفوظة.
وخاطبتنا قائلة: «كل عام وأنتم بخير، كل عام وأنتم بخير.» ولما رأت الدهشة بادية في وجوهنا، قالت وهي مرتبكة بعض الشيء: «لقد بدا لي أنكم قد تحبون أن تروا في أحد أيامكم امرأة تزين كما يزين النساء، وأقصد أنه لما كانت هذه الليلة هي ليلة رأس السنة ... فقد يذكركم مظهري هذا ببيوتكم وأهليكم.»
وقال الضابط الكبير في صوت خافت وتأثر شديد: «وما أحسنها وأعجبها من هدية تهدى إلينا في عيد رأس السنة!»
وقال الجندي القروي الشيخ: «إن امرأتي التي تركتها في القرية لم تزين في يوم من الأيام بهذه الزينة، ولكني أشكرك كل الشكر يا يوجينيا فلاديمرفنا، وكل عام وأنت بخير.»
وحيتنا الطبيبة واحدا بعد واحد ووزعت الطعام على كل قادر على أكله، ثم انتقلت إلى الرواق الثاني، وستبقى في ذاكرتي أبد الدهر صورة تلك المرأة الروسية تتنقل في الليلة الأولى من عام 1942م بين الأروقة المختلفة في مستشفى حقير في بلاد التتار قليل العدد والموظفين، وتقدم الهدايا لمن فيه من المرضى الذين يحنون إلى أوطانهم.
وقبل أن ينتهي شهر يناير قررت لجنة من إدارة المستشفيات العسكرية أن أعود إلى موسكو لأتم فيها علاجي، فلما جئت العاصمة لم أنزل في مستشفى من مستشفياتها، بل اكتفيت بالتردد في كل يوم على إحدى العيادات الخارجية، وظللت طوال مدة العلاج أتناول وجبتين من الطعام في البيت المركزي لضباط الجيش الأحمر، وأخذت صحتي تتحسن بسرعة بفضل عناية إيرينا وعطفها علي، فالتأم جرح فكي، وشفي جسمي، وانقطعت عن العيادة الخارجية بعد أن أوصيت بأن أستريح فترة من الوقت أستعيد فيها قوتي، وتوجهت إلى اللجنة المختصة لأتلقى منها أوامرها ففحصتني فحصا لم يدم أكثر من دقيقتين، وقررت أني صالح للخدمة، وكتبت على أوراقي أنه يجب إرسالي إلى جبهة القتال.
وودعت إيرينا وأنا أتوقع ألا أراها - إذا قدر لي أن أراها - إلا بعد زمن طويل، فلما ذهبت إلى وزارة الحربية قيل لي: إن قرارا جديدا صدر مضمونه أن الذين تلقوا تعليما فنيا عاليا سيعفون من الخدمة العسكرية لشدة الحاجة إليهم في داخل البلاد، وكان هذا قرارا معقولا لا غبار عليه، ولكني حسبت أني قد حرمت فرصة المخاطرة بحياتي؛ دفاعا عن يوجينيا فلاديمرفنا وعن الفلاحين والصيادين والعمال وزملائي المهندسين الذين اجتمعت بهم في الأشهر الأخيرة، لقد كنت أشعر بحق أن هؤلاء بنو وطني، وأن بلادهم بلادي، وكان شعوري هذا شعورا لا ترقى إليه السياسة ولا يصل إليه الإنسان بإعمال الفكر.
وكان هذا الشتاء أسوأ شتاء مر على موسكو مذ أطل نابليون على خرباتها المحترقة قبل ذلك الوقت بمائة وثلاثين عاما، وعجز الأعداء المغيرون عن الاستيلاء على المدينة، وتلقفتهم سهوب الروسيا المتجمدة، فأنهكت قواهم وحصدت أرواحهم، وكانت حالهم في تلك البلاد أسوأ منها في كل بلد استولوا عليه، لقد كان في وسعهم أن يجدوا في بلاد البلقان الفقيرة المتأخرة ما يقوم بأودهم إلى حد ما، أما في أراضي الروسيا المقفرة فإن المغيرين لم يجدوا شيئا ينتهبونه، على أن ما أصاب الغزاة المحاصرين من بؤس لم يخفف من آلام المحاصرين.
وكانت المدينة المطفأة الأنوار التي عدت إليها وقتئذ جائعة يلفها الصقيع وتنتشر فيها آثار قنابل العدو، وخيل إلينا أنها فقدت روحها المعنوية، وعجزت حتى عن اليأس، يتكدس أهلها في النفق والسراديب والأقبية وملاجئ الغارات الرديئة التهوية والتي ارتجلت ارتجالا، ويظلون على هذه الحال حتى تطلق الصفارات المؤذنة بانتهاء الغارات، ثم يذهبون متثاقلين من بيوتهم الباردة ليعملوا ساعات طوالا في المصانع والمكاتب التي لا تقل زمهريرا عن بيوتهم، وأخلي عدد كبير من مصانع المدينة، وفرض على ما بقي منها أن تواصل العمل بالليل والنهار بأقصى طاقتها، وقامت صعاب شديدة في سبيل الحصول على المادة الغفل للأعمال الصناعية المعتادة، بعد أن خسرت البلاد أغنى الأقاليم الصناعية في أوكرانيا وروسيا الغربية، وبسبب الضغط الشديد على وسائل النقل، على أن العاصمة رغم هذا كله قد استحالت دار صناعة ضخمة تعمل بجد للوفاء بحاجات جبهة القتال.
وكانت الكميات المقررة من الطعام دون الكفاف، ومع هذا فإن الحوانيت لم يكن فيها ما يفي بهذا القدر الضئيل، وكان الجوع والبرد يهددان الأهلين أكثر مما تهددهم الجيوش الألمانية، ومع أن الحرب لم يمض عليها إلا ثمانية أشهر أو تسعة فقد كان سكان المدينة، وهي عاصمة دولة عظيمة، يطعمون خبزا مخلوطا بدقيق البطاطس، ويأكلون لحم كلابهم وقططهم وما يستطيعون اصطياده من البقر، ألا ما أعظم استعداد ولاة الأمور للحرب !
وحدث في هذا الوقت مثل ما حدث في أسوأ أيام الثورة، فقد حطم أهل المدينة أثاث بيوتهم، وخلعوا أسوارها الخشبية في سعيهم اليائس للحصول على ما يدفئ أجسامهم، وأخذت نسبة الوفيات في المدينة تزداد زيادة مطردة، وتضاعف عدد الموتى بمن قضت بإعدامهم المحاكم العسكرية ورجال القسم السياسي من الخونة وناشري الذعر في البلاد الحقيقيين منهم والخياليين.
وهزل جسم «إيرينا»، وكانت تقتسم جرايتها مع من كانوا أقل منها حظا من جيرانها؛ لأنها كانت تتناول كل يوم وجبة في المكتب الذي تعمل فيه، وكانت الشقة التي تسكنها خالية من وسائل التدفئة، وكنا حتى في داخل البيوت نلبس معاطف ثقيلة ولفافات من الصوف وقفازات، ولم نكن نجد في معظم الوقت ضوءا كهربائيا، وكثيرا ما انقطعت عنا المياه، وتجمدت في أنابيب المراحيض.
وكانت الحياة شاقة كثيرة العناء، وموسكو تكفر في تلك الأيام عما قام فيها من حكم بيروقراطي مضطرب وظلم سياسي دام مائة عام كاملة.
وكان نصف العمال في مصنع الأنابيب قد أجلوا عنه، أما النصف الآخر فكان يعمل ليلا ونهارا في صنع الألغام والقنابل، وزيد موظفوه زيادة كبيرة، لكن منتوروف ويجوروف لم يوافقا على عودتي لهذا المصنع، ورفعت الأمر إلى لجنة الحزب الإقليمية فتدخلت في الأمر، وعينت بفضل تدخلها كبيرا لمهندسي برمترست وهي مواثقة تشرف على تسعة مصانع مختلفة يعمل معظمها في صنع الذخائر الحربية.
وسرني هذا التعيين كل السرور وإن لم يكن هذا العمل في ذاته مما أرغب فيه كثيرا، وكان سبب هذا السرور أنه يشعرني بأني أشترك عن قرب في أعمال القتال، ولم يكن يقل أهمية عن هذا التعيين أني حصلت بوصفي عاملا مسئولا على ميزة تناول الطعام في المطعم المخصص لأعضاء لجنة الحزب المركزية، وكانت بعض المصانع التي أشرف عليها تقوم بصنع القنابل اليدوية والألغام وغيرها من أصناف الذخائر الحربية، وتخصص عددا منها لإصلاح الأجهزة الهندسية، وكنت على الدوام أتلقى أوامر عسكرية بمضاعفة الجهود، فكنت أواصل العمل بجد أنا ومن كان معي من الموظفين، والحق أني شعرت بأني كنت أعمل وراء «خط النار»، وحاولت أن أشعر بهذا كل من حولي.
وكان العمال الذين أشرف عليهم جياعا مهزولين يفت في عضدهم علمهم بأن أسرهم تلاقي العذاب ألوانا، ولكنهم رغم علمهم هذا كانوا يعملون صامتين مخلصين من عشر ساعات إلى ست عشرة ساعة في الأسبوع، وكثيرا ما كانوا يقضون أياما كثيرا في المصنع لا يبرحونه أبدا، ولا ينامون إلا غرارا في حجرات المصنع نفسه، وذلك إذا ما وصلتنا أوامر عاجلة، ولقد أدهشني بحق جلد هؤلاء الرجال السذج والنساء والأطفال، فقد كان من كل مكان بنون وبنات بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر يقومون بعمل الكبار، وأنا أراقبهم يعملون في أحد الحوانيت حين يكون الحانوت المجاور له قد استحال جحيما متقدا بفعل قنبلة محرقة ألقيت عليه، وأنا أعرف الآن أن هؤلاء السذج هم الأبطال الحقيقيون والقوة الحقة في الحرب الروسية، ولم يكونوا بحاجة إلى نداءات تقوي روحهم المعنوية، فقد كانوا يكدحون ليقدموا كل ما يستطيعون تقديمه من عون لأبنائهم وأخوتهم وآبائهم في جبهات القتال، وقد يعزو العالم الخارجي - لما على أبصاره من غشاوات - الفضل فيما أحرزناه من نصر لطغاة السوفيت، ولكن الفضل كل الفضل إنما يعود إلى ضحايا ذلك الطغيان، ويعود إليهم أحيانا رغم ما يتصف به هذا الطغيان من جهل وغباوة.
وأصبحت بحكم مركزي على اتصال وثيق بكبار موظفي الحكومة والإدارة العسكرية المعنيين بمشاكل العتاد الحربي، وكان اتصالي بهم مستمرا لا يكاد ينقطع يوما واحدا، وكانت تتاح لي الفرص لأن أعمل أحيانا مع كبار الموظفين في مجلس الوزراء الذي يستمد سلطانه من مجلس السوفيت الأعلى، فكان لذلك من الوجهة النظرية على الأقل الأداة التنفيذية المشرفة على لجنة الدفاع عن الدولة، وبذلك استطعت لأول مرة في حياتي أن أشترك في عدة مؤتمرات عاجلة خطيرة لبحث شئون الإنتاج داخل أسوار الكرملن الحصينة.
ووجدت على مكتبي في أحد الأيام رسالة تطلب إلي أن أخاطب على الفور أحد الأرقام بالتليفون، فطلبت الرقم وذكرت اسمي: «الرفيق كرافتشنكو، نرجو أن تحضر إلى مجلس وزراء (جمهورية السوفيت الروسية الاشتراكية الاتحادية) في الساعة الثانية عشرة تماما، وستجد جواز المرور في انتظارك.»
وهذه الجمهورية هي أكبر «الجمهوريات» التي تتكون منها الدولة السوفيتية، فهي في واقع الأمر أكبر من الجمهوريات الأخرى مجتمعة، وخير ما يمكن أن يوصف به الاستقلال الذاتي الذي تتمتع به هذه الجمهوريات - كما يسمونها - أنه ستار مهلهل خداع؛ ذلك أن ما لها من السلطان المستقل أضعف كثيرا مما للولايات التي تتألف منها جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، فهي في جوهرها أقسام إدارية أنشئت لتيسير حكم بلاد ضخمة كالبلاد الروسية، ولكنها تسيطر عليها الحكومة المركزية أتم السيطرة.
على أن هذا الستار الخداع نفسه لا يكاد يوجد في هذه الجمهورية السالفة الذكر، وليس مجلس وزرائها إلا جزءا من مجلس وزراء الاتحاد العام، وعاصمة الجمهورية موسكو، ونشاطها مرتبط أشد الارتباط بنشاط أداة الحكم بأجمعها، وليس لهذه الجمهورية وزارة لشئونها الداخلية خاصة بها كما لسائر الجمهوريات السوفيتية، وليس لها كذلك لجنة حزب مركزية، وعلى هذا فإنها من الوجهة العملية - إن لم تكن من الوجهة النظرية - شاملة لاتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية بأجمعها، وهي الوحدة السياسية ذات السلطة العليا في الاتحاد السوفيتي، وفيها تركز جميع قوة النظام الحكومي، ولا يفرق المواطن السوفيتي العادي بين مجلس الوزراء الأعلى للاتحاد ومجلس وزراء هذه الجمهورية، وقد دلتني تجاربي على أن هذا الاعتقاد صحيح.
ولقد جئت إلى هذا البناء مرارا من قبل، وكنت لذلك على علم بالاحتياطات الشديدة التي تتخذ لحماية موظفيه، فلما أقبلت عليه هذه المرة أبرزت جواز مروري وأذن لي بالدخول، فصرت أتنقل من حارس إلى حارس حتى وجدت نفسي آخر الأمر في دهليز واسع ساكن، فرشت أرضه بالبسط الثقيلة، على جانبيه أبواب ضخمة من خشب البلوط، ووقف خارج هذه الأبواب الضخمة ضباط من القسم السياسي، ولم أكن أظن حتى هذه الساعة أن أحد هذه المكاتب سيخصص لي، وأني سأصبح من الشخصيات العظيمة يحيط بي حرس يدفع عني الأخطار الوهمية.
وانتظرت قليلا في حجرة الاستقبال، ثم جاءتني إحدى أمينات السر وأدخلتني إلى الحجرة الرحبة التي يعمل فيها الرفيق أندراي إيفانوفتش أنكين نائب رئيس مجلس وزراء جمهورية الروسيا الاشتراكية السوفيتية الاتحادية، ورأيت هذا الرجل يجلس في كرسي كبير خلف مكتب ضخم، ومن خلفه صورة زيتية عظيمة لستالين تضاءل الرجل بالقياس إليها في نظري، وإن كان في واقع الأمر ربعة من الرجال متين البنية كبير البطن ذا هيبة ووقار.
وأشار إلي بالجلوس وقال: «كيف تسير الأمور معك يا رفيق كرافتشنكو؟» - «لا أعرف بالضبط ما أجيب به عن هذا السؤال؛ لأني لا علم لي بما طلبت من أجله.» - «أقصد كيف تسير الأمور بوجه عام، كيف حال عملك؟ وكيف تعاون الحزب والبلاد في هذه الحرب؟»
وحدثته عن نشاطي في الشئون التي عهدت إلي، وشرحت له بعض المشاكل التي واجهتها في المصانع التسعة التي كنت أشرف عليها، ووقعت عيني وأنا أتحدث إليه على ثبت من الأسئلة ألصقت عليه صورتي، وكنت قد أجبت عنها حين عينت كبير المهندسين في المواثقة.
وقاطعني الرفيق أتكين حين كنت أجيبه عن أحد الأسئلة وقال: «إنك تتحدث إلى الحكومة ولا محل في هذا الحديث للكذب أو لإخفاء الحقائق والآراء عنها.» - «هذا أمر طبيعي، هذا أمر طبيعي.»
ووجه إلي أسئلة وأجبت عنها بعدة خطب، ذلك أننا في ظلال النظام السوفيتي قد مرنا كلنا على الأسلوب الخطابي إذا ما تحدثنا عن أنفسنا، وتحدثت كما لو كنت أتحدث عن شخص غيري، كأني أصف شخصا أعرفه كل ما لي به من صلة أنني أهتم بشئونه، وبعد أن قضيت مع أتكين نحو ثلاث ساعات رفع رأسه ونظر إلي نظرة فاحصة بعينيه الضيقتين الخبيثتين ووجه إلي سؤاله الأخير: «ما رأيك في أن تعمل في خدمة مجلس وزراء الجمهورية؟» - «هذا يتوقف على نوع العمل.» - «إننا في حاجة إلى مهندس من أعضاء الحزب ليرأس الإدارة الهندسية للأسلحة الحربية، وأرى أنك تليق لهذا المنصب، وليس معنى هذا أن أمر تعيينك سيقرر في هذا اليوم، بل كل ما في الأمر أني أريد أن أعرف رأيك قبل أن أتخذ الخطوة الأولى لتعيينك في هذا المنصب.»
فأجبته قائلا: «لست واثقا من أنني أستطيع القيام بواجبات هذا المنصب الخطير.» - «وأنا أرى خلاف هذا وأعتقد أنك ستقوم بهذه الواجبات على خير وجه؛ ذلك أن لديك من التجارب ما يؤهلك للقيام بها، وقد كنا نراقب أعمالك في المواثقة.» - «إذا كان هذا رأيك فليس يسعني إلا القبول بطبيعة الحال.» - «في هذه الحال أودعك مؤقتا، وأرجو أن تقدم نفسك إلى إدارة المستخدمين في الطابق الأسفل.»
وذهبت إلى حيث أمرت، وهناك ملأت عدة استمارات، ومضت على ذلك بضعة أيام، ثم طلب إلي أن أقابل قنسطنطين بمفيلوف رئيس أتكين ورئيس مجلس وزراء جمهورية روسيا السوفيتية الاشتراكية الاتحادية، ومن أكبر الشخصيات المقربة من ستالين، وكانت حجرته الواسعة وكرسيه الكبير، وصورة ستالين الزيتية المعلقة فوق رأسه، كانت هذه كلها أكبر قليلا من نظائرها التي رأيتها حين قابلت أتكين، كما كان أثاث الحجرة أفخم وأكثر ترفا من أثاث حجرة أتكين.
وكان بمفيلوف نفسه طويل القامة في منتصف العقد الخامس من عمره، عريض المنكبين عظيم الهيبة، حليق الرأس والوجه، يلتمع رأسه كأنه كرة بليارد، وكان يرتدي ملابس أجنبية، واستقبلني خلف مكتبه الضخم، وهو يضع إحدى قدميه على الكرسي ويتكئ برأسه على مرفقه، وعرفت في الشهور التي تلت هذا اللقاء أن هذه هي وقفته الطبيعية في أثناء عمله ولو لم يكن في حجرته أحد، ووجدت أتكين في حجرة رئيسه حين دخلتها، وقد بدا أصغر من حقيقته في حضرة رئيسه.
وألقيت علي مرة أخرى أسئلة وأجبت عنها، وكانت أسئلتي السابقة وإجاباتي عنها والتقارير الخاصة بي كلها على المكتب.
وأخيرا خاطبني رئيس المجلس بقوله: «لقد شغلت مناصب ذات تبعات خطيرة يا رفيق كرافتشنكو، ولكن العمل في الحكومة مسألة تختلف عن هذه المناصب كلها، فنحن خدام الحزب، والعمل في الحكومة هو عمل الحزب قبل كل شيء، فالحزب هو الذي يحكم البلاد.»
وأكدت له في وداعة أنني أفهم هذا كله.
والتفت بمفيلوف إلى مساعده وسأله: «هل جاء الرد يا رفيق أتكين؟» - «لم يأت بعد يا رفيق بمفيلوف.»
ورفع بمفيلوف إحدى سماعات المسرات الكثيرة المصفوفة على مائدة صغيرة من خلفه وطلب أحد الأرقام: «أنا بمفيلوف، ماذا تم في مسألة كرافتشنكو؟»
وانتظر دقيقتين أو ثلاث دقائق ضايقني في خلالها سكون الحجرة الرهيب، وأحسست أن شيئا كان يراجع حيث تكلم بمفيلوف.
وقال بمفيلوف آخر الأمر: «نعم ... نعم ... أليست هناك موانع؟ حسن جدا!»
ثم ألقى السماعة من يده، ولم أشك وقتئذ في أنه كان يخاطب الإدارة السابعة في وزارة الداخلية وهي الإدارة التي لا يمكن أن يعين إنسان في منصب من المناصب الحكومية الهامة إلا إذا وافقت على هذا التعيين، ورأيت بعيني فيما بعد دليلا قاطعا على صدق ما حدثتني به نفسي، فقد عثرت مصادفة على الوثيقة التي تثبت موافقتها على تعيني في مجلس الوزراء، وأيقنت أن الحزب هو الذي يسيطر على البلاد وعلى حكومتها، ولكن المناصب الرئيسية في الحزب والحكومة لا يتم التعيين فيها إلا بعد بحث دقيق تقوم به الشرطة السرية التابعة للإدارة السابعة وموافقتها على هذا التعيين. - «والآن يا رفيق كرافتشنكو، لا أريد أن أستبقيك أكثر مما استبقيتك، وسندعوك حين ننتهي من إعداد ما يلزم لتعيينك.»
ووافقت اللجنة المركزية للحزب على تعييني في منصبي بعد زمن قليل، فلم تمض إلا بضعة أيام حتى أعدت لي حجرة مجاورة لحجرة أتكين بعد أن أمضيت عهدا كتابيا للإدارة الخاصة التابعة لمجلس الوزراء بألا أبوح بشيء عن نظام هذه الهيئة مهما تكن الظروف، وكانت صورة ستالين التي علقت وراء ظهري أصغر بطبيعة الحال من الصورة المعلقة في الحجرة المجاورة لي، ووقف في الدهليز الساكن الهادئ ضابط من ضباط القسم السياسي ليحرسني بعد أن أصبح لي شأن خطير في البلاد، وعين لي أمينان يجلسان في حجرة الاستقبال، وها أنا ذا أصبح من رجال الحكم بكل ما تحمل هذه اللفظة من معنى فني خطير، أحمل البطاقة الحمراء الخاصة، وعليها الحروف الذهبية، وهي ذلك الكتيب السحري رمز القوة والسلطان.
وكان هذا في آخر شهر مايو من عام 1942م حين بدأ الهجومي الألماني يجتاح البلاد، ويبتلع ما بقي من أوكرانيا مواطن آبائي، ويتوغل في القفقاس، ويصل إلى نهر الفلجا عند مكان يدعى ستالينجراد.
الفصل الرابع والعشرون
الكرملن في أيام الحرب
للروس لفظ يطلقونه على الكرملن هو: فلاست «السلطان» ومعناه الحكومة أو السلطة العليا، ولكنه يعني أيضا ستالين، والهيئة السياسية العليا، والشرطة السرية، والمقربين من ستالين، سواء كانوا يشغلون مناصب رسمية أو كانوا من حاشيته الذين لا يحملون ألقابا، وإذا نطق المواطن العادي بهذا اللفظ حمل إليه فوق المعاني السالفة الذكر معاني الفزع والبغض، وتضمن معنى «سادتنا»، وأوحي إليه بالهوة السحيقة التي تفصل أولئك السادة عن عامة الشعب.
فلما صرت في مجلس الوزراء جلست بقرب أولئك السادة الأعلين، وأصبح في مقدوري للمرة الأولى أن أطل من هذا المركز الممتاز على العالم الذي يدب على الأرض من تحتي، لقد كان في وسعي أن ألاحظ ما يحس به أكابر الحكام، وهو أنهم خلقوا من طينة غير التي خلق منها سائر الناس، وأنهم يتحركون في مجال أوسع مما يتحرك فيه غيرهم، وأنهم لا تنطبق عليهم المقاييس الأخلاقية والإحساسات التي نبذوها من ورائهم؛ لأنها من «أهواء الطبقات الرأسمالية» ومن «مفاسد الحرية»، كان في وسعي أن ألاحظ إحساسهم هذا وإن لم أشاركهم فيه.
كذلك كان في وسعي أن أفهم استخفاف هؤلاء الناس بالحياة البشرية وتصرفهم فيها - نقلا وخلطا ومحوا - كأن الناس في أيديهم مواد غفل جامدة يستخدمونها في خططهم وتجاربهم وأخطائهم، وها أنا ذا قد وجدت نفسي فجاءة بين أناس في مقدورهم أن يأكلوا ملء بطونهم من الطعام الشهي على مرأى من الجياع، وأنهم لا يأكلون وضميرهم راض فحسب، بل يشعرون فوق ذلك بأن من حقهم أن يأكلوا كأنهم يؤدون واجبا فرضه عليهم التاريخ.
وكان على رأس مجلس الوزراء قنسطنطين بمفيلوف، وهو رجل من الأخصاء المقربين، حتى أنه لما مات بعد عام من دخولي في خدمته حرقت جثته ودفن رماده في سور الكرملن المطل على الميدان الأحمر، وكان أندراي أتكين مساعده الأكبر يشرف على خمس مصالح كبرى أرأس أنا واحدة منها، ومعنى هذا أني لم يكن بيني وبين الرياسة العليا إلا خطوتان ، وكانت المصلحة التي أشرف عليها مقسمة إلى عدة إدارات تختص كل منها بعمل من الأعمال ويرأس كلا منهما أحد مساعدي.
وإذا ما سجلت هنا تاريخ عظمتي القصير، فإني لا أبغى من هذا تفاخرا بطبيعة الحال، فقد رفعتني إلى هذا المركز نزوة إنسان، وقد تبعدني عنه إشارة ممن هم أعلى مني مقاما، وقد يسقط هؤلاء أنفسهم إلى الحضيض إذا ما شاء ذلك رؤساؤهم بلا إنذار سابق لهم، وكم ذا رأيت بمفيلوف أو أتكين يرتعد فرقا في حضرة أحد أعضاء الهيئة السياسية العليا أو أحد المقربين من رئيس الدولة الأعلى، وكم من مرة سمعت ألفاظ السباب توجه إليهم كأنهم خدم صغار يزجرهم سيدهم؛ ذلك أن في الدولة الدكتاتورية توازنا دقيقا بين السلطة المطلقة والخوف الذي لا حد له.
واختير النفر القليل الذين يمثلون السلطان في مجلسنا - ولعلنا لم نكن نزيد على ثلاثين - بطرق مختلفة من بين الطبقة الوسطى من الموظفين وممن هم دون هذه الطبقة، وكنا كلنا نقيم في طابق خاص يخيم عليه السكون كأنه كنيسة، ويحرسه رجال من القسم السياسي في مرتبة الضباط، وكانت حجراتنا الخاصة تفصلها عن حجرات الانتظار مجموعتان من الأبواب لا تسمح باستراق السمع، ويقدم لنا على مكاتبنا الفطور والعشاء بلا ثمن، أما الغداء فكان يقدم لنا في حجرات خاصة بأثمان قليلة لا تكاد تذكر، وكان الحلاقون يأتون إلى أعضاء المجلس ممن هم في مقام بمفيلوف وأتكين ليحلقوا لهم لحاهم ويزينوهم في صباح كل يوم، أما أمثالنا الأقل من هؤلاء شأنا فكانوا يذهبون إلى الحلاقين، ولا يأتي هؤلاء إليهم، وأما من هم دوننا مباشرة فلم يكن من حقهم أن يتمتعوا بخدمة الحلاقين الرسميين، وكان هذا التسلسل الدقيق يمثل ما بين أصحاب السلطان من فروق، وكان أعظم ما نلته من امتياز ممثلا في كتيب أحمر صغير يجعل من حقي أن أذهب إلى مستوصف الكرملن، وأن أبتاع الدواء من صيدليته في الوقت الذي عز فيه الأطباء والدواء على عامة الشعب.
بل لقد كانت لنا دورة مياه خاصة يحرم على غيرنا أن يستخدمها، وينفذ هذا المنع الضباط الواقفون في الدهليز الموصل إلى حجراتنا، وكذلك كان لمن دوننا من الموظفين مرافق خاصة بهم لا تضارع مرافقنا في جمالها ولا فيما تحتويه من وسائل الراحة.
وحدثت مرة في المجلس فضيحة كبرى، وكان منشؤها أن موظفا حديث العهد بالخدمة لم يألف بعد ما بين الطبقات من فروق في هذا المجال وجد نفسه لسبب ما في الطابق الذي تشغله مكاتبنا واضطر وهو فيه إلى أن يقضي حاجته، وخرج في هذه الأثناء واحد من الرؤساء من دورة المياه، فتسلل هو إليها دون أن يراه الحراس، فلما خرج المجرم قبض عليه الشرطي المهمل وهو في أشد حالات الرعب بسبب هذا الإهمال، وفحص عما معه من الوثائق ورفع أمر هذه الجريمة الشنيعة إلى رؤسائه، وجاء جماعة من رجال القسم السياسي «سيف الثورة المصلت» وفتشوا المرحاض للبحث عما عسى أن يكون فيه من القنابل أو غيرها من أدوات الهلاك، ثم جاءت خادمات يعملن مياومة ومعهن دلاء ومماسح وغسلن المكان المقدس حتى محون منه كل آثار المعتدي الأثيم.
لعلي كنت في حياتي الخاصة إنسانا مهملا لا يهتم به أحد، أما في حياتي العامة وأنا عضو في السوفيت الأعلى فقد كانت علي حراسة تحميني من كل سوء؛ لأن حياتي من أثمن ما في الدولة من كنوز، فلم يكن يسمح لأحد من غير رجال المجلس أن يزوروني إلا بإذن خاص مني، فأكتب بنفسي جواز مرور للطالب ، وأضع عليه خاتمي، ولا يعطيه حراس الباب الخارجي إلا بعد أن يخاطبوني بالتليفون لأؤكد لهم صدوره مني، ولكي يتأكد مخاطبي من أنني أنا الذي أحدثه كان من واجبي أن أثبت له شخصيتي بكلمة سر لا يعرفها إلا أنا ورجال القسم السياسي، وكانت كلمة السر الخاصة بي هي: «لينا رقم 17»، فإذا تسلم الزائر جواز المرور كان عليه أن يجتاز أربع مراحل من التفتيش يثبت فيها جميعا شخصيته قبل أن يصل إلى حجرة الانتظار الخاصة بي، وكثيرا ما كنت أخجل من هذا النظام الذي وضعه القسم السياسي، وخاصة إذا كان الزائر من أصدقائي القدامى الأعزاء.
وكان هذا النظام نفسه يطبق بطبيعة الحال على كل غريب يدخل أبواب مكاتبنا، ولم يكن من حق أحد أقل مني مرتبة أن يصدر جواز مرور مهما تكن أهمية العمل الذي قدم الطالب من أجله، وإذا أراد أحد مساعدي أن يدعو إليه إنسانا من الخارج لعمل من الأعمال، كان عليه أن يعرض المسألة علي، فإذا رأيت أن الزيارة لازمة قمت بما يلزم لها من التمهيد.
ولم يكن هذا كل ما في الأمر، فقد كان لمجلسنا وللكرملن ولجنة الحزب المركزية وأماكن أخرى قليلة نظام يعرف ب «الشخمنكي» - أي لوحة الشطرنج - يرمي إلى خنق كل مؤامرة يدبرها الخونة من الحراس لإدخال أحد القتلة أو الجواسيس أو المنشقين إلى مركز إحدى الهيئات السالفة الذكر، ويتلخص هذا النظام فيما يأتي: كان الحراس من رجال القسم السياسي يبدلون أو يغير وضعهم كما يغير وضع قطع الشطرنج على اللوحة، وكان ذلك يحدث في فترات غير منتظمة قد تكون عشر دقائق وقد تكون أطول منها، ويحدث دون إنذار سابق على نظام دقيق معقد وبإشارة من نقطة إشراف مركزية، وبذلك لم يكن في وسع حارس منهم أن يعرف بالضبط أين يكون مركزه في وقت من الأوقات، وبهذه الطريقة لا يستطيع أربعة حراس أو خمسة أن يتواطئوا على إدخال زائر لم يصرح له بالدخول.
ومبالغة في الاحتياط لم يكن يسمح لسيارات غير سيارات رؤساء مجلس الوزراء أن تمر من الأبواب مهما يكن شأن الراكبين فيها، وحتى الوزراء أنفسهم كانت سياراتهم تنتظر خارج الأبواب، وبذلك يتقى خطر نسف قدس الأقداس بوضع قنبلة في سيارة تنفجر بعد زمن معين.
على أن رمز مكانتي الجديدة لم يكن في هذه الرقابة الشاملة، ولا في كلمة السر، بل كان هذا الرمز في قطعة من الأثاث لا فرق بينها وبين أية قطعة شبيهة بها في الظاهر، ولكنها ذات شأن خاص في حياة كبار موظفي السوفيت، وكانت هذه القطعة من الأثاث خزانة لا يعرف سر فتحها إلا أنا وحدي؛ أستغفر الله بل يعرفه معي رجال القسم السياسي، وكان أهم شيء في هذا الرمز من رموز السلطان أن أحدا لا يستطيع أن يعتدي على سريته، فكان لذلك في مقدوري أن أخفي ما أشاء عن جميع الناس حتى عن رؤسائي، ولم يكن لأحد من رجال الدولة خزانات من هذا النوع سوى الذين يؤتمنون على أسرار خطيرة من رؤسائهم الأعلين مباشرة، ولم يكن في الدولة كلها إلا خزانة واحدة لا يعرف سر فتحها رجال القسم السياسي وتلك هي خزانة ستالين.
ووضعت خزانتي في مكان ظاهر، وكانت تمتاز بفخامتها بين سائر قطع الأثاث الجميل، وكان أتكين وبمفيلوف نفسهما ينظران إليها بعين الإعجاب حين يشرفاني بزيارة بدل أن يستدعيني أحدهما إلى حجرته، ولا يدريان أية مذكرات سجلتها عن أوامرهما وتعليماتهما الشفهية، واحتفظت بها في هذه الخزنة.
ولكن الخزانة كانت لهذا السبب ذاته - أي لأنها ممتنعة على الناس كلهم - مربع الصيد لرجال الإدارة السرية والإدارة الخاصة، فقد كان من حق هؤلاء أن يفحصوا عن أوراقي في أثناء غيابي؛ ولذلك لم يكونوا يعنون أقل عناية بإخفاء آثارهم بعد تفتيش خزانتي وأدراج مكتبي، والحق أن خير طريقة يوجه بها الإنسان تهمة لرؤسائه دون أن يقدم بها تقريرا مباشرا لرجال الشرطة هي أن يكتب ما يريده «لنفسه» و«يخفيه» في خزانته الخاصة.
وكان أعظم ما أستمتع به من سلطان هو حقي في أن أعمل باسم الحكومة، فقد كنت أوجه نشاط ولاة الأمور المحليين والوزارات بأجمعها في جمهورية الروسيا السوفيتية الاشتراكية الاتحادية في جميع الشئون التي تشرف عليها إدارتي، فكان من حقي أن أطلب إلى الوزراء في هذه الجمهورية وإلى مساعديهم أن يرفعوا إلي تقارير وافية عن أعمالهم، وكان في وسعي أن أصدر إليهم الأوامر بل وأوجه إليهم اللوم في كل ما يتصل باختصاصي، وكان في مقدوري أن أستدعيهم إلى مكتبي في كل وقت بالليل أو بالنهار، ولم يكن لهم هم مثل هذا الحق بالنسبة إلي.
وكان من حقي وحدي أن أقرر هل أتعاون مع هذا الوزير أو ذاك أو أهمل أمره، وكنت أعرف من المصادر المطلعة رأي الحكومة في الموظفين المختلفين، أيهم يستحق المكافأة وأيهم يستحق «الإعدام»، ولم يمض علي في منصبي إلا قليل من الزمن حتى شعرت بما يشعر به الحكام و«مطابخ» الحزب وما «يطبخ» فيها، وكم من وزير يبدو في أعين الجماهير عظيما جليل الشأن ولكنه في أعين المطلعين العارفين بخفايا الأمور إنسان منحط لا قدر له بل إنسان يرثى لحاله.
وإن أنس لا أنس أول يوم لي في منصبي الجديد، لقد قدمت إلى عملي في الساعة العاشرة صباحا، فوجدت أمينتي سري ومساعدي قد سبقوني إلى أماكنهم، ووجدت الأوراق التي لا بد من اطلاعي عليها موضوعة بعناية فوق مكتبي، ووقفت عند الباب لألقي نظرة على الحجرة الواسعة الجميلة، وعلى صور الرؤساء المعلقة على جدرانها، وعلى صورة ستالين الزيتية الكبرى المعلقة فوق كرسي الرياسة الذي سأجلس عليه، وما أن وقعت عيناي على هذا كله حتى استعدت في ذاكرتي منظر حجرة قذرة في فندق نيقوبول حيث قذفت بقطعة من صورة مطبوعة لستالين في المرحاض، ولم أكد أجلس تحت صورة ستالين الكبيرة الفنية حتى دق جرس المسرة، وكان السائل ضابطا من ضباط القسم السياسي يسألني في أدب واحترام هل أستطيع مقابلته ليتحدث إلي بضع دقائق، وكانت هذه أول مرة يطلب إلي فيها ممثل لهذه الهيئة الرهيبة أن آذن له بزيارتي ... ودعوته للمجيء.
فلما أقبل قال لي وهو يسلمني خاتما من المطاط: «أريد أن أعطيك هذا الخاتم لتبصم به جوازات المرور لزائريك ولغيرها من الأوراق، وأرجو أن تعتني كل العناية بحفظه، وسأسمح لنفسي بأن أرشدك إلى بعض النظم الأخرى لأنك حديث العهد بمنصبك.» - «تفضل، وسأستمع إليك.»
وبدأ حديثه بشرح قواعد الزيارات وأبلغني كلمة السر الخاصة بي، وشدد علي في أن أحتفظ بها سرا لا أطلع عليه غيري، فلا أنطق بها مثلا على مسمع من أي إنسان مهما يكن شأنه، ثم شرح لي مشكلة آلات التليفون التي على مكتبي، فقال: إن إحداها متصلة بخط الدائرة الحكومية الذي يربط الكرملن واللجنة المركزية والوزارات المختلفة، وهذا الخط مخصص للأعمال الرسمية، ولا يمكن التحدث فيها عن طريق العدد الأخرى العادية.
ثم واصل حديثه قائلا: «وكل ورقة في مجلس الوزراء تعد سرا من أسرار الدولة، وستكون أنت شخصيا مسئولا عن كل رسالة أو وثيقة أو صورة بالكربون تتركها على مكتبك معرضة لأن يطلع عليها إنسان، وإذا رأيت أن تهمل وثيقة أو صورة بالكربون لأية ورقة فلا تكتف بإعدامها، بل عليك أن تكتب ما تشاء على هذه الورقة وأن ترسلها إلى الإدارة الخاصة لتحرقها هي.»
وبعد أن فرغ من درسه طلب إلي أن أوقع إقرارا بأني عرفت النظم المتبعة، ثم قام ورفع يده إلى رأسه بالتحية وخرج من مكتبي، وأغلق الباب وراءه في سكون وأدب وبغير الطريقة التي كان جيرشجورن رئيس الدائرة الاقتصادية في القسم السياسي يغلقه بها علي.
وفي الساعة الحادية عشرة تقريبا دقت الباب أمينة سري وهي امرأة ذكية وسيمة.
وقالت لي: «أتريد الفطور يا فكتور أندريفتش؟» - «نعم من فضلك، وما شأنك أنت؟ هل أفطرت؟»
فقالت وهي تتحسر: «لا حق لي إلا في قدح من الشاي وقطعة من السكر، أما الخبز فأحضره معي من منزلي، بئست الحرب ... ماذا في قدرة الإنسان أن يفعل؟»
وسرعان ما أقبلت خادمة المطعم تحمل صحاف الطعام، وكانت سيدة في منتصف العقد الرابع من عمرها أنيقة في ملبسها، على رأسها قلنسوة بيضاء منشاة، وكانت تؤدي عملها في صمت على خير وجه، وبدأت عملها بأن فرشت غطاء أبيض على خوان صغير، ووضعت عليه صحاف الطعام، وكان مكونا من بيضتين ولحم مشوي وخبز أبيض وزبد، وقدح من الشاي الساخن وعدة قطع من السكر وعدد قليل من الكعك، وما من شك في أن كل ما جاءت به - عدا البيض والشاي - كان أمريكي الأصل جاء إلينا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير، وكانت يدا الخادمة نظيفتين وإن كانت آثار الكدح بادية عليهما.
وقلت لها وأنا أبتسم: «أراك تدرمين
1
أظافرك على الدوام.»
فردت علي بقولها: «هذا طبيعي فأنا أخدم الكبار، هنيئا مريئا يا فكتور أندريفتش.»
وكان في ملامحها الضامرة ما جعلني أبقي على شيء من الطعام، فتركت بيضة وقليلا من اللحم وبعض الخبز وقطعة من السكر مدعيا أنه أكثر مما أستطيع أكله، ودققت الجرس فجاءت أمينة سري ورفعت بقايا الطعام وذهبت بها، ولما جاءتني بعد قليل ببعض الأوراق لأوقعها تلكأت بجوار مكتبي قليلا وقالت: «يخجلني أن أصارحك يا فكتور أندريفتش، ولكنك رجل ذكي تفهم ما سأقول حق الفهم: لقد جرؤت على أكل ما بقي من فطورك فأرجوك المعذرة ... إن من أصعب الأشياء أن يعيش الإنسان وبطنه خاو.» - «لقد أحسنت فيما فعلت، بل إني ليسرني أنك فعلت هذا، ولكني أصارحك أني كنت أفكر في خادمة المطعم.»
فقاطعتني قائلة: «ولكنني أنا وليزا متفاهمتان فأنا آخذ بقايا الطعام يوما وهي تأخذه في اليوم الثاني وهكذا دواليك، إن الجوع كافر يا فكتور أندريفتش وهو يتغلب على الحياء نفسه.»
وهكذا تعودت طوال الأشهر التي أقمتها في المجلس ألا آكل إلا نصف فطوري وأن أترك النصف الآخر منه لليزا ولأمينة سري، ولقد عرفت أن ليزا تأخذ نصيبها منه إلى بيتها لتطعم به طفليها؛ لأن زوجها كان في جبهة القتال، وكانت هاتان المرأتان تعيشان على الطعام المقرر للعاملات في مكاتب الحكومة وهو: 400 جرام (15 أوقية) من السكر و500 جرام (18 أوقية) من الحبوب، و400 جرام من الدهن في كل شهر و400 جرام من الخبز في اليوم، وإذا قدرت ثمن ما لم أطعمه من فطوري في اليوم الأول بثمن ما يباع به غير المقرر من الأطعمة في السوق بلغ مائة روبل على الأقل - فالبيضة مثلا تباع بأربعين روبلا - ولم تكن ليزا تكسب أكثر من مائة وخمسين روبلا في الشهر.
وأقبل علي حوالي الظهر زائر رسمي جديد، وهو الرجل الذي يشرف على الإدارة السرية الخاصة، أعين القسم المخصوص وآذانه في كل هيئة من الهيئات السوفيتية، ورأيته شابا في مقتبل العمر وكل ما فيه حتى ملابسه المدنية ينم عن أنه من رجال الشرطة، وكان الرجل منظما مرتبا فضوليا بعض الشيء، وكان مسلكه في مكتبي يدل على أنه سيد هذا المكتب.
وقال لي حين دخل: «أحييك يا رفيق كرافتشنكو، ويسرني أن أتعرف بك، وسيرى كلانا الآخر كثيرا، فأنت حديث العهد هنا، ومن واجبك أن تتعلم بعض القواعد منذ البداية، إننا في حرب كما تعلم، والعدو في كل مكان، ومهما بلغ حرصنا فإنه لن يزيد على الحد الواجب.» - «هذا طبيعي، هذا طبيعي.» - «إليك إذن القواعد التي يجب اتباعها للمحافظة على أسرار الدولة، أرجو أن تقرأها بعناية على مهل، ثم تسألني ما تشاء من الأسئلة إن كان بعضها غير واضح.»
وقدم إلي إضبارة من عشر أوراق أو اثنتي عشرة ورقة مطبوعة حوت التعليمات الواجب السير عليها في المحافظة على الوثائق السرية العسكرية الخاصة بالدولة وبالحزب، وكيفية حراسة مكتبي وخزانتي وحجرة عملي من أعين الغرباء، وكيفية منع أمينة سري الخاصة نفسها من رؤية بعض أنواع من الأوراق الرسمية، وقد كتبت هذه التعليمات كلها في صيغة الأوامر والتهديدات المألوفة في التعليمات السوفيتية، وأخبرت أن في مجلس وزراء الجمهورية طائفتين من كتاب الاختزال: طائفة للأمور العادية وأخرى للأمور السرية، فأما الرسائل العادية الرتيبة فيمكن إملاؤها على الطائفة الأولى، وأما الشئون السرية فيجب ألا تعطى إلا للمختزلين السريين، وهؤلاء يجب استدعاؤهم عن طريق الإدارة الخاصة، وتنص هذه القواعد في صيغة التأكيد على أن كل أمر يصدر إلي من رؤسائي يجب أن يسجل كتابة.
وسألت في هذه النقطة: «وما العمل إذا أصدر إلي الرفيق أتكين أو الرفيق بمفيلوف أو أحد رجال الكرملن تعليمات شفوية؟» - «يجب عليك في هذه الحال أن تدون ألفاظهم في مذكرتك اليومية الخاصة، وهذا ينطبق أيضا على موضوعات المحادثات التليفونية الهامة، فعليك في هذه الحالات ألا تتوانى عن تسجيل كل شيء، وهذه خير طريقة تقي بها نفسك إذا ما حدثت صعاب في المستقبل، لقد علمنا الرفيق ستالين أن نثق بالناس، ولكنه علمنا أيضا أن نكون شديدي الحذر.»
ولما انتهيت من قراءة التعليمات أخذ زائري يلقي علي محاضرة طويلة، وكان أهم ما في محاضرته ألا أصدق أحدا وأن أفترض أن لا أحد يصدقني، وأن تكون لدي على الدوام أدلة كتابية ومحاضر مفصلة لكل اجتماع ولكل حديث؛ ذلك أن الريبة المتبادلة ليست من الحقائق المقررة في شئون الحكم السوفيتية فحسب، بل هي أيضا من الطرق المألوفة المعترف بها والواجب مراعاتها في الحياة العامة، وهي السبيل الوحيدة للمحافظة على الحياة، وفي نهاية الاجتماع وقعت ورقة أقر فيها بأني عرفت جميع الأنظمة والعقوبات المترتبة على مخالفتها.
ثم طلب إلي آخر الأمر أن أقرأ وثيقة سرية موقعا عليها من ستالين ومولوتوف، وأن أفكر فيها طويلا، وتبين لي أن هذه الوثيقة قرار من الهيئة السياسية العليا تنص على حقوق مجلس وزراء الجمهورية وواجباته، وهي وثيقة مفصلة غاية التفصيل، لا تترك مجالا للشك في أن الحكومة الممثلة في هذا المجلس ليست إلا خادما ذليلا للهيئة السياسية العليا، وأداة طيعة في أيديها، ووقعت القرار المعتاد الذي عاهدتهم فيه على ألا أبوح بشيء من أسرار الدولة، ومع أن خضوع الحكومة للحزب في كل صغيرة وكبيرة كان أمرا معروفا لكل مواطن سوفيتي لديه شيء من الذكاء فقد كان يعد أمرا سريا خطيرا. «والآن أودعك يا رفيق كرافتشنكو، وما من شك في أننا سنلتقي كثيرا كما قلت لك.»
لقد كانت طبقة الموظفين التي أنتمي إليها أقل رجال الحكومة السوفيتية الأعلين حظا؛ ذلك أن ما علينا من تبعات كان أكبر مما لنا من سلطان، وكنا نؤدي أشق الأعمال ويعزى الفضل في أدائها إلى الرؤساء، وكانت مناصبنا من العلو بحيث لا نستطيع معها أن نتراخى قليلا كما يفعل من دوننا من الموظفين، ولكننا لم يكن لنا من السلطان ما نستطيع به أن نلقي العبء واللوم على كاهل غيرنا.
وكان من أعظم متاعبنا عدم قدرتنا على أن نأخذ كفايتنا من النوم، وكنت إذا مر علي أسبوع أحصل فيه على خمس ساعات من النوم في كل يوم عددت هذا من الأسابيع الاستثنائية، وكانت الكثرة الغالبة من موظفي مكاتبنا والأخصائيين فيها تعمل من الساعة التاسعة إلى الخامسة، وكنت أحيانا أستبقي بعضهم أكثر من هذا الوقت أو آمر بعض مرءوسي بأن يعودوا في المساء ، أما عملي أنا فكان يستمر من الساعة العاشرة أو الحادية عشرة صباحا إلى الساعة الثالثة أو الرابعة من صباح اليوم الثاني، وإلى أكثر من هذا في بعض الأحيان، ولم أكن أختلس بضع ساعات في المساء أقضيها في المنزل مع زوجتي إلا نادرا، وكنت من حين إلى حين أخاطر بغفوة من النوم غير المريح ساعة أو ساعتين على أريكة في مكتبي، أغلق في أثنائها الباب وأضع سماعة المسرة على أذني، حتى لا أضبط متلبسا بهذه الجريمة.
والحق أن نظام العمل الخاص بكبار الموظفين في موسكو من أغرب النظم وأكثرها شذوذا؛ وذلك لأنه مرتبط بأهواء رجل واحد وعاداته هو في العمل، فستالين يبدأ عمله اليومي عادة حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، ويواصله بلا انقطاع إلى الساعة الرابعة أو الخامسة، ثم ينقطع عن العمل حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساء، حين يعود إليه ويستمر فيه حتى الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا، والفترة المسائية أهم الفترتين.
ويفسر الناس هذا النظام الغريب الذي يجري عليه ستالين تفسيرات مختلفة، فمنهم من يقول: إنه يمكنه من أن يكون على اتصال شخصي بموظفيه في جميع أنحاء دولته الواسعة على الرغم من وجود فارق في الزمن لا يقل عن أربع ساعات بين أقصى مناطقها في الشرق وأقصاها في الغرب، ويقول بعضهم الآخر: إنه يقصد بهذا النظام أن يصون أخلاق كبار موظفيه، وذلك بتقسيم حياتهم إلى نوبات نهارية وليلية متعبة ، والحق أن هذا النظام يقلل من الفرص التي تتاح لهم للاستمتاع بالحياة الاجتماعية كما تقلل من مغريات هذه الحياة.
ومهما تكن أسباب هذا النظام الغريب فإن طبقة الموظفين في موسكو تنظم حياتها حسب أهواء ستالين الشاذة الغريبة، وأكثر أوقات كبار الموظفين عملا هو الوقت الذي يصل فيه الرئيس إلى مكتبه، ولا يقل هذا العمل إلا حين يعود إلى منزله، وهذا النظام بعينه يسود جميع الدوائر الحكومية في سائر أنحاء البلاد؛ لأن هذه الدوائر على اتصال تليفوني دائم بمركز القيادة العليا، وتنعكس عليها أهواء هذه القيادة ونزواتها، فحياة كبار الموظفين في روسيا بأجمعها تسيطر عليها إذن نزوات ذلك الكرجي البدين صاحب الوجه الذي شوهه الجدري، ولا حاجة إلى القول بأن هيئة من هيئات الحكومة لا تنقطع عن العمل طوال ساعات اليوم الأربع والعشرين، وتلك هي القسم السياسي، فهي لا تتقيد بأي نظام من نظم العمل لأنها لا تنام أبدا.
فإذا كانت الساعة العاشرة صباحا من أيام العمل الرسمية انطلقت السيارات «البكار» الخضراء اللون التي لا ينفذ فيها الرصاص مخترقة طريق موزايستك وطريق أرباط إلى حصن «السلطة» الحصين، فإذا سمع أهل موسكو صوت الصفارات ورأوا رجال الشرطة يمنعون المرور ليفسحوا الطريق لهذه السيارات السريعة، عرفوا من فورهم أن الرئيس ومولوتوف وبريا وملنكوف وميكويان وكاجانوفتش وأمثالهم من الزعماء يخترقون شوارع العاصمة، وتسبق كل سيارة عربة أخرى وتتبعها عربة ثالثة كلتاهما تحمل عددا من رجال القسم السياسي المدججين بالسلاح في ملابس مدنية، ولا حاجة إلى القول بأن الزعماء يركبون دائما فرادى لا مجتمعين ليقل بذلك تعرضهم للخطر.
ويوزع رجال الفرع الخاص من رجال الشرطة السرية المكلف بحراسة الرؤساء الكبار على طول الطريق، فتراهم في كل شبر منها، وولاة الأمور يعرفون سكان البيوت الممتدة على الطريق وهم يبعدون عنها كل من يشكون فيه، ويقف آلاف من الرجال في ملابس مدنية وعسكرية في ملتقى الطرق وأيديهم اليمنى ممسكة بمسدساتهم مستعدة لإطلاقها، وهم يعلمون أنهم هالكون لا محالة إذا أصاب «الزعماء المحبوبين» مكروه، وأهل موسكو لا يقفون في الطريق ليطلوا على ستالين، ولا ينظرون إلى رفاقه العظام إلا لماما، والعقلاء منهم يبتعدون عن طريق حكامهم، وقلما يظهرون فيها أثناء مرورهم.
والموظفون الذين يقلون عن هؤلاء العظماء درجة أو درجتين - أمثال بمفيلوف وأتكين في مجلس وزرائنا - يحرصون على أن يكونوا في مكاتبهم قبل أن يصل ستالين إلى مكتبه، أما أنا فكنت أحرص على أن أكون في مكتبي قبل أن يصل رؤسائي المباشرون إلى أماكنهم، وكنت على الدوام أجد مساعدي في انتظاري حين أصل إلى المجلس، ولم أكن أغادر مكتبي قبل أن يفرغ رؤسائي من نوبتهم الليلية إلا بإذن خاص، وبذلك كنت أقضي في العمل نحو سبع عشرة أو ثماني عشرة ساعة، وكان أتكين وبمفيلوف لا يشكان في أنني سأكون بجوار آلة المسرة حين ينادياني، كما كان ستالين ومولوتوف يفترضان أن بمفيلوف سيلبي نداءهما على الدوام إذا ما نادياه، ولعلنا لا نجد أمة عظيمة نظمت أعمالها الرسمية كلها لتوائم نزوات رجل واحد كما نظمت أعمال بلادنا كلها لتوائم نزوات ستالين.
وكان مجلسنا هو الأداة التنفيذية للجنة الدفاع عن الدولة ذات السلطة الواسعة في البلاد، وكانت وظيفته الرئيسية في أثناء الحرب أن يراقب تنفيذ جميع الأوامر الخاصة بالعتاد الحربي في جمهورية الروسيا السوفيتية الاشتراكية الاتحادية، ويحاسب القائمين بتنفيذها، وإذا ذكرنا أن الألمان كانوا يحتلون روسيا البيضاء وأوكرانيا وقسما من بلاد القفقاس أدركنا أن الأقاليم التي تحت سلطان هذا المجلس كانت تشمل على وجه التقريب كل ما بقي من بلاد الروسيا المنتجة وسكانها المنتجين، وأننا كنا في واقع الأمر أكبر المسئولين عن الإنتاج الحربي بأجمعه في ذلك الوقت، وكان قسم من هذا العمل الضخم مركزا في الإدارة التي أسيطر عليها في ذلك الوقت «إدارة التسليح الهندسي الحربي»، وهذه الإدارة تشمل الإشراف على إنتاج العتاد الحربي من الدبابات والمدافع، وأجهزة الطائرات، وطرق المواصلات، وأجهزة الهابطات والتخفي إلى الأقنعة الواقية من الغارات، وبيوت الإبرة وتليفونات الميان، والمجارف وما إليها مما تنتجه مصانع جمهورية السوفيت الروسية الاشتراكية الاتحادية.
ولست أبالغ إذا قلت: إن مئات من الأوامر والنواهي والقرارات والشكاوى التي يوقعها ستالين وأقرب المقربين إليه وبريا ومولوتوف وميكوبان وفزنسنسكي ومليشف وكسجين كانت تمر بي، وكنت على اتصال تليفوني دائم بكل وزير وبكل مصنع ومكتب خاص من مكاتب الصناعات والمكاتب الإقليمية في جميع أنحاء البلاد، ولربما طلب إلي في خلال ساعة واحدة أن أتبين سير الإنتاج في مدن متباعدة مثل جوركي وسفردلفسك وفي نوفوسيبرسك وشليابنسك.
وأصبحت حياتي جهادا شديدا متواصلا للبحث عن المواد الغفل والوقود والعمال، ولتعجيل الإنتاج في أوقات معينة، وتحريك الوزارات والمنظمات في كل مكان من موسكو إلى سيبيريا ودفعها إلى العمل ، وكنت رغم هذا كله ألام وأعنف وأشتم من رؤسائي ومن رجال لجنة الدفاع عن الدولة، ولعل دوائر الحكومة السوفيتية العليا يصدر فيها من فحش القول أكثر ما يصدر في سائر بلاد العالم مجتمعة، ولعل فحش القول هو أكثر ما يذكر الإنسان بأصل حكامنا، وقد يكون أحيانا هو وحده الذي يذكرني بأصلهم وأكثر حكامنا فحشا هو كاجانوفتش، فكان كلما طال حديثه ازدادت ألفاظه فحشا، ولم يكن مولوتوف وفوروشيلوف وأندريف وغيرهم وستالين نفسه يختلفون عنه كثيرا في هذا المضمار، على أني أقرر هنا أن الكثرة الغالبة من الزعماء الذين اتصلت بهم كانوا رجالا قادرين يعرفون عملهم، لا يتوانون عن أدائه ولا يدخرون جهدا في سبيله.
ومرت علي أسابيع واصلت فيها الليل بالنهار لتنظيم أعمال الإنتاج في صناعات بسيطة كصناعة قاطعات الأسلاك الشائكة والمجارف والفوانيس، وإن أنس لا أنس الليلة التي جاءني فيها في مكتبي قائد من قواد الجيش الأحمر، وأخذ يطلب والدمع يتحدر من عينيه قاطعات للأسلاك الشائكة، وقال لي: إن آلافا من جنودنا يقتلون من غير داع لنقص هذه الأداة البسيطة، فما كان مني إلا أن استدعيت في أثناء وجوده بعض كبار الرؤساء في موسكو وبعض مديري المصانع في خارجها، ولكن ماذا يجدي غضبي وتهديدي إذا كانت المصانع لا تجد حاجاتها من الصلب أو الأدوات أو الآلات؟
وكنت على اتصال دائم بالمارشال تافيكوف والمارشال فوروبيوف والقائدان سلفنف وفلكف وأمير البحر جلر وعشرات من الزعماء العسكريين، وكثيرا ما وجدنا لشدة الأسف أن كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نندب سوء طالعنا جميعا لنقص المعدات الحربية على اختلاف أنواعها.
وهل أنسى الساعة التي صادرنا فيها آلافا من بيوت الإبرة البدائية من المدارس ووزعناها بقدر على جبهات القتال المختلفة؟ ذلك أن أمرا صدر بتوقيع ستالين يطلب إعداد خمسين ألفا من بيوت الإبرة العسكرية الصالحة للاستخدام في جبهات القتال، ولكنا لم نجد ما يلزمها من الصلب الممغطس.
وهل أنسى المؤتمرات المتعددة والنداءات التليفونية الجنونية، والتهديدات التي لا حصر لها، وفترات اليأس التي مرت بنا في فصل الصيف أثناء بحثنا عن أحذية الخيل؟ لقد هلكت آلاف الجياد وهلك أحيانا آلاف الفرسان، لنقص هذه الأداة وحدها بعد أن وقف صنعها لنقص الحديد، وعجز المصنعين اللذين يصنعانها في إقليم الأورال، وكان الذي طلب أحذية الخيل هو المارشال بودني، وقد أتاح لي ذلك فرصة معرفة بطل الثورة العظيم، لقد أبعد هذا القائد من مركز القيادة الذي تولاه فترة من الزمان، ثم اختفى اسمه فلم يعد أحد يذكره، وتناقل الناس إشاعة بأنه قد قتل، ثم عرفت في هذه الأزمة أنه نقل إلى مكتب من المكاتب المختصة بمطالب الفرسان.
وكانت الأدلة القاطعة على عجز بلادي عن الاستعداد لهذه الحرب العوان تواجهني في كل يوم، فقد تبين لي مثلا أن عشرات الآلاف من جنودنا الأبطال قد لاقوا حتفهم لنقص في أبسط الأدوات، وأن أوامر ستالين «وإجراءات بيريا الصارمة» قد عجزت كلها عن انتزاع شيء من المصانع التي تنقصها المواد الغفل، والتي يعمل فيها صناع لا يكادون يجدون من الطعام ما يمسك عليهم حياتهم.
وعرفت أكثر مما عرف القواد الكبار وأمراء البحر العظام ما كان للأسلحة والمواد الغفل والآلات التي جاءتنا من أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير من فضل عظيم فيما أحرزناه من نصر، وقد يكون بعض الأمريكيين في شك من هذه الحقيقة حتى الآن، أما القواد السوفيت فلا يخالجهم فيها أدنى ريب، فهي في اعتقادهم حقيقة مؤكدة، والله يعلم أننا أدينا ثمن هذه المساعدة غاليا، أدينا ثمنها من أرواح الروس، ولكن هذا لا يغير من الحقيقة نفسها، فلولا ما أمدتنا به أمريكا من طائرات وسيارات للنقل ومسرات وآلاف غيرها من الحاجيات التي كانت تنقصنا لانهارت المقاومة السوفيتية، ولسنا ننكر أن الإنتاج الروسي والبطولة الروسية والتضحية الروسية لها كلها المقام الأول في أسباب النصر، ولسنا ننكر أيضا أنا أحرزنا النصر في ستالينجراد قبل أن يبدأ سيل الإمداد الأمريكية بمقتضى قانون الإعارة والتأجير، ولكن العون الذي جاءنا بعدئذ من أمريكا ومن بلاد الحلفاء كان له أعظم الأثر فيما أحرزناه بعدئذ من نصر.
وكثيرا ما كانت الأوامر التي تصل إلي من المصادر العليا أوامر جنونية غير معقولة، فإذا تلقيت أمرا بطلب جزء لا غنى عنه من دبابة أو طائرة موقع من ستالين وأحد أمناء سره صحب هذا الأمر على الدوام إنذار بتوقيع أقصى العقوبات إذا لم يجب الطلب على الفور. «أبلغ الوزراء أن تنفيذ هذا القرار واجب حربي وسياسي غاية في الخطورة، ويجب أن يبلغ النائب العام في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية أن يشرف بنفسه على تنفيذ هذا الأمر، وأن يوقع العقاب على من لا يقومون بتنفيذه مهما تكن منزلتهم.» وقد يصاغ الأمر في الصيغة التالية: «يجب أن يشرف على تنفيذ هذا الأمر الوزير ببفوف، وكل من يرتكب جريمة الإهمال في تنفيذه أيا كان مركزه يجب أن يرفع أمره إلينا ليحاسب على إهماله.»
ومعنى محاسبته على إهماله نقله من منصبه ومحاكمته أمام محكمة عسكرية، وقد تختتم الأوامر التي يوقعها بريا الناطق باسم الشرطة السرية بالعبارة الآتية: «أبلغوا الوزراء أن ينفذوا هذا القرار مهما تكن اعتراضاتهم عليه، وأن يرفعوا إلي أمر من يهمل في تنفيذه.»
هذا هو أسلوب ستالين المألوف، يحذو حذوه كل بيروقراطي في علاقته بمن هم أقل منه مرتبة من الموظفين، وتلك لغة الخوف والإرهاب السافرة التي يقصد بها صراحة أن تذكرنا بمعسكرات الاعتقال وفرق الإعدام رميا بالرصاص، ولم يكن ستالين يتورع عن التهديد بالاعتقال والفصل.
ولم أعمل في وقت من الأوقات عملا أشق أو أطول أو أصعب في ظروفه مما كنت أعمل وقتئذ، وسرعان ما اكتأبت ملامحي، وغارت عيناي، واحمر لونهما، وبدت علي الأعراض الأولية للحمى التي تنشأ من الإجهاد الشديد، وكان كل من حولي من رجال ونساء يكدحون كما أكدح أنا، وما من شك في أن بعضهم كان يحقد على الحكم السوفيتي كما أحقد عليه، ولكن آراءنا السياسية لم تؤثر قط في إخلاصنا لقضية بلادنا وحرصنا على النصر، لقد كانت بلادنا معرضة للخطر، ولم يكن ثمة شيء آخر له قيمة في نظرنا إذا قيس إلى هذا الخطر الشديد.
لقد كنا نعلم أننا إذا أفلحنا في اقتصاد يوم واحد أو ساعة واحدة، أو أرسلنا إلى جبهة القتال شيئا مما ينقصها من أدوات مهما تكن صغيرة، فقد يؤدي هذا إلى إنقاذ حياة الآلاف من بني وطننا، ولم يكن أحد منا في حاجة إلى دافع للعمل أقوى من هذا الدافع، ومن أجل ذلك لم يكن للتهديد أي أثر فينا، فقد كنا نشعر على الدوام أن جهودنا مرتبطة أشد الارتباط بذلك الكفاح المرير الذي يبذله أبناء وطننا، وإن لم نتحدث إلا قليلا عن هذا الشعور الذي يملأ نفوسنا؛ ذلك أننا كنا نعالج الصعاب الواضحة الملموسة، فنصنع العتاد الحربي والعدد والآلات في ظروف شاقة لا تترك لنا مجالا للتحدث عن مشاعرنا وعواطفنا.
وجرف تيار الوطنية الدافق المنبعث من أعماق التاريخ الروسي والروح الروسية جميع العاملين في الأداة الحكومية من بمفيلوف إلى أصغر كاتب في الملفات؛ ولهذا فإن عملاء الدعاوة الحقيرين، الذين يصدعون بأمر ستالين في داخل البلاد وخارجها، والذين يحاولون أن يعللوا ما بذلناه من جهود مضنية بأنه ظاهرة بلشفية حديثة العهد بالبلاد، إن هؤلاء العملاء يظلمون الشعب الروسي أشد الظلم؛ ذلك أنهم بقولهم هذا يحاولون أن يفسروا قوة أساسية أزلية كامنة في طبيعة الروس كأنها ناشئة من آراء ومبادئ حزبية تافهة، لقد كانت المعجزة روسية لا سوفيتية، فإذا ما فكرت في أمري وأنا أكدح كدحا شريفا متواصلا لا أدخر فيه جهدا بقيادة زعماء أزدريهم ولا أثق بهم، أرى في شخصي رمزا لروسيا المحاربة.
وكانت الشهور الطوال التي قضيتها أعمل في مجلس وزراء الجمهورية متفقة في الزمن مع أشد مراحل الحرب وأعظمها ضراما، فقد كانت تشمل صيف عام 1942م الذي توغل فيه الألمان في البلاد، وظفروا فيه بأكبر انتصار لهم فيها، ووصلوا فيه إلى نهر الفلجا، وفيها وقعت الواقعة الرهيبة التي وضعت ستالينجراد في تاريخ البشرية في مصاف مرثون ووترلو، أن في نفوس بعض الأمم عنصرا أزليا شديد الصلابة، لا يلين للأحداث مهما قست، وهذا العنصر هو الذي تكشف للعالم في ستالينجراد، ولم تقض عليه الفواجع والدم المسفوك، ذلك عنصر لا صلة له البتة بكارل ماركس وستالين.
وظلت البلاغات الرسمية تهون من هزائمنا الساحقة، فكانت أشد هذه الهزائم هولا تمثل لنا على أنها حركات عسكرية فنية، وكان العالم يعلم من أمر الكفاح الطويل المرير في إقليم ستالينجراد أكثر مما يعلمه الشعب الروسي نفسه، ولكن من في طبقتا من الرؤساء في الإدارات الحكومية لم يكن يسعهم أن يخادعوا أنفسهم، ولقد كانت مطالب جبهات القتال للمؤن والطائرات والذخائر والجنود تقذف في قلوبنا الذعر واليأس في بعض الأحيان، ولم يكن في وسعنا أن نغمض أعيننا عن أنهار الدماء المراقة في ميادين القتال.
وكانت خريطة كبيرة للروسيا معلقة على أحد جدران حجرة أتكين، وكانت الدبابيس الدالة على تقدم الألمان في البلاد تتعمق يوما بعد يوم في داخلها، ويمتد بينها خط في لون الدماء يبين ما نخسره من البلاد، ودخلت على أتكين في أحد الأيام فرأيته يحدق ببصره في الخريطة والقلق الشديد باد في وجهه.
وقلت له بعد أن وضعت على مكتبه بعض الأوراق: «إن لدي أعمالا عاجلة يا أندراي إيفانوفتش.» - «إن الأوراق لن تطير، تعال إلي وانظر ما يفعل بنا الألمان الكلاب.»
ورأيت الخط الأحمر مجاورا لمزهايسك ولا يبعد عن موسكو أكثر من مائة ميل من جهة الغرب، يفصل جميع أوكرانيا عن سائر البلاد ويقترب اقترابا مروعا من نهر الفلجا في اتجاه ستالينجراد. - «وماذا نفعل يا فكتور أندريفتش إذا ما استولوا على ما لدينا من بترول؟»
فأجبته قائلا: «إن الصورة مروعة، مروعة حقا! وكل ما يستطيع الواحد منا أن يعمله هو أن يعمل ويعمل ويعمل، ومن حسن الحظ أن قد بدأ العتاد يصل إلينا سريعا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير.»
فقال أتكين في انفعال شديد: «الإعارة والتأجير! إن الذي تحتاجه هو أن تفتح جبهة ثانية، ولكن الرأسماليين الكلاب لا يزالون يضيعون الوقت سدى، ولا يبالون كم من أرواح الروس تزهق! إننا نؤدي أبهظ الأثمان نظير قانون الإعارة والتأجير.»
وكانت التعبئة العامة قائمة على قدم وساق من زمن طويل، وبدرجة لا مثيل لها في أية أمة من الأمم المحاربة، وبلغ من شدتها أن انتزع الرجال العاملون من المصانع والمزارع في وقت بلغت فيه الحاجة إلى الإنتاج غايتها القصوى.
وكنت أشغل في الحكومة مركزا أستطيع أن أبصر فيه هذه الصورة المفجعة بأجلى وضوح، فقد أصدر ستالين أوامر لم تعلن جهرة تقضي بتجنيد جميع الرجال بين السادسة عشرة والسادسة والخمسين، وبإغفال آخر مظهر من مظاهر الكشف الطبي الحقيقي، ومن إعفاء الذين لا تجد أسرهم من يعولهم سواهم، وأعيد إلى جبهة القتال عشرات الآلاف ممن لم تلتئم جراحهم بعد، وحشد الأولاد والبنات وهم لا يزالون بعد في سن الدراسة، كما حشدت الأطفال والأمهات، وانتزعت من المزارع النسوة اللائي فقدن رجالهن، ليعمل هؤلاء كلهم في المصانع.
وأصبح من الضرورات الملحة في هذه الأزمة أن يستخدم الأسرى في كثير من الأعمال لتوفير العدد الكافي من الرجال للعمل في جبهات القتال، تلك حقيقة يجب أن نعترف بها مهما ترتب عليها من نتائج غير سارة، لقد كانت المصانع التي جند عمالها والتي أنشئت في سيبيريا وجبال أورال، والوحدات الصناعية التي أنشئت حديثا في كافة أنحاء البلاد، كانت هذه كلها تخرج عتادا مطرد الزيادة، ولكن الذين يقومون بالعمل فيها لم يكونوا كلهم مجندين روسا، ومن أجل هذه فإن الذين يتحدثون في خارج بلادنا عن انتصار الروس، ويتخذون من هذا النصر دليلا على نجاح النظام السوفيتي يكونون أقرب إلى الحقيقية إذا أثنوا على ما أحرزه من الفوز أولئك الأسرى المجندون.
ولما كانت القوات المسلحة قد استنزفت جميع من في البلاد من الرجال القادرين على العمل فإن الصناعة أخذت تعتمد اعتمادا متزايدا على أسرى الحرب، وقد تضخمت أعدادهم بمن ضم إليهم من المعتقلين، وكانت الدوائر الرسمية تقدر عدد هؤلاء العمال بنحو عشرين مليونا من الرجال، ليس منهم الأولاد والبنات الذين تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة، والذين انتزعوا من بين والديهم بالقوة وأرسلوا إلى الأقاليم التي اشتدت فيها الحاجة إلى الأيدي العاملة.
وكانت الصناعات الحربية في الروسيا كالصناعات الحربية في ألمانيا تعتمد قبل كل شيء على السخرة، وأهم ما كان بين البلدين من فروق من هذه الناحية أن الألمان كانوا يسخرون أبناء الشعوب الأجنبية المغلوبة، على حين أن الروس كانوا يسخرون مواطنيهم المستعبدين، وليس من الصعب على المرء أن يتصور الأحوال الرهيبة التي كان أولئك المسخرون يعيشون فيها ويعملون، لقد كان هؤلاء بضاعة رخيصة، ولم يكن رجال القسم السياسي يسألون عمن يهلكون منهم.
وكانت وزارتا الأسلحة والذخائر قد وضعتا منذ نشبت الحرب تحت سيطرة بيريا وزير الداخلية، كما كان في الوقت نفسه رئيس مجلس الوزراء في جمهورية الروسيا السوفيتية الاشتراكية وعضوا في لجنة الدفاع عن الدولة، وكان معنى هذا أن وزارتي الأسلحة والذخائر ومجلس الوزراء كانت تحت رياسة الشرطة، وعرف هذا أوستنوف وفانيكوف المشرفان بالاسم في هاتين الوزارتين، كما عرفه سائر الناس حتى أصغر الموظفين شأنا، وكان الموت العاجل أحب إليهم من غضب بريا عليهم، وكان هذا الرجل وشرطته يقذفون الرعب في قلوب جميع من في المصانع والمعاهد ذات الصلة القريبة أو البعيدة بصناعة الأسلحة والذخائر.
ولم يكن بيريا من المهندسين ولكنه وضع على رأس هذه الإدارات ليبعث الرعب في قلوب من يعملون فيها، وطالما سألت نفسي - وما من شك في أن كثيرين غيري قد سألوا أنفسهم سرا - لم أقدم ستالين على هذا العمل؟ ولم يكن في وسعي أن أجد لهذا السؤال إلا جوابا واحدا معقولا، وهو أن ستالين كان ضعيف الإيمان بوطنية الشعب الروسي وشرفه القومي؛ ولهذا لم ير مناصا من أن يجعل أكبر اعتماده على السود، وكان سوطه هو بيريا.
وكان ضعف الإيمان بوطنية الروس وشرفهم القوي يظهر أيضا في معظم الصناعات الأخرى، وشاهد ذلك أن رؤساءهم المدنيين قد استبدل بهم رؤساء عسكريون أو رجال خلعت عليهم ألقاب عسكرية وسلطات عسكرية، فإدارة النقل بالسكك الحديدية مثلا وضعت تحت إشراف القائد جروليوف نائب ستالين في وزارة الدفاع، وكان جروليوف هذا يعمل بالاتفاق مع إدارة النقل التابعة لوزارة الداخلية، فأدخل في إدارته النظام العسكري الشامل وأحل الخوف في نظام النقل محل التعاون القائم على حب الوطن والعمل لمصلحته.
وجريا على هذه السنة رقى ماليشف المهندس الفني ومساعد رئيس الوزراء في جمهورية الروسيا الاشتراكية إلى رتبة قائد وجعل له الإشراف على صناعة الدبابات، وأخضع لأمره رئيسها المدني، وكذلك منحت ألقاب عسكرية لمديري المصانع وغيرهم من الشخصيات البارزة في هذه الصناعة، وبذلك لم تلبث الإدارات الحكومية كلها أن صبغت بالصبغة العسكرية.
وسرعان ما امتدت يد بيريا وأيدي الإدارات التي يشرف عليها إلى العدد الأكبر من العمال لتسخيرهم في الصناعات الحربية، ولكن بقي من ذلك من هؤلاء من يمكن تسخيرهم في سائر الصناعات المتصلة بالاقتصاد القومي، ولقد عرفت من تجاربي وملاحظاتي الشخصية أنه لا يكاد يوجد مشروع صناعي لا تعمل فيه فرق من العمال المسخرين، وأن عشرات من هذه المشروعات كان جل اعتمادها أو كله على السخرة.
وكنت وأنا في المجلس أسمع الشيء الكثير من المشاكل الخاصة التي تواجه معسكرات الاعتقال والسجون حين تضطر إلى إخلاء الجهات التي تقوم فيها بسبب تقدم الألمان، وكان إجلاء هؤلاء المسجونين والمعتقلين أهم لدى الرؤساء المسئولين من إجلاء السكان الأحرار؛ وذلك لأن قدرتهم على العمل كانت ذات قيمة اقتصادية خليقة بالإنقاذ، على أن أهم من هذا في نظر الرؤساء أن تلك الفئة لا يمكن الوثوق بها، وقد تكون عونا للألمان، وكان ثمة سبب لا يمكن إغفاله وهو سبب سياسي من غير شك؛ ذلك خوف ولاة الأمور من أن يعرف العالم الخارجي من هؤلاء الأسرى المعتقلين بعض الأسرار الرهيبة عن مدى نظام السخرة السوفيتي وحقيقة أمره.
ومن أعضاء مجلس وزراء جمهورية روسيا السوفيتية من يعرفون عن حوادث أعدمت فيها جموع من الأسرى عن آخرها حين تبين المسئولون أن هؤلاء لا يمكن ترحيلهم، حدث هذا في منسك وسمولنسك وكيف وخاركوف وفي دنيبروبتروفسك مسقط رأسي وفي زبرزهي، وقد بقيت تفاصيل إحدى هذه الحوادث منقوشة في ذهني، كان في جمهورية كبردينو - بلكار السوفيتية «المستقلة»، وهي جمهورية صغيرة في بلاد القفقاس بها مصانع كبيرة لصناعة المولبدين
2
تشرف عليها وزارة الداخلية ويقوم بالعمل فيها المسجونون ، ولما ارتد الجيش الأحمر عن هذا الإقليم ولم يكن من المستطاع إجلاء بضع مئات من هؤلاء المسجونين في الوقت المناسب لأسباب فنية تتعلق بشئون النقل، أطلق الرفيق أنوخوف مدير المصانع المتحدة المدافع الرشاشة على هؤلاء المساجين البائسين بأمر من الرفيق أنوخوف وزير الداخلية في جمهورية كبردينو فلكار، وقتلهم عن آخرهم حتى لم يبق منهم رجل واحد ولا امرأة واحدة، ولما حرر الإقليم بعدئذ من الألمان كوفئ أنوخوف على عمله هذا بأن عين رئيسا لمجلس الوزراء وهو أرقى منصب في هذه الجمهورية المستقلة.
وكنت حين أستحث الإدارات المختلفة على أن تزيد في إنتاجها تعترضني على الدوام قلة يلحون على بمفيلوف أن يمدهم بالأيدي العاملة مما لديه من احتياطي، وكان هو يستحث وزارة الداخلية على أن تمده بما لديها من مسجونين ومعتقلين ليوزعهم على هذا المصنع أو ذاك، وكان في بعض الأحيان يحيل المشكلة إلى فزنسنسكي أو مولوتوف أو بيريا مباشرة، وكان رئيس الإدارة الرئيسية المشرفة على معسكرات عمال السخرة والمعروفة باسم الجولاج هو القائد ندوسكين أحد مساعدي بيريا، وكانت تصدر الأوامر الخاصة بالعمال المسخرين إلى ندوسكين هذا من لجنة الدفاع عن الدولة، وعليها توقيع مولوتوف وستالين وبيريا وغيرهم من أعضاء الحكومة، وكان عليه أن ينفذها من فوره.
ولا تزال تحضرني مقابلة بيني وبين أحد كبار الرؤساء في الإدارة المركزية للعمال المسخرين اجتمعت به بناء على أمر أتكين، وقد كلف هذا الرئيس بأن يبعث ببضع مئات من المسجونين إلى إحدى الوزارات لشدة حاجتها إليهم، وكان بمفيلوف يستحثنا للتعجيل بإجابة هذا الطلب، ومما لا شك فيه أنه هو نفسه كان يدفعه رؤساؤه الأعلون، واستدعيت أنا هذا الموظف وكلفته بإجابة هذا الطلب.
فقاطعني الرجل قائلا: «ولكن أرجوك أن تحكم العقل فيما تطلبه يا رفيق كرافتشنكو، إن مجلس وزرائكم ليس هو وحده الذي يلح في طلب العمال، فلجنة الدفاع هي الأخرى تطلبهم، والرفيق ميكويان لا يفتأ ينغص علينا حياتنا بطلباته، وملنكوف وفزنسنسكي في حاجة إليهم، وفرشلوف يطلب عمالا لإنشاء الطرق، ومن حق كل واحد منهم أن يظن أن عمله أعظم خطرا من عمل غيره، وماذا نعمل نحن؟ إن الحقيقة التي لا خفاء فيها أنا لم ننفذ بعد ما وضعناه من خطط للقبض على السجناء والطلب عليهم الآن أكثر من المعروضين منهم.»
خطط للقبض على السجناء! ألا ما أفظع هذا القول الرهيب الذي لا يزال يقشعر منه بدني كلما تذكرته، ومما يزيد في فظاعته أن هذا الموظف الذي كنت أتحدث إليه لم يكن يحس بما في قوله هذا من فظاعة، لقد أصبح القبض على الآدميين واستعبادهم من الأمور المألوفة في حياته، ولم يكن الرجل يقصد بطبيعة الحال أن ثمة خططا توضع فعلا للوفاء بما يطلب من العمال، بل كل ما في الأمر أنه كان يعبر عن شكواه - باللهجة السوفيتية المألوفة - من أن ملايين العمال المسخرين لا يكفون ما يتلقى من الطلبات.
وقد كان العدد الضخم من الأحداث الذين يعملون في المصانع الروسية وضخامته مجهولا في خارجها لسبب ما، بل إن هذا الأمر كان يحيط به في داخل الروسيا نفسها نطاق من السرية ويغشى بطبيعة الحال بالرياء وبغلالة من المبادئ والألفاظ المعسولة، فإذا ما جردنا هذا النظام من هذا الغشاء اللفظي الشفاف تكشف عن قسر وإرغام، فقد كان ملايين من الأطفال يخرجون من بيوتهم بالرغم من آبائهم، ويحشرون في المصانع على أساس التعبئة العامة دون أن يستشاروا في نوع العمل الذي يفضلونه عن غيره، ومن الخطأ أن تعزى نشأة هذا النظام إلى الحرب وضروراتها وحدها، فقد نشأ في عام 1940م وظل قائما مستحكم الحلقات بعد أن وضعت الحرب أوزارها كما تدل على ذلك الرسائل التي تلقيتها في هذه البلاد.
وصدر أول الأمر بتعبئة الأطفال في أكتوبر سنة 1940م، وكان يقضي بتجنيد عدد منهم يتراوح بين 800000 ومليون من أبناء المدن والقرى بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة من عمرهم؛ لتدريبهم على العمل في الصناعات المختلفة، وقد أجاز هذا الأمر قبول من يتطوع من الأطفال زيادة على العدد المطلوب تجنيده منهم، وكان الذين تقل سنهم عن السادسة عشرة يؤخذون في الغالب ليدربوا على الأعمال التي تحتاج إلى شيء من الدربة الفنية مدى سنتين أو نحوهما، أما الصناعات التي لا تحتاج إلى هذه المهارة فلم تكن مدة التدريب فيها تزيد على ستة أشهر، وكان يؤخذ لهذه الصناعات من تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة.
فإن أتموا تدريبهم على هذا النحو أو ذاك وزعوا كما ينص مرسوم التجنيد على المصانع والمناجم ومشروعات البناء وغيرها من الأعمال حسبما تراه إدارة احتياطي العمال، ويظلون في أعمالهم هذه أربع سنين، وكان هذا النظام في حقيقة أمره تجنيدا عسكريا للأطفال رغم ما كان يغشاه من رياء الألفاظ والدعاوة الباطلة المموهة، فقد كان الأطفال ينتزعون من أحضان آبائهم وأمهاتهم «لخيرهم» بطبيعة الحال.
وما وافى عام 1943م حتى كان العدد المطلوب تجنيده من الأطفال يبلغ مليونين في كل عام، وأصبح من المناظر المألوفة في بلادنا المنكوبة أن ينتزع الأطفال بقسوة من أحضان آبائهم وهم يبكون ويكافحون، وآباؤهم يعولون وينتحبون، وكان يؤتى لهم بحلل عسكرية، ويأوون في ثكنات حكومية، ويخضعون لنظام قاس لا يفترق في شيء عن الأنظمة العسكرية، وكان وقتهم يوزع بين العمل والدرس والتدريب الرياضي طبقا لقواعد لا تجعل منهم خداما للنظام السوفيتي طائعين فحسب بل متعصبين له أيضا، ومن أجل هذا كانت التربية السياسية أهم عنصر في تعليمهم.
ولقد رأيت حتى قبل الحرب وأنا لا أزال أعمل في مصانع الأنابيب في موسكو جماعات كثيرة من الأطفال انتزعوا من بيوتهم ليعملوا في المصانع، وأتيح لي في هذا المصنع أن أعرف النظام كله عن كثب، فرأيت الأطفال يستيقظون من نومهم في منتصف الساعة السادسة صباحا على صوت النقير أو دق الطبول ليبدءوا تدريبهم العسكري، فإذا فرغوا منه أفطروا ثم بدءوا عملهم في الساعة السابعة البنون منهم والبنات طبقا للقواعد الصارمة الموضوعة لتربيتهم ليصبحوا آلات تسيرها الدولة.
وثمة أمر آخر يجعل هذا النظام خليقا بالسخرية، وهو وضعه من الناحية السياسية تحت إشراف نيقولاي شفرنيك رئيس نقابات العمال في جميع الدولة السوفيتية، وأحد أعضاء الهيئة السياسية العليا، أما رئيس إدارة احتياطي العمال التي كانت تشرف على تدريب الأطفال المجندين وتوزعهم على الأعمال في مختلف أنحاء البلاد حسب حاجة الدولة إليهم فهو مسكتوف أحد أمناء السر في نقابات الصناع التي يشرف عليها شفرنيك.
وقد جرى تجنيد الأطفال بأمر من الحكومة خمس مرات في أثناء الحرب، وبذلك بلغ عدد المجندين من الأولاد والبنات نحو تسعة ملايين، يضاف إليهم مئات الآلاف من الأولاد الذين لا يتجاوزون الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر والذين حشدوا في مدارس حربية جديدة أنشئت في تلك الأيام لكي يتخرجوا منها ضباطا للجيش على النمط الذي كان يدرب عليه الأطفال الأولون ليكونوا صناعا عاديين.
أما المجندون العسكريون فكانوا في معظم الحالات من المتطوعين، ولكن جموعا من أيتام الحرب يؤخذ بعضهم من بيوت الأطفال وبعضهم الآخرون من المشردين الذين لا مأوى لهم كانوا يحشدون هم الآخرون في هذه الصفوف، وفضلا عن هذا فقد كان الآباء الذين يعجزون عن إطعام أبنائهم يرسلونهم إلى المدارس الحربية، وكان هذا في واقع الأمر تطوعا يدوم مدى الحياة، والآن أصبح التعليم العالي هو والفصول الثلاثة العليا في المدارس الثانوية مقصورا على من يدفعون الرسوم المدرسية، واتخذ القرار الصادر بفرض هذه الرسوم - إذا صدقنا ما يقوله الكرملن - «لأن مستوى حياة الصناع في البلاد قد ارتفع إلى حد كبير ...» ومن أجل هذا يرى كثير من الأسر التي تعجز عن أداء الرسوم المدرسية أن التعليم الحربي هو خير ما يجده أبناؤهم من الفرص للفرار من صفوف طبقة العمال الكادحة المستغلة.
فإذا ما استمر نظام تجنيد الأطفال للعمل في المصانع - ومخايل الأمور تدل على أن هذا النظام سيستمر - فلن يحل عام 1960م حتى يكون لدى الحكومة السوفيتية من أربعين إلى خمسين مليونا من الأطفال المجندين بمقتضى هذا النظام العسكري، وسينشأ من هذا النظام طائفة جديدة من العمال تقل عندهم إلى أقصى حد ذكريات الحياة المنزلية بين الآباء والإخوة، وذكريات الماضي الحر وما فيه من مؤثرات عقلية، كل هذا لن يسمح لهم منه إلا بما يجيزه ولاة الأمور، وستغرس في عقول هؤلاء العمال الجدد المبادئ الشيوعية ونظريات ستالين في الثورة العالمية، وسيكونون خلائق لا عهد لهم بالحرية الشخصية أرادوا ذلك أو لم يريدوه، وسيكون هؤلاء الروس المتلفون أدبيا وسياسيا قوة هائلة في أيدي النظام الحاضر يستخدمهم في داخل البلاد وخارجها.
وسيضم إلى هذا العدد الضخم من المواطنين الذين أعدوا بهذه الطريقة الخاصة نحو عشرين مليونا آخرين من سجناء الشرطة السرية المسخرين، وبجيش ضخم من الجنود والضباط المحترفين دربوا من طفولتهم على مبادئ ستالين، مبادئ الدفاع عن النظام السوفيتي، هذا فضلا عن المجندين العاديين والجنود الاحتياطيين، ويجب ألا تغفل في هذا الإحصاء عشرات الملايين من الأطفال الآخرين الذين ينشئون في المدارس العادية على المبادئ الشيوعية، حيث يشغل الإخلاص للنظام القائم وأساليبه المكان الأول في البرامج الدراسية.
ولقد كانت هذه الصورة الذهنية صورة الإنسانية المجندة على هذا الأساس الضخم الرهيب تعود إلى مخيلتي كلما طالبت بالأيدي العاملة إجابة لمطالب الوزارات المختلفة لتمد بها المصانع التي تكون في أشد الحاجة إليها، وخيل إلي أن هذا النظام أقرب النظم البشرية إلى مملكة النمل أو خلايا النحل، وزاد هذه الصورة فظاعة ورهبة أنها توشي بحواش من النفاق وتتحدث عن كرامة العمل وخدمة «الاشتراكية» الجماعية، وأنها يديرها ويشرف عليها «زعماء الطبقة العاملة» أمثال النخاس شفرنيك، وما من شك في أن سادة الكرملن يعزون حملتي على هذا النظام إلى «مبادئ الحرية الفاسدة» المتأصلة في نفسي والتي كانت أصولها أعمق من أن يستأصلها طول العهد بالنظام السوفيتي.
وأحسست بنقص العتاد الحربي نقصا يرثى له من أول يوم شغلت فيه منصبي الجديد، وقد شرحت لي هذه الحقائق في اجتماع عقد في الكرملن بناء على دعوة من ألكسي كازجين أحد مساعدي ستالين ومن أشد هؤلاء المساعدين بأسا، وكانت موضوعات البحث في هذه الجلسة تشمل كثيرا من الشئون التي تختص بها الإدارة التي أشرف عليها، ومن أجل ذلك أراد أتكين أن أكون فيها إلى جانبه، لكنه أمرني ألا أنطق بكلمة في هذا الاجتماع العظيم إلا إذا وجه الكلام إلي شخصيا.
وكان كازجين يمثل الهيئة السياسية العليا في الإشراف على خمس من الوزارات كما كان هو المشرف على شئون التسليح الهندسي الحربي، وأقبل خمسة من الوزراء على حجرة الانتظار الكبيرة قبل الاجتماع بزمن طويل، وكان الموعد المحدد له هو الساعة الواحدة صباحا، وتحللنا بعض الشيء من المظاهر الرسمية في هذا الاجتماع، فقد كان المجتمعون يعرف بعضهم بعضا حق المعرفة، بل لعلهم كانوا يعرفون بعضهم بعضا أكثر مما يجب؛ ذلك أن السلطة العليا هيئة وثيقة العرى يسمح أعضاؤها لأنفسهم بالتفكه والتندر والسخرية والثرثرة.
وجلس في ركن من أركان الحجرة الرفيق جنزبرج وزير التعمير وهو رجل بدين قصير القامة أصلع الرأس على عينيه منظاران سميكان، وأخذ يشرب الشاي ويأكل الحلوى في هدوء، وجلس في مكان آخر رجل طويل القامة يلبس تحت سترته قميصا روسيا ملونا يأكل تفاحا، هذا هو أكيموف وزير صناعة المنسوجات، وحذوت أنا حذوه فمددت يدي إلى وعاء الفاكهة الكبير، ورآني الرفيق لوكيين وزير الصناعات الخفيفة فأشار إلي بطرف عينه وهو مشهور بين زملائه بفكاهته ومزاحه.
ويخاطب لتكين أحد رجال كزجين بقوله: «إلى متى تعذبنا في هذا المكان، إني أريد طعاما من لحم وبيض مثلا، ولست أظن أن ثمة ضررا في شرب زجاجة من الفودكا تساعد على ابتلاع هذا الطعام.»
ويجيبه ذلك الرجل وهو يضحك قائلا: «نعم، إنك في حاجة إلى ما يقويك في هذه الليلة، فسترسل إلى الجحيم، وخير لك أن تعد نفسك لها.»
ويشترك في الضحك كل من في الحجرة عدا الرفيق سسنين وزير مواد البناء، وهو رجل طويل القامة ذو وجه مكتئب شاحب اللون، ولا عجب أن يكون وجهه مكتئبا فهو يقوم بعمل لا ينال عليه شيئا من الحمد، بل يتلقى تعنيف الرؤساء في كل اجتماع يحضره، وهذا الاكتئاب الذي لا يفارق سسنين يقابله مرح أكويوف وزير صناعة الآلات، وقد كان هذا لرجل من وقت قريب مديرا لأحد المصانع في إقليم أورال، وها هو ذا أصبح الآن وزيرا يعرف الناس عنه أنه من أقرب المقربين إلى مكويان، ويعزو الناس هذا الرقي السريع في المناصب الرسمية إلى نجاحه في اختراع مدفع صاروخي يعرف باسم «كاتوشا» لا يزال أمره سرا من الأسرار الغامضة، وأكوبوف هذا أرمني ضئيل الجسم، أشمط الشعر، ذو وجه صغير تبدو فيه مخايل المكر والدهاء، وعينين جميلتين.
ثم يقبل المارشال فروبيوف يصحبه القائد كلياجين، وفروبيوف هو مساعد ستالين لشئون فرق المهندسين من الجنود في ميدان القتال وفي شئون التموين، ولما كانت مشاكله هو الآخر تمر في الإدارة التي أشرف عليها فقد أصبحت أعرفه جد المعرفة، وهو يحييني أحسن تحية، فكلانا في حاجة إلى الآخر، وهو وكليمان يعرفان مقدار ما أبذل من جهود للوفاء بطلبات جبهة القتال، وتتجه عقولنا إلى الباب البلوطي الكبير المؤدي إلى حجرة ألكسي كزيجين في الوقت الذي نشرب فيه الشاي ونتجاذب أطراف الحديث، وأخيرا يفتح هذا الباب.
وينادي أحد أمناء السر: «ألكسي نيقولايفتش يدعوكم إلى الاجتماع.»
ويسود السكون ويظهر كل منا بالمظهر الرسمي؛ لأننا إذا كنا في حضرة كزيجين لا نبعد إلا خطوة واحدة قصيرة عن الزعيم المحبوب نفسه، وهو يجلس في حجرة فسيحة عالية الجدران، بيضية الشكل، علقت على جدرانها صور زيتية لجميع أعضاء الهيئة السياسية العليا على أبعاد متساوية بعضها من بعض، ويلفت نظري في هذه الحجرة مذياع كبير مصنوع في خارج البلاد؛ لأن أحدا من خلق الله العاديين في بلادنا لم يكن يسمح له في أيام الحرب باقتناء مذياع، وكانت منضدة الاجتماع كبيرة تتسع لثلاثين شخصا يجلسون حولها وعليها غطاء أخضر.
ويجلس كزيجين في صدر المنضدة وعليه حلة مصنوعة في خارج البلاد، وتعلو وجهه نظرات صارمة، وملامحه ناطقة بأنه لم ينل كفايته من النوم، وبأنه لا يقل تعبا عني، وهو يرد تحيات الوزراء والقواد بإيماءة خفيفة برأسه.
ثم يأمرنا بالجلوس ويقول: إن رئيس الجفيوك سيتحدث إلينا، والجفيوك في اختصار اسم الإدارة التي يشرف عليها المارشال فرينوف، وهو الذي قام ليتحدث إلينا، ولم يغب عن واحد منا المعنى الكامن وراء قول كزيجين أن رئيس الجفيوك سيتحدث إلينا، بدل أن يذكر الرجل باسمه ولقبه، وكنت أنا أكثر الحاضرين علما بما تتضمنه هذه العبارة من معان، فهي شاهد على أن كزيجين غاضب وعلى أنها نذير سوء لنا جميعا.
ويتحدث إلينا المارشال فريبوف نحو خمس عشرة دقيقة يقرأ علينا في أثنائها في إضبارة من الأوراق، ويرسم لنا صورة قاتمة عن نقص المؤن والعتاد، فيقول: إنه لا توجد لدينا سيارات لعبور الأنهار، وإن هذا يكلفنا آلافا من الأرواح، وأن ليس لدينا جسور مصنوعة أو ألغام لتعطيل تقدم العدو، أو سيارات مجهزة بالعدد اللازمة لإصلاح الآلات، أو عدد أسلاك تليفونية أو مدافئ للخنادق أو فئوس أو مجارف للجنود المشاة.
ولم يكن كزيجين يرفع عينه عن الأوراق التي أمامه، ويكاد طوال الوقت يتميز من شدة الغيظ، فعضلات وجهه ترتجف، أما أنا فكنت في هذه الأثناء أسائل نفسي قائلا: «لم لم يكن لدينا ما نقاوم به هذا العدو المجهز بأحسن آلات القتال؟ ولم أضعنا هاتين السنتين اللتين كنا ننعم فيهما بالسلام؟» ويواصل كزيجين قراءة ما لديه من إحصاءات، ولكن المارشال لا يستطيع أن يكظم غيظه فينفجر قائلا: «إن الناس يموتون بالآلاف في جبهة القتال في كل دقيقة! ولم لا نمدهم بحاجتهم من الفئوس والمجارف والعدد لقطع الأسلاك الشائكة؟ إن أبناءنا يصنعون الجسور من أجسامهم الدامية؛ لأنهم تعوزهم العدد التي يقطعون بها الأسلاك، أيها الرفاق تلك كلها أمور تسربلكم العار وأي عار! إنا لا نجد المصابيح بله الأنوار الكاشفة ، ليست لدينا مصابيح الكيروسين العادية، وقد كرر الرفيق ستالين نفسه طلب هذه المصابيح ثماني مرات في الأشهر الأخيرة، ولكن شيئا منها لم يصل إلى جبهة القتال، ولا نزال في حاجة إلى أجهزة التخفي، إني أضرع إليكم أيها الرفاق يا من تتولون أمور الصناعة في البلاد وأستحلفكم باسم الجندي البسيط في الميدان.»
ويقول كزيجين في صوت أجش بعد أن يجلس المارشال: «كل هذا واضح لا خفاء فيه، أي أنواع المصابيح تقصد؟»
ويرفع ضابط كبير يجلس إلى جانب المارشال فانوسا مستديرا ساذجا لا يزيد على إطار معدني وألواح من الزجاج.
ويصيح كزيجين وهو غاضب: «ونحن لا نستطيع أن نصنع هذا الشيء الحقير.»
واتفق أن كنت على علم بهذه المشكلة نفسها فاستأذنت أتكين وقلت: «اسمح لي أن أوضح الأمر يا ألكسي نقولايفتش، إن صنع الفوانيس لا يسير بالسرعة المطلوبة لأنا تنقصنا الصفائح والآلات اللازمة لصنعها، والزجاج من النوع والحجم الصالحين، فمصنع الصفائح الكبير الذي أخلي في نوفومسكوفسك لم يعد إلى العمل حتى الآن، وليس في وسعنا أن نحصل على الزجاج إلا من كرستويارسك، ولعل في وسع الرفيق سسنين أن يحدثنا عما يمنع حصولنا عليه.»
فصاح كزيجين وهو يدق المنضدة بيده: «يجب أن تصنع الفوانيس، وأنا أقول لكم: إن هذا الإهمال الإجرامي يجب أن يقف عند حده! إن العتاد الحربي يجب أن يصنع كما يطلب الرفيق ستالين، ولو تطلب ذلك سلخ جلود أولئك الأوغاد! ماذا تريد أن تقول يا سسنين؟»
ونزل هذا القول على سسنين نزول الصاعقة، فتلعثم وهو يقول: إن الآلات التي في كرستويارسك غير صالحة للعمل، وإن محطة توليد الكهرباء معطلة، وإن الأيدي العاملة غير متوفرة.
ويستدعي كزيجين أكموف وغيره ويدوم الاجتماع ساعات طوالا وكل تقرير نستمع له يزيد اليأس الذي يسود الاجتماع شدة، ويبدو من خلاله أن العجز في المواد والآلات ووسائل النقل يزداد في كل يوم عن اليوم الذي قبله، ويتحول كزيجين من الحديث ومن الأسئلة إلى الصراخ وإصدار الأوامر، وتحديد الطلبات والمواعيد، دون أن يستشير أحدا، وترتجف عضلات الوزراء والقواد، وتضطرب أعصابهم كأنهم صبية في مدرسة أمام ناظر غضوب، ونطرق نحن وننظر إلى مواطئ نعالنا حتى لا تقع عين أحدنا على وجه زميله، ونعرف كلنا ويعرف كزيجين أن النقص حقيقة واقعة، وأن ليس فينا من يقوى على الإتيان بالمعجزات.
ويدق جرس المسرة في أثناء نوبة من الغضب على جنزبرج أحد الوزراء العظام، ويتضح أن كزيجين يعلم من يدعوه، وتتبدل لهجته وملامح وجهه، بل تتبدل جلسته نفسها تبدلا مفاجئا، ويلين ويخضع ويتذلل ويقول: «نعم باجوزف فيسارينوفتش ... بطبيعة الحال باجوزف فيسارينوفتش ... سيكون هذا! سأتخذ إجراءات عاجلة»، إنه ستالين! وتسري في أعصاب الجالسين حول المنضدة موجة من الرهبة والاحترام، ونجلس كلنا كأننا خشب مسندة أو تماثيل جامدة، ويضع كزيجين سماعة المسرة في هدوء وحرص شديدين كأنها مصنوعة من الزجاج، ولا يستطيع العودة إلى ما كان يصدره من أوامر، وما كان يلغ فيه لسانه من شتائم، إلا بعد خمس دقائق كاملة.
ولا ينفض الاجتماع إلا في منتصف الساعة الخامسة صباحا، وقد حمل كل منا حملا ثقيلا من الأوامر: نصف مليون من حلل التخفي، ومليون من المجارف، ومائة ألف لفة من الأسلاك التليفونية للميدان، إلى غير هذه من الأصناف ذات الأرقام المهولة المروعة، وندرك كلنا أن الوفاء بهذه المطالب من رابع المستحيلات، وأننا إذا وفينا بثلاثة أرباعها على الأكثر اغتبط بذلك الرؤساء الكبار، ونلنا العلاوات وأوسمة الشرف، وندرك كلنا فضلا عن هذا أن تلك الأرقام قد بولغ فيها عن قصد، حتى تستنزف آخر قطرة من دماء الصناع، وأن الحاجة أعظم كثيرا مما تستطيع الخطط الموضوعة أن تفي به.
وأصل إلى البيت، وأصعد الدرج المظلمة إلى الطابق الأعلى، وأتحسس طريقي في الدهليز الحالك إلى باب شقتنا، وتتحرك إيرينا وتسألني وهي نعسانة عن سبب تأخري، وهل ثمة ما يسوء، فأجيبها بأن الأمور تسير على أذلالها، وأطلب إليها أن تأوي إلى فراشها، وأخبرها أن الأمر لا يعدو أن يكون اجتماعا آخر، وتلوح تباشير النهار.
وأشهد في الأيام المقبلة عشرات من هذه الاجتماعات تعقد في الكرملن بدعوة من النائبين عن ستالين: فرنيسنسكي وسيروف وغيرهما، ولم يكن الجو الذي يسود هذه الاجتماعات ولا الإجراءات التي تتبع مما يختلف عن جو الاجتماع الذي عقده كزيجين، وعما جرى فيه، فقد كانت أوامر ستالين وتوجيهاته ومطالبه التي لا تبالي بالصعاب وتلح في الحصول على النتائج، كانت هذه هي التي تسود كل هذه الاجتماعات.
الفصل الخامس والعشرون
حقيقتان
لم أكن وأنا رئيس إحدى الإدارات في مجلس الوزراء أكسب نصف ما كنت أكسبه في المصانع، ولم يكن يصل إلى يدي شيء من العلاوات التي كان مديرو المصانع يمنحونها أنفسهم، ولكن المال في حد ذاته كان عديم النفع في وقت عز فيه كل شيء إلى حد يبعث الخوف في النفوس، وكل ما كان يهم الإنسان في ذلك الوقت هو مقدار ما خصص له من الجرايات وما في البلد من حوانيت يستطيع أن يبتاع منها حصته.
وكنت أنا من هذه الناحية ضمن الطبقات العليا الممتازة، فقد كانت تفتح لي أبواب المخازن الخاصة (التي تسمى في اللغة الرسمية «بالموزعات المغلقة») وأبواب مصانع الأحذية والملابس المخصصة لكبار رجال الحكومة، وفي هذه المحال كنت أقابل الصفوة المختارة من رجال الحزب والحكومة والشرطة والكرملن، كما كنت أقابل فيها أحيانا زوجاتهم وسائقي سياراتهم وخدمهم.
ولم يكن واحدا من كل ألف روسي يعتقد أن هذه الحوانيت قائمة، وكان ولاة الأمور يديرونها في حذر شديد بعيدين عن أعين الجماهير بقدر ما يستطيعون، فقد كان صف من السيارات الفخمة يقف في خارج مخازن الطعام «المغلقة» مثلا، ولكن قل من كان يعرف من المارة سبب وقوف السيارات أمام تلك المخازن، ولم يسعد الحظ أحدا من أهل موسكو العاديين بأن يرى، ولا أقول بأن يذوق، ما امتلأ به مخزن مؤننا من طعام شهي جاءه من بلادنا نفسها ومن أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير.
ولم يكن يسمح لنا بطبيعة الحال أن نشتري من الطعام أكثر مما هو مقرر لنا، ولكن هذا الطعام المقرر كان فوق الكفاية، وكان يشمل من الأصناف ما انمحت ذكراه نفسها من عقول أهل البلاد، فكنت بذلك من الطائفة التي نجت من البرد والجوع، ولم أقاس منهما ما قاسته البلاد من بلاء لا يقل عما حل بها في أسوأ سني الحرب الأهلية، وذلك كله بعد ربع قرن من «التعمير الاجتماعي»، وبعد فترات من مشروعات السنين الخمس الناجحة.
وكانت مقرراتي الشهرية من الطعام تشمل اللحم الطري، والطعام المحفوظ، والزبد والسكر والدقيق واللحم المملح - وكلها من واردات الولايات المتحدة - كما كانت تشمل من طعام بلادنا السمك الطري، والدجاج والسمك المجفف والخضر والفودكا والنبيذ والسجاير، ولم تكن خمسة عشر ألفا من الروبلات تكفي لأن أبتاع من السوق السوداء ما كنت أبتاعه بمائة وخمسين روبلا من الحانوت «المغلق» الذي كان يقف على بابه أحد رجال الدرك، وإذا كانت زوجتي رغم هذا لم تجد كفايتها من الطعام في بعض الأيام، فماذا كان نصيب خلق الله العاديين؟ أما من حيث الملابس فقد خصص لكبار الموظفين عدد من الخياطين يعدون لهم الثياب من أقمشة الإعارة والتأجير الواردة من أمريكا وإنجلترا، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الحلة المستعملة تباع في السوق الحرة بآلاف من الروبلات.
وكانت موجة من الربح الوفير تطوف من حين إلى حين بحوانيت الثياب «الحرة» في موسكو، وذلك أنه إذا ما وصلت شحنة من الملابس الداخلية والخارجية أو ملابس الأطفال انتشرت أخبارها في البلاد انتشار النار في الهشيم، وسرعان ما يقبل الناس على الحوانيت ويقفون أمام أبوابها في صفوف طويلة على الرغم من أن أبسط الملابس القطنية المنزلية قد تكلف طالبها بين خمسمائة روبل وألف، وأن الجورب كان يباع بثمن يتراوح بين خمسين وخمسة وسبعين روبلا، وأن الحلة العادية تباع بألفي روبل وخمسمائة أو أكثر، لقد كان هؤلاء الناس يقفون أمام الحوانيت ساعات طوالا وفي أيديهم حزم ضخمة من أوراق النقد البالية الممزقة القذرة يرجون ألا ينفد ما فيها قبل أن يصل إليهم الدور.
وكان كل يوم يمر تختفي فيه سلع كالخيط والصابون وعيدان الثقاب والمصابيح الكهربائية وأدوات المائدة والمطبخ، وارتفع ثمن اللتر من الكيروسين في السوق الحرة إلى مائتي روبل، ولم يكن النور الكهربائي يدوم في بيوت موسكو أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات في الليلة، وكان الذين لا يستطيعون الحصول على الكيروسين - وهم الكثرة الغالبة من أهل المدينة - يجلسون في الظلام الحالك خلف نوافذهم المظلمة.
واضطر الناس في شتاء عام 1942-1943م إلى إحراق أثاث بيوتهم وكتبهم وكراساتهم الموسيقية وكل ما يستطيعون أن يحصلوا به على الدفء بضع دقائق، وانتزعوا الألواح الخشبية من أرض الحجر والعروق من سقفها ليدفئوا بها بيوتهم حتى لا تتجمد أطراف أطفالهم، وكان الناس يطوفون بأبواب جيرانهم الجياع يدقونها وينادون من فيها ليعرفوا أأحياء هم أم أموات.
ووضعت أنا وإيرينا مدفأة حسنة في مسكننا، واستعنت بمجلس الوزراء لأحصل على حاجتي من الخشب، وكان في وسعي أن أدخر قليلا منه لجيراني أمدهم به من حين إلى حين، وإن كان هذا يعد خروجا على القانون.
وكنت أسائل نفسي أحيانا: أليس ما يبدو علي من مظاهر النعمة النسبية مما يؤلم جيراني ويحز في نفوسهم، وكانت إيرينا تطهي طعامها في شقتنا على موقد كيروسين بعيدة عن أعين الناس، وكنا نفعل هذا على مضض وعلى الرغم من أننا لم نكن نختص أنفسنا بهذه الميزة بل كنا نشرك فيها جيراننا، وكانت هذه الأيام من الأوقات التي ألف الناس فيها رؤية الأهلين من رجال ونساء يسقطون في شوارع موسكو ويموتون من فرط الجوع.
لكن الموتى كانوا يدفنون، وأنصاف الموتى يئنون ويتوجعون في بيوتهم الباردة، والأحياء يكافحون آلام البرد والجوع، وكانت أعمالي الرسمية تضطرني لزيارة عدد كبير من المصانع نقص فيها الإنتاج عن الحد المقرر، وما من مرة إلا وجدت أن الجوع سبب هذا النقص، وأن المصانع التي كانت تقدم إلى عمالها وجبة واحدة مغذية إلى حد ما أكثر إنتاجا من التي لا تستطيع هذا، وقال لي المشرفون عليها: «أعطوا العمال كفايتهم من الطعام ينتجوا لكم حاجتكم من السلع، أما الآن فإن عمالنا لا يجدون في أنفسهم من القوة ما يمكنهم من الوفاء بمطالبكم المرهقة.»
وأرسلني بمفيلوف مرة في سيارة خاصة إلى مدينة سلنكوجوسك القريبة من موسكو للتفتيش على مصنعين فيها، وكان إنتاجهما من الدقيق قد قل لنقص المناخل بسبب حاجتها إلى الأسلاك الرفيعة التي تصنع في هذين المصنعين، وكان معي في رحلتي شاب لا أعرفه قيل لي أنه مهندس، ولكنه في أغلب الظن من عمال الإدارة الاقتصادية التابعة للقسم السياسي، ولم يكن سبب وجوده معي أن الرؤساء تعوزهم الثقة بي فأرى في ذلك إهانة لي، بل كان ذلك عملا عاديا مألوفا.
وانطلقت بنا السيارة في إقليم احتله الألمان بعض الوقت وخربته نيران المدفعية وقنابل الطائرات، وأبصرنا على جانبي الطريق دبابات وسيارات ألمانية محطمة، ومررنا بقرى ودساكر لم نر فيها بيتا واحدا سليما، وتسلل من هذه الخرائب نساء وأطفال كأشباح الموتى في أسمال بالية وعيون غائرة وأخذوا يمدون بالسؤال أيديهم المرتجفة، وكان معنا لفة من الطعام أعدها لنا مطبخ مجلس الوزراء فتصدقنا بها كلها قبل أن نصل إلى القرية المقصودة، وشاهدنا في طريقنا جماعات كبيرة من المسجونين يحيط بهم حراس كثيرون يعملون في إصلاح الطرق.
وكانت سلنكوجورسك نفسها قد نجت من الدمار، ووجدت في انتظاري مديري المصانع وكلهم راغبون في التعاون معي، ووافقوني على أن من المستطاع تغيير الآلات في مصانعهم لإنتاج الأسلاك المطلوبة ولكنهم كلهم أخذوا يصفون لي آلام الجوع المبرحة.
وكان مما قاله لي واحد منهم: «إن رجالنا راغبون في العمل ولكننا ليس لدينا إلا الشيوخ الطاعنون في السن، والأطفال الصغار والنساء، وكلهم تنقصهم تجارب العمل في المصانع، غير أنهم يبذلون في العمل كل ما أوتوا من جهد، ولا يرفضون أن يواصلوه ليلا ونهارا أياما متوالية وأن يقضوا ليلهم هنا في المصنع إذا دعت الضرورة، بيد أنهم لن يجدوا القوة الجسمية التي تمكنهم من العمل إلا إذا حصلوا على مقرراتهم المعتادة من الخبز على الأقل كما يحصل عليها غيرهم من المدن الأخرى.»
وسألته مندهشا: «ولم لا يحصلون على هذه المقررات؟»
فأجاب: «لأننا نسكن إقليما من أقاليم الريف، وقد كان المفروض أنا ننال كفايتنا مما ننتجه، ولكن هذا لا يعدو أن يكون كلاما نظريا، أما الحقيقة فهي أن الفلاحين يكادون يهلكون من الجوع، ولعلك رأيتهم في طريقك إلى هذا المكان.»
ولم يكن رفيقي الشاب أقل مني أسى مما شاهده من مظاهر البؤس من المصنعين، وقال لي ونحن عائدان في السيارة إنه يوافقني على أن من العبث أن نفكر في زيادة الإنتاج من مصنعي سلنكوجورسك إلا إذا حللنا أولا مشكلة الطعام.
وكان الرؤساء قد غادروا مكاتبهم ليستمتعوا بفترة الراحة المسائية حين عدت إلى مكتبي، فأعددت قبل مجيئهم مشروع قرار مفصل تصدره الحكومة لإعادة تنظيم المصانع واستغلالها، واستقبلني بمفيلوف في منتصف الليل، وقرأ مسودة مشروعي في حضرة أتكين، فلما فرغ منه أشار برأسه الأصلع وقال: «حسن ... حسن ... حسن جدا.» ولكن وجهه ما لبث أن تجهم: «ما هذا الذي تقول؟ خمسمائة جرام من الخبز يوميا للعامل، ولكل فرد من أفراد أسرته؟»
فأجبته في جد: «نعم، وهذا في رأيي أمر جوهري، إن هؤلاء القوم جياع.»
وقال بمفيلوف في لهجة الآمر: «احذف هذه النقطة من المشروع.» - «ولكني أرجوك يا قنسطنطين جفرلوفتش أن تتركها كما هي، لست أنكر أن لبعض العمال القلائل حدائقهم الخاصة، أو أن لهم بين الفلاحين أقارب، ولكن هذا لا يحل المشكلة، إن أولئك الناس يؤدون عملا ويجب أن ينالوا من المقررات ما يناله العمال.» - «لست أقل أسفا عليهم منك يا رفيق كرافتشنكو، ولكن هذه النقطة يجب حذفها.»
ورجوت بمفيلوف مرة أخرى قبل أن يرسل التقرير إلى موسكو للنظر فيه أن يؤكد حاجة العمال إلى الخبز ليضمن حسن سير العمل في مصنعي سلنكوجورسك، ولكن رئيس المجلس نظر إلي وهو غاضب وقال: «يا كرافتشنكو، استمع إلي: أأنت مصلح اجتماعي أم بلشفي؟ إن العواطف الإنسانية مبادئ خاطئة مضللة لا يصح الاهتداء بها في اتخاذ القرارات التي تمس شئون الدولة، خذ عن ستالين قوله: أحبوا الشعب ولكن ضحوا بحاجاته إذا تطلب الأمر التضحية بها.»
ولم يدهشني قط أن المصنعين اللذين زرتهما لم ينتجا من الأسلاك نصف المقرر عليهما إنتاجه، وإن كان فيهما ما يحتاجان من المواد الغفل.
وثمة رحلة أخرى لا تزال تفاصيلها منقوشة في ذاكرتي أوضح من آثار هذه الرحلة السالفة الذكر، وليس في وسع إنسان - اللهم إلا إذا وجد في العالم رجل مثل دانتي وكان في حالة من التشاؤم كما كان الشاعر الإيطالي العظيم - أن يرسم صورة صادقة للمصنع التابع لوزارة الذخائر والذي يقوم بالعمل فيه العمال المسخرون.
ولم يسمح لأحد بأن يركب القطار الذي اجتاز بنا صقعا كثيف الغابات في قلب ولاية موسكو الإدارية وراء مدينة بودلسك، وجاء ضباط من القسم السياسي أكثر من مرة ليطلعوا على ما معنا من أوراق تثبت شخصيتنا، وكان القطار يتحرك في بطء ، وكثيرا ما رأينا من خلال النوافذ جموعا كبيرة من المسجونين - ولا يمكن أن يخطئ الإنسان في التعرف عليهم - يقطعون الأشجار ويجمعونها ويجرونها إلى قرب الخطوط الحديدية، ووصل القطار بنا آخر الأمر إلى نهاية هذا الخط الحديدي المديد ونزلنا منه.
وهناك في بقعة في وسط الغابة أزيلت منها أشجارها أقيم مصنع الذخائر الحربية، وعلى مسافة منه أقيمت تحت الأرض الحجرات الواسعة ذات المداخل الضيقة المتخفية التي يعمل فيها آلاف من المسجونين وغير المسجونين في وضع المفرقعات في قوالب القنابل اليدوية وقنابل الطائرات وفي صنع الألغام وغيرها من الذخائر الحربية، وكانت هذه البقعة المشتملة على ذلك العالم السفلي كلها منفصلة أتم انفصال عما جاورها من الأماكن بسياج من الأسلاك الشائكة، ويقوم عليها حرس مسلح من رجال القسم السياسي ومعهم كلاب ضاربة دربت على عملها تدريبا خاصا.
وكنت قد جئت مع زميل لي لنسوي نزاعا بين هذا المصنع السري ومصنع آخر يمده ببعض المواد اللازمة له، وبعد أن عقدنا اجتماعا حضره موظفو المصنعين خصصت لي حجرة في فندق المصنع لأقضي فيها الليلة، وأردت أن ألقي نظرة على المسجونين وهم ذاهبون إلى عملهم في الصباح، فاستيقظت مبكرا، وكان المطر ينهمر مدرارا والبرد قارسا، وأبصرت قبيل الساعة السادسة فرقة من نحو أربعمائة رجل وامرأة كل عشرة منهم في صف أفقي، وعليهم حرس قوي يمشون نحو الحجرات السرية.
وكنت قد رأيت من قبل هؤلاء العبيد البائسين مرارا كثيرة في ظروف مختلفة، ولم أكن أظن أني سيقدر لي أن أرى خلائق أشقى ممن رأيتهم في جبال أورال أو في سيبريا، فلما وقع نظري على هؤلاء القوم رأيت البؤس أضعافا مضاعفة، لقد كانت وجوههم صفراء ممتقعة غاض منها دم الحياة، وكأن أصحابها أشباح الموتى، لقد كانوا في واقع الأمر جثثا تتحرك تسممت من المواد الكيميائية المنتشرة في الدرك الأسفل من الجحيم الذي كانوا يعملون فيه.
وكان من بينهم رجال ونساء ربما جاوزوا الخمسين من عمرهم، كما كان من بينهم شبان وفتيات في أوائل العقد الثالث، وكانوا كلهم يسيرون صامتين محزونين كأنهم خشب متحركة لا ينظرون يمنة ولا يسرة، يرتدون ملابس غاية في الغرابة، فمنهم من ينتعلون أخفافا من المطاط شدت إلى أرجلهم بخيوط، ومنهم من لفوا أرجلهم في خرق بالية، ومنهم من يلبسون ثياب الفلاحين، ومن النساء من يلبسن سترا استراخانية ممزقة، وأبصرت عددا قليلا منهم على أجسامهم بقايا حلل أجنبية، وبينا كان الموكب الرهيب يمر بالبناء الذي أراقبه منه إذ سقطت امرأة من بين الصفوف على حين غفلة فجرها حارسان ليبعداها عن الطريق، ومر المسجونون دون أن يعيرها أحد منهم التفافا، ذلك أنهم قد ألفوا البؤس حتى لم يعد له أثر في قلوبهم، كأنهم خرجوا عن نطاق الآدميين.
وكانت طوائف أخرى مثل هذه الطوائف تسير في طريقها إلى الجحيم الأسفل من جهات متعددة، وكلها مقبلة من مستعمرات القسم السياسي المختفية في قلب الغابات على مسيرة عدة أميال من هذا المكان، وشاهدت في المساء فرقة يبلغ طولها ضعفي فرقة الصباح تدلف نحو المصانع لتتولى العمل في أثناء الليل.
ولم يسمح لي بالنزول إلى الأقسام السفلى، والحق أني لم أكن أطيق رؤيتها، ولكني جمعت ممن اتصلت بهم من الموظفين في اليومين اللذين قضيتهما في المكان من المعلومات ما طبع في مخيلتي صورة من البؤس المكدس، ومن احتقار الحياة الإنسانية، لا تمحى منها ما حييت، لقد كان المصنع القائم تحت الأرض سيئ التهوية؛ لأنه أنشئ على عجل في أوقات الذعر، ولم يعن أقل عناية بصحة الذين يعملون فيه، وكانت بضعة أسابيع يقضيها العمال بين دخانه وروائحه الكريهة كافية لأن تسمم أجسامهم تسميما لا يرجى منه شفاء؛ ولذلك كانت نسبة الوفيات بينهم عالية، فكانت أجسام الموتى تجرف بالمجارف بقدر ما تجرف المواد الكيميائية غير المصنوعة.
وكان مدير هذا المشروع شيوعيا كالح الوجه على صدره وسام، وعلى معطفه صف من النياشين، ولما شرعت أوجه إليه أسئلة عن العمال نظر إلي نظرة غريبة كأني كنت أسأله عن صحة طائفة من البغال صدر الأمر بإعدامها.
وقال لي: «يؤسفني أن أخبرك أن ليس بين هذه المخلوقات كثيرون من العمال المهرة، وأني أقاسي منهم متاعب كثيرة، وتسألني عن المسجونين من أي صنف هم، أمن المسجونين السياسيين؟ أم المجرمين الفارين؟ وجوابي أن هذا لا يعنيني بل يعني رجال القسم السياسي الذي يمدني بمن أحتاجهم من العمال، وكل الذي أعرفه عنهم أنهم أعداء الشعب.»
وقضيت عدة أشهر لا أستطيع أن أطرد هذه الصورة من خيالي، وظلت في هذه الأثناء تحز في نفسي على الدوام حتى في الأوقات التي كان فيها عقلي يفكر ويداي تعملان في أعمال أخرى خطيرة، ولما أن انتقلت إلى ديار أخرى بعيدة في السنين التي أعقبت ذلك الوقت كانت ذكرى هذين اليومين تعاودني فجأة من حين إلى حين وتلح علي إذا سمعت الأمريكيين يتمشدقون بالثناء على الشيوعية الروسية، وما أفاضت على العالم من أعاجيب، ولم يكن يسعني وقتئذ إلا أن أقول في نفسي: «لو أنني استطعت أن أضعكم أيها الحمقى في ذلك المصنع السفلي يومين اثنين لا أكثر لسمعتكم تغنون نغمة غير هذه النغمة.»
كان السلاح الجوي هو السلاح الوحيد من بين أسلحة الدفاع القومي الذي حباه سادة الكرملن بخيرة الرجال، وأفاضوا عليه جهودهم وبلاغتهم نحو اثنتي عشرة سنة كاملة، ولكن عجزنا في هذا الميدان قد وضح لي وضوحا لا خفاء فيه من الوثائق التي تحمل إمضاء ستالين ومولوتوف، والتي كانت تمر بالإدارة التي أشرف عليها.
وكان من أسباب هذا العجز أن كميات هائلة لا حصر لها من الصلب والنحاس والألمونيوم قد أعطيت لهتلر بمقتضى الاتفاق الاقتصادي الذي وقع بعد ميثاق «الصداقة» المذل، واستولت الجيوش الغازية على الجزء الأكبر مما بقي في البلاد من هذه المعادن، ولم يستطع ولاة الأمور أن يخلوا مصانع الطائرات القائمة في خاركوف وكيف وزبرزهي وتجتروج وغيرها من المدن إخلاء تاما، ووقعت المصانع الأخرى غنيمة باردة في أيدي الأعداء، وكان من أثر ذلك أن الطيارين الروس كانوا يحلقون في الجو أحيانا في طائرات من خشب الأبلكاج تكفي بضع رصاصات محرقة لأن تدمرها عن آخرها، فلا عجب أن كان القتلى من الطيارين الروس أكثر منهم في سائر الأمم المحاربة، وأرادت القيادة العليا أن تعوض هذا النقص في الطائرات فجعلت الطيارين يقضون في الجو أطول مما يقضيه الطيارون في سائر الأمم، على أن هذا الضغط قد خف عنهم بطبيعة الحال بعد أن وصلت الأمداد من أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير.
وأصدر ستالين في خريف عام 1942م أمرا سريا عاجلا يقضي بأن تصنع فورا مادة مقاومة للحريق تطلى بها جدران جميع الطائرات، وكانت هذه المادة مركبا راتنجيا أساسها كلوريدالونيل
1
أشار بها معهد مواد الطيران، وكان ستالين يعلق أهمية كبرى على هذا العمل، وكانت الإدارة التي أشرف عليها هي التي تصل إليها هذه المادة بعد صنعها.
وعقدت بعد ذلك الوقت اجتماعات شتى دامت عدة أسابيع، وحضرها رؤساء الصناعات الكيميائية، ومكاتب الطيران المختلفة، ثم تبين أن المادة الجديدة كانت مادة تجريبية ناقصة وكوفئ رؤساء المصنع آخر الأمر على جهودهم، ولو أن الحقيقة عرفت كاملة لكان الذين يستحقون المكافأة هم صغار المهندسين الكيميائيين والعمال العاديين الذين ظلوا يعملون ليلا ونهارا حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، على أن هذه الجهود كلها مع الأسف الشديد كانت جهودا ضائعة.
وسألت ذات مرة أحد قواد الطيران في مكتبي: «فلنفرض أننا أفلحنا في تغطية جدران الطائرات بهذه المادة فهل تفيد منها فائدة حقة؟»
فتلفت الرجل حوله كأنه يريد أن يتأكد من أن أحدا غيري لا يسمعه ثم انثنى نحوي وهمس قائلا: «إننا نفيد منها بقدر ما يفيد الرجل الميت من الحلوى المثلجة ... إن الطائرة المطلية بهذه المادة إذا أصابها الرصاص الألماني الجديد المحرق اشتعلت كما يشتعل الزغب.
ولست أخفي عنك أن المسألة كلها مسألة نفسية، فقد يقوي هذا الاختراع الجديد روح الطيارين المعنوية ولو إلى حين، وهم بلا استثناء أبطال شجعان ولكنهم آدميون بطبيعة الحال، واستخدام الطائرات المدنية المصنوعة من الخشب في الأغراض الحربية عمل لا تقوى عليه أعصاب هؤلاء الطيارين.»
وكان علينا أن نصنع عشرات من أنواع الآلات والأجهزة الخاصة والمواد الأخرى، وأن نصنعها بسرعة وفي أسوأ الظروف لكي تعد طائراتنا إلى حرب الشتاء المقبل، وكانت جسامة الخسائر التي حلت بنا مما يذيب القلب أسى وحسرة، وليس أدل على صدق هذا القول من تقرير سري بعث به المارشال توفيكوف إلى ستالين ووقع في يدي وقد جاء في هذا التقرير: «سيشل سلاح الطيران جميعه شللا كاملا في هذا الشتاء إذا لم نصنع هذه الأجهزة والمواد الخاصة بسرعة وبالمقادير المطلوبة.»
وكنت وأنا أشرف على المصانع في أوكرانيا وإقليم الأورال وسيبيريا أستشيط غضبا حين أتلقى الطلبات الدائمة والبرقيات التي لا نهاية لها من موسكو وغيرها من المراكز تستحثني وتطلب إلي الإسراع في إنجازها، وها أنا ذا قد أصبحت أنا الذي أطلب هذه السرعة في العمل، فكنت لا أنفك أرسل الإشارات البرقية والتليفونية وألح وأتوسل، وكنت أعرف حق المعرفة ما في هذه المطالب من عنت ومن عبث في معظم الأحيان، ولكنني مع ذلك لم أنقطع عنها يوما من الأيام، لقد كان الوقت حينئذ كالسيف، وكنت أنا فضلا عن هذا أتحمل من رؤسائي ضغطا قويا لا رحمة فيه ولا هوادة.
فإذا ما كان عجز الإنتاج ناشئا من نقص بعض المواد الأساسية أو الأجهزة أو الأيدي العاملة أهبت بالإدارات التي تشرف على إنتاج هذه المواد أو صنع هذه الأجهزة أو الهيئات المشرفة على العمال، وأستعين عند الحاجة بلجنة الدفاع القومي وبمنظمات الحزب وبموظفي الكرملن المختصين، وكنت أحصل على ما أحتاجه بطريقة ما.
وكان أعجب ما في الأمر أن الأجهزة التي طلبها المارشال نوفيكوف قد صنع منها القدر المطلوب وبالجودة المطلوبة كما أمر به ستالين، وكان مولوتوف هو الذي يشرف على جميع العمليات الخاصة بصناعة الطائرات، ولكن معظم الأوامر المتعلقة بها كانت توقع بإمضاء ستالين نفسه، وأردت أن أزيد من سرعة الإنتاج فرسمت خططا تقضي بإمداد العمال في بعض المصانع بالخبز والوجبات الساخنة، ونفذت هذه الخطط بعد أن وقعها ستالين، وأرسلنا المناطيد المملوءة بالأكسجين من جوركي إلى موسكو محملة على السيارات، كما أرسلنا بعض المواد الكيميائية بالطائرات من إيفان إلى موسكو مخترقة جبهة القتال، وصنعت الأجهزة المطلوبة في نهاية الأمر، وسرعان ما صدرت إلي الأوامر من الكرملن بأن أعد مشروع مرسوم بمكافأة الذين أعانوا بجهودهم الموفقة على أداء هذا الواجب، ونشرت الصحف المرسوم بالصيغة التي وضعتها أنا، ولم تمض على نشره إلا أيام قليلة حتى استدعاني المارشال نوفيكوف.
وقال في صوت شديد التأثر: «يا رفيق كرافتشنكو، أريد أن أشكرك بالنيابة عن طيارينا جميعا، لقد أبلغت الكثيرين منهم ما بذلته من الجهد في سبيلهم، وما ينطوي عليه قلبك من الإخلاص لهم، وأريد أن أبلغك أننا شاكرون لك فضلك عليهم.»
كذلك كانت مشكلة الأسلاك اللازمة للميدان مشكلة مزمنة معقدة، وكانت مسألة الاتصال التليفوني في الميادين منوطة بالرفيق سبروف أحد النائبين عن ستالين، ومن أجل ذلك كنت دائم الاتصال بمكتبه في هذا الشأن، على أن الأوامر الخاصة بهذا الموضوع كان يوقعها ستالين نفسه، وعقد مرة اجتماع في إحدى الليالي في الكرملن برياسة سبروف وحضره عدد كبير من الوزراء، ودام إلى ساعة متأخرة من الليل، وبحثنا فيه خطط الإنتاج ووسائله، وتقرر في هذا الاجتماع بعد طول الجدل أن يصنع البكر اللازم للف الأسلاك من الخشب بدل المعادن لنقص الكمية التي لدينا منها مخالفين في ذلك معارضة آراء رجال الحرب الشديدة.
وبعد شهر أو نحوه من هذا التاريخ اجتمع في مكتبي ممثلون لجميع الإدارات المختصة والموظفون العسكريون المسئولون، وأخذ كل واحد منهم يدلي برأيه فيما وصلنا إليه من النتائج، ولم يكن منهم من تبدو عليه دلائل الاغتباط إلا رجلا واحدا كان وكيلا لإحدى الإدارات العليا.
فقال: «لقد حصلنا على أكثر مما كنا نأمله من الخطط التي وضعناها لحل مشكلة - وسائل الاتصال - لقد بلغت النتائج 105 في المائة مما كنا نتوقع.»
وأدركت من فوري أن في الأمر سرا خفيا، وأن الإدارة التي هو تابع لها لم تقدم إلا مقدارا ضئيلا من المنتجات والآلات، فأصررت في حيرة وغضب على أن يذكر لي الأرقام التي تثبت هذه المعجزة، وصدع الرجل بالأمر، وسرعان ما تبين لي أن بعض أجزاء الأجهزة قد صنع منه 270٪ مما تحتاجه، في حين أن بعضها الآخر لم يصنع منه إلا 30٪، وكان أساس تصريحه الذي يفاخر به هو متوسط ما أنتجته من أجزاء الأجهزة المختلفة، وقد جرى في هذا التقدير على ألسنة البيروقراطية المألوفة في الإحصاءات الرسمية، ولا يخفى أن عدد الأجهزة التي يتم صنعها إنما يقدر بأقل عدد يصنع من أجزائها، وعلى هذا تكون إدارته قد أخرجت ما لا يزيد على ثلاثين في المائة من الأجهزة المطلوبة.
وضحك الحاضرون جميعا مما أصاب الرجل من خزي، وإن لم تكن المسألة مما يستحق الضحك، لقد كان نقص أدوات التليفون سببا في إزهاق آلاف من الأنفس كما قال كبار القواد الحاضرين، وكان في بعض الأحيان سببا في خسارة المواقع الحربية، وتبين أن النقص كله ناشئ من قلة هذه البكرات، فقد كانت المصانع لا تنتج منها ما تقرر إنتاجه حتى بعد أن قرر الكرملن استبدال الخشب بالمعادن.
ومن أجل هذا زرت مصنعا لإنتاج الأدوات الخشبية في أحد أطراف موسكو لأعرف بنفسي السبب في قلة ما يخرجه من البكرات، فلما قدمت إليه لم أجد فيه إلا عددا قليلا من العمال يعملون في إخراجها، وسألت مدير المصنع في ذلك فكان جوابه أنه لا يجد لديه العدد الكافي من مهرة العمال الصالحين لهذا العمل.
وسألته وأنا أسير إلى جزء آخر من المصنع خيل إلي أن العمل فيه قائم على قدم وساق: «وماذا يعمل هنا؟»
واستشطت غضبا حين رأيت ما يصنع فيه، لقد رأيت نحو مائة وخمسين رجلا يشتغلون بصنع أثاث أنيق من أرائك ومكاتب، وأدوات للزينة ذات مرايا وكراسي ساندة كبيرة، معظمها من خير أنواع الخشب. «أتقول أن ليس لديك عمال مهرة، وها أنا ذا أرى نحو مائة وخمسين منهم يشتغلون بصنع أثاث وأدوات للزينة وأرائك، ويتركون رجالنا يموتون في ميدان القتال؟ إن هذه جريمة وأنذرك أنني لن أسكت عليها!»
ولم يبد على هذا المدير شيء من مظاهر الفزع بل هز كتفيه، وخيل إلي أني أشاهد ابتسامة مكبوتة على جانبي فمه.
وقال لي: «لست ألومك على أنك جننت، والحق أني أكاد أنا نفسي أجن، ولكنني موظف صغير كما تعلم، وماذا في وسعي أن أفعل غير إطاعة أوامر الكبار؟ تعال إلى مكتبي أطلعك على الحقيقة.»
وأخرج بعض الأوراق من مكتبه وأطلعني عليها فعرفت أن الأثاث يصنع لكبار رجال الحزب والحكومة وموظفي الجيش الأحمر، ومن بينهم على ما أذكر فسيلي برونين رئيس مجلس سوفيت موسكو والقائد موخين وشرياكوف أمين سر اللجنة المركزية.
وعدت مسرعا إلى المجلس الأعلى، وأنا لا أزال في شدة الغضب، واندفعت إلى مكتب أتكين، وأخذت أطلعه على الحقائق، وأنصت الرجل وهو لا يكاد يصدق ما يسمع.
وصاح مغضبا: «أيصنعون الكراسي الساندة بدل المهمات الحربية التي أمر بصنعها الرفيق ستالين؟! إن هذا لجرم وخيانة! يجب أن يزج المسئولون عنها في السجون.» - «اتفقنا، ويسرني أن رأيك متفق مع رأيي يا أندراي إيفانوفتش! ولكن مدير المصنع أطلعني على الأوامر الصادرة له وعرفت منها أن الأثاث يصنع للرفيق برونين وشرياكوف والقائد موخين.»
وتغيرت ملامح الرجل على الفور وزالت من عينيه نظرات الغضب التي لم تستقر فيها إلا قليلا.
وقال وهو يتلوى في مقعده: «أتقول إنه يصنع ما يصنع لشرياكوف؟ دعني أفكر. نعم، تلك مشكلة، وأظن أن راحة الزعماء هي الأخرى من أولى مستلزمات الحرب، دعني أفكر في الأمر.»
ودام تفكيره طويلا، وظل المصنع يشتغل بصنع الأثاث، وظل الجيش الأحمر يلح في طلب بكر لأسلاك التليفون وكعوب للبنادق وما إليها، وأثرت المسألة عدة مرار ونار الحقد تتأجج في صدري، ولكني لم أصل إلى نتيجة، ولم أجرؤ على أن أتخطى أتكين وأعرض الأمر على سيروف، وما من شك في أن أتكين لم يكن يرغب في أن يخلق له أعداء سياسيين.
ولم يكن لي بد وأنا على رأس الإدارة الهندسية الحربية من أن أطلع على سر من أسرار الروسيا المحاربة يحرص الرؤساء أشد الحرص على إخفائه، وهو في الوقت نفسه أشد الأسرار إيلاما للنفس يضيق به ذرع كل من يصل إلى علمه، ولولا ما انتهت إليه الحرب من خاتمة لما كان من المستطاع كشف هذا السر.
لقد كان عدد من حصلوا على القناعات الواقية من الغازات في الروسيا بأجمعها ضئيلا لا يكاد يذكر، وفي موسكو نفسها لم يكن عدد من أسعدهم الحظ بالحصول على هذه القناعات يزيد على ربع السكان، أما فيما عداها من البلاد فقد كان الأمر أسوأ من هذا كثيرا، ولم يحصل معظم القرى والمدن الصغيرة على شيء منها على الإطلاق، ولكن المأساة لم تقف عند هذا الحد، بل إن السر الرهيب الذي عرفته وقتئذ هو أن الكثرة الغالبة من هذه القناعات سواء ما كان عند الجنود وما كان في حوزة المدنيين، كانت غير صالحة، وتدل التقريرات الرسمية على أن 65 في المائة من القناعات التي صنعت في زمن الحرب كانت عديمة النفع بتاتا، وكان السبب الجوهري في فسادها، أن انعدام المطاط قد اضطرنا إلى صنعها من الخيش المغطى بطبقة رقيقة منه، فلم تكن تلتصق بالوجه لتقيه فعل الغازات، يضاف إلى هذا نقص الحديد والزجاج وغيرهما من المواد اللازمة لصنع هذه القناعات.
وأكبر الظن أن الألمان لو عرفوا هذه الحقيقة لما ترددوا في استخدام الحرب الكيميائية على أوسع نطاق، وإذا كانوا قد عرفوها فعلا فإن الإنذار الذي وجهه لهم روزفلت وتشرشل بأن الإنجليز والأمريكيين سيطلقون عليهم الغازات السامة بلا شفقة ولا رحمة قد أنقذ حياة الملايين من مواطني في ميدان القتال وفي المراكز الآهلة بالسكان.
والتقيت مرة بأحد كبار الموظفين العسكريين في قسم الحرب الكيميائية، وسألته أن يجيبني في صراحة عما يضطره إلى قبول هذه القناعات العديمة النفع.
فأجابني وهو يهز كتفيه دلالة على اليأس: «وماذا أفعل غير هذا؟ أنبقى بغير قناعات مطلقا؟ إن لها على الأقل قيمة من الناحية النفسية وهي تقوية الروح المعنوية.»
واتفق أن كنت في إحدى الليالي مع تكين وهو يستعد للعودة إلى منزله بعد أن مضى من الليل أكثره، ورأيته يذهب إلى الخزانة الحديدية ويخرج منها عدة قناعات جديدة حسنة الصنع، ويلوح أن وجهي قد نم على ما كانت تحدثني به نفسي.
فتبسم الرجل وقال: «لا تنظر إلي نظرة المتهم، إن هذه القناعات لزوجتي وأطفالي، ومن يدري متى نفاجأ بحرب الغازات؟ إني لا أرى موجبا للذعر، ولكن الحكمة تقتضينا أن نكون على حذر.» - «لكني أسألك يا أندراي إيفانوفتش: لم لا تستخدم الأقنعة التي تصنع لجمهور الشعب؟»
فصاح غاضبا: «أجننت؟» ثم قال في هدوء: «سأجتهد في أن أحصل على قناعين لك ولزوجتك.»
هذا ما كان من أمر القناعات، أما المخابئ الواقية من الغازات فقد كان شأنها أسوأ من شأن هذه القناعات نفسها، فقد كان العدد القليل الذي أنشئ منها في المدن الكبيرة لا يتسع إلا لنسبة ضئيلة من سكانها، وكان معظمها في حالة سيئة غير صالح للوقاية، ولا حاجة إلى القول بأن المدن الصغرة والقرى لم تنشأ فيها مخابئ على الإطلاق.
وفي موسكو نفسها حولت محطة كرفسكايا التي تحت الأرض إلى مخبأ من الغازات لكبار الموظفين، كما أنشئت مخابئ أخرى في دور الوزارات المختلفة، وأنشئ لنا في مقر مجلس الوزراء مخبأ فرش بالبسط وأعد فيه مقصف ومكتبة، أما المواطن العادي فلم ينل مثل هذه الرعاية، ولم تكن الوقاية من الحرب الكيميائية لتفترق عن هذا كثيرا على الرغم من أن هذا القسم من الحرب قد وكلت الهيئة السياسية العليا أمره إلى جنود الهيئة الكيميائية الخاصة في وزارة الداخلية.
على أننا إن كنا قد لاقينا الصعاب في الأمور الخاصة بالقناعات وتليفونات الميادين وأجزاء الدبابات والأسلحة المتحركة والطائرات، فقد عوضنا هذا كله في جهة واحدة على الأقل، لقد كنت ذات مساء أبحث مجموعة من التقارير فطلب إلي أتكين أن أقابله في مكتبه، فلما دخلت عليه وجدته منهمكا فيما بدا لي أول وهلة أنه لعبة عجيبة، فقد شاهدت على مكتبه وعلى الكراسي التي حوله قطعا من الخشب مغطاة بقماش موشي بالذهب والفضة.
وصاح الرجل في غبطة: «تلك أشرطة الجنود.»
ورأيت في جوانب الحجرة رسوما فنية للملابس العسكرية في جميع الرتب من الفريق إلى الملازم، وقد ظهرت عليها هذه الأشرطة في وضعها المناسب، ولم يكن جمهور الشعب قد عرف وقتئذ أن شارات الكتف العسكرية التي كانت تعد رمزا بغيضا للعسكرية القيصرية ستعاد من جديد، وإن يكن مجلس الوزراء قد أصدر القرار الذي «أيده» المجلس السوفيتي الأعلى في الوقت المناسب، ولكن المختصين شرعوا يصنعون هذه الشارات، وكان ما رأيته في حجرة أتكين نماذج منها.
وقال لي أتكين: «سآخذ هذه الشارات من فوري إلى الكرملن، وسيلقي الرفيق ستالين نفسه نظرة عليها، ألا ترى أنها جميلة؟»
وكان في ذلك الوقت مرحا مسرورا، وسألني عما أريد أن أكون أفريقا أم أمير بحر؟ وأخذ الشارة المناسبة في كلتا الحالين ووضعها على كتفي.
ثم قال في وقار فكاهي متصنع: «لا، إن هاتين الشارتين لا تليقان بك، ولعل أجمل لك أن تكون أميرالاي.»
فقلت له: «ألا ترى يا أندراي إيفانوفتش أن كثيرين من الناس سيرون في هذه الشارات والحلل الجديدة رجوعا إلى عهد الاستعمار القيصري؟»
فضحك الرجل وقال: «ما أسخف هذه الفكرة! ومن ذا الذي يبالي بما يراه بعض البلهاء في هذه البلاد أو في خارجها؟ إن القلوب التي من تحت الأكتاف المذهبة ستظل قلوبا سوفيتية حقة متحدة الضربات كما هي متحدة الشعور، وهي تحارب دفاعا عن مبادئ الرفيق ستالين.» ثم سكت قليلا وأضاف إلى قوله السابق في هدوء وبصيغة التأكيد: «وفضلا عن هذا فإذا كان بعض الناس يتخذون من هذه الشارات دليلا على عودتنا إلى النزعة الاستعمارية، فقد يكون في اعتقادهم هذا نفسه نفعا لنا؛ ذلك أن بلادنا ستكسب به صداقة بعض الأوساط الخاصة.»
إن قلب السلطة الدكتاتورية في كل هيئة سوفيتية - صغيرة كانت أو كبيرة - هو لجنة الحزب الشيوعي، كما أن ساعد هذه السلطة القوي الأيمن هو الإدارة السياسية الخاصة الممثلة لوزارة الداخلية، وتعمل هذه الإدارة نائبة عن أعضاء الحزب (وهي في الأحوال العادية أقلية صغيرة في المنظمات الشيوعية)، وتراقب نقاء مبادئهم الفكرية، وتشرف على النشاط السياسي للهيئة السوفيتية التي تمثلها، وتوجه التفكير السياسي للموظفين، على أن هذه الإدارة لا تباشر سلطتها هذه بنفسها في معظم الأحوال؛ ذلك أن سلطتها كلها مركزة في يد أمين سرها، وإن كانت هي من الوجهة الرسمية صاحبة الأمر والنهي، وإن بقي هو يعمل من وراء الستار، على أننا إذا استقصينا الأمور تبين لنا أن رؤساء المصانع أو الموثقات الصناعية يتلقون أوامرهم في كل المسائل السياسية من أكبر موظف سياسي في الحزب الشيوعي.
وكان في مجلس الوزراء نفسه لجنة للحزب تقوم بكثير من أوجه النشاط السياسي الخالص، على أنه كان بين هذه اللجنة وغيرها من اللجان فرق هام؛ ذلك أن مجلس الوزراء هو الحكومة ذاتها يستمد سلطانه من الهيئة السياسية العليا للبلاد، ومن لجنة الحزب المركزية نفسها؛ ولهذا لم يكن خاضعا للجنة الحزب الفرعية الخاصة به، وكان رئيس هذه اللجنة الأخيرة شيوعيا قديما يدعى ميروتوف، كان هو المرجع الأعلى في كل الشئون المتصلة «بالدين» الشيوعي - إذا صح أن تطلق عليه لفظ الدين - والذي يشمل الأخلاق السياسية وتحليل الحوادث وما إليها، ولكنه لم يكن من حقه أن يتدخل في أعمال بمفيلوف وأتكين وغيرهما من الرؤساء غير «الدينيين» في التنظيم العملي للشئون الحزبية.
وكان من شأن هذا النظام أن جعل اجتماعاتنا الحزبية أرقى في مستواها من اجتماعات غيرنا من الهيئات، وقلما كنا نتعرض إلى المشاكل الخاصة بالمجلس نفسه، بل كان همنا كله موجها للشئون الكبرى ومسائل الإيمان الشيوعي، ولا حاجة إلى القول بأن جميع المناصب ذات التبعة كان يشغلها أعضاء الحزب الشيوعي، كما أن نسبة الوظائف الصغرى التي يشغلها هؤلاء الأعضاء كانت هي الأخرى كبيرة؛ ولهذا فإن اجتماعات الحزب كانت عبارة عن اجتماعات عامة لجميع أعضاء الإدارة الحكومية.
والأجانب الذين يحاولون فهم سياسية ستالين أو فهم «العقلية السوفيتية» بدراسة الصحافة السوفيتية وأعمال الكرملن العامة كثيرا ما يخرجون علينا بطائفة من العبارات السوفسطائية السخيفة؛ ذلك أننا لا نجد من بين هؤلاء الأجانب واحدا في الألف قد فهم حق الفهم الفكرة البلشفية الخاصة بوجود «حقيقتين»: إحداهما لعامة الشعب وللعالم بوجه عام، وأخرى لأعضاء الحزب المؤمنين المطلعين على الحقائق والقائمين بالأمر، وقد يحدث أحيانا حين تختط خطة علنية للدعاوة أو العمل أن ترسل التعليمات إلى أعضاء الحزب بألا يعيروا هذه الخطة أية عناية، بل قد يبلغ الأمر أن يؤمروا باعتقاد ما يناقضها كل المناقضة.
وعملا بهذه الخطة المرسومة رؤي من الضرورة في هذه الفترة الخطيرة من سير الحرب «أن يرجع عن مبادئ لينين» من حيث الشكل لا من حيث الجوهر؛ ذلك أن الظروف كانت تتطلب استمالة «العناصر الرجعية» في البلاد وفي أوروبا الشرقية بالتظاهر بالعودة إلى التمسك بالدين، وكان لا بد من استغلال القيم الأدبية للروح الوطنية القومية العتيقة إلى أقصى حدود الاستغلال، ورؤي فوق ذلك أن يستمال الحلفاء الرأسماليون آخر الأمر وبعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول «بالرجوع» عن الدولية الشيوعية.
وسرعان ما قبل العالم الخارجي ومعظم الشعب الروسي هذا القول واتخذوه دليلا على تحول زعماء السوفيت عن خططهم ونواياهم الأولى، ودبجت المقالات ونشرت الكتب للترحيب بهذا التحول، وعده كاتبوها برهانا على تخلي هؤلاء الزعماء عن فكرة الثورة العالمية، بل لقد وصل الأمر إلى أكثر من هذا فقام جماعة من «الخبراء» يعلنون في جهل وغباوة أن الاتحاد السوفيتي يوشك أن يقطع صلته بالنظام الفردي الاستبدادي، وأنه يقترب شيئا فشيئا من النظام الرأسمالي، وأعلنوا في الملأ أن أساليب الحياة الديمقراطية والأساليب الاستبدادية السوفيتية متجهتان في طريق واحد، وأنهما ستلتقيان في وسط الطريق.
ولو أن واحدا من أولئك الخبراء حضر اجتماعات الحزب «المغلقة» التي تضم كبار الموظفين لهاله ما يسمع فيها من آراء، ولعرف أن الرجوع عن مبادئ لينين لم يكن إلا حركة فنية مؤقتة، وأن التصالح مع النزعة الدينية لم يكن إلا تراضيا مذلا للحكومة السوفيتية ولكنه تراض لم يكن منه بد في الظروف القائمة وقتئذ، وكان يطلب إلينا أن نقوي إيماننا بالمبادئ الشيوعية واعتقادنا بأن هذه الحركات السياسية كانت خطة مدبرة وسياسة مرسومة وضعها ستالين لإحراز النصر النهائي.
ولم يكن ثمة إنسان ممن تأصلت فيهم مبادئ الشيوعية يعتقد أن الحزب يكذب إذا ما أعلن السير على بعض المبادئ جهرة، واعتنق ما يناقضها خفية، ولم يكن ضميره ليؤنبه على هذا الرياء أكثر مما يؤنب القائد في الميدان إذا خدع العدو وأضله، وكان أركان حرب الثورة - أي زعماؤنا في الكرملن - يرون أن من واجبهم أن يخادعوا، فيهاجموا تارة ويستكينوا تارة، ويرتدوا مرة لينظموا صفوفهم، ويستغلوا في جميع الأوقات ما بين الأمم الرأسمالية من تنابذ وخلاف، ويسيروا على هذه الخطة حتى يستحيل العالم كله إلى اتحاد سوفيتي عام يتفيأ ظلال المبادئ الاستالينية، ويعتقد البلشفي «الواقعي» أن الأخلاقيين الرأسماليين الذين يتمشدقون بألفاظ النفاق والرياء والغدر وما إليها ليسوا إلا بقايا من عهد بائد، وأنهم هم أنفسهم قوم مراءون يظهرون خلاف ما يبطنون.
ولم يكن في أعمال الحزب أقل أثر يدل على «التغيرات العظيمة» التي يظن الناس أنها حدثت في نظام الحكم السوفيتي، ولم يكن ثمة فارق بين اجتماعات دعاة الحزب وعماله في هذه الأيام واجتماعاتهم فيما قبل الحرب من حيث القواعد والأساليب والروح السياسية العامة اللهم إلا ما كان يدور في هذه الاجتماعات من حديث عن الحرب وتطوراتها، أما فيما عدا هذا فالاجتماع كله صورة مكررة مما كان يحدث قبل الحرب.
وإلى القارئ صورة من هذه الاجتماعات الأسبوعية:
نلتقي قبيل الجلسة في الساعة العاشرة مساء ثم يعقد الاجتماع برياسة الرفيق ميروفوف ويجلس تحت صورة ضخمة للينين ومن حوله على المنصة بعض الشخصيات الكبيرة وضيفنا في هذه الليلة هو الرفيق بودين، وكان وقتئذ رئيس هيئات النشر الحكومية، وهو الآن ممثل قسم الدعاوى الثورية في لجنة الحزب المركزية، وإذ كنا نعلم أنه من أشد أتباع ستالين استمساكا بالنظريات السياسية فإنا نستمع إليه بعناية فائقة، ولا تفوتنا كلمة واحدة مما يقول، وهو يتحدث في هذه الليلة عن الشئون العالمية، ولكن ما ينطق به لن يكون مجرد «آراء» بالمعنى الذي يفهمه الغربيون من هذا اللفظ، بل هو عقائد مقررة واتجاهات ليس منا من يجرؤ على أن يحيد عنها، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إنه لا يمكن أن يدور في خلد الشيوعي المؤمن بمبادئه أن يحيد عنها قيد شعرة، ويتكلم يودين بالنيابة عن ستالين وعن الحزب وعن الدكتاتورية السوفيتية.
ولكن رفيقا آخر يقوم قبله ليرسم لنا صورة عن الموقف الحربي، وهو لا يخفي عنا ما منينا به من خسائر فادحة وما يتهددنا من أخطار شديدة، ويقول: إن قوتنا ستمتحن في ستالينجراد، وإنا لن نهزم فيها بل لا نجرؤ على أن نهزم فيها، وإذا ما سقطت ستالينجراد في يد العدو واستطاع الألمان أن يعبروا نهر الفلجا فسيحال بيننا وبين آبار الزيت، وقد يكون هذا سببا في شل جميع جهودنا الحربية، وليس هذا كل ما في الأمر، بل علينا جميعا أيها الرفاق أن نفهم أن ستالينجراد ليست مدينة كسائر المدن، فهي المدينة التي سميت باسم ستالين الزعيم الأكبر للشيوعية في العالم بأسره، وفي ستالينجراد يصطرع مبدآن من مبادئ الحياة، صراعا عاقبته إما الحياة وإما الموت: أحدهما مبدأ الرأسمالية في صورتها الفاشية، وثانيهما الشيوعية، وتمثل المبدأ الأول جيوش هتلر والثاني القوى التي تعتنق مبادئ ستالين، ترى لمن يكون النصر؟ إن مدينة ستالين لن تسلم للأعداء ولا يمكن أن تسلم لهم مهما اقتضانا الدفاع عنها من ثمن، سنتعلق بكل حجر فيها وبكل لبنة، إن جحافل عظيمة من الرجال وأكداسا من العتاد تعد لهذا الصراع التاريخي، وسيغرق الألمان في بحر من دمائهم، وسيدرك العالم ما في اسم ستالين المحبوب من قوة، وستظل ستالينجراد قائمة جيلا بعد جيل رمزا مجيدا لعبقرية زعيمنا المحبوب.
ثم تسكن عاصفة التصفيق القوية ويعتلي الرفيق يودين المنصة، فننصت إليه لا بآذاننا فحسب بل بكل مسام أجسامنا، وهو وإن كان من أشد المتحمسين للنظريات المركسية لا يرى غضاضة في أن يملأ خطابه بألفاظ الهجو القذع، ذلك أن الهجو من طبيعته، يفيض به لسانه في كل وقت، وهو لا يقصره على هتلر وشيعته بل يصبه على جميع العالم الرأسمالي المنحل المتعطن.
ويقول لنا يودين: إن تيارا قويا من الإيمان بالنظام السوفيتي يجتاح الجماهير في إنجلترا وأمريكا في هذه الأيام، ويؤيد دعواه بمقتبسات من بريستلي ولسكي وغيرهما من الكتاب، وهو تيار جارف ليس في وسع تشرشل وروزفلت والمستضعفين الأذلاء من الاشتراكيين و«العمال» أن يصدوه، ففي إنجلترا كثيرا ما ينزل كلمنت أتلي الفاشي الاشتراكي ضيفا على السيدة أستر الفاشية فلتستنتجوا من هذا أيها الرفاق ما يجب أن تستنتجوه!
ولم يعد خافيا على الطبقات الموسرة من الإنجليز أن الحرب قد بدلت عقلية الجماهير حتى أصبح القضاء على هذا الخطر المرعب أهم عندهم من هزيمة الألمان، ولكن كيف السبيل إلى هذا؟ ليس ثمة سبيل أمام الحزب الذي يطلقون عليه اسم «حزب العمال» إلا أن يهيئ وسائل اللهو للقوات المحاربة ليصرفها عن الانضواء تحت راية زعماء الحزب الشيوعي البريطاني والشيوعية الدولية.
وليس النزاع الظاهري القائم بين تشرشل وحزب العمال في رأي بودين إلا نزاعا صوريا مسرحيا، أما الحقيقة فهي أن الحزبين يعملان معا لكبت أنفاس الكتلة العاملة، وكلاهما على استعداد لأن ينشد: حفظ الله الملك. «أما من حيث موقفهما من الروسيا كما يقول: فإن زعماء العمال يحبوننا بقدر ما نحب نحن هتلر.»
ويضحك السامعون من هذا التهكم ويصفق له بعضهم؛ ذلك أن الطعن في العمال وأمثالهم من «الديمقراطيين» الزائفين من الأساليب الخطابية التي تتردد في كل اجتماع من اجتماعات الحزب، ثم تأتي بعد إنجلترا تركيا واليابان فيصب عليهما الخطيب جام غضبه وشتائمه فيقول بأعلى صوته: إننا نعرف أن متسوكو - الرجل الذي تفضل الرفيق ستالين بأن ودعه على محطة السكة الحديدية بنفسه - أن هذا الرجل قد حرض الميكادو على أن يعلن الحرب على روسيا قبل هجومهم على ميناء بيرل في الوقت الذي كان فيه الألمان يزحفون على موسكو، وستلقى اليابان وسيلقى متسوكو وأمثاله ما يستحقون من جزاء، بعد أن نفرغ من محاسبة هتلر وزمرته! «أما في تركيا فإن القائد إركيلت وطائفة من الصحفيين النباحين قد شنوا - برضا الحكومة وتغاضيها بطبيعة الحال - حملة شعواء على الحكومة السوفيتية، وأن اليوم الذي نحاسب فيه هؤلاء الجيران الطيبين الظرفاء لآت لا ريب فيه.
وسأحدثكم الآن أيها الرفاق عن أمريكا: إن الخطة التي اختطها روزفلت في تلك البلاد والتي تقضي بالتودد إلى الحكومة السوفيتية طالما كانت هذه الحكومة ذات فائدة للأمريكيين، إن هذه الخطة قد أثارت معارضة شديدة، وهي معارضة طبيعية في بلاد تعد حصن الرأسمالية الحصين، ويتزعم هذه المعارضة الشديدة مستر هربرت هوفر رئيس الجمهورية السابق وطائفة من أعضاء مجلس الشيوخ الرجعيين وغيرهم من مأجوري مورجان وركفلر ودوبون، وتؤيدهم الصحافة الفاشية وشبه الفاشية، صحافة هرست ومك كورمك وأمثالهما، وزمرة أخرى من الصحف المأجورة.
ويظن هؤلاء أن روزفلت قد باع نفسه لاتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية الروسية وإن كان هذا القول يبدو لنا نحن في منتهى السخف وجديرا بالسخرية، وكأن هؤلاء لا يدركون أن روزفلت وآتلي هما آخر الحصون التي تعترض سبيل الشيوعية، وما من شك في أنها سوف تدك هذا الحصن عما قريب، إنهم لا يدركون أن هذا الحلف الحربي مع اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية ليس إلا زواجا سياسيا أملته الضرورة، أما الحقيقة فهي أننا نكره الرأسمالية بقدر كرهها لنا، وأننا لن نحيد قط عن الواجبات التي رسمها لنا وللتاريخ الزعيمان: لينين وستالين!»
ويدوي المكان بالتصفيق دليلا على أننا نحن على الأقل ندرك هذه الحقائق إن لم يدركها الأمريكيون.
ويواصل الرفيق يودين خطبته قائلا: «أيها الرفاق، يجب ألا يخدعكم اشتراكنا في الحرب مع الأمم الرأسمالية، ويجب ألا تعلقوا على هذا الاشتراك شيئا من الآمال، إن علينا أن نستمسك بمبادئنا الأساسية! إن هناك عالمين منفصلين تمام الانفصال، وقد يكون من المستطاع في بعض الأحيان أن يقام جسر على الثغرة التي تفصلهما كما فعلنا نحن في هذه الحرب، ولكننا نعلم حق العلم أن هذا الجسر سيتحطم في وقت من الأوقات قريبا كان ذلك أو بعيدا؛ ذلك أن العالمين - عالم الرأسمالية وعالم الشيوعية - لا يمكن أن يقوم أحدهما بجوار الآخر إلى أبد الدهر، بل لا بد أن يصطرعا، والمشكلة التي تواجهنا الآن والتي تواجهنا على الدوام هي: أيهما ستكون له الغلبة؟ تلك مشكلة المشاكل في المستقبل.
وما دمنا نعيش والرأسماليون من حولنا فستظل الأخطار تتهددنا أيها الرفاق، تذكروا ذلك ولا تنسوه أبدا، ولا تخدعنكم أعمال الإعارة والتأجير، فتبدل أفكاركم، إن المسألة لا تعدو أن تكون مساومة وصفقة نؤدي نحن ثمنها غاليا هو تضحيتنا بالدماء السوفيتية والأرض السوفيتية، فلا تغالوا في هذه «الصداقة» الجديدة غير الطبيعية، واذكروا على الدوام أننا نحن أعضاء الحزب جنود لينين وستالين، وأننا نعرف خبيئة نفوس الرأسماليين.»
ويفرغ يودين من خطبته فنقف جميعا وننشد نشيد الدولية، ومهما تكن المعاني الخفية التي فهمها غيرنا من «رجوع» زعماء السوفيت عن المبادئ الشيوعية، فإننا نحن المتصلين بالدوائر العليا نعلم حق العلم أن ذلك إذعان مؤقت ألجأتنا إليه الظروف، ولا يعدو أن يكون تبدلا في أساليب الحركة الشيوعية الدولية وصورها الخارجية، أما جوهرها فباق لم يطرأ عليه شيء من التحول، والذين يظنون أننا قد تحولنا عن هذه المبادئ ونبذناها وراء ظهورنا بلهاء مخدوعون.
وبعد أن تشد عزائمنا ويجدد نشاطنا على هذا النحو يعود كل منا إلى عمله، ولكن «الكبار» - يودين وبمفيلوف ومن إليهما - يهرعون إلى المقصف لينشطوا أجسامهم، وهناك يلتهمون ما فيه من طيبات الإعارة والتأجير، وهم يواصلون الحديث في موضوع الاجتماع، ويستمتعون مقدما بانهيار العالم الرأسمالي.
وتمضي بضعة أيام ونجتمع مرة أخرى ليخطبنا فلاديمير بتيمكين الدبلوماسي السوفيتي الذائع الصيت، وآراؤه بطبيعة الحال لا تختلف في شيء عن آراء يودين، إذ ليس في روسيا السوفيتية من له آراء خاصة، بل كل من فيها يفرض عليه أن يحبذ «الخطة» المرسومة ويردد صداها على الدوام، لكن بتيمكين أخصائي في الشئون الخارجية؛ ولهذا كان أكثر صراحة ووضوحا حين تحدث عن مستقبل بعض الدول الأوروبية، فكانت «آراؤه» وآراء جميع أعضاء خطباء اللجنة المركزية تفصح عن نظرية الحزب الشيوعي برمته.
وهم يؤكدون لنا أننا إذا رجعنا عن مبادئنا بعض الشيء فما ذلك إلا لنبني قواعد جديدة لتقدم جديد، وهم واثقون من أن الشيوعية ستجد سبيلها إلى البلاد المهزومة والمحررة حين تحرر النصر، ومن أجل هذا يجب علينا أن نحتفظ باحتياطي القوى الثورية وموظفيها، وأن نزيد في عدد هؤلاء وأولئك، وحينئذ نهاجم الرأسمالية من أعلى عن طريق حكوماتها، ومن أسفل عن طريق العمل الذي تقوم به الجماهير فيها.
وكان أكثر ما آلم الشيوعية وأخشع طرفها هو اضطرارها بسبب الحرب لتعديل موقفها في أمور الدين، فقد سمح لرجال الدين أن يؤلفوا وينشروا كتابا سموه: «حقيقة الدين في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية» أعلنوا فيه رضاءهم عن النظام السوفيتي، ولم يعلق أحد منا شيئا من الأهمية على هذا الكتاب، ولكننا سمعنا أنه كان له أثر كبير في خارج البلاد، ودعا ميروتوف دعاة الحزب إلى مكتبه ليوجه تفكيرهم في هذه المشكلة الشديدة التعقيد.
وبدأ خطابه لهم قائلا: «أيها الرفاق، لقد اضطررنا إلى التسليم ببعض الأمور لأنصار الدين، وخاصة لأن كثيرين من رجال الجيش الأحمر قد جندوا من قرى متأخرة لا يزال للدين فيها شأن كبير، وفضلا عن هذا فإن العدو يستغل موقفنا المعادي للدين في أغراض الدعاوة، وقد رأينا أن تحسين علاقتنا برجال الدين يضعف موقفه من هذه الناحية، وثمة مسألة أخرى على جانب عظيم من الأهمية، تلك هي أن جيوشنا ستدخل بعد قليل دولا صقلبية لم تنعم بعد بمزايا التربية الشيوعية، وهل تكون للجنة الجامعة الصقلبية في موسكو أية قيمة إذا استمسكنا بسياستنا القديمة مع الكنيسة؟
وستكون سياستنا الدينية الجديدة ذات أثر عظيم في تحطيم الدعاوة التي تقوم بها الكنيسة الكاثوليكية واللوثرية وغيرهما من الجماعات الدينية ضد الدولة السوفيتية؛ ولهذا أرجو ألا تستخفوا بحكمة الحزب في انتهاج هذه السياسة، فهي تتيح لنا الفرصة في تقوية الرابطة بين الروسيا والكنيسة الأرثوذكسية في البلاد الأخرى وتجعل من موسكو روما الثالثة.»
ثم قام أحد الحاضرين وقال: «ولكن قل لي يا رفيق ميتوروف، ألا يخشى أن تفسد الخرافات الدينية عقول الجيل الجديد الذي سيحل محلنا في يوم من الأيام؟»
فأجاب مبتسما: «لا تشغل بالك بهذا الأمر، أن الدين لا يجد له مربعا أو غذاء في اتحاد الجمهوريات السوفيتية، هذا إلى أن الصحافة والمسرح والإذاعة والمدارس والكتب وسائر القوى التي تؤثر في العقول كلها تحت إشراف الحزب وحده، وليس هناك من يجهل أن الشاب ذا الميول الدينية لا يستطيع في هذا البلد أن يشق له طريقا في الحياة، بل إنه لا يجد له مكانا في الدولة إذا لم يكن معنا روحيا وسياسيا، وتلك أعظم ميزة لدينا.
ولا إخالك قد نسيت أن الكنيسة منفصلة عن الدولة، وأن الدولة هي التي تشرف على المدارس، وثق أن منظمات الشباب ستكون أعظم قوة من القساوسة، وهل يصل بنا الحمق إلى ترك الجيل الجديد في يد القسيسين؟»
وكان الأمر واضحا لنا كل الوضوح، لقد كان الاتجاه الديني الجديد خدعة مؤقتة يقصد بها الوصول إلى أغراض معينة في داخل البلاد وخارجها، واتضح لنا كذلك أن من الواجب علينا حين نناقش هذا الموضوع مع «الجماهير» أن ندخل في روعهم أن هذا التحول السياسي الجديد تحول حقيقي دائم لا رجعة فيه.
ثم وجه إلينا ميتوروف هذا التحذير: «إن غير الناضجين من أعضاء الحزب أنفسهم لا يستطيعون فهم كل ما تنطوي عليه هذه السياسة من أغراض؛ ولهذا يجب أن نصطنع الحذر الشديد حين نتحدث إليهم في هذا الموضوع.»
ولم أكن أعمل في مجلس الوزراء حينما صدر الأمر في مايو سنة 1943م بإلغاء الدولة الشيوعية في الظاهر، ولكن التفسيرات التي فسر بها هذا العمل في اجتماعات الشيوعيين الهامة المغلقة كانت تتفق كل الاتفاق مع الآراء التي شرحها لنا رجال من طراز يودين وبوتكين، ومجمل هذه الآراء أن هذه الهيئة العالمية لم تحل إلا من الوجهة الرسمية الظاهرية، أما الحقيقة فقد كانت تناقض هذا كل المناقضة، فقد كان لا بد من تقوية الأداة التي تستخدمها هذه الهيئة، وتقوية موظفيها، وتدعيم نظامها؛ لتستطيع أن تواصل عملها في الخفاء، ومن الأقوال التي كان يرددها الزعماء قولهم: «اعلموا أيها الرفاق أن قوى ثورتنا في جميع أنحاء العالم تستعد للكفاح وتستعد للنصر.»
ولقد نسي العالم في أثناء الضجة التي أثيرت حول إلغاء الدولية الثالثة المزعوم أن كتاب ستالين «مشاكل اللينينية» قد ظل كما كان المرشد الأعلى في شئون المبادئ والأفكار الشيوعية، وأن ستالين لا يترك في هذا الكتاب أثرا للشك في اعتقاده الذي لا يتزعزع في أن من حق الكتلة العاملة المظفرة - ويقصد بها اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية - بل من واجبها المقدس أن تستخدم القوة في إشعال نار الثورة في البلاد الأجنبية إذا ما لاحت لها الفرصة لإشعالها، وأن النظام الثوري القائم يجب أن يقدم المعونة للثوار في سائر أنحاء العالم وأن «يستخدم القوة العسكرية إذا لزم الأمر عند الطبقات المستغلة والدول التي تناصرها».
ولا يزال لكتاب ستالين الرسمي «تاريخ الحرب» ما كان له من أثر قبل إلغاء الدولية الثالثة كما لا يزال يوزع اليوم في جميع البلاد التي يقيم فيها أتباع ستالين أو يسافرون إليها، وليس في هذا الكتاب أقل غموض بل هو واضح كل الوضوح، ومما جاء في مقدمته: «إن الحزب الشيوعي صاحب السلطة في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي قد اهتدى في ماضيه ولا يزال يهتدي في حاضره بالتعاليم الثورية التي وضعها ماركس ولينين ...» وإن دراسة تاريخ الحزب لتقوي الاعتقاد في النصر النهائي للهدف الجليل الذي عمل له لينين وستالين وهو «انتصار الشيوعية في العالم كله».
ولما كانت هذه الآراء لا تزال هي المسيطرة على الروسيا، ولم يصدر بعد ما ينقضها، فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يفكر - وأن يقشعر بدنه من شدة الرعب حين يفكر - فيما كان يحدث لو أن دولة ستالين لا الولايات المتحدة الأمريكية كانت أول من صنع القنبلة الذرية!
وليس هذا تفكيرا خياليا منقطع الصلة بالحقائق الواقعية، لقد كان العلماء والمفكرون الروس بوجه عام أيا كانت مبادئهم السياسية يعملون مجدين مخلصين لكسب هذه الحرب، وقد عملوا للتغلب على ما كان لدينا من نقص باختراع أدوات حربية جديدة، وبفضلهم كان لبلادهم السبق في استخدام بعض الأسلحة التي أخذوا بها الأعداء على غرة، ولم يكن من الأسرار الخفية أن الأبحاث الذرية كانت تسير سيرا حثيثا بأمر ستالين وتوجيهه.
ولقد أشيع في أواخر عام 1942م أن ستالين قد استقبل الأستاذ كرمروف رئيس المجمع العلمي وكيتزا مدير معهد العلوم الطبيعية في اجتماع خاص بأبحاث الطاقة الذرية، وكانت إدارة الاستعلامات العسكرية السوفيتية في الوقت نفسه تبذل أقصى جهدها في الحصول على ما في البلاد الأخرى من أسرار خاصة بالطاقة الذرية، ولما أن عقد المجمع العلمي اجتماعه في سفرولفسك في شهر ديسمبر من عام 1942م دار حديث طويل عما حدث من تقدم في استخراج المعادن النادرة ومنها معدن الأورانيوم، وكانت الدوائر الشيوعية تفاخر بأن كابتزا قد وصل إلى نتائج مدهشة فيما كان يقوم به من أبحاث لتفتيت الذرة.
ترى لو أن الكرملين قد صنع القنبلة الذرية قبل أن تصنعها زعيمة الدول الديمقراطية في العالم، فهل كان يستخدمها ستالين لإشعال ثورات من الطراز المحبب إلى قلبه؟ إن الجواب الذي أجيب به عن هذا السؤال إنما يصدر عن رأيي الشخصي ولكنه قائم على ما استقر في نفسي طوال حياتي من علم بالعقلية البلشفية وجرأتها وتحللها من المبادئ الأخلاقية إذا ما دعاها داعي واجبها نحو القضية الشيوعية، وهذا الجواب هو نعم.
واتفق أن زرت مخزن الكتاب الدولي، وهي هيئة لنشر الدعاوة باللغات الأجنبية، وكان ذلك في الوقت الذي قيل فيه: إن الدولية الشيوعية قد حلت، وابتهجت لذلك قلوب السذج من حلفائنا الرأسماليين، وشاهدت في هذا المخزن أكداسا عظيمة من النشرات الحزبية التي طبعت حديثا لتوزع في البلاد التي أوشك الجيش الأحمر أن يدخلها، لقد ماتت الدولية الشيوعية من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فقد كانت اللجنة المركزية للحزب تعد العدة لغزو أوروبا أدبيا في الوقت الذي كانت الجيوش السوفيتية تغزوها عسكريا، وكان موظفو الدولية «الملغاة» يعاد تنظيمهم على عجل استعدادا للعمل الكبير الذي سيلقى على عاتقهم في ألمانيا وفرنسا وبولندا والمجر وإيطاليا وغيرها من البلاد.
لقد كانت الروسيا تعد لهذا الغزو الذي طال انتظاره مزيجا من الإيمان بالمبادئ البلشفية والقوة العسكرية، وقد اختارت لهذا الغرض طائفة من رجال الشرطة السرية وأخذت تدربهم تدريبا خاصا للعمل في بلاد السوفيت المحررة وفي البلاد الأجنبية، وخصصت لإقامتهم طائفة من الدور في قلب موسكو، وكانوا جميعا من طبقة الضباط ومن الشيوعيين ومن صفوة رجال الشرطة، وكانوا يعدون لذلك الواجب التاريخي العظيم واجب «تطهير» سكان البلاد التي خضعت للاحتلال الألماني ونفوذ الألمان، و«التطهير» في معجم القسم السياسي لفظ ذو معنى رهيب.
وصحب رجال هذه الفرق الجديدة فيالق الجيش الأحمر ورجال القسم السياسي في زحفها المظفر غربا، وكانوا في العادة يخفون هويتهم الشرطية بلبس الشارات العسكرية العادية بدل شارة القسم السياسي القرمزية، وكان أهم ما خصصوا له من الأعمال ذلك العمل الرهيب وهو التخلص من ملايين المواطنين السوفيت ممن يرى الزعماء أنهم قد يكونون «غير مرغوب فيهم» إن خرجوا مؤقتا من السيطرة السوفيتية، ومعنى هذا أن رجال الشرطة السوفيتية العتاة هم الذين سيقدرون ولاء الملايين التي لا حصر لها ممن خضعوا لسلطان الألمان، ويحكمون عليهم بما يرونه في هذا الولاء، فمنهم آلاف يعدمون رميا بالرصاص، وآلاف غيرهم ينفون من البلاد، ويسود بينهم كلهم حكم من الإرهاب؛ لأنهم متهمون بالتعاون مع الألمان، وما أكثر ما ارتكبت هذه الصفوة المختارة من السفاحين من فظائع تقشعر من هولها الأبدان في فورنزه ورستوف وسمولنسك وشمال القفقاس وكل إقليم جلا عنه الألمان.
فكان الرجال والنساء والأطفال الذين عملوا تحت سيطرة الألمان لكسب القوت لا لشيء سواه، وكان معظمهم يعملون مرغمين كارهين، كان هؤلاء يجمعون ويقتلون بلا بحث ولا تظاهر ببحث، دع عنك المحاكمة القانونية، وكانت آلاف مؤلفة من المواطنين السوفيت المساكين يحشدون في عربات الحيوانات وينقلون إلى داخل البلاد ليعملوا مسخرين في المهاجر وفي معسكرات الاعتقال، ولا مراء في أن مجموع هؤلاء المنفيين الذين جيء بهم ليزيدوا من عدد فيالق العمال المسخرين قد أربى على كثير من الملايين، قبل أن تضع الحرب أوزارها، ولا حاجة إلى القول بأن عمليات التطهير نفسها قد عملت في الأراضي غير السوفيتية التي غزاها الجيش الأحمر.
ولسنا ننكر أنه كان من بين سكان هذه الأقاليم من تعاونوا مع الألمان حقا، كما أنه كان من بينهم بعض الخونة الحقيقيين الذين يستحقون العقاب، ولكن القول بأن هؤلاء الخونة قد بلغت عدتهم هذا القدر الهائل الذي قضى عليه رجال القسم السياسي في الأقاليم المحررة هو إهانة شديدة للشعب الروسي؛ ذلك أن دولتنا البوليسية التي لم تكن تعبأ بأرواح الآدميين ولا تقيم لها وزنا قد توسعت في تعريف «التعاون» مع الأعداء و«الخيانة» حتى شملا كل من وجه كلمة نقد عارضة لطغيان ستالين أو أظهر شيئا من الشك في «الاشتراكية» التي فرضها سادة الكرملن على البلاد.
ولسنا نجد بدا من الاعتراف بتلك الحقيقة المرة: وهي أن ملايين من بني وطني قد استبدلوا بعد جلاء الألمان الاستعباد السوفيتي بالاستعباد الألماني، وأنهم كانوا في محنتهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وأمكنني في حياتي السياسية أن ألم الإلمام كله بأساليب الحكم في بلادنا، وبنظم الحكومة كلها، وبالأداة الحكومية على حقيقتها، وبما هناك من فرق هائل بين عمل هذه الأداة وبين نظامها المسجل في دستور البلاد، وقد أخفيت تلك الحقيقة حتى لا تقع عليها أعين الأجانب وأعين الشعب الروسي نفسه، وليس من المستطاع الكشف عنها في أقل من رسالة خاصة تكتب عن نظام الحكم السوفيتي، وحسبي هنا أن أسجل تلك الحقيقة وهي أن حكم اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية من الأعمال التي ينظمها ويتولاها الحزب الشيوعي، وما مجلس الوزراء وما مجلس السوفيت الأعلى إلا فرع من فروع لجنة الحزب المركزية والهيئة السياسية العليا.
وكان منصبي في هذه الفترة التي أتحدث عنها قريبا جدا من ذروة الحكم، فاستطعت بذلك أن أسمع كثيرا من الأنباء التي تعد في حكم المعلومات السرية العليا، وغير خاف أن الأنباء الشفوية تروج حيث تكون الصحافة مكممة خاضعة لأشد أنواع الرقابة والسيطرة، ومن أجل هذا كانت الشائعات تنتشر في موسكو أسرع من انتشارها في سائر بلاد العالم، ومن أكبر أسباب هذا الانتشار عدم وجود أداة لملاحقة هذه الأخبار وتكذيبها، وكل ما كان لإنكارها من نتيجة أن زاد في قوتها وتأثيرها، وكانت الأخبار غير العادية وخاصة ما كان منها سيئا محظورا يتلقفها الناس ويفضون بها إلى من يثقون بهم من الأصدقاء المقربين.
وكان أهم ما يفضي به الأصدقاء إلى أصدقائهم وما يتطلع هؤلاء الأصدقاء إلى معرفته هو أنباء النزاع الذي يقوم بين الرؤساء الكبار، وارتقاء بعض الموظفين، وسقوط البعض الآخر، وما يحدث بين أمناء سر ستالين، وما ينطق به الزعيم نفسه من عبارات لاذعة، وكان مما عرفته أن كاجانوفتش وأندرايف، وكلاهما من أعضاء الهيئة السياسية العليا، يكره كل منهما الآخر ويكيد له ويعمل لأن يكون أقرب منه إلى ستالين، وعرفت أن ميكويان ومولوتوف يتنازعان المكان الأول في قلب الزعيم، وأن النجم اللامع فزنسنسكي قد حقر النجم الآفل كاجانوفتش في اجتماع رسمي، وأن مخليس رئيس الإدارة السياسية في الجيش الأحمر قد أقيل خفية من منصبه ذي السلطان العظيم؛ لأنه أصبح بسبب دينه اليهودي غرضا تصوب إليه سهام الدعاوة النازية القوية بين جنودنا الجهلاء الرجعيين، وأن فاسيلي بن ستالين المحبوب لا يفتأ يثير المشاكل بسبب سكره وصلاته النسائية وتهوره في سوق سيارته.
وكان من المآسي المروعة ما حدث للمرحوم الرفيق قنسطنطين أوماتسكي سفيرنا السابق في واشنجتن قبل أن ينقل منها إلى منصبه الجديد فيكون سفيرا لنا في المكسيك، وتفصيل ذلك أن ابنته الشابة كانت تقيم مع شاب في مثل سنها هو ابن شاخورين وزير صناعة الطيران، وحدثت مشادة ذات ليلة بينهما مبعثها الغيرة النسائية، فأخذ الشاب مسدس أبيه وأطلقه على الفتاة وسرعان ما انتشر نبأ هذه الجريمة المروعة في الأوساط العليا، وظلت هذه الأوساط تتحدث عنها عدة أيام، ولكن صحافة موسكو لم تشر إليها بكلمة واحدة.
على أن أهم ما كان يثير مشاعر الناس من الحديث غير المدون ما كان خاصا بستالين نفسه فقد كانت كل كلمة ينطق بها تلوكها الألسن وتحللها، وكان ما يحب وما يكره، وحالته الصحية وعاداته ومناقضه تثير من اهتمام حاشيته وأتباعه أكثر مما يثيره سير الحرب أو مصير الثورة العالمية، وكان مما سمعته أنا نفسي أن ستالين يهوى الشطرنج والبليارد، وأنه يتقنهما إتقانا يمكنه من أن يستمتع إلى أقصى حد بالمباريات التي تقوم بين أعظم أبطال الشطرنج والبليارد، وأسر لي بعضهم - بنغمة خليقة بأمثال هذا السر الدولي الخطير - أن خير ما يهواه الزعيم من أنواع الخمور نبيذ كاختنسكي وكاجور وكلاهما مما يصنع في بلاد القفقاس.
وكنا نعرف جميعا أن من عيوب ستالين حبه للأمثال والحكم الروسي منها والكرجي وأنه كثيرا ما يستخدمها لفض المناقشات، وكان مما قيل لنا: إنه بعد أن وقع ميثاقه مع هتلر جلس صامتا، بينا كان رجال الهيئة السياسية العليا يتناقشون فيما يفرضه هذا الميثاق على البلاد من التزامات، وأخيرا لخص هو الحالة كلها بمثل من أمثاله المأثورة: «إني لا أضمن مذاق هذا الصنف من الطعام ولكنه سيكون طعاما حارا!» وإذا ما طال بين الناس الجدل قال لهم في هدوء: «اقلبوا الإوزة على جنبها الآخر وإلا شاطت!» وإذا ما عجز خطيب عن أن يوضح قصده قال له: «إنك تخور كالبقرة التي جاءها المخاض ولكن أين العجل؟»
وخطب ستالين كبار رجال الدولة في اجتماع للجنة الحزب المركزية فقال: «إذا لم ينصلح عملكم على الفور صفعناكم.» وبعد أن سكت برهة حتى يستقر هذا المعنى في نفوس السامعين قال: «ولا أقصد الصفع بمعناه الحرفي، ولكنا سنصفعكم وكفى.»
ويذيع الناس أن ستالين يحب الموسيقى، ولكن الذي يؤسف له أن ذوقه الموسيقي لم يرق كثيرا، وأن فهمه للموسيقى ضيق محدود، على أن هذا لا يمنعه بطبيعة الحال أن يحل المشاكل الموسيقية، وأن يحكم على ما ينشئه الموسيقيون، وليس منا من لا يعلم كيف دفع الشاب شستا كوفتش خارج حجرته وأبقاه في الظلام فترة من الوقت، ولكن الذي لا يعرفه الكثيرون هو ما فعله بالمؤلف الموسيقي الشاب تيخون خرنيكوف، لقد أعجب النقاد في موسكو بمسرحيته الغنائية في العاصفة واستقبلوها بحماسة شديدة، فلما أن شهد الزعيم هذه المسرحية وقال: إنه لا يحبها رجع النقاد من فورهم في حكمهم فأبعدت المسرحية عن المسرح ولم يسمع أحد عنها شيئا بعدئذ.
وثمة قصة أخرى تروى عن ستالين لا أومن أنا بصحتها ولكن أخصاءه المقربين إليه لا يشكون في صدقها، وخلاصة هذه القصة أنه إذا اعتزم أمرا خطيرا ذهب «ليستشير» لينين الميت في تابوته المصنوع من الحجر الأعبل المدفون في الميدان الأحمر، وتقول هذه القصة: إنه يقضي ساعات طوالا منفردا في هذا الضريح غارقا في أفكاره، ومما قاله لي مرة موظف كبير من رجال القسم السياسي : «لست من المشتغلين بمناجاة الأرواح، ولكني أقرر الحقيقة حين أقول: إن ستالين بقي بمفرده مع جثة لينين بضع ساعات قبيل نقل هذه الجثة سرا إلى ما وراء جبال أورال وقت أن كان الألمان على أبواب موسكو.»
وتعتقد تلك الدوائر العليا أن ستالين يؤمن أشد الإيمان بالخرافات وتؤكد أنه طالما بدل من خططه؛ لأن «الدلائل» لم تكن كما يشتهي، ولعله ينفرد بين الطغاة والسياسيين الناجحين في أنه حريص أشد الحرص على عزلته، يغلق على نفسه باب حجرته، ويقضي وقتا طويلا يفكر في الشئون الحربية، وهو قليل التردد على المجتمعات الكبيرة، كاره لها، لا يحضرها إلا إذا أجبرته الضرورة الحربية على حضورها، فإذا فعل فقد أوتي القدرة على أن يسلك فيها سلوك غيره من الأفراد.
وحدثني زميل لي حديثا مفصلا عما حدث في مأدبة أقامها ستالين لجماعة من الطيارين وغيرهم من الرجال الذين امتازوا بأعمالهم في ميدان القتال.
ولما عاد هؤلاء الرجال إلى ميادين القتال تحدثوا إلى زملائهم قائلين: إن الفذهد - وهي الكلمة الروسية للزعيم والمقابلة لكلمة الفهرر الألمانية - رجل ساذج غير متكبر، وأنه اشترك معهم في شربهم ومزاحهم وغنائهم ولم يكتف بأن أثقل كاهلهم بالهدايا.
أما الذين يعرفونه عن كثب ويعرفونه من زمن طويل فإنهم إذا تحدثوا عنه أجمعوا على أنه رجل صلب العود، لا يثق إلا بالقوة، ماكر مخادع يرى الخديعة نفسها نوعا من القوة، حقود منتقم لم يعرف عنه في يوم من الأيام أنه عفا عن إساءة أو نسيها، وإذا تظاهر بالخضوع في نزاع فما ذلك إلا ليقوي بهذا الخضوع مركزه ليهاجم بعدئذ عدوه ويطعنه من خلفه، ولقد عمل على أن يحيط نفسه برجال من طرازه، لا يؤمنون إلا بالقوة، منتقمين لا يعفون عن إساءة لا مبدأ لهم ولا ضمير.
وستالين في حقيقة أمره رجل مستوحش، وهو يعلم ذلك في نفسه، وقد شعر هو في سني حياته العملية أن لا بد له من أن يقتل خاصة أصدقائه وزملائه كلهم تقريبا، ومنهم آبل بنوكدز نفسه الذي نشأ معه والذي طالما كان يعده أعز أصدقائه وأقربهم مودة له، ولما اغتيل كيروف ومات زميله ومواطنه الكرجي أور زنكدز ترك موتهما في حياته الخاصة فراغا كبيرا، ولقد أصبح أقرب الناس إليه في السنين الأخيرة ميكويان وفور شيلوف وبيريا ومولوتوف.
ويرجع سوء ظن ستالين فيمن حوله إلى مرض في نفسه، وهو لا يستثني أحدا من سوء ظنه حتى من يقربهم إليه في وقت من الأوقات، وما من شك في أنه يعتقد أن كل واحد منهم سيكون في مستقبله - إن لم يكن في حاضره - متآمرا عليه يدبر له المكايد والدسائس.
لقد كانت هذه هي الشائعات التي تدور في الدوائر الخاصة عن ستالين، على أن هذا الرجل هو الوحيد من بين زعماء الكرملن الذي كاد اسمه أن ينجو من أحاديث الإفك.
ذلك أن القصص كانت تروى باستمرار عن علاقة سائر الزعماء بالراقصات والممثلات وحفلات السكر وما إليها، أما الزعيم فلم يرو عنه شيء من هذا أبدا، ولعل حرصه على أن يكون هو المحرك لجميع نواحي النشاط في حياة البلاد القومية لا يترك له فسحة من الوقت لمثل هذه الأمور، وهو يميل إلى قراءة الكتب الجديدة كمؤلفات كلوز وتز وتشيكوف وسلتيكوف، وإن معلوماته عن الشئون الاقتصادية والسياسية لتدهش كل من يتصل به.
ويعتقد الكثيرون منا أن ولع ستالين بالانفراد بنفسه وبغضه للظهور في المجتمع لا صلة لهما بقبح صورته، وإن كان مصوروه فيما رسموا له من صور زيتية وشمسية تعد بالملايين قد حرصوا الحرص كله على أن يخفوا عن الناس أنه قصير بدين بطين، أشد سمرة وأقرب إلى ملامح الأسيويين مما يعرف عنه معظم الناس، وأن وجهه يشوهه الجدري، وأن ذراعه اليسرى معوجة بعض الاعوجاج، وأن أسنانه متآكلة غير متناسقة، وإذا كانت عيوبه الجسمية قد ولدت فيه عقدة من عقد النقص فقد يفسر هذا حبه الشديد للملق المكشوف الذي تعافه النفس.
وقد يفسر هذا أيضا الطريقة الغربية التي بدلت بها الحقائق المتصلة بحياته الأولى حتى تبدو هذه الحياة مجيدة باهرة، مثال ذلك أن محفوظات إدارة الشرطة في عهد القيصر تذكر عنه أنه بائع كتب، ولقد أتيح لي أن أطلع بنفسي على هذه الوثائق، ولا يزال الرجل إلى هذا اليوم محتفظا بقدرته المدهشة في العد والحساب وعمل الإحصاءات وكشوف الإيراد والنفقات، ولكن هذا العمل الذي لا ينقص قط من قدر إنسان قد أخفي عن أعين الناس ولم يسمح بنشره.
وفي وسع الإنسان أن يستمع إلى كثير من الحقائق المرة عن تفضيل ستالين للقفقاسيين - أي الكرج والأرمن - على سائر الروس، وقد قيل: إنه يثق بهم ويفهمهم خيرا من ثقته وفهمه للروس الذين لا تجمعه بهم أية صلة من صلاة الجنس أو التعليم المبكر، والحق أن القفقاسيين - وإن كانوا لا يمثلون إلا أقلية ضئيلة لا يعتد بها من مجموع سكان بلاد السوفيت - لا تخلو منهم إدارة من الإدارات الحكومية، فقد كان بريا إلى عهد قريب رئيس إدارة الشرطة، وكان ميكوبان الرئيس الأعلى للتجارة الداخلية والخارجية، وبوجوزيان وكفتارتزي أكبر مساعدي مولوتوف، هذا إلى أن الوزيرين أكوبوف ونفزيان ونائبي الوزيرين دويان وأروتيانوف ومئات غيرهم من كبار الموظفين كلهم كرج أو أرمن. •••
ولما اقترب اليوم السابع من نوفمبر أخذت العقول كلها تترقب يوم العطلة؛ ذلك أن البلاد كلها ستحتفل بيوم الثورة احتفالا فخما عظيما رغم الكوارث التي كانت تحل بالجيوش السوفيتية في ميدان القتال، وكان الناس يتوقعون أن الحكومة الكريمة ستزيد من مقررات الطعام في هذا العيد كما كانت تفعل في الأيام الماضية، وكان طبيعيا أن يطغى اهتمام الناس في هذا العام بما يأكلون على كل ما عداه من الشئون.
وزينت مكاتب الموظفين، ونظفت أرضها، وعلقت على الجدران عبارات الترحيب والابتهاج المعتادة في مثل هذه الأحوال، وسرت في البناء الذي كنا نقيم فيه روح الغبطة والسرور، وخفف بمفيلوف من حدة غضبه على الموظفين وسبابه إياهم، وكذلك فعل كل منا من التابعين له من الموظفين، ولما أقبل اليوم السادس من نوفمبر جاء صغار الموظفين وفيهم الخادمات اللاتي يعملن مياومة واللاتي يغسلن الأرض، والسعاة ومن إليهم، ومع كل منهم كيس مصنوع من الخيوط الشبكية، وهي من مستلزمات المواطنين السوفيت إذ يسهل عليهم أن يطووها ويضعوها في جيوبهم الخلفية ثم يخرجوها ليضعوا فيها ما عسى أن يسعدهم الحظ بالحصول عليه من الطعام.
ثم زفت البشرى العظيمة آخر الأمر، فأعلن أن كل موظف في مجلس الوزراء سينال في هذا اليوم رطلين ونصف رطل من الخبز الأبيض، واثني عشر رطلا ونصف رطل من البطاطس، وثلاثة أرطال من العسل دليلا على ما يكنه ستالين من حب عظيم لرعاياه! وسرت الحماسة في النفوس حتى تعذر القيام بعمل من الأعمال، وجاء هذا السخاء دليلا على ما كان لبمفيلوف من نفوذ عظيم في الدوائر العليا، وكانت لهذه الهدايا قيمة كبيرة، فإن كمية البطاطس تكفي لصناعة وجبة طيبة لأسرة بأكملها، والعسل أثمن من الذهب لمن لم يذوقوا طعم السكر من زمن بعيد.
وأخذ إيفانوف غاسل الأرض النحيل الجسم الأشيب الشعر يغني طول الصباح ويقول: «ما أحلاك أيتها البطاطس الصغيرة! ما أحلاك حبيبتي!»
وتبدل الرجل لساعته، فلم يعد هو القزم الحقير الذي كنا نراه ينزلق على أرض مكاتبنا الجميلة المصنوعة من الخشب الأملس الثمين، فقد عهد إليه في ذلك اليوم شرف وزن البطاطس، وأثر هذا العمل في نفسه فملأه بهجة وسرورا، لقد كان يكمن في بردي إيفانوف الهزيل ذي النفس المتواضعة القانعة رجل آخر جريء ذكي رحيم في غير ضعف، برز الآن إلى عالم الوجود ليشرف على توزيع البطاطس، فيزن لكل فرد اثني عشر رطلا ونصف رطل كاملة لا يرهب في عمله أحدا، ولا يحابي أحدا، وما قيمة بمفيلوف نفسه إذا قيس في ذلك اليوم بإيفانوف ملك البطاطس؟
وتقدمت إليه إحدى الكاتبات وقالت له: «يا عزيزي أندروشا، إن في بيتي ثلاثة آدميين ينتظرون مني الطعام، وأنا لا أسألك أكثر من حقي في البطاطس، بل كل ما أرجوه ألا تعطيني كل هذه البطاطس الفاسدة ...»
ولكن إيفانوف الجديد لم يكن ليتأثر بهذه العواطف بل أصبح في هذه الساعة على الأقل من البلاشفة الغلاظ.
وأجابها قائلا: «سيوزع البطاطس بين الناس بالقسطاس، وسيأخذ كل منهم حقه من التالف وحقه من الصالح إن كان لدينا صالح، والآن أفسحي الطريق لغيرك يا مواطنة وليتقدم من وراءها!»
ولكن هذا المجد الذي ناله إيفانوف المسكين في هذا العام قد انتهى مع الأسف بكارثة؛ ذلك أن البطاطس لم يكف كل الموظفين، وقال الذين لم يحصلوا على حقهم: إن هذا الرجل الغبي إنما كان يصلح لغسل الأرض لا لوزن البطاطس الثمينة، ولم يدفع إيفانوف عن نفسه إلا بقوله: إن ما كان لديه من البطاطس لم يكن يكفي لأن توزع منه اثنا عشر رطلا ونصف رطل لجميع الموظفين، ومهما يكن من شيء فإن كمية البطاطس الفاسد منها والصالح قد نفدت فجأة، وبقي نحو عشرين موظفا واقفين ينتظرون نصيبهم منها.
أما نحن كبار الموظفين فقد كنا أسعد حالا، فقد تسلم كل منا حزمة من الطعام الدسم الشهي تختلف حسب منصبه.
هذا إلى أن كلا منا نال إذنا خاصا يستطيع أن يستبدل به من إحدى الصيدليات «المغلقة» زجاجتين من النبيذ الجيد وزجاجة من الفودكا.
وكان الاستعداد يجري في الكرملن لإقامة مأدبة ستالين السنوية، وكانت هذه الوليمة مقصورة بطبيعة الحال على الطبقة العليا الممتازة من الموظفين أصحاب النفوذ العظيم، وكانت الدعوة إليها أعظم شأنا من أكبر الألقاب التي يمنحها الملوك في الدول الأخرى، وراجع رجال القسم السياسي ثبت أسماء المدعوين، وظل كل منهم موضعا للبحث والتقدير عدة أسابيع قبل اليوم الموعود، واستطعت أنا نفسي أن أتبين ذلك الفحص في مجلس الوزراء نفسه، فقد كنت ألاحظ بمفيلوف وهو يعني أشد العناية بكتابة أسماء الوزراء ومساعدي الوزراء الجديرين بهذا الشرف العظيم، ورأيته بعد أن اختار أسماء المستحقين يبعث بها إلى رجال القسم السياسي لبحثها والموافقة عليها.
وأقمنا نحن مأدبة أخرى في مجلس الوزراء لم تخل أيضا من الجلبة ومن الأزهار والهتاف والأعلام، ومدت الموائد في قاعة الخطابة العامة لكبار الموظفين، وكان الطعام والشراب كثيرين في هذه المأدبة، فلم تجد غضاضة في الاستماع إلى الخطاب المعتاد في يوم العيد، والذي ألقاه أحد كبار رجال الحزب؛ ذلك أن من واجب الإنسان أن يقبل حلو الحياة ومرها في مثل هذه الأحوال، وكنا كلما ذكر اسم الزعيم وقفنا وهتفنا بأعلى صوتنا، فتقطعت الخطبة بهذا الهتاف تقطيعا جميلا خفف بعض الشيء من مللنا وسآمتنا.
ولما فرغ الخطيب من إلقاء خطبته أخذنا نلتهم الطعام التهاما، وسرعان ما أتينا على ما امتلأت به صحافنا منه فلم نبق فيها شيئا، وجاء الشراب بعد الطعام فشربنا أولا نخب الزعيم المحبوب ثم أنخاب من يلونه من الزعماء المحبوبين أمثال مولوتوف وميكويان حتى وصلنا إلى بمفيلوف، ثم عزف الرفيق مينوروف قطعة موسيقية وأخذنا نحن نغني الأغنية المألوفة:
غنوا أيها الرفاق
وحيوا أعظم الرجال
أعظم الرجال وأحبهم إلينا
غنوا لستالين!
وكنت أسعى من زمن بعيد لأحصل على أعظم ما يطمع فيه موظف كبير من أرباب السلطان في الحكومة، كنت أسعى للحصول على مسكن خاص حتى نلت هذه الأمنية بعد السعي الطويل.
وكان الطريق الموصل إلى مسكني الجديد هو طريق مزهسك الواسع المستقيم المرصوف الذي يلقى من العناية أكثر مما يلقاه أي طريق آخر في بلاد الروسيا بأجمعها، وذلك بأنه هو الطريق المؤدي إلى قصر ستالين الريفي وإلى القصور الصيفية التي يختص بها كبار رجال الهيئة السياسية العليا الذين يعملون في العاصمة، وهو موضع الرقابة والتفتيش الدائمين حرصا على حياة الزعيم المحبوب، ولا ينقطع مرور رجال القسم السياسي النشيطين ذوي الستر الجلدية في هذا الطريق على دراجاتهم الآلية.
وشيدت عدة مبان جميلة حديثة الطراز على جانبي هذا الطريق في طرف العاصمة، واستطعت بشفاعة مجلس الوزراء أن أحصل على شقة في أحد هذه الأبنية تتألف من حجرتين ومطبخ، وهي شقة تعد رحبة مترفة في ظروف السكنى القائمة في موسكو، وكان لها حمامها الخاص ومدفأتها وأدوات للنور من أحدث طراز، إلى غير هذه وتلك من وسائل الراحة والنعيم، ولم يكن فيها من عيب إلا أن نوافذها تطل على الفناء الخلفي لا على الطريق العظيم، ولكن هذا لم يكن بالعيب الخطير.
وتسلحت بأمر رسمي للاستيلاء على الشقة وبالأوراق الدالة على أني أعمل في مجلس الوزراء، وببطاقة الحزب وجواز المرور، وتقدمت إلى مكتب رئيس إدارة المساكن (وهو موظف خطير له أثر كبير في حياة كل مواطن سوفيتي)، وكان الرجل ظريفا تعود لقاء ذوي الشأن من رجال الحكومة، وكانت هذه البيوت من الوجهة الرسمية هي «بيوت العمال»، ولكنها لم يكن يسكنها إلا كبار الموظفين ذوي النفوذ السياسي العظيم، ويقيمون فيها ما داموا حائزين رضاء السلطات العليا.
وقال لي رئيس إدارة المساكن: «يبدو أن أوراقك كلها كاملة؛ ولذلك يجب عليك أن تقدم نفسك لمساعد رئيس القسم السياسي في هذا الجزء من المدينة، ثم تعود بعد ذلك إلي، وليس هذا إلا إجراء شكليا لا يضيرك في شيء.» - «ولكن ما شأن رجال القسم السياسي وهذا الأمر؟ لقد كان يبدو لي أن في هذه الأوراق أكثر من الكفاية.» - «إن فيها ما يكفيني أنا شخصيا، ولكن هذا طريق من طرق الحكومة ورجال الهيئة السياسية العليا يمرون به كل يوم! وهذا يجعل للسكن على جانبيه شأنا خاصا إذا صح هذا التعبير.»
وفهمت ما يرمي إليه من فوري، فهمت أني لن يسمح لي بأن أسكن في بيت يطل على طريق فرهايسك الكبير إلا بعد أن يقر رجال الشرطة السرية بأن وجودي في ذلك المكان لا يعد خطرا على حياة ستالين، حتى ولو كانت نوافذ مسكني لا تطل على ذلك الطريق.
وذهبت إلى موظف القسم السياسي المختص فألقى علي الأسئلة المعتادة وأجبت عنها ووافق الرجل على طلبي.
ولكن تشاء الظروف ألا أسكن في هذه الشقة مطلقا؛ ذلك أن البناء كان بناء حديثا لم يتم بعد إعداده للسكن، وكان إعداد الأثاث اللازم لحجراته يستلزم كذلك بعض الوقت، وفي هذه الأثناء لاحت في الأفق فرصة تعييني في منصب خارج البلاد، وهي الفرصة السعيدة التي كنت أتوق إليها وأراها في أحلامي ممتزجة بأشد الآلام، ولم يكن ثمة داع إلى الانتقال إلى المسكن الجديد قبل أن يقطع في هذا الموضوع برأي.
وكان الذي أثار موضوع سفري إلى خارج البلاد أن الأعمال المتصلة بالإعارة والتأجير أخذت تتسع، وتطلب هذا الاتساع إرسال مئات من الموظفين الأخصائيين في كل فرع من فروع الاقتصاد إلى إنجلترا وكندا وبخاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا تذوق الحياة في خارج البلاد عدد من الروس يفوق عدد كل من استطاعوا الخروج منها في عهد الحكم السوفيتي كله، وكنت ممن يصلحون للمنصب الجديد، فأنا مهندس خبير بصناعة التعدين، واسع الخبرة متعدد نواحي النشاط، ولم يكن في سجلي السياسي شيء يؤخذ علي من الوجهة الرسمية على الأقل رغم ما قاسيته في أيام التطهير، بيد أنه لم يكن من حسن السياسة أن أكون أنا البادئ بإثارة هذا الموضوع، بل إن إثارته من ناحيتي كانت في واقع الأمر مستحيلة؛ ذلك أنه كلما اشتدت رغبة الإنسان في السفر إلى خارج البلاد في تلك الأيام زاد حرصه على إخفاء هذه الرغبة كيلا يسيء فهمها - أو يفهمها على حقيقتها - المشرفون على ولائنا للعهد السوفيتي وإخلاصنا له.
واتفق أن كنت أبحث شئون الإعارة والتأجير مع موظف ذي شأن في تجارة البلاد الخارجية تربطني به صداقة طويلة العهد، ووجهت الحديث الوجهة التي أريدها في حذر وحذق ولم أجرؤ على الإيحاء له بأن الشخص الجالس أمامه رجل قادر على أن يقدم للبلاد بعض الخدمات في خارج حدودها، ولكنني استطعت أن أدخل هذه الفكرة النيرة في عقله، وبدا له أنها فكرة قد هبطت عليه من السماء.
وفاجأني بقوله: «ما قولك يا فكتور أندريفتش في السفر إلى أمريكا؟ إني أعرف أننا في حاجة إلى رجال في تلك البلاد أكثر من الذين أرسلوا إليها.»
فأجبته: «إني لم أفكر في هذا الموضوع قط، هذا إلى أني أقوم بعمل خطير هنا في مجلس الوزراء كما تعلم، على أنني إذا كنت ذا نفع في المجهود الحربي.»
ولم يكن صديقي هذا بالرجل الأبله ولم يخدعه ما تصنعته من مظاهر الاستخفاف وعدم المبالاة فقال لي: «سأنظر في هذا الأمر، ولك أن تثق بأني سأثير هذا الأمر في الدوائر صاحبة الرأي.»
وشكرت له فضله وإن لم أكن أظن أنه سيبر بوعده أو أجرؤ على الاعتقاد بأن اقتراحه سيثمر الثمرة المرجوة، كان ذلك في أواخر شهر ديسمبر، وبعد أسبوعين من ذلك الحديث دعاني بمفيلوف إلى حديث خاص في مكتبه، وحدثتني نفسي لحظة قصيرة بأن دعوتي قد تكون لها صلة بحلمي اللذيذ حلم السفر إلى أمريكا، فثارت لذلك إحساساتي واضطربت أعصابي، ولكني كنت مخطئا في تقديري.
فلما دخلت على بمفيلوف قال لي: إنه دعاني ليستشيرني في موضوع رمي به رميا؛ ذلك أن في البلاد عددا من مصانع المعادن تشرف عليها إحدى الهيئات الكبرى، وهذه المصانع منتشرة في شليابنسك، وتوفوزي برسك ومولوتوف وشمالي القفقاس وغيرها من الأماكن، ولكن مركز إدارتها الرئيسي في موسكو، وقال بمفيلوف: إن العمل فيها لا يسير سيرا مرضيا وإنها في حاجة إلى يد قوية تصلح من شأنها.
وأضاف إلى ذلك قوله: «وأنا أحتاج إلى إنسان أثق به، أعهد إليه الإشراف عليها، وأظنك هذا الرجل، وأريد ألا تفهم أن في هذا تخفيضا لدرجتك، وسأعيدك إلى مكانك في مجلس الوزراء بعد أن تعيد شيئا من النظام إلى هذه المصانع، فما قولك في هذا؟»
واجتهدت في أن يبدو ردي بالقبول كأنه رد عرضي جاء عفو الخاطر، بل لقد تظاهرت بأني قد ساءني هذا بعض الشيء، أما الحقيقة فهي أني سررت منه، ذلك أني لم أكن أرجو أن تستغنى الحكومة عن رئيس إدارة مسئول لكي يعمل في خارج البلاد، أما إذا كنت موظفا مشرفا على بعض مصانع للمعادن فإن ذلك يزيد كثيرا من الفرص التي تتاح لي للعمل في الخارج.
وكان مركز إدارة هذه المصانع في بناء من الأبنية المنخفضة الطويلة المتصلة التي تكون أحد جوانب الميدان الأحمر، والمطلة على الكرملن، وأعد لي مسكن في ذلك البناء، وجيء لي بعدد من الموظفين، واستطعت أن أسير العمل من هذا المكان باتصالي التليفوني الدائم بمديري المصانع الموزعة في كثير من أنحاء الروسيا.
ولم تكن ساعات العمل في ذلك المنصب الجديد مملة كما كانت من قبل، واستطعت أن أنال كفايتي من النوم بعد أن ظللت زمنا طويلا لا أنال منه إلا القليل، وكان في وسعي أن أرى من موسكو أكثر مما رأيت، وأن ألقى أصدقائي الذين أهملت رؤيتهم عملا بقواعد مجلس الوزراء الصارمة، وحرصت لسبب لا أعلمه على ألا أترك ساعة تمر بي دون أن أفيد منها علما بالبلاد وأحوالها، والناس وما يحيط بهم من الظروف، ولعل قوة خارجة عني قد ألهمتني في ذلك الوقت أنني لن يطول بي المقام في بلادي وبين مواطني.
وتملكتني رغبة شديدة في سبر أغوار عقول من حولي من الناس لأعرف ماذا فعلت بهم الحرب، وقوى ما عرفته عنهم حبي لبني وطني وتقديري إياهم، فقد أدهشتني قوة صبرهم في محنتهم الشديدة، وفطنتهم وإدراكهم للحقائق السياسية، فقد كان الروس السذج يؤدون لستالين ما هو من حق ستالين، وللروسيا ما هو من حق الروسيا.
وكانت الحرب قد بدأت تتحول لصالحنا، ووضع لنا هذا وضوحا لا شك فيه، وكانت المجزرة الدائرة حول ستالينجراد مجزرة رهيبة لا نظير لها في التاريخ، ولقي المحاربون فيها من الأهوال ما تعجز اللغة عن وصفه، على أن هول الصراع في حد ذاته كان بشيرا بالنصر؛ ذلك أنه إذا كانت الحرب حرب فناء فسنكون نحن الغالبين.
لقد كانت الجيوش الألمانية بعيدة عن قواعد تموينها، وتعذر إرسال الإمداد إليها في فصل الشتاء الذي اشتد برده في تلك السنة شدة غير مألوفة، فكان عليهم أن يحاربوا بمن جمعوهم في الميدان من جنود، وما كدسوه فيه من عتاد، وهم جنود كثيرون وهو عتاد كثير ما في ذلك شك، ولكن الجنود والعتاد إذا لم تتوال عليها الإمداد كانت عرضة للنفاد، أما الروس فكان في وسعهم أن يقذفوا إلى الميدان بالدماء وبالحديد بلا انقطاع، ولم يكن الكرملن ليعترف بهزيمة الروس أمام ستالينجراد، إلا إذا أفنى الألمان نصف سكان الروسيا بأجمعها، وكان خط حديدي جديد قد أنشئ على امتداد نهر الفلجا استعدادا لهذه المعركة الرهيبة، وظل هذا الخط يؤدي عمله بانتظام طوال الموقعة، تنقل عليه الإمداد إلى المدينة الدامية، كما كانت الجنود والعتاد تنقل إليها بطريق النهر نفسه.
وانتصرنا في آخر الأمر، وغرق الألمان في بحر من الدماء: دمائهم ودماء الروس أنفسهم، وكان لهذا النصر فضل آخر لا يقل في أهميته عن وقف الزحف الألماني وإن لم يذكره الناس لأنهم غفلوا عنه أو لم يقدروه حق قدره؛ ذلك أن الجيش الأحمر قد غنم في هذه الواقعة من الأسلحة الألمانية ما يكفي لتسليح ثلاثين أو أربعين فرقة، لقد كان كاتب ألماني هو الذي أشار على القواد الألمان أن يحاربوا بأسلحة أعدائهم، ولكن القواد الروس هم الذين عملوا بهذه النصيحة بعد واقعة ستالينجراد، ومن واجبنا إذن أن نضيف إلى ما جاءنا من العتاد الحربي من أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير ما كسبناه من العتاد الألماني في ستالينجراد لنفسر بذلك نجاح الهجوم السوفيتي، لقد كانت غنائم الروسيا فيما بين نوفمبر سنة 1942م ونوفمبر سنة 1944م تشمل أكثر من أربعين ألف طائرة وسبعة عشر ألف دبابة، وخمسة وخمسين ألف مدفع ميدان، ومائة وثمانية عشر ألف مدفع رشاش، ومليونا وخمسمائة ألف بندقية، نعم إن كثيرا من هذه الأسلحة كان يحتاج إلى إصلاح فأصلح وتحولت أسلحة هتلر إلى صدره.
وكنت أرقب معركة ستالينجراد وأدعو لبلادي بالنصر، شأني في ذلك شأن كل مواطن سوفيتي مهما يكن شعوره بإزاء نظام الحكم القائم في البلاد، على أن هذا لم يكن يمنعني من الوقت نفسه من التفكير في نتيجة ما كان يدور من بحث حول مسألة سفري إلى خارج البلاد.
الفصل السادس والعشرون
التأهب للسفر
وأخذت أستعد للسفر إلى أمريكا في شهر يناير من عام 1943م، واستخرج جواز سفري فعلا في شهر يوليو من تلك السنة، وشعرت في هذه الشهور الستة كأني حشرة نادرة على طرف دبوس في معمل ضخم، ومن حولها جيوش من علماء الحشرات والحيوان والكيميائيين ومن إليهم من العلماء، يدرسونها من كل ناحية ويقلبونها على كل وجه، فقد أصبحت موضع الاهتمام والبحث لمعرفة ما في من عيوب خافية عن الأنظار، وكأن قوى الدولة العظيمة كلها قد حشدت لغرض واحد، هو الكشف عن شخصي الضعيف وأبعاده الزمنية والمكانية، ومعرفة أهله وأصهاره ورفاقه، أيا كان مركزهم وأيا كانت درجتهم.
وذهبت هذه الدولة الباحثة الفاحصة إلى أقصى حد في ارتيابها فقضت الأسبوع تلو الأسبوع وهي تفحص عن عقلي وأعصابي كي تستطيع أن تكشف بهذا الفحص عن خبيئة نفسي، ومن أعجب الأشياء أن هذين الفحص والاستقصاء قد انتهيا إلى غير نتيجة، وظل سري الرهيب - وهو اعتزامي الفرار من اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية - مستكنا في قرارة نفسي لم يطلع عليه أحد سواي.
وبدأ الفحص العظيم عن فكتور كرافتشنكو ابن أحد أفراد الشعب الروسي المغمورين، وعضو الحزب الشيوعي، والمهندس السوفيتي في مكتب إدارة المستخدمين التابعة لوزارة الشئون التجارية الخارجية، وكان المشرف عليه هو الرفيق شتوب، وهو رجل بيروقراطي ضئيل الجسم غريب الشكل يلبس على عينيه منظارين سميكين، مؤدب في لقائه ولكنه لا يفرق قط بين أقدار الرجال الذين يتحرى عنهم، فكلهم لديه سواء، كل ما يهمه من عمله أن يثبت ما يصل إليه من المعلومات ويصنفها، أما ما بين حشراته من فروق دقيقة فيحددها ويفحص عنها غيره من الخبراء المختصين.
واستقصى الرفيق شتوب سيرتي من يوم مولدي، ثم انتقل منها إلى سيرة أبوي وجدي وإخوتي وأقاربي وأبناء أعمامي وفروع شجرة نسبي من أقاربي وأصهاري، ووضع كل طائفة منهم في مكانها الخاص، وتقصي تاريخ هؤلاء وأولئك تقصيا دقيقا، ثم أكمل الصورة التي رسمها لشخصي الضعيف وتاريخي الطويل بأسئلة عن أصدقائي ورفاقي في عملي خلال السنين الطوال التي قضيتها في العمل.
لقد اجتزت هذا الاختبار التاريخي الطويل عدة مرات فيما مضى من الأيام، وقد سجلت كل دقائق سيرتي في سجلات الحزب، وسجلات القوى المسلحة والهيئات السياسية العليا، وفي سجلات التطهير العادية وغير العادية، وهل ثمة حادثة من حوادث حياتي الماضية غفل عنها رجال القسم السياسي فلم يضعوها في مكانها من ملفاتهم الضخمة؟
لكن هذا كله لم يفد قط في تقصير المراسم الطويلة المعتادة، بله الاستغناء عنها، وسار الرفيق شتوب في عمله مفترضا أن هذه أول مرة تتعرف فيها الحكومة إلى أحد رعاياها، وبلغ منه أنه لم يسجل اسمي ولقبي وسني دون بحث ومراجعة، وأصبح لهذا العمل العجيب وهو الإمعان في الفحص عن المواطنين السوفيت، والتعمق في بحث أسرار حياتهم من حين إلى حين، والكشف عما خفي من أسرارهم وآرائهم السياسية؛ أصبح لهذا العمل العجيب في نفسه أهمية رمزية كسبها على مر السنين، لقد أضحى هذا العمل في حد ذاته من المراسم التي يراد بها إذلال الفرد للإعلاء من شأن المجموع، وإظهار الإنسان الخاضع المسكين الذليل الحقير أمام عظمة الدولة وأبهتها، وكان إخفاء أي سر عنها مهما يكن تافها ضئيلا يعد كفرا بالدولة وتدنيسا لقدسيتها.
وكان هذا الاستقصاء محفوفا بأعظم الأخطار، فالأجوبة لا بد أن تكون متناسقة متفقة بعضها مع بعض ومع ما أعطي منها في المرات السابقة، والدولة الشرطية لا تطيق تملصا من الإجابة ولا خلطا فيها، فإذا خانت المستجوب ذاكرته أو ناقض نفسه تناقضا أيا كان تافها صغيرا أثار ذلك أشد ضروب الارتياب والغضب، وكم من مواطن سوفيتي قضى على مستقبله اختلاف قليل في التواريخ، أو خلط في الأقارب ناشئ من ضعف في ذاكرته!
وبعد أن تأكد شتوب القصير النظر ذو المنظار الضخم أن فيرا خالة زوجة أخي - والتي لم تكن لي بها معرفة شخصية - ليست خطرا يهدد كيان اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، انتقل الرجل إلى النقطة الثانية من نقاط بحثه فقدم إلي طائفة من الأسئلة المكتوبة لآخذها معي في منزلي وأردها إليه مكتوبة الأجوبة في اليوم الثاني، وحذرني من أن أغير فيما أكتبه أو أرمجه أو أمحو شيئا منه؛ لأن هذا كله دليل على التردد، والتردد دليل على الإجرام، والباحثون شديدو الاهتمام بالدقة والأناقة واحترام الأصول المرعية.
وصدعت بما أمرت ولم أحد عنه قيد شعرة، وجئت بالصور المطلوبة من الإجابات ووضعتها حيث طلب إلي أن أضعها، وبعد بضعة أيام من وضعها تلقيت الرسالة التالية: «استمر في عملك الحالي، وإذا دعت الحاجة إلى إرسالك خارج البلاد فسنرسل في طلبك»، ومعنى هذا في لغة السوفيت ذات المعنيين أني أبحث الآن بحثا دقيقا، فإذا اجتزت هذا الاختبار فسأبحث مرة أخرى.
ومرت ثلاثة أشهر أو نحوها وكدت أفقد الأمل في المنصب الجديد، وظننت وأنا مكتئب حزين أن ولاة الأمور قد وجدوا نقطة سوداء في سيرتي أو في سيرة أحد أفراد أسرتي أفسدت علي أمري، ثم جئت إلى منزلي في إحدى ليالي شهر أبريل المطيرة بعد عمل مضن دام أربع عشرة ساعة، منهوك القوى من شدة التعب، فوجدت رسالة غريبة في انتظاري، وقد أمرت فيها أن أطلب رقما خاصا من أرقام التليفون، وكان ما في هذه الرسالة من غرابة متفقا كل الاتفاق مع مراسم الاستقصاء السالفة الذكر، فقد كانت هذه الطريقة تهيئ للإنسان بضع دقائق يخفق فيها قلبه ويتناوبه فيها الخوف والأمل، فقد يختلف معناها ما بين متاعب رجال الشرطة وبين الرقي إلى أعلى مناصب الدولة.
واتضح أن صاحب الرقم لم يكن إلا موظفا كبيرا من موظفي وزارة الشئون التجارية الخارجية، ولست أعرف أي فائدة عادت على مرسل هذه الرسالة من عدم ذكر اسمه فيها، وأكبر الظن أني لن أعرف هذه الفائدة في المستقبل، وأمرت أن أوافيه من فوري على الرغم من تأخر الوقت، وقيل لي: إن جوازا للمرور سيكون في انتظاري في إحدى النوافذ، وهرولت إلى وزارة الشئون التجارية الخارجية وقد أذهبت عني الخوف موجة الأمل الجديد، وبعد انتظار طويل اضطربت فيه أعصابي ألفيت نفسي في حجرة أخرى أتلقى طائفة من الأسئلة من موظف أكثر ذكاء وأعظم شأنا من شتوب، وإن كان فيما عدا هذا شبيها به من سائر الوجوه.
وظللنا ثلاث ساعات نضرب في بيداء ماضي، ونعرج بين الفينة والفينة على مزاجي السياسي وآرائي السياسية، تارة يقودني وتارة يطاردني، أو يحتال علي ببعض الأسئلة الماكرة لأزل فأكبو، أو يضللني فأفصح عما عسى أن أكون قد حاولت إخفاءه، أو يعود فجأة فيلقي علي سؤالا سأله من قبل لعله يأخذني على غرة.
والحق أن سائلي كان رجلا ماكرا واسع الحيلة كثير التجربة خبيرا بعمله، ولكنه كان في هذه المرة ينازل شخصا لا يقل عنه تجربة، ويمتاز عليه بشدة الحيطة والحذر، وما أعظم ما أفدته من الليالي التي تتلمذت فيها للأستاذين: جرشورن ودروجان وأمثالهما، وما أن وافت الساعة الثانية صباحا حتى كان السائل والمسئول قد أضناهما العمل حتى عجزا عن الاستمرار فيه، فانصرفت بعد أن طلب إلي أن أعود بعد بضعة أيام لملء استمارات خاصة.
وألفيت نفسي بعد بضعة أيام من ذلك الوقت أجيب بالكتابة عن طائفة من الأسئلة هي أكثر ما رأيت في حياتي كلها مداجاة ومواربة، لقد كانت هذه وثيقة ساخرة في فروضها، دقيقة محيرة في أسئلتها، إلى حد بدت معه جميع الاختبارات الماضية بريئة تافهة إذا قيست إليها، فهي وثيقة تبدأ بالافتراض أن كل مواطن روسي كاذب مخادع، ثم تمضي بروح الاحتقار لكل ما هو إنساني، فلم يحن وقت توقيعي إياها وكتابة رقم بطاقتي الحزبية فيها، حتى كان العرق يتصبب من جميع جسمي وحتى ذلت نفسي وهانت علي.
فلما فرغت من الأسئلة أمرت أن أخطو الخطوة الثانية في هذه الطقوس العجيبة، وهي أن أجمع كل ما أستطيع جمعه من الرسائل الدالة على شخصيتي وكفايتي ونشاطي في السياسة وفي الأعمال الصناعية والتجارية من جميع منظمات الحزب التي عملت فيها، والمشروعات الصناعية التي كنت أشتغل فيها أخيرا، نعم إن هذه المكاتب والمصانع لم يكن في وسعها أن تضيف شيئا إلى ما تحتويه سجلات القسم السياسي من تقارير جاءتها من مصادر رسمية ومن جواسيس غير رسميين، ولكن هذه الوثيقة المقدسة لم يكن من المستطاع التجاوز عنها، واستلزم هذا العمل الاتصال بطائفة كبيرة من الموظفين والهيئات الذين اختلفت معهم في يوم من الأيام، والذين كان في وسعهم أن يقضوا علي إذا ما سولت لهم أنفسهم ذلك.
وتقدمت أولا إلى الرفيق ميتوروف رئيس لجنة الحزب في مجلس وزراء الجمهورية الروسية الاتحادية السوفيتية الاشتراكية، واتفقت معه تليفونيا على موعد اللقاء، ووصلت إلى باب البناء الذي يعمل فيه في الموعد المحدد، وأطلعت الحراس على وثائقي الحزبية وجواز مروري الداخلي ففسحوا عنها، وأعطيت جوازا بالمرور واجتزت فناء، وصلت بعده إلى الدار التي تشغلها لجنة الحزب، وهنا فحص عن جواز سفري فحصا دقيقا، وضوهيت ملامح وجهي بالصورة الشمسية الملصقة على الوثائق الرسمية، ولما وصلت إلى الطابق الذي تشغله اللجنة التقيت بحارس من رجال القسم السياسي متجهم الوجه أخذ يدرس هو الآخر أوراقي وملامح وجهي دراسة أدق من كل ما عرفته من قبل، فلما فرغ من هذه الدراسة طلب إلي أن أذهب إلى الحجرة رقم 503.
لقد كنت قبل بضعة أشهر من هذا الوقت لا أكثر أشغل منصبا خطيرا في هذه الهيئة نفسها، ولقد رآني هؤلاء الحراس مئات المرات، ولكنهم لم يكن من حقهم أن يتراخوا قيد شعره عن الرقابة المفروضة، خشية أن أكون قد غيرت لوني السياسي منذ ذلك الوقت، ومررت في الدهليز الموصل إلى الحجرة برجال ونساء اشتغلوا معي وتحت رياستي، وقابلني عدد قليل منهم مقابلة ودية، ولكن معظمهم كانوا متحفظين أشد التحفظ في لقائي؛ ذلك أني لم أعد أعمل في مجلس الوزراء، وليس منهم من يعرف لم غادرت هذا المنصب، ولم يكن يسعهم حينئذ أن يعرضوا أنفسهم للخطر بالترحيب بي.
وجاملني الرفيق ميتوروف بعض المجاملة، ولكنه لم يتعد الواجبات الرسمية الشديدة، وكان كل ما أظهره من دلائل الود القديم أن سألني عن سبب ما يبدو علي من حيرة وشحوب، فصارحته بأني لا أجد كفايتي من الطعام مذ تركت منصبي في مجلس الوزراء، فتبسم ابتسامة الرضا عن هذا الاعتراف الضمني بأن «مجلسه» هو المكان الممتاز لأصحاب الجدارة من الزعماء، ووافقني على أن الحرب قد خلقت كثيرا من الصعاب في أمور التموين، ثم طلب إلي أن نتحدث في العمل الذي جئت من أجله.
وجاءت في خلال هذا الحديث امرأة ضئيلة الجسم تحمل صفحة كبيرة مثقلة بالخبز الأبيض الهش، ولحم الخنزير والبيض، واللحم المحفوظ والزبد والشاي المحلى بالسكر.
وقال وهو يلتهم الطعام: «كل هذا من أمريكا وهو من ثمار الإعارة والتأجير كما تعلم.»
ولكنه لم يدعني إلا الأكل معه على أساس الإعارة والتأجير، أو على غيره من الأسس، وواصل أسئلته بين الدبل،
1
فسألني هل أنا راض عن الحاضر كما سألني عن عمل لجنة الحزب في المصانع التي أشرف عليها، وما إلى ذلك من الأسئلة الفجة السمجة التي أراد بها مرة أخرى أن يستوثق من ولائي للحكومة ولزعيمنا المحبوب، ولم يكن الباعث له على عمله هذا عنايته بعمله أو اعتقاده أنني قد بلغ مني البله حدا يدفعني إلى الإفصاح عن بعض ما يساورني من الشكوك، بل كان يفعل هذا كله تنفيذا للخطط التقليدية المرسومة.
وقال لي آخر الأمر: «أتريد مني خطاب توصية؟ سأتحدث في هذا الأمر مع الرفيق أتكين؛ ذلك لأن من واجب الإنسان أن يفكر كثيرا في تلك الأمور، وعليك أن تمر علي غدا حوالي الظهر.»
وجئت في اليوم الثاني وحدث معي مثل ما حدث في أمسه من بحث متعدد في أوراقي، وانتظرت في حجرة الاستقبال كالعادة حتى أذن لي رسميا بالمثول في حضرة الرفيق ميرونوف، وحصلت على خطاب طيب يثني على مواهبي السياسية والمعملية وجرت الأمور على ما أشتهي، وحصلت في الأسابيع التالية على خطابات توصية أخرى من رئيس الإدارة العامة للمصانع التي كنت أعمل بها ومن أمين شعبة الحزب فيها، وقرئت هذه الوثائق مرارا وتكرارا، وبحثت ملامح وجهي وأعيد بحثها، وسبرت عقيدتي السياسية مئات المرات، ولم يكن خافيا علي أن وراء هذا البحث الظاهر كله عملا أبعد منه غورا يجري من ورائي وتبحث فيه تفاصيل حياتي وعقليتي على يد الإدارة المختصة التابعة لوزارة الداخلية.
وجاءني آخر الأمر الدليل القاطع على أني اجتزت الاختبار، فقد تلقيت الأمر بأن أقدم نفسي للعيادة الطبية التابعة لوزارة الشئون التجارية الخارجية، ليكشف علي طبيا، ثم أذهب بعدئذ لمصور هذه الوزارة لاستخراج صورة رسمية لوجهي، وبعد يومين من ذلك الوقت كلفت أن أقابل الرفيق لبدف وكيل الوزارة ومن أكبر أعوان الرفيق ميكويان نفسه.
وكان يحيط بلبدف مساعدان: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وكانا يكتبان مذكرات ويقدمان له أوراقا في أثناء زيارتي الأولى له، وكان يجلس خلف مكتب مزخرف قاتم لسبب لا أعلمه في وسطه حجرته الكبيرة بين الطنافس الشرقية ذات الألوان المتماوجة، وتطل عليه من جدران الحجرة صور ستالين ومولوتوف ومكويان وغيرهم من كبار الزعماء، ورأيت أمامه ملفا ضخما لم أكن أشك في أنه يحتوي صورا من أوراق الأسئلة التي يخطئها الحصر والتي وجهت إلي، ومن التقارير الخاصة التي أرسلت من مصادر خفية لا أعرفها.
وحياني لبدف التحية الرسمية ثم أخذ يوجه إلي الأسئلة من جديد، فسألني عن اسمي ومسقط رأسي وتاريخ انضمامي للحزب، ولم يكن ثمة شك في أنه ليس في وسعه أن يوجه إلي سؤالا لم أجب عنه عشرات المرات، ولكن وكلاء الوزارات أنفسهم لم يكن في مقدورهم أن يخرجوا على الخطط المقدسة المرسومة، وأجبته بجد وحماسة كأني قد راعتني جدة الأسئلة وأذهلتني دقة صياغتها، ثم انتظرت حتى قلب ملف الأوراق التي أمامه أو ألقى نظرة على فقرة في هذا المكان وأخرى في ذاك، وتبسم تارة وقطب وعبس تارة أخرى، ومساعداه في هذه الأثناء يجلسان في صمت ووقار لا ينبسان ببنت شفة، وكان يملي عليهما من حين إلى حين عبارات قصيرة ستكون من غير شك المحور الذي يدور عليه تقريره لرئيسه.
وكان لبدف رجلا ممتلئ الجسم، عريض المنكبين، ذا عنق ضخم له طيتان، حسن المعارف، لا يستنكف الإنسان أن يصف وجهه بالجمال، لطيفا إلى حد لا يتفق مطلقا مع عباراته وعاداته الرسمية الجافة، وأيقنت أن الرجل غير ذي فطنة عظيمة، وعجبت كيف وصل إلى هذا المنصب السامي، ثم وقع نظري على يديه، وأبصرت أصابعه الغليظة المكتنزة المكسوة بالشعر الكثيف، ولاح لي أن هاتين اليدين يدان قاسيتان قادرتان على أعمال العنف.
وقال آخر الأمر في جد ووقار: «هل تقدر يا رفيق كرافتشنكو التبعات الخطيرة الملقاة على من يعهد إليه عمل في خارج البلاد؟» - «نعم أقدرها، وقد فكرت في ذلك طويلا.» - «عليك أن تثبت أنك خليق بالثقة التي وضعها فيك الحزب.»
فأجبته في تواضع وحماسة: «سأحاول ذلك يا رفيق لبدف.» - «سنبلغك ما يستقر عليه الرأي، وأرجو أن نلتقي مرة أخرى قريبا!»
وبعد خمسة أيام من ذلك الوقت علمت من مصدر سري عن طريق صديق لي في وزارة الشئون التجارية الخارجية أن أنستاس إيفانوفتش ميكويان، عضو الهيئة السياسية العليا ونائب رئيس مجلس الوزراء، وعضو لجنة الدفاع عن الدولة، ووزير شئون التجارة الخارجية، قد وقع بيده خطابا إلى لجنة الحزب المركزية يوصي فيه بإرسالي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وظللت مع ذلك أصرف عملي في إدارة المصانع ولكن أفكاري اتجهت من ذلك الحين وجهة أخرى، وجاءتني بعد قليل رسالة من الإدارة السرية التابعة للمكتب الرئيسي في مواثقتنا تأمرني بأن أطلب رقما خاصا من أرقام التليفون، وتبين لي مرة أخرى أنه لم يكن ثمة ما يدعو إلى هذه السرية فقد ردت علي إحدى الموظفات في وزارة الشئون التجارية الخارجية وطلبت إلي أن أذهب إلى ذلك المكان في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم الثاني.
وقالت لي: «وليكن معك بطاقة الحزب وجواز المرور ودفتر النقابة والوثائق الحربية، وستذهب إلى مكان آخر في الساعة الثانية عشرة تماما.»
ونفذت هذه الأوامر حرفيا، وبعد أن أجاز مروري أربعة حراس أو خمسة، وقابلني موظف تابع للقسم السياسي أمرت أن أتجه إلى مكاتب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العام، وكان هذا هو «المكان الآخر» الذي تطلبت كرامته هذا التخفي الزائد وتلك الإجراءات الرسمية العقيمة، وأعطيت جواز المرور، وسرت إلى البناء الذي تشغله لجنة الحزب، وهناك بحثت أوراقي مرة أخرى ثم صعدت من فوري درجا واسعة من الرخام.
وكان على البسطة الأولى من الدرج تمثال لستالين، مصنوع من الرخام، قائم على قاعدة من الرخام أيضا، وكانت نظراته النابليونية في هذه العزلة مما يدعو إلى السخرية، وأطل علي من البسطة الثانية تمثال آخر لستالين لا يقل عن الأول عزلة وإثارة للسخرية، وانتظرت هنا لحظة أدخلت بعدها إلى حجرة مفروشة بالبسط، رأيت فيها ستالينا ثالثا، ولكنه في هذه المرة معلق على الحائط، وبقيت في صحبته حتى أقبل الموظف المختص، وما من شك في أن المثالين والمصورين السوفيت لا يعدمون المواقف المتعددة لصورهم وتماثيلهم، وجلس الموظف خلف مكتبه الكبير وأحدق في دقيقة كاملة ثم قال لي: «حدثني عن نفسك، وأرجوك ألا تعيد ما أعرفه عنك من إجاباتك المدونة في أوراقك، فإن الذي يهمني هو نظرتك إلى الحياة ومزاجك السياسي.»
وأخذت أتحدث وألقي أقوالي خبط عشواء، وأبحث في عقلي عن حقائق أو أفكار لم تقتل بحثا وتنقيبا في الأسئلة السابقة والأوراق المكتوبة، فقاطعني الرجل ووجه الحديث إلى الناحية المقصودة وسألني: «هل ارتبت يوما ما في حسن السياسية التي يسير عليها الحزب؟»
فأجبته من فوري: «لم يحدث هذا قط.» وذلك لأني لم أشأ أن أسبب لنفسي متاعب لا حاجة لي بها. - «حتى في أوقات تنظيم المزارع الجماعية وفي أوقات التطهير حين أصابك أنت بعض الأذى؟ ألم تشك أنت في سياسة الحزب العامة حتى في ذلك الوقت؟» - «لا، لم أشك قط في سياسة الحزب العامة.» - «ولكنك لاقيت بعض العنت في نيقوبول في عامي 1936م، 1937م فقد روقبت، وسئلت وما إلى ذلك، فماذا كان موقفك وقتئذ؟» - «لقد حيرني ذلك بطبيعة الحال، وغضبت غضبا ليس بالقليل، فقد كنت أعرف أني بريء وتألمت لذلك بعض الألم.» - «هذا مما لا يصعب فهمه، وليس في وسع إنسان أن يلومك على هذا، فقد كان ثمة شيء من التطرف والتغالي وقتئذ، ولقد استؤصل أعداء رجال الدولة المسئولين، وهل بقي لديك الآن يا رفيق كرافتشنكو شيء من ذينك الألم والغضب؟»
وابتسمت حين ألقي علي هذا السؤال غير المعقول، وأجبت من فوري: «كلا، لم يبق منهما شيء»، وحمدت وقتئذ لجرشجورن ودرجان وأمثالهما ما لحقني منهم من إذلال ومهانة.
ودامت هذه المهزلة الساخرة المحزنة ساعتين من الزمان، وما من شك في أن الأسئلة التي كانت توجه إلي في أثنائها هي الأسئلة الخطيرة المتعلقة بآرائي السياسية التي تحتمها المراسم الموضوعة، كأن ثمة مكانا للصراحة في الحياة السوفيتية، أو كأن في وسع رفيقين إذا التقيا لأول مرة أن يجرؤ أحدهما على أن يبوح إلى الآخر بأكثر من ألفاظ الرياء والخداع التي مرن عليها أهل البلاد! وكلما طال «الحديث» بيني وبين هذا الموظف، ازددت ثقة بنفسي وأظهرت ما أتقنته من مظاهر التصنع والمخادعة، وازددت رضا عن نفسي؛ لأني استطعت أن أتغلب على كل خططه المرسومة، وكنت في كل هذا الوقت أحيط بأطراف المنظر الذي أمامي وأقول لنفسي: «سأهرب! سأتحرر عما قليل من هذا الخداع الرهيب، وهذا الفزع الذي لا يطاق! وسيكون في وسعي أن أتحدث وأن أكافح.»
واتضح أن حديثي كان له أثر قوي في سائلي، وأكبر الظن أنه قد استقر رأيه على أن عقلي من الطراز المطلوب، وأنه خال من الشكوك غير المرغوب فيها، ومن الأفكار الشاذة المنفرة، ولعله اعتقد أني رجل ليس في عقله إلا قليل من الأفكار، ولكنها أفكار جديرة بالتقدير يمكن الاعتماد عليها وإن لم تكن من الأفكار النيرة، وشعرت حين ضغط على يدي بيده الثقيلة أنه راض عني. «طاب يومك، وأظنك ستعرف ما استقر عليه رأي اللجنة المركزية بعد أربعة أيام أو خمسة.»
وكان القرار في مصلحتي، فقد تلقت الإدارة العامة لمصانع الأنابيب المعدنية أمرا بإخلاء طرفي إجابة لطلب وزارة الشئون التجارية الخارجية، وعرضت نفسي في اليوم الثاني على الإدارة العامة لاستيراد المواد الغفل التابعة لوزارة التجارة الخارجية في بلاد الاتحاد جميعها، وأسلمتني هذه الإدارة مجلدات ضخمة من الأوراق السرية تحتوي على تقارير وأوامر لأقرأها وأدرسها كي أكون على علم بأعمال الإعارة والتأجير، وبأحوال الصناعة الأمريكية، وبجميع التفاصيل الخاصة بمصانع المعادن التي سأتصل بها وأتعامل معها في تلك البلاد.
ثم استدعيت مرة أخرى إلى المركز العام للجنة المركزية، وأعطيت في هذه المرة نشرتين سريتين، وأمرت أن أقرأهما من فوري بدقة وعناية ثم أعيدهما، وأوقع وثيقة أقر فيها بأني ملم بما يحتويانه، وترسم النشرتان قواعد السلوك التي يجب أن يسير عليها أعضاء الحزب في خارج البلاد، وتنصان بوجه خاص على ما يترتب على مخالفتها من جزاء، وستبقى خلاصة ما قرأت فيهما في عقلي أبد الدهر، ولن تمحى منه الصورة التي تتخيلها الحكومة السوفيتية لأحوال العالم غير السوفيتي.
واحتوت النشرتان أوامر مشددة، توجب طاعة الرؤساء في كل ما يأمرون به، ثم انتقلنا من ذلك إلى التحذير بما تتعرض له الحياة في البلاد الرأسمالية من إغراء وغواية وتضليل، ورسمتا صورة مخيفة ومغرية معا للحياة في تلك البلاد، فصورتاها حياة معادية منحطة داعرة، كل همها أن تحتال على المواطنين السوفيت وتحصل منهم على أسرار بلادهم، ولا غرض لحكومات تلك البلاد إلا أن تقضي على ما يكنه زائروها الشيوعيون من ولاء لحكومة بلادهم.
واحتوت النشرتان فوق هذا أوامر مشددة لمن يوشكون أن يندفعوا في تيار الرذائل السياسية، ويتصلوا برجال الأعمال الفاسقين والعاهرات الساحرات، تحذرهم من أن يتحدثوا إلى أولئك الكفرة من غير ضرورة في أي موضوع من الموضوعات، وألا يناقشوهم في الشئون السياسية بحال من الأحوال، فإذا ما تقدم إلينا بعضهم وعرضوا أن يبيعونا «وثائق» أو نحوها من الأسرار، وجب علينا أن نحيل هؤلاء العارضين إلى أقرب قنصلية سوفيتية، وإذا سألنا سائل عن الحياة في بلاد الاتحاد السوفيتي فلنعتقد أن هذا السائل المنقب إن هو إلا جاسوس في خدمة أعداء البلاد.
وتشدد علينا النشرتان بنوع خاص ألا نتصل بحال من الأحوال بالروس الفارين من البلاد، وألا نقرأ الكتابات «المعادية» لبلادنا، ويجب أن نبتعد كل البعد عن الكتابات التي يذيعها في خارج البلاد المهاجرون المعادون للثورة الروسية؛ ذلك أن الشياطين المعادين للسوفيت لا يخلو منهم مكان، يذيعون الخطب «المعادية» على متن الهواء، وينشرون الصور المعادية على الشاشة البيضاء، ومن واجبنا أن نفر من هؤلاء، وإلا ساءت حالنا وتزعزع إيماننا.
وتقول هذه القواعد المطبوعة: إن الرأسمالية نظام فاسد في حقيقته، ولكنه جذاب مغر في ظاهره، ومن أجل هذا فإن فضائلنا السوفيتية معرضة في كل آن للهجمات الشديدة، والواجب علينا إذن أن نصم آذاننا فلا نستمع لأقوال المترفين الرأسماليين، وليست خير الفنادق الرأسمالية إلا ما خورات مقنعة يكمن فيها الفساد الطليق في انتظار رجال السوفيت الأبرياء، ويجب علينا ونحن مسافرون إلى خارج البلاد أن نبتعد من فورنا عن منطقة الخطر إذا جاءت إلى غرفتنا أو قمرتنا امرأة جميلة، فإذا حاولت امرأة ولا سيما إذا كانت تتكلم الروسية أن تتحدث إلينا وجب علينا أن نفر منها لساعتنا.
وقيل عن الخمر: إنها تأتي في المرتبة الثانية بعد النساء من المغريات التي يتعرض لها المواطنون السوفيت في خارج بلادهم؛ ولذلك ينبغي لنا ألا ندخل حانة أو ناديا ليليا أو ما شابههما من أماكن الفساد حيث تقدم الخمور التي تحل عقدة اللسان، إلا إذا كان لا بد من دخولنا فيها لعمل معين وبإذن من الرؤساء الكبار، وإذا ما اضطر المبعوث السوفيتي الصالح إلى حضور مأدبة خاصة أو عامة وجب عليه أن يكون شديد الحذر حتى لا يبوح بسر من الأسرار.
ترى ما هي تلك الأسرار الرهيبة التي يجب علينا أن نحتفظ بها في حنايا صدورنا، والتي ينصب العالم الخارجي شباكه لاصطيادها منا؟ إن القواعد المكتوبة لا تذكر شيئا منها، ولكن جواب هذا السؤال بدا واضحا كل الوضوح، إن أخوف ما يخافه سادة الكرملن أن يصدر منا ما يؤيد «الدعاوة المعادية للسوفيت»، والتي ينشرها أعداء البلاد من الكتاب والخطباء والناشرين، أما «الأسرار» التي تشير إليها القواعد التي طلب إلي قراءتها فهي الحقائق المتصلة بمعسكرات الاعتقال والسخرة، والظلم العام الشامل، والفساد الخلقي المنتشر في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، وكل ما من شأنه أن يشوه الصورة التي تصورها الدعاوة السوفيتية، والحق أن هاتين النشرتين لتعدان شهادة من الحكام السوفيت أنفسهم على ما ينطوي عليه حكمهم من فساد.
وهما فضلا عن هذا تتهمان الحكومات الأجنبية بكل أساليب الخداع التي يلجأ إليها القسم السياسي وغيره من الهيئات السوفيتية في معاملتها للأجانب الوافدين إلى البلاد، فهما تنذراننا بأن أمتعتنا ستفتش في أمريكا، وأن جوازات سفرنا ستسرق منا ليستعان بها على التجسس علينا، وأن محادثاتنا التليفونية سيستمع لها، وأن النساء الفاتنات سيدسسن علينا ويمكرن بنا، ولا تخفي هذه القواعد أننا في أمريكا سنقيم في بلاد معادية لنا وإن تظاهرت تلك البلاد بأنها صديقة، فإذا لم نكن شديدي الحذر في كل خطوة نخطوها، فسنغرق إلى آذاننا في الأوحال الرأسمالية التي ينبت فيها الطمع والترف والحقد على الوطن الاشتراكي.
وبعد أن قررت بأني فهمت كل ما حوته النشرتان من إنذار وتحذير كان علي أن أصدع رأسي بالاستماع إلى خطبة أخرى يلقيها علي موظف آخر من موظفي اللجنة المركزية في مكتبه الفسيح، وكان الرجل صارما أشد الصرامة في لهجته: «يا رفيق كرافتشنكو، ستعهد إليك بعد قليل مهمة في بلاد أجنبية، وستصرف أمورنا التجارية في جو غير جو بلادنا، بين الرأسماليين الذين نحتقرهم بحق ولا نثق بهم، ونحن واثقون من أنك لن يخدعك ما تراه من كثرة البضائع التي يستهلكها الأمريكيون، ومن مغريات ذلك المجتمع الذي بلغ المرحلة الأخيرة من مراحل الانحلال، ولا تنس قط رسالتك التاريخية وهي أنك تمثل الحضارة السوفيتية الجديدة.
نعم، إن أمريكا تمد لنا الآن يد المعونة، ولكننا يجب ألا ننسى قط أنها تقدم لنا هذه المعونة وهي مرغمة، تضطرها إليها حاجتها الملحة، ولسنا ننكر أن بعض أهدافنا الحربية تتفق في هذه اللحظة مع أهدافها، ولكن عالمنا وعالم الأمريكيين سيظلان مختلفين لا يمكن التوفيق بينهما بحال، وعليك أن تستمسك بعقيدتك الثابتة وهي أن مبادئك الشيوعية تحتم عليك أن تكون العدو الألد للمجتمع الرأسمالي الذي يتركز الآن في أمريكا، وأن الشيوعية والرأسمالية عدوان لا يتفقان!»
وبدلت ملامح وجهي ونظراتي لكي توائم هذا الظرف الخطير، لقد كان من أسخف الأشياء أن يلقي هذا الدرس البدائي على رجل من رجال الحزب المضرسين، ولكنه إنما كان يفعل هذا اتباعا للمراسم المقررة والخطط الموضوعة ، فهو واجبه الذي يؤجر عليه، وما من شك في أنه ألقى هذه الخطبة نفسها على غيري من الناس في ذلك اليوم. «وستظل بعد وصولك إلى أمريكا عاملا نشيطا تقوم بما يجب عليك للحزب الذي تنتمي إليه، ولكن لا تنس أنك في علاقاتك بولاة الأمور الأمريكيين لم تكن ولن تكون في يوم من الأيام عضوا في ذلك الحزب، بل يجب أن تصر في كل مناسبة على أنك لا تهتم قط بالأمور السياسية، واعلم أن الهيئات التابعة للحزب الشيوعي السوفيتي تعمل في الخفاء، ولن يسمح لك بأخذ بطاقتك الحزبية معك إلى أمريكا، ولكن الرجال المختصين في تلك البلاد سيعلمون أنك من أعضاء الحزب، أما فيما عدا دوائر الحزب فلن تكون إلا مهندسا فحسب، فهل تفهم هذا حق الفهم؟» - «نعم، أفهمه.»
وعدت في اليوم الثاني آخر يوم من شهر يونيو إلى مركز القيادة العامة للحزب بعد أن «طهرت ثم طهرت» كما يقول الروس، وكان ينتظرني في ذلك اليوم موظف آخر أعظم خطرا وأشد إرهابا من الموظف السابق، وكان يجلس إلى جانبه رجلان آخران: أحدهما من رجال الشرطة بلا شك، وكان الموظف رجلا ممتلئ الجسم يرتدي حلة أجنبية أنيقة، وعلى معصمه ساعة من طراز أجنبي، وفي جيب سترته قلم من أقلام الحبر الأجنبية، يشهد بأنه قد عاد حديثا من مجاهل البلاد الرأسمالية، ولعله قد عاد من لندن أو واشنجتن.
وخاطبني وهو مقطب الوجه: «لقد وافقت اللجنة المركزية على تعيينك يا رفيق كرافتشنكو في الولايات المتحدة الأمريكية، فهل تدرك كل المعاني التي ينطوي عليها ما وضعته فيك من الثقة؟»
فأجبته: «نعم أدركها.» - «وهل قرأت التعليمات؟ وهل تعرف ما يترتب على أخطائك أو سوء سلوكك من عواقب؟» - «نعم، أعرف ذلك ولا أنساه.» - «إن خير ما يقيك الخطأ هو اليقظة البلشفية والولاء التام لحزبنا المحبوب والإخلاص القلبي له.» - «إني أدرك ذلك كله بطبيعة الحال.» - «إنك مسافر إلى بلد بلغت فيه الرأسمالية أوجها، ووصلت أقصى حد من الاعتداء على الأموال والأرزاق، ونظام التجسس فيها دقيق لا يفلت منه إنسان، وقد يعرض عليك أن تخون بلادك، ولن يترك الرأسماليون الأمريكيون ولا المهاجرون الروس وسيلة لإغرائك والإيقاع بك إلا اتبعوها، وستحاول الصحف الرأسمالية المعادية للثورة وبخاصة صحف هرست ومك كومك بكل ما لديها من وسائل أن تزعزع عقائدك.
وحذار أن تثق بمن يدعون أنهم أصدقاء بلادنا، بل ثق أن معظم هؤلاء أشد خطرا من الأعداء الظاهرين، ولقد أصبح من عادة بعض المهاجرين في هذه الأيام الأخيرة أن يتذللوا ويخروا سجدا لنا، وليس هؤلاء من اليساريين وحدهم بل إن منهم طائفة كبيرة من الملكيين، فلا تثق بهم، واعلم أن الذي يغير مبادئه مرة لن يثبت قط على مبدأ، وإن هذا يصدق أيضا على أصحاب المصارف ودور الصناعة وغيرهم من الرأسماليين الذين يسايرون الآن التيار الحديث، تيار الإعجاب باتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، ولكن إعجابهم هذا لا يساوي شروى نقير، وقد يتبدل إلى خيانة سافرة بين عشية وضحاها.»
ونطقت بكلمات قصيرة دالة على أني أفهم ما يقول وأوافق عليه، وكنت في أثناء ذلك أفكر متى تنتهي هذه المهزلة، ولكن الخطبة لم تكن قد وصلت بعد إلى نهايتها؛ ذلك أن الخطيب بعد أن فرغ من الكلام على أعداء الحكومة من الجواسيس والمهاجرين والمذبذبين والمرائين الرأسماليين، أخذ يتحدث عن الأخطار البالغة الأهمية له هو، فشرع يحذرني في صوت ثائر متهدج عن أحابيل الرأسماليين، من أضواء براقة ونواد ليلية ونساء لينات المغمز غير محصنات. «وتلك كلها أدلة على ما يدب في حياة البلاد الرأسمالية من فساد وانحلال يا رفيق كرافتشنكو، ولكنها رغم ذلك من أشد أنواع الإغراء.» ثم أبرقت عيناه وعلا صوته وقال: «إني أعرف أن صنائع الرأسمالية سيحاولون أن يصلوا إليك بكل ما لديهم من وسائل.»
وما كدت أفرغ من هذا حتى تسلمني خطيب ثالث، واتضح لي من خطبته أن إدارته أكثر صلة بالفن، وأنها تهتم بما علي من التزامات، وما أمامي من فرص بوصفي مهندسا أكثر مما تهتم بما أتعرض له من أخطار بوصفي فردا من أفراد الناس، وقال لي إن من أهم ما يجب علي أن أجمع كل ما يعترضني من المعلومات ذات الصبغة الاقتصادية والحربية إن أمكنني هذا، وأن أتدرب على ملاحظة التفاصيل الفنية، ونظام المصانع في كل بلدة أزورها، ووسائل الإنتاج وما يدخل على الآلات من تجديد وتعديل، وجميع الأساليب الفنية الصناعية وكل ما لا علم لنا به. - «وستكون أنت عيوننا المبصرة، وآذاننا المصغية في أمريكا، فإذا وصلت إليها فأرسل تقريرا إلى الرفيق سيرف وأعطه الإيصال الذي يعطى لك حين ترد بطاقة الحزب التي لديك، فهو يعرف كل شيء عنك، أتفهم ما أقول؟» - «هذا واضح كل الوضوح.» - «بقي شيء واحد أقوله لك: لا تذع أنك مسافر إلى خارج البلاد، ولا تفض بهذا النبأ إلا للأصدقاء الذين تثق بهم من الناحية السياسية.»
ولم أكن أعرف وقتئذ لم يكون إرسال مندوب للمشتريات من الأمور السرية، ولكني بطبيعة الحال لم أتطفل بشيء من الأسئلة، وقبل أن أغادر المكان أسلمت بطاقتي وأخذت بها إيصالا، وشعرت بعد ذلك كأني من غير أهل البلاد أو كأني قد جرت من ثيابي، ولقد بدا لي في يوم من الأيام أن حقي في الحصول على بطاقة الحزب حلم لذيذ، أما الآن فقد أسلمتها دون أسف أو ندم، فقد أصبحت لا أتأثر مطلقا بالرموز السياسية، وذهبت من فوري إلى وزارة الحربية وهناك أخذت مني أوراقي العسكرية وأعفيت من جميع الالتزامات الحربية، وأعطتني وزارة التجارة الخارجية مبلغا كبيرا من العملية السوفيتية وأذونا تبيح لي شراء ما أحتاجه من الملابس في العالم الرأسمالي المنحل الفاسد، وأعطيت فوق ذلك شيئا من العملة الأمريكية تكفي لوصولي إلى واشنجتن.
وبعد أن فرغت من هذه الأمور التمهيدية ذهبت مرة أخرى إلى الرفيق لبدف، والتقيت عنده بعدة أشخاص يستعدون هم أيضا للسفر إلى أمريكا، وكلهم من أعضاء الحزب، والآن وقد اجتزنا كل الحواجز، وسرت في نفوسنا كل المواعظ، رأينا لبدف يبتسم لنا ويبش في وجوهنا.
وقال لنا: «لن أطيل عليكم الحديث أيها الرفاق، إنكم جميعا من الملمين بالشئون السياسية فاسمحوا لي أن أضرب لكم مثلا صغيرا.»
وأخذ الرجل يقص علينا وهو بادي الانشراح قصة طويلة عن مبعوث سوفيتي أرسل إلى مهمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه لم يؤت من الحذر والحيطة مثل ما يرجو هو أن نؤتى كلنا، وكان من سوء حظ هذا الرجل أن سمح لصنائع الأمريكيين أن يؤثروا فيه، على أنه لحسن الحظ كان له من العقل ما جعله يفضي بأسراره إلى القنصلية السوفيتية، وبذلك نجا من الخطر في الوقت المناسب.
وهززنا جميعا رءوسنا دلالة على أننا نفهم ما يرمي إليه، وأننا سنتقي خطر ما تنصبه لنا الشرطة الأمريكية السرية من شراك. «بقيت كلمة تحذير واحدة أقولها لكم قبل أن أنتهي من حديثي معكم أيها الرفاق: إن منكم من سيسافرون بغير أزواجهم، وستجدون في أمريكا الطعام والشراب موفورين، وأنتم تعرفون أن ذلك رخاء الحرب الزائف، وسيعقبه الكساد في القريب العاجل كما حدث من قبل، وأنتم تعلمون ما يطلبه جواد السباق بعد أن يملأ معدته بالطعام، ثم أشار بعينه إشارة ماكرة وضحكنا كلنا ضحكة الخضوع والامتثال، وإن كان الكثيرون منا قد أدركوا ما في عباراته من سخرية واستهزاء.
حسن، لقد أدركتم ما أرمي إليه، إنه يبدأ في الصهيل ... فاحذروا من سيقان البنات الأمريكيات.» وهز أصبعه هزة التحذير، ثم واصل حديثه قائلا: «فإذا تورطتم في الاتصال بنساء الرأسماليين، فاذكروا أني حذرتكم منهن.»
ثم استبدل بلهجة المزاح لهجة التهديد الشديد، وقال: إن أمريكا ليست إلا حليفا مؤقتا، وإن علينا أن نصطنع في معاملتها أشد الفطنة والحذر، وستنتهي هذه الصداقة القصيرة الزائفة في يوم من الأيام، وتعود الحقائق سيرتها الأولى: «فلا تتركوا فيها شيئا إلا عرفتموه، ولاحظوا كل ما في وسعكم أن تلاحظوه، ولا تعطوهم في نظير ذلك شيئا.»
وعدت إلى منزلي أحمل معي كتابي الأحمر الصغير وهو جواز السفر السوفيتي إلى خارج البلاد، وقد شاءت الظروف أن يكون هذا الجواز أثمن قطعة من الورق تتجه إليها مطامعي، وظللت طوال الوقت أتحسسه بيدي لأتأكد من أنه حقيقة واقعة وليس سرابا بقيعة، ولما وصلت المنزل وجدت إيرينا في انتظاري، وأدركت لساعتها من منظري أن كل شيء قد انتهى على خير حال، وتبينت أنها تحاول أن تغالب الدموع التي توشك أن تنحدر من عينيها، وكانت تجهل كل الجهل ذلك السر الرهيب الذي أكنه في صدري، فقد كنت أوقن أن خير ما أقدمه لها من رعاية وأن خير ما أستطيع أن أجزيها به عن حبها لي هو ألا أبوح لها بشيء عما أنتويه، وأن تبقى جاهلة هذا السر كل الجهل.
وقلت لها وقد غصصت بريقي: «إنها مهمة قصيرة الأجل لن تستغرق أكثر من أشهر قليلة، وإنها مهما طالت لن تدوم أكثر من سنة واحدة.»
وكنت أحس في أعماق قلبي أني قد لا أرى بلدي وأهل وطني، فكنت في الأيام التي قضيتها قبل سفري أنظر إليهم نظرة فيها كثير من الحنين المنذر بالشر المستطير، وحاولت جهدي أن أثبت صورتهم في أعماق عقلي.
وكان لي بطبيعة الحال عشرات من الأصدقاء أحب أن أراهم قبل أن أغادر البلاد، ولكن الستار الكثيف الذي ألقي على رحلتي جعل رؤيتي إياهم مستحيلة، على أنني رغم هذا خاطرت بنفسي فزرت الرفيق ميشا وغيره من الأصدقاء القريبين مني لأودعهم، وحاولت أن أجعل وداعي إياهم وداعا عاديا ليس من ورائه شيء، حتى لا تحدثهم أنفسهم بشيء مما اعتزمته؛ ولذلك فإنهم ذهلوا حين أطلعتهم على جواز سفري؛ ذلك أن الخروج من البلاد والتحرر - ولو إلى فترة قصير - من «الحياة السعيدة» التي نحياها في ظل ستالين كانا أصعب منالا من مناط النجم، ومن ثم كانا أعظم ما يطمح إليه الإنسان.
وكان أحد هؤلاء الأصدقاء الأوفياء الذين زرتهم، والذين أطلعتهم على معجزتي الصغيرة الحمراء، إخصائيا في علم الكيمياء، ويشغل وقتئذ منصبا كبيرا في الحكومة، وكان ممن اضطهدوا في حركة التطهير الكبرى ثم «رد إليه اعتباره» وارتقى رقيا سريعا في المناصب الحكومية رغم «اعترافه» بالاشتراك في مؤامرات التخريب التي أدت إلى محاكمات موسكو الدموية، وبلغ من أمره أن أصبح صدره تلمع عليه الأوسمة التي منحها لخدماته الحربية الممتازة.
وهز الرجل يدي بقوة وبدا لي أنه يحسدني على حسن حظي، وظلت يدي مدة طويلة في قبضته.
وقال لي: «أهنيك يا فيتيا! إن الذي نلته لم ينله واحد في كل مائة ألف! ولولا زوجي وأطفالي لانتحلت لنفسي عذرا أسافر به إلى خارج البلاد ... إنك سترى العالم الخارجي الغريب، وهو عالم قلما يسمح لنا بأن نعرف عنه شيئا.»
وصمت قليلا وقطب حاجبيه كأنه يريد أن يعقد النية على شيء ثم قال في حركة عصبية: «هيا بنا نركب عربة إلى مسكني؛ لأجتمع بك قليلا قبل سفرك؛ لأني أحس برغبتي الشديدة في التحدث إليك.»
وتحدث الرجل إلي فعلا، ترى هل شجع الرجل خروجي القريب إلى بلاد بعيدة على أن يفضي إلي بما أفضى به؟ أو هل أضحى عاجزا عن أن يكبت في صدره أفكاره الناهكة المضنية؟ ومهما يكن من ذلك الأمر فقد أفضى إلي في عصر ذلك اليوم بأشياء لا يجهر بها في بلادنا رجل أوتي ذرة من العقل قال: «يظن أولئك البلهاء يا فيتيا أنهم قد اشتروني بهذه الأوسمة اللامعة، لا يا فيتيا إنهم مخطئون في ظنهم هذا، نعم إني أبذل ما أستطيع من جهد للانتصار على الألمان لأني روسي صميم، ولكني لم أنس سنة العذاب الماضية، ولكن أعفو عمن عذبوني، إنني أرقى في مناصب الدولة؛ لأنهم في حاجة إلى الأكفاء من الرجال، ومن أجل ذلك تراهم يعترفون بكفايتي، رغم أني كنت في يوم من الأيام من نزلاء السجون، ومن يدري فقد أرقى في يوم من الأيام إلى أعلى مناصب الدولة فأصبح وزيرا، وليس هذا بالأمر المستحيل.
ولكني لم أنس قط شيئا، لم أنس شيئا قط! بل أذكر كل دقيقة قضيتها معذبا مهانا، وأحتفظ بهذه الذكرى ليوم الانتقام، لقد أذاقوني مر العذاب شهورا طوالا قبل أن ينتزعوا مني توقيعي على ذلك الاعتراف الكاذب، لقد أبقوني فترات طويلة سجينا بمفردي في تلك الأقبية المظلمة الرطبة تشاركني فيها الجرذان الكبار، فهل تعرف يا صديقي كيف كانوا يعذبونني؟ استمع إلى ما سأحدثك عنه.»
فرجوته ألا ينطق بشيء وقلت له: «لا، يا جرجري لا تقل لي شيئا، فحسبي ما سمعته من غيرك، وماذا تفيد من فتح جراحك القديمة؟» - «إنها جراح متنسرة يا فيتيا، ولقد منعتها أن تلتئم، وأنا أصحو من نومي وعلى شفتي لعنة أبعث بها إلى أولئك القوم، وأذهب إلى فراشي في كل ليلة وعلى شفتي تلك اللعنة، استمع إلي، أفض إليك بما لم أفض به إلى مخلوق سواك؛ إذ ليس في مقدوري بعد الآن أن أحبس في صدري ما مر بي من أهوال.
لقد سمعت عن طريقة التعذيب بالضوء، أما أنا فقد عذبت بهذه الطريقة، فهم يجلسونك في وسط حجرة فيها مصابيح كهربائية قوية، يسلطونها على عينيك ولا يسمحون لك أن تنام، فإذا شرعت تغفو أو تغمض عينيك أيقظك الحراس بضرباتهم، وجلست أنا هذه الجلسة اثنتين وسبعين ساعة كاملة بلا نوم ولا طعام ولا شراب، وجشأت في أثنائها نفسي، واحترقت حدقتا عيني كأنهما قطعتان من فحم ملتهب، وفي آخر هذا العذاب سلط علي شخص قوي الجسم مفتول العضلات يواصل تعذيبي ويحقق معي.
آه، ما أعظم مهارة هؤلاء الوحوش الاشتراكيين! إنهم يعرفون كيف ينتزعون منك الاعترافات الاختيارية، ولا يخالجني شك في أننا قد بلغنا الغاية في أساليب التعذيب، وأن الجستابو (شرطة هتلر السرية) لا تستطيع أن تعلمنا منها شيئا، فهم يسلطون على ضحاياهم أساليب مختلفة من الجوع والعطش والحر والبرد، يتقنها من يقومون بها من أمثال بدروسكي أعظم إتقان، ولقد شاهدت في سجوننا أحد الموظفين يهيئ ضحاياه للتحقيق بالطريقة الآتية: قدم لهم أول الأمر طعام كثير الملح كالرنجة، ومنع عنهم الماء، حتى إذا حان موعد سؤالهم كادت تذهب عقولهم من شدة الظمأ، وأخذ وهو يسألهم يتجرع جرعات طويلة من الماء البارد أو البيرة والسجين المعذب يتطلع إليه.
وأنا أعرف أنباء كثير من الاعترافات انتزعت من أصحابها بعد أن علقوا من معاصمهم أربعا وعشرين ساعة كاملة، وأعرف عدة حالات اقتلع فيها شعر الضحايا من جذوره مع قطع من جلد رءوسهم، آه ما أعظم مهارة هؤلاء السادة المعذبين! فهم يعرفون متى يسلطون علينا الآلام الشديدة ، ومتى يلجئون إلى أنواع التعذيب البطيء المحطم للأعصاب؟
ولقد ضربوني أيضا، ولم يضربوني مرة واحدة بل مئات المرات، ثم كان ذلك الفزع الأكبر والعذاب الأليم الذي لم أفض به لأحد غير زوجتي، فقد كان لا بد لها أن تعرفه، لقد أدخلوني ذات مساء في حجرة التعذيب، وأخذوا يضربونني بقطائل طويلة مبتلة، وكان ثلاثة رجال يتناوبون هذا الضرب، وبدءوا عملهم بأن انتزعوا ملابسي حتى أصبحت كما ولدتني أمي، ثم أخذوا يضربونني على وجهي وفوق كليتي، ثم ألقوني على المنضدة، وأمسكني اثنان من الجزارين، وأخذ ثالثهم يضربني بالقطائل المبتلة وبكل ما أوتي من قوة بين فخذي ... على عورتي.
تصور أقصى ما تستطيع أن تتصوره من الألم ، ثم ضاعف هذا ألف ألف مرة تكن لديك صورة قريبة مما قاسيته من العذاب وقتئذ، إن أولئك الوحوش قوم مرضى قد خرجوا عن آدميتهم وأصبحوا وحوشا ضارية.»
فهمست قائلا: «كفى يا جرجري، حسبك ما قلت.» - «وغشي علي، وقضيت في غشيتي عدة أيام، فلما أفقت وجدت نفسي في مستشفى السجن، وأدركت أني أصبحت لا أهتم بشيء في هذا العالم، وعجبت كيف سولت لي نفسي أن أقاومهم هذه المقاومة كلها، وأخذت ألعن نفسي أشد اللعنات لأني كنت رجلا أبله، أقيم وزنا للمبادئ والأخلاق، فأمضيت كل ما طلبوا إلي أن أمضيه من غير أن أقرأه أو أبالي بما عسى أن تكون عاقبته، ولما أطلقوا سراحي ألفيت أن لا نفع في لزوجتي.
ويظن أولئك الحمقى أنهم عوضوني عن هذا كله بما منحوني من ألقاب وأوسمة، ويخيل إليهم أني نسيت، والحق أني كلما علا قدري في خدمتهم، وكلما ازددت قربا من الكرملن، اشتد كرهي لهم وحقدي عليهم وتعطشي للانتقام منهم.»
وسأضطر في الأشهر التالية في أثناء مقامي في أمريكا إلى الاستماع إلى كثير من الأقوال عن «الحضارة الجديدة» في روسيا السوفيتية، وعن «اشتراكيتنا» و«ديمقراطيتنا الاقتصادية»، وأعود بذاكرتي في بعض الأحيان - وأنا أستمع إلى هذه الأقوال - إلى ما فعلوه بجرجري، فتجشأ نفسي وينتابني نوع من الدوار، فأحول أفكاري من فوري إلى شيء آخر، شيء يدخل على نفسي بعض السرور حتى يزول عني دواري.
والتقيت في موسكو في تلك الأيام الأخيرة من مقامي فيها برجل آخر، ولا يزال هذا اللقاء القريب منقوشا في ذاكرتي، ويؤسفني أني لا أستطيع أن أبوح باسم هذا الرجل، وحسبي تعريفا به أن أقول: إنه من كبار الشيوعيين وأوسعهم نفوذا وأقواهم صلة بالهيئة الحاكمة في البلاد، وإني قد عرضت حياتي للخطر في يوم من الأيام لأنقذ حياته، وإنه لم ينس لي هذا الصنيع، وظننت أنه يحسن بي ألا أذهب لوداعه، ولكن يلوح أنه علم بأني أوشك أن أغادر البلاد فطلب هو إلي أن يراني، واتفقنا على أن نلتقي لقاء يظنه غيرنا قد جاء مصادفة، في المتنزه الصغير المقابل لمسرح بلشوا في ميدان تيترالني.
وما كدنا نجلس على دكة في المتنزه حتى بادرني بقوله: «وهكذا تم لك الأمر وستغادر البلاد فعلا؟ أهنيك! أهنيك من أعماق قلبي.»
وقلت له: «لقد كنت أظن أن من الخير ألا أزورك مودعا! ولست أشك في أنك تعرف السبب.» - «ولكني أحسست أن من واجبي أن أتحدث إليك يا فكتور أندريفتش، وأنا أعرف رأيك في الأحوال المحيطة بنا، نعم، إنك لم تفض إلي بشيء منها ولكني مع ذلك لا أجهلها، وهذا هو الذي بعث في الرغبة في أن أزورك ناصحا ومحذرا، فنحن في هذه البلاد نمسك لساننا فلا ننطق بشيء، أما في خارجها فأنت معرض لخطر الإفصاح عن شعورك؛ ذلك أن الحرية تفتن الإنسان وتسلبه عقله فإذا خرجت من هذه البلاد فستحس بأنك أصبحت آمنا فتكبو من حيث لا تدري، فإذا فعلت فستدعى فجأة إلى العودة بحجة طلية لا غبار عليها في ظاهر الأمر، لتستشار في أمر من الأمور مثلا، فإذا جئت فلن تعود بعدها أبدا.
ورجائي إليك ألا تتأثر بالوسط الجديد فتركن إلى السلامة الكاذبة الزائفة، ولا تنس أنك سيحيط بك عيون ومخبرون أكثر ممن يحيطون بك في هذه البلاد، فإذا استمسكت بهذه النصيحة وحدها فستخرج من هذه التجربة سالما من الخطر، واعلم أن نظامنا كله إنما يقوم على التجسس والتحرش، وهذا النظام لا يتبع في داخل البلاد فحسب، بل إنه في خارجها أشد وأدق منه في داخلها، وهو في كل يوم يزداد دقة وإتقانا؛ ذلك أن سادتنا يعلمون حق العلم أننا نخفي مشاعرنا ونحيطها بستار كثيف، كما تخفي الحلازين أجسامها في أصدافها، وهم يريدون أن يسبروا أعماقنا ليعرفوا مخبآت صدورنا.
إن من بين كل خمسة رجال ممن يعملون هنا في مكاتب الحكومة جاسوسا يعمل لحساب إحدى هيئات التجسس القائمة في البلاد، أما في البلاد التي ستذهب إليها فإنهم يكادون يبلغون واحدا في كل ثلاثة، وليسوا كلهم روسا فإن لدينا كثيرين من الأمريكيين المأجورين لنا يعملون لحسابنا، هذا فضلا عن المتطوعين الذين يعملون من غير أجر خدمة لقضيتنا، وهؤلاء جميعا سيلقون عليك أسئلة بريئة، وستستثار حتى تتكلم وتشكو، وسيعلق من يعملون لحسابنا على ما يقرءون في الصحف وما يسمعون في المذياع، ولا غرض لهم من هذا إلا أن يستدرجوك من حيث لا تعلم، فينطقوك بما تخفيه في نفسك.» - «أعتقد يا صديقي أني أعرف دقائق هذا النظام، وسأحتاط أشد الحيطة من أن أقع في شراكه، وأنا شاكر لك فضلك ...» - «وستجد يا فكتور أندريفتش من حولك أناسا ينقبون عن كل ما يتصل بك، وسيحيط بك كثيرون يخافونك ويظنون أنك قد تكون أنت نفسك عينا عليهم، تلك هي الخطة الشيطانية في نظامنا المحكم، وهي خطة تقضي بألا يثق الواحد منا بأخيه، وأنا أعرف أنك قد ضقت ذرعا بهذا كله، فإذا شئت ألا يقضى عليك فليس يكفيك أن تفهم نصحي وتحذيري، بل يجب أن تشعر به وأن يتغلغل في أعماق نفسك.»
وافترقنا وكنت كلما فكرت فيه في أيامي المستقبلة عاد إلى مخيلتي على الدوام منظرنا الغريب على دكة المتنزه، وتذكرته وهو يعني بشد حافة قبعته ليخفي بها وجهه، وكيف كان يحاول تغطية أكبر جزء من رأسه بطوق سترته حتى لا يتعرف عليه إنسان، ويقيني أن هذا الرجل من الرجال الأفذاذ بل إنه يكاد يكون معجزة من المعجزات، فهو من الروس المهذبين الوطنيين الذين لم ينجوا من أهوال التطهير فحسب، بل إنه يجلس باسما عاملا قديرا بين أرباب الكرملن.
ولم يأت لوداعي يوم سفري من محطة قازان إلا أرينا وحدها، وأخذت أواسيها وأقوي قلبها، ولكنني في أعماق نفسي كنت حزينا مكتئبا يكاد يفيض الدمع من عيني، فقد كنت أعرف ما لم تعرفه هي، بل ما لم تكن تستطيع أن تحرزه، وهو أن لقاءنا هذا قد يكون هو اللقاء الأخير، ولشد ما أكسف هذا العلم بالي وأضرم قلبي، ولكن ماذا عساي أن أقول لها؟ لا شيء، لقد كان الخير كل الخير في ألا تعرف شيئا، وأن تظل جاهلة ما اعتزمته كل الجهالة؛ ذلك أنه لم يكن ثمة شيء تسر له في سفري إلى أمريكا، بل كل ما فيه آلام مبرحة وأحزان شاملة يعجز عن وصفها البيان، ولست أنا الملوم لأني غادرت وطني وأهلي، بل الملوم هو ذلك النظام الوحشي الفاسد، إذ لم يكن أمامي سبيل أسلكها لأحسن بها إلى بني وطني المعذبين إلا أن أفر من بينهم، ثم أحاول بعد فراري أن أطلع العالم على كل ما أعرفه بخير ما أستطيع من الوسائل، تلك هي التبعة التي يلقيها علي واجبي نحو مواطني الروس، وتلك هي الغاية المنطقية التي لا بد أن تنتهي إليها حياتي كلها.
وكان في جزء العربة الذي أجلس فيه سريران: أحدهما لي والآخر لرجل أشمط الشعر عذب الحديث، تبدو في وجهه مخايل الذكاء، وفي عينيه الرقة والحنان، وتعارفنا على الطريقة السوفيتية، فكان كلانا يخفي عن رفيقه مضمر سره ويرتاب فيه، وأخرجنا ما معنا من الطعام، وأخذنا نتحدث في شئون الحرب، وقلت حين سألني عن مقصدي: إني ذاهب إلى فلادفستك، وكان جوابه هو عن سؤالي نفسه أكثر غموضا من جوابي فقال وهو يشير بيده إشارة إشفاق إنه مسافر إلى ما وراء جبال أورال.
ودق بابنا طارق في أثناء الليل، ودخل علينا ضابط أنيق الملبس من ضباط القسم السياسي، وتوجست خيفة من دخوله فقد كانت أعصابي لا تزال متوترة لا تكاد تصدق أني خارج فعلا من اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، وإن كنت في عقلي لا يخالجني شك في أني خارج منها فعلا.
وقال لنا الضابط بعبارة مؤدبة: «أرجوكما أن تبرزا أوراقكما.»
وناولته من سريري الأعلى جواز سفري، ففحص عنه بعناية، ووازن بين وجهي وبين صورتي الشمسية، وأعاد إلي الكتيب الأحمر، ورفع يده بتحية خاطفة، وكانت دهشتي عظيمة حين أظهر له زميلي جواز سفر خارجي شبيها بجواز سفري، فقد كنا كلانا مسافرين إلى خارج البلاد، وقد كذب كلانا على زميله، وأحس كل منا بالخجل والارتباك.
ولما غادرنا الضابط قال لي: «قل لي يا فكتور أندريفتش لم يكذب كل منا على الآخر؟ ولم يخافه؟ إنا روسيان يعرف كلانا من الناس والأماكن ما يعرفه الآخر، ومع ذلك فإنه يخشى زميله ولا يثق به، إني لا أهتم بالسياسة، وأنا ذاهب إلى بلاد المغول الخارجية لأربي الماشية اللازمة لبلادي ولأستورد منها اللحوم، وتلك هي مهمتي كلها، وما أشد أسفي لأني كذبت عليك!»
وقلت له: «وأنا مسافر إلى أمريكا لأختار ما يلزم لبلادي من المصنوعات المعدنية عملا بقانون الإعارة والتأجير، وأرجو ألا يسوءك أني كذبت عليك، وأنا آسف لذلك كل الأسف.» - «لم يرتكب واحد منا ما يطلب الصفح عنه، وليس منا من يفضل زميله في هذا، ألا تبا لهذا الارتياب الذي لا آخر له ... ولهذا التكتم الصبياني.»
ونزل زميلي من القطار بعد أن عبرنا جبال أورال ليستقل قطارا آخر، وسرعان ما حل مكانه رجل كبير الجسم عليه معطف سميك من الجلد، وكان لجبا صخابا متغطرسا، اعتاد أن يأمر الناس ويطيعوه ويوقروه، وجاء من خلفه رجل أصغر منه سنا يرتدي ملابس عسكرية، وإن لم تزينه شارة تدل على مرتبته، وفي منطقته مسدس، وهو يحمل متاع رئيسه ويبذل جهده ليوفر له أسباب راحته، وكانت هذه صورة مألوفة لي، فهي صورة موظف الحكومة الكبير وتابعه الخاص.
وعرفت القادم من فوري، فهو الرفيق برودين الرئيس السابق للجنة التنفيذية لإقليم ستالينجراد، وخلع معطفه وظهرت شارة عضوية مجلس السوفيت الأعلى ووسام لينين يحليان صدره، وكان كبير البطن ذا عينين صغيرتين ماكرتين، تطلان من وجه مستو لا ينم عن شيء من إحساساته، وكانت يداه المكتنزتان مدرمتي الأظافر بعناية فائقة، وأخرج الرفيق برودين من جيبه مسدسا من طراز بروننج ووضعه تحت وسادته، وكان حريصا في الحالتين على أن يظهر المسدس للأنظار، حتى لا يخطئ أحد فيما له من عظيم الشأن وقوة السلطان، فلما أتم هذا نزل من سماء عليائه وألقى نظرة على رفيقه المسافر معه.
وسألني قائلا: «ألم أرك في مكان ما؟» - «نعم يا رفيق برودين، لقد رأيتني في مجلس الوزراء، ولقد شهدت عدة اجتماعات كنت أنت فيها، واسمي كرافتشنكو، فكتور أندريفتش كرافتشنكو.» - «حسن حسن، وإلى أين أنت ذاهب؟» - «إلى أمريكا، إلى واشنجتن.» - «أحق هذا؟ هذا شيء جميل جدا، إن أولئك الأمريكيين شياطين حاذقون أقوياء، ومن واجبنا أن نعرفهم حق المعرفة، ومن حسن الحظ أن صناعتهم تمدنا بالمعونة.»
وكان برودين مسافرا إلى إقليم ألتاي في مهمة رسمية، وقد بدأ رحلته بالطائرة، ثم اضطر إلى النزول لخلل أصاب محركها، وها هو ذا يحبو إلى مقصده حبوا بطيئا بالسكة الحديدية، وكان من حسن حظه أن جاء معه بكثير من الطعام، وسيبحث فضلا عن هذا عما يستطيع أخذه من مطعم القطار، وأكد لي أن رحلتنا ستكون ممتعة بلا ريب، وسألني هل ألعب الورق وهل لي في بعض الشراب؟
وفتح التابع الذي كان برودين يعامله معاملة الرفيق إحدى الحقائب المحشوة بالطعام الشهي، وأخرج منها وجبة فخمة، وقبلت دعوة رفيقي الملحة وشاركته في طعامه الشهي، ولكني أصررت على أن أخرج أنا الآخر ما كان معي، وفضلا عن هذا فإن مدير عربة الطعام التي في القطار قد راعه وجود برودين العظيم فأخذ يتملقه ويتذلل له، فكان يقدم لنا كل ليلة في عربته بعد أن تغلق أبوابها دون خلق الله العاديين وجبة عشاء شهية، يشاركنا فيها عدد من كبار الركاب، ومنهم واحد من القواد وآخر من أمراء البحار.
وكنا نجتمع فيما بين وجبات الطعام في هذا القسم من العربة أو ذاك ، يلعب بعضنا الورق، ونتحدث حديثا متقطعا في شئون الحرب، ومناظر الريف الطبيعية، ومزايا أنواع النبيذ القفقاسي المختلفة، وما إليها من المسائل، وكنا كلما اجتمعنا للعشاء طلب إلينا برودين في جد ووقار أن نشرب نخب أستاذنا وزعيمنا المحبوب.
ولم ينغص علينا سرورنا أثناء رحلتنا إلا من كنا نراهم أحيانا في المحطات من الأطفال الجياع أنصاف العرايا المشردين، وقذف برودين من نافذة العربة في إحدى المحطات عظام دجاجة قرض كل ما كان عليها من اللحم، فهجم الأطفال الجياع من فوره على هذا اللقية الثمينة وأخذوا يتنازعون كل قطعة منها بعنف شديد، وتجهم وجه برودين وضاقت عيناه وتمتم بضع كلمات عن الحرب العوان وآثارها، وغضب زعيم «الصعاليك » مما رأى، ولكنه مع ذلك أمر تابعه أن يعطي أولئك المشردين بعض الخبز، ثم أنزل ستائر العربة، وأتى على ما بقي من الدجاجة.
وعرفنا أن من بين ركاب القطار الذي نستقله ضيوفا من الأجانب ذوى الشأن، وهم وفد من إحدى نقابات العمال البريطانية يرأسه ولتر سترين، وكانوا يركبون عربة خاصة ومعهم عدد من الموظفين السوفيت والمترجمين، ويقدم لهم الطعام من مطبخهم الخاص، ويحال بينهم وبين الاتصال المباشر بشيء من الحقائق عن بلاد السوفيت، على أن ولاة الأمور لم يجدوا وسيلة يخفون بها عن أنظار هؤلاء الضيوف رؤية المشردين الجياع المهلهلي الثياب في بعض المحطات، ولكم تمنيت أن يوحي هذا المنظر المحزن إلى سيرولتر ورفاقه البريطانيين ببعض الحقائق المرة عن أحوال بلادنا المنكوبة.
وكانت القطر المحملة بالعتاد والسلاح لا ينقطع مرورها بنا متجهة إلى جبهة القتال الغربية، وكثيرا ما كان برودين يصيح قائلا: «الإعارة والتأجير» كلما مر قطار بنافذة عربتنا، فكان القائد الذي معنا يؤمن على كلامه ويقول: «اختراعات أمريكية عجيبة!» وكلما قربنا من فلادفستك ازداد سيل البضائع الأمريكية.
ولم يلبث الرفيق برودين أن نزل من القطار وسار من ورائه تابعه وهو يئن تحت عبء متاعه الثقيل، وتنفس مدير عربة الأكل الصعداء بعد نزوله، وخيل إلي أني أسمع ما توسوس به نفسه، ولم يخالجني شك في أن ما ظننته يقوله لنفسه كان عين الصواب، واحتل مكانه عضو آخر من علية السوفيت لا يقل عن سابقه اعتزازا بنفسه واستمتاعا بلذيذ المأكل والمشرب، وإن كان أقل منه استكبارا، وتبين لي أنه رئيس إدارة الفنون في الإقليم، وأنه موفد في «مهمة ثقافية» إلى أولايود في الجمهورية المغولية.
وظلت أعصابي شديدة التوتر طوال الرحلة، فقد كنت كلما فحص عن أوراقي - وما أكثر ما كان يفحص عنها - تملكني خوف لا موجب له، فلم أذق طعم النوم إلا غرارا، ولما غفوت آخر الأمر رأيت فيما يرى النائم أن جماعة من أوشاب القسم السياسي أخذوا يجرونني من القطار جرا، وخيل إلي في أحد هذه الأحلام المزعجة أن إنسانا يهمس في أذني قائلا: «لقد ظننت أننا قد خفي علينا أمرك ... لقد حدثتك نفسك بأنا سنسمح لك بالفرار.» وأنى تلفت حولي فأبصرت جرشجورن، ثم استيقظت وقد بلل العرق البارد جسمي.
ولما وصلت إلى فلادفستك نزلت في فندق السياح القادمين من داخل البلاد وأبصرت فيه فرقة موسيقية لا تنقطع عن العزف، كما شاهدت النبيذ وغيره من الخمور بكميات موفورة، ورأيت النساء التابعات للقسم السياسي يؤدين أعمالهن، وزرت السوق الحرة في المدينة حيث يباع الطعام والثياب بأثمان السوق السوداء الخيالية، ورأيت في هذه السوق من البضائع أضعاف ما رأيته في أي مكان آخر في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، ولم يكن خافيا أن معظم هذه البضائع مستورد من أمريكا، وما من شك في أنها مسروقة من الرسالات المستوردة بمقتضى قانون الإعارة والتأجير، أو أنها قد جاء بها البحارة الروس، وشاهدت حذاءين عاديين من أحذية السيدات يباعان في هذه السوق بثلاثة آلاف روبل، كما شاهدت رطلين ونصف رطل من لحم الخنزير تباع بألف ومائتي روبل، ورأيت العلب الصغيرة التي تحمل بطاقات أمريكية حمراء تباع كل واحد منها بمائتي روبل أو أكثر.
وكانت الحركة في فلادفستك قائمة على قدم وساق، يشاهد فيها الإنسان أينما حل جماعات من البحارة العسكريين في حللهم الرسمية والبحارة المدنيين في ثيابهم العادية، وكانت جبال من العتاد والمؤن الأمريكية مكدسة على الأرصفة، والمدينة زاخرة بالحياة التي بعثها النشاط الحربي.
ثم حل اليوم الذي انتقلت فيه أنا وغيري ممن يريدون أن يعبروا المحيط الهادي إلى جمرك الميناء، وأدخلنا واحدا بعد واحد في حجرة صغيرة من حجرات المكاتب الرسمية ومع كل منا متاعه، وجاء ثلاثة من رجال الشرطة السرية، واحد منهم يرتدي ملابس مدنية والآخران يرتديان ملابس عسكرية، وفتحوا كل ما معنا من حقائب ولفائف، وفتشوها تفتيشا دقيقا، ثم فتشوا جيوبها وبطاناتها وأخرجوا في بعض الأحيان القمصان وسائر الملابس، ثم فتشوني أنا نفسي أدق تفتيش، فقلبوا كل جيب من جيوبي وكل شبر من بطانة سترتي، بمهارة منقطعة النظير، ولم يغفلوا عن تفتيش محفظة جيبي، وكان أحد الرجلين اللذين يرتديان الحلة العسكرية يدون بعض المذكرات ويسجل الأسماء وأرقام التليفونات.
ووجدوا معي مظروفا يحتوي على صور شمسية صغيرة لبعض أعضاء أسرتي، فأثار ذلك فضولهم، وأخذوا يسألونني عن كل واحد في كل صورة.
وأشار موظف الجمرك صاحب الثياب المدنية إلى إحدى الصور وسألني قائلا: «ومن هذا الضابط؟» - «هو أخي قنسطنطين.» - «وأين هو الآن؟» - «لقد قتل في جبهة القفقاس.» - «ولم تأخذ كل هذه الصور معك؟» - «إنها صور أهلي، وسأكون بعد قليل وحيدا بعيدا عنهم.» - «ولكنك ستعود إلى بلاد الاتحاد السوفيتي، أليس كذلك؟»
وزادت ضربات قلبي قليلا، وغصصت بريقي قبل أن أجد ما أقوله له، ولكن يلوح أن قوله هذا كان رمية من غير رام؛ لأنه فرع من استجوابي وأجاز مروري، وسرعان ما كنت على ظهر السفينة كوميلز القاصدة إلى فتكوفر بكندا، تحمل نحو عشرين راكبا من رجال ونساء كلهم ذاهبون للعمل في الولايات المتحدة.
وخصصت لي قمرة صغيرة مريحة في جناح ربان السفينة، وسرعان ما استسلمت فيها لأفكاري، ثم صعدت إلى ظهر السفينة، وأخذت أرقب منها أرض الروسيا تبتعد عني رويدا رويدا، وكانت هذه آخر نظرة ألقيها على بلادي المعذبة التي يرزح فيها ملايين البائسين تحت نير حكم استبدادي لا يماثله في التاريخ حكم آخر في قسوته وطغيانه المنظم، وجاءت الحرب الآن فأضافت إلى ما فيه من إذلال واستبعاد شامل فظائع وأهوالا لا نظير لها في عهد من العهود، ولم يشهد شعب من شعوب العالم ما شهده الشعب الروسي من بؤس وشقاء وطغيان سياسي مروع، ولم يقاس بلد من البلاد ما قاسته بلادنا من أهوال تسترها أقوال ونداءات عن «تقدمه» ورقيه، ولم أطق البقاء طويلا على سطح السفينة فقد غلبتني الأفكار السود والعواطف الثائرة، وكنت في قرارة نفسي أودع أصدقائي وأهلي وتاريخي الماضي، وضاق بذلك صدري فعدت إلى قمرتي لأنفرد فيها بأفكاري.
وكان ما استقر عليه رأيي من عزم على مغادرة البلاد طلبا للحرية التي تمكنني من أن أجهر بالحقيقة المرة عما تقاسيه بلادي من آلام ومن استعباد سياسي، وأن أعمل لتحرير هذه البلاد من هذه الآلام؛ كان هذا العزم قد أخذ يختمر على مهل في أعماق نفسي، فلم أعرف متى نبتت أصوله، ومهما يكن مبدؤه فقد مضى عليه الآن عدة سنين كان في خلالها خطة مرسومة مقررة ينتظر اللحظة المواتية ليخرج إلى حيز الوجود، وأدركت في هذه الساعة ما للفراق من ألم لا يقل عن ألم الموت، وأحسست كأنهم يحملونني إلى قبري، وعرفت أني أحب بلادي وبني وطني حبا أثار في قلبي من العواطف ما لا أكاد أطيقه.
وعادت إلى ذاكرتي مناظر من عهد طفولتي وشبابي وكهولتي، ولم يكن ما فيها من لحظات السعادة بأقل ألما لي من هذه اللحظة لحظة الفراق الأبدي ولحظة العذاب والمذلة، وفكرت فيما مر بي من تجارب في عهد القحط الأول، وفي عهد التنظيم الجماعي، وفي عهد القحط الثاني الذي كان من صنع الإنسان لا من صنع الطبيعة، وفي عهود التطهير والجوع والبرد، وفي ليالي التعذيب في نيقوبول، وفكرت في معسكرات الاعتقال المنتشرة في طول البلاد وعرضها، وفي العشرات بل وفي المئات من أعز الأصدقاء الذين تذبل زهرة حياتهم في السجون وفي معسكرات السخرة.
ترى أين ذهبت أمي الرقيقة القلب العزيزة النفس؟ وأين أبي الكريم الطاهر اليد القوي الإرادة الشديد الولاء لمبادئ الحرية الحقة؟ هل ينجوان بحياتهما من أسر الألمان؟ وهل ينتقم منهما بسبب هذا القرار الذي عقدت النية على تنفيذه؟ وماذا يفعلون بإيرينا؟ هل يعاقبونها على ما فعلت أنا؟ وهل تغفر لي أني تركتها تجهل خططي كل الجهل؟ وماذا يرى أخي يوجين في قراري وهو رجل لا يعبأ قط بشئون السياسة؟
وأنتم أيها الأصدقاء والأحباء الأحياء منكم والأموات هل تدركون سبب اضطراري إلى فراقكم؟ وهل تفهمون أني لا بد لي من هذا الفراق لأزداد منكم قربا، ولأحاول أن أتحدث عنكم ومن أجلكم إلى عالم قد أضلته الدعاوة وأعماه التفكير المغرض.
وإذ كنت مسافرا في سفينة تخفق عليها الراية السوفيتية فقد كنت من الوجهة الرسمية على أرض سوفيتية، وظل القلق الذي كان لا موجب له ينغص علي حياتي في يقظتي، ويقض مضجعي في ساعات نومي؛ ذلك أن كلمة تفلت من بين شفتي في حضرة العيون المنبثين من حولي والذين لم أكن أشك في وجودهم على ظهر السفينة الصغيرة، قد تكفي لتحطيم كل ما علقته على سفري من آمال وما رتبت عليه من خطط.
ومررنا بشواطئ اليابان، وتملكنا الرعب حين رأينا مدمرتين يابانيتين من خلفنا، وأبصرنا في اليوم الثاني طائرة حربية يابانية تحوم فوق رءوسنا، ومضت بضعة أيام رأينا على أثرها أرضا تظهر عند الأفق، وقيل لنا: إنها أرض جزيرة نستطيع أن نشاهد منها بلاد أمريكا، وأثارت هذه اللمحة الأولى من الأرض التي يملكها الأمريكيون مشاعر البحارة والركاب على السواء، ولما اقتربنا من الجزيرة رأيت الراية الأمريكية تخفق فوق طائفة من البيوت.
واقترب منا قارب بخاري، ونزل منه إلى سفينتنا ضابطان بحريان أمريكيان، ودخلا حجرة الربان، وبقي ثلاثة ملاحين في القارب، وجئنا كلنا إلى جانب السفينة لنلقي أول نظرة على الطبقة الرأسمالية المعادية لطبقتنا، والتي حذرنا في بلادنا من مكرها ودهائها، فلما رأينا أفراد هذه الطبقة لم نجد أن هؤلاء الشبان الطوال القامة الذين لوحت الشمس وجوههم يبلغون من الخطر ما وصفوهم لنا به، وكان معنا في سفينتنا عدد من الفتيات يقمن بأعمال الترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وسرعان ما أخذنا كلنا نتجاذب أطراف الحديث.
ومن حسن حظ هؤلاء الشبان الأمريكيين، أنهم كانوا يجهلون ما يعتقده فيهم الروس من غدر وخبث؛ ولذلك لم يلق علينا واحد منهم سؤالا سياسيا، واتضح لنا أن كل اهتمامهم محصور في البنات الروسيات، وأن هذا الاهتمام لم تكن له أقل صلة بالسياسة، وأدار واحد منا حاكيا في قمرته وأخذ يسمع الثلاثة البحارة الذين في القارب أغنيات روسية، وطلب إلينا أحدهم أن نغني إحدى أغاني بلادنا، ولكنا مع الأسف لم يكن بيننا من يحسن الغناء.
ولما غادرنا القارب أخذنا نتحدث عن الأمريكيين الذين شاهدنا توا أمثلة منهم، وبلغت منا الحماسة كل مبلغ، وأثرت في قلوبنا نظرات الشبان وهمتهم، وما أظهروه نحونا من دلائل المودة والصداقة، حتى قام أحد الروس المتطرفين الذين لا تخلو منهم أية جماعة سوفيتية وألقى ماء باردا على هذه الحماسة.
فقد قال هذا الرجل بلهجة الحازم المسيطر: «أليس من واجبنا أيها الرفاق ألا نبالغ في إعجابنا بهؤلاء القوم؟ إن عليكم أن تذكروا أن هؤلاء الشبان «الحسان» «الظرفاء»، ليسوا إلا خدما وأبناء لأمة رأسمالية من الأمم المعادية لنا.»
وسرعان ما أعادتنا ألفاظه إلى الحقيقة التي غفلنا عنها ساعة من الزمان، وظهرت على بعضنا دلائل الخجل؛ لأنهم استسلموا بهذه السرعة للمغريات التي حذرنا منها تحذيرا صريحا.
وبعد تسعة عشر يوما من بداية رحلتنا وقعت عيوننا على كندا، وجاء إلى سفينتنا مفتش كندي وحيانا بلغة روسية ركيكة، وعلى وجهه ابتسامة لطيفة، وما هي إلا لحظات حتى دخلنا ميناء فنكوفر، ولم تمض عشرون دقيقة حتى وصلنا إلى رصيف الميناء في غير جلبة أو اضطراب، وصعد إلى سفينتنا مفتشو الجمارك الكنديون، وكانوا ثلاثة اثنان من المدنيين وثالث من الضباط البحريين، ووقفنا صفوفا وأخرجنا جوازات سفرنا، وألقيت عليها نظرات عاجلة، ثم أعيدت إلينا، ولم يفتش أحد حقائب ملابسنا، ولم يقلب أحد جيوبنا، أو بطانات ثيابنا ليبحث عما خبأناه فيها من أوراق، وأغرب من هذا كله أن أحدا لم يلق علينا سؤالا ما، وقصارى القول أنا لم نشهد ذلك الخوف من المواطنين السوفيت الذي كنا نتوقع أن نشاهده، ولم نر ما يبرر «الحذر» الذي هيئت له أذهاننا.
ولم تمض على وصولنا لرصيف الميناء ساعة واحدة حتى كنا أحرارا نذهب حيث نشاء! ودهشنا جميعا أشد الدهشة من هذه المعاملة، حتى أشد الشيوعيين تطرفا في الجماعة، ومنهم ذلك الرفيق الذي كان سببا في إخماد روح إعجابنا بالبحارة الأمريكيين، بل إن هؤلاء الشيوعيين المتعصبين قد خيبت هذه المعاملة ظنونهم، فقد كان مثلهم كمثل من يحملون المطريات ويلبسون معاطف المطاط في يوم مشمس غير مطير، ترى هل كان هؤلاء القوم سذجا أو كانوا يحتقرون من يحملون إلى بلادهم بذور الثورة؟ لشد ما كانت هذه الفكرة تؤلم أولئك الشيوعيين المتطرفين!
وبدا لنا أن إطلاق سراحنا بهذه السرعة لنجول في أرض كندا في زمن الحرب أمر لا يمكن أن يكون، ولا يقبله العقل، بل إنه يكاد يشعر بالاستهانة بنا واحتقارنا.
وجمعنا الرفيق لوماكين القنصل السوفيتي الذي قدم من سان فرانسسكو، وأخذ يتحدث إلينا في إحدى حجرات الاستقبال في السفينة، ويلقي علينا خطبة أخرى مملة غير مقنعة، يحذرنا فيها من الأخطار التي نتعرض لها في البلاد الرأسمالية المضللة، ويقيني أن هذا الرجل المسكين كان يقول ما يقوله أداء لواجبه، ولما فرغ من خطبته خرجنا إلى البر ولم يكن على صقالة السفينة إلا حارسان: أحدهما كندي والآخر روسي.
ووقفت بضع ثوان قبل أن أنزل إلى فنكوفر، وكنت في أعماق نفسي أدرك حق الإدراك خطر هذه اللحظة، فقد أصبحت للمرة الأولى في سني حياتي البالغة ثمانية وثلاثين سنة خارج حدود بلادي، وصرت أو خيل إلي على الأقل أني صرت للمرة الأولى في سني كهولتي تقصر عني يد ستالين ويد شرطته السرية.
الفصل السابع والعشرون
رعايا ستالين في الخارج
ها هي ذي فنكوفر! لقد استولى علي دوار شديد وشردت أفكاري، ها أنا ذا حر طليق! ترى من هو ذلك الرجل الذي قال في يوم من الأيام: إن الحرية لا يفهم حقيقة معناها إلا من كان من قبل في عداد العبيد؟ لقد خيل إلي وأنا أسير في شوارع المدينة الكبرى مع جماعة من رفاقي في السفينة أني لم أر قبل مثل هذا العدد من الناس الأحرار السعداء الهادئي الأعصاب البعيدين عن المخاوف يجتمعون معا في مكان واحد.
وكان أكثر ما أثار أعصابنا هو نوافذ لحوانيت ووفرة ما كان فيها من غذاء وكساء وغيرهما من السلع، لقد كنا أشبه بالأطفال في ملعب نعجب بأشياء لا يراها الكبار إلا أشياء مألوفة لا يدهشون من رؤيتها، وظللت أقول في نفسي وأردد قولي «كأن أحلام الوفرة التي يمنينا بها الاشتراكيون قد تحققت، إن هذا هو ما يمنوننا به في المستقبل الغامض البعيد بعد سلسلة مفرغة من مشروعات السنوات الخمس التي لا آخر لها.» واختلطت هذه الأفكار في عقلي بشيء من الأسى والحسرة، لقد خيل إلي أن هؤلاء الناس، أن حلفاءنا هؤلاء، بعيدون عن أهوال الحرب وتضحياتها التي ترزح تحت أعبائها بلادي البائسة.
ودخلنا الحوانيت لنبتاع منها بعض السلع التي كانت أول ما اشتراه بعضنا من بلاد الرأسمالية، ولم نكن نصدق أن في مقدورنا أن نبتاع حقا كل ما نشاء من الخبز والملابس والحلوى وما إليها من الضروريات والكماليات، إن هذا أقرب ما يكون إلى السحر أو إلى المعجزات، وقد بدت لنا الأثمان زهيدة تافهة، وأخذت البنات اللاتي كن معنا يتهامسن في ذهول عن ثوب رأينه في نافذة حانوت وافتتن بجماله، ولو أنهن شاهدن ثوبا مثله في موسكو أو فلدفستك في زمن الحرب يبلغ ما بلغه هذا الثوب من الأناقة والفتنة لسرهن أن يدفعهن فيه ألفي روبل أو ثلاثة آلاف، وأجرهن في ثمانية أشهر أو عشرة، وما ادخرنه في عدة سنين، أما في فنكوفر فقد كتب عليه 1498 ريالا.
واعتزمنا أن ندخل حانوت أحذية، وقوبلنا فيه بالبشاشة والابتسام، وقدمت لنا المقاعد المريحة ... وصاح واحد منا محنق مغيظ: «إن هذا الكلب يعرف أننا أجانب، ومن أجل ذلك يمثل أمامنا هذا المنظر الحقير»، ولكن قوله هذا لم يقنعنا لأننا رأينا أهل البلاد أيضا يعاملون نفس هذه المعاملة الطيبة ، وأقبل علينا عامل أنيق الملبس حسن البزة عليه ثياب شبيهة بثياب الأوغاد الرأسماليين الذين تمثلهم لنا أشرطة الدعاوة السوفيتية، وعرض علينا أحذية لا حصر لها مختلفة في شكلها وفي المواد المصنوعة منها، وبدت عليه الدهشة من دهشتنا، ولم يعرف لسرور البنات الروسيات وابتهاجهن سببا.
وتقدمت أنا للحديث وسألت العامل على لسان أحد المترجمين: «أأنت صاحب هذا المحل؟»
فضحك وقال: «لا، بل أنا عامل فيه.» - «وهل يسوءك أن نسألك كم تكسب من عملك في الشهر؟» - «لا، ليس في ذلك ما يسوءني قط، إن هذا يتوقف على ما أناله من العمولة، ولعلي أستطيع أن أقول إنه يبلغ 150 ريالا.»
ونسي الرجل المحنق المغيظ نفسه برهة قال في أثنائها بالروسية: «مائة وخمسين ريالا»؛ ذلك أنه كان يفعل ما نفعله نحن في هذه الساعة وهو أن يعرف كم زوجا من الأحذية يستطيع الرجل شراءها بالثمن الذي سمعناه، ثم قال: «إن هذا الكلب يستطيع أن يشتري ثلاثين زوجا من الأحذية بمرتبه الشهري.»
وقررنا بعدئذ أن نذهب إلى حانوت كساء يبيع القمصان وأربطة الرقبة ومناديل اليد وصديريات الصوف والمعاطف وكثيرا من السلع الأخرى بأثمان معتدلة، وبدا لنا أن من أغرب الأشياء ألا يهجم على هذا الحانوت المشترون ويبتاعون كل ما به في لمح البصر.
وبدا لنا غريبا أن هؤلاء الرأسماليين لا يقدمون لك كل ما ترغب فيه فحسب، بل إنهم يحزمونه لك ويشكرون لك أن قد أخذته منهم! وحملنا ما اشتريناه وذهبنا إلى مطعم، ولم يكن أحد يتعقبنا فيما نعلم لأن أحدا لم يكن يهمه أن يعرف أين كنا، وماذا فعلنا، وماذا قلنا، اللهم إلا إن كان منا نحن من يتجسس علينا، وقدم لنا من الطعام ما كملت به صورة الوفرة التي رأينا بدايتها.
وأقبل علينا رجل كهل أنيق الملبس يدخن لفافة كبيرة أغراه منظر الروس الثرثارين وعرفنا بنفسه قائلا إنه صاحب المطعم، وقال الرجل وهو يهز يد كل منا بعد الآخر: «إنكم أيها الروس قد طعنتم الألمان فكورتموهم! وأقول لكم: إن الروسيا تعمل لإحراز النصر النهائي ، وإن من حقكم على حلفائكم أن يحمدوا لكم حسن صنيعكم.»
وقام واحد منا ورد عليه قائلا: «نعم، إن الواجب أن نحطم طغيان هتلر.»
فقال صاحب المطعم: «إنك محق، إني أعجب بالروس جميعهم أشد الإعجاب، وإن كنت لا أرضى عن الشيوعية، ولا بد لي أن أعترف أن ستالين هو الآخر طاغية.»
وانعقد لساننا كلنا فلم ينبس واحد منا ببنت شفة، وألقى علي الشيوعي المتطرف نظرة بطيئة لها ما وراءها، وقال باللغة الروسية: «ها هو ذا رجل فاشي يتظاهر بالصداقة ويبطن الكراهية لبلادنا.»
وأوشكت أن أدافع عن قول صاحب المطعم، ولكنني أمسكت لساني، فقد تذكرت أني ما زلت بين مواطنين سوفيت وأن حريتي ما زالت مقيدة ببعض القيود.
ولما عدنا إلى السفينة، أخذنا نفاضل بين مشترياتنا وما انطبع في عقولنا على أثر جولتنا في المدينة، وقضينا هزيعا من الليل نتحدث عن عجائب هذا العالم وما فيه من ثراء وصراحة وبعد عن الحرب وويلاتها، وحرصنا على ألا يزل لساننا بخطأ سياسي يؤخذ علينا، فقال بعضنا لبعض: إن ما رأيناه ليس إلا مظهرا خداعا يغشى ما تحته من إرهاب واستغلال وفساد وانحلال، وأزمة مقبلة تنبأ بها ستالين فيما تنبأ به عن مستقبل العالم، وقلنا لأنفسنا إن ما قيل لنا عن الرأسمالية ومن نذر بألا نخدع بثرائها وترفها لم يكن مبالغا فيه.
وأخذنا بعد بضعة أيام لنركب القطار، وتنقلت في عرباته كلها لأشاهد من فيها من الناس، وبدا الركاب جميعا في عيني التي ألفت المناظر السوفيتية، حتى الذين كانوا منهم في عربات النهار حسني الثياب، فقد أبصرت رجالا ونساء لا يعدون أن يكونوا زراعا أو كتبة أو عمالا، يرتدون أحذية متينة من الجلد وثيابا من قماش جميل متين، ومع هذا فقد خيل إلي أن هذا الرخاء كله زائف ومبالغ فيه بعض المبالغة.
وجاء إلى عربتنا في اليوم الثاني أمريكي في ثياب عسكرية يصاحبه رفيق له في ثياب مدنية، وألقى الرجل الأول نظرة عارضة سريعة على جوازات سفرنا دون أن تبدو في نظراته أقل ريبة مما يسمح له بها، وأعادها إلينا وهو يبتسم، ولما قيل لنا: إن صاحب الثياب المدنية مفتش الجمارك أخرجنا جميعا حقائب ملابسنا وفتحناها عن آخرها، فألقى على واحدة أو اثنتين منها نظرة عاجلة ثم قال: «كل شيء على ما يرام، اطووا حقائبكم.»
وحيرنا ما بدا لنا من عجز سخيف، ولم نعرف ما عسى أن يكون فيه من مكيدة، وقلنا لأنفسنا: إن الحرية الشخصية أمر لا غبار عليه، ولكن أليس في هذا الإهمال وعدم اليقظة ما يشعر بالفوضى وسوء النظام؟ وانتظر الرجلان بضع دقائق وقد سرهما بلا ريب أن يبصرا الروس في بلادهما، ثم حييانا ومشيا وهما يبتسمان، وكنت أتصور لسبب لا أعرفه أن دخولي الولايات المتحدة سيكون عملا شاقا طويلا يتطلب تفتيشا دقيقا واستجوابا خلف أبواب مغلقة.
وانتظرنا قليلا في مدينة تدعى بفلو، وأفدنا من الوقت الذي قضيناه فيه لمشاهدة مناظرها، وتذكرت اسم هذه المدينة لأني كنت أقرؤه على الآلات في المصانع الروسية، وأعجبني ما فيها من علو مبانيها ونظافتها وانقسامها إلى مستطيلات متماثلة، ووقف بعض أهلها الأمريكيين يتحدثون إلينا، ودهشنا لأن أحدا منهم لم يلق علينا سؤالا سياسيا أو اقتصاديا، وما من شك في أننا سنقضي زمنا طويلا حتى نألف الاجتماع بأناس لا يهتمون بالأمور السياسية أو المبادئ النظرية.
وكانت رحلتنا إلى واشنجتن مليئة بما يثير مشاعري، فقد كنت أتحرق لرؤية الأرض الجديدة، وأخذت أطيل النظر، وأنا حائر مندهش في كل بلد جديد، وفي الطرق المرصوفة التي أشاهدها من نوافذ القطار، وفي الزراع الأمريكيين يعملون في الحقول وهم يختلفون كل الاختلاف عن الزراع الروس، ولشد ما تأثرت بالصراحة والسهولة اللتين يتحدث بهما الناس رجالا ونساء يتساءلون ويتجاوبون بصراحة وبساطة أشبه بصراحة الأطفال وبساطتهم، لقد صورت لي قصص دريزر وستاينبك هذه البلاد في صورة توقعت بعد قراءتها أن أرى فيها الفقر والذلة والحقد المرير، مما لم أر له أثرا حتى ذلك الوقت، ولست أنكر أني سأعرف فيما بعد أن أمريكا قد أوتيت حظها من الشقاء والظلم، ولكن الروسي الذي قدم حديثا من أرض «الاشتراكية» لم يكن في مقدوره أن يشارك ستاينبك في حقده وغضبه على الأمريكيين، أو أن يرى أن الصورة التي رسمها للفلاح الأمريكي أسوأ من صورة كثيرين من الفلاحين الروس.
ووصلت إلى عاصمة الولايات المتحدة في التاسع عشر من أغسطس سنة 1943م ووجدت مندوبا من لجنة المشتريات السوفيتية ينتظرني في محطة الاتحاد، واستؤجرت لي مع أسرة أمريكية غرفة نظيفة مشمسة مريحة ذات حمام خاص، وظهر على أهل الدار أنهم مسرورون حقا من أن يكون تحت سقفهم رجل أجنبي - من أولئك «الروس المدهشين» - ومن عجب أنهم لم يسألوني عن «أوراقي»، وبدا لي أن ليس من واجبهم أن يبلغوا عني أية لجنة من لجان البيوت، وبدا لعقلي العسكري أن هذا الإهمال دليل على الفوضى إن لم يكن دليلا على ما هو أسوأ منها وهو التخبط التام، وسيعلم القارئ فيما بعد أنني أنا وهذه الأسرة قد اخترعنا لنا لغة مكونة من إشارات وألفاظ محرفة تكفي للتعبير عما نشأ بيننا من صلات اجتماعية قليلة، وأيقنوا - دون حاجة إلى دليل سوى اعتقادهم وحده - أنني خبير بشئون الحرب، وبكل ما هو أجنبي عنهم، دع عنك كل ما هو روسي، وكان مسلكهم معي مسلك من يعتقدون أن كل ظفر حربي يناله الروس من صنع يدي.
وقدمت نفسي في اليوم الثاني للسفارة الروسية لأبدأ عملي، وكان كل ما في داخل مركزنا الرئيسي في واشنجتن القائم في الشارع السادس عشر سوفيتيا خالصا في مظهره، وبدا لي أنه لا يسمح بشيء أمريكي بأن يدخل فيه، نعم كان فيه عدد قليل من الأمريكيين يشغلون بعض المناصب الدنيا - كالعاملات على الآلة الكاتبة والمختزلين والحمالين والسعاة - ولكن جو المكان كان جوا سوفيتيا خالصا لا تشوبه أقل شائبة أجنبية، يحس الإنسان فيه بالخفاء والسرية والرغبة في الإيقاع بالناس، وأكاد أقول التآمر عليهم، لا نظير له إلا في بلادنا.
وكان الكولونل سيروف رجلا وسيم الوجه، طويل القامة، أسمر اللون، متين البنية، ذا شخصية عظيمة الأثر فيمن تقع عينه عليه، يزين ثيابه الأمريكية الجديدة، واستقبلني بفتور ظاهر وبشيء من الارتياب كما هو الواجب على الموظف البيروقراطي الحذر، وقدمت له البطاقة الدالة على أني من أعضاء الحزب.
وسألني بلهجة شديدة جافة: «وما رقمك؟»
فأجبته بلسان طلق سريع أن رقمي هو 2486475؛ ذلك أن نسيان رقم الحزب يعد في عرف الدولة نوعا من الخيانة العظمى، ودليلا على تزعزع الإيمان، وتلت ذلك السؤال أسئلة أخرى اقتنع بعدها أنني أنا حقيقة كرافتشنكو الذي عهد إليه أن يعنى بأمره، فتبسم وسألني عما لاقيته في رحلتي، وتحدث إلي قليلا عن موسكو، ولكنه كان في الوقت عينه يلقي علي نظرات فاحصة قوية.
وكان سيروف المندوب المفوض للجنة الحزب المركزية في الولايات المتحدة، وكان بحكم مركزه هذا صاحب المقام الأعلى بين المبعوثين الشيوعيين في هذه البلاد، ولم تكن للرجل صلات مباشرة بالأمريكيين، ولم يكن يشترك إلا قليلا جدا في المفاوضات التي تجري بين أمريكا وبلاد السوفيت، ولا يزيد مركزه حسب السجلات الرسمية على أن يكون واحدا من المساعدين في لجنة المشتريات، ولكنه كان في واقع الأمر أقوى عمال الدولة السوفيتية في أمريكا، وكانت كلمته هي القول الفصل في جميع الشئون، والحكم النافذ على كل سوفيتي في أمريكا من أصغر موظف في البلاد إلى أكبر الرجال العسكريين والاقتصاديين وغيرهم من الممثلين السوفيت، وكان سيروف يتحدث باسم الحزب الشيوعي، وهو الحكومة الحقة في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، على حين أن غيره من الرجال ومنهم السفير نفسه إنما ينطقون باسم وزارة الخارجية، وكان مركزه في أمريكا مركز ستالين في الروسيا في كل ما يختص بشئون جميع رعايا السوفيت المقيمين في هذه البلاد.
وأخذ الرجل يكرر على مسامعي المحاضرة المملة المألوفة، يشرح لي فيها ما يتهددني من أخطار وما علي من واجبات، وما وضعه الحزب في من ثقة عظيمة باختياري للمنصب الذي أصبحت أشغله، ولم يضايقني هذا القول الآن كما كان يضايقني في المرات السابقة لسبب لا أعلمه، ولعل سبب هذا أني أصبحت في خبيئة نفسي أتسلى بهذه الأقوال، أو أن ما أعرفه أنا وحدي من أني سألقي على كاهلي بعد وقت قصير نير الاستبداد الذي قاسيته طويلا قد أكسبني حصانة أصبحت معها لا أتأثر بما تنطوي عليه هذه المحاضرات والتعليمات من سيطرة تخفي وراءها أشد أنواع التهديد، بل لقد جرؤت على أن أرفض ما طلبه إلي من أن أفضي إلى جماعة من الموظفين الذين معه بأحوال بلادنا، معتذرا عن هذا الرفض بأني متعب في تلك الليلة، والحق أني لم يكن في وسعي أن أفضي إليهم في ذلك الاجتماع إلا بما ألفته من الأكاذيب الرسمية.
وأبلغني الرفيق سيروف أن رئيسي المباشر هو رسترتشوك، وأني سأكون واحدا من عشرة أخصائيين في شئون التعدين يعملون في قسم المعادن الذي يرأسه ذلك الرجل، وأن مصنوعات معدنية تقدر بعشرات الملايين من الريالات تنقل على ظهر السفن إلى بلاد الاتحاد السوفيتي تنفيذا لقانون الإعارة والتأجير، وأن من واجبي أن أفحص عن كثير من هذه المصنوعات لأتأكد من صلاحيتها لأغراضنا، وأن أكتب المواصفات الخاصة بآلاف السلع التي نطلبها، وأن أقبل أو أرفض ما يعرض من المواد العظيمة القيمة، وقيل لي أخيرا أني سأكون مسئولا عن جميع ما يمر بيدي من المواد.
لم تكن بعثتنا في واقع الأمر إلا قطعة من الطغيان الروسي انتزعت من شاطئ نهر موسكو، وأقيمت بقضها وقضيضها على شاطئ نهر بوتوماك.
فقد كان مئات منا رجالا ونساء يعيشون في قلب أكبر ديمقراطيات العالم عيشة الخضوع التي يعيشها الناس في أعظم دولة من دول الطغيان في العالم، وظللنا كما كنا في بلادنا رعايا الدولة الشرطية الخاضعين لحكم الإرهاب الشديد، فلم يكن في وسعنا أن نتمتع بما يتمتع به جيراننا الأمريكيون من حرية القول وحرية الصحافة وحرية الضمير والتحرر من الخوف، إلا إذا كان ذلك سرا نتعرض من أجله لأقسى عقاب.
وقد حدد لنا ما نفكر فيه وما نقرؤه، ومن الذي نجرؤ على مقابلته، حدد هذا كله وروقب كأننا لا نزال داخل حدود الاتحاد السوفيتي، وكان يحيط بنا نظام من التجسس المتقن يحصي علينا كل كلمة تصدر منا، وكل عمل نعمله، وكان لنا لجنة للحزب وخلية للحزب وقسم سياسي وشرطة سرية وهيئة كاملة للإرهاب السياسي والرقابة شبيهة بنظائرها من الهيئات التي قاسينا منها العذاب ألوانا في داخل بلادنا، وهنا أيضا ترى الخزائن الخفية الغاصة بالمعلومات والأكاذيب الخبيثة عن كل واحد منا، على أن الذي كان يبدو أمرا طبيعيا نكاد نظنه محتوما في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية كثيرا ما كان يظهر شاذا غريبا قبيحا في هذا الجو الأمريكي.
وكان الذي يرأس الاجتماعات التجارية الفنية المحضة هو القائد بلايف، فلما خلفه القائد رودنكو كان هو الذي يرأس هذه الاجتماعات، أما اجتماعات مكتب الحزب في البعثة، وهو الذي كانت تبحث فيه الخطط السياسية الهامة، فكان يرأسها ويوجهها الرفيق سيروف نفسه، وكان يحدث في بعض الأحيان أن يبدأ اجتماع من الاجتماعات التي لا يحضرها إلا الشيوعيون برياسة القائد بلايف أو رودنكو فيما بعد، حتى إذا انتهينا من بحث الشئون التجارية تخلى عن الرياسة لسيروف، فإذا حدث هذا كانت الأبواب تغلق على الدوام حتى يجري الاجتماع الحزبي في مجراه، وكان هذا النظام - نظام السلطة المزدوجة - هو المتبع في كل فرع من فروع البعثة، فكان الرفيق رسترشوك يرأس الاجتماعات الفنية في قسم المعادن، فإذا كان من موضوعات البحث في هذا الاجتماع أمور خاصة بالحزب نفسه رأس الاجتماع ماركوف، ونزل رسترشوك عن كرسي الرياسة وأصبح فردا عاديا في الاجتماع، وليس في وسع إنسان أن يبدأ بإدراك طبيعة الحكم الدكتاتوري الحديث إذا لم ترتسم في مخيلته هذه الصورة من صور الحكم الدكتاتوري التي يسيطر فيها حزب واحد على الأداة الحكومية ويمسك بيده أعنة الحكم يسير بها الأمور مستترا وراء هذه الأداة.
وكان مرتبي الأساسي حوالي ثلاثمائة ريال في الشهر، ولكن دخلي الحقيقي كان يفوق هذا كثيرا؛ لأني كنت أقضي معظم الوقت مسافرا، وكان يخصص لي مقدار آخر من المال لإقامة الولائم حين تتطلب الأعمال التجارية إقامتها، وكان أشد ما يؤلمني من القيود من بداية الأمر هو القيود المفروضة على صلاتنا بالأمريكيين.
وأعجبت أشد الإعجاب بالأسرة التي أقمت في بيتها، وخيل إلي أن أفراد هذه الأسرة يختلفون عن الروس كل الاختلاف، ويختلفون لهذا السبب عن سائر الأوروبيين، فهم ليسوا من سلالة مختلفة عن الروس فحسب، بل يكادون يكونون من جنس غير جنسهم، ولكننا حرم علينا أن نتخذ منهم أصدقاء، وأمرنا أن نقصر صلاتنا بهم على ما بيننا وبينهم من أعمال، وكان يطلب إلينا إذا ما تعرفنا بأمريكي أن نكتب عنه تقريرا مفصلا، لا يقتصر على التعريف بشخصيته، بل يشمل كذلك ما ينطبع في ذهننا عن مزاجه السياسي، وما يشعر به نحو الشعب السوفيتي، وكبار الموظفين وحدهم هم الذين يقررون بعدئذ هل يؤذن لهذه المعرفة أن تنمو وتستمر، وهم الذين يقررون هل هذا الاتصال «مرغوب» فيه أو غير مرغوب .
على أنني لم يكن لي بد من أن أتعرف بعشرات من الناس في توكيلات الشركات المتصلة بمشروع الإعارة والتأجير الواسع النطاق، ومن بين العدد القليل من الأمريكيين الذين كانوا في خدمة بعثة المشتريات، وكنت أجد منهم جميعا ترحيبا وحرية في القول، واستعدادا لإطلاعي على كل شيء، وكان هذا كله من أسباب حيرتي وارتباكي؛ وذلك أن الموظف السوفيتي الغارق في الدسائس، والذي تملأ قلبه المخاوف، لا يسعه إلا أن يعتقد أن صراحة الأمريكيين وبعدهم عن الارتياب في الناس حمق وسذاجة كسذاجة الأطفال.
وكان الخطر الذي يتهدد الإنسان إذا قابل الناس يتضاعف إذا اتفق أن كان من يقابلهم من أصل روسي، أو كان بعض آبائهم من الروس، فقد كان يخشى في هذه الحالة أن يكون هؤلاء من المناصرين لأحد الأحزاب المعادية لستالين، كذلك كان الإغراء قويا في أن يتعرف الإنسان بمن كانوا قبل من الرعايا الروس؛ وذلك لاشتراكهم معنا في اللغة، إن لم يكن لغير ذلك من الأسباب.
وكان تيار العطف على روسيا - الذي عم الولايات المتحدة بعد انتصارات الجيش الأحمر - مصدر خطر دائم على المواطنين السوفيت في هذه البلاد؛ ذلك أن الأمريكيين كانوا شديدي الحرص على أن يظهروا حبهم وتقديرهم لنا؛ ولهذا أخذوا يلحون علينا في أن نزورهم في بيوتهم ونواديهم، ولم يكن من السهل علينا دائما أن نتهرب من كرمهم وحسن ضيافتهم، وإذا قبلنا دعوة من دعواتهم بعد إصرار منهم شديد عرضنا أنفسنا للمتاعب، ولم يكن لنا من سبيل لاتقاء الخطر إلا أن نبلغ الرؤساء أخبار هذه الدعوات.
من ذلك أن سيدة أمريكية طاعنة في السن تشتغل وظيفة متواضعة في لجنة المشتريات دعتني عدة مرات لأن أزورها في بيتها؛ لأنها تعلم أني لا أسرة لي في أمريكا، فأثر ذلك فيما لديها من عاطفة الأمومة، لكنني كنت في كل مرة أختلق المعاذير لعدم قبولي دعوتها، وكان من سوء حظي أن التقيت بها ذات مساء في أحد الشوارع، وتبين لي أننا كنا على مقربة من بيتها، وأنها كانت على موعد مع عدد من الأصدقاء يزورونها في بيتها، وشعرت أني أسيء إليها كثيرا إذا رفضت أن أشرب في دارها فنجانا من القهوة؛ ولذلك قبلت دعوتها، ولكنني لم أمكث في بيتها أكثر من ساعة واحدة، أقبل في أثنائها بعض الضيوف وتحدثنا معا مدة قليلة.
وظللت عدة أسابيع بعد هذه الزيارة في أشد حالات الخوف والألم، أضطرب أشد الاضطراب كلما دعيت إلى حجرة أمين سر الحزب، وكنت أسائل نفسي ماذا يكون مصيري إن كان أحد قد رآني و«بلغ عني»، أو إن كانت هذه السيدة نفسها قد أفضت بهذه الحقيقة إلى من لم يكن يصح أن تفضي بها إليه دون أن تقصد بذلك سوءا؟ ذلك أن معظم من كانوا يعملون معنا من الأمريكيين لم يكونوا يعلمون ما يتحمله الروس من ضغط شديد في حياتهم العملية.
ولا حاجة بي إلى القول بأن الحظر الذي كان مفروضا علينا، والذي يحرم علينا الاتصال بالأمريكيين، لم يكن يشمل من يجب علينا الاتصال بهم لأسباب تجارية أو سياسية، ففي هذه الأحوال كانت توضع تحت تصرفنا اعتمادات خاصة ننفق منها عن سعة فيما نقيمه من الولائم، وكنا نشجع على أن نبالغ في إكرامهم والتحفي بهم، وأن نسرف ما استطعنا في هذا الإكرام، وأن نظهر لهم أننا من «رجال العصر» وأننا نمثل بلادا غنية قوية سخية.
وحدثني بعضهم عن هدايا قيمة، ومنها بعض الفراء الغالية الثمن أهديت إلى الأمريكيين الذين يظن أن في كسب صداقتهم فائدة لنا، ولربما ظن الذين أهديت لهم أنهم هدايا شخصية بريئة جاءت عفو الساعة، ولكن الحقيقة أن كل واحدة منها كانت نتيجة نقاش رسمي انتهى بقرار وافق عليه المتناقشون.
وقد بلغ من دقة هذه السيطرة المفروضة على علاقاتنا بالأمريكيين أن بطاقات التهنئة بعيد رأس السنة لم تكن ترسل للموظفين الأمريكيين ومعارفنا الذين تربطنا بهم رابطة العمل إلا بعد موافقة المشرفين علينا، فقد كان يطلب إلى كل منا أن يعد ثبتا بأسماء الأشخاص الذين يرغب في أن يبعث إليهم ببطاقات التهنئة اتباعا للسنن الأمريكية، وأن تذكر في هذا الثبت نص عبارات التهنئة، وكانت هذه الأسماء والنصوص تبحث وتنقل، ثم تعاد إلينا ومعها تصريح رسمي بإعداد البطاقات، وكانت البعثة نفسها هي التي تقوم بإرسالها حتى تتأكد من أننا لم نغير شيئا في نص عبارات التهنئة التي اتفق عليها.
وكان يطلب إلينا ألا نتورع في استخدام العواطف الجنسية للحصول على ما نطلب من الأسرار، أو الوقوف على خفايا أمر من الأمور، من ذلك أن موظفا كبيرا استدعاني مرة إلى مقر اللجنة، وأخذ يشرح لي إحدى المشاكل التي حيرته، فقد كان يهمه أن ينجز مسألة من المسائل في لجنة الإنتاج الحربي، في مكتب من المكاتب التي يعتمد في إنجازها على امرأة في مقتبل العمر.
وقال لي: «وأريد منك أن تقابل هذه المرأة يا فكتور أندريفتش، وتصادقها وتصاحبها إلى النوادي الليلية، وتبتاع لها الهدايا، وتحل عقدة لسانها، ولست أشك في أن ما بقي بعد هذا سيكون سهلا ميسرا.»
ودهش الرجل حين رفضت رفضا باتا أن أمثل هذا الدور الحقير في تلك المؤامرة، واحتججت بضعف مواهبي في مثل هذه الأمور، وبالصعاب التي لا بد أن يسببها ضعفي في اللغة الإنجليزية، واستطعت في آخر الأمر أن أنجو من هذا العمل البغيض.
وعدت إلى مكتبي بعد أسبوع أو أسبوعين من ذلك الوقت، ولكني كنت أشعر بأن الحياة التي أحياها في البعثة حياة لا أطيقها، وزاد من آلامها اتصالي برجال الأعمال والفنيين من الأمريكيين، لقد كنت أشعر كأني سجين عاد إلى السجن بعد إجازة قضاها في خارجه، لقد كان واجبا علي أن أراعي جميع القواعد الثقيلة التي كان كثير من أفاضل الروس في لجنة المشتريات يرزحون تحت أعبائها، وكنا نحن الروس في خارج البلاد يفرض علينا أن نحتفظ بأسرارنا لأنفسنا، لا نفضي بها لإنسان ما ولا نكشف إلا عن قسم صغير من عقولنا وقلوبنا للقليلين الذين نثق بهم، ولا نكشف عن هذا الجزء الصغير إلا نادرا، ومع هذا فقد كنا إذا فعلنا هذا نعرض أنفسنا لأشد الأخطار؛ ولذلك كنا نتظاهر بأنا لا نبصر ما يتمتع به الأمريكيون من حرية، وكنا نعلم أن الإعجاب بأساليب الحياة الأمريكية أو مجرد الرضا بها يعرض الإنسان للانتحار السياسي.
ولست أشك في أن الأمريكيين لا يستطيعون أن يدركوا حقيقة الحياة التي نحياها نحن الروس، ولعلهم لا يصدقونني إذا قصصت عليهم تلك الحادثة التي حدثت لي مع ميثيا، والتي هي ملهاة ومأساة معا، لقد كان ميثيا هذا مواطنا سوفيتيا في أمريكا مبعوثا من قبل منظمة أمتورج التجارية السوفيتية، وضبطت هذا الرجل متلبسا بجريمة شنعاء، إذ دخلت عليه وهو يقرأ مجلة متطرفة تصدر باللغة الروسية، وهي مجلة «معادية للثورة» كان محرما علينا أن تمسها أيدينا.
وناديته بأعلى صوتي مدعيا أني قد هالني ما رأيت: «إذن أنت تقرأ هذه المجلة!»
وامتقع وجه صاحبي وتحدرت الدموع من عينيه، وأيقن أن مصيره قد أصبح الآن بين يدي، فإذا ما سولت لي نفسي أن أكشف عن جرمه فسيدعى حتما إلى الروسيا، ويعقب هذا طرده من الحزب وافتضاح أمره وعقابه، وقد يمتد هذا العقاب إلى أسرته، وحاول أن يدافع عن نفسه، وتوسل إلي وهو يرتجف من الخوف أن أعفو عنه وقال: «أقسم لك بشرفي يا فكتور أندريفتش إني لم أكن أريد إلا أن أعرف ما يكتبه عنا أولئك الأدنياء، وأرجو منك أن تصفح عن هذه الزلة، لقد تعارفنا من سنين طوال، وإذا ما كشفت أمري فستقضي على حياتي.»
ورأيت حال الرجل فتفطر قلبي من شدة الحزن، وأكدت له أني لا أبغي قط أن أنم عنه، بل أكدت له أني أنا نفسي أقرأ هذه المجلة.
وقلت في أسى وحسرة: «ألا ما أذلنا من عبيد! وما أشد ما يخشى الواحد منا رفيقه! بل ما أشد ما يخشى أفكاره نفسها! وماذا يريدون أن نكون؟ جواسيس، كاذبين مزعزعي الإيمان، لا نرعى عهدا ولا صداقة! لم يحرم علينا رؤساؤنا أن نقرأ ما نرغب في قراءته؟ وأي شيء يخشون من هذا؟ أيخشون أن نعرف بعض الحقائق التي لا تسرهم؟ إن من أشق الأمور على النفس أن يكون الإنسان عبدا ذليلا في موسكو، أما هنا في أمريكا فذلك أشق علينا ألف مرة.»
ولكن هذه الصراحة الحماسية لم تخفف من ذعره، بل زادت حيرته في أمره، وظن أني أريد أن أغدر به ليفوه بأقوال خطرة يؤخذ بها فيما بعد، ولم يهدأ روعه حتى أخذته إلى حجرته في فندق بنسلفانيا، وفتحت له إحدى حقائبي، وأطلعته على هذه الجملة نفسها بين أوراقي.
فلما استيقن من هذا فتح لي صدره وعرفت من خلال حديثه الجريء في الفترة الطويلة التي قضاها معي في تلك الليلة أن احتقاره للحكم السوفيتي لا يقل عن احتقاري له، وأن لا شيء يمنعه من الانشقاق عنه وإعلان استقلاله إلا وجود أسرة كبيرة له في الروسيا، وهممت بأن أفضي إليه بما اعتزمته أنا نفسي، ولكنني أشفقت عليه فأمسكت عن ذلك لساني؛ لأني لم أشأ أن أثقل كاهله بهذه المعرفة الإجرامية.
ولم يكن من الحكمة أن تقرأ جريدة نيويورك تيمز أو صحف واشنجتن، وإن لم يصدر إلينا أمر صريح يحرم علينا قراءتها، أما مطبوعات هيرست واسكربس هورد فكان ينظر إليها كما ينظر إلى المهربات، وكان أسلم الوسائل لنا وأبعدها عن الخطر أن نقرأ جريدة «الديلي ووكر» أو «رسكي جولوس» التي تصدر باللغة الروسية، أو الصحف الأسبوعية المناصرة للسوفيت كصحيفة «ذي نيشن» أو «ذي نيوريبلك»، وكانت صحيفة «ليف» تعد من الصحف المسموح بها ، وخاصة بعد أن أصدرت عددا روسيا حوى من الدعاوة السوفيتية أكثر مما حوى من الحقائق، واعتقادي أنها خسرت فيما بعد هذا المركز الذي أصبح لها في أعين الحكام السوفيت، وخسرته فجأة، حين نشرت مقالا للسفير السابق وليم ك. بولت عن الخطط السوفيتية السياسية في أوروبا.
وبينا كنت في طريقي إلى واشنجتن في عربة بولمان، أقلب صحيفة «ذي سترداي إيفننج بوست»، إذ أقبل علي زميل لي من أعضاء البعثة، وجلس إلى جانبي وأخذنا نتحدث في شئون عملنا، وأشرت في خلال الحديث إلى هذه الصحيفة وما فيها من صور وإعلانات، وأظهرت اهتمامي بنوع خاص بمقال رأيت فيه نقدا للحكومة، وكان مما قلته في حديثي هذا: «إن هؤلاء الأمريكيين لا يترددون قط في أن يقولوا ما يعتقدون في موظفيهم من الرئيس روزفلت إلى من هم دونه منهم.»
وكانت إشارة عابرة نطقت بها من غير تفكير ونسيتها بعد أن نطقت بها مباشرة، وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت استدعاني الرفيق ماركوف، أمين سر الوحدة الحزبية التي أنا تابع لها، إلى مكتبه وسألني: «كيف كانت رحلتك الأخيرة؟» - «كانت رحلة طيبة.» - «والتقيت فيها بالرفيق «ب...»، أليس كذلك؟» - «نعم، التقيت به.» - «وفي أي شيء تناقشت معه؟»
فقلت في حيرة: «تناقشت؟ أنا لا أذكر أني تناقشت معه في شيء.» - «أخشى أن أقول لك يا رفيق كرافتشنكو أن هذا بداية غير طيبة، وأن الأمور لن تكون بيننا على ما نحب منذ اليوم، فأنت غير صريح معي، فهل تحب أن أذكرك بما تناقشت فيه؟ إنه بلا شك قد نسيت أنك انتقدت الصحافة السوفيتية، وشكوت من أننا لا نهاجم الرفيق ستالين.»
فصحت قائلا: «إن هذا كذب! وأصر على أن تستدعي الرفيق «ب...» وسأرغمه على أن ينكر كذبه هذا.»
ولما واجهني الرفيق «ب...» لم يؤت من الشجاعة ما يكفي لتأييد التقرير الذي قدمه عن «ملاحظتي المعارضة للثورة» وعلى أثر هذا قرر أمين سر الوحدة أن تقف المسألة عند هذا الحد، ولكني شعرت بعدها بشدة الحاجة إلى إمساك لساني.
وثمة حادثة أخرى صغيرة أقصها على القارئ: مرضت مرة واضطررت إلى ملازمة الفراش بضعة أيام قليلة، وبعث إلي بعض الموظفين الأمريكيين بعبارات ودية قصيرة، يدعون لي فيها بالشفاء العاجل، وكانت هذه عواطف إنسانية أشعرتني بما بيننا من زمالة، ولكني بعد عودتي فعلت فعلة ندمت بسببها على عطفهم هذا، ذلك أن معرفتي باللغة الإنجليزية لم تكن كافية لقراءة ما في رسائلهم بدقة، فجئت بهذه الرسائل إلى مكتبي وطلبت إلى أحد الأشخاص أن يترجمها لي.
ونسيت المسألة كلها بعدئذ، فلم أذكر منها شيئا حتى استدعاني الرفيق ماركوف نفسه فجاءة، وأخذ يستجوبني بعنف عن علاقتي بكل واحد من الأمريكيين الذين كتبوا إلي، وعما هناك من سر في هذه الأخوة بين رجل مسئول من رجال الحزب و«أعداء الطبقة العاملة» الذين من حوله، وختم استجوابه بتوبيخ صارم وتحذير لي من الوقوع في الحبائل التي ينصبها لي من حولي من الرأسماليين، واعتقدت أني قد أسعدني الحظ إذ لم يصبني في هذه المرة أكثر من هذا الأذى البسيط.
وأوقعتني بعض الرسائل في أزمة أخرى في أثناء حياتي العملية في واشنجتن، فقد اطلع موظف كبير في البعثة بطريق الصدفة على بطاقة بريد أرسلها إلي أحد الجنود الأمريكيين من فلوريدا، وسرعان ما استدعيت للمثول بين يدي ولاة الأمور متهما «بالاتصال بالقوات المسلحة الأمريكية» اتصالا غير مشروع، ولم أستطع إقناعهم بأن هذا الجندي ابن الأسرة الطيبة التي أقيم معها إلا بجهد جهيد.
وكان مما دافعت به عن نفسي: «إن هذه الصلة لا تخرج عن أن تكون صلة صداقة إنسانية بريئة لا علاقة لها البتة بالأمور السياسية، وفضلا عن هذا فإني قد امتنعت من الرد على هذا الشاب.»
وكان القسم الثاني من إجابتي كذبا؛ ذلك أني أجبته فعلا على تحيته، ولو أني لم أجبه لظن أن جميع الروس أجلاف لا يعرفون واجب المجاملة، ولا بأس من كذبة بريئة صغيرة يتخلص بها أحد أبناء الدولة الدكتاتورية من مثل هذه الورطة.
وفي البناء الذي تقيم فيه البعثة مكتبة، وطلبت إلى أمينها في إحدى الليالي كتابين: أحدهما رواية «إني أحب» تأليف أفدينكو، والثاني كتاب تاريخي لكاتب يدعى فرت ذكر فيه شيئا عن القائد توخاتشفسكي، ولما لم أجد أي الكتابين استعرت بضعة كتب أخرى، وظننت أن المسألة قد انتهت عند هذا الحد.
ولم يمض بعد ذلك إلا قليل من الوقت حتى استدعيت للمثول أمام كبار رجال الحزب، وتبين أني ارتكبت طائفة كبيرة من الأغلاط، تبدأ بالأخطاء البسيطة، وترقى إلى الجرائم الشنيعة، فقد كان اهتمامي المزعوم بقراءة شيء عن أعمال القائد توخاتشفسكي الذي أعدم لاتهامه بالخيانة جريمة من أشنع الجرائم، وسئلت ألم يصل إلى علمي أن فرت مؤلف هذا الكتاب لا يقرأ الآن في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية؟ ولم يكن في وسعي أن أعتذر عن هذا بجهلي، فالشيوعي الصادق في شيوعيته يجب أن يعرف من هم «أعداء الشعب»، أما الرواية التي كانت فيما مضى واسعة الانتشار في الروسيا فقد حرمت قراءتها لسبب من الأسباب واحتوتها القائمة السوداء في هذه الأيام، فعلام إذن كنت أرغب في قراءة هذه القصة «المضادة للثورة» في هذا الوقت بعينه؟ وقصارى القول: إني أصبحت الآن موضع الريبة الشديدة في أعين الحفظة على طهارة الحزب الذي أنتمي إليه.
والحق أن هذه المكتبة كانت من أهم الوسائل التي تراقب بها آراؤنا، فقد كنا مقطوعي الصلة بمن نعيش بين ظهرانيهم من الأمريكيين، وكان معظمنا لا يجيدون اللغة الإنجليزية، فكنا لهذا مضطرين إلى كثرة القراءة، وكان جواسيس المكتبة يراقبون ما نختار من الكتب والصحف الدورية مراقبة دقيقة، وحتى الكتب التي كنا نلقي عليها نظرات سريعة في المكتبة نفسها كانت تبلغ أسماؤها إلى الرؤساء، وكانت هذه كلها تتخذ دلائل تهدي إلى معرفة عقليتنا، فكانت من أجل هذا تسجل في ملفاتنا.
وكان بالمكتبة فضلا عن المؤلفات الدسمة في تاريخ الحزب وغيره من البحوث الفكرية العميقة كتب ذات موضوعات سهلة خفيفة، وكثيرا ما استعرت بعض المؤلفات من النوع الأول، ولم أكن أقصد بذلك قراءتها، بل كان هذا لمجرد الرغبة في ألا أظهر ميلي إلى القراءة الخفيفة وحدها؛ ذلك أن أخوف ما يخافه الرقباء أن تؤثر فينا البيئة الرأسمالية الرخوة الضعيفة؛ ولذلك كان همنا جميعا أن نظهر لهؤلاء الرقباء أن إيماننا قوي لم يفسد ولم يتزعزع، وعمدنا بناء على اقتراح سيروف إلى دراسة تاريخ الحزب، والقضايا اللينينية لستالين وما ماثلهما من الكتب رغم أننا قد درسناها من قبل، وكنا في اجتماعات الحزب المغلقة نتبارى في إظهار قوة إيماننا بالحزب وبالزعيم.
وكنا في أمريكا يحيط بنا جو من السرية أضيق مما يحيط بنا في الروسيا نفسها، من ذلك أن أصدقاءنا في الروسيا لم يكونوا يعرفون لنا عنوانا إلا عنوان البعثة نفسها، حيث يقرأ كل خطاب قبل أن يسلم إلينا وإن كان هذا الخطاب يحمل خاتم الرقيب السوفيتي، وكانت الخطابات التي نبعث بها إلى الروسيا مع أشخاص مسافرين إلى تلك البلاد تسلم مفتوحة إلى البعثة لترسلها هي بنفسها.
وحرمت علينا زيارة النوادي الليلية، ومشاهدة المسرحيات والأشرطة «المعادية للثورة»، والاستماع إلى من يعدهم الرؤساء «معادين» للقضية السوفيتية من المعلقين على الحوادث والأنباء، وكان أهون علينا أن نضبط متلبسين بجريمة القتل من أن نضبط ونحن نقرأ كتابا معاديا للسوفيت، ولكننا رغم هذا كنا نرتكب كثيرا من هذه المحظورات لأننا بشر ولأن ما نتعرض له من المغريات التي تدعو إلى ارتكاب هذه الجرائم السياسية مغريات قوية في البلد الديمقراطي، على أننا كنا نرتكب هذه الجرائم وقلوبنا تكاد تنخلع من شدة الخوف، وما أكثر من فقدوا مراكزهم وقضي على مستقبلهم بسبب هذه المخالفات.
وإن المرء ليصعق حين يفكر فيما يتعرض له الموظف السوفيتي في الخارج من تجسس معقد محكم واسع النطاق، فقد كان ينتظر من كل واحد منا بوصفه عضوا مخلصا للحزب، حريصا على الدفاع عن نفسه، أن يبلغ عن كل ما يريب من ألفاظ غيره وأعمالهم، وكان هذا يعد واجبا محتوما وقضية مسلما بها، سواء كان في موسكو أو فلادفستك أو واشنجتن أو تشكاجو.
وكان للحزب فضلا عن هذا جيش من العمال الخصوصيين منبثين في البعثة، يشغلون مناصب فنية مختلفة في الظاهر، ولكنهم في حقيقة أمرهم يتجسسون على من حولهم، ويضاف إلى هؤلاء وأولئك عمال القسم السياسي الذين لا نعرفهم نحن بطبيعة الحال، ولكنهم أشد هؤلاء الجواسيس رهبة، وتتكون منهم حلقة محكمة لا نستطيع الإفلات منها، وكان هؤلاء جواسيس محترفين عملهم الرسمي هو التجسس، ولم يكن القائد الذي يرأس البعثة ولا الرفيق سيروف نفسه بمنجاة من هذا التجسس المحكم الشامل.
وإذ كنا لا نعرف من هم الجواسيس - لأن الجاسوس نفسه لم يكن في الغالب يعرف زملاءه - فقد كانت السبيل الوحيدة للسلامة أن يعتقد الواحد منا أن كل إنسان غيره عين عليه، أو سيكون عينا عليه في يوم من الأيام، ومن أغرب الأشياء حقا أن هذا النظام الآثم المفسد للأخلاق لم يمنع الكثيرين منا أن يتخذ بعضهم بعضا أصدقاء أوفياء مخلصين، وأن يشارك بعضنا بعضا في أفكارهم واستيائهم وأحزانهم، بعد أن يتعاهدوا على أن يكتموا أسرارهم في قلوبهم، ولم يكن الرفيق سيروف يعرف كم من مرءوسيه قد وفدوا من الروسيا بعد أن زالت عن عيونهم ما كان يطمسها من غشاوة الخداع، وكم منهم قد سرت في نفوسهم عدوى الوباء الديمقراطي من أمريكا؛ ذلك أن الكثرة الغالبة ممن يقيمون في خارج الروسيا من رعايا الطغيان كانوا خلائق آدميين، ينفرون من الذل الذي ضربه عليهم نظام من الحكم قائم على الريبة المتبادلة.
وكنا إذا رأينا زميلا لنا يظهر دلائل من الود غير عادية بدا لنا أن من الحكمة أن نظن أنه يحاول كسب ثقتنا لحاجة في نفسه؛ ذلك بأننا كنا نعلم حق العلم أن الرفاق المتحمسين أو العمال المحترفين كثيرا ما يثيرون الموضوعات الخطرة ليختبروا بذلك قدرتنا على مقاومة البيئة الأمريكية الآثمة.
وكانت السنون الطوال التي قضيتها قريبا من كبار الحكام، وبخاصة ما قضيته منها في مجلس الوزراء، قد عرفتني بكثيرين من الزعماء والموظفين أصحاب النفوذ والسلطان، وما كان أشد دهشتي حين وجدت عددا قليلا من هؤلاء يشغلون مناصب جد متواضعة في واشنجتن، ولم أكن أشك في أن مناصبهم الظاهرة لم تكن بالضرورة عملهم الحقيقي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ذلك أن الاتفاقات المعقودة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي لم تكن تجيز إلا لعدد محدود من الموظفين السوفيت بالقدوم إلى أمريكا يحملون جوازات دبلوماسية عادية؛ ولهذا كان العدد الزائد من موظفي قلم المخابرات يرسلون إلى هذه البلاد على أنهم موظفون أو أخصائيون في الشئون الاقتصادية.
وكنت ذات يوم في مصعد في البناء الذي تشغله مكاتب البعثة، فألفيت نفسي وجها لوجه أمام رجل كان يشغل في موسكو منصبا خطيرا نوعا ما، وسرعان ما عدت بذاكرتي فجاءة إلى الوقت الذي رأيته فيه مع قائدين من قواد القسم السياسي يشاهدون مسرحية الجبهة حين كانت تمثل لأول مرة، وتظاهر الرجل بأنه لم يعرفني، ولكنه في مرة أخرى أحدق في وجهي وحذرني من القول بأني أعرفه، ومن الكشف عن هويته؛ لأنه إنما جاء إلى هذه البلاد في مهمة تجارية خاصة.
وأكبر الظن أن الحكومة الأمريكية لم تكن تعرف عنه إلا أنه موظف صغير من المشرفين على تنفيذ قانون الإعارة والتأجير، وإن كانت حقيقة أمره أنه من كبار الموظفين في لجنة الحزب في موسكو.
ومهما يكن العمل الخاص الذي يقوم به المندوب الاقتصادي السوفيتي في أمريكا، فإن جزءا خطيرا من مهمته أن يحصل على كل ما يستطيع الحصول عليه من المعلومات عن الشركات الأمريكية الصناعية وعما فيها من الأعمال الفنية والشئون العسكرية والعلمية وما إليها، وكانت هذه بعض التعليمات الصريحة التي تلقيتها قبل أن أغادر الروسيا، ولم يكن موظفو البعثة يغفلون عن تكرارها على مسامعي من حين إلى حين، ولم نكن في اجتماعات البعثة المغلقة نتردد في الجهر بأن جمع الحقائق الاقتصادية وغيرها من المعلومات النافعة يجب أن يكون له المقام الأول عندنا في أثناء زيارتنا للمصانع والمكاتب الأمريكية.
وكان يقال لي على الدوام: إن ضرورات الحرب قد جعلتنا حلفاء لإنجلترا وأمريكا، ولكننا يجب ألا نثق بأي أمريكي لأن الديمقراطيات التي تسيطر عليها القلة الموسرة ستغتنم أول فرصة تتاح لها للقضاء على نظامنا السياسي، وكان مما قاله لي الرفيق سيروف في أول اجتماع لي به: «يجب ألا تخطئ في فهم علاقتنا بالولايات المتحدة، فنحن اليوم نرى أن صلاتنا بأمريكا الرأسمالية صلات نافعة من الوجهتين: السياسية والحربية، ولكن هذا لا يعني أن مصالحنا يمكن أن تتفق مع مصالحها، ذلك أن وسائلنا وغاياتنا في زمن الحرب نفسها وفي أوقات السلم متباينة أشد التباين، فإذا عرفت هذا ولم يبرح قط من ذهنك أدركت لم يجب علينا أن نظل على الدوام مستيقظين مرتابين فيهم مترفعين عنهم.»
ودعي الشيوعيون من موظفي البعثة إلى اجتماع خاص في يوم ما، وكانوا يبلغون نحو تسعين في المائة من الموظفين المسئولين، ولما أغلق الباب على المجتمعين أعلن الرفيق سيروف أن لديه أخبارا هامة يريد أن يفضي بها إلينا، ولاحت عليه وهو يذيع هذا مظاهر الجد، واتخذت هذه الأخبار صورة وثيقة غاية في الطول، أخذ يقرأ علينا محتوياتها ببطء وبنغمة مؤثرة، ثم وقعناها كلنا دلالة على أننا عرفنا محتوياتها.
وكان على هذه الوثيقة توقيع ميكويان وزير التجارة الخارجية، ولكنها من غير شك من وضع القسم السياسي بالاشتراك مع قلم المخابرات الحربية، وكانت عبارة عن طائفة من الأوامر المفصلة، عما يجب علينا أن نحصل عليه من المعلومات في الولايات المتحدة، وعن كيفية الحصول عليها، وطريقة إخفاء وسائلنا، وإرسال هذه المعلومات إلى بلادنا، ومع أن هذه الوثيقة لا تعدو أن تكون تكرارا للأوامر التي تلقيناها من قبل، فقد كان يقصد بها أن تذكرنا بأن الرؤساء العظام في بلادنا يعتمدون علينا في أداء واجبنا من هذه الناحية تحت ستار الأعمال المتصلة بشئون الإعارة والتأجير.
وكنت أينما ذهبت في أمريكا ألقي حظي من التقدير والإعجاب العام الذي لا حد له «بحلفائنا الروس البواسل»، وكان هذا الإسراف في الثناء مؤلما في بعض الأحيان، ومع هذا فقد كان من الخير أن أعرف أن الأمم الأخرى تقدر تضحيات الشعب الروسي، على أن هذا التقدير نفسه كان مع ذلك منشأ متاعب كثيرة سببت لي في بعض الأحيان أشد الآلام، فقد فسرت تفسيرا غريبا بل تفسيرا يدعو إلى السخرية؛ ذلك أن أهل الولايات المتحدة قد اتخذوا من الانتصارات الروسية الحديثة، ومن الهزائم الساحقة التي منيت بها جيوشنا قبل هذه الانتصارات، دليلا على صلاح الحكم السوفيتي، ولست أدري أي منطق هذا الذي بني عليه هذا الاعتقاد، إلا أن يكون منطقا معكوسا لا يخلو من لوثة عقلية، إن انتصارات هتلر الأولى لم تكن في نظرهم إلا دليلا على أن هذا الوحش الكاسر كان قويا، أما هجمات ستالين التالية وانتصاراته فقد كانت لسبب لا أعرفه دليلا لا يقبل الطعن على صلاح البلشفية.
ولست أنكر أن الشعب الروسي قد قام بأعمال مجيدة، وأنا أدرك هذا خيرا مما يدركه أي متحمس أمريكي؛ لأني أعرف ما لا يعرفونه هم، وهو أن ذلك الشعب كان مغلول الأيدي بما فرض عليه من حكم ظالم استبدادي متخبط في أعماله، لكنني مع ذلك لم يكن في وسعي أن أغفل أننا كنا نحارب فوق أرضنا، وأن من ورائنا قوة من الرجال لا تنفد، وأننا نستغل إلى أقصى حدود الاستغلال مواردنا الصناعية ومعونة الأمريكيين الفنية، ولم يكن في وسعي أن أدرك كيف يعزى ما أحرزه الروس من انتصارات كلفتهم أعظم الضحايا إلى العبقرية البلشفية، ولكنني لم يكن في وسعي وأنا موظف سوفيتي تحت الرقابة المستمرة أن أجهر بالحقيقة، وأن أدفع عن بلادي هذه التهمة الشنيعة، وأصحح الوقائع التي وضعت هذا الوضع المعكوس! وكم من مرة وجدت نفسي مرغما على كبت مشاعري والاستماع في صمت مؤلم لمن يعزون إلى الطغيان السوفيتي الفضل فيما قام به الشعب الروسي من أعمال مجيدة.
وكان ثمة ما هو أكثر من هذا غرابة، لقد كنا في بلادنا نستحي من ميثاق هتلر - ستالين فلا نكاد نشير إليه بكلمة، وكانت الخطب والكتابات الرسمية تمر بالفترة التي قام فيها هذا الميثاق مر الكرام باللغو، أما في أمريكا فقد أصبح هذا الميثاق بطريقة خفية عجيبة برهانا جديدا على حكمة ستالين وبعد نظره، فكان الأمريكيون يبدون سخطهم على سياسة المسالة التي اتبعها الساسة مع هتلر في ميونخ واغتباطهم بهذه السياسية نفسها التي اتبعت معه في موسكو، ويرون لسبب ما أن من العار على الحلفاء أن يكسبوا الوقت بتوجيه الجهود النازية نحو الشرق ضد بولندا والروسيا، وأن من الحكمة والسياسة الرشيدة أن توجه جهود الألمان نحو الغرب ضد فرنسا وإنجلترا.
وكان الأمريكيون قد عقدوا العزم على أن يروا في كل شيء فضلا لستالين وعارا على الدول الديمقراطية، فكانت جميع الأغلاط الدبلوماسية التي يرتكبها الكرملن، ومساوماته المزرية الذليلة مع النازيين، وعجزه عن الاستعداد للحرب، وكل ما تخبط فيه وارتكبه من أخطاء - كفر عنها الشعب الروسي ببحار من دمائه - كان هذا كله يمثل في الصحافة الأمريكية وفي الأحاديث الأمريكية على أنه فضائل خاصة خفية لا يعرف سرها إلا الراسخون في العلم.
أما أنا فكنت أتوقع - جهلا مني وسذاجة بلا شك - أن تشعر التضحيات الروسية شعوب العالم الخارجي بما يعانيه شعبنا من ويلات، كنت أتوقع أن يقول المواطنون الديمقراطيون على الأقل: إن أقل ما يستحقه أولئك الروس الأبطال أن ينالوا نصيبا من الحرية والنظم الديمقراطية، ولكني وجدت عكس هذا، وجدت قلوبا قاسية لا تعنيها مأساة الشعب الروسي، قسوة يعزى معظمها إلى الجهل، وهو أمر قد يعذرون عليه، ولكن بعضه راجع دون شك إلى عدم المبالاة بمصائب الإنسانية، وهو أمر مشين بلا ريب، لقد كانت أماني أهل كوريا والمجر وتطلعهم إلى الحكم الديمقراطي تجد عطفا وتشجيعا في هذه البلاد، أما آمال الروس الديمقراطية فقد كانت تعد خروجا على القانون، وينظر إليها على أنها ضرب من الخيانة والإجرام في حق الوطن.
وكان في وسعي أن أرى حتى في الأسابيع القليلة التي أعقبت وصولي إلى أمريكا أن شخصا ما في مكان ما قد حول تيار العطف على الروس إلى مصلحة ستالين، حتى استحال ما يجب أن يكون بشيرا للروس بالحرية مبررا للطغيان السوفيتي ومؤيدا له، وأدركت، ويا لهول ما أدركت، إن ما لستالين من السيطرة على عقول الأمريكيين لا يقل قوة عما له من السيطرة على عقول الروس.
وأذكر أني قلت مرة في هدوء لصديق جديد من الأمريكيين: «ولكن البريطانيين أيضا من حلفائكم، ومع ذلك فقد سمعتكم توجهون إليهم مر الانتقاد، لقد قلت في يوم مضى: إن الشعب الإنجليزي يجب أن يثور على المحافظين والاستعماريين، فلم لا تنتقدون الحكم السوفيتي بمثل هذه الصراحة؟»
فقال: «إن ثمة فرقا بين الحالين.» - «أتقصد أن الروس هم الشعب الوحيد بين شعوب العالم الذي لا حق له في أن يثور على حكامه؟» - «إنك الآن تستدرجني يا فكتور.»
والحق أنني لم أكن أستدرجه، ثم حاولت أن أصل إلى غرضي من طريق آخر فقلت له: «لقد حاربنا نحن الروس، حرب الأبطال، وقتل منا ملايين الرجال في الحرب العالمية الأولى ضد الألمان، فهل كانت نتيجة هذه الشجاعة أن أصبحتم يومئذ من المعجبين بالقيصر وحكومته، تسبحون بحمده وتتحمسون في الدفاع عنه؟ وهل قلتم: إن شجاعتنا هذه دليل قاطع على أن الشعب الروسي راض بالأغلال التي يرسف فيها، وفي للحراس الواقفين على أبواب سجونه؟» - «لقد كانت الحال وقتئذ غير هذه الحال.»
ورأيت أن عقلية هذا الرجل لا يمكن التأثير فيها بقوة المنطق أو بضرب الأمثال، وما من شك في أنه كانت في أعماق عقليته البعيدة تلك الصورة البراقة الزائفة، صورة الأمة الاشتراكية الموفقة السعيدة التي فرضتها على عقول العالم الخارجي خير آلة للدعاوة في تاريخ العالم كله، وكان معظم الأمريكيين يمتعضون أشد الامتعاض من أية محاولة مهما كانت صغيرة لمحو أقل جزء من هذا البهرج الكاذب وللكشف عما تحته من قذارة وبشاعة أخلاقية، كأن هذه المحاولة تعرض الأسس التي تقوم عليها عقائدهم الدينية لأشد الأخطار.
ولقد خيل إلي أن تطورا غريبا لا يكاد يصدقه الإنسان قد طرأ على عقول الأمريكيين، فجعلهم يعتقدون أن الدكتاتورية السوفيتية والشعب الروسي شيء واحد، وبذلك أفلح الشيوعيون في أن يفعلوا في أمريكا ما لم يفلحوا بعد في فعله في بلادهم، كما تدل على ذلك أعمال التطهير والملايين الذين يرسفون في أغلال السجون، لقد كانت حرية القول والصحافة طليقة تنتقد غير الروس من حلفاء الأمريكيين كالبريطانيين والبولنديين والتشكوسلوفكايين وتقول ما تشاء في الحكومة الأمريكية وفي الطريقة التي تدير بها دفة الحرب، ولكن نوعا من الرقابة قد فرض على هذه الحريات جميعها في جميع الشئون المتعلقة بالمصالح السوفيتية والكرامة السوفيتية، فرضته عليها قوة أدبية عظيمة التأثير في عقول الأمريكيين، لقد رأيت رجالا ونساء لا يستنكفون أن يصفوا الرئيس روزفلت بأنه طاغية مستبد، ولكنهم يفور فائرهم إذا قيل لهم إن ستالين طاغية.
هذا في أمريكا، أما في الروسيا فإن الحرب لم تحدث تغييرا يذكر في الدعاوة المضادة للرأسمالية داخل حدود الاتحاد السوفيتي، بل واصلت هذه الدعاوة انتقادها للسياسية الحربية البريطانية والأمريكية، وكثيرا ما كانت انتقادات مرة عنيفة، ففي أمريكا كان محظورا على الشعب أن تخالجه ريبة في مسلك الكرملن داخل الروسيا وخارجها، حتى وصل الأمر بناشر أمريكي «حر» أن يطلب إبعاد جميع المؤلفات التي لا تحبها موسكو من دور الكتب الأمريكية! ولقد قيل لي: إن غيره من الناشرين رفضوا أن ينشروا بعض الكتب لا لسبب إلا أنها قد تسيء إلى شعور ستالين، ولست أدري أفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم أم بإيعاز من ولاة الأمور، أما الصحف والمجلات الأمريكية كلها إلا القليل منها فلم يكن لها من الشجاعة ما تجرؤ به على نشر ما يسميه الأمريكيون مقالات «معادية للسوفيت».
وكانت «الأنباء» التي تصل إلى الصحف الأمريكية من مراسليها في موسكو عديمة الفائدة إن لم نقل: إنها ضارة ضررا بليغا، فلقد تعلمنا في بلادنا كيف نسقط الجزء الأكبر مما نقرؤه في الصحف السوفيتية، وكيف نفسره التفسير الصحيح، وكيف نقرأ ما بين السطور، وكان الصحفيون الأمريكيون في موسكو لا ينقلون إلى صحفهم إلا مقتطفات من الجرائد التي تصدر في العاصمة السوفيتية؛ لأنهم لم تكن لهم مصادر غيرها يستمدون منها معلوماتهم، ولكن قراء هذه الصحف من الأمريكيين لم يكن في مقدورهم أن ينقدوا هذه الأنباء ليعرفوا صحيحها من زائفها، فكانوا من أجل ذلك يصدقون كل ما فيها دون بحث أو جدال، وكانت أكاذيب الكرملن وأساليبه السياسية الملتوية تصل جميعها إلى آذان الأمريكيين، وكأنها مؤيدة من السلطات الأمريكية نفسها؛ ولذلك كانت تصدق في هذه البلاد أسرع مما تصدق في الروسيا نفسها ، وكيف يستطيع الإنسان أن يجعل الخلائق الذين ربوا على التقاليد الديمقراطية يدركون أن إذاعة «الأخبار» المراقبة التي تسيطر الحكومة عليها تكون في أغلب الأحيان شرا من عدم إذاعتها؟
من أجل ذلك كانت الآراء السائدة بين الأمريكيين عن معجزات النظام السوفيتي آراء عجيبة حقا، ويلوح أن معظم ما يلازم الشيوعية من آثام كالسخرة، وطغيان الشرطة السرية، وأعمال التطهير المتكررة الواسعة النطاق، وانحطاط مستوى العيش انحطاطا لا يكاد يتصوره الخيال، والقحط الشديد الذي عم البلاد في عام 1932-1933م، وفظائع المزارع الجماعية، واستخدام الأطفال في الصناعات بطريقة منظمة معترف بها من قبل الحكومة، يلوح أن معظم هذا قد غاب عن أنظار الأمريكيين، وإن كان كله من الأعمال التي لا يخفى منها شيء على الذين يقيمون في داخل البلاد الروسية، ولربما رآها بعضنا أعمالا لازمة أو محتومة لا محيص عنها، بل لقد يظنها البعض أعمالا شريفة لا غبار عليها، ولكن أحدا منا لا يمر بخاطره مطلقا أن ينكرها، أما في أمريكا فقد كنت إذا جرؤت على ذكر هذه الأشياء وأمثالها (وذلك حين تكون الصراحة مستطاعة لا خطر منها) نظر إلي الأمريكيون نظرة المكذبين، بل لقد كان منهم من يبادر إلى إنكارها كلها إنكار الواثق مما يقول.
ولشد ما أيقنت أن أعظم ما ناله السوفيت من نصر كان في ميدان الدعاوة الخارجية، وسرعان ما استحالت هذه العقيدة في نفسي إلى ما يشبه القوانين الرياضية: «إذا استطاع الاتحاد السوفيتي في خلال العشرين عاما المقبلة أن يصل إلى نصف المستوى الذي يضعه فيه المعجبون به من الأمريكيين فإن ذلك يكون أعظم الأعمال الاجتماعية المجيدة التي قام بها البشر في عصور التاريخ قديمها وحديثها.»
أما الذين يعرفون بعض الحقائق المرة عن الحياة في ظلال الحكم السوفيتي فقد كانوا شديدي الميل إلى توجيه اللوم كله إلى ستالين نفسه، وكان في وسعهم بفضل هذا الميل أن يغضوا النظر عن الفظائع التي ترتكب في ظلال هذا الحكم، وأن يقبلوها على أنها فترة انتقال تمهد للنعيم المقبل، وكانوا يقولون: إن «الديمقراطية الاشتراكية » ستزدهر بعد ستالين، وهل ستالين إلا بشر ستنقضي أنفاسه المعدودة كما تنقضي أنفاس سائر الآدميين؟ ولقد لاحظت في بلادنا نفسها مثل هذا الميل إلى إلقاء تبعة هذه الآثام على عاتق فرد واحد، ولكن هذا الخداع كان في أمريكا أوسع انتشارا منه في بلادنا، غير أني أقول والأسف يملأ جوانحي: إن هذه الشرور متأصلة في النظام السوفيتي كله، وإن هذا النظام لن يموت بموت ستالين، بل سيظل قائما يتولى زمامه طاغية آخر أو زمرة من الطغاة.
ولقد وجدت نفسي في يوم من الأيام في بلدة أمريكية صناعية صغيرة، وفي صحبة طائفة من الرأسماليين، ومن أشد المحافظين وأكثرهم عداء للعمال، وكان مما قالوه لي في حديثهم معي أنهم يرون من الواجب عليهم أن يجهروا بأنهم لا يرضون عن النظام السوفيتي، وأنهم في واقع الأمر يبغضونه ويخشون ما قد يكون له من الأثر في تفكير الأمريكيين، ترى ماذا كانت الصورة التي تنطوي عليها عقولهم لهذا النظام الذي يبغضونه؟ وأخذت أستدرجهم لأتعرف هذه الصورة على حقيقتها، وما كان أشد دهشتي حين تبينت أن روسيا بلد «يحكمه العمال، ويعيش فيه الزراع في مجتمع تعاوني، كل من فيه متكافئون!» وكان معنا موظف سوفيتي آخر فألفيت نفسي في وضع مؤلم لا أحسد عليه؛ إذ كنت عاجزا عن أن أوضح لهؤلاء الجهلاء أن العمال في أمريكا أعظم سلطانا، وأن النقابات الأمريكية أقوى نفوذا، وأن الزراع الأمريكيين أشد تعاونا، وأن الأفراد أوسع حرية مما تحلم به روسيا السوفيتية، أو تجرؤ على أن تحلم به.
وعثرت في مكتبة البعثة على مجموعة من خطب هنري أ. ولاس، وقرأ لي شخص يعرف اللغتين الإنجليزية والروسية أهم ما ورد في هذه الخطب عن روسيا، فلما سمعتها لم أكد أصدق ما سمعت، فقد أخذ نائب رئيس الجمهورية في حكومة ديمقراطية يثني على ما يسميه «الديمقراطية الاقتصادية» في دولة ستالين البوليسية! ترى هل عرف مستر ولاس تلك الحقائق التي لا يجهلها إنسان في بلادنا؟ هل عرف شيئا عن الشرطة السرية والقسم المخصوص القائمين في كل مصنع سوفيتي، وعن نقابات العمال التي تسيطر عليها الدولة، وعن افتقار البلاد إلى الأعمال الجماعية الحقة في البيع والشراء، وعن عقوبة الإعدام التي يحكم بها على الإضراب، وعن إرهاق العمال في المناجم وتكليفهم بما لا قبل لهم به من الأعمال، وعن نظام الأجر بالقطعة، وعن جوازات المرور التي لا بد لكل عامل أن يحصل عليها، وعن القوانين التي تعاقب من يتأخر عن عمله أكثر من عشرين دقيقة بالطرد وبالموت هو وأسرته جوعا، وعن مستعمرات السخرة؟ ألم يسمع مستر ولاس شيئا عن هذه الأمور، أو أنه سمع بها ولكنها استحالت في عقله بطريقة لا نعرفها إلى مظاهر «الديمقراطية الاقتصادية»؟
وجاهدت في قراءة كتاب عالم واحد تأليف «وندل ولكي»، فقد كنت أعمل في مجلس الوزراء في أثناء زيارته للروسيا، وأعرف وقتئذ أن ولاة الأمور قد سخروا كل وسائل الدعاوة البهلوانية للتأثير فيه، فلم يترك أقل شيء للمصادفات، بل سار كل شيء طبقا لخطة مرسومة، فلما قرأت ما كتب ذهلت وارتعت لنجاح خططنا، وعجبت كيف يستطاع تضليل إنسان ما هذا التضليل الواسع النطاق في ذلك الوقت القصير؟ لقد قرأت الفصول الخاصة بالروسيا من كتابه فأحسست أنه يكتب عن بلد لم تطأه قدماه، بلد لا وجود له إلا في مكان ما على سطح القمر، وقصارى القول: إن الكتاب شاهد فذ على نجاح الدعاوة الدكتاتورية.
لقد أخذ مستر ولكي يصف في كتابه كيف دعا جماعة من الصحفيين السوفيت الظرفاء في أحد فنادق موسكو ليتحدث إليهم حديثا صريحا لا يقصد تدوينه، وكيف أغلقوا الباب على أنفسهم، وأخذ كل منهم يصارحه بما في نفسه، ولعمري لو أنني أردت أن أكتب مسرحية أندد فيها ببلاهة الأمريكيين وسهولة انخداعهم حين يكونون في خارج بلادهم، لما وجدت لمسرحيتي خيرا من هذا المنظر، ولوضعته كما هو دون تغيير، أحق أن مستر ولكي ومستشاريه الأمريكيين يعتقدون أن في وسعهم أن يحصلوا على الآراء الصحيحة الصادقة إذا أغلقوا الأبواب، ومنعوا دخول «الموظفين؟» ألا يعرف هؤلاء أن كل صحفي سوفيتي، بل كل مهندس، وكل مرشد للسياح إن هو إلا «موظف» تفرض عليه الأعمال فرضا، ولا يجد من تنفيذها مفرا؟ إن مجرد التفكير في نقاش صريح «غير مسجل» مع وجود مواطن سوفيتي على مسمع من مواطن آخر ليكشف عن الجهل المطبق بحقيقة ما يحدث في البلاد الدكتاتورية، لقد نقل كل واحد من هؤلاء الصحفيين ما دار في هذا الاجتماع بطبيعة الحال، وأكد فيما نقله دفاعه المجيد عن العهد السوفيتي وولاءه له وما كان له من شأن في الإدلاء لمستر ولكي «بالآراء» المقررة المفروضة.
ذلك أنه لم يكن له سبيل يسلكها غير هذه السبيل، فكل صحفي وكل كبير في الأعمال الصناعية وكل مواطن سوفيتي يضطره عمله إلى الاتصال بالأجانب يتعهد كتابة بأن يبلغ من فوره رجال القسم السياسي عن كل اجتماع بهم، وينقل إليهم كل ما يفعل أو يقال في هذه الاجتماعات مفصلا أعظم تفصيل، وسرعان ما عرفت الإدارة الخارجية في القسم السياسي وإدارة الصحافة في وزارة الخارجية، والإدارة الخارجية في لجنة الحزب المركزية، وسائر الهيئات التي يهمها الأمر، سرعان ما عرفت هذه كلها جميع ما يتبادله المجتمعون من الآراء «الصريحة» التي يفخر بها مستر ولكي ويشيد بذكرها، ولم يعقد قط اجتماع سجل كل ما دار فيه بدقة أكثر مما سجل في هذا الاجتماع الذي «لم يسجل شيء مما دار فيه».
ولعلي لم تمر علي في أمريكا ليلة أشق على نفسي من الليلة التي قضيتها في إحدى دور الخيالة في واشنجتن، وحمدت الله أن كانت الدار مظلمة، فقد أخفى الظلام ما كنت فيه من بلاء لا أشك في أنه كان باديا على وجهي يستطيع أن يقرأه كل من يراه، وكان الموظف السوفيتي الآخر الجالس معي - وهو أيضا من أعضاء الحزب - يتلوى هو الآخر في مقعده، وما من شك في أنه لم يكن أقل مني اضطرابا وذعرا، وكانت هذه هي الليلة التي شاهدت فيها عرض شريط يسمى «بعثة إلى موسكو» أخذ موضوعه من كتاب بهذا الاسم كتبه جورف. أديفز سفير أمريكا السابق في موسكو، وكان ما رأيته كله إهانة وحشية جريئة موجهة إلى الأمة الروسية، وسخرية لاذعة من ثورتها، وتهكما على آلامها الطوال.
وكان في الكتاب من السخف أكثر مما فيه من الإثم، فقد كان محشوا بالجهالة والنفاق والسخف، يخفف منه في بعض المواضع شعاع من الحقيقة، وكان موضوع الشريط يدور كله حول هذه الحقائق القليلة المبعثرة فيه ويضيف إليها تفاصيل أخرى لا وجود لها في الكتاب؛ ذلك أن «المؤرخين» في هولي وود إذا وجدوا أن لا بد لهم من أن يختاروا بين الواقع والخيال، وبين الحقائق والسخف، لا يترددون في اختيار الخيال والسخف ونبذ الوقائع والحقائق، واتفق أن كنت أعرف كل شيء عن المصنع السيبيري الذي كان له شأن في محاكمات التطهير ، والذي ظهر في هذا الشريط، فشعرت وقت رؤية هذا المصنع أن العقل البشري لا يستطيع أن يبتدع صورة أكثر سخفا وأدعى إلى السخرية من الصورة التي رسمتها له هولي وود، بل لقد خيل إلي أن الدعاوة السوفيتية نفسها لا تجرؤ على الاستهتار في قلب الحقائق كما فعل القائمون على هذا الشريط، ولعل الدعاة الأمريكيين قد استغلوا جهل النظارة فأطلقوا لخيالهم العنان، وفي وسعي أن أقول بهذه المناسبة أن ظهور هذا الشريط كان فيه من الإهانة للأمريكيين بقدر ما فيه من إهانة للروس، فلا عجب والحالة هذه إذا نظمت صحيفة برافدا الروسية عقود المدح للمستر ديفز ولكتابه، وأخذت تنقل منه فقرات يشير فيها إلى العدالة السوفيتية التي لا مطعن فيها، وإلى أن أعمال التطهير قد محت الطابور الخامس محوا، وأن القضاء على الذين قاموا بالثورة البلشفية عمل عادل لا غبار عليه، ألا ما أغرب هذا القول وما أعظم أثره في عقول الروس الأذكياء!
لقد قضى ستالين على مؤسسي الدولة السوفيتية، ولكن الدماء التي أريقت في هذه الجريمة لم تكن إلا قطرة من بحر الدماء التي أريقت في المجازر البشرية التي هلك فيها مئات الآلاف من الأبرياء الرجال منهم والنساء، غير أن هذه الجرائم المروعة لم تزد في الشريط الذي وضعته شركة ديفرز - وارنر على أن تكون مؤامرة ساخرة صغيرة دبرها عدد قليل من البلاشفة الهازلين الطاعنين في السن، ووكلاء الأجانب الذين مثلوا في صورة «طابور خامس»، وبهذا أضحى ذلك الحادث السياسي الجلل الذي تتضاءل أمامه مذبحة ليلة سنت بارثلميو وعهد الإرهاب الفرنسي، فلا تزيدان على شجار يحدث في أطراف الطرق، أضحى ذلك الحادث الجلل، وقد هذبت حواشيه حتى أضحى لا يزيد على مهزلة تحدث في إحدى حجرات الاستقبال.
ولقد قاسيت ما قاسيت في أعمال التطهير، فعذبت في جسمي وروحي، وإن كان هذا العذاب أقل مما قساه سائر ضحايا هذا العهد، وها أنا ذا أرى محنتي ومحنة بلادي تمثل على أحد مسارح واشنجتن تمثيلا هزليا ساخرا كل ما فيه زور وبهتان، وشاهدت المنظر البشع الذي يرى فيه ممثلي هولي وود يركلون بأرجلهم ما حوله من جثث القتلى ويهتفون للقاتلين.
وخرجت في تلك الليلة من هذا الجحيم، ونظرت إلى يدي فوجدت أني أدميت كفي بأظافري، ونظرت إلى رفيقي ونظر هو إلي، وكانت نظرة واحدة كافية، فلم نكن في حاجة إلى الكلام، وقضيت الليلة مؤرقا، لم تكتحل عيني بالرقاد، تتشعبني الهموم وتتوزعني الفكر.
وشاهدت صورة أخرى تكشف عما في عقول الأمريكيين عن خرافة عن الروسيا، وكادت تذهب بلبي، وتلك هي مسرحية غنائية تدعى «النجم الشمالي» تمثل منظرا في قرية خيالية أهلها زراع ينعمون بطيب العيش، سعداء يقضون أوقاتهم كلها في اللهو والغناء والرقص وتبادل العشق، لا يعملون عملا، وكانت قرية مسحورة يغشاها جو خيالي كالذي نقرأ عنه في الأقاصيص الخيالية.
واتضح أن هذه القرية لم تكن في أرض واق الواق، بل كانت مزرعة من المزارع الجماعية في أرض ستالين!
وكانت المناظر التي شاهدناها لا تقل بعدا عن الحقائق التي أعرفها عن المزارع الجماعية من بعد بعثة إلى موسكو عن حقائق الثورة الروسية، وشاهدت بعدئذ صورا، وقرأت كتبا ومقالات، كلها خيال في خيال، ولا تنطبق إلا على بلاد لا وجود لها على ظهر هذه الأرض، كأن الدعاوة الأمريكية لم يكفها عرض الحقائق البغيضة عن الروسيا وتبريرها، بل اتخذت لنفسها طريقا أيسر من هذا وأقل عليها مشقة، وهو إنكار الحقائق بتاتا، وإقامة روسيا أخرى لا وجود لها إلا في مخيلة القائمين بهذه الدعاوة.
وظللت أسائل نفسي: لم يا ترى يصر هؤلاء الأمريكيون على اختراع جنان الفردوس وتعيين مكانها في بلادنا المعذبة؟ ولم يجهدون أنفسهم في محو كل آثام ستالين وتبرير كل فظائع البلشفية؟
يلوح لي أنه كان في أمريكا طائفة من الرجال والنساء أمثال دورانتي وهندوس وأنا لوبز سترنج وألا ونتر وألبرت ريس ووليمز وكثيرين غيرهم ممن بنوا مجدهم على إشباع رغبة السوفيت في الدعاوة الباطلة، التي لا تكاد تجد فرقا بينها وبين صحف العاصمة الروسية، وكان بين الأمريكيين طائفة أخرى أكثر عددا من الطائفة السالفة الذكر وأشرف منها بوجه عام، وهي طائفة الشيوعيين الحقيقيين الذين كانوا يرون أن الكذب لصالح الروسيا مبرر؛ لأنه ضرب من الكفاح بين الطبقات، ولأنه أقصر طريق يستولون به على زمام الحكم ولكن الذي لا أفهمه هو ما يدعو كثرة الشعب الأمريكي إلى قبول هذا الكذب والإيمان به.
على أن أكثر ما كنت أدهش له هو جهل من يسمونهم «الخبراء بشئون روسيا السوفيتية» جهلا مطبقا بنظام الحكم في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، وبكنه هذا النظام، وبدولاب الإدارة في البلاد، ولكنهم على جهلهم قد نشروا الدعاوة لهذا النظام، وثبتوا أصولها في أمريكا، وقد استطعت في يوم من الأيام أن أطلع على فهرس الكتب المحفوظة في مكتبة إحدى الجامعات الأمريكية، وما كان أشد دهشتي حين تبينت أن أكثر ما قلبته الأيدي من الجذاذات هي المحتوية على مؤلفات لينين وستالين، ولم يخالجني شك في أن بعض الناس قد عنوا كل العناية بدراسة هذه الكتب؛ لاعتقادهم أنها هادية إلى عالم خير من عالمنا الحاضر ... ولم يدهشني أن أتبين بعدئذ أن بعض طلبة هذه الجامعة من الأمريكيين والهنود والصينيين كانوا يعقدون الآمال على أن تسلك بلادهم نفس السبيل التي سلكتها روسيا السوفيتية، أما أنا فكان كل ما أرجوه لهم ألا يقضى عليهم بأن يقاسوا تلك الآلام المريرة التي قاسيتها أنا من قبلهم.
وتبينت في كثير من الحالات أني جئت إلى أمريكا في أنسب الأوقات التي أمكنتني من أن أعرف أن الأمريكيين إنما كانوا يقبلون الخرافات المنتشرة عن البلاد الروسية؛ لأنهم يتخذونها بديلا عن الحقائق التي تجابههم في كل يوم، فقد كانت المظالم السائدة في بلادهم تكسف بالهم وتنكس أبصارهم، فكانوا من أجل ذلك في حاجة إلى ما يسليهم ويريح بالهم، مثلهم في هذا كمثل الطفل المتألم يهدأ روعه باللعبة البراقة المجلجلة، فهم في هذه الحال لا يخادعون الناس بقدر ما يخادعون أنفسهم، وأكثر ما تبينت هذا الحرص على الانخداع الذاتي في كتب من يسمونهم الأحرار من الكتاب، وفي جرائد «ذي نيشن» و«ذي نيو ريبلك، ب . م»، وأمثالها من الصحف، ولقد خيل إلي أن في موقف هذه الصحف من شئون البلاد الروسية تبديدا مروعا لنياتها الطيبة.
ألا ليت هؤلاء الكتاب يؤتون من الحصافة الذهنية واتزان العقل ما يدركون بهما أن انتشار المظالم في أمريكا لا يبرر تأييدهم للمظالم في غيرها من البلاد! ألا ليتهم يعرفون أن هتافهم للتصفيات الدموية في الروسيا قد يريح بالهم ويفرج كربهم إلى حين، ولكنه لا يعينهم على الوصول إلى الهدف الأسمى، وهو إقامة منار العدل في جميع بلاد العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية!
ولقد عثرت وأنا أتنقل بين المكتبات الأمريكية على عدد من الكتب البليغة من وضع أمريكيين أوتوا من الشجاعة ما حملهم على كشف حقيقة الحال في بلاد الروسيا في عهد الإرهاب القيصري، ومن أمثال هذه الكتب كتاب جورج كينن عن سيبيريا، وعرفت أيضا أن في أمريكا كثيرين من الروس الذين نفوا من بلادهم أمثال بطرس كريتوكين الذي فر من الجاسوسية القيصرية ليشن حملة شعواء على الذين يضعون الأغلال في أعناق مواطنيهم، ولم أدر هل يطلق الأمريكيون الأحرار على هؤلاء القوم اسم «أعداء الروسيا» جزاء لهم على جرأتهم وتعريضهم حياتهم لأشد الأخطار، أو أن الأجيال المقبلة التي ستكون أكثر حكمة من الجيل الحاضر، وأقل منه جنونا وتأثرا بالدعاوة السياسية، ستدرك أن أولئك الرجال هم أصدقاء الروسيا الحقيقيون الذين يستدرون الرحمة والشفقة على الضحايا الروس المعذبين؟
لقد عرفت تدريجا وعلى مهل ما لم أكن أصدقه لو لم أكابده بنفسي، وهو أن الذين يجرءون على النطق ببعض الحقائق عن طغيان ستالين، والذين يدافعون عن الشعب الروسي وينددون بظالميه، يعرضون أنفسهم للمهانة والفصل من وظائفهم، واتهامهم بأنهم «معادون للروس»، وأدركت أن اعتزامي الفرار إلى العالم الحر الطليق، واستخدام هذه الحرية للدفاع عن مواطني، لن يكونا من السهولة كما كنت أتصور قبل القدوم إلى هذه البلاد، لقد أدركت أن سوف يشي بي ويسخر مني أولئك الأجانب ذوو القلوب الطيبة والنفوس الكريمة ممن كنت أعتمد على معونتهم.
ولقد تبينت أن دعاوة ستالين في العالم الخارجي كانت أكثر نجاحا مما خطر ببال أي واحد منا نحن الروس، وأن الروس في بلادهم لا ينظرون إلى الأسطورة التي توصف فيها تلك البلاد بأنها الأرض «الاشتراكية السعيدة»، إلا على أنها دعاوة بشعة تنشرها حكومتهم الطاغية، أما في العالم الديمقراطي الخارجي فإن كثيرين من الذين يخلقون الرأي العام فيه - رجالا كانوا أو نساء - يقبلون هذه الدعاوة بقضها وقضيضها ويؤمنون بها، ويكادون ينزلونها من نفوسهم منزلة العقائد الدينية.
الفصل الثامن والعشرون
الفرار من الظلم
جاء في الأخبار التي أذاعتها الصحف عن خروجي على الحكم السوفيتي أن انخداعي بشيوعية ستالين زال بعد أن ذقت طعم الديمقراطية الأمريكية، ثم قيل تصريحا أو تلميحا: إن وجودي في جو الحرية الأمريكية هو الذي حملني على قطع صلتي بلجنة المشتريات السوفيتية.
وقد أضفت هذه الأقوال وأمثالها على قصة فراري مظهرا روائيا، كما أن فيها ثناء مستطابا على الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن القصة كما ترويها هذه الصحف بعيدة كل البعد عن الحقيقة، وهذه الحقيقة هي أني قد قررت من زمن بعيد أن ألقي عن كاهلي نير الطغيان في أول فرصة متى سنحت وأينما سنحت، ولو أني أرسلت إلى الصين أو بتاجونيا بدل الولايات المتحدة لما ترددت قط في أن أحاول نيل حريتي حتى أستطيع القيام بالواجب الذي عاهدت نفسي على القيام به.
ولقد عاهدت نفسي على القيام بهذا الواجب عن وعي وقصد، وإن لم أعلم بالضبط في أية لحظة من حياتي اتخذت هذا القرار؛ ذلك أنه كان نتيجة لإحساسات نبتت ونضجت من داخل نفسي، نضجت على مهل ولكن كان لا بد لها أن تنضج، وكان كل ما في وكل ما يحيط بي يدفعني إلى ذلك دفعا، لقد كان يحيط بي في طفولتي جو مشبع بمثالية أبي القوية وإيمان أمي العميق، ولقد كان صلاحهما وحبهما للإنسانية مختلفين في ظاهرهما ولكنهما متفقان بطريقة ما في حقيقة أمرهما، وما من شك في أن هذه الحقيقة ذاتها هي التي لازمتني طوال حياتي.
وثمة عامل آخر دفعني إلى الإقدام على ما أقدمت عليه، وذلك هو الروح الذي أخرج من أمتي في أحلك عهودها، وتحت سيطرة أقسى حكامها وأشدهم بطشا، ثوارا خرجوا على هؤلاء الحكام، ولو أنني اعتقدت أن في طاقتي أن أجاهد في سبيل الحرية داخل حدود الاتحاد السوفيتي لما تخطيت هذه الحدود ... ولو أنني كان لدي أمل حقيقي في أن الأمور ستنصلح في بلادي فتباح فيها الحريات السياسية والاقتصادية ويتخلى زعماء هذا العهد عن البرنامج الشيوعي الدولي لما غادرت البلاد، ولكني وجدت مع الأسف الشديد أنه كلما مضت السنون خطا هذا العهد خطوات لا تقربه من المثل العليا التي تتضمنها مبادئ الثورة بل تبعده عنها.
وأيقنت أن الأمل في خلاص الروسيا من محنتها يضعف شيئا فشيئا، وأن مستقبلها يزداد قتاما، وأن الضمانات التي لا بد منها لقيام الحريات الاقتصادية والديمقراطية تزداد في كل يوم ضعفا وبعدا عن متناول أيدينا، بل إن ذكرياتها توشك أن تمحى من عقول الروس؛ ذلك أن سلطان القوة الغاشمة كان يزداد كل يوم في شدته واستهتاره وغزوه للعقول، ولقد ظن بعضنا في وقت من الأوقات أن بلادنا هي الأخرى ستطبق فيها المبادئ التي تضمنها ميثاق الأطلنطي وصك الحريات الأربع، ولكن سرعان ما تكشفت عن أبصارنا هذه الغشاوة وانمحى من عقولنا هذا الوهم، وأدركنا من فورنا أن بلادنا لن تفيد أقل فائدة من هاتين الوثيقتين، وأنهما بالنسبة لنا ليستا إلا قصاصتين من الورق.
وقد يسألني بعضهم لم ظللت في خدمة الحكومة السوفيتية سبعة شهور كاملة بعد أن جئت إلى الولايات المتحدة؟ والجواب أني كنت محتاجا إلى بعض الوقت أدرس فيه ما حولي وأقدر فيه ظروفي النفسية قبل أن أخطو الخطوة الرهيبة، وكذلك يفعل السجين الذي يريد الفرار من سجنه، فإنه يقضي بعض الوقت في دراسة عادات السجانين وطبيعة الأرض المجاورة لسجنه.
والروسي الذي نشأ في أحضان العهد السوفيتي وتحت رعايته يجد نفسه حين يخرج إلى العالم غير السوفيتي لأول مرة مخلوقا حائرا لا يكاد يجد له ناصرا أو معينا، ويرى المواءمة البسيطة بينه وبين حياته الجديدة مشكلة معقدة، ويتبين أن تفكيره وإحساسه يختلفان عن تفكير من حوله وإحساسهم، وأنه في حاجة إلى بعض الوقت يخلع فيه عن نفسه طبقة بعد طبقة من الغشاء الدكتاتوري السميك الذي غشي عقله على مر السنين، وتلك عملية معقدة غاية التعقيد.
ولقد كنت في أمريكا رجلا غريبا ليس لي فيها صديق واحد غير سوفيتي، لا أستطيع التفاهم مع أهلها ولا موارد لي فيها أعيش منها، ولو كان لي في أمريكا أصدقاء ظاهرون أو مختفون بقدر ما للدكتاتورية السوفيتية من أصدقاء ومناصرين، لحلت مشكلتي على أهون سبيل ... ويقيني أن تعليمي الهندسي وخبرتي الهندسية سيعيناني على كسب عيشي، ولكنني حين أقطع صلتي بالبعثة سأكون شخصا مفلسا، لا صديق لي ولا معين يرد عني الأداة الجبارة الرهيبة أداة الثلب والانتقام التي يسيطر عليها السجانون المحنقون، ولم تكن الشهور السبعة التي قضيتها في أمريكا أتأقلم فيها وأتعلم فيها بعض الألفاظ الإنجليزية، وأتصل فيها بعدد قليل من الناس، لم تكن هذه الشهور السبعة بالزمن الطويل.
وكنت أعرف قبل أن أخطو الخطوة التي لا رجعة فيها بشهر كامل على الأقل أن موعد هذه الخطوة هو آخر شهر مارس من عام 1944م، ومن أجل ذلك قضيت معظم هذا الشهر متنقلا في أنحاء البلاد، فسافرت مرتين إلى لنسكتر وبنسلفانيا، ومرة إلى تشكاجو وكان أكثر ما يشغل بالي ألا أفعل ما يضر أصدقائي وزملائي في البعثة أو في الروسيا، فلم أفش خططي لواحد منهم بالقول أو بالإشارة رغم إحساسي بأني في حاجة إلى الصديق، وحنيني إلى من أفضي إليه بسري، لكنني كنت أعلم حق العلم ما يصيب المواطن السوفيتي إذا علقت به أقل ريبة، وجاء رجال القسم السياسي يمعنون في الفحص عن أمري.
وكان يهمني فوق هذا ألا أترك لرجال البعثة سبيلا للطعن في أخلاقي، لقد كانت سجلاتي الخاصة بما عهد إلي من الأعمال الهامة المتصلة بقانون الإعارة والتأجير لا مطعن فيها ولا مغمز، وكنت أحرص على أن تظل كذلك إلى آخر عهدي بها، ولهذا عنيت كل العناية بتصفية أعمالي بقدر ما تسمح لي به الظروف، وتركت كل شيء منظما يستطيع من يخلفني من الأخصائيين في أعمال المعادن أن يبدأ عمله من حيث انتهيت، وسويت حساباتي المالية بعناية وإتقان في صباح آخر يوم قضيته في مركز البعثة العام في الشارع رقم 16، وكنت حين غادرت مقر عملي أدين البعثة بثلاثين ريالا، فكان هذا من أسباب غبطتي، وإن كان كل ريال منها يعدل في ذلك الوقت ألف ريال.
ولقد وصفت فراري في الصحف الأولى من هذا الكتاب، وقلت: إني صيرت نفسي رجلا طريدا لا وطن له، وأصبحت هدفا لحقد الشيوعيين الأمريكيين وزملائهم القادمين من خارج أمريكا، والذين يؤمنون بأنهم على حق في مذهبهم، ثم إني جعلت نفسي فوق هذا هدفا لحقد من هم أشد خطرا من هؤلاء، وهم رجال أعظم حكومات العالم بأسا وأشدهن قسوة.
وكان المستقبل أمامي حالكا رهيبا مقبضا للرجاء؛ ذلك أني أقدمت عن قصد، وعن علم بما يترتب على هذا الإقدام من العواقب الوخيمة، أقول: أقدمت على اختيار حرية مزعزعة غير مأمونة وفضلتها على استعباد مريح مأمون العاقبة، وليس في العالم كله من يعلم ما للدولة الدكتاتورية البوليسية الحديثة من قوة ورهبة، وما تتصف به من انحطاط وفساد خلقي شامل، وما تقذفه من رعب في النفوس، ليس في العالم كله من يعلم ذلك إلا رعايا هذه الدولة الذين عاشوا تحت سلطانها زمانا طويلا.
وكنت أعلم وقت أن غادرت واشنجتن أن البعثة الروسية فيها قد أصدرت قرارا صدقت عليه موسكو بتعييني في منصب دائم في هذه البلاد، وكان هذا التعيين بمثابة ترقية كبيرة لي، وكان المقرر أن أتولى عملي في هذا المنصب الجديد بعد بضعة أيام قليلة لا تعدو اليوم الثالث من شهر أبريل، وكانت موسكو تدعو لي فيه بالنجاح والتوفيق، ولعلي كنت أعود بعدئذ إلى بلادي أحمل معي خبرتي في الشئون التجارية الخارجية، لأكون ابنا بارا لستالين نجا من أعاصير المغريات الرأسمالية، ولم يكن ثمة حد بعد هذا للدرجات العلا التي كان في وسعي أن أرقاها في سلم البيروقراطية.
ولو أني وصلت إلى هذه الدرجات العالية لبقيت مع هذا عبدا ذليلا خاضعا لسلطان القوة الغاشمة، عاجزا عن خدمة بني وطني، محالفا للطاغين الظالمين، ومن أجل هذا آثرت عامدا أن أبقى في خارج البلاد؛ لأني كنت في حاجة إلى الحرية كي أستطيع مصارعة الاستبداد، ورضيت أن أقاسي في سبيل هذه الحرية ما لا يحصى من المتاعب وأتعرض لشتى المجازفات الاقتصادية والأخطار الجسمية، وستطوى بعد هذه الساعة صفحة فكتور كرافتشنكو، وتمحى شخصيته من الوجود، فقد يصبح إيطاليا أو يوغوسلافيا أو برتغاليا أو ما شئت من القوميات إلا القومية الروسية، ألا ما أكثر الأسماء التي تسميت بها! وآويت إلى فندق مجهول مقبض في قلب مدينة مانهتن، وفيه أعددت البلاغ الذي أرسلته إلى الصحف والذي نشر بعضه في جريدة نيويورك تايمز وغيرها من الجرائد التي صدرت بتاريخ 4 إبريل سنة 1944م، وإذا ما قرأت هذا البلاغ الآن بعد أن انتهت الحرب بانتصار الروس وحلفائهم، فإني لا أجد فيه ما يجب تعديله، بل إني لأجد عكس هذا، أجد أن الزمن قد حقق مخاوفي وتحذيري.
لقد اتهمت الكرملن وقتئذ بأنه يعمل لأغراض تتعارض مع التعاون المزعوم بينه وبين البريطانيين والأمريكيين وإن كان حليفهم في الظاهر، ولقد كتبت في ذلك الوقت أن موسكو - وإن تظاهرت بحل الدولية الشيوعية - لا تزال توجه الحركات الشيوعية في جميع أنحاء العالم، وحين أشرت في هذا البلاغ إلى السياسة التي يتبعها ستالين إزاء بولندا والأمم البلقانية وتشكوسلوفاكيا والمجر والنمسا وغيرها من البلاد، حاولت أن أظهر أن الأغراض التي يهدف إليها أغراض سوفيتية خالصة لا تتفق قط مع المبادئ الديمقراطية، ثم أضفت إلى هذا قولي: «تدعي الحكومة السوفيتية أنها تعمل لإقامة صرح الديمقراطية في البلاد المحررة من نير الفاشية، ولكنها لم تخط خطوة جدية واحدة نحو منح الشعب الروسي الحرية الأولية.
ولا يزال الشعب الروسي كما كان في العهود الماضية خاضعا لضروب من العسف والظلم لا يمكن وصفها، ولا تزال الشرطة السرية تعمل عن طريق آلاف الجواسيس التابعين لها، وتفرض سلطانها المطلق على سكان البلاد الروسية ، ولقد أخذت الحكومة السوفيتية تقيم نظامها السياسي نظام العسف الخارج على كل الشرائع في الأقاليم التي حررت من الغزاة النازيين، ولا تزال السجون ومعسكرات الاعتقال تعمل عملها كما كانت تعمل من قبل.
وأدرك الشعب الروسي أن ما عقده في بداية الحرب من أمل في الإصلاح السياسي والاجتماعي كان مجرد أحلام وأوهام.
واعتقادي أن الشعب الروسي أشد حاجة من سائر شعوب العالم إلى الحقوق السياسية الأولية، وإلى حرية القول والصحافة، وإلى التحرر من العوز والخوف، وكل ما ناله هذا الشعب من حكومته فيما يتصل بهذه الحريات هو الألفاظ الجوفاء، ولقد مضت عليه السنون الطوال وهو يرزح تحت سلطان الخوف والعوز، ولئن كان الشعب الروسي جديرا بنعمة الحرية فيما مضى، فهو الآن أجدر بها من ذي قبل بفضل تضحياته التي تجل عن الوصف والتي أنقذت البلاد وأنقذت الحكم الحاضر نفسه من الدمار، فاستطاع بذلك أن يكيل الضربات القاصمة إلى الفاشية ويقرر مصير الحرب النهائي.»
ولم يحدث شيء يغير الصورة التي رسمتها في هذه العبارات وقت كتابتها، فما زال طغيان ستالين قائما مركزا مسيطرا على البلاد، يحكمها بالعسف والجبروت، ولا تزال وسائل الإرهاب على ما كانت من غلظة وقساوة، ولست أطمع في أن يدرك المواطن العادي في أمة ديمقراطية حقيقة العسف القائم في الدول الدكتاتورية ، وحسبي أن أقول: إن الذين وصفوا عرائض الاتهام ضد مجرمي الحرب النازيين قد أوشكوا أن يدركوا هذه الحقيقة حين وضعوا الحكم النازي في هذه العرائض، فلما أن قرأت الوثائق لم أتمالك أن صحت: ها أنا ذا أجد هنا على الأقل وصفا موجزا يليق بالعهد السوفيتي، وكل ما نحتاجه فيها أن نغير قليلا من الأسماء وأن نستبدل السوفيت بالنازي، فنحصل على صورة صادقة لعصابة الكرملن.
إن في هذه الوثائق لوصفا صادقا لمبادئ الزعامة النازية كما نراها في العقائد وفي الأعمال الفاشية، وهي بعينها مبادئ الكرملن، تقول عرائض الاتهام: «لقد حل المتآمرون جميع الأحزاب السياسية عدا الحزب النازي، وحرموا تأليف شيء منها ... وحولوا الريشستاغ إلى هيئة لا تضم إلا مرشحيهم ، وقضوا على حرية الانتخابات الشعبية ... وأقاموا نظاما من الإرهاب يسلطونه على من يعارضون هذا الحكم أو من يرتابون فيهم ويظنونهم من معارضيه، ووسعوا نطاق هذا النظام إلى أبعد الحدود.» فلما قرأت هذه التهم خيل إلي أني أقرأ تهما موجهة للطغيان السوفيتي ولجميع الدول البوليسية الدكتاتورية لا تختلف عنها إلا في أسماء الضحايا والمتآمرين.
ولكن من بين أولئك الذين يحكمون على المتآمرين الهتلريين رجالا لا تطاوعهم نفوسهم أن يحكموا على الذين تآمروا من الروس السوفيت على حريات الشعب الروسي؛ ولذلك لا يزال من واجبنا أن ننبه الضمير العالمي إلى الفظائع التي ترتكب ضد هذا الشعب.
وسرعان ما حققت الحوادث النذر التي بدأت بها حياتي الجديدة.
ذلك أن لجنة المشتريات حين ظهرت أنباء فراري في الصحف ادعت أول الأمر أنها لا تعرفني، وما من شك في أنها إنما فعلت ذلك لأنها كانت تنتظر ما ترسله إليها موسكو من التعليمات، ثم اعترفت بعدئذ بوجودي وأخذت تذيع البيانات التي تسوئ بها سمعتي.
وكان أهم ما ادعته ادعاء لم أتنبه أنا إليه، وهو أني لا أزال ضابطا في الجيش الأحمر، ثم حاولت بناء على هذا الادعاء أن تصف فراري السياسي بأنه هروب من الجندية، لتتخذ منه أساسا لطلب تسليمي لستالين لإعدامي رميا بالرصاص، ولم يكن هذا الادعاء صحيحا، فقد انتهت حياتي الحربية القصيرة قبل سنتين من ذلك الوقت في أحد المستشفيات، وأصبحت من ذلك الحين موظفا مدنيا خالصا، قبل أن تفكر وزارة الشئون التجارية الخارجية في إرسالي إلى خارج البلاد، وفضلا عن هذا فإني أعفيت إعفاء تاما رسميا من جميع واجباتي العسكرية قبل أن ترسلني وزارة الشئون التجارية الخارجية في مهمتي إلى أمريكا، ولم يكن في وسعها أن ترسلني قبل هذا الإعفاء.
وتدخلت الصحافة الشيوعية الظاهرة والمستترة في الكفاح الناشب بيني وبين الحكومة السوفيتية بكل ما أوتيت من قوة، فهاجمتني جريدة الديلي ووركر الصادرة في 5 أبريل في مقال بإمضاء شخص يدعى ستاروبين عنوانه قصة هارب حقير: هتلر يدعو آخر أنصاره في هذه البلاد، وكتب هذا المقال بالأسلوب المألوف أسلوب السباب والشتائم الحزبية، ولكنه كانت تسري فيها كله نغمة قد لا يدركها غير المطلعين، نغمة ظلت تدوي عالية في أذني التي ألفتها من زمن بعيد.
وكانت هذه نغمة التهديد المباشر، فقد أبلغ الرفيق ستاروبين الرؤساء: «نبأ خيانة حقيرة أقدم عليها إنسان يدعي أنه موظف في بعثة تجارية سوفيتية» وكتب معلقا على هذا النبأ: «إن أولئك الخونة من تروتسكي إلى من هم دونه من أمثال هذا الإنسان المسمى كرافتشنكو يخدعون الناس إلى حين ولكن.» وهنا يبدأ الإنذار المقصود: «عين الإنسانية اليقظة البعيدة النظر ويدها الشديدة البطش ستلاحقانهم وتمحوان في آخر الأمر أثرهم.»
ولما قرأت هذه الألفاظ ذكرت أن اليد التي بطشت بتروتسكي كانت تقبض على معول هشمت به رأسه في مدينة المكسيك، وتلت هذه العبارة السابقة بضع فقرات قليلة كلها شتائم مقذعة عاد بعدها الرفيق ستاروبين إلى نغمته الأولى: «وما من شك في أن كرافتشنكو كان يعد العدة لهذا الفرار.» ثم أشار إلى ما أعلنته من أني أضع نفسي تحت حماية الرأي العام الأمريكي، وختم مقاله بقوله: «إن بلادنا ليست أرضا مباحة لا أصحاب لها، يلجأ إليها أعداء حلفائنا وأعداء مجهودنا الحربي ... وإذا ما أصبحت الولايات المتحدة مرتعا لهذا النوع من الحشرات، وملجأ للأشخاص الذين لم يؤتوا قسطا كافيا من الرجولة يستطيعون، أن يوجهوا لشعب الاتحاد السوفيتي مباشرة ما يوجهونه إلى جريدة نيويورك تايمز من الأقوال التي تلوكها ألسنتهم وهم يحتسون الخمور كان ذلك اليوم أشد أيامنا نحسا.»
وبهذا القول أدخلت جريدة الديلي ووركر في روع الأغبياء من قرائها أن في مقدور كل من أوتي «قسطا كافيا من الرجولة» أن يتحدث إلى شعب الاتحاد السوفيتي مباشرة، وقد جاء هذا عقب قولها: إني كنت «أعتقد أن أيامي على ظهر الأرض أصبحت معدودة»؛ لأن الشرطة السوفيتية المنوط بها مراقبة ما في القلوب وإن ظلت إلى ذلك الوقت تجهل آرائي، ستمحو آثاري، ولكن ذلك لن يكون بيد العمال السريين لبلاد الرفيق ستاروبين الروحية بطبيعة الحال بل بيد «الإنسانية السائرة إلى الأمام».
ولم أجد صعوبة في حل رموز هذه الرسالة، فقد كان معناها أنني إذا لم أعد إلى التزام الصمت فإن «العين اليقظة واليد الباطشة» ستعملان عملهما، فلا تزال المعاول في الأيدي، وقد يظن البعض أن هذه ألفاظ خطابية، ولكنني لسوء حظي أعلم الشيء الكثير عن أساليب العهد الذي خرجت عليه وعن عماله.
ويلوح أن قلم المخابرات السوفيتية في نيويورك لم يجد صعوبة ما في تتبع آثاري ومعرفة مكاني، رغم ما اتخذته من الاحتياط الشديد، وسرعان ما تبينت أن رجال هذا القلم يتسكعون في الطرقات المواجهة للفندق الذي أقيم فيه، وكثيرا ما غيرت الفنادق، وتسميت بأسماء مختلفة، وواسيت نفسي بأني قد اختفيت عن أعينهم، ولكني سرعان ما كنت أرى هؤلاء الرجال أنفسهم يراقبون مساكني المؤقتة، وكثيرا ما كنت أغشى المجتمعات، وأركب السيارات وهي مسرعة لأتخلص ممن يقتفون أثري، ولكن ذلك لم يجدني نفعا.
وأردت أن أنجو مدة وجيزة من هذه الرقابة المحطمة للأعصاب، فقبلت دعوة وجهها إلي نفر من الأصدقاء الجدد لقضاء بعض الوقت معهم في مدينة وسط الأقاليم الغربية من الولايات المتحدة، وكان هؤلاء الأصدقاء من الأمريكيين الذين بحثوا عني، وتعرفوا إلي بعد مقالة كتبتها في جريدة الكوزمو بوليتن، وإذا كنت لم أخبر أحدا بسفري فقد ظننت أني قد أفلحت بمهارتي في ركوب القطار دون أن يراني الرقباء، ولكني كنت مخطئا في ظني، فقد وجدت أصدقائي الذين كانوا في انتظاري على إفريز المحطة في رعب شديد، وأشاروا إلى ثلاثة رجال ظلوا طوال الخمس عشرة دقيقة الأخيرة يراقبونهم مراقبة شديدة دون أن يخفوا اهتمامهم بهم.
وما من شك في أن هذا الثالوث كان في انتظاري، ولاحظت أن أحدهم كان يضع يده اليمنى في جيبه على الدوام، لا يخرجها منها أبدا، ولا يحول نظره عني مطلقا، ولما ركبنا عربتنا استقلوا هم أيضا عربة أخرى، وساروا من ورائنا دون أن يحاولوا إخفاء أنفسهم عنا، وسرنا بعربتنا في المدينة إلى غير مكان مقصود لعلنا نفر منهم، ولكن ذلك لم يجدنا نفعا، ولم تمر بنا السيارة الأخرى وتختفي عن أعيننا إلا حين وقفنا عند مركز من مراكز الشرطة، واستطعنا أن نقرأ رقم السيارة، ودلت تحرياتنا فيما بعد على أن لوحتها التي تحمل هذا الرقم لوحة مسروقة من سيارة أخرى.
ورأيت هذه السيارة المشئومة نفسها عدة مرات في الأيام التالية تحوم حول البيت الذي كنت أقيم فيه في إحدى ضواحي البلدة، وحدث بعد ذلك أن طلبت عدة مرار من نيويورك نفسها للتحدث بالتليفون، وفي هذه الأحاديث كانت أصوات غريبة يدعي أصحابها أنهم «أصدقائي» تنذرني بأن حياتي في خطر، وبأن من واجبي أن أختفي عن الأنظار، وما من شك في أن الخطة الموضوعة كانت تقضي بإخافة من نزلت في دارهم ليخرجوني منها، ثم استدراجي بعدئذ إلى مكان خفي «يقضى» علي فيه بسهولة، وأحسست وقتئذ كأني عدت إلى اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، ولم أكن في الولايات المتحدة الأمريكية بلاد الحرية، ولم أكن أدري هل أستطيع بعدئذ أن أعيش وأن أعمل بلا خوف على حياتي؟
واحتمل أصدقائي ذلك الضغط والإرهاب بشجاعة، وسأظل مدينا لهم بالشكر ما حييت فقد كان مضيفي يأوي إلى فراشه ليلة بعد ليلة وبالقرب منه بلطة - وهي السلاح الوحيد الذي كان في بيته - استعدادا للخطر المرتقب، وبرهن غيره من الأمريكيين - وبعض الروس أيضا - في أجزاء أخرى من البلاد على أنهم لا يخشون الإرهاب السوفيتي ولا يترددون في المخاطرة بأنفسهم لينقذوا بذلك حياتي، بينا كنت أعمل في تأليف هذا الكتاب.
وها أنا ذا قد فرغت من تأليفه، وقصصت فيه قصتي، وقد يفلح القتلة الذين يدعون أنهم يعملون لخدمة: «الإنسانية السائرة إلى الأمام» في «القضاء» علي، وقد يتصرم أجلي ولكنهم لن يفلحوا في محو هذا السفر المهدى إلى الشعب الروسي الذي أنشأني، والذي طال أمد عذابه، والذي أرجو أن يستمتع يوما ما بالحرية الحقة والديمقراطية الاقتصادية الصحيحة.
فإذا حل ذلك اليوم فسوف نقترب حقا من المثل الأعلى الذي ننشده، وهو أن يكون العالم كله عالما واحدا؛ ذلك أنه ما دام سدس العالم، وقد اتسعت الآن رقعته بالضم والتسلط والغدر بالأمم الضعيفة، ما دام سدس العالم عبدا ذليلا للطغيان يعيش في ظلام فكري حالك، فإن السلام الذي يقوم فيه سيكون سلاما مزعزعا، هذا إذا قام فيه سلام على الإطلاق.
وليست الخطوة التالية التي يجب أن تخطوها الشعوب نحو السلام والأمن هي إقامة نظام عالمي شامل - وإن كان هذا النظام سيقوم حتما في يوم من الأيام - بل هي تحرير الجماهير الروسية من الطغاة الذين يستبدون بها، وما على الإنسان إلا أن يفترض أن معجزة قد حدثت فحولت الروسيا إلى بلاد ديمقراطية لكي يوقن أن كثيرا من التوتر الذي يسود العالم الآن ويهدد السلام العالمي سيزول من تلقاء نفسه، ويصبح التعاون العالمي الحق أمرا غير بعيد، وقد يقال لي: إن تحرير الروسيا من نير الطغاة أمر يهم الروس دون غيرهم، وما أبعد أولئك الذين يظنون هذا الظن عن محجة الصواب؛ ذلك أن سلامة المدنية بأجمعها، وقيام صرح السلام الدائم القوي الأركان، موقوفان من وجوه عدة على هذا التحرير.
ولست من المسرفين في التفاؤل الذين يعتقدون أن هذه المعجزة ستحدث في حياة هذا الجيل، ولكني أعرف عن يقين أن أول شرط لتحرير الروسيا على يد أبنائها هو أن يفهم العالم الديمقراطي حقيقة الأحوال السائدة فيها، فإذا تم هذا فإن الرأي العام العالمي ومعونته الأدبية والروحية اللذين يسخران في هذه الأيام لنصرة استبداد الكرملن، إن هذا الرأي وتلك المعونة سيقويان أمل الروس في الحرية.
وهذا الكتاب الذي يصف قصة رجل من الروس لم ينتزع من قلبه حبه للحرية وهيامه بها، ولا تختلف حياته عن حياة سائر مواطنيه، دعوة حارة ألجأ بها إلى ضمير أمريكا وضمير العالم الديمقراطي.
حاشية
بدأت في تأليف هذا الكتاب عقب فراري من بعثة المشتريات السوفيتية مباشرة، وواصلت العمل فيه شهرا بعد شهر في أقسى ظروف الاضطهاد والتهديد الموجه إلى حياتي، وكنت في أثناء العمل دائم الانتقال من مدينة إلى مدينة، ومن فندق إلى فندق، ومن مسكن إلى مسكن، أتسمى بأسماء مستعارة، وأنتسب إلى أمم مختلفة، وأنشد «السلامة» أحيانا في بيوت الأمريكيين أو في بيوت مواطني الروس، وأرى حقا علي أن أعبر عن شكري الخالص لكل من عطف علي وأمدني بمعونته الأدبية.
ولو أن عملاء السوفيت قد أمسكوا بتلابيبي في خلال تلك الفترة «لمحوا» أثري من الوجود، أو لفعلوا بي ما هو شر من هذا، فبعثوا بي إلى الاتحاد السوفيتي «لأحاسب» على ما جنته يداي، ولكن كان من حسن حظي أن شيئا من هذا لم يحدث، ومن ثم أصبحت الآن - ولأول مرة في حياتي - أشعر أني حر طليق أستطيع الدفاع عن بلدي وعن شعبي وعن نفسي.
وكانت الحرب لا تزال دائرة الرحى حين غادرت بعثة المشتريات؛ ولذلك كانت الضرورة الملحة القاضية بالتعاون العسكري بين الديمقراطيات الغربية ودولة الاتحاد السوفيتي الطغيانية تفرض علي أشد القيود، ولقد قبلت هذه القيود عن رضا وطيب خاطر؛ لأن الحاجة إلى النصر المشترك كانت مفضلة لدي على كل شيء سواها، أما الآن وقد انتهت الحرب بنصرنا، فإني أرى من الواجب المفروض علي أن أتحدث لأكشف عن كل شيء ولأكشف عنه بأعظم ما أستطيع من الصراحة والقوة، ومن أجل ذلك وضعت هذا الكتاب.
وثمة سبب آخر يحتم علي أن أفصح عما في نفسي؛ ذلك أن كثيرا من الشعوب والأمم قد أخذت منذ نهاية الحرب «تنحرف نحو اليسار» بعضها طائعة تفعل ذلك بملء حريتها وبعضها مكرهة تفعله تحت تأثير الضغط الخارجي، ولو أنه كان من المستطاع أن يتم هذا دون أن يحدث فيه ما حدث في المرحلة الأولى من مراحل الانقلاب في الروسيا، وأن يكون صورة كاملة من الشيوعية الطغيانية القائمة في الكرملن، لو كان هذا مستطاعا لناديت بترك المقادير تجري في أعنتها، ولكن أشد ما يؤسف له أن الانقلابات التي جرت في جزء كبير من بلاد العالم المتمدين، حيث استطاعت القوة السوفيتية والمبادئ السوفيتية أن تتخذ طريقها، قد أيدت مخاوفنا، فحدث فيها مثل ما حدث في المرحلة الأولى من مراحل الانقلاب السوفيتي وسادت فيها النظم السوفيتية في صورتها النهائية.
إن الدولة البوليسية تقبض بيد من حديد على أبناء وطني، فلا يستطيعون أن يسمعوا العالم صوتهم ليفصحوا له عن آرائهم وآمالهم وشقائهم؛ ولهذا أشعر أني إذا استطعت أن أكشف للبلاد الديمقراطية وحكوماتها عن حقيقة الطغيان القائم في الكرملن، فإني بالقدر الذي أكشف عنه من هذا الطغيان أعمل ولو قليلا على تحذير العالم من ضروب الخداع والأوهام؛ ذلك أن أهم ما نحتاجه لبناء عالم خير من عالمنا الحاضر أن يسود التفاهم المتبادل، وتقوى أواصر المودة والصداقة بين شعوب الأرض لا بين حكوماتها فحسب.
وليس الطغيان الشيوعي القائم في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية مشكلة مقصورة على الشعب الروسي وحده، ولا على الشعوب الديمقراطية وحدها، بل هي مشكلة الإنسانية بقضها وقضيضها، إذ ليس في مقدور العالم أن يظل أبد الدهر غير عابئ بما يعانيه من ألوان العذاب قسم كبير من بني الإنسان، منتشر على سدس سطح الكرة الأرضية، إن هذا القسم تحكمه زمرة متألهة من الزعماء تعتمد على هيئة سياسية عليا من رجال الحزب البلشفي، وعلى شرطة سرية ضخمة مهولة، وليس لمئات الملايين من الآدميين الذين يسكنون في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية رأي مسموع في تقرير مصيرهم، وهم مقطوعو الصلة بشعوب البلاد الأخرى وبمجرى تفكيرهم.
ويعمل زعماء الكرملن وأعوانهم المقيمون في خارج بلادهم جادين ليحملوا سائر شعوب العالم على الاعتقاد بأن النظام السوفيتي ضرب من الحرية وبأن الديمقراطية الحقة ليست هي الديمقراطيات «العتيقة البالية» بل هي ديمقراطية النظام السوفيتي نفسه.
ولا حاجة بي إلى القول بأني كتبت هذا الكتاب بلغتي الروسية، فكان لا بد إذن من ترجمته، وأن النص الإنجليزي قد روجع فيه ما يتصل بأمريكا قبل صدوره بالإنجليزية، ولكني اشترطت في هذه المراجعة أن يكون جميع ما فيه من الحقائق والحوادث والتجارب الشخصية والحادثات السياسية والوصف التصويري والخصائص الفردية؛ أن تكون هذه كلها بجميع دقائقها وتفاصيلها هي بعينها التي وردت في المخطوط الروسي، هذا إلى أني قد راجعت النص الأخير من الكتاب بنفسي بعد أن تمت ترجمته وأشرفت على طبعه.
ولقد حاولت أن يكون الكتاب على نمط سيرة شخصية، ومن أجل هذا كان لا بد لي أن أغفل فيه قسما كبيرا من المعلومات المتصلة بالنظم السياسية والإدارية والشرطية المعقدة، وبالمشاكل الخاصة بالدولة السوفيتية، وفي عزمي أن أنشر ذلك كله وغيره من الشئون المتصلة به فيما بعد.
ولقد اضطررت أحيانا إلى تغيير أسماء بعض الأشخاص وإخفاء أسماء بعض الأمكنة، وتحوير بعض الظروف؛ لكي أحمي بعض الأشخاص الذين لم يرتكبوا ذنبا من بطش الدولة السوفيتية وانتقامها، ولكني حين لجأت إلى هذا العمل الذي حتمته علي الظروف القاهرة، قد التزمت الصدق التام في رواية الحوادث ذاتها ولم أخل قط بما لهذه الحوادث من أهمية في القصة.
وختاما أهدي هذا الكتاب إلى أبناء الروسيا وأنا واحد منهم، وأهديه إلى ذكرى الملايين الذين قضوا وهم يجاهدون للتخلص من الاستبداد السوفيتي، وإلى الملايين من الأبرياء الذين يقضون زهرة العمر في سجون الكرملن وفي معسكرات السخرة التي يخطئها الحصر، وإلى ذكرى الملايين من مواطني الذين ضحوا بحياتهم دفاعا عن أرض الآباء والأجداد وهم يحلمون بأنهم يهيئون لأبناء وطنهم مستقبلا مجيدا خيرا من حاضرهم.
وأهدي هذا الكتاب أخيرا إلى الشعوب الراقية المتحضرة ذات النزعة العقلية الاجتماعية التي تؤيدنا في الجهاد لإقامة صرح روسيا الديمقراطية التي لا يرجى للعالم سلام دائم بغير قيامها.
فكتور كرافتشنكو
نيويورك في 11 فبراير سنة 1946م
অজানা পৃষ্ঠা