على أن السنين التي انقضت بعد قيام الثورة لم تزد أبي ميلا إلى الشيوعيين، نعم إنه لم يكن ينكر أن كثيرين منهم كانوا رجالا شرفاء مخلصين صادقي النية، ولكنه كان يرى أن الثورة خيبت ما كان يرجوه منها في شبابه، ولست أنكر كذلك أنه لم يتدخل قط في نشاطي في لجنة الشباب، وأنه كان يسره أن يراني أشق لنفسي طريقا في المجتمع الجديد الذي حولي، ولكنه لم يستطع أن يحاجز نفسه من حين إلى حين عن توجيه الأنظار إلى ما يتمتع به الموظفون ورؤساء المهندسين من رغد العيش، وما يعانيه صغار الصناع من بؤس وشقاء.
ومن أقواله لي: «إننا يا بني نتحدث عن الوحدة، ولكن انظر إلى المسكن الفخم الذي يسكن فيه الرفيق ن، وإلى ما يتمتع به من سيارات وثياب غالية، ثم انظر بعد ذلك إلى الثكنات التي يحشر فيها العمال الجدد القادمون من القرى كما يحشر السردين في العلب، وانظر إلى مطاعم رجال الإدارة تر الحجرات النظيفة والطعام الشهي، أما مطاعم العمال فإن أي شيء يصلح أن يقدم لهم فيها ...»
فكنت أرد عليه قائلا: «تمهل يا والدي، إن لدينا مشاكل كثيرة تتطلب جميعها الحل في وقت واحد.» - «أنا أعرف ما لديكم من مشاكل، ولكني أعرف أيضا أن الثغرة التي تفصل الطبقات العليا عن السفلى لا تضيق، بل تزداد اتساعا. إن السلطة شيء خطر يا فيتيا.»
وارتقيت بعد قليل من المعمل الميكانيكي إلى مصنع الأنابيب، ولم تمض علي في هذا المصنع الثاني سنة واحدة حتى كنت من رؤساء العمال فيه، وارتفع أجري ارتفاعا صلحت بسببه شئون الأسرة المالية، وكنا أربعة أشخاص نتقاضى أجورا فاستطاعت أسرتنا أن تعيش في رغد رغم ارتفاع الأثمان، وكانت السياسة الاقتصادية الجديدة - التي جعلت التجارة الخاصة عملا مشروعا - قد أدت إلى فتح مئات من الحوانيت والمطاعم والمقاهي، وكان في وسع الإنسان أن يحصل على كل ما يريد تقريبا إذا كان معه مال يبتاعه به.
وأخذت في كل يوم أزداد صلة بالكبراء من رؤساء العمال ، وكبار الموظفين المشرفين على المصانع، وموظفي الحزب ونقابات العمال؛ ومن أجل هذا أصبحت أرى الحياة السوفيتية بعين زعمائها، وأخذ هذا الميل يقوى في يوما بعد يوم على الرغم مني وعلى الرغم من تحذير والدي لي من أن أقطع الصلة بيني وبين الجماهير، أما أخواي جيني وكوتيا فلم تتقد في صدريهما نار الحماسة السياسية، وكان حسبهما أن يعملا جادين ولا يشتركا في مظاهرات ولا اجتماعات إلا إذا لم يكن لهما بد من الاشتراك فيها، وكانا يقبلان الدعاية الشيوعية الرسمية كما يقبلها سائر العمال العاديين بكثير من الريب والشكوك.
وكثيرا ما كان جيني يقول لي وهو يحاورني: «إن كل شيء فيك يا أخي الأكبر ينبئ بأنك ستكون من رجال البيروقراطية الشيوعية على شريطة ألا تسمح لإنسانية والدنا الخيالية أن تضلك.»
ولعل ربيع عام 1927م لم يكن يختلف في شيء عن ربيع الأعوام التي جاءت قبله أو بعده، لكن مباهج هذا الفصل ستبقى أبد الدهر أعظم منها في سائر الفصول، وستبقى مساويه أخف من مساويها جميعا؛ ذلك لأن فيه أخذت نار الحب تضطرم في قلبي، وكان اسم من أحببت أنا، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها زرقاء العينين ذهبية الشعر.
التقينا في وليمة في منزل أحد مفتشي الحوانيت، ولم نكن نتصافح باليدين حتى انمحى من أمامنا منظر الوليمة والضيوف، فلم يعد له وجود.
وكان والد أنا كبير المهندسين في أحد الطرق الحديدية الرئيسية، وكان بعيدا كل البعد عن المجتمع السوفيتي الجديد، وإن كان قد نشأ في أسرة من العمال وانضم وهو طالب علم إلى الجمعيات الاشتراكية السرية، أما أمها فقد ظلت تحتفظ بما انطبع في نفسها قبل عهد الثورة من شذوذ في الخلق ومن احتقار «للرعاع»، وظل شعوري بأن أنا ليست من «صنفي» كامنا تحت ستار عواطفي الملتهبة أيام كان حبي الحقيقي الأول متوقدا في صدري، وكانت تتظاهر بأنها تهتم بنشاطي في لجنة الشباب الشيوعي ، ولكني كنت أعلم علم اليقين أن هذا النشاط يضايقها، ولم تحاول والدتها قط أن تخفي احتقارها للشيوعيين ودعاواهم ، ولمركزي الاجتماعي الوضيع الذي لا يعدو أن يكون مركز رئيس عمال في مصنع.
وسمعتها ذات ليلة تقول لأنا وهي متبرمة: «لو أن صديقك عضو لجنة الشباب كان مهندسا على الأقل!»
অজানা পৃষ্ঠা