وكنت أنا قويا سليم الجسم لا أحتاج إلا للقليل من الطعام والشراب ليحفظا علي حياتي، فركبت القطار مع غلام آخر في الضيعة يدعى سينا وذهبنا شمالا إلى إقليم بلطوا؛ لنبحث عن الطعام، وأخذنا معنا كل ما يمكن أن يستبدل به الطعام، من ملابس قديمة، وملاعق من فضة، ومجوهرات من أنواع مختلفة لم تعد لها قيمة، وفرشات وغيرها من الأدوات المنزلية؛ ذلك أن النقود أضحت في تلك الأيام عديمة النفع، أما البضائع فكان يمكن استبدال بعضها ببعض إذا واتى الإنسان الحظ.
ووصلنا بلدة بريلوكي بعد أيام قليلة وقررنا أن نجرب حظنا فيها، فوجدنا بها مئات غيرنا وفدوا إليها للغاية نفسها، واشتدت المنافسة بيننا، فوقفنا طوال اليوم في الأسواق نعرض بضاعتنا الهزيلة ونرجو الزراع أن يفحصوا هذه الكنوز، ولما حل المساء ذهبنا نجوس خلال القرى، ونتنقل من قرية إلى قرية، ومن بيت إلى بيت، يعيننا في عملنا أنا كنا كلانا صغيري السن، وأني كنت أستطيع أن أتحدث إلى الفلاحين بلغتهم الأوكرانية، وأخذنا في كل يوم نتخلص من بعض ما معنا، ونشهد أكياسنا تملأ سويقا ودقيقا وحمصا وفولا، ولم نكن نجد صعوبة في المبيت بمنازل الفلاحين، وخاصة إذا اتخذنا البنات اللاتي في مثل سننا وسيلة إلى هذه الغاية، وكان في وسع أولئك البنات أن يأتيننا بالملح والسكر وبعض الحبوب الزيتية واللحم المقدد وما إليها من مواد الترف نظير ما نقدمه لهن من الخواتم والحلى الرخيصة.
وكنت أنا وسينيا أسعد حالا من أي رجل من رجال المال استطاع أن يعقد صفقة بآلاف الريالات؛ وذلك أننا كنا نرد إلى أسرنا الحياة ونطيلها عدة شهور.
وركبنا القطار إلى موطننا وقد غص بالخلائق من رجال ونساء وأطفال كلهم عائدون إلى أقاليم المجاعة يحملون أكياسهم ولفافاتهم الثمينة، ولم نكن نجرؤ على إغماض أعيننا لئلا يسرق متاعنا، فلما أن وصلنا زنامنكا في ظلام الليل أقبل الجند وعمال السكك الحديدية وأمرونا بالخروج من عربة القطار، وتكدسنا في حجرة انتظار كانت قبل مجيئنا إليها غاصة بغيرنا من الخلائق البائسين، ولم يعرف واحد منا شيئا عن سبب إخراجنا منه وبقينا كلنا ننتظر وصول قطار آخر ونحن صابرون صبر العير، خلقه في نفوسنا طول العذاب وتبلد الحواس، فلما أقبل لم يستطع ركوبه إلا أقوى الناس أجساما وأسرعهم حركة وتخلفت عنه أنا وسينيا.
ولم يكن في حجرة الانتظار القذرة ضوء إلا فتائل زيتية، وكان الزحام شديدا، والناس مكدسين في الحجرة يسير بعضهم فوق بعض إذا أرادوا الذهاب إلى دورات المياه، والأطفال يصرخون في أماكن متفرقة من الحجرة والرضع يمتصون أثداء جافة خاوية، وكان في ركن من أركان الحجرة زوجان يتعانقان ولا يأبهان لنكات من حولهما من الناس.
ولكن الذي وجهت إليه أنظار من لا تزال لديهم بقية من حب الاستطلاع تحملهم على أن يوجهوا أنظارهم إلى شيء ما؛ منظر امرأة جاءها المخاض فأخذت تئن وتتوجع كما يتوجع الحيوان المصاب، ونحى النساء عنها من كان حولها من الناس، وجاء الرجال بدلاء الماء، ونسوا كفاحهم مع الجوع وهم يشاهدون حياة جديدة تخرج إلى العالم أمام أعينهم، وانبعث صراخ خافت من مولود جديد ينبئ أن المعجزة قد حدثت، وارتد الناس إلى ما كانوا فيه من شقاء.
ورأيت أم الطفل في الصباح مستلقية على أرض المحطة القذرة ووجهها أصفر لا أثر للدم فيه، وقد وضعت رأسها على كيس قذر أظهر هذا الوجه الشاحب في وضوح، وعلى صدرها المولود الجديد ملففا في خرق بالية؛ فرثيت لحالها، وأشفقت عليها، وتركت سينيا ليعنى بمتاعنا، ثم هرولت إلى القرية، وكان معي ثلاث روبلات فضية من العملة القيصرية، فجست خلالها نحو نصف ساعة كاملة، استطعت في خلالها أن أحصل على زجاجة صغيرة من اللبن الساخن، وملء صفحة خشبية صغيرة من حساء الخضر، فلما تقدمت بهاتين الهديتين ومعهما فوطة نظيفة إلى الشابة حدقت في ورمقتني بنظرة تنم عن اعترافها بالجميل، وعن أنها لا تكاد تصدق ناظريها.
وخاطبتني باللغة الأوكرانية قائلة: «شكرا لك أيها الشاب.» وكان لها عينان جميلتان في وجه بائس معذب، ثم واصلت حديثها قائلة: «ما اسمك؟»
فأجبتها: «فكتور أندريفتش.»
فقالت بصوت خافت ضعيف وهي تبتسم لأول مرة: «متعك الله بما تحب ووقاك من كل مكروه، سأسمي ابنتي فكتوريا حتى تذكر صنيعك هذا طول حياتها.»
অজানা পৃষ্ঠা