فما فعله «ستاخانوف» يستطيع كل عمال المناجم أن يفعلوه! وما يستطيع فعله عمال المناجم، إنما تستطيعه كذلك سائر الصناعات! وفي هاتين العبارتين تتلخص لك العقيدة الجديدة، وأما من تشكك في هذه العقيدة، فقد حق عليه العذاب، ولم يكونوا ليمهلوه حتى ينتقل إلى الحياة الآخرة فيصلى نار الجحيم بما قدمت يداه، وإذن فكل فني يبدي اعتراضات في طرائق التنفيذ إنما يحشر في دعاة الهزيمة وأعداء «العقيدة الإستاخانوفية»! ومن لم يبلغ مثل الإنتاج الذي ضربه عامل الدونتز، كان من المتكاسلين.
وصاحت «موسكو» صياحا عاليا بعبارات تذيع بها في الناس هذا المذهب «الإستاخانوفي»، وأخذت تتدفق رسائل البرق إلى «نيقوبول» آتية من «خاركوف» و«موسكو» تحمل الأوامر من مكاتب الرياسة، وكان كل أمر من هاتيك الأوامر بمثابة التهديد الصريح، فواجبنا كما تمليه الأوامر هو أن نكون في الحال فرقا «ستاخانوفية» تضرب المثل في سرعة العمل لمن يتراخى، فإذا ما اعترض معترض من المهندسين أو الملاحظين عد عاملا من عوامل التخريب.
لم يكن قد مضى على مصانعنا في العمل ستة أشهر كاملة، ظلت تعمل خلالها ثلاث نوبات كل يوم على الرغم مما يحيط بذلك من عقبات، فلم يكن الصلب وغيره من المواد الخامة مما يبعث على الرضى لا كما ولا كيفا؛ وذلك لأن معظم العمال كانوا حديثي عهد بالصناعة، ومعظم المشرفين عليهم بغير خبرة كافية، زد على ذلك ضعفا في الحيوية البدنية عند العمال لقلة غذائهم وسوء أحوال معاشهم، ولئن مست بنا الحاجة إلى شيء فذلك هو تنسيق عمليات الإنتاج، أما أن تزيد من عبء العمال أو تزيد الضغط على الآلات، فلئن جاز أن نطالب به في أية لحظة أخرى، فلم يكن ذلك ليجوز في ذلك الوقت، فوسيلة الإنتاج المطرد ليست هي الحركات العنيفة المفاجئة لضرب الأرقام القياسية، بقدر ما هي في التعاون والانسجام، وكيف تستحث ألفا وخمسمائة عامل أو يزيدون، يعملون معا عملا مشتركا، تتداخل كل خطوة من خطواته في الأخرى، كيف تستحثهم على الإسراع بغير خطة محكمة دون أن يصاب العمل كله بالفوضى والاضطراب؟
لكنها أوامر ولا بد من تنفيذها، ووجه زعيم الحزب «كوزلوف» و«المدير براتشكو» دعوة بالحضور للمهندسين ورؤساء الأقسام، وكان الرفيق «برودسكي» يمثل «اللجنة المحلية»، ولم يكن مستبعدا أن تأخذ الأوهام رجلين مثل «برودسكي» و«كوزلوف» - باعتبارهما من غير رجال الصناعة - لم يكن مستبعدا أن تأخذهما الأوهام من حيث تطبيق «المذهب الإستاخانوفي» في مصانعنا، لكن «براتشكو» كان رجلا من رجال الصناعة العمليين؛ ولذلك فقد أدرك ما في الأمر من سخف إدراكا واضحا كما أدركته أنا، ومع ذلك فلم يكن بوسع أحد منا سوى أن ينشئ فرق السرعة الإستاخانوفية مهما يكن ما يكلفه ذلك من خسارة في الكفاية والنظام.
وسأل أحد المهندسين قائلا: «أيأذن لي الرفيق براتشكو بسؤال؟» - «سل ما تشاء يا لازار بتروفتش.» - «أنا رئيس قسم فيه مائة وثمانون عاملا، فلو أسرع عامل واحد عن بقية زملائه تعقد حبل العمل في القسم كله، فهل تتفضل بأن تشرح لي في صورة عملية كيف أستطيع أن آخذ الأسلوب الإستاخانوفي؟»
ولم يستطع «براتشكو » أن يشرح له ما يريد بطبيعة الحال، وكل ما كان في وسعه هو أن يعيد الأقوال التي تطبل بها موسكو وتزمر، فيوقع نفسه في لغو سياسي لا غناء فيه؛ فأسفت له لأني رأيته ضحية الإسراف في وضع الخطط النظرية التي ترمي إلى بعيد وتهمل الواقع، بل كنا جميعا ضحايا هاتيك الخطط.
ولقد اضطررت في نهاية الأمر أن ألجأ في جانب المصنع الذي كان مسندا إلي إلى أسلوب في الإسراع لم تكن تمليه طبيعة العمل، فكنت أعده في صميم نفسي جريمة في حق الآلات والعمال في آن معا، وجاءتني أوامر صريحة من لجنة الحزب أن أعيد تنظيم عمالي بحيث أضع خيرة العمال ورؤساءهم والمهندسين في نوبة واحدة، ثم انتقينا من الأدوات والمواد أحسنها، وخصصناها لتلك النوبة من نوبات العمل، وبعد أن أعددنا عدتنا على هذا النحو، أصدرنا كلمة الأمر لهذه اللعبة الخادعة أن تبدأ شوطها.
وذات مساء في الساعة الحادية عشرة، وبحضور طائفة من الصحفيين والمصورين، بدأت النوبة «الإستاخانوفية» عملها، فزادت في إنتاجها عن الإنتاج المادي بمقدار ثمانية في كل مائة، وكانت الزيادة متوقعة، فصدرت الصحف بأسطر من الخط العريض، وجاءت التهاني من الموظفين في العواصم، فتنفسنا نحن الصعداء لأننا استطعنا أن نحول عن أنفسنا ضوء المصباح الكشاف، ولقد خصني من المدح شيء كثير باعتباري الرئيس الفني المسئول.
لكن هذا «النصر» الذي ظفرت به في الجبهة الصناعية، تبعه في النفس حزن عميق، فهذا النصر الصناعي غش في أساسه ولا بد أن يرتد سهم الغش إلى نحري، فالنوبتان الأخريان قد حرمتا خيرة الرجال وأحسن الأدوات فخسرتا في إنتاجهما خسارة أكبر مما كسبت النوبة الرابحة، وظهر رجال هاتين النوبتين - بالموازنة مع رجال النوبة الممتازة - بمظهر ذوي الهمة الضعيفة، بل ظهروا بمظهر «الكسالى»، وطبيعي لم تطمئن نفوسهم لهذا الوضع الذي جعل منهم أمثولة، فصبوا سخطهم على زملائهم الذين أسعدهم الحظ وعلى الموظفين في آن واحد.
ولم تلبث موجة الإسراع أن تحولت في طول البلاد السوفيتية وعرضها إلى حملة شعواء تعمل عملها في الجو المألوف من ضغط وإرهاب، وفصل من العمل ألوف المديرين، وقبض على كثير منهم بتهمة إنزال الخسارة «بالإنتاج الاشتراكي» الجديد، وبتهمة «الفشل في تهيئة الظروف الإستاخانوفية الصميمة»، ووقعت تبعة التأخير في الإنتاج - كائنا ما كان - على عاتق المهندسين والفنيين، وصور للرأي العام أن العمال يتحفزون لزيادة الإنتاج، غير أن مديري المصانع يدبرون الخطط عمدا لتعطيل ما يبتغيه العمال.
অজানা পৃষ্ঠা