1
كل أسبوع نظير معاونتي إياها في مسح البلاط، وهو قدر يكفي ثمن تذكرة لدار الخيالة ولشراء قطعة من الحلوى، وكانت تحبوني بقدر آخر من النقود في كل أسبوع نظير ابتعادي عنها إذا زارها خطيبها.
وكان بستاننا الضيق الرقعة وحديقتنا يمداننا بالخضر الطرية والمجففة، وبالفاكهة والبطيخ طوال العام، وبطائفة أخرى من المربيات الفتانة المختلفة الأنواع التي كانت بابشكا تفخر بها عن جدارة، وإن أنس لا أنس فصل عمل المربيات، فأنا أذكر على الدوام الأواني النحاسية تفيض على جانبها عصارة الفاكهة، وعبير السكر المغلي، والليالي العجيبة التي كنا نظل نجمع فيها الكرز حتى تتخضب أيدينا بالحمرة الداكنة.
وكان فيودور بنتليفتش في نحو الثمانين من عمره حين جئته لأقيم معه، وكان رجلا متوسط القامة قوي البنية عريض المنكبين معجبا بنفسه، ذا لحية صافية البياض وبطن كبير، وقد اشترك في الحرب التركية الروسية التي دارت رحاها في عام 1878م بقيادة شبليف، وظل بعدئذ في الخدمة عدة سنين تقاعد بعدها وهو برتبة ضابط صف، أما نتاليا مكسمفنا فكانت تصغر زوجها باثني عشر عاما، وكانت سيدة عجوزا وديعة أنيقة البزة، ذات عينين صافيتين براقتين، حلوة الفكاهة، إذا نطقت بفكاهاتها تركت جدي في حيرة من أمره، وكانت تعاملنا جميعا، ومن بيننا زوجها نفسه، كأننا أطفال في حاجة إلى التدليل والتهدئة.
وكان يسر فيودور بنتليفتش في ليالي الشتاء الطويلة، ونحن نستمع إلى طقطقة الكتل الخشبية في الأتون الضخم المطلي بالجير الأبيض، ونشهد لهيبها يخرج من بابه المفتوح، ويرسم صورا عجيبة على الأرض، كان يسر فيودور بنتليفتش أن يقص علينا قصص الأتراك والأكراد والوقائع الحربية والهجمات المفاجئة، وكان إذا حضر المجلس أصحاب له طاعنون في السن ينطلق يحدثهم عن أعمال الجرأة التي كان «الأب الصغير»
2
نفسه في سان بطرسبرج البعيدة ينزل من عليائه فيلحظها بعنايته، وكانت هذه الأعمال المجيدة تزداد غرابة كلما أعيدت قصتها.
وكانت بابشكا تقول في تهكم وازدراء: «ألا ما أعجب هذه الأعمال! ما أعجب ركوب الخيل وفتل الشوارب وإطلاق النار على الأتراك! كأن هذه أعمال تحتاج إلى شيء من العقل.»
وكان فيودور بنتليفتش في أيام المواسم والآحاد يرتدي حلته الرسمية، وهي حلة زرقاء اللون براقة، ذات أزرار نحاسية لامعة، وإطار أبيض حول طرفي سراويل الركوب الواسعة النازلة في حذاءيه المرتفعين، وكان من عادته أن يمسح حذاءيه هذين حتى يصبحا كالمرآتين، ويصف الأوسمة والصلبان على صدره، وينشر لحيته من فوقها كما ينشر العلم، فإذا ما جمل نفسه على هذا النحو أمسك بيدي الصغيرة في كفه الجاسية وسار بي إلى الكنيسة، ولم يكن في ألكسندروفسك كلها غلام أكثر مني إعجابا بنفسه، وكان يخيل إلي أن من حقه على أهل ذلك البلد - وهم أقل منه شأنا - أن يخلعوا قبعاتهم تعظيما له ويسألوه عن صحة بابشكا.
ولم يكن فخر الجد بحفيده أقل من فخر الحفيد نفسه بجده، وإن لم تكن القيود الشديدة التي فرضها على نفسه مما يجيز له أن يبالغ في إظهار هذه العواطف، فلم يكن ينطق بأكثر من قوله: «إنه ولد أبيه أندراي.» يقولها عرضا ولكنه عرض مقصود متصنع، ولم يكن خافيا على أحد أن أندراي ولد جدي البكر كان نزيل السجن، أو بعبارة أدق: كان حليف السجن، ولكن جيراننا لم يكونوا يذكرون هذا الأمر قط في حضرة جدي، وكان هو يرى أن هذه إحدى البلايا التي يمتحن بها الله عباده المتقين، وكان فيودور بنتليفتش يحب ولده أندراي، بل كان يعجب به إعجابا، وكل ما في الأمر أنه لم يكن يستطيع التوفيق بين حكمة أبي «والدم الزكي» الذي يجري في عروقه، وبين سخطه على القيصر، وكان يعزو هذا بطريقة غامضة إلى دراسة الكتب، وإلى انحطاط الروح الحربية في الروسيا انحطاطا يحزنه ويأسف له.
অজানা পৃষ্ঠা