أخذها مني الفزع أول الأمر، لكنها ما لبثت أن صوبت بصرها في وصعدت، حتى رأت - فيما يظهر - أنني لم أكن أريد بها الأذى. - «لست أدري ماذا تريدين، هيا فادخلي فلا يجمل بنا الوقوف ها هنا في الردهة.»
دخلنا غرفة استقبالها التي أثثتها بذوق ممتاز، وكان بها بيان في ركن من أركانها، ولقد بدت علي - فيما أرجح - علامات التعب والإعياء بعد ساعات وقفتها منتظرة في الطرق.
فقالت لي السيدة: «اخلعي معطفك يا ابنتي واجلسي، وسأصنع لك فنجانا من القهوة فأنت فيما تظهرين أقرب إلى الموتى منك إلى عالم الأحياء.»
وضعت يدها في يدي وجعلتها تصغي إلى قصة متاعبي، فرويت لها عن موت والدي وعناء أمي ونفي زوجي، وطلبت منها ما يعوزني من معونتها، ففي مقدورها أن تحصل لي من صديقها الضابط السياسي على إذن بزيارة زوجي، فلم يعد في يدي ما أقدمه لزوجي سوى الزيارة، وقد كان ألمي من العمق بحيث وجد إلى قلب السيدة سبيله، فأخذت هي الأخرى في البكاء.
سألتني أسئلة كثيرة ثم أخذت تذرع الغرفة المفروشة بالبسط جيئة وذهابا، مفكرة في أمري، وبينا هي في انتباهها الموزع جلست إلى بيانها تعزف بعض الألحان.
ثم قالت آخر الأمر: «إلينا بتروفنا، يؤسفني ألا أستطيع لك وعدا إلا وعدا ببذل ما أستطيع، وإنك بالطبع لتعلمين أنه لا ينبغي لك أن تذكري أمر هذه الزيارة بأي حال من الأحوال، لا تذكريها في حديثك معي في المسرة.»
وقبلتني قبلة حنان أدهشتني، فرجحت ألا تكون سعيدة، بل ألا تكون مستمتعة بحياتها الدنيوية، كما يبدو عليها، وذهبت إلى الكنيسة ذلك المساء وأخذت أدعو الله دعاء طويلا، فعلى الرغم من أني لا أومن بالله يا فيتيا، فإني إذا ما حزبني الأمر تراني أنقلب على عقبي إلى ما نشأت عليه في طفولتي، ومهما يكن من أمر فقد دعوت الله في إخلاص كما يدعوه المؤمن، ثم تلفنت معشوقة «ت» فعلمت منها أن دعوتي قد أجيبت، وطلبت مني أن أذهب إليها من فوري، فلما وصلت إليها بكيت من فرحتي وقبلت يديها، فأمرتني أن أكتب طلبا رسميا آخر ألتمس فيه مقابلة زوجي، وأكدت لي أن طلبي مجاب هذه المرة، أما عن حقيقة أمرها هي فلم تفصح لي بأكثر من التلميح. - «الحياة هي الحياة يا إلينا بتروفنا، لقد مضى علي عهد لم يكن فيه العيش مترفا كالذي ترين الآن من ترف، لكني كنت إذ ذاك أسعد مني الآن بكثير، فلا أقل من أن أنعم لحظة قصيرة حين أعلم أنني استطعت أن أخفف قليلا من عبء الشقاء عنك وزوجك، إنه لمما يشرح الصدر أن أصنع الخير مرة على سبيل التغيير من مجرى الأمور المألوف، ورجائي ألا تذكري أبدا أننا التقينا، لا ينبغي لك أن تتلفني إلي مرة أخرى، أو أن تظهري بمعرفتك لي إذا ما رأيتني.»
وهكذا لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى كنت في القطار آخذة سمتي نحو جبال الأورال، وحملت معي حزمات كبيرة، إذ أنفقت كل ما أملك من مال لأشتري طعاما وثيابا تحتية من الصوف، وأحذية وتبغا، وصور لي الخيال لقاءنا وفرحة «سرجي» ووجهه المشرق وما سنقضيه معا في سعادة من لحظات قصار، فلما جاوز القطار «سفرد لوفسك» نزلت في محطة صغيرة، وكان مطر من مطر الخريف يتساقط، ولاح لي كأنما هبطت في ذلك المكان، عالما من قذر ووحل عميق، وكان معسكر الاعتقال يبعد أميالا عن محطة السكة الحديدية، ولبثت أحاول جهدي مع فلاح لعلي أستميله فيركبني عربته إلى هناك، وسارت بنا العربة ساعات بين غابات كثيفة وصخور وعرة، حتى بلغنا في نهاية الأمر نجدا فسيحا مكشوفا تحيط به أسوار عالية من الأسلاك الشائكة.
ورأيت وراء الأسوار صفوفا مديدة من الثكنات بنوافذها الضئيلة ذات القضبان، كما رأيت الحراس منبثين في أرجاء المكان وبينهم طائفة يتبعها كلاب في وجوهها علائم الشر، وبينا أنا واقفة أمام البوابة تحت المطر أنتظر الإذن بالدخول، جاءت فرقة يقرب عددها من ثلاثمائة سجين، جاءت تسير رباع رباع عائدة من الغابة إلى المعسكر، ولم أكن شهدت في حياتي قبل ذاك ناسا من البشر قد بلغ بهم ما بلغ بهؤلاء من مهانة وتهافت، فما رأيت فيهم رجالا لكني رأيت أشباحا للرجال، رأيت صورا شائهة لآدميين تسترهم هلاهل وتنفر من رؤيتهم العين، طالت لحاهم وذوت أجسادهم وأخذوا يشدون أقدامهم شدا خلال الوحل في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل يوم ذاقوا فيه طعم الموت من نصب وإعياء، وكيف لي يا «فيتيا» أن أجد ألفاظا تعبر لك عن بؤس ما شهدت لتشعر بما شعرت؟
ودخلت غرفة الحراسة فقدمت أوراقي وجاء ضابط فسألني أسئلة كثيرة ثم أمر امرأة حارسة أن تفتشني، فلم تبحث في ثيابي فقط بل بحثت في جسدي كذلك، وأخذوا ما كان معي من أقلام وأوراق، بل أخذوا مقصا صغيرا لأظفار اليد كان في حقيبتي، وبعد ذلك كله لم يأذنوا لي بأخذ ما معي من لفائف الطعام، وكل ما سمحوا بإدخاله هو التبغ والسجائر والصابون.
অজানা পৃষ্ঠা