وهمس «إيفان بتروفتش» في أذني قائلا: «كن مطمئنا، فكلهم راغب في إنقاذك من الموت.» فضحكت وضحك.
ولما جاء اليوم التالي أنفقت النهار في المزرعة الجماعية التي يشرف عليها «دمشنكو»، فوجدت أن الحصاد قد بدأ هناك كذلك بدءا طيبا، وأن الروح السائدة ليس بعدها زيادة لمستزيد، ولم تمض أيام قليلة، وكان جمع المحصول لم يزل قائما، حتى بدأت جماعات جديدة في درس الغلال، وأخذ الحب يندفق اندفاقا في عربات مملوءة نحو الآلات الروافع.
وحدث ذات يوم - إذ كان الحصاد في ذروته - أن ركبت إلى مزرعة «دمشنكو» فوقع بصري على إحدى آلات الحصاد وقد وقف دولابها وتعطلت، عندئذ أسرعت نحوها لأستفسر عن السبب في تعطلها، فإذا أنا أعلم أن عاملها قد سقط في غيبوبة من شدة الإجهاد، وأحاط به عدد كبير من النساء يحاولن رد شعوره إليه، فأمرتهن أن يحملنه إلى القرية، وأخذت مكانه بنفسي من الآلة الحاصدة، وكان قد طال بي العهد منذ آخر مرة عملت فيها على مثل تلك الآلة، فأشاع العمل في نفسي لذة، وأسعدني أن أواصله ساعة بعد ساعة.
ولما دنا شفق الغروب، أخذ العمل عني عامل آخر، وعندئذ كشفت عن خسارة فادحة ألمت بي، وتلك أني فقدت محفظة نقودي، فلم يحرك من نفسي شيئا أني فقدت كل ما كنت أملك من مال، إنما الذي اضطربت له هو أن وثيقة انتدابي قد ضاعت كذلك، وضاعت معها تذكرة الحزب، وبحثنا في الحقول ذلك المساء وفي اليوم الذي تلا، لكننا لم نجد للمحفظة الضائعة أثرا، فأبلغت القسم السياسي واللجنة الإقليمية، وتوقعت أن يكون لهذا الحادث أسوأ الأثر في حياتي مدى أعوام طوال.
ثم تبع هذا الغم غم آخر، وهو أني تلقيت من القسم السياسي هذا الأمر: «بناء على تعليمات اللجنة المركزية التنفيذية، عليك أن تعد كنيسة القرية مخزنا لغلة الحكومة، وينبغي أن يتم هذا الإعداد في ثمان وأربعين ساعة، حتى إذا ما أتممت هذه المهمة أبلغت بذلك.»
اضطربت لهذا الأمر يصدر إلي، إذ لم يساورني شيء من الشك فيما يقابل به الفلاحون مثل هذا الفعل من شعور، إنه فعل سخيف كأنما دبر ليكون حجر عثرة يقف عندها دولاب العمل في حصاد هو للبلاد بمثابة الحياة، لكن «كوبزار» و«بلوسوف» وغيرهما أثلجت صدورهم بمثل هذا؛ لأنهم أخذوا رويدا رويدا وفي تدرج غير محسوس، ينقلبون للناس في ذلك الإقليم أعداء لا لشيء سوى أنهم يستمتعون بالعمل الذي يمقته الناس في سائر القرى، هم أعداء الناس لهذا السبب وحده (أعني لأنهم يؤدون واجبهم في اغتباط)، وجردت الكنيسة من تعاليقها ومصابيحها وتحفها، جردها بعض الشيوعيين الشبان.
وسرى النبأ في الحقول سريان النار في الهشيم، فما أن سمعه الناس حتى رأيت عشرات من الفلاحين يقذفون بأدواتهم ويهرعون إلى القرية مسرعين، يستنزلون اللعنة تارة ويستعطفون ويبكون طورا عندما شهدوا ما نزل من نفوسهم منازل التقديس يزول من مواضعه، إن قدسية هذه الأشياء في نفوسهم لم تكن إلا جزءا مما أنزل في قلوبهم الأذى، إنما آذاهم حقا ما أحسوه في الأمر من إهانة صريحة لكرامتهم الإنسانية.
وسمعت فلاحا كهلا يقول: «لقد أخذوا منا كل شيء ولم يتركوا لنا شيئا، وها هم أولاء يزيلون عنا آخر ما بقي لنا مما يبعث الطمأنينة في نفوسنا، فأين عسانا بعد اليوم منصرون أبناءنا ودافنون موتانا؟ أين عسانا بعد اليوم متجهون بأبصارنا إلى شيء من العزاء فيما نحن فيه من ألوان الأسى؟ لعنة الله عليهم من مجرمين! لعنة الله عليهم من كافرين!»
لم يكن لي إزاء هذا حول ولا قوة، ولقد تذرعت وتذرع «إيفان بتروفتش» بكل ما لدينا من جهد وبلاغة لكي نعيد للعمل اطراده، وفي اللحظة التي ظننا أن قد كلل مجهودنا بالنجاح وقعت حادثة جديدة فقلبت لنا كل شيء رأسا على عقب من جديد، وقعت هذه الحادثة يوم الأحد التالي، وهي أن أمين الهيئة الشيوعية للشبان - وهو شاب بليد الحس شائه الوجه يدعى «شز» - ظهر فجأة في الطريق، وكان يعزف على العود وإلى جانبه صديقته، وكان يغني أناشيد تهزأ عباراتها بالدين، وكان ذلك في ذاته منظرا مألوفا، ولكن الذي أثار الثائرة هو ما كان على هذين الصديقين من رداء، فقد لبس هذا الشاب وصديقته قميصين من الحرير الأحمر الناصع، يمسكهما عند الخاصرة خيوط مذهبة وأفواف من حرير، ولم تكن هذه إلا تعاليق الكنيسة المنزوعة، رآها الفلاحون فعرفوها من فورهم، وثارت في نفوسهم نار الغضب التي سرعان ما انقلبت إلى روح اعتداء عنيف على الشاب وصديقته، ولم ينقذهما من الموت إلا أنهما كانا أسرع عدوا ممن تعقبوهما من الفلاحين الكهول، فأويا إلى الدكان التعاوني، وبذلك سلما من أيدي الشعب الثائر.
ولما جاءني نبأ هذه الحادثة أرسلت إلى «شز » أدعوه للحضور.
অজানা পৃষ্ঠা