رعى الله قلبي ما أبر بمن جفا ... واصبره في النائبات وأحملا
وكرم عهدي للصديق فإنه ... قليل على الحالات أن يتحولا
رحم الله مهيارًا ما ألطف عبارته وأدق إشارته، وطريقته الغرامية لا يسلكها أحد إلا تشبها، فإنها شيء قد تفرد به، ولم يشق فيها غباره سابق ولا لاحق. ووقعت هذه القصيدة من ممدوحه موقعًا عظيمًا، حتى إنه لسروره بها، تقدم إلى السمار والمحدثين بحفظها.
ومما وقع لي أنا من البراعات التي يفهم منها أن المقصود الاستعطاف وطلب القرب والوصل، بعد البعد والصد قولي وهو مطلع قصيدة امتدحت بها الوالد مستعطفًا له في سنة خمس وسبعين وألف، وهو:
لقد آن أن تثني أبي زمامها ... وتسعف مشتاقًا برد سلامها
ولم أخرج عن براعة الاستهلال، وإبراز الغرض في معرض الغزل والتشبيب، على طريقة مهيار إلى أن تخلصت إلى المدح. وبعد المطلع:
سلام عليها كيف شطت ركابها ... وأنى دنت في سيرها ومقامها
حملت تمادي صدها حين كان لي ... قوي جلد لم أخش بثً التئامها
وكنت أرى أن الصدود مودة ... ستدلي بقربي الود بعد انصرامها فأما فأما وقد أورى الهوى بجوانحي
جوى غلة لم يأن بل أوامها
فلست لعمري بالجيد على النوى ... وهل بعدها للنفس غير حسامها
إذا قلت هذا آن تنعم بالرضا ... يقول العدى هذا أوان انتقامها
أطارحها الواشون أني سلوتها ... وها أنا قد حكمتها قد احتكامها
أبى القلب إلا أوبة لعهودها ... وحفظًا لها في إلها وذمامها
منها:
أحب لريا نشرها كل نفخة ... تمر بنجد أو خزام خزامها
سقى أرض نجد كل وطفاء ديمة ... وما أرضها لولا محط خيامها
أجل وسقى تلك الربوع لأجلها ... واغدق مرعى رندها وبشامها
هوىً أنشأته المالكية لم يزل ... وثيقًا على حل العرى وانفصامها
فهل علمت أن الهوى ذلك الهوى ... وأن فؤادي فيه طوع زمامها
ولم يبق مني الوجد غير حشاشة ... تراد على توزيعها واقتسامها
كفاك فحسبي من زماني خطوبه ... فإن فؤادي عرضة لسهامها
ومن البراعات التي تشعر أن الغرض الرثاء، قول أبي الطيب المتنبي يرثي محمد بن إسحاق التنوخي:
أبي لا علم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور
وقول متنبي الغرب محمد بن هاني الأندلسي يرثي والدة جعفر بن علي ممدوحه:
صهٍ كل آتٍ قريب المدى ... وكل حياة إلى منتهى
وقوله أيضًا يرثيها وقد دام الحزن عليها:
صدق الفناء وكذب العمر ... وجلا الغطاء وبالغ النذر
وقول أبي الحسن علي بن محمد التهامي يرثي ولده أبا الفضل:
حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا قرار
وقال أبي الفرج الساوي في فخر الدولة:
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
ولا يغرركم مني ابتسام ... فقولي مضحك والفعل مبكي
ومما يدل على أن المقصود التهنئة والتعزية، قول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة في تهنئة السلطان الملك الأفضل بسلطنة حماة، وتعزيته بوفادة والده الملك المؤيد، وهو:
هناء محا ذاك العزا المتقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
ثغور ابتسامٍ في ثغور مدامعٍ ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما
ترذ مجاري الدمع والبشر واضحٌ ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى
وبالغ ابن حجة على جاري عادته فيما يعجب به في إطراء هذه الأبيات حتى قال: سبحان المانح، والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه.
وأنا أقول: لو كان أبو نواس لما وقع الشيخ جمال الدين قول هذا الحمى، فضلًا عن أن يدخله، فإن أبا نواس هو السابق إلى هذا المعنى بعينه، حيث قال معزيًا لفضل بن الربيع بالرشيد ومهنيًا له بخلافة الأمين:
تعز أبا العباس عن خير هالك ... بإكرام حيٍّ كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساوٍ مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
ومن براعاتي في الرثاء قولي في مرثية الحسين بن علي ﵉:
كل نجم سيعتريه أفول ... وقصارى سفر البقاء القفول
1 / 8