(الثانية) - قال ابن حجة: يتعين على الناظم أن يحتشم في الغزل الذي يصدر به المديح النبوي، ويتأدب ويتضاءل، ويشبب مطربًا بذكر سلع ورامة، وسفح العقيق، والعذيب والغوير؛ ولعلع؛ وأكتاف حاجر ويطرح ذكر محاسن الرد؛ والتغزل في ثقل الردف؛ ورقة الخصر. وبياض الساق وحمرة الخد، وخضرة العذار؛ وما أشبه ذلك. وقل من سلك هذا الطريق من أهل الأدب.
وبراعة الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى في هذا الباب من أحسن البراعات وأحشمها وهو قوله:
إذن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... واقر السلام على عرب بذي سلم
فالتشبيب بذكر سلع والسؤال عن جيرة العلم، والسلام على عرب بذي سلم، لا يشكل على من عنده أدنى ذوق؛ إن هذه البراعة صدرت لمديح نبوي.
ومطلع البردة أيضًا في هذا الباب من أحسن البراعات وهو:
أمن: تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
فمزج دمعه بدمه عندما تذكر جيران بذي سلم، من ألطف الإشارات إلى أن القصيدة نبوية. انتهى كلامه.
ومطلع بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانشر طيب الكلم
وتعقبه ابن حجة: بأن هذه براعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده، بل أطلق التصريح ونثر المدح ونشر طيب الكلم. والبديعية لا بد لها من براعة وحسن مخلص وحسن ختام. فإذا كان مطلع القصيدة مبنيًا على تصريح المدح، لم يبق لحسن التخلص محل ولا موضع. انتهى.
ومطلع بديعية عز الدين الموصلي قوله:
براعة تستهل الدمع في العلم ... عبارة عن نداء المفرد العلم
ومطلع بديعية ابن حجة قوله:
لي في ابتداء مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم
قلت: فيه قصر (الابتدا) وحقه المد، لأنه مصدر ابتدأ يبتدئ، وهو ضرورة. وارتكاب الضرورة في الابتداء خصوصًا مطلع البديعية، لا يخفى ما فيه. وهو كما قال الثعالبي في يتيمة الدهر: جرى أمره على ما تقول العامة: أول الدن دردي.
ومطلع بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله - وقد التزم التورية باسم النوع:
حسن ابتداء مديحي حي ذي سلم ... أبدى براعة الاستهلال في العلم
أقول: قد علمت أن الاستهلال يطلق على معان، ولم يعين المراد منه. والظاهر أنه أراد ببراعة الاستهلال، والمعنى الاصطلاحي، بقرينة حسن الابتداء، وحينئذ فلا تورية في ذلك، وإن أراد بها غير ذلك، كان عليه البيان.
ومطلع بديعيتي قد تقدم ذكره، لكن سرد المطالع جملة أوجب أعادته هنا، وهو:
حسن ابتدائي بذكري جيرة الحرم ... له براعة شوق يستهل دمي
براعة الاستهلال في هذا المطلع أظهر من أن ينبه عليها. وسهولة ألفاظه وصحة سبكه وتناسب قسميه أوضح من أن يشار إليها. وتزكية النفس كما فعل ابن حجة، أمر نهى عنه النقل، ومنع منه العقل ولله در القائل:
وما أعجبتني قسط دعوى عرضة ... وإن قام في تصديقها ألف شاهد
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... قليل الدعاوى وهو جم الفوائد
ومطلع بديعية إسماعيل المقرئ قوله ولم يلتزم التورية باسم النوع:
شارفت ذرعًا فذرعن مائها الشبم ... وجزت نملى فنم لا خوف في الحرم
تعدية (ذر) ب (عن) لا يصح إلا على تضمينه معنى، تنح. وقد قال الله سبحانه: ثم ذرهم في خوضهم - يلعبون ولم يسمع ذر عنه. والتضمني لا ينقاس كما نص عليه العلامة أبو حيان، وارتكاب مثل هذا في المطلع خصوصًا مطلع بديعية منافٍ للشروط التي قرّروها فيه، وقد نظم جماعة من المتأخرين بديعيات يعرفها من وقف عليها، ويحق أن ينشد فيها:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلس
ولعل الواقف على هذا الكلام يرميني بسوء ظنه، وينسبني إلى التحامل على المتأخرين من أهل الأدب، ودعوى التفرد بفنه، فعل المعجب بفهمه وحدسه، القادح لغيره، المادح لنفسه. وأنا أعوذ بالله من التزيد في المقال؛ فإنها عثرة لا تقال.
فمن تلك البديعيات بديعية الكفعمي ﵀ ومطلعها:
إن جئت سلمىً فسل من في خيامهم ... ومن سكن منسكًا عن دميتي ودمي.
1 / 15