127

ولست أزين لأحد أن يفضل طريقتي في السياحة على طريقته، ولكنني أنا على الأقل لن أنقطع عن السياحة في العالم رحالة بغير رحلة، وطوافا بغير طواف! (2) أجمل أيامي

قال: حدثنا عن أجمل أيامك من شبابك إلى مشيبك.

قلت: أمهلني حتى أذكر.

ثم راجعت نفسي قبل أن أمعن في التذكار، وأستقصي ما عندي من ودائع الأسرار والأخبار، فسألتها مصارحا في سؤالها: فيم هذا الإمهال، وفيم هذه المراجعة؟ إنك لا تفعل ذلك إلا أن تكون أيامك الجميلة قد بلغت من الكثرة أن تفوق الحصر والحساب، وأن تحتاج منك إلى العناء في التمييز بينها، وتفضيل ما يذكر منها، بعد طول الأخذ والرد والترجيح والتعديل!

فهل تراك تزعم لنفسك، أو تزعم لقرائك، أنك صاحب هذه الثروة التي لا تحصى من الأيام الجميلة، وأنك في حيرة بين ما تأخذ منها وما تدع، وبين ما تقدم منها وما تؤخر، وبين ما تنشره منها وما تطويه؟

دعواك هذه - إن ادعيتها - لا يدعيها أحد من بني آدم وحواء، فما بلغت السعادة بهذا النوع البشري المسكين أن يستمتع في حياته بكل هذا المقدار من جمال الأيام أو جمال الأوقات التي تحسب بالساعات.

فإن لم يكن هذا مبلغ ثروتك من الأيام الجميلة، ففيم العناء في التذكر والاستعادة، وفيم التسويف والإرجاء؟

هل هذه الأيام الجميلة من الخفاء بحيث يحجبها ظلام السنين عن النظر، وتطويها حوادث الأيام في زوايا النسيان؟

كلا ... ولا كل هذا التواضع «الجميل» في رأي الكثيرين من المزيفين للأقوال والأعمال، فما من إنسان يعمل في دنياه، ويتصل بإخوانه من ذرية آدم وحواء تفوته الأيام المذكورة التي لا تنسى على طول العهد أو التي تغلب النسيان ولو تقلب عليها الليل والنهار.

فلا محل للبحث في أعماق الذاكرة لاستخراج تلك الودائع الباقية، وإنما البحث في أعماق الذاكرة لغرض آخر غير حصر أيام الحياة التي تحسب من الحياة، ونحب من أجلها الحياة.

অজানা পৃষ্ঠা