كانت فطومة تسير على مسافة مني وهي تميل على ذراع محمود خلف عند زاوية الهرم الشمالية، وكنت عند ذلك مرتدا من ناحية الاستراحة، ووقفت مترددا بين أن أذهب إليها لأصفعها، وبين أن ألتمس لنفسي مكانا أتوارى فيه، وغلب علي الرأي الأخير، فاتجهت مسرعا إلى حرف الهضبة الهابط إلى الغور المنخفض الذي تلوح فيه بركة ماء من بعيد، فانحدرت متعثرا فوق السفح، ثم بدا لي سخفي، فعدت أدراجي، واتجهت إلى المنحدر الذي يؤدي إلى محطة الترام، وكان رأسي مشغولا بصورة فطومة الغادة في ملابسها الأنيقة وحليها الكثير، وقوامها الرشيق وهي تميل على ذراع محمود، وتلفت قبل أن أهبط في المنحدر، فرأيتهما من بعيد بين الجموع الواقفة تتطلع في فضول نحو الاستراحة لتخطف نظرة من فرعون القزم، ثم خفضت رأسي كأني أتحفز لصراع، وأسرعت في حنق متجها إلى محطة الترام.
وقضيت مدة سيري إلى القاهرة مضطرب الفكر بين أحاديث مختلفة تتدافع ليحل بعضها محل بعض في عنف، ذلك الحكيم الذي صمم بناء الهرم الجليل كان شاعرا عظيما أو فيلسوفا كبيرا فوق أنه كان فنانا؛ أي إيمان ذلك الذي كان يحرك قلبه ويجعله يجرؤ على هذا العمل الهائل؟ وفرعون الصغير يعود في موكبه ولا يسمح للترام أن يسير حتى يمر الموكب، وفطومة ومحمود يبقيان هناك إلى جانب الهرم، وا خجلاه! الساخرون الذين لا يرهبون من شيء مقدس، والأغبياء الذين يقصر ذكاؤهم عن إدراك المعاني الجليلة يمرحون في تفاهتهم، ولا يحسون أننا جميعا في الطريق إلى الهاوية، وبدلت الترام عند الجيزة بغير أن أفكر، وسرت في ترام آخر بغير أن أفكر، كان ذهني يدور في أفكاره المضطربة عودا على بدء بغير توقف، وتنبهت آخر الأمر عندما قربت من ميدان قصر النيل، وكان هناك صف طويل من عربات الترام يسد الطريق، فنزلت لأرى منظرا لم يخطر ببالي، وكان الناس يتسارعون في كل اتجاه في هلع، ويقولون: «القاهرة تحترق .» فأسرعت إلى شارع سليمان باشا، وكانت النيران تندلع من شارع البستان، والجموع الهائجة تسيل بالطرق في كل اتجاه.
وجريت إلى ميدان سليمان وكان شعلة من اللهب. ماذا حدث؟ وجريت إلى شارع قصر النيل فعماد الذين فشارع فؤاد، وكنت ألهث من التعب، ولا أقدر أن أقف، كنت أريد أن أعرف إلى أين ينتهي الحريق. هل القاهرة كلها تحترق؟ هل هي ثورة؟ كان شارع فؤاد أيضا يشبه حاجزا من اللهب في معركة دموية، والجموع المتدافعة تنساب كمياه السيل في كل شعب من الطريق. جموع تقتحم المتاجر وأخرى تتدفق صائحة هائجة. أهكذا تندلع الثورة فجأة؟ ومررت أمام متجر مانويل الفخم، وكانت ألسنة اللهيب تطل من نوافذ الطبقات المتتالية كأنها تشير إلى الطريق تطلب الغوث، وأين الإسعاف؟ ولم يكن هناك أيضا رجال مطافئ كأن المدينة قد خلت من الحكومة، وانساب نهر من الجموع إلى ميدان الأوبرا ونهر آخر إلى شارع إبراهيم، وفي مقدمة كل فرع بعض أفراد يسيرون كأنهم طليعة، أهي ثورة مدبرة؟ لم لا وفرعون القزم يلهو في الصباح في مخبئه؟ وكان قلبي يثب كأنه يتداعى مع الأبنية المنهارة. أهذه هي الثورة؟ هي جانب لا ينفصل عن الحكم الضعيف المزيف، الذي لا بد أن ينتهي إلى الثورة، ومع كل ما كان في نفسي من الهم والغم شعرت بأن شيئا جديدا قد حدث.
وتذكرت أن أختي وعبد الحميد كانا يعتزمان أن يخرجا إلى المدينة في الصباح، فجريت نحو المنزل، لم تكن هناك سيارة لتحملني، وكنت متعبا ولكني اندفعت بقوة مضاعفة.
وبلغت المنزل آخر الأمر، وهدأت قليلا عندما رأيت أمي وأختي تنتظران في لهفة بالطبقة السفلى من الدار، وأخذتني أمي بين ذراعيها، ثم ارتميت على كرسي خائر القوى.
الفصل الواحد والثلاثون
سافر عبد الحميد ومنيرة إلى دمنهور بعد إقامة أسبوعين أطلقا عليهما اسم أسبوعي الجبن لا العسل؛ لأنهما لم يخرجا فيهما للنزهة في أرباض القاهرة في النهار أو إلى ملاهيها في الأماسي؛ لأن حريق القاهرة لم يدع لهما انشراحا إلى الجولات التي أعدا خططها، منازه طريق الأهرام وشواطئ النيل ودور التمثيل والسينما وأبهاء الفنادق الكبرى ومقاصف الريف، كل هذه كانت بين محترقة أو مغلقة، وكانت منيرة تخشى الخروج فوق هذا خوفا، أو - كما قالت هي - جبنا من أن تعترضها ثورة جديدة على حين غرة، كما اعترضتني يوم خرجت للنزهة عند الأهرام في الصباح، فإذا هي تثور وتحرق قلب المدينة في ساعة، وقد أصرا على أن يأخذا أمي معهما بعد أن عجزا عن حملي على الرجوع إلى دمنهور، ولست أخفي أنني ارتحت إلى هذا الرأي، فما كان من اليسير علي أن أتمسك بأمي لتعيش معي وأنا عاطل عن العمل منذ انقطعت عن بريد الأحرار.
ولما بقيت في القاهرة وحدي وجدتها غير القاهرة الأولى التي أقبلت عليها مملوءا بالأمل والحماسة، كان في جيبي ستون جنيها بعد أن قاسمت أمي في الجنيهات المائة والعشرين التي أعادها إلي عبد الحميد، وكان لا بد لي من الاقتصاد في النفقة لأستكفي بذلك المال الضئيل أطول مدة ممكنة ريثما تسوق إلي الأقدار عملا ليس في حسباني.
فاستأجرت غرفة في فندق صغير في حي سيدنا الحسين، وكان من السهل علي أن أجد هناك ما يناسبني من الطعام الرخيص، فكانت الأيام تمر بي موحشة في مدينة تموج كالبحر في أعقاب عاصفة، كل يوم شائعة عن مخاوف غامضة، والأرض تتزلزل تحت أقدام الحكومة الجديدة التي أعقبت حكومة الحريق، وحلقات القهاوي المتواضعة تتناقش في حنق، وأندية الجمعيات الشعبية تحفل كل ليلة بهواة السياسة، واستعنت على قضاء الوقت الموحش بارتياد تلك المجالس على اختلاف ألوانها ومشاربها، ولم أجد صعوبة في الاندماج فيها، فلم يمض إلا أسابيع قليلة حتى كنت من أركانها وأقطابها، وكان الجميع يقولون: إننا على حافة هاوية، ولا مفر لنا من التردي فيها، بأس مظلم في كل مكان، وحيرة مغلقة في قلبي وسؤال واحد يعاودني كل صباح وكل مساء: «أين أذهب؟» وكانت منيرة تبعث إلي في كل أسبوع مرة أو مرتين بخطابات لا تزيل وحشتي، بل تزيدني وحشة وانقباضا، وفي كل خطاب تعيد علي عبارة تختم بها حديثها، فتقول أحيانا: «منى تسلم عليك وتريد أن تراك.» وتقول في أحيان أخرى: «منى تهديك سلامها وتسأل عن صحتك.» فكنت أفرغ من قراءة الخطاب في شيء يشبه الحنق، وأضعه في جيبي مكررا في نفسي إنها تسلم علي وتسأل عن صحتي كما يفعل الناس إذا تلاقوا في الطريق، ثم أزيد على ذلك أقوالا أخرى أشد قسوة؛ لأني كنت في تلك الأيام قوي الشعور بأنني عاطل لا أعرف لنفسي وجهة أتجه إليها، ومع كل ما قاسيته من الوحشة والضيق والتعطل لم تسمح نفسي بأن أعود إلى بريد الأحرار، ولم أحاول أن أبحث عن عمل آخر، شيء واحد كان يبعث في قلبي بعض الراحة، وهو اتصالي بجمعية «شبان الفداء»، التي كانت تعقد جلساتها في بيت أحد أعضائها الطالب في كلية الشريعة؛ إذ كانت الخطب العنيفة التي تنطلق بغير تحرج ولا تحفظ كأنها قذائف من الرصاص تخفف من حنقي المكبوت، وكان نصيبي منها لا يفوتني كلما اجتمعنا، فأفرغ ما في قلبي من الحنق على الطاغية والطغيان والفاجر والفجور، غير متورع عن التصريح بأنه الفرعون القزم، ولست أدري كيف خفيت هذه الأحاديث عن آذان جواسيس الحكم، فإنها لو بلغتها لما احتاجت النيابة إلى تفسير أو تأويل في إثبات تهمة العيب التي قضت خمسة أشهر في إثباتها علي في المرة السابقة، ولكني كنت في كل مرة أذهب فيها إلى تلك الجلسات الحامية أعود إلى غرفتي في أواخر الليل بأعصاب مشدودة تكاد تتمزق، وكان يضايقني من المجتمعين في الأندية والقهاوي أنهم لا يستطيعون غضبا، إلا إذا تحدثوا عن غلاء الطعام والكساء أو كساد التجارة أو ما يماثل هذا من هموم الحياة، ولا يكادون يتحركون لفقدان الكرامة القومية أو الحريات أو العدالة؛ ولهذا كنت أقترب يوما بعد يوم من الشعور بالفشل، وأن الثورة التي آمنت بها وتمنيتها ووقفت كل أملي عليها لا وجود لها في القلوب، وبدأت أرى أن الثورة التي أرى علاماتها وأحس خفق أجنحتها في الظلام ليست سوى ثورة أبدان أو ثورة خذلان كتلك التي أحرقت القاهرة، وبدأت أشفق وأتوجس حتى امتلأ قلبي غما وهما ويأسا، وفي يوم من الأيام كنت أؤدي فريضة الجمعة في مسجد الحسين، ولا أستطيع أن أصف حالي وأنا قائم أصلي، كنت لا أملك دمعي وأنا أقرأ، وكأن كل عرق في بدني ينتفض من حزن غامض، وكان يستولي علي شعور يشبه شعوري عقب وفاة أبي وأنا فتى صغير، عندما خيل إلي أنني أعيش في فضاء لا وطاء من تحتي ولا غطاء من فوقي، وحاولت جهدي أن أتماسك، ولكن الدموع كانت تغلبني، ولما فرغت من الصلاة رأيت «خضرجي» ساعي مكتبي في بريد الأحرار جالسا إلى جنبي، وسمعته يقول لي: «أين أنت يا أستاذ سيد؟» ومضت لحظة طويلة قبل أن أستطيع إجابته قائلا: «كيف أحوالك يا أخي؟»
فقال وهو يصافحني: «حرما! تشجع يا أستاذ!»
অজানা পৃষ্ঠা