فلما خلت ميمونة إلى جدتها نظرت إليها فرأتها تلهث من التعب، والعرق قد بلل خمارها، وهي في حاجة إلى الاستراحة؛ فتمنت أن تنام فتغتنم الفرصة لمحادثة بهزاد. فتشاغلت عنها ولم تخاطبها في شيء فرأتها تكبو وتتثاءب من النعاس فقالت لها: «توسدي يا سيدتي واستريحي.» ونهضت فأتتها بوسادتين فاستلقت عليهما وقالت: «إذا خرج بهزاد فأيقظيني.» فوعدتها بذلك. •••
ولم تمض دقائق قليلة حتى نامت عبادة، وظلت ميمونة وحدها وكأنها في بحر تتقاذفها أمواجه لاستغراقها في البحث عن سبب تنتحله لمخاطبة بهزاد. وفيما هي في ذلك فتح باب الغرفة فأجفلت والتفتت فرأت بهزاد خارجا وقد بدل ثيابه فالتف برداء خفيف واعتم بعمامة صغيرة، وخرج سلمان في أثره والمعول بيده فأشار إليه بالخروج بمعوله فخرج، وظل بهزاد واقفا، فوقفت ميمونة احتراما له وهي مطرقة حياء وهياما، فألقى يده على كتفها وقال: «اجلسي يا ميمونة يا بقية البرامكة.»
فلما سمعته يذكرها بأهلها ويظهر لأول مرة أنه يعرف نسبها، خجلت وجلست وقد أرتج عليها؛ فبادر إلى وسادة ثناها وأشار إليها أن تجلس عليها وقال: «اقعدي على هذه الوسادة يا ابنة جعفر.»
فازدادت ميمونة استغرابا من هذا التصريح، وتجلدت حتى لا تضيع هذه الفرصة منها وقالت وهي مطرقة وقد توردت وجنتاها: «أراك تخاطبني بكنية جديدة؟»
فقال وهو يتناول وسادة أخرى ليقعد عليها: «إني أخاطبك باسمك الحقيقي وإن كنت تحسبينني أجهله، رحم الله جعفرا وأحياه.»
فرفعت بصرها إليه وقد أبرقت عيناها بما غشيهما من ماء الحب وقالت وصوتها يتقطع من شدة تأثرها وهي تحاول إخفاء ذلك بالابتسام: «هل ترجو قيامة الأموات في هذه الدنيا؟»
قال: «إن لم يحي جسده فسيحيا بذكره. إن جعفرا لم يمت يا ميمونة؛ لأن الرشيد قتل جسده ولا سلطان له على ما خلفه من الذكر الحميد!»
فقالت وقد انقبضت نفسها عند ذكر مقتل أبيها: «إني أشكر إحسانك ومجاملتك يا سيدي؛ فإنك طالما أحسنت إلينا وسترت فقرنا.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فلما رآها تبكي تفطر قلبه وكاد يبوح بما في نفسه، ولكنه لم يكن يرى التصريح بحبه في ذلك الحين فغالطها وقال: «إن فضل جعفر وإحسانه شمل الملأ كافة، وما من مسلم أو غير مسلم إلا هو مدين له، فإذا وفينا بعض الدين فلا فضل لنا في ذلك.»
فلم يعجبها هذا الجواب؛ لأنها كانت تتوقع أن يقول كلمة غير هذه؛ كانت ترجو أن تسمع منه كلمة الحب، فخافت أن يكون ضميرها خانها فتنهدت وسكتت وأرسلت يدها إلى وجهها وأخذت تمسح عينيها بأناملها؛ فأمسك معصمها ورفع يدها عن وجهها وقال وصوته يكاد يختنق: «ما بالك تبكين؟»
অজানা পৃষ্ঠা