أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
في خان سمعان
القصر المأموني
زينب ودنانير
دنانير وأم جعفر
ابن ماهان صاحب الشرطة
خلافة الأمين
ميمونة وابن الفضل
موكب ابن الفضل
অজানা পৃষ্ঠা
الأمين والفضل بن الربيع
إلى المدائن
في إيوان كسرى
بين ميمونة وبهزاد
العودة إلى زينب
مجلس الفضل
ميمونة والأمين
بين زبيدة وعبادة
الفضل بن سهل
المأمون
অজানা পৃষ্ঠা
ساحة الحرب
خلع المأمون
مقتل الأمين
بهزاد وميمونة
الخائن لا صديق له
أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
في خان سمعان
القصر المأموني
زينب ودنانير
অজানা পৃষ্ঠা
دنانير وأم جعفر
ابن ماهان صاحب الشرطة
خلافة الأمين
ميمونة وابن الفضل
موكب ابن الفضل
الأمين والفضل بن الربيع
إلى المدائن
في إيوان كسرى
بين ميمونة وبهزاد
العودة إلى زينب
অজানা পৃষ্ঠা
مجلس الفضل
ميمونة والأمين
بين زبيدة وعبادة
الفضل بن سهل
المأمون
ساحة الحرب
خلع المأمون
مقتل الأمين
بهزاد وميمونة
الخائن لا صديق له
অজানা পৃষ্ঠা
الأمين والمأمون
الأمين والمأمون
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
الأمين:
ابن هارون الرشيد.
المأمون:
ابن هارون الرشيد.
الفضل بن الربيع:
অজানা পৃষ্ঠা
وزير الأمين.
الفضل بن سهل:
وزير المأمون.
زبيدة:
زوجة الرشيد.
زينب:
بنت المأمون.
دنانير:
مربية زينب.
عبادة بنت محمد:
অজানা পৃষ্ঠা
أم جعفر البرمكي.
ميمونة:
بنت جعفر البرمكي.
بهزاد:
حفيد أبي مسلم الخراساني.
طاهر بن الحسين:
قائد المأمون.
مراجع هذه الرواية
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان.
অজানা পৃষ্ঠা
العقد الفريد.
تاريخ ابن الاثير.
أبو الفداء.
سير الملوك.
معجم ياقوت.
كتاب البلدان لليعقوبي.
الأغاني لأبي الفرج.
تاريخ المسعودي.
في خان سمعان
كان المنصور قد بنى مدينة بغداد باسمه سنة 145ه، وجعلها معقلا له ولجنده ورجال دولته، وشيد في وسطها قصرا له سماه قصر الذهب وأقام بجانبه مسجدا عرف باسمه، كما أنشأ الأبنية فيما بقي من المدينة لأعمال حكومته، ولرجال خاصته، وأحاط المدينة بسور مثلث الجدران، فتح فيه أربعة أبواب سماها بأسماء الجهات التي تؤدي إليها؛ فسمى الشرقي الشمالي باب خراسان، والشمالي الغربي باب الشام، والشرقي الجنوبي باب البصرة، والغربي الجنوبي باب الكوفة. وأقطع رجاله ما يحيط بالمدينة من الأرباض فابتنوا فيها القصور وعرفت تلك الأرباض بأسمائهم. ولم يمض زمن حتى تكونت حول المدينة أحياء عرفت بأسماء خاصة بها، أشهرها الحربية في الشمال، والكرخ في الجنوب. وقامت الأبنية شرق دجلة ونشأت هناك أحياء الشماسية والرصافة والمحرم وغيرها. وبنى خارج باب خراسان قصرا كبيرا عرف بقصر الخلد، وجعل بينه وبين ذلك الباب ميدانا كبيرا يمتد منه طريق يتجه نحو الشمال الشرقي إلى الجسر الأوسط القائم على دجلة، ثم يعرج شمالا ثم شرقا حتى يمر بين الرصافة والمحرم، ويعرف بطريق خراسان. ويتخلل تلك الأحياء كثير من القصور والحدائق والأنهار (أو الترع) المتفرعة من دجلة إلى كل الجهات.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان من بينها نهر يجري من دجلة شرقا حتى يخترق الرصافة والشماسية، عرف بنهر جعفر. وعلى جانبي هذا النهر أو الترعة وراء الرصافة بساتين فيها الأغراس والأشجار وبعض الأبنية، وهناك بستان واقع على طريق خراسان من جهة وعلى ذلك النهر من جهة أخرى، اتخذه بعض الخمارين من أنباط السواد خانا ينزل به القادمون إلى بغداد من الغرباء. وجعل فيه مما يلي الطريق بيتا يبيع فيه الخمور والأنبذة ويصنع فيه الأطعمة لمن شاء من الغرباء أو البغداديين.
وكان لبعده عن العمارة ووقوعه على قارعة الطريق يقصده الراغبون في ترويح النفس أو تناول الخمر من طبقات العامة لرخص الأثمان وقرب التناول، ومن بعض الخاصة الراغبين في شرب الخمر خفية خشية الرقيب أو فرارا من العار.
أما صاحب هذه الحانة فكان في حدود الستين، عركه الدهر، ولانت نفسه حتى كادت تسيل رقة. وقد عاصر ثلاثة من خلفاء بني العباس، هم: المهدي، والهادي، والرشيد. وشهد كثيرا من الأهوال آخرها نكبة البرامكة منذ ستة أعوام، ظل ثلاثة منها يشاهد جثة جعفر منصوبة على جسر بغداد.
والخمارون يعتادون دماثة الخلق بما يعرض لهم من مخالطة الناس في أحوال سكرهم ولهوهم، ولاضطرارهم إلى مجاراتهم في طباعهم؛ فيهون عليهم احتمال الضيم والصبر على الأذى مرضاة «لزبائنهم»؛ فلا عجب أن كان ذلك الخمار من ألين الناس عريكة وأطولهم بالا وأكثرهم اطلاعا على نقائص البشر وأكتمهم لأسرارهم. وكانت حرفته هذه تكاد تكون خاصة بأهل الذمة من اليهود أو الأنباط سكان البلاد الأصليين؛ وذلك لتحريم شرب الخمر وبيعها على المسلمين.
وكانت حانة ذلك النبطي غرفة من ذلك البيت، في أرضها حصير عليه وسائد من الخيش محشوة بالقش، وفي جدرانها كوى فيها دنان الأنبذة والخمور مما صنع من العنب أو التمر أو التفاح أو غيرها من الثمار، وفوق الكوى رفوف عليها زجاجات أو أباريق وأقداح من الزجاج أو الخشب يكيل بها الخمر أو النبيذ، ومن بينها ما يسع رطلا أو نصفه أو ربعه. وعلق على صدر الغرفة بربط، وعود، ودف. ترغيبا للمترددين عليه في أسباب السرور. ويغلب أن يكون الخمار رخيم الصوت يحسن الضرب على بعض هذه الآلات أو كلها. وكان بعض الخمارين في بغداد يجعلون في حانتهم قينة رخيمة الصوت حسنة الصنعة جميلة الطلعة يشرب الطلاب على صوتها.
ففي يوم من أيام سنة 193ه، مضى النهار على ذلك الخمار دون أن يقصد حانته أحد؛ لبعدها عن مركز المدينة. وكان أكثر ارتزاقه من المارة الغرباء، وهو يؤثرهم على أهل المدينة لأنهم يجهلون الأسعار، ولا يميلون إلى المساومة كأهل البلد؛ فلا يبالي أحدهم أن يؤدي ثمن الرطل من النبيذ خمسة دراهم على حين أن ثمنه لا يزيد على درهمين. فلما انقضى النهار ولم يأته أحد أوقد في بعض جوانب البستان نارا ليشوي سمكة أعدها لعشائه. وفيما هو ينفخ في الوقود، والدخان يتصاعد على وجهه حتى يتخلل لحيته ويغشى عمامته، وقد استوفز وشمر قفطانه وشكه من أطرافه بزنارة. سمع صوتا من قبل باب الحانة يناديه: «يا معلم سمعان.» فخفق قلبه سرورا وأسرع ليرى مناديه فوجده من العيارين، وهم كثيرون يومئذ في بغداد، ومعظمهم من أهل البطالة الذين يعيشون من الدعارة والنهب. وكان معه رفيق له، فلما رآهما استعاذ بالله، ولكنه كان قد تعود الكظم في مثل هذا الموقف، وعلم ألا مفر من استقبالهما حتى لا يصيبه أذى فتجلد وتقدم باسما مرحبا.
وكان العيار لابسا خوذة من الخوص، وعلى صدره دراعة من الجلد المدبوغ عليها نقوش ملونة، وهو عاري الذراعين، قد علق بكتفه اليمين مخلاة فيها حصى، وعلى حقويه سراويل من الخيش الثخين تكسوه إلى الركبتين، والمقلاع معلق بكوعه، وهو سلاح العيارين. وكان مكشوف الساقين حافي القدمين، يمسك بإحدى يديه عصا غليظة، وبالأخرى رغيفا أكل بعضه وفي فمه لقمة يمضغها وهو يقول: «اسقنا يا معلم.»
فرحب به الخمار وعمد إلى رطل صب فيه نبيذا وأعطاه إياه، ثم نظر إلى رفيقه فإذا هو بملابس الجند، وهي الدراعة على ظهرها طراز الدولة «فسيكفيهم الله وهو السميع العليم»، وعلى رأسه قلنسوة مستطيلة مدعمة بالعيدان. وقد علق السيف بمنطقته فوق قباء أسود. فتوسم الخمار منه خيرا لعلمه أن الجنود يؤدون ثمن ما يأخذونه إذا أخذوا رواتبهم. وطلب منه الجندي أن يعطيه رطلا؛ فبادر إلى إجابة طلبه ورحب به، فشرب الجندي واقفا، ثم تجشأ ومشى متبخترا. أما العيار فأخذ القدح وأدناه من فيه وهو يقول: «بورك فيك يا معلم سمعان، والله لأجعلنك عيارا عندي متى صرت عريفا أو مقدما.»
فقهقه الجندي وتقدم إلى سمعان فوضع يده على كتفه، وقال وفي لهجته عجمة، لأنه فرغاني الأصل من أبناء الجنود الذين استقدمهم المنصور في أيامه: «وأنا أعاهدك إذا حدث الانقلاب القريب وأخذنا مخصصاتنا على أن أعطيك ثمن هذه الأرطال مضاعفا. وأظنني مدينا لك بشيء من قبل، ولكن ما العمل؟ لا بد من الصبر!»
فقطع العيار كلامه وقال: «وأنتم أيضا تشكون القلة والفقر؟ ألستم من أصحاب الرواتب؟»
অজানা পৃষ্ঠা
قال: «صدقت يا صاحبي، إننا نأخذ رواتبنا ولكنها لا تفي بنفقاتنا ومن نعول. وهل يقوم بالجندي غير الغنائم في الحرب أو ...» وتوقف وأخذ يهمس حذر سامع؛ فسبقه العيار وقال: «أو عند وقوع تغيير أو انقلاب في قصر الخلافة؛ إذ تنالون أجوركم أضعافا مضاعفة، ناهيك بحق البيعة ... طب نفسا فإن ذلك قريب.»
فوضع الجندي يده على فم صاحبه يريد إسكاته حذرا من الفضيحة. وكان سمعان يسمع كلامهما ولا يهمه مما يسمعه إلا ما يتوسم من ورائه استيفاء دينه ؛ فلما رآهما يحاذران الكلام وهما بالباب تقدم إليهما وقال: «تفضلا وادخلا.» وأشار إلى الحصير كأنه يدعوهما إلى الجلوس، فدخلا ومد العيار يده إلى البربط المعلق على الحائط فتناوله ودفعه إلى الخمار، ثم جلس وقال: «علمت أنك تحسن الغناء والضرب على البربط لقرابة بينك وبين برصوما الزمار، فأسمعنا.»
فتناول سمعان البربط وهم بإصلاحه وهو يقول: «يا ليتني كنت من أقارب برصوما؛ فإنه من المقربين إلى مولانا أمير المؤمنين يستمتع برفده وجوائزه.»
فقال الجندي: «لو كنت تحسن النفخ في المزمار لكنت أصبت مثل حظه، أو حظ إبراهيم الموصلي المغني، أو ... ولكن اشكر الله على حالك؛ فإن التقرب من القصر لا يخلو من الخطر؛ فمهما تصادف من نعيم فلن يكون خيرا من نعيم البرامكة، وأنت تعلم مصيرهم!»
فقطع العيار كلامه قائلا: «أراك يا صاحبي من الفلاسفة ورجال الزهد، أما أنا فأدخلني قصر الخلد واجعلني مغني الخليفة أو زامره أو شاعره، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون، أو اجعلني جنديا مثلك على الأقل؛ تأخذ أجرك وأنت قاعد، وإذا ذهبت في حرب عدت بالغنائم والأسلاب والسبايا من النساء الجميلات!»
فابتدره قائلا وهو يهز رأسه: «إذا عدت حيا!»
فقال له العيار: «ولماذا لم تذهب في الحملة التي سار فيها أمير المؤمنين إلى سمرقند منذ بضعة أشهر لمحاربة رافع بن الليث، ألا تتوقع منها فوزا؟»
قال: «علم المستقبل عند الله، وليس لنا رأي في تجنيدنا، وإنما الأمر لقوادنا. ولقد خرج الرشيد في هذه الحملة يشكو مرضا وأناب عنه ابنه الأمين في بغداد. والأمين كريم الخلق جواد لا يخشى بأسه مثل أبيه. وهذا من حسن حظكم أيضا؛ لأني أرى كبيركم الحسن الهرش مقربا من البلاط كأنه صار من رجال الدولة.»
فقال العيار: «يظهر ذلك، ولكن حظنا لا يتم إلا ...» وتلفت يمينا وشمالا، ثم واصل كلامه وقد خفض صوته فقال: «إلا متى صار الأمين خليفة؛ فقد تحسدني عندئذ على العيارة، كما أحسدك الآن على الجندية.» ثم حول وجهه فجأة نحو البستان وقال: «إني أشم سمكا يشوى.»
وكان الخمار أثناء هذا الحديث قد انهمك في إصلاح البربط، والليل قد أسدل نقابه فظهرت النار الموقدة والدخان يتصاعد عنها، فلما سمع العيار يذكر رائحة السمك المشوي توقف ووضع البربط من يده وصاح: «نسيت السمكة على النار.» ثم تقدم نحو سراج من الخزف موضوع على مسرجة مسمرة بالحائط، فأصلح فتيلتها بسبابته، وأخذ في إنارتها، فأتى بالقداحة والصوانة والعطبة أو الصوفانة، فوضع الصوفانة على طرف الصوانة، وضرب عليها بالقداحة فخرجت شرارة أشعلت الصوفانة، فأتى بعود رأسه مغموس في الكبريت وأدناه من رأس الصوفانة فاشتعل الكبريت وأشعل العود، فقربه من الفتيلة فأوقدها فأضاء السراج. واغتنم العيار فرصة اشتغال الخمار بعمله وأسرع إلى السمكة فتناولها من النار بيده لا يبالي حرارتها، وهرول إلى الجندي فوضعها على رغيف بين يديه وصاح بالخمار: «إلي بقدحين من النبيذ القطربلي.»
অজানা পৃষ্ঠা
فقال: «ليس عندي شيء من نبيذ قطربل، ولكنني أسقيكما نبيذا مصنوعا من الذوشاب البستاني مع العسل.» وجاءهما بخمر قوية مظهرا الترحيب بهما، بينما هو يستعيذ منهما وهما يضحكان لا يباليان، فلا يسعه إلا أن يشاركهما الضحك.
وفيما هم كذلك سمعوا رجلا ينادي في الطريق: «السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان.» وهي مناداتهم على السمك في ذلك العهد؛ فوثب العيار يقول: «لقد سنحت لنا الفرصة لنكافئك يا معلم سمعان.» ثم تناول حصاة من المخلاة وضعها في المقلاع، وخرج من باب الخمارة وقال: «أسرع والتقط السمك من الأرض.» فعلم سمعان أن العيار سيرمي ذلك البائع المسكين بالمقلاع، فأخذته الشفقة به، وأمسك العيار بيده فأوقفه عن الرمي، ثم تفرس في البائع وهو لا يكاد يراه في العتمة فوجده فقيرا عاري الساقين والذراعين لا يستره غير ثوب خلق وعلى رأسه فوق العمامة طبق من القش ظهر فوقه السمك. فجذب العيار يده من يد الخمار وقال: «دعني أعوضك عن سمكتك سمكتين.»
فقال: «أخاف أن تقتل الرجل، لا حاجة لي بالسمك.»
فضحك العيار وقال: «لا تخف، إني أرمي السمك فقط ولا أمس الرجل ولا طبقه، وسترى!» قال ذلك وأطلق الحجر من المقلاع فأصاب أعلى السمك فقط، فسقط بعضه والرجل ماش لم يشعر. وللعيارين مهارة عظيمة في رمي الحجارة. وكان بيد السماك رغيف فقال العيار للخمار: «وأرمي لك الرغيف إذا شئت.» فوقعت كلمته في أذني البائع فالتفت إليه، وما كاد يراه حتى ذعر ورمى الرغيف إلى الأرض وقال: «هذا هو الرغيف خذه ودعني.» ثم ولى هاربا؛ فأشار العيار للخمار أن يأخذ السمكتين والرغيف، ففعل وهو يعجب من مهارة رميه، ودخل ليشوي السمكتين وهو يدعو الله من قلبه عسى أن ينقذه من هذه الورطة.
وكأن الله استجاب دعاءه، فما عتم أن سمع وقع حوافر دابة عند باب بستانه، فالتفت نحو الباب وعيناه تدمعان ويكاد الدخان يحجب بصره، فرأى رجلا طويل القامة مع انحناء قليل تدل هيئته على السكينة والوقار، وعلى رأسه عمامة سوداء كبيرة الحجم، وقد ارتدى جبة طويلة تحتها ثوب عسلي اللون حوله زنار مشدود، وهو لباس أهل الذمة في ذلك العصر، وقد شك في الزنار دواة من الفضة. وكان وجهه صبوحا مع رقة ونحافة حتى كاد جلده يلصق بالعظم مع بروز الوجنتين، وعيناه سوداوان براقتان تدلان على الذكاء، وأنفه كبير منحن قليلا، وله لحية كثيفة مسترسلة قد دب فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كثين.
ودخل الرجل يتوكأ على عكاز بيمينه وقد تأبط بالأخرى شيئا تحت الجبة، فلما رآه الخمار أدرك أنه من وجهاء الصابئة أو أحد علمائهم، فاستغرب مجيئه إذ ليس للحانات نصيب من زيارة أمثال هذه الطبقة من الناس. وتنحى العيار والجندي للرجل بينما تقدم الخمار وانحنى كأنه يسأله ما يريد، فقال الرجل بصوت خشن هادئ: «أليس هذا خان المعلم سمعان؟»
فسر الخمار لاشتهار اسمه عند كرام القوم وقال: «بلى يا سيدي.»
قال: «وهل في بستانك مكان للاستراحة؟»
قال: «نعم يا مولاي، تفضل.»
ودخل الخمار مهرولا فتبعه الرجل وقال: «إذا سألك مقدم العيارين الليلة عن «الملفان» سعدون فقل له إني في انتظاره هنا.» والملفان رتبة علمية عند السريان تقابل رتبة دكتور أو علامة اليوم.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان العيار والجندي واقفين ينظران إلى الرجل ، فتذكر العيار أنه رآه من قبل، ولما سمعه يذكر مقدم العيارين أجفل وتذكر أنه شاهده معه غير مرة؛ فرأى من الحكمة أن يخرج من ذلك المكان قبل مجيء مقدمه، فتحول وخرج. وأما الجندي فأحب البقاء ليطلع على ما عساه أن يكون من أمر هذا الاجتماع الذي يندر في مثل هذا المكان خارج المدينة؛ فجلس على وسادة فوق الحصير بقرب الحائط وجعل سيفه في حجره والحائط بينه وبين البستان.
أما الخمار فسره قدوم الملفان سعدون وما يتوقعه من قدوم الهرش مقدم العيارين؛ فقد يتعشيان أو يشربان فينال منهما ما يعوض به خسارته ذلك المساء؛ فمشى بين يدي الرجل، وكان هذا لطول قامته يخاف أن تعلق عمامته ببعض الأغصان فمشى مطأطئ الرأس حتى وصل إلى مصطبة مطلة على نهر جعفر تظللها شجرة كبيرة، وفوق المصطبة حصير عليه وسادتان، فأجلسه الخمار هناك، ثم تركه ريثما عاد بالسراج الذي كان في الحانة فوضعه على أرومة شجرة بجانب المصطبة، وسأله هل يحتاج إلى شيء من طعام أو شراب، فقال: «لا.» ثم اتكأ على إحدى الوسادتين ووضع العصا بجانبه وأخرج من كمه جرابا صغيرا وضعه بين يديه، وتشاغل بتمشيط لحيته بأنامله، منصتا إلى صوت ساقية تدور في بستان قريب. فتركه الخمار إلى الحانة فأتى بسراج آخر أضاءه، والتفت إلى الجندي فوجده وحده هناك، فسأله عن رفيقه فقال: «فر خوفا من قدوم «الهرش» أميره.» ثم سعل وقال: «عسى هذا الصابئ أن يعوضك ما خسرته علينا!» فقال: «إن شاء الله!»
وساد الصمت لحظة، ثم عاد الجندي إلى الكلام فقال: «لأمر ما تواعد هذا الصابئ على اللقاء هنا مع الهرش مقدم العيارين؟»
فقال سمعان: «هؤلاء الصابئة أهل سحر ونجامة لا تخفى عليهم خافية، ولعل الهرش يستعين به على كشف المخبآت.»
فهز الجندي رأسه موافقا، وأوجس خيفة من أن يطلع سعدون بسحره على دخيلة أمره؛ فسكت واشتغل الخمار عنه بالتقاط ما وقع على أرض الحانة من آثار الأكل والشرب استعدادا لمجيء الهرش.
ثم سمعا جواد الصابئ يصهل صهيلا قويا، وكان مربوطا بجانب الطريق يحرسه غلام، فأجابه صهيل مثله عن بعد، فاستبشر الخمار بأن أناسا من أهل الوجاهة قادمون إليه، ثم اقتربت الأصوات واشتد وقع الحوافر وظهر على الباب فارس وبين يديه غلام بلباس العيارين ما لبث أن صاح مناديا: «يا معلم سمعان.»
فخف الخمار إلى استقباله مرحبا، وأخذ يتأمل في لباسه الفاخر وقلنسوته القصيرة كسراويله، وإلى سيفه المدلى على ساقيه اللتين يحيط بهما لفائف من الجلد حتى الكعب فوق النعال، ثم سأله الغلام: «هل جاءك الملفان سعدون؟»
فقال: «نعم، هو في البستان.» وأيقن أن الفارس هو الهرش مقدم العيارين، فتقدم وأمسك بلجام الجواد والركاب حتى ترجل الهرش. وكان هذا قصير القامة ممتلئ الجسم قويه لا يزال سريع الحركة رغم كهولته، إذا مشى تبختر تيها وخيلاء، غليظ الشفتين خفيف اللحية والشاربين أشيبهما، وعلى جبهته ندبة غائرة من أثر جرح أصابه في قتال كاد يقضي عليه في صباه، وهو يفاخر أقرانه بهذا الأثر. وكان كبير العينين لا يبرح الاحمرار ظاهرا فيهما كأنه صحا من رقاد عميق. فإذا علمت أن الرجل أمير العيارين سهل عليك الحكم على أخلاقه. والعيارون يرتزقون بالسرقة والاعتداء ونحوهما، ولا رقيب عليهم ولا حسيب، وكثيرا ما كانت الحكومة تستعين بهم، فإذا أخلصوا لها نفعوها؛ لأنهم أقدر الناس على كشف أخبار الدعارة وتتبع اللصوص. وكانت الحكومة يومئذ تستعين حتى باللصوص أنفسهم، وعندها طائفة منهم تابوا عن اللصوصية فسمتهم التوابين وأجرت عليهم الأرزاق لتستخدمهم في كشف السرقات على أنهم ندر أن أخلصوا لها الخدمة ولم يكونوا مع اللصوص عليها. وإنما تكثر أمثال هذه المفاسد في عهود الحكومات الاستبدادية إذا ضعف صاحبها وطمع رجاله في الأموال وفسدت النيات وأصبح الناس عيونا بعضهم على بعض.
دخل الهرش مقدم العيارين بستان سمعان، في حين وقف غلامه بالجواد في منعطف الطريق، وأسرع الخمار في أثر الهرش حتى أوصله إلى المصطبة، فوقف له الملفان ورحب به، فجلس إلى جانبه وأشار إلى الخمار ألا حاجة بهما إلى شيء؛ ففهم أنهما يريدان الخلوة، فرجع إلى الجندي وأشار عليه بأن ينصرف لئلا يكون وجوده باعثا على شك، فانصرف أسفا.
أما الهرش فنظر إلى رفيقه وتبسم قائلا: «أظنني أبطأت عليك.»
অজানা পৃষ্ঠা
قال: «لم أنتظر إلا قليلا.»
قال: «إني في شوق إلى رؤيتك ولولا ذلك ما استطعت المجيء إليك ولا سيما اليوم لغياب أمير المؤمنين الرشيد عن بغداد.»
فقال: «أليس ابنه الأمين مكانه؟»
قال: «بلى ولكن هذا الغلام - وأنت أعلم به مني - لا خبرة له بسياسة الدولة، ولعله أدرى بسياسة الجواري والغلمان والكأس والطاس؛ فتراني لا أخرج من منزلي إلا قليلا، وترى رسول صاحب الشرطة ذاهبا جائيا إلي يحمل إلي الأسئلة عما غمض عليهم كأني الملفان سعدون الصابئ الحراني أضرب المندل وأستطلع الغيب بالنجوم!» قال ذلك وضحك؛ فأدرك سعدون غرضه وتجاهل وقال: «العفو أيها الأمير، إن ما يستطيعه مقدم العيارين يعجز عنه مثلي، وأنا إذا عرفت شيئا فإنما يدلني عليه الكتاب والحساب، أما أنت فتعرفه بفراستك وشجاعتك.»
فسر بهذا الإطراء وقال: «قد أكون أعرف كل شيء، ولكنني أقر بعجزي عن معرفة مقرك؛ لأني ما بحثت عنك مرة واستطعت لقياك، اللهم إلا إذا ضربت لي موعدا.»
قال: «ليس هذا دليلا على عجزك، بل هو من سوء حظي؛ لأن اشتغالي بالكيمياء فضلا عن المندل والنجامة يقضي علي بالانزواء معظم الأيام؛ ولذا تراني تركت أهلي وهجرت حران لئلا يشغلوني عن عملي، وقد طال بعدي عنهم حتى أصبحوا لا يعرفونني ولا يدرون مقري، ولو سألتهم لأنكروا أمري.»
ففرح الهرش بتطرق الرجل إلى ذكر الكيمياء ليسأله عما فعله بقطعة من النحاس دفعها إليه منذ أيام ليحولها إلى ذهب، فقال له: «أظنك طبعا نسيت صديقك الهرش ولم ...»
فقطع سعدون كلامه قائلا: «كلا، إني لا أنسى مولاي المقدم، وأبشره بأن حظه في أسمى الطوالع؛ لأني وفقت في طبخ نحاسه توفيقا غريبا يندر مثله!»
فطرب الهرش إذ توقع الغنى القريب، وسأله: «هل صحت الطبخة؟»
فتبسم سعدون ومد يده إلى جرابه، فحل عقدته وأخرج منه سبيكة من الذهب الإبريز وقال: «نعم يا سيدي، وهذه هي القطعة التي جربتها، ومتى نضج الباقي دفعته إليك .» ثم قال له همسا وهو يناوله السبيكة: «وأظنني لا أحتاج إلى أن أوصيك بتكتم الأمر عن سائر الناس؛ فإني لا أحب أن ... وأنت تعلم السبب.»
অজানা পৃষ্ঠা
فأخذ الهرش السبيكة وأدناها من لهيب السراج وتفرس فيها فإذا هي ذهب لا ريب فيه، على أنه خاف أن يكون في الأمر خداع وهو قد اعتاد بحكم منصبه أن يسيء الظن بالناس وأن يرى الغش حيث تطلع وأين مشى؛ فجعل يزن السبيكة بيده ليمتحن وزنها، فلما رأى سعدون شكه قال بهدوء ورزانة وفي صوته لهجة العتاب: «لا تشك يا سيدي، وتستطيع أن تبيعها في سوق الصياغ غدا فتعلم صدق قولي. ولا ألومك على الشك؛ لأن الناس لم يتعودوا الصدق ولا علموا نجاح الكيمياء إلا قليلا، ويغلب فيمن يصح طبخه أن يستأثر بالذهب لنفسه.»
فخجل الهرش من هذا التوبيخ اللطيف وازداد احتراما للملفان سعدون وثقة به؛ فبادر يعتذر وقال: «حاشا لي أن أرتاب في صدقك، ولست حديث العهد بمعرفتك؛ فكم كشفت لي من المخبآت، وأعلمتني من الأسرار حتى صرت أعدك أخي، بل أعز من أخي!»
فقال: «أتكون مسلما ويكون أخوك صابئا؟ هل ترضى ذلك لنفسك؟» وضحك وهو يلف درجا كان يقلبه في أثناء الحديث وجعله في الجراب الذي أخرج السبيكة منه.
أما الهرش فأدرك أنه يمازحه فقال: «إذا كان الصابئة كلهم مثل الملفان سعدون فإنهم إخوتي جميعا، وأكرم بها من طائفة عندها علم النجوم و...» وسكت مصغيا كأنه يسمع صوتا ثم قال: «كأنني أسمع قرقعة لجم البريد.»
وكان الصابئ قد ربط الجراب وتأبطه وتحفز للنهوض فقال: «هذا بريد خراسان يحمل خبرا مهما. ألا تراني أتهيأ للنهوض من قبل؟»
فازداد الهرش إعجابا بمقدرة سعدون في فنه حتى علم أن البريد قادم من خراسان بخبر مهم؛ فنهض يصلح قلنسوته وينقل سيفه وقال: «صدق من قال إن لقرقعة لجم البريد رهبة. دعني أذهب لملاقاة صاحب البريد لعلي أستطلع منه خبرا، إني أسمع الصوت يقترب منا.»
ومشى مسرعا وسعدون يتبعه على مهل، وقبل أن يصل الهرش إلى باب الخان رأى بغل البريد وقف بالباب، وراكبه بجانبه ملثما وقد شد وسطه بهميان عريض، والبغل يلهث من التعب وقد تصبب العرق عن صدره وأرغى بعضه تحت اللجام، ثم سمعه يقول للخمار: «اسقني يا سمعان.» فأسرع الرجل إلى كوب ملأها ماء ودفعها إليه.
وكان الهرش قد وصل إلى الباب، فلما وقعت عينا حامل البريد عليه ترجل قبل أن يشرب وهم بتقبيل يده، فأومأ إليه أن يشرب ففعل ودفع الكوب إلى الخمار، ثم اقترب من الهرش فأسر إليه كلمة وجعلا يتهامسان، وسعدون واقف على عتبة الحانة مما يلي البستان لا يسمع شيئا، ولكنه لحظ مما بدا على الهرش عند إصغائه للرجل أن الخبر الذي يحمله من خراسان عظيم الأهمية. ولم يطل تهامسهما فاعتذر صاحب البريد وركب البغل وأطلق له العنان؛ فتحقق سعدون عند ذاك أن صاحب البريد يحمل خبرا ذا بال منعه من إطالة الحديث مع مقدم العيارين؛ فدخل سعدون الحانة فرأى الهرش مقبلا عليه والدهشة ظاهرة في وجهه يمازجها ارتياح، وآنس ابتسامة حول فمه تنفي انقباض أسرته، فأدرك بفراسته أن الخبر ذو صلة بالرشيد؛ لأنه في خراسان، وقد ذهب إليها مريضا. وشاع أن المرض اشتد عليه ولا يرجى شفاؤه. فلما سمع قرقعة لجم البريد ترجح عنده خبر موت الرشيد، فلما رأى الهرش مقبلا عليه تبسم وهز رأسه وقال: «لكل أجل كتاب!»
فبغت الهرش لقوله وعده نبوءة وأمسك بيده وانتحى به مكانا منفردا وهمس يقول: «هل عرفت بموته؟ وكيف ذلك؟»
قال: «رحم الله الرشيد، إنه مات غريبا وقد كنت أتوقع موته يوم خرج في هذه الحملة. عرفت ذلك من طالعه، وأراك سررت بموته، ويحق لك السرور كما يحق لسائر الأمراء والأجناد؛ لأنكم ستأخذون رواتب جديدة خصوصا أنت؛ فإنك أوفر حظا من سائر الأمراء؛ لأن الأمين إذا تولى الخلافة زاد في تقريبك.» وتنحنح وتظاهر بأن السعال شغله عن إتمام كلامه.
অজানা পৃষ্ঠা
فتناول الهرش الحديث عنه وقال: «ولكن حامل البريد مع ثقته بي ورغبته في إرضائي كتم عني خبرا آخر قال إنه على جانب عظيم من الخطورة ، واكتفى بأن ذكر أنني سأعرفه قريبا.»
فقطع سعدون كلامه وقال: «لا شك أنك ستعرفه؛ لأنه سينشر على رءوس الملأ، ولو كان كتاب المندل معي لاستطلعته في هذه الدقيقة ولكن ...» وتحفز للخروج وكأنه يهم بالذهاب لعمل المندل، ونادى غلامه أن يأتيه بالفرس فاستوقفه الهرش قائلا: «أراك مسرعا وأنا في حاجة إليك.»
قال: «إني رهين أمرك، ولكنني أحب الاطلاع على بقية الخبر.»
فقال: «ولكننا تواعدنا على الاجتماع هنا لنتكلم فلم يطل مقامنا، ثم إن أخانا علي بن عيسى بن ماهان صاحب الشرطة يجب أن يراك؛ لأنني كثيرا ما ذكرتك بين يديه وحكيت له عن معجزاتك.»
فقطع كلامه قائلا: «أخاف أن تكون ذكرت الكيمياء.»
فضحك الهرش وهو يتشاغل برفع حمائل سيفه وقال: «الكيمياء؟ كلا، ولكنني قصصت ما أنت عليه من المهارة في النجامة والمندل فرأيت منه ميلا لرؤيتك، وأوصاني بأن آتيه بك. وأظنه ينفعك؛ لأنه صاحب شرطة بغداد وله شأن كبير، ولا سيما بعد هذا الخبر؛ فإن مولانا الأمين يعول عليه ويحبه. وهذه فرصة لي أيضا لأكافئك على حسن صنيعك.»
فأطرق سعدون هنيهة وهو ينتف عثنونه وينكت الأرض بعكازه ثم قال: «دعني أذهب الآن على أن أعود إليك بالخبر الليلة.»
قال: «إذا كنت تعود إلي الليلة فلا بأس من ذهابك الآن، وأتني في أي هزيع من الليل تجدني في قاعة العيارين بالحربية وأنت تعرفها. ومتى جئت نذهب معا إلى دار صاحب الشرطة فسيكون ساهرا، ولا أظنهم ينامون الليلة إذا بلغهم ما بلغنا من أمر الرشيد؛ لأن موته سيحدث تغييرا خطيرا أرجو أن يكون منه نفع لي ولك.» قال ذلك ومد يده إلى يد سعدون كأنه يحييه، ثم نادى غلامه فجاء يحمل صندوقا صغيرا وعصا وملاءة مما قد يحتاج إليه في أثناء الطريق، فأشار إليه أن يعطي للخمار بعض المال، فدفع إليه صرة صغيرة بها دراهم فأخذها الخمار شاكرا وأكب على يد الهرش يهم بتقبيلها فمنعه، فالتفت سعدون إليه وقال: «هل جاء الأمير الهرش إليك الليلة؟»
فأدرك الخمار أنه يعرض برغبته في كتمان ذلك ؛ فأجابه: «كلا يا مولاي، ولا الملفان سعدون. كن مطمئنا.»
فالتفت الهرش إلى سعدون ضاحكا، فقال هذا: «اركب أنت قبلي، ثم أركب أنا حتى لا نترك أثرا لاجتماعنا.»
অজানা পৃষ্ঠা
فقال الهرش: «أراك تبالغ في الكتمان يا صديقي وليس فيما أتيناه ما يوجب هذا التستر، لم يكن ثمة باعث على خروجنا إلى هنا لهذا الاجتماع.»
فقال وهو يخفض صوته: «يهمني كتم أمر الكيمياء فقط، وإني أرى للجدران آذانا وللطرق ألسنة فاعذرني!»
وركب الهرش ومشى الغلام في ركابه في طريق خراسان غربا نحو الجسر، ثم غربا جنوبيا نحو الحربية.
فلما تحقق سعدون ذهابه ركب وأدار شكيمة جواده جنوبا ثم شرقا نحو المحرم يلتمس قصر المأمون.
القصر المأموني
كان قصر المأمون على عهد قصتنا هذه في جنوبي القسم الشرقي من بغداد بعد قصر الأمين. وكان يسمى قبلا القصر الجعفري نسبة إلى جعفر البرمكي وزير الرشيد. والسبب في بنائه أن جعفرا كان شديد الشغف بالشرب والغناء، وكان أبوه يحيى رجلا جليلا ذا رأي وعقل يخاف على ابنه عاقبة هذا التهتك؛ فنهاه فلم ينته، وأوصاه بأن يستتر عملا بالحديث المأثور فأبى. فلما أعيته الحيلة فيه قال له: «إن كنت تأبى التستر فاتخذ لنفسك قصرا بالجانب الشرقي من بغداد لأنه قليل العمارة، واجمع فيه ندماءك وقيانك، لتكون بعيدا من عيون من يكره ذلك منك.»
فقبل جعفر النصيحة وأمر ببناء قصره بالجانب الشرقي وبذل في بنائه مالا كثيرا. فلما تم بناؤه سار إليه في جماعة من أصحابه فيهم صديق حكيم مخلص له اسمه مؤنس بن عمران، فطافوا القصر واستحسنوه، ولم يبق منهم أحد لم يقرظه بما يبلغ إليه إمكانه إلا ابن عمران؛ فإنه ظل ساكتا، فقال له جعفر: «مالك ساكتا لا تتكلم وتدخل معنا في حديثنا؟»
فقال: «حسبي ما قالوا.»
فأدرك جعفر أن هناك شيئا يكتمه فقال: «أقسمت لتقولن.»
فقال: «أما إذا أبيت إلا أن أقول فلك علي ذلك.»
অজানা পৃষ্ঠা
قال: «نعم واختصر.»
فقال: «أسألك بالله إن مررت بدار بعض أصحابك ورأيتها خيرا من دارك فما كنت صانعا ؟» يشير إلى ما كان في نفس الرشيد من جعفر من إكبار ما بلغ إليه من الثروة والنفوذ.
ففهم جعفر مراده فقال: «حسبك قد فهمت، فما الرأي؟»
قال: «أرى إذا صرت إلى أمير المؤمنين وسألك عن تأخرك، فقل إنك كنت في القصر الذي بنيته لمولانا المأمون، واجعل أنك بنيته له.»
فأعجبه رأيه وأقام بالقصر بقية ذلك اليوم ثم ذهب إلى قصر الخلد ودخل على الرشيد. وكان الجواسيس قد نقلوا إليه خبر بناء هذا القصر، ولم يكن في قصور الخلفاء مثله، فقال له: «من أين أتيت وما الذي أخرك إلى الآن؟»
قال: «كنت في القصر الذي بنيته لمولاي المأمون شرقي دجلة.»
فقال الرشيد: «أللمأمون بنيته؟»
قال: «نعم يا أمير المؤمنين؛ لأنه ليلة ولادته جعل في حجري قبل أن يجعل في حجرك، واستخدمني أبي له فدعاني ذلك إلى أن اتخذت له بالجانب الشرقي قصرا لما بلغني من طيب هوائه ليصح مزاجه ويقوى ذهنه ويصفو.»
فلما سمع الرشيد قوله سري عنه وأسفر وجهه ووقع عنده موقع القبول وقال: «والله لا يسكنه أحد سواك، ولا أتمم ما يعوزه من الفرش إلا من خزائننا.» وزال من نفس الرشيد ما كان يخامره.
فلما أوقع الرشيد بالبرامكة سنة 187ه واستباح قصورهم وأموالهم، انتقل القصر إلى المأمون بن الرشيد، وهو ولي عهد المسلمين بعد الأمين، فأحبه المأمون وهو يومئذ في ريعان الشباب، وصار أحب الأمكنة وأشهاها لديه، وأخذ في توسيعه من جهة البرية، فأضاف إليه قطعة من الأرض جعلها ميدانا لركض الخيل والحلبة في أيام السباق واللعب بالكرة والصولجان، وبنى في جوانب القصر حظائر حبس فيها أصناف الوحوش من السباع وغيرها، وفتح له بابا شرقيا يشرف على البرية، وأجرى فيه نهرا ساقه من نهر المعلى، وابتنى قريبا منه منازل لخاصته وأصحابه وسمي القصر من ذلك الحين «القصر المأموني»، وعرفت تلك الجهة بجهة المأمونية، وصار فيها بعد ذلك طريق اشتهر بهذا الاسم في بغداد.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان المأمون وهو ببغداد أثناء ولاية العهد حتى سنة 192ه قد أسكن فيه الفضل بن سهل وأخاه الحسن، ولهذين الرجلين شأن في تاريخه. فلما طلب الرشيد خراسان لمحاربة رافع بن الليث فيما وراء النهر، وكان قد ثار على الدولة وعجز العمال والقواد عن إذلاله، حمل الرشيد عليه بنفسه واستخلف على بغداد ابنه الأمين واليا عليها، وأمر المأمون أن يبقى فيها وكان قد أوصى له بخراسان يتولاها بعد موته.
وكان الفضل بن سهل فارسيا من سرخس، ذا مطامع في السلطان، وفي نفسه نقمة على الرشيد لغدره بجعفر البرمكي، كما نقم عليه سائر رجال الفرس وأجمعوا أمرهم فيما بينهم على الأخذ بالثأر؛ فتوجهت آمالهم إلى المأمون لأن أمه فارسية وقد شب في حجر جعفر البرمكي على الميل إلى الشيعة العلوية وهي جامعة الفرس. وكان يحيى أبو جعفر قد اختار الفضل بن سهل لخدمة المأمون، وكان مجوسيا فأسلم على يده طمعا في نصرة الفرس، وكان المأمون يجله ويقدمه.
فلما أزمع الرشيد الخروج إلى خراسان في تلك السنة وطلب إلى المأمون البقاء في بغداد، خاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه سدى؛ فجاء إلى المأمون وقال: «لست تدري ما يحدث للرشيد، وخراسان ولايتك، ومحمد الأمين مقدم عليك في ولاية العهد. وأخشى أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم، فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه.» فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولا ثم قبل، وذهب الفضل وأخوه الحسن معهما، وخلف المأمون بعض أهله في ذلك القصر ومعهم الخدم والعبيد وعليهم قيم يتولى شئون بيت المأمون وأمواله وضياعه.
وكان القصر المأموني نفسه على شاطئ دجلة الشرقي، تشرف واجهته على النهر ولها شرفات ورواشن، وفي قاعات القصر أنواع الفرش المذهبة والنمارق المقصبة المحمولة من الأنحاء البعيدة، وقد زخرفت أبوابه بالستائر وملئت خزائنه بأنواع الطرف مع ما تحتاج إليه القصور من الجواري والخدم والخصيان، وهم يعدون يومئذ من أدوات المنزل التي لا بد منها.
وكان للقصر مما يلي دجلة مسناة من رخام ترسو عندها السفن يعدون إليها من الماء بدرجات من الرخام عريضة يحدها من الجانبين جدران من أساطين غليظة (درابزون) يظهر مما عليها من النقوش الفارسية أنها كانت لبعض الأبنية الكسروية وحملت إلى هناك، والمسناة عريضة تمتد من حافة الشاطئ إلى سور القصر عند بابه الغربي. وعند الباب ردهة فسيحة ربما فرشوها بالطنافس ونصبوا في جوانبها المقاعد للجلوس إذا أرادوا مشاهدة مجرى دجلة وفيه السفن تمر صاعدة أو نازلة.
وكان المأمون قد خلف في القصر ابنته زينب لما سافر مع أبيه في ذلك العام، وتكنى أم حبيبة، وهي يومئذ في الثانية عشرة من العمر، وكانت مثل أبيها ذكاء ونباهة واستقلالا في الفكر، ومثل جدها الرشيد أنفة وتعصبا لبني هاشم، وكانت مع صغر سنها قوية الإرادة مستبدة برأيها، وقد عرف أبوها ذلك فيها، وهو لا يريد تلك العصبية لرغبته في اصطناع الفرس؛ فعهد في تربيتها إلى الجارية التي ربته هو، وأصلها من جواري البرامكة في إبان مجدها، واسمها دنانير. وذلك أن المأمون لما جعل في حجر جعفر عهد هذا في تربيته إلى تلك الجارية وأوحى إليها أن تنشئه على حب الفرس، فنشأ المأمون على ذراعيها وشب يحترمها ويراعي جانبها. ولما ترعرع أخذها إليه وجعلها في جملة جواريه. فلما رزق بابنته عهد إليها في تربيتها وأوصاها بأن تعودها حرية الفكر وحب الفرس، فبذلت جهدها في ذلك. وكان الرشيد مولعا بحفيدته هذه وهو الذي سماها زينب وكناها أم حبيبة، وكثيرا ما كان يستقدمها إليه في ساعات الفراغ ويداعبها ويهديها العقود والأساور، فكانت تشهد مجالسه الخاصة مع امرأته زبيدة، وهي كثيرة المفاخرة بنسبها الهاشمي، فكانت زينب تسمع ما يدور بينهما من إعظام بني هاشم فيغرس ذلك في ذهنها عفوا، فنشأت شديدة التعصب لهم رغم ما كانت دنانير تحاوله على خلاف ذلك. على أن زينب كانت تحب مربيتها وتحترمها وترتاح إلى حديثها، ولم تكن تكتمها أمرا يخالج ضميرها.
زينب ودنانير
كانت زينب سريعة النمو جسما وعقلا، يحسبها الناظر إليها تناهز السادسة عشرة وهي لم تدرك الثانية عشرة. وكانت صبيحة الوجه سوداء العينين براقتهما، صغيرة الأنف غائرة الشفتين بارزة الذقن، يدل مبسمها على الثبات ورباطة الجأش وقوة العزيمة، وعيناها تدلان على الذكاء وسرعة الخاطر. وكانت دنانير قد ربتها على سذاجة المعيشة، ونزهتها عما كانت الرغبة منصرفة إليه يومئذ من التبرج والبذخ؛ فكانت تقضي النهار وليس عليها من الثياب إلا رداء ساذج وقد ضفرت شعرها ضفيرة واحدة ترسلها على ظهرها.
أما دنانير فنشأت في منزل يحيى بن خالد البرمكي، وكانت صفراء صادقة الملاحة، أصلها لرجل من أهل البصرة خرجها وأدبها ورواها الشعر، ثم اتصلت بيحيى البرمكي وهي فتاة فربيت في منزله. وهي غير دنانير المغنية التي اشتهرت بالغناء وحفظ الشعر. أما هذه فكانت ميالة إلى المسائل العقلية. وكان مجلس يحيى لا يخلو من بحث أو مناظرة في علم أو أدب، وكذلك كان سائر البرامكة؛ فإنهم أول من نشط العلم في العصر العباسي. ولما هم يحيى بترجمة المجسطي إلى العربية استقدم المترجمين إليه، وكانت دنانير تسترق الاجتماع بهم، وكثيرا ما كانوا يرونها مصغية لتستمع ما يتذاكرون فيه من المسائل الفلكية وأحكام النجوم في أثناء الترجمة، ورفيقاتها الجواري يضحكن منها ويعيرنها برغبتها في علوم هي من قبيل الرموز الغامضة التي لا يقدم على حلها إلا قهارمة العلم من أهل الذمة. وكانت المسائل الفلسفية حديثة العهد يومئذ في العربية؛ إذ لم يكن قد ترجم منها غير علم النجوم وبعض كتب الطب في زمن المنصور والمهدي والرشيد. على أنها كانت تلم بتلك المسائل قبل نقلها إلى العربية مما يدور بين جلساء يحيى، واشتهرت بين جواري البرامكة بحب العلم والتعقل؛ ولذلك لما صار المأمون في حجر جعفر وعهد في تربيته إليها، كانت وهي تلاعبه في الحديقة تحمل معها قرطاسا أو ورقا عليه رسوم فلكية أو مسائل طبية تراجعها، وأول ما فتح عينيه وصار في سن الاستغراب والاستفهام لم يكن يسألها عن شيء إلا فسرته له بتعقل. ثم أخذت في تلقينه المسائل على قدر ما يتحمله سنه. لم تكن تفعل ذلك رغبة في تعليمه، بل تلذذا بالعلم؛ فإن محب العلم يلتذ بإلقاء الحقائق كما يلتذ بتلقيها.
ولما ترعرع المأمون وآن تسليمه إلى المعلمين، كان قد تولد فيه الميل إلى البحث عن الأسباب والتماس البرهان على كل شيء؛ فجره ذلك إلى الاعتزال والتشيع والرغبة في العلم والفلسفة حتى كان ما كان من نقله كتب الأقدمين على ما هو مشهور.
অজানা পৃষ্ঠা
ونشأ المأمون على احترام دنانير احترام الولد لأمه، وكثيرا ما كان يجالسها في ساعات الفراغ ويباحثها في بعض المسائل ويسر من تعقلها؛ فلما رزق بابنته زينب سلمها إليها وهو على ثقة من أنها تربيها كما يحب. وكانت زينب كثيرة الشبه بأبيها من حيث الرغبة في البحث واستطلاع الأسباب؛ فلم تكن دنانير تدخر وسعا في ترقية مداركها، فشبت وهي تدعوها أمها، نظرا إلى أن أمها كانت متوفاة. وربما أحبتها أكثر من حبها لأبيها لاشتغال المأمون عنها بأموره. على أن الآباء قلما كانوا يعاشرون أبناءهم وإنما يعهدون في تربيتهم إلى الجواري، فربيت زينب تربية فلسفية ونشأت لا تبالي إلا بحقائق الأمور، وطرحت ما كان يتسابق إليه أترابها من اللعب والقصف. وبلاط الخلفاء مسرح واسع لأسباب اللهو يومئذ حتى في القصر المأموني نفسه؛ فقد كان فيه كثير من وسائل اللعب يتمتع بها الجواري والخدم، وزينب لا تميل إلى ذلك ولا تخالط من الخدم غير مربيتها؛ فكانت ألزم لها من ظلها تصاحبها حيثما توجهت؛ فتخرج معها إلى الحديقة لقطف الأزهار، وتعرج إلى بيوت السباع لتشاهدها في أقفاصها والسباعون يقدمون لها الطعام من قطع اللحم الكبيرة. فإذا أعوزها اللهو تشاغلت بالشطرنج، وكانت هذه اللعبة حديثة العهد في بلاط الخلفاء؛ لأن الرشيد أول من لعبها منهم، وكانت دنانير تجيد اللعب بها وربما شغلت بها زينب أحيانا، أو خرجت بها إلى الباب الغربي عند المسناة لتجلسا في روشن أو شرفة تتفرجان من بين الستور على السفن المارة في دجلة. وكثيرا ما يكون الجلوس هناك مطربا لكثرة من يمر من أهل القصف والطرب ومعهم المغنون والعوادون.
فاتفق في اليوم الذي بدأنا فيه روايتنا أن كانت زينب جالسة مع مربيتها في شرفة فوق المسناة تطل على دجلة، وعليها رداء وردي اللون، وفي عنقها عقد من اللؤلؤ أهداه إليها جدها الرشيد قبل سفره. ودار بينهما الحديث في مسألة تتعلق بالطوالع والأبراج، وأشكل فهمها حتى على دنانير فقالت: «إن هذه المسألة من المسائل العويصة، فمتى جاء طبيبنا سألناه عنها.»
فقالت زينب: «وهل يفهم الأطباء النجوم؟»
قالت: «يغلب في الطبيب أن يعرف كل علم، ولا سيما أطباء الفرس، وطبيبنا على الأخص؛ فإنه من نوابغ الفلاسفة وقهارمة الأطباء، و... و...»
فضحكت زينب ملء فيها ضحكة فتاة لا تعرف من الدنيا غير أسباب المسرات، وقالت والاستغراب باد في عينيها: «إذن هو أعلم منك؟» قالت ذلك لاعتقادها أن مربيتها أعلم أهل الأرض. وذلك شأن الناس فيمن يشبون في حجره أو يتلقون العلم عنه؛ فالأولاد يعتقدون الكمال في آبائهم أو مربيتهم، ويتوهمون أن معلميهم من كبار الفلاسفة ولو كانوا أجهل من قاضي جبل. فيروون عنهم ويستشهدون بأقوالهم ويعظمون من أمرهم، فإذا كان المعلم صغير العقل صدق تلميذه وظن في نفسه التفوق على العلماء والحكماء، وقد يكون علمه محصورا في مبادئ الصرف والنحو فيتوهم أنه لا يشق له غبار فيزداد غرورا.
وكانت دنانير تعلم حقيقة منزلتها، فلما سمعت زينب تطري علمها ابتسمت وقالت: «إني يا سيدتي لا أعرف شيئا، وإنما التقطت بعض المسائل من أفواه العلماء. وأما هذا الطبيب فقد تفقه في الطب والفلسفة في مدرسة «جندي سابور» المشهورة التي تخرج فيها ابن بختيشوع طبيب أمير المؤمنين. ولكنه أعلم منه بأمور كثيرة، ولا سيما بالكيمياء والنجامة، ولولا ذلك لم يهتم الفضل بن سهل بأمره حتى وصى مولاي المأمون به.»
فقطعت زينب كلامها وقالت: «الفضل بن سهل أوصى به؟ ومتى كان ذلك؟ أليس الفضل مع أبي الآن في خراسان.»
قالت: «بلى، هما معا هناك، ولكن هذا الطبيب جاءنا منذ بضع سنين بتوصية من الفضل بن سهل ذكر فيها أنه نابغة خراسان في الطب والعلم، حتى إنك لترين ذلك ظاهرا في وجهه.»
فقالت: «فلماذا لا يقيم عندنا دائما؟ هل منعه أبي من ذلك؟»
قالت: «كلا، ولكنه اعتذر لمولاي المأمون يوم مجيئه من أنه لا يستطيع الإقامة عندنا لأسباب ذكرها له.»
অজানা পৃষ্ঠা