قال: «تبقيان كما كنتما، وتكتمان ما رأيتما عن كل إنسان، حتى يأتي الوقت الموافق وأظنكما تثقان بما أقوله.»
فقالت عبادة: «مضى علينا زمن لم نسمع فيه خبرا عن المأمون ولا عن الأمين ولا عن الحال بينهما.»
قال: «أبشرك يا سيدتي بأن الله سينتقم لك ولنا. إن الأمين خلع أخاه المأمون من ولاية العهد، فخلعه هذا أيضا، وقام الفرس لنصرة المأمون لأنهم أخواله، وجردوا جيشا بقيادة طاهر بن الحسين، وجرد الأمين جيشا بقيادة ابن ماهان صاحب الشرطة، فالتقى الجيشان في الري فانتصر جيش المأمون وقتل ابن ماهان وتشتت جيشه، ولما وصلت هذه الأخبار إلى الأمين وقع في حيرة وبعث إلي فذهبت إليه في قصر الخلد واستشارني، فأشرت عليه بأن يرسل الفضل بن الربيع في الحملة الثانية، وأنا أعلم أن الفضل لا يذهب، وجعلت نجاحه في الحرب مشروطا بإرسال الفضل وابنه ، فآل ذلك إلى اختفاء الفضل، ولم تفلح الحملة الثانية فضعف حال الأمين واستخف به رجال دولته حتى هموا بخلعه، ولكنهم لم يستطيعوا لأن سلمان لم يكن معهم، ولو شئت لخلعوه ولكنني أردت إضعافه فقط.»
فأعجبت ميمونة بدهاء سلمان، وسرت بما دبره للفضل وابنه. ثم قال سلمان: «فامكثا في قصر المنصور هذا برعاية قهرمانته، وربما ذهبت أنا إلى الخليفة ومكثت في قصر الخلد أياما.» وصفق فأتى غلامه فقال له: «اذهب بهما إلى القصر، وقل للقهرمانة فريدة أني أحب أن أراها.»
فمضى بهما. وهم سلمان بلبس ثيابه وأمر الغلام أن يعد له بغلته ليركب إلى قصر الخلد ويمر في طريقه على القهرمانة ويوصيها بهما. ثم ركب ومر بالقهرمانة وأوصاها بأن تحتفظ بهما، فأشارت مطيعة، فتحول يطلب قصر الخلد والغلام في ركابه، والناس ينظرون إليه ويوسعون له إعجابا بما اشتهر عنه من معجزات التنجيم.
وصل سلمان إلى قصر الخلد فوجد بالباب جماعة من العيارين يحرسونه بدلا من الجند، وعرفه أحدهم فنهض وحياه ووسع له فدخل على بغلته إلى ردهة القصر، ولقي الهرش رئيس العيارين خارجا على فرسه، فلما وقع نظر هذا على الملفان سعدون أوقف فرسه وسلم عليه. فسأله عن سبب وجود رجاله بالباب بدلا من الجند فقال: «إن الجند غاضبون على أمير المؤمنين.»
قال: «لماذا؟» قال: «إن خبره يطول ولا أستطيع بسطه ونحن راكبان، ولا أظنه يخفى عليك ولكنني أقول موجزا: إن طاهرا وأصحابه لما أفلحوا في وقعة الري وقتل ابن ماهان ضعفت عزائم جنده وهربوا وتقدم طاهر فاستولى على أعمال الجبال، فجند الأمين حملة أخرى فعادت خائبة، وضعفت سطوة الخليفة حتى حاول قواده خلعه ثم رجعوا عن ذلك، وظل طاهر يتقدم في جنده حتى أتى الأهواز ثم استولى على واسط فالمدائن، ونزل أخيرا إلى صرصر وهي على مقربة منا. وكان أمير المؤمنين يخرج الأموال ويفرقها في رجاله. وبلغ ذلك رجال طاهر فطمعوا في الأموال، فجاء منهم جماعة إلى الأمين فأعطاهم وغلف لحاهم بالغالية وأكرمهم كثيرا؛ فغضب جنده لأنه لم يكرمهم مثل هذا الإكرام فتفرقوا عنه غاضبين، فبعث إلي أن آتي برجالي لنصرته .»
فضحك سعدون وقطع كلام الهرش قائلا: «رب مصيبة أتت بنعمة، لا بد أن يكون الأمين قد بذل لكم الأموال فغنمتم، وأنت تعلم أن ما يسرك يسرني وأنك أهل للعطاء أكثر من أولئك القواد الخائنين ومن الوزراء؛ فهذا الفضل بن الربيع لما رأى الأمر استفحل ترك مولاه واختفى وهو سبب هذا البلاء كله.» قال ذلك وودع الهرش وساق بغلته فاستوقفه الهرش قائلا: «إنك داخل على الخليفة، ومتى رأيته يزول عجبك مما بلغ إليه أمرك.»
فلم يفهم سلمان قصده، فلما نزل عن بغلته عند الباب الثالث من أبواب القصر ودخل الحديقة أدرك السر.
وذلك أنه سلم البغلة لغلامه ومشى في الحديقة يتوكأ على عصاه وينظر ذات اليمين وذات الشمال، فلا يرى إلا غلمانا يركضون وبعضهم حفاة مكشوفو الرءوس، فأوجس خيفة من هذا المنظر. وظل ماشيا في بعض طرق الحديقة حتى أشرف على بركة كبيرة في وسط الحديقة وقد تكأكأ حولها الغلمان ونزع بعضهم ثيابه وغطس فيها، وآخرون واقفون يحدقون في مائها، ثم رأى الأمين نفسه مقبلا كالواله وعليه ثياب المنادمة وقد ذهبت القلنسوة عن رأسه، فظن سلمان أن دسيسة كشفت في القصر يراد بها قتل الأمين وأن الغلمان يفتشون عن صاحبها وتوهموا أنه نزل البركة التماسا للفرار إلى دجلة؛ لأن البركة متصلة بقناة تمر من تحت السور، فإذا أغلقت الأبواب على الهارب وكان يحسن السباحة استطاع الخروج من القناة إلى دجلة لا يعترضه إلا شبكة كالمصفاة منصوبة عند مخترق القناة من السور لا يصعب عليه نزعها.
অজানা পৃষ্ঠা